مولد النبي بين الاتباع والابتداع
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
9/3/1422
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البشارة بمحمد. 2- محبة الصحابة للنبي. 3- تغير مفهوم المحبة. 4- بدعية الاحتفال بالمولد النبوي وبيان نشأته. 5- الاختلاف في تاريخ مولد النبي. 6- المحبة الحقيقية للنبي. 7- التحذير من الغلو ومن الجفاء. 8- لماذا التحذير من بدعة الاحتفال بالمولد النبوي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
كان دعوة أبيه إبراهيم حين قال: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، وكان بشرى أخيه عيسى بن مريم عليه السلام حين قال: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6]، وكان رؤيا أمّه حين رأت في المنام قبل ولادته نورًا خرج منها أضاءت له قصور الشام.
إنه محمد الذي كانت دعوته إجابة لدعوة إبراهيم ومصداقًا لدعوة المسيح عليهما السلام وتعبيرًا لرؤيا أمه، فجعله الله سراجًا منيرًا استنارت به الأرض بعد ظلمتها، وجمع الله به الأمة بعد شتاتها، واهتدت به البشرية بعد حيرتها، ومع بعثته ولدت الحياة وارتوى الناس بعد الظمأ.
لما أطلّ محمد زكت الرُّبى واخضرّ في البستان كلّ هشيم
فدخل الناس في دين الله أفواجًا، وقامت للإسلام دولته، وعاش المسلمون في عصر النبوة حياة لم يسبق لها مثيل، توحيد خالص لله وحده، وعدل وإنصاف، وتحابب وتآخ، واعتزاز وعزة كرامة وهيبة في قلوب الأعداء، وعاش المسلمون في ذلك العهد الفريد ردحًا من الزمن أحبّ فيها صحابة رسولِ الله رسولَ الله وعظموه واقتدوا به حبًا حقيقيا وليس ادعاءً، يقول المشركون لخبيب بن عدي رضي الله عنه وقد أسروه ثم صلبوه ثم عذبوه عذابًا شديدا فيقول له أحدهم: أتحب لو أن محمدًا مكانك؟ فقال: والله، إني لا أتمنى أن أكون في أهلي آمنًا مطمئنًا ويصاب رسول الله بشوكة.
هكذا كان حب صحابته له، وترجموا ذلك الحب باتباعه واتباع سنته وتطبيق أوامره واجتناب نواهيه، وعندما ضعف نور النبوة في حياة الأمة وقلّ تمسكها بكتاب ربها وسنة نبيها ضعف هذا التعظيم في حياة الأمة وحرِّفت محبة النبي حين حاول بعض الغيورين جهلاً أو غفلة جبر هذا الضعف بإحداث بعض المظاهر والاحتفالات التي لم يعرفها ولم يقمها خير من عظم المصطفى ، وضاعف المأساة أن سوقَ الجهل في الأمة أصبحت رائجة وأُهمل العلماء وهمِّش دورهم، فكان الأثر على أمة الإسلام واضحًا في انتشار البدعة ورواجها، كما ساعد الفكر الإرجائي الذي صاحب هذا الانحراف وكذلك الاتجاه الرافضي المتمثّل في الدولة العبيدية المسماة بهتانًا الفاطمية في إقامة الموالد وقصر محبة النبي على مجرد كلمات مدائح يتغنى بها المنشدون في الموالد والمناسبات من غير أن يكون لهذه الكلمات أيّ أثر من عمل واتباع لمن يزعمون محبته وتعظيمه وإقامة المولد له، وكلما اشتد الجهل والغفلة والادعاء زاد الغلو والانحراف الذي حذر منه المصطفى في أكثر من حديث نبوي، ومع الزمن ينتشر هذا الحبّ الزائف والغلو المنظّم بين قطاعات عريضة في الأمة، وترعاه الدول والحكومات، بل تكون أيام هذه البدع إجازات وتتّخذ هذه الحفلات والموالد أشكالاً ووسائل شعبية ومجالاً للترفيه والترويح، وقد يشتمل بعضها على عدد من الأمور المنكرة كاختلاط الرجال بالنساء والرقص والغناء أو أعمال شرّ كثيرة أو شرك كالاستغاثة بالنبي أو ادعاء حضوره أو ما يسمى بالحضرة النبوية.
وتكون تلك الموالد مواسم ارتزاق لبعض المنتفعين ومناخًا لنشر البدعة، ويستغله بعض المغرضين ويدعي بعض الطيبين أنها فرصة للدعوة إلى الدين إضافة إلى النيل ممن يسمونهم بالمتشدّدين عبر قنواتهم الفضائية أو عبر إعلامهم، وذلك بلمزهم والنيل من محافظتهم على عقيدتهم وعدم الابتداع في الدين.
أيها الأحبة، إن احتفالات المولد النبوي على اختلاف مقاصد فاعلية لا شك أنه بدعة في الدين محرمة محدثة أحدثت في القرن الرابع الهجري على يد الرافضة العبيديين حين بدأه المعزّ العبيدي وأحدث معه خمسة موالد أخرى لعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم وأرضاهم، وأحدث كذلك مولدًا لمن يحكم من العبيديين، وأقام العبيديون بعدها عددًا من الاحتفالات كعيد الخليج وعيد النيروز المسمى الآن عيد الربيع وعيد لكل من زعموا الولاية له، وأصبح تضخيم تلك الاحتفالات وحبك الأساطير حولها ثم إشاعتها بين العوام وأشباههم ليتلهوا بها من الوسائل التي يلجأ إليها الحكام لصرف الناس عن الدين الحق، فما أن يتفرغ الناس من مناسبة حتى يلاحقوا بغيرها.
ثم أظهر الاحتفال بالمولد بعدهم الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري ملك إربل في أواخر القرن السادس وأول القرن السابع الهجريين، حيث فعله قبلهم بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا وهو من الصالحين المعروفين، فاقتدى به حاكم إربل كما ذكره المؤرخون كابن كثير وابن خلِّكان وغيرهما، يقول ابن خلكان: "فإذا كان أول صفر وضعوا الزينة الفاخرة وجوق الأغاني وتبطل معايش الناس وأخرجوا من الطعام ما يفوق الوصف ويزف الناس بالطبول والأغاني والملاهي حتى تمتلئ بها الميادين" انتهى كلامه رحمه الله.
فهذا مبدأ حدوث الاحتفال وإحيائه بمناسبة ذكرى المولد النبوي، فإنه حدث متأخّر عن القرون الثلاثة الفاضلة، ويكون مقترنًا باللهو والترف وإضاعة الأموال والأوقات وراء بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه العظيم الموسوم اقتضاء الصراط المستقيم مخالفةَ أصحاب الجحيم قال: "ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى وإما محبّة للنبي وتعظيمًا له من اتخاذ مولد النبي عيدًا مع اختلاف الناس في تاريخ مولده فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له وعدم المانع، ولو كان خيرًا محضًا أو راجحًا كان السلف أحق منا بفعله، فإنهم كانوا أشدّ محبة وتعظيمًا له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كانت محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته ظاهرًا وباطنًا ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حرصاء على هذه البدع تجدهم فاترين في أمر الرسول مما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزله من يحمل مصحفًا ولا يقرأ فيه ولا يتبعه" انتهى كلامه رحمه الله.
وقال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "إن بدعة عيد المولد التي تقام في شهر ربيع الأول في الليلة الثانية عشرة منه ليس لها أساس من التاريخ؛ لأنه لم يثبت أن ولادة النبي كانت تلك الليلة، وقد اختلفت أقوال المؤرخين في ذلك: فبعضهم جعله في الثاني من الشهر، وبعضهم في الثامن من ربيع الأول أو التاسع أو السابع عشر، وبعضهم في الثاني والعشرين، وليس من قول لديه دليل يرجحه، إلا أن بعض المعاصرين حقق أنه في اليوم التاسع" انتهى كلامه رحمه الله.
إخوتي، إن عدم معرفة تاريخ المولد بدقّة لأكبر دليل على أن الصحابة ومَن بعدهم من القرون الفاضلة لم يقيموه، ولم يكن دليل صدقهم في حب النبي أو الإيمان به مولدًا يصنعونه لرسول الله أو ذكرى يهيمون بها أيامًا وليالي ثم ينسون سيرته وسنته وهديه بعد ذلك، لقد كان دليل صدقهم وإيمانهم ومحبتهم هو اتباعهم لسنته، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
عباد الله، إن الله تعالى الذي بعث محمدًا وقرن الشهادة برسالته بالشهادة بوحدانيته سبحانه وتعالى هو الذي جعله الأسوة الحسنة كما هو صريح القرآن، أسوة في حياته وأقواله وأفعاله وسلوكه وتصريفه لشئون الحياة، وإنه لمن العقوق لرسالة الإسلام ولسيرة النبي ومن الكفران بهما أن يعمل الإنسان ببعض الأحكام ويكفر ببعض، وعلى هذا فإن صدق الاحتفاء بذكرى مولد الرسول إنما يكون بمتابعة الطريق وكيف عاش عليه الصلاة والسلام للدعوة وسخّر لها حياته، وإنما يأتي مثل هذا الانحراف بدءًا من ادعاء المحبة وغيرها والقرآن الكريم حسم دلائل المحبة للرسول في قوله جل وعلا: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]. فالمحبة تقتضي الاتباع وليس الإحداث والابتداع، واتباع النبي في أقواله وأفعاله أحد ركائز دين الإسلام وأساسياته ومن أعظم مسلمات الشريعة والأمور المعلومة منها بالضرورة، وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].
وكثيرًا ما يوجد عدد من المنكرات في الأمة أسبابها الغلو ولو كان هذا الغلو في رسول الأمة ، وذلك بالاستغاثة به وطلب المدد منه واعتقاد أنه يعلم الغيب وترديد قصيدة البوصيري في مدح النبي وهي تشتمل في عدد من أبياتها على الشرك المحض وغير ذلك من الأمور التي يتعاطاها بعض هؤلاء الناس حين احتفالهم بمولد النبي ، وقد صح عنه أنه قال: ((إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)) ، وقال : ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)) أخرجه البخاري.
أيها المسلمون، إننا في الوقت ذاته الذي ننكر فيه الغلو في رسول الله ونستنكر تلك الممارسات المبتدعة التي اختزل فيها حب النبي مع كل ذلك فإننا نستنكر كذلك الجفاء في محبة الرسول ، نستنكر الجفاء في محبته وعدم معرفة فضله على الأمة وأنه الرؤوف الرحيم بالمؤمنين، هداهم إلى الصراط المستقيم، ولم يترك سبيلاً لهدايتهم إلا سلكه، ولا علمًا إلا بذله، فصلوات الله وسلامه عليه. فمعرفة حقه على كل مسلم واجب عظيم، لا ينبغي تركه وإهماله، وكما أن الغلو مردود فكذلك الجفاء مرفوض بكل صوره وأشكاله، وإن وصاياه لأمته كانت في التمسك بالدين وعدم الإحداث فيه: ((فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة)).
إن فيما شرعه الله تعالى من تعظيم رسوله ووسائل محبته ما يغني عن كل وسيلة تبتدع وتحدث، فاتقوا الله عباد الله، واستغنوا بما شرعه الله عما لم يشرعه، وبما سنه رسول الله عما لم يسنه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى، واعلموا أننا حين نتكلم عن هذه البدعة بالرغم من عدم وجودها في أوساطنا ولله الحمد فإنما لنبين خطرها ونحذّر منها فئامًا من المسلمين تقام تلك البدعة في بلدانهم، ومع هذا الانفتاح الإعلامي والحديث عبر القنوات والإذاعات أصبحت هذه البدعة وغيرها منشورة معروضة على جميع المسلمين عبر عرض احتفالات المولد النبوي وغيره من الموالد في القنوات والإذاعات والكتابة عنها في المقالات، وقد يتبناها بعض المنتسبين إلى العلم ويسوّغونها للناس مع نقدهم اللاذع لمخالفيهم ووسمهم بالتشدد والجفاء، وترى تناقضًا واضحًا حين يرعى هذه الاحتفالات ويحضرها بعض من يحاربون الإسلام ولا يطبقون شريعته وحكمه في أحكامهم، ثم هم يحتفلون بمولد النبي ، فهل هذا هو الاتباع المشروع لرسالته ؟!
لذلك وجب التنبّه وعدم الاغترار بانتشار البدع وعرضها وتسويقها من قِبل بعض المغرّر به، فالحق أحق أن يتَّبع، كما أن علينا جميعًا أن نحصّن أنفسنا وبيوتنا وطلابنا ومجتمعنا من مثل هذه البدع بتعليمهم أصول الدين الحنيف وسبل الوقاية من البدع والمحدثات بالدليل والإقناع والاتباع.
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
وصلوا وسلموا ـ يا عباد الله ـ على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال جل من قائل عليم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وارض اللهم عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين...
(1/3393)
أبواق النفاق
الإيمان
نواقض الإيمان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
10/8/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الإسلام. 2- أصناف الناس حيالَ الإسلام. 3- خطر المنافقين على الإسلام وأهله. 4- خوف السلف من النفاق. 5- صفات المنافقين وأخلاقهم. 6- أطروحات منافقي زماننا. 7- التحذير من المنافقين وأراجيفهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، بعثَ الله عبدَه ورسوله محمّدًا بالهدَى ودين الحقِّ، برسالةٍ عامّة لجميعِ الثّقلين، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سبأ:28]. بعثه الله ليجدِّد به ما اندرَسَ من الملَّةِ الحنيفيّة، ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [النحل:123]. بَعثه بهذا الدِّين القويمِ فأكملَ بهِ الدّينَ وأتمّ بهِ النّعمة ورضيَ [لَه] الإسلامَ دينًا، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43].
أيّها المسلم، والخَلقُ حيالَ ما بعَث الله به نبيَّه مِن الدّين والهدَى ودينِ الحقّ انقسَموا إلى أقسامٍ ثلاثة:
فمنهم مؤمنٌ آمَن بهذا الدّين ظاهرًا وباطنًا، صَادقٌ في إيمانه، فإيمانه ظاهرًا وإيمانه باطنًا، فسِرّه وعلانيتُه مستويَان في هذا الأمر، وهم الذين سبقَت لهم منَ الله السعادة، فشرح الله صدورَهم للحقّ وقبِلوا به واطمأنَّت بذلك نفوسهم، أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر:22].
ومِن عبادِ الله من كفَر بهذا الدّين ظاهرًا وباطِنًا، وانتصبَ عدوًّا وخصمًا لهذا الدين، وقد أوضحَ الله صفاتِ الكافرين، وأمرهُم واضح جليّ.
وفئةٌ من الناس آمنوا بهذا الدين ظاهرًا وكفروا به باطِنًا، آمنت ألسنتُهم وكفَرَت قلوبهم، فهم يتظاهَرون بالإسلامِ وينتسِبون إلى الإسلام، ولكنّ أعمالَهم وأقوالهم تضادُّ الإسلام وتنافي الإسلام، فإيمانهم ظاهرًا وفي باطن الأمر اللهُ يعلم ما انطوَت عليه قلوبُهم، وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14]، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:8، 9].
أيّها المسلم، هذه الفرقةُ من النّاس أضرُّ على الإسلامِ وأهلِه من كافرٍ أعلن كفرَه وعداوتَه وضلالتَه، فذاك أمرُه واضح، ولكنِ المصيبةُ من تلبّسَ بالمسلمين وتظاهَر أنه مِنهم والله يعلَمُ أنه خارجٌ عنهم وعن سبيلِهم، وهذا ما يُسمَّى بالنفاقِ الذي كان سلفُنا الصالح يخافونَه على أنفسِهم، فكان المؤمِنون السابقون يخافون على أنفسِهم من هذا النوعِ من النفاقِ، أعني النّفاقَ الاعتقاديّ، يخافون منَ النفاق عمَلِه واعتقادِه، حِرصًا على إيمانهم وخَوفًا على إسلامِهم، قال بعض السّلف: "أدركتُ ثلاثين مِن أصحابِ محمّد كلُّهم يخاف النفاقَ على نفسِه، ما منهم من يقول: إنَّ إيمانَه كإيمان [جبريل وميكائيل]" [1] ، وقال الحسن رحمه الله: "ما خافَ النّفاقَ إلاَّ مؤمنٌ، وما أمِنه إلا منافق" [2]. هذا الخوفُ على أنفسهم من أن تكونَ أعمالهم منافيةً لما عملوا فيكون العملُ خلافًا للمعتَقَد.
أيّها المسلم، إنّ الله جل جلاله ذكر في كتابِه العزيز صفاتِ المؤمنين وصفاتِ الكافرين وصفاتِ وأخلاقَ المنافقين لنحذرَها ونبتعِدَ عنها. قد يسأل سائلٌ فيقول: هذا النفاقُ هل هو خاصّ بمن كان في عهدِ النبيّ أم هذا النفاقُ عامّ؟ والجواب أنّه عامّ لكلّ من تخلَّق بأخلاقِهم واتَّصفَ بصفاتهم وعمِل بأعمالهم.
أيّها المسلم، إنّ أعمالَ القلوب لا يعلمُها إلاَّ علاّم الغيوب، ولكنّ الله جلّ وعلا قد يظهِر ما يسِرّه العبد على فلتَاتِ لسانه، ويظهَر أيضًا من تصرُّفاته وأعمالِه، قال تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ [محمد:30]. أجَل، تعرفُهم في لحنِ القولِ، تعرِفهم من خلالِ كلامِهم وأقوالهم ودِعاياتهم وما يقولونَه ويتحدّثون به.
أيّها المسلم، فليَكن حذرُك من النفاق عَظيمًا، واسألِ الله الثباتَ على الحقّ والاستقامة عليه.
إنَّ من أخلاقِ المنافقين كراهيةَ أحكامِ الله ورسولِه والرضا بالقوانينِ والأنظمَة الوضعيّة عِوَضًا عن شرع الله الكامل؛ ذلك أنّ المنافقَ يرَى أنّ أحكامَ الشّرع ظالمةٌ جائرة، ويَرى أن أنظمةَ البشر وقوانينَهم عادِلةٌ منصِفَة، وتلك ـ والعياذ بالله ـ علامةٌ من علامات النّفاق، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء:60، 61]، وقوله: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [النور:48-50].
مِن علاماتِ المنافقين تفضيلُهم أهلَ الضّلال وطريقةَ أهلِ الضّلال على أهلِ الإسلام، فيرَونَ الكافرَ الضالَّ سبيلُه وأعماله أفضلُ من أهل الإيمان مطلقًا، قال جلّ وعلا في كتابِه العزيزِ مخبِرًا عنهم في قوله: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً [النساء:51]. فهم يفضِّلون طريقَ المغضوبِ عليهم والضالّين على طريقةِ أهلِ الإسلام والإيمان؛ لأنهم كافِرون بذلك في قلوبهم، فيرونَ طريقةَ أهل الكفر والضلال أفضلَ من طريقةِ أهلِ الإسلام.
ومِن صفاتهم أنَّهم أمَرَةٌ بالمنكر نُهاةٌ عن المعروفِ، فهم دعاةٌ لكلِّ رذيلة حربٌ على كلِّ فضيلة، الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67].
مِن أخلاقِ المنافقين فرَحُهم بذلِّ الإسلامِ وأهلِه وسرورُهم يضعفِ الإسلام، قال جلّ وعلا: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ [التوبة:50].
مِن أخلاقهم السّخريةُ بالإسلام وأهلِه والاستهزاءُ بأحكامِه والتنقُّص لمبادئِه والطّعنُ فيه بكلِّ سبيل.
من أخلاقِهم الذميمةِ أنهم كُسالى عن الخيرِ، ولذا قال جل وعلا: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142]. وهم لا ثباتَ لهم، مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:143].
ومِن أخلاقهم أنَّ قلوبَهم وأيدِيَهم مع أعداءِ الإسلام ضدَّ الإسلام وأهلِه، أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا [الحشر:11].
مِن أخلاقِهم تلوُّنُ أحوالِهم، فلا ثباتَ لهم على أمرٍ، بل هم متغيِّرو الفِكر دائمًا، قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ [المنافقون:4].
مِن أخلاقِهم وصفُهم أهلَ الإسلام بالذّلِّ والهوان، ووصفُهم أعداءَ الإسلام بالعزّةِ، قال تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].
أيّها المسلم، كم نسمَع وكم نقرَأ من أناسٍ يكتُبون وينشُرون مقالاتٍ تضادُّ الإسلامَ وأهله، كم ينشُرون وكم يكتبون وكم يذيعونَ أقوالاً تضادُّ الإسلام وأهلَه، تفوَّهت ألسنةُ أولئك بما انطوَت عليه قلوبُهم من العداءِ لله ورسولهِ وكراهيةِ ما جاء به محمّد ، قال تعالى عَنهم: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [محمد:26].
تأمَّل كتاباتِهم، وتأمّل ألفاظَهم، واستمِع إلى ما يذيعون ويقولون؛ لتعلَمَ حقيقةَ أمر أولئك.
إذا جاؤوا يتحدَّثون عن قضايا الأمّة تحدَّثوا عنها من منطلَقٍ سيّئ ومن تصوُّر خاطِئ ومن رأيٍ ضالّ ومن عقيدةٍ باطلة والعياذ بالله. خُذ مثلاً أنّهم يطعَنون في أحكامِ الله، ويزعُمون أنّ الشرعَ لا يصلح لهذه العصور، وأنّ شرعَ الله الذي بعَث به خاتمَ أنبيائه ورسله قد انتهى دورُه في الحياة، فلا مجالَ له في الحياة، لماذا؟ لأنّه الشرع الذي جاء عن ربِّ العالمين، وفي قلوبِهم مقتٌ لهذه الشريعة وكراهيّة لها وبُغض لها، فيرونَ أنّ الشرعَ قد انتهى دورُه في الحياة. إذًا بماذا تحكَم البشريّة؟ وبمَ تنظَّم أحوالها؟ إنما هو دعوةٌ لتنظيمٍ قانونيٍّ كافرٍ بعيدٍ عن الإسلامِ وأهلِه وتعاليمِه الصّالحة.
انظُرهم إذا تحدَّثوا عن نظُمِ الحياة ومناهجِ تعليم الأمة تحدَّثوا من منطلقٍ خبيث، فيَصِفون مناهجَ الأمّة وتعليمَ الأمّة بأنه الإرهاب وبأنه وبأنه.. لماذا؟ يريدون أن نربِّيَ أجيالَنا حاضِرًا ومستقبلاً على غيرِ الدين، يريدون أن ينشَأ النشءُ لا يعرِف الدينَ وأهلَه، ولا يعرِف أصولَه ولا فروعَه، منقطعًا عن دينِه، مبتور الصّلةِ بماضيه، لا علاقةَ له بماضيهِ بأيِّ صِلَة، هكذا يدعو أولئك.
إذا تحدَّثوا عن وحدةِ الأمّة واجتماع كلِمتها أرادوا أن يجعَلوها وحدةً بعيدة عن الدين قائمةً على غيرِ أصولِ الشرع، والله يقول لنا: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52]. فأمّتنا الحقّةُ هي الأمّة المجتمِعة على دين الله المنطلِقة من توجيهِ محمّد ، أمَّا وحدَةِ على غيرِ هذا الدين فوحدَةٌ على أمرٍ لا يثبُت ولا قرارَ له.
إذا تحدَّثوا عن قضايا المرأةِ المسلِمة أتوكَ بكلِّ غريب، وكأنهم يغيظُهم أن يرَوا في المسلماتِ متحجِّبةً عفيفة صيِّنة، يريدون خَلعَ جلبابِ حيائها، ويريدون تذويبَ شخصيّتها، ويريدون القضاءَ على حيائها وفضيلتِها، يسرُّهم هذا الأمرُ المشين والعياذ بالله.
إذا تحدَّث أولئك عن ملتَقَياتِ الأمّة ومجتمعاتها وأنديَتِها وكيف تخدم هذه الأنديةُ قضايا الأمة رأيتَهم [يجولون ويصولون]، لكنّهم أحيانًا قد لا يصرِّحون، لكن فلتَاتُ اللّسان تدلّ على أنهم يريدون للأمّة نقلةً من دينٍ وخلُق واستقامةٍ إلى آراء شاذّة علمانيّة بعيدة عن الإسلام وتعاليمِه الخالِدَة.
أيّها المسلم، أيّها الكاتب، أيّها الناشر، اتّقِ الله فيما تقول وتتحدّث، وليعلَم العبدُ أنّ الله مجازيه ومحاسبُه عن ألفاظِه التي يقولها، فإن يكن يقول حقًّا فليحمدِ الله، وإن قال باطلاً فليعلَم أنّ الله محاسبُه عن ذلك، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، ((وإنَّ العبدَ ليتكلَّم بالكلِمة من سَخط الله ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغَت، يكتُب الله له بها سخطَه إلى يومِ يلقاه)) [3].
إنَّ النفاقَ وأهلَ النفاق للأسَف الشديد بدأت ألسِنتهم تنبسِط في الإسلام وأهلِه، وبدَؤوا يقولون ويقولون باسم حرّيّة الرّأي والنشر، لكنها وللأسفِ الشديد استُغِلّت في حربِ الإسلام والطّعن في مبادئه وقِيَمه وفضائله وأخلاقِه التي شرَّف الله بها الأمّةَ ورفع قدرَها بهذا الدّين وحده.
فالأمّة لا عزَّ لها ولا كرامةَ لها ولا ثباتَ لها إلاَّ إذا كان شرعُ الله نظامَها في كلِّ أحوالها والتقت قلوبها على الدّين وتعاليمه الخالدة، إنّ الله يقول: فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123]، فالمستَمِع لهدَى الله ليس ضَالاًّ ولا شقيًّا، بل هو مهتَدٍ وسعيد، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]، هكذا حالُ من أعرضَ عن دين الله.
فليتَّقِ الله أيُّ قائل يقول، وليتَّقِ الله من يتحدَّث ويلقي ويُعِدّ؛ أن يعلمَ أنّ الله سائلُه ومحاسِبه؛ لأنّ هذا الدين أمانةٌ في أعناقِ الأمّة، وكلُّ إنسانٍ سيُسأَل يومَ القيامة عمّا قال وتحدّث.
كم مِن أناسٍ يدّعون ويدّعون وإذا أصغيتَ إلى أقوالهم وجدتَ ـ والعياذ بالله ـ فيها شطَطًا وبعدًا عن الهدى، وما كأنَّ أولئك عاشوا بينَ المسلمين؛ يحمِلون الحِقدَ على الإسلام وأهلِه وعلى تعاليمه وعلى مبادِئه وعلى قيَمِه وعلى فضائلِه وعلى محاسِنِه، وكأنَّهم جنودٌ مجنّدة مِن أعداء الدين لهدمِ هذا الدين واقتِلاعه من قلوبِ العِباد.
فليحذرِ المسلمون هذا النفاقَ، هذا النّفاقُ بعَينِه، نفاقٌ وإن ادّعى أهلُه وأنِ ادَّعى المتكلِّم والقائل ما ادّعى، فإنَّ كلَّ قولٍ ينافي هذا الدينَ وكلَّ قولٍ يعادي هذا الدينَ وفضائله وقيَمَه وأخلاقه فإنَّ ذلك يصدُر من إنسانٍ غيرِ مؤمِنٍ حقًّا.
فلنتَّق اللهَ في أنفسنا، ولنتمسَّك بدينِ الإسلام الحقّ، ولنعلَم أنّه لا سعادَةَ ولا عِزّ ولا نصرَ ولا استقامةَ ولا استقرارَ للأمة إلاَّ إذا كان دينُ الله يحكُم بينها في كلِّ أحوالها، إلاَّ إذا كان شرعُ الله هو المنظِّم لحياتها في كلِّ شؤونها وأحوالها.
نسأل الله الثباتَ على الحقّ والاستقامةَ عليه، وأن لا يزيغَ قلوبنا بعد إذ هدانا، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] القائل هو أبو بكر ابن أبي مليكة، علقه عنه مجزومًا به البخاري في الإيمان، باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، ووصله المروزي في تعظيم قدر الصلاة (688) من طريق الصلت بن دينار عنه لكن فيه: "أدركت زيادة على خمسين"، قال ابن رجب في فتح الباري (1/195): "في الصلت ضعف". وله طريق آخر عن ابن جريج عنه، رواه البخاري في التاريخ الكبير (5/137) والخلال في السنة (1081). قال ابن حجر في الفتح (1/110): "وصلهُ ابن أبي خيثمة في تاريخه, لكن أبهم العدد. وكذا أخرجه محمّد بن نصر المروزيّ مُطوّلاً في كتاب الإيمان له, وعيّنه أبو زُرعة الدّمشقيّ في تاريخه من وجه آخر مختصرًا كما هُنا".
[2] علقه عنه البخاري في الإيمان، باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، قال ابن رجب في فتح الباري (1/195): "هذا مشهور عن الحسن صحيح عنه"، وقال ابن حجر في الفتح (1/111): "هذا التعليق وصله جعفر الفريابي في كتاب صفة المنافق له من طرق متعددة بألفاظ مختلفة".
[3] أخرجه مالك في الموطأ (1848)، وأحمد (3/469)، والترمذي في الزهد (2319)، وابن ماجه في الفتن (3969) من حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه، وقال الترمذي: "وفي الباب عن أم حبيبة، وهذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (281)، والحاكم (1/107-108)، وهو في السلسلة الصحيحة (888).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مُباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورَسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
سأل أميرُ المؤمنين عمر بنُ الخطاب رضي الله عنه حذيفةَ بن اليمان صاحبَ سرِّ رسولِ الله فقال: يا حذيفة، أسألك بالله هل عدَّني لك رسولُ الله من المنافقين أم لا؟ قال: لا، ولا أزكّي أحدًا بعدك [1].
فهذا عمَر الفاروقُ ثاني خلفاءِ رسول الله، هذا عمَر يخشى أن يكونَ في أعمالِه نفاق، ويسأل حذيفةَ: هل عُدَّ من المنافقين أم لا؟ مع أنه من المجاهدين الصادقين، لكن حبُّ الإيمان وكراهية الشرِّ جعلَتهم يخافون على إيمانهم، ويسألونَ الله الثباتَ على إيمانهم، ويحاسِبون أنفسَهم عن أقوالهم وأفعالهم.
قال بعض السلف: "ما عرضتُ عملي على قولي إلاَّ خشيتُ أن أكونَ كاذبًا" [2] ، كلُّ ذلك حِرصًا على الإيمان، حِرصًا على هذا الدّين. نسأل الله أن يثبِّتنا وإيّاكم عليه أقوالاً وأعمالاً، وأن يجعلَنا صادقين في إيماننا ظاهرًا وباطنًا.
وأحذِّر إخواني المسلمين منَ المنافقين وأخلاقِهم وصفاتهم وأعمالهم السيّئة ومقالاتهم الخطيرة وكتاباتهم الضالّة المنحرفة من أقوامٍ يحسَبون على الإسلام وأهله، وأنهم كُتّاب وأنهم وأنهم.. ولكن إذا سمعتَ الأقوالَ وأصغيتَ إلى بعض الألفاظِ وجدتَ ـ وللأسفِ الشديد ـ ما يحزِن القلبَ ويؤلم نفسَ كلِّ مسلم من ألفاظٍ سيّئة وأقوالٍ خطيرة وانخداعٍ وانبِهار لما لدى الأعداء، وزُهدًا في هذه الأخلاق الإسلاميّة وبُعدًا عنها، بل ألفاظ تأتي كثيرة لا ترى فيها ذِكرًا لله ولا اسمًا لله، وإنما هي ألفاظٌ فيها منَ الشرّ والخُبث ما الله به عليم.
فنسألُ الله الثباتَ على الإسلام، رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]. اللهمّ مقلِّبَ القلوب ثبِّت قلوبَنا على دينك.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعةِ، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبدِ الله ورسولِه محمّد كما أمرَكم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صَلِّ وسَلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلَفائه الرّاشدين...
[1] انظر: سير أعلام النبلاء (2/364).
[2] القائل هو إبراهيم التيمي، علقه عنه مجزومًا به البخاري في الإيمان، باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، ووصله في التاريخ الكبير (1/334)، والفريابي في صفة المنافق (95)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة والجماعة (1580)، وأبو نعيم في الحلية (4/211)، قال ابن رجب في فتح الباري: "هذا معروف عنه، وخرجه جعفر الفريابي بإسناد صحيح عنه".
(1/3394)
صنائع المعروف
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, فضائل الأعمال, مكارم الأخلاق
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
10/8/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المدرسة النبوية الأخلاقية. 2- التأكيد على بذل النفع للمسلمين. 3- فضل قضاء حوائج المسلمين. 4- الحرص على إدخال السرور في قلوب المسلمين. 5- فضل كظم الغيظ. 6- ذمّ سوء الخلق. 7- فضل صيام شعبان. 8- بدع النصف من شعبان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بوصيّةٍ عظمية ألا وهي تقوَى الله عز وجل ولزومُ طاعته في السرّ والعلَن، فبها تسعَد حياتنا وتزكو آخرتنا.
معاشرَ المسلمين، لقد جاءَت المدرسةُ النبويّة وفي توجيهاتِها المحاسنُ التي لا تتناهى والمبادِئ المثلَى التي لا تُجَارى، كيف وهي مدرسةُ سيّد الثقلين والمبعوثِ رحمةً للخلق أجمعين؟! مدرسةٌ ما أحلَى أن نطيِّبَ الأسماع بتوجيهاتها وأن نطيِّب الأوقاتَ بالعيش معها.
روى ابن عمرَ رضي الله عنهما أنّ رجلاً جاء إلى النبيّ فقال: يا رسولَ الله، أيُّ الناسِ أحبّ إلى الله؟ وأيّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله؟ فقال رسولُ الله : ((أحبُّ الناسِ إلى الله تعالى أنفعُهم للنّاس، وأحبّ الأعمال إلى الله سرورٌ يدخِله إلى مسلمٍ أو يكشِف عنه كربةً أو تقضِي عنه دينًا أو تطرُد عنه جوعًا، ولأن أمشيَ مع أخٍ في حاجةٍ أحبّ إليّ مِن أن أعتكِفَ في هذا المسجد ـ يعني مسجدَ المدينة ـ شهرًا، ومن كفَّ غضبَه سترَ الله عورته، ومن كظمَ غيظَه ولو شاء أن يمضيَه أمضاه ملأَ الله قلبَه رجاءً يومَ القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجةٍ حتى تتهيّأ له أثبتَ الله قدمَه يوم تزول الأقدام، وإنَّ سوءَ الخلُق ليفسِد الدّين كما يفسِد الخلُّ العسل)) حديث رواه الطبرانيّ في الكبير وابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج وغيرهما، وسنده حسن عند المحقّقين من المحدّثين [1].
حديثٌ عظِيم تضمَّن ما يورِث حبَّ الله وحبَّ الخلق وما بِه تشيعُ روحُ الأخوّة بين المسلمين وتقوَى العلاقاتُ معه بين المؤمنين. حديثٌ جليل تضمَّن من مبادئ الأخلاق أعلاها، ومِن قيَم الآداب أرفعَها، ومِن معالي المحاسِن أزكاها، ومِن محاسِنِ الشمائل أرقاها. توجيهاتٌ تزكو بها النفوس وتصلح بها المجتمعاتُ وتسعَد بها الأفراد والجماعات قِيَم اجتماعيّةٌ لم يشهد التأريخُ لها مثيلاً، ومبادِئُ حضاريّة لم تعرف البشريّة لها نظيرًا، ذلكم أنها توجيهاتُ من لا يصدر عن الهوى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4].
إخوةَ الإسلام، وهنا وقَفاتٌ عند هذا الحديثِ الجليل نستمتِع عندها بتوجيهاتِ سيّدنا ونسَرُّ معها بإرشاداتِ رسولنا عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
الوقفةُ الأولى: تأكيدُ هذا الحديث على بذلِ النفعِ للمسلمين بوجوهِ النفع المختلِفة وأشكالهِ المتعدِّدة، فذلكم سببٌ عظيم للفَوز بالأجر الكبير والثوابِ الجزيل، ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: ((أحبُّ النّاس إلى الله أنفعُهم للناس)).
ومن أعظم النفع لهم قضاءُ حاجاتهم وإعانَتهم في ذلك، أكانت حاجتهم إلى المال أو العمَل أو الوظيفة أو إلى بذل كلمةٍ طيّبة أو إلى دفعِ ظلمٍ أو إلى المشاركة بالمشاعِر في الأتراح والأفراح أو إلى نحوِ ذلك من الحاجات التي تختلِف باختلافِ أسبابها وبتنوُّع أشكالها.
وهذه قاعدةٌ عامّة في الشرع، قاعدةُ مشروعيّة المواساة بين المؤمنين والحِرص على قضاء حاجاتِ المسلمين، ومن هذا المنطلَق جاء في هذا الحديثِ قولُه تمثيلاً لجزئيّات هذه القاعدة: ((ولأن أمشيَ مع أخٍ في حاجةٍ أحبُّ إليَّ من أن أعتكفَ في هذا المسجد شهرًا))، وقوله: ((ومن مشى مع أخيه في حاجةٍ حتى تتهيّأ له أثبتَ الله قدمَه يومَ تزول الأقدام)).
وفي مقامِ التفصيل والبيان يقول : ((وإرشادُك الرّجلَ في أرض الضلالِ لك صدقة، وبصرُك للرجل الرّدِيء البصَر لك صدقة، وإماطتُك الحجر والشوكةَ والعظم عن الطريق لك صدقةٌ، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقَة)) [2]. ولهذا كلِّه حرص أهلُ الخير والفَضل على إنهاءِ حاجاتِ المؤمنين وإسداءِ النفع للمسلمين، يقول حكيم بنُ حزام رضي الله عنه: (ما أصبحتُ صباحًا قطّ فرأيت بفناءِ داري طالبَ حاجة قد ضاقَ بها ذرعًا فقضيتُها إلاَّ كانت من النِّعَم التي أحمدُ الله عليها، ولا أصبَحتُ صباحًا لم أرَ بفنائي طالبَ حاجة إلاَّ كان ذلك من المصائبِ التي أسأل الله عزّ وجلّ الأجرَ عليها) [3].
الوقفةُ الثانية: أكّد هذا الحديث العظيمُ على صفاتٍ خاصّة من قضاء حوائجِ المسلمين لعظيمِ أجرِها وكبيرِ ثوابها، وهذه الصفاتُ هي الحِرص بقدرِ الإمكان على عونِ المسلم في تنفيسِ كربَتِه أو قضاءِ دينِه أو طَرد جوعِه، قال : ((أطعِموا الجائعَ، وعودوا المريضَ، وفكّوا العاني)) رواه البخاري [4] ، ويقول : ((ألا رجلٌ يمنَح أهلَ بيتٍ ناقةً تغدو بعُسّ ـ أي: قدحٍ كبير ـ وتروح بعسٍّ، إنَّ أجرها لعظيم)) متفق عليه [5].
وفي شأنِ ثواب التجاوزِ عن الدَّين أو قضائهِ عن المدِين جاء في الصحيحين أنّ رسول الله قال: ((كان رجلٌ يدايِن الناسَ، فكان يقول لفتاه: إذا أتيتَ معسِرًا فتجاوز عنه لعلَّ اللهَ أن يتجاوزَ عنَّا، فلقيَ الله عز وجل فتجاوز عنه)) [6] ، وعن عبد الله بن أبي قتادة أنّ أبا قتادةَ طلب غريمًا له فتوارى عنه، ثم وجده بعد ذلك فقال ـ أي: المدين ـ: إني معسر، فقال: آلله؟ قال: آلله، قال: فإني سمعتُ نبيَّ الله صلوات الله وسلامه عليه يقول: ((مَن سرَّه أن ينجيَه الله من كُرَب يومِ القيامة فلينفِّس عن معسرٍ أو يضَع عنه)) رواه مسلم [7].
خصالٌ عظيمَة التزَم بها الصالحون وعمِل بها المتّقون، قال أبو هريرة رضي الله عنه: كنَّا نسمِّي جعفرَ أبا المساكين؛ كان يذهَب إلى بيته، فإن لم يجِد شيئًا أخرج لنا عُكّةً مِن عسلٍ أثرُها عسَل فنشقُّها فنلعَقُها [8] ، وكانت لأبي برزَة الأسلميّ جفنةٌ من ثريدٍ في الغدوِّ والعشيّ للأرامِل واليتامَى والمساكين [9] ، وكان عليّ بن الحسَين رضي الله عنه وعن أبيه وعن جدّه يحمِل الخبزَ باللّيل على ظهرِه يتتبّع به المساكين في الظلمَة ويقول: "إنّ الصّدقةَ في سوادِ اللّيل تطفِئ غضَبَ الربّ" [10] ، قال محمد بن إسحاق رحمه الله: "كان ناسٌ مِن أهل المدينةِ يعيشون لا يدرون من أينَ كان معاشُهم، فلمّا مات عليّ بن الحسين فقَدوا ذلك الذي كانوا يُؤتَونَ بالليل فعلِموا أنه منه، ولهذا قيل: كان يعول مائةَ أهل بيتٍ من المدينة" [11] ، وعن شعبةَ رحمه الله قال: "لما توفِّي الزبير لقِيَ حكيم بنُ حزام عبدَ الله بن الزّبير فقال: كم ترك أخي من الدّين؟ فقال: ألفَ ألفٍ، قال: عليَّ منها خمسمائة ألف.
الوقفة الثالثة: أنَّ من الخصال التي حثَّ عليها هذا الحديثُ ورغَّب فيها الحرصَ على الشديد على إدخالِ السرور والسعادةِ على المسلمين بتطييبِ خواطرهم بكلمةٍ طيّبة أو مساعدةٍ ممكِنة بالمال أو الجاه أو بمشارَكةٍ بمشاعِرَ طيّبةٍ في أوقاتِ الحزن وعند التعرُّض لما يعكِّر الصّفوَ، فقد جاء في هذا الحديث: ((أحبُّ الأعمال إلى الله سرورٌ تدخِله على مسلم))، وفي الحديث عن أنسٍ رضي الله عنه عن النبيّ أنه قال: ((من لقيَ أخاه المسلم بما يحبّ ليَسُرّه بذلك سرَّه الله جلّ وعلا يومَ القيامة)) رواه الطبراني بإسنادٍ حسن [12]. ولهذا ذكَّر نبيُ الرّحمة نبيّ الأخلاق صلوات الله وسلامه عليه ذكَّر أمّتَه بالاتِّصاف بكلِّ مَظهر يوجِب السرورَ وبكلّ مسلَك يدخِل على الآخرين السّعادةَ والحبور، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا تحقِرَنّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقَى أخاك بوجهٍ طلق)) رواه مسلم [13] ، ويقول أيضًا: ((تبسّمُك في وجه أخيك صدَقة)) رواه الترمذيّ وابن حبّان والبيهقيّ وإسناده حسن [14].
وقد التزَمَ سلَف هذه الأمّة وهم خِيارها بتِلك الأخلاقِ الفاضلة والقِيَم العظيمة، فكان بكر بن عبد الله المزني يلبَس كسوتَه وهو يعيش عيشَ الأغنياء، يلبس كسوتَه ثم يجيء إلى المساكين يجلِس معهم ويحدّثهم ويقول: "لعلّهم يفرحون بذلك" [15].
الوقفة الرابعة: مِنَ القيَم العالية التي حثَّ عليها هذا الحديثُ وبيَّن عظيمَ أجرِها التحلِّي بالصبر عند الغضَب وعند ثورانِه والاتِّصاف بكظمِ الغيظِ عند اشتداده، فالصبر عند الغضب وكظمُ الغيظ عند وجودِه خَصلة من خصال الصالحين وصفةٌ من صفاتِ المتّقين، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134]. قال الطبريّ: "الكاظِمين الغيظَ يعني: الجارعين الغيظَ عند امتلاء نفوسِهم منه، يقال: كظم فلانٌ غيظَه إذا تجرّعه فحفِظ نفسَه أن تمضِيَ ما هي قادرةٌ على إمضائه باستنكارِها ممن غاظَها وانتِصارها ممن ظلمها" [16] ، ويقول القرطبي: "كظم الغيظ ردُّه في الجوف والسّكوت عليه وعدم إظهاره لا بقولٍ ولا بفعل مع قُدرة الكاظمِ على الإيقاع بعدوِّه" [17].
ورسولنا يبيِّن عظيمَ فضل كظم الغيظِ فيقول: ((من كظمَ غيظًا وهو قادِر على أن ينفذَه دعاه الله على رؤوسِ الخلائق حتى يخيِّره من الحورِ ما شاء)) رواه الترمذيّ وأبو داود وسنده حسن [18] ، وعند ابن ماجه: ((ما من جُرعَة أعظم أجرًا عند الله من جرعَةِ غيظٍ كظمها عبدٌ ابتغاءَ وجهِ الله)) [19] ، قال في الزوائد: "إسناده صحيح ورجاله ثقات" [20].
الوقفة الخامسة والأخيرة: أنّ في هذا الحديث ذمًّا لسوء الخلُق وبيانًا لعاقِبتِه الوخيمة، ذلكم أنّ الأخلاقَ السيّئة سمومٌ قاتلة ومُهلكات واقِعة ورذائل واضحة، روى الطبرانيّ وغيره عن أنسٍ رضي الله عنه عن النبيّ قال: ((إنَّ العبدَ ليبلُغ بحُسن خلُقه عظيمَ درجات الآخرة وشرفَ المنازل وإنّه لضعيفٌ في العبادة، وإنَّ العبدَ ليبلُغ مِن سوءِ خلُقه أسفَلَ درَك جهنّم)) [21] ، قال الحافظ العراقيّ: "سنده جيد" [22] ، وعند الترمذيّ وقال: "حديث حسن صحيح": ((ما مِن شيءٍ أثقَلُ في ميزانِ المؤمِن يومَ القيامة من خلُق حسَن، وإنَّ الله يبغِض الفاحشَ البذيء)) صحيحٌ عند المحقِّقين [23].
قال بعضُ السّلف: "سوءُ الخلُق سيّئةٌ لا تنفَع معها كثرةُ الحسنات، وحُسن الخلق حَسنةٌ لا تضرّ معها كثرةُ السيّئات"، كيف وقد روى أحمدُ والبزّار وابن حبان في صحيحِه بسندٍ صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسولَ الله، إن فلانة تكثِر من صلاتها وصيامِها وصدقتها غيرَ أنها تؤذِي جيرانها بلِسانها، قال: ((هي في النار)) ، قال: يا رسول الله، إنّ فلانة تذكُر من قِلّةِ صلاتها وصِيامها وإنها تتصدّق بالأثوارِ مِن الأقِط [24] ولا تؤذي جيرانها، قال: ((هي في الجنة)) [25].
فاتّقوا الله عباد الله، واستجيبوا لله وللرّسول إذا دعاكم لما يحييكم. فالتزِموا بتلك الأخلاقِ الكريمة، واحرِصوا على الاتّصاف بها؛ تسعَدوا وتفوزوا وتظفَروا.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنّة، ونفعنا بما فيهما من البيان، أقول هذا القول، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] معجم الطبراني الكبير (12/453)، قضاء الحوائج (36) ولم يسمّ الصحابي، وأشار المنذري في الترغيب إلى ضعفه (3،265)، وقال الهيثمي في المجمع (8/191): "فيه سكين بن سراج وهو ضعيف"، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (906).
[2] رواه البخاري في الأدب المفرد (891)، والترمذي في البر (1956)، والبزار (4070)، والطبراني في الأوسط (4840)، والبيهقي في الشعب (3/204) عن أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (529)، وهو في السلسلة الصحيحة (572).
[3] رواه ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق (424).
[4] صحيح البخاري: كتاب الأطعمة (5373) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[5] صحيح البخاري: كتاب الهبة (2629)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1019) واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] صحيح البخاري: كتاب البيوع (2078)، صحيح مسلم: كتاب المساقاة (1562) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] صحيح مسلم: كتاب المساقاة (1563).
[8] أخرجه الترمذي في المناقب (3767) وقال: "هذا حديث حسن غريب".
[9] رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (4/299)، وانظر: سير أعلام النبلاء (3/42).
[10] رواه أحمد في الزهد (ص166)، وانظر: تهذيب الكمال (20/392)، وجامع العلوم والحكم (ص272)، وسير أعلام النبلاء (4/393).
[11] رواه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (ص166)، وانظر: تهذيب الكمال (20/392).
[12] المعجم الصغير (1178)، ورواه أيضا ابن عدي في الكامل (2/215)، قال ابن عدي: "هذا حديث منكر بهذا الإسناد"، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (3/365)، والهيثمي في المجمع (8/193)، وهو في السلسلة الضعيفة (1286).
[13] صحيح مسلم: كتاب البر (2626) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[14] سنن الترمذي: كتاب البر والصلة (1956)، صحيح ابن حبان (474، 529)، شعب الإيمان (3/220) عن أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد (891)، والبزار (4070)، وله شواهد كثيرة أشار إليها الترمذي، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (572)، وهو جزء من حديث قد تقدم.
[15] انظر: سير أعلام النبلاء (4/534).
[16] جامع البيان (4/93).
[17] انظر: الجامع لأحكام القرآن (4/206).
[18] سنن الترمذي: كتاب البر (2021)، سنن أبي داود: كتاب الأدب (4777) عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (3/440)، وابن ماجه في الزهد (4186)، وأبو يعلى (1497)، والطبراني في الكبير (20/188)، والبيهقي في الشعب (6/313)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2753).
[19] سنن ابن ماجه: كتاب الزهد (4189) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أحمد (2/128)، والطبراني في الأوسط (7282)، والبيهقي في الشعب (6/313، 314)، وحسنه العراقي في الإحياء (4/163)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (3377).
[20] مصباح الزجاجة (4/233).
[21] المعجم الكبير (1/260)، وأخرجه أيضا أبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان (4/237)، والضياء في المختارة (1812)، قال المنذري في الترغيب (3/272): "رواته ثقات سوى شيخه المقدام بن داود وقد وثق"، وقال الهيثمي في المجمع (8/25): "رواه الطبراني عن شيخه المقدام بن داود وهو ضعيف، وقال ابن دقيق العيد في الإمام: إنه وثق، وبقية رجاله ثقات"، وأورده الألباني في السلسلة الضعيفة (3030).
[22] تخريج الإحياء (3/64).
[23] سنن الترمذي: كتاب البر (2002) عن أبي الدرداء رضي الله عنه،
[24] أي: القطع من الأقِط.
[25] مسند أحمد (2/440)، صحيح ابن حبان (5764)، وأخرجه أيضا ابن راهويه في مسنده (293)، والبخاري في الأدب المفرد (119)، والبيهقي في الشعب (7/78، 79)، وصححه أيضا الحاكم (7304، 7305)، والمنذري في الترغيب (3/242)، وقال الهيثمي في المجمع (8/169): "رجاله ثقات"، وهو في السلسلة الصحيحة (190).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له في الآخرة والأولى، وأشهد أنّ سيّدنا ونبِيّنا محمّدًا عبده ورسوله النبيّ المصطفى والعبد المجتَبى، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأتقياء.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فهي وصيّة الله للأوّلين والآخرين.
عبادَ الله، وردَت أحاديثُ صحيحةٌ في فضيلةِ صيام أكثرِ شَعبان، جاء في الصحيحين عن النبيِّ أنّ عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسولَ الله استكملَ صيامَ شهرٍ قطّ إلاَّ رمضان، وما رأيته في شهرٍ أكثر صيامًا منه في شعبان، فكان يصوم شعبانَ كلَّه إلاَّ قليلاً [1]. وفيما رواه أحمد والنسائي من حديث أسامة بن زيد أنه قال: لم أرك تصومُ من الشهورِ ما تصوم في شعبان! قال: ((ذلك شهرٌ يغفل عنه النّاس بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفَع الأعمالُ فيه إلى ربِّ العالمين، وأحِبّ أن يرفَع عمَلي وأنا صائم)) [2].
ولكن ممّا نبّه عليه العلماء قديمًا وحديثًا أنّه لم يصحَّ شيء من الأحاديثِ في تخصيصِ ليلةِ النّصف من شعبان بقيام ولا تخصيص يومِها بصِيام، وما يظنّه بعضٌ أنها ـ أي: ليلة النصف من شعبان ـ هي المرادَةُ بقوله جل وعلا: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان:3] فهو خطَأ واضِح؛ لأنّ المرادَ بالليلة المباركة في صحيحِ التفسير هي ليلةُ القدر كما يشير إليه قوله جلّ وعلا: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1].
وما ورَد في فضلِ تخصيص الصلاة في ليلةِ النصف من شعبان فكلُّه موضوع على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه كما ذكر ذلك المحقِّقون من المحدّثين قديمًا وحديثًا، قال الشوكاني رحمه الله: "حديث صلاةِ نِصف شعبان باطل"، وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله: "حديث صلاة ليلةِ النصف من شعبان موضوعٌ على رسول الله وكذب عليه"، وقال النووي في المجموع: "الصلاة المعروفةُ بصلاةِ الرغائب وهي ثِنتَا عشرةَ ركعة بين المغرب والعِشاء ليلةَ أوّل جمعة من رجب وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة هاتان الصّلاتان بِدعتان منكَرتان، ولا يُغتَرّ بذكرهما في كتابِ قوتِ القلوب وإحياء علوم الدين ولا بالحديثِ المذكور فيهما، فإنّ كلَّ ذلك باطل، ولا يغتَرّ ببعضِ من اشتبه عليهِ حكمُهما من الأئمّة، فصنّف ورقاتٍ في استحبابهما، فإنّه غالط في ذلك" انتهى كلامه رحمه الله [3]. ولكن صحّح بعضُ المحدّثين حديثًا واحدًا وهو قوله : ((يطَّلع الله تبارك وتعالى إلى خلقِه ليلةَ النّصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقِه إلاَّ لمشرك أو مشاحن)) [4] ، ولكنّ هذا الحديث لا يفيد تخصيصَ ليلة النّصف من شعبانَ بصلاةٍ ولا تخصيصَ يومِها بصيام، فالتزِموا سنة نبيّكم محمّد.
واعلَموا أنّ من أفضلِ الأعمال وأزكاها الصلاةَ والسلام على النبيّ الكريم.
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيّدنا ونبيّنا محمّد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الراشدين والأئمّة المهديّين...
[1] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1969، 1970)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1156).
[2] مسند أحمد (5/201)، سنن النسائي: كتاب الصيام، باب: صوم النبي (2357)، وأبو نعيم في الحلية (9/18)، وصححه ابن خزيمة كما في الفتح (4/215)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1022).
[3] المجموع شرح المهذب (4/ 61).
[4] أخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء في ليلة النصف من شعبان (1390) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، ومن طريقه ابن الجوزي في العلل (2/561)، قال البوصيري في الزوائد: "إسناده ضعيف لضعف عبد الله بن لهيعة، وتدليس الوليد بن مسلم"، وله شواهد كثيرة لا يخلو كلّ واحد منها من ضعف، قال ابن رجب في لطائف المعارف (ص143): "وفي فضل ليلة نصف شعبان أحاديث متعددة، وقد اختُلف فيها، فضعفها الأكثرون، وصحح ابن حبان بعضها وخرجه في صحيحه"، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة بعد أن ساق الشواهد وتكلم عليها: "وجملة القول أن الحديث بمجموع هذه الطرق صحيح بلا ريب، والصحة تثبت بأقل منها عددا ما دامت سالمة من الضعف الشديد كما هو الشأن في هذا الحديث".
(1/3395)
حين نكتشف الحقيقة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انجلاء الحقيقة. 2- حرب الكفار على الإسلام وأهله. 3- حقائق مكشوفة. 4- التلبيس الذي تسلكه أعداء الإسلام. 5- الحقائق القرآنية عن الكافرين. 6- آية الكسوف والخسوف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
وقد ظهرت فما تخفى على أحدٍ إلا على أحدٍ لا يعرف القمرا
ما أقبحهم حين تُكتَشَف حقيقتهم، وما أظلمهم عندما يطالبون بالحقّ، هذه حالُ أمريكا الصليبيةِ إخوتي، والحقائقُ تظهَرُ كلَّ يوم، والفظائع ـ إخوتي ـ تزداد بإخواننا تزداد، ليس في العراق فحسب، بل في كل مكان، فهل يفقه من يدافع عنها في الصحف والقنوات؟! يضعون لأفعالها التبريرات والتأويلات! فكيف يُدافعون عمَّن رَكب الصعب والذلول في عداوة بلادنا والمسلمين؟! فكيف نُؤوِّلُ هجماتهم علينا صباح مساء قادةً وشعبًا، تعليمًا وجمعيات، شبابا ونساءً؟! لكنها الفضيحة الكبرى بحمد لله لهؤلاء الصليبيين ولمن والاهم على المسلمين، ونراهم بأسماء كأحمد وجلال وسعدٍ وعثمان، ولكنَّهم متأمرِكون أكثر من الأمريكيين حين يتخلّون عن بلادهم التي عاشوا فيها وأخذوا من خيرها، وينبرون للدفاع المستميت عنْهم وعن ظلمهم الذي وَضَحَ لكلِّ أحدٍ، ويهاجمون من إخوانهم وعلمائهم للنيل منهم، الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:141].
هذا هو الواقع المهين حين نكتشف الحقيقة في العراق، فنرى صورَ التعذيب لإخواننا في السجون بأسلاك الكهرباء، وتعريتهم من ملابسهم، وترى منع النساء والأطفال خلف الأسلاك الشائكة عن الوصول إلى منازلهم التي ُهدِمت في الفلوجة، والقتل العشوائي للمدنيين، وسرقة الثروات جهارًا، وتعيين الموالين لهم حكامًا، ثم ترى من يبرّر لهم اعتداءاتهم.
حين تنكشفُ الحقيقةُ في فلسطين عن دعمٍ صليبي وموالاةٍ للصهاينةِ على حساب المسلمين وتسخيرِ القراراتِ والمنظّمات والهيئات الدولية لمصلحتهم.
حين تنكشفُ الحقيقة في أفغانستان، فإذا بهم يزيلون دولةً اختارها الشعبُ ورضيَ بها، ثم يعيدون السرقة واختلال الأمن وزراعة المخدّرات إليها بعد أن اختفى ذلك زمانًا.
حين تنكشفُ الحقيقة عن تاريخٍ أمريكيّ صليبي دامي خلال حوالي خمسين سنة، ليس مع المسلمين فحسب، بل في اليابان وكوريا وفيتنام وغيرها من البلاد.
حين نكتشفُ الحقيقة عن واقعهم في بلادهم، فإذا هم شركاءُ في أحداثِ هدم المراكز التجارية وإن لم يشرفوا على إعدادها لمِا تعودُ عليهم من مصلحةِ، وإذا بقصةِ أسلحة الدمار الشامل كذبةٌ كبرى أرادوا من خلالها تحقيق أهدافهم المتطرفة.
حين تنكشفُ الحقيقة عن مأساةٍ عظيمة لدول الإسلام وشعوبه في خذلان إخوانهم، فلا تراهم حتى يستنكرون ما حدث للأسرى وما يحدث في فلسطين، فأين الغيرة والحمية؟! ما بالها ذهبت في هذا العصر؟!
حين تنكشف الحقيقة عن بعض المسلمين ممّن سخّر نفسه لتشجيعهم على غزو بلاد الإسلام ودعمهم بالمال وموالاتهم ضد المسلمين على حساب قضاياهم، فأصبحوا سماسرة يسوّقون قضايا الصليبيين لشعوبهم.
حين تنكشف الحقيقة عن عهدٍ حرّ وسلام جديد لأهلنا في العراق وأفغانستان، فإذا بالحرية سجون في جواتانامو لا تليق بالحيوان وتُهَم تلقى جزافًا وباطلاً. إذا بالحرية تعذيب بالكهرباء وممارسات شاذّة على إخواننا في المعتقلات مع الافتخار بذلك وتصويره في مشاهد مخزِية، حين يظهرونهم وهم عراة ويلقون بأوساخهم عليهم أخزاهم الله، ويلقون بهم من السيارات ويحجَزون بلا تهَمٍ، ولا حول ولا قوة إلا بالله. إذا الحرية الموعودةُ إهانةٌ للمساجدِ والمشائخ وخطف للعلماء البارزين وتهديد، فأيّ حرية هذه؟!
أمّا السلام الموعودُ منهم فهو احتلالٌ للبلاد ودماءٌ تنزف وقنابلُ تُقْذف وكوارث إنسانية وعدوٌ أراد مسحَ عارِ خيبتِه وهزيمته بثقل قنابله الغبيّة المدمّرة، لما جبن عن مقابلة الرجال جعل حنقه على الأطفال وصبّ غضبه على المدنيّين، أما السلامُ المدعوم من قبلهم في فلسطين فلقد رأيناه اغتيالاً للقادةِ والمشائخ ونهبًا للأراضي وحرقًا للأشجار وإقامةً لجدارٍ عنصريًً فاصل لا يليق إلا بفِكرهم الصهيونيّ الصليبي وإن كانوا يعلنون صباح مساء حرصهم على السلام، يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:167].
حين نكتشفُ حقيقة تبديل المصطلحات، فإذا بالدين تطرّف، وإذا بالجهاد إرهاب، وإذا بالضعف عقل، وإذا بالخلاعة فن، واحتلال البلدان جلب للعدل والحرية، والتفجير وترويع الآمنين إصلاح، وغير ذلك من لَبس الحق بالباطل.
نعم إخوتي، حين تنكشف حقيقة هؤلاء الصليبيين، فيحاولون حجبها وتشويهها بمحاربة بعض القنواتِ الإخبارية العربية التي تحاول عرضَ الحقيقةِ على الناس.
حين تنكشفُ الحقيقةُ الديمقراطية الزائفة، فإذا هي دكتاتوريةٌ مطلَقة كمنقِ فرعون مصر، مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى [غافر:29]، ومنطق فرعون أمريكا الحالي: "إمّا معنا وإما ضدّنا".
حين تكشفُ مزاعم حقوق الإنسان، فإذا هي كذبةٌ كبرى وشعاراتٌ مهترئة، هم أسرعُ الناس إلى نقضها وانتهاكها، وتنكشف حقيقةُ فكرهم لبلادنا وسائر بلاد المسلمين، مكرهم بالشباب، مكرهم للتعليم، مكرهم للمرأة، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
حين تنكشف الحقيقة ليتّخذوا من أحداث سبتمبر سببًا لتعميم التهمة على العالم الإسلامي بدينه ودوَلِه وشعوبه وجمعياتِ الخير فيه، بينما تراهم يطالبوننا بأن نعتبر تعذيب الجنود لإخواننا شذوذًا لا يمثل جيشهم، ويقدم لنا رئيسهم الاعتذارَ عنه بعد أن صمتوا عنه أكثر من خمسة أشهر، فأيّ باطلٍ هذا؟! أيّ باطلٍ يفعله؟! وأيّ اعتذارٍ يقدّمه وهو الذي لم يترك شيئًا في الإسلام إلا وتكلّم فيه وجعله سببًا لكل بلاء؟!
حين تنكشف حقيقة شعوبنا المسلمة، فإذا هي تعيش خطرًا داهمًا يهدّد أخلاقها ومبادئها، حين تحيط بها صور الباطل من اختلاطٍ نسائي وعار فضائي ويُتركُ فيها مروِّجو الفساد والعهر في قنواتهم ليُفسِدوا المجتمعات ويتخذوا من الفنانين والفنانات واللاعبين قدوات في حقيقةٍ مرة لا نستطيع التعامي عنها.
أيها المسلمون، هذه هي الحقائق، وما كان غيرها مما يعلنُ فهو كذب، وهذا طبعُ أهل الكتاب حين يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلون، وإذا كان كلّ هذا كذبًا ـ إخوتي ـ فأين الحقيقة ؟! نعم أين الحقيقةُ في هذا الزمان؟!
إن الحقيقة ـ إخوتي ـ قريبةٌ لمن أرادها، واضحةٌ لمن قرأها، فهي في كتاب مسطَّر لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيمٍ حميد.
إنه القرآن الكريم الذي أوضح لنا ـ وما زالَ ـ كثيرًا من مكْرِهم، بين لنا باطلَهم، فكلما رجعنا إليه حقًا وقرأناه صِدْقًا نرى الحقيقة المماثلة لنا عن هؤلاء والتي لا يستطيع أحدٌ حجبها بصداقته معهم أو بتقليدِ قنواتهم وأخلاقهم، الحقيقة عنهم نراها في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51]، فتعالوا بنا نستعرض الحقائق.
عباد الله، إن أُولى الحقائق أنَّ هذه الحربَ ليست على العراق وفلسطين، كلا والله، وإنما هي على الإسلام وعلى دول الإسلام في صراعٍ قدّره الله بين أهل الحق والباطل، وسنةُ الله ماضية، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62].
الحقيقةُ أن حَربهم هذه مستمرةٌ دائمةٌ لهدفٍ واحدٍ عنَدهم، وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].
الحقيقةُ أن أهل الكتاب يمتلكون تاريخًا من الصراع معنا لم يضعف، وما ذلك إلا لما تحمله قلوبهم من غيظ على المسلمين ورعبٍ من الإسلام، فهم لن يرضوا عنا حتى نتبع ملتهم، مما يجول في نفوسهم من حقدٍ وحسدٍ علينا، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ [البقرة:109].
الحقيقةُ أن المرض يسري في بعض قلوبنا، أمراضٌ كالتعلُقِ بالدنيا بشهواتها ومناصبها، أمراضٌ كالفكر السطحي البعيد عن الفهم والوعي لواقع الأمة وما يتهددها وعدم معرفةِ الأهداف وإدراك الأبعاد لحروب الأعداء، بل تنطلي علينا مخطّطاتُه وتغريره بنا، ولرُبَّما انبرى منَّا من يُبِّرُر حرْبَهم ويعتبرها مقبولةً خشيةً على دنياه الزائلة، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52].
الحقيقة أن أعداءَ الإسلام جادّون غير هازلين في حربهم ومخططاتهم لفتنةِ المسلمين وصدِّهم عن دينهم وطرح مناهج أخرى ومبادراتِ إصلاح وهي إفساد، فلا بد من الحذر، وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة:49].
الحقيقةُ أن الدافع الأساس لما نراه من صفاقةٍ غير متناهية وتناسٍ للأعراف والحقوق والمواثيق هو دافعٌ عقدي يحركه تحالف صهيوني صليبي، شاء المدافعون عنه أم أبوا، وما تصريحات زعيمهم ووزير دفاعهم والآخرين بأنها حربٌ صليبيةٌ بخطأ لفظي، فلقد أثبتت الممارسات صحة أقوالهم وتجنّي معتقداتهم.
الحقيقة أن كذبة حقوق الإنسان إنما دعوا إليها لمصلحتهم وحدهم، وأن نور الله لن يطفئوه بأفواههم، فالله متم نوره ولو كره الكافرون، وكلمتنا هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
ثم إن الحقيقة ـ إخوتي ـ أن الله سبحانه وتعالى ومن خلال هذه الأحداث سيميّز الخبيث من الطيب، ويجعل الخبيث بعضه على بعضٍ فيركمه جميعًا فيجعله في جهنم.
الحقيقةُ ـ إخوتي ـ أنهم سينفقون أموالهم ويشحذون أسلحتهم، ثم ستكون بإذن الله عليهم حسرةً ثم يغلبون.
الحقيقةُ أن الغلبة لله ولرسله وللمؤمنين، وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141]. نعم، إننا منصورون بإذن الله، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47].
الحقيقة أن كيدهم هذا لن يضرّنا بإذن الله إلا أذى جسديًا، وسوف يولّون الأدبار ثم لا ينصَرون، فلا نتعامى عن الحقيقة أن الأمة لا زالت إلى خير، يثبت ذلك المقاومةُ الباسلة للرجال والنساء في فلوجة العراقِ وبغدادِ، في فلسطينَ والشيشان، كلهم استطاعوا أن يثبتوا أن الإيمان مع قلة السلاح يفعل العجائب أمام أعتى القوى وأمضى الأسلحة، أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج:39، 40].
الحقيقة ـ إخوتي ـ أننا بالشعور بمصاب إخواننا في بلدانهم ومعرفة حالهم نحيِي مواتَ قلوبنا، ونعيد تذكّر أمجادنا، ولا ندعُ التخاذل يصيدنا، ونقوم بأقل الواجب حماية لبلداننا من أن يصيبنا ما أصابهم بعد أن تركنا نصرتهم والدفاع عنهم، فإن ما رأيناه من صور تعذيب المعتقلين وتلك المشاهد اليومية للنساء والمنازل المهدمة تلقي علينا والله مسؤولية عظمى بواجب نصرتهم وعدم التخلي عنهم.
الحقيقةُ أننا بدعمهم بالمال نقوّيهم، وبالدعاء ننصرهم، وأن نستجيب لربنا ونخفف مصابنا ونخذل الكافرين والمنافقين.
الحقيقةُ أنَّنا بتوحيد الكلمة نستطيعُ مقاومتَهم وردَّ بأسِهم، لكنَّنا بالفرقةِ والتنازع نفشلُ وتذهبَ ريحنا أمامَهم.
الحقيقة، نعم الحقيقةُ أنَنا بنبذ أمراض التطرُّف والغلو والحذر من ممارسات العنف، نبرّئ ساحة ديننا ونعلي كلمتنا وندفع عنا تشويه المغرضين ونقد المرجفين.
الحقيقةُ أننا نقاومهم بالعزائم الجادّة والإرادات القوّية، لا بالتلهي بالتّرَّهات والأباطيل، لا بالغناء والرقص، وليس بالكرة والإعلام الهابط، وإنما بإعلامٍ يرفعُ اهتمامات الأمة ويعزها ولا يذلها.
عباد الله، إنها حقائق دافعةٌ واضحةٌ، لا لبسَ فيها ولا تشويه، حقائقُ ينبغي لنا استحضارها والاستشهاد بها ونحن نرى ما آل إليه الحال في صراعنا مع هؤلاء الكفار في عددٍ من بلادِ الإسلام وثغوره، كفارٌ يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق.
إنها حقائق من الخطأ والإجرام التعامي عنها والتهاون بها تحت أيّ ذريعةٍ، فماذا بعدَ الحق إلا الضلال؟! ولنحذر من الذين يجادلون في الحق بعدما تبين.
إنها حقائق لا خلاف عليها، فهي منطوق كتاب الله لمن أراد الدليل لشرعه والمصلحة لبلده والرفعة لدينه، كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17]. فإذا كان هذا هو الحق فأين نحن منه؟! وما دوري وما دورك في إظهاره وإعلائه؟! ولم نَرَ الباطل منتفشًا والحقّ منزويًا إلا بتقصير أهله، فارفعوا بالحقّ رؤوسكم عاليةً إخوة الإيمان، واعلموا أن باطلهم ينكشف مع الأيام، وإن ما ذكرناه من الحق سيزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا، فهل يفقه ذلك المؤمنون؟! بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:18].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أيها الناس، اتقوا الله تعالى توبوا إليه.
آياتٌ خلقها الله في السماوات والأرض، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد:4]. نعم أيُُّها الأحبة، كيف رفع الله هذه السماوات بقوته وأمسكها بقدرته ورحمته أن تقع على العباد، أحكم بناءَها فما لها من فروج ولا فطور، زينها بالمصابيح وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرا، كلٌ في فلك يسبحون، في نظامٍ دقيق عجيبٍ رتبه بحكمتهِ وهو القويُّ العزيز، سخَّر سبحانه وتعالى الشمس والقمر بحسبان دائبين، صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88]، فأين ما يصنعُه الإنسانُ ويعلمهُ من عظمةِ صنعِ اللهِ اللطيف الخبير؟!
عباد الله، حين كانت الشمس والقمرُ آيتين من آيات الله ينكسفان بأمره، فإذا أراد الله أن ينذر عباده من عاقبة معاصيهم ومخالفتهم كسفهما باختفاء ضوئهما كلِّه أو بعضهِ، إنذارًا للعباد وتذكيرًا لهم لعلهم يحدثون توبةً، فيقومون بما يجب عليهم من أوامر ربهم ويبتعدون عما حرمه عليهم.
هذه الحكمة العظيمةُ التي تناساها الناسُ اليومَ لهذا الأمر الجلل عند حدوثه، ولعلَّ ما خفف مصابه عليهم الإعلانُ عنه قبل وقوعه، فترى في الناس من لا يأبه بحدوثه ولا حول ولا قوة إلا بالله. ترى بعض الناس يتهاونون بأمر الكسوف فلا يقيمون له وزنًا، وما ذاك إلا لضعف إيمانهم وجهلهم بما فعله رسول الله تجاهه واعتمادهم على ما علم من أسباب الكسوف الطبيعية وغفلتهم عن الأسباب الشرعية التي يقرّ بها المؤمنون وينكرها الكافرون ويتهاون بها ضعيفو الإيمان فلا يقومون بما أمرهم به رسول الله من الفزع إلى الصلاة والذكر والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق.
يحصل الكسوف فيخرج عليه الصلاة والسلام فزِعًا يجرّ رداءه وراءه، يدعو الناس: الصلاة جامعة، ثم يعظهم حتى قال: ((والله، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا)). يحدّث بذلك صحابته فكيف لو رأيتَ حالنا يا رسول الله، وفينا من يجاهر بالمعاصي، وفينا من يدعو إليها ويرعاها ويحمي أصحابها؟! كيف وفينا من يقوم اقتصاده على الربا، وفينا من يوالي الكافرين ويعادي المؤمنين؟! كيف ـ يا رسول الله ـ وفينا من يرى هذه الآيات المخوفة التي تتابع ثم لا يحرك لها ساكنا، تراه ساهرًا أمام القنوات الفضائية عابثًا لاهيًا يقدم ورقة يلعب بها أو مباراة يشاهدها على حضور صلاة الكسوف؟! فتذكروا ـ يا عباد الله ـ العبرة من هذه الآيات، وقوموا بما أوجبه الله عليكم اتجاهها.
نسأل الله ـ أيها الأحبة ـ أن يغفر لنا زللنا وخطأنا، ونسأله جل وعلا توبةً نصوحًا تمحو ما اقترفناه من الذنوب، فوالله ـ عباد الله ـ إنّ الإنسان ليخاف ونحن نرى هذه الآيات من كسوف الشمس وخسوف القمر وكثرة الرياح والأعاصير والغبار وانقطاع الأمطار وشحّ المياه الذي يتهدّد بلادنا بقلة موارد الماء ونقص المياه الجوفية وغورها في الأرض وغير ذلك مما ينبغي لنا أن نخشاه ونخافه.
نسأل الله تعالى اللطف بنا وبسائر عباده المؤمنين، وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد...
(1/3396)
آخر العام الهجري 1424
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
إبراهيم بن عبد الله صاحب
جازان
29/12/1424
جامع قرية المجديرة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة المحاسبة. 2- مجاهدة النفس. 3- فضل المحاسبة. 4- نماذج من محاسبة السلف لأنفسهم. 5- سبب ذم الدنيا. 6- وقفة عند انقضاء عام كامل. 7- التذكير بالموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإن تقوى الله دار حصن عزيز، تمنع أهلها وتحرز من لجأ إليها، وبها تقطع حُمة الخطايا، فهي النجاة غدًا، والمنجاة أبدًا.
إن الفرد منا إذا تعرض لنكبات وخسارات فإن عليه أن يعيد لملمة أوراقه وترتيب صفحاته، ويعود لنفسه ليتبين موضع أقدامه، ويبصر مكان خطواته، ليصبح في أشد الحاجة إلى عمليه تجديد وبناء جديد، حتى تعود نفسه لبنة صالحة، فيقيم منها صرحًا شامخًا مشيدًا مجيدا، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، ويقول سبحانه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة:105]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((عليك بخاصة نفسك)) أخرجه الأربعة إلا النسائي وحسنه الترمذي.
عباد الله، إن أعجب الأشياء مجاهدة النفس ومحاسبتها، لأنها تحتاج إلى صناعة عجيبة وقدرة رهيبة، فإن أقوامًا أطلقوها فيما تحب، فأوقعتهم فيما يكرهون، وإن آخرين بالغوا في خلافها حتى ظلموها ومنعوها حقها، وأثر ظلمهم لها في تصرفاتهم وتعبداتهم، ومن الناس من أفرد نفسه في خلوة وعزلة، أثمرت الوحشة من الناس، وآلت إلى ترك فرائض أو فضل من عيادة مريض أو بر والدة، وإنما الحازم المُحكم من تعلم منه نفسه الجد وحفظ الأُصول، فالمحقق المنصف هو من يعطيها حقها ويستوفي منها ما عليها، وإن في الحركة بركة، ومحاسبة النفس حياة، والغفلوة عنها لون من ألوان القتل صبرًا. قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
وإن العبد المسلم لن يبلغ درجة التقوى حتى يحاسب نفسه على ما قدمت يداه، وعلى ما يعقد عليه العزم من شؤونه في جميع الأمور، فينيب إلى الله مما اجترح من السيئات، ملتمسًا عفو ربه ورضاه، طامعًا في واسع رحمته وعظيم فضله.
ومحاسبة النفس المؤمنة سمة للمؤمن الصالح، ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)) ، والذنوب واردة على كل مسلم، ولكن لا بد لها من توبة، ولا توبة دون محاسبة، قال رسول الله : ((كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) رواه الترمذي.
يتوب العبد بعد أن يحاسب نفسه، ويحاسب نفسه لينجو من عذاب الآخرة، فإن الشهود كثير، ولا يملك العبد في الاحتيال فتيلا ولا نقيرا ولا قطميرا، وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا ?للَّهُ ?لَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء [فصلت:21]، الله أكبر، يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:4]، قال الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله، وما أخبارها؟ قال: ((أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عملت كذا وكذا، وفي يوم كذا وكذا)) رواه أحمد وغيره.
ونضر الله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ورضي عنه ذا الكلمة الراشدة الراسمة طريق النجاح: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى? مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].
إن ارتفاع النفس ونضوجها لا يتكون فجأة، ولا يولد قويًا ناضجًا دون ما سبب، بل يتكون على مكث، وينضج على مراحل، وإن ترويض النفس على الكمال والخير وفطامها عن الضلال والشر يحتاج إلى طول رقابة وكرات من الحساب. وإنه لا أشد حمقًا ولا أغرق غفلة ممن يعلم أنه يُحصى عليه مثاقيل الذر، وسيواجه بما عمله من خير أو شر، ويظل في سباته العميق لاهيًا، غير مستعتب لنفسه ولا محاسب لها، يمسي على تقصير، ويصبح على تقصير، قال أحد السلف رحمه الله: "من حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه. ومن لم يحاسب نفسه، دامت خسارته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته".
واعلم ـ أيها المسلم ـ أنه ما من بلاء أو مصيبة تقع بالإنسان إلا بسبب الذنوب، يوضح هذا موقف أبو الدرداء يوم انتصر المسلمون على الروم القياصرة وزالت دولتهم، حيث جلس يبكي فلما سئل: يا أبا الدرداء، أتبكي في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟! فقال أبو الدرداء: (ويحك يا هذا، ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة، تركوا أمرا لله فصاروا إلى ما ترى). وقد حُمل ابن سيرين دينًا، فسئل فقال: "إني لأعرف الذنب الذي حمل به علي الدين ما هو؛ قلت لرجل منذ أربعين سنة: يا مفلس".
قلّت ذنوبهم فعرفوا من أين يؤتون، وكثرت ذنوبنا فليس ندري من أين نؤتى، والجزاء من جنس العمل.
يقول أحد السلف: والله، إني لأعلم ذنوبي حتى في انقطاع شراك نعلي وسير دابتي. ونظر أحد السلف إلى امرأة في السوق فقال له صاحبه: والله، لتجدن غبّها ولو بعد حين، أي: أثر هذا الذنب، فنسي القرآن بعد أربعين سنة من تلك الحادثة.
يا ابن آدم، البِر لا يبلى، والذنب لا يُنسى، والديان لا يموت، اعمل ماشئت، فكما تدين تدان.
إن لله عبادًا فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لِحَىٍّ وطنا
جعلوها لُجَّة واتخذوا صالح الأعمال فيها سُفْنا
فالفطناء العقلاء هم الذين عرفوا حقيقة الدار، فحرثوها وزرعوها، وفى الآخرة حصدوها. فالذم الوارد فى القرآن والسنة للدنيا لا يرجع إلى زمانها من ليل ونهار، فلقد جعل الله الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، والذم الوارد للدنيا فى الكتاب والسنة لا يرجع إلى مكانها ألا وهو الأرض، إذ إن الله قد جعل الأرض لبني آدم سكنًا ومستقرًا، والذم الوارد فى القرآن والسنة لا يرجع إلى ما أودعها الله عز وجل من خيرات، فهذه الخيرات نعم الله على عباده وجميع خلقه، إنما الذم الوارد فى القرآن والسنة يرجع إلى كل معصية ترتكب فى حق ربنا جل وعلا.
أخي الحبيب، دنياك مهما طالت فهى قصيرة، ومهما عظمت فهى حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لا بد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لا بد من دخول القبر.
دع عنك ما قد فات فى زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب
لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب
والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب
وغرور دنياك التى تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب
الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب
قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ وَأَنِيبُواْ إِلَى? رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ?لْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ [الزمر:53، 54].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على حبيب الله وخليله وعبده ورسوله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد: أيها الإخوة المسلمون، نقف اليوم على آخر عتبة من دار عام كامل، وهو العام الرابع والعشرون بعد الأربعمائة والألف من هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهو اليوم في أنفاسه الأخيرة، نقف ونلتفت للخلف لنتمعن في أعمالنا في هذا العام من خير أو شر.
ففي الوقت الذي توقف كثير من المؤسسات أعمالها وتغلق أبوابها لكي تعمل جردًا سنويا وفحصًا دوريّا للمشتريات والمبيعات، ويجلس الشركاء ليتحاسبوا على النقير والقطمير والصغير قبل الكبير، يحسن بالمسلم أن يجلس مع نفسه ليحاسبها وليضبط سلوكها. والسؤال هو: هل جلس كل منا مع نفسه اليوم أو قبله أو بعده، وأخذ ورقة وقلما، وحاول أن يتذكر بعض أعماله التي قام بها في هذا العام المنصرم من خير أو شر، فيشكر ربه على أن وفقه لأعمال الخير، ويلوم نفسه على تقصيره وفعله للشر، وحتى لا يتمادى به الهوى وتطغيه الشهوة ويتتبع خطوات الشيطان ويلهيه طول الأمل وتفتنه الدنيا؟!
إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف الخلاص وكلهم أعداء
وأقول ـ أيها الأحبة ـ لا بد من وقفة بطولية ومحاسبة شديدة حازمة حاسمة لهذه الأنفس لكي نردعها عن الزيغ والفساد، قبل أن تجرنا إلى الهاوية، فإذا لم نربِّها على الفضيلة جرفتنا إلى الرذيلة، وإذا لم نرفعها وضعتنا، وإذا لم نجرها إلى الحسنات سحبتنا إلى السيئات، إذن فلا بد من معالجة هذه الأنفس قبل أن يستفحل المرض، وقبل أن ينتشر ويكون رانًا على القلوب وغلافًا على الصدور، وعلينا أن نطهرها وننظفها، لتكون بيضاء نقية لاستقبال العام الجديد، وكما قيل: المحسن هو من كان يومه خير من أمسه، وغده خير من يومه، والمسيء من كان أمسه خير من يومه، ويومه خير من غده. فالمؤمن يبقى على عبادة الله تعالى حتى يأتيه الموت، قال تعالى: كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ?لتَّرَاقِىَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:26، 27]، إذا بلغت الروح الترقوة وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ من يرقيه؟! من يرقى بروحه؟! ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟! من يبذل له الرقية؟ من يبذل له الطب والعلاج؟! فهو من هو؟! صاحب الجاه والسلطان؟! صاحب الأموال والولدان؟! انتقل فى طيارة خاصة إلى أكبر مستشفى فى العالم، التف حوله أكبر الأطباء، هذا متخصّص فى جراحة القلب، وهذا في البطن، وهذا متخصص فى جراحة المخّ والأعصاب، وهذا متخصص فى كذا، وذاك متخصص فى كذا. التف حوله الأطباء يريدون شيئًا، وملك الملوك أراد شيئًا آخر، قال تعالى: وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ?لْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [النساء:78]، والتف حوله الأطباء مرة أخرى، كل يبذل له العلاج والرقية، ولكن حاروا وداروا، اصفر وجهه، شحب لونه، بردت أطرافه، تجعّد جلده، بدأ يشعر بزمهرير قارس يزحف إلى أنامل يديه وقدميه، فينظر فى لحظة السكرة والكربة فيرى الغرفة التى هو فيها مرة فضاءً موحشًا ومرة أخرى أضيق من سم الخياط، وينظر مرة فيجد أهله يبتعدون عنه وأخرى يقتربون منه، اختلطت عليه الأمور والأوراق، من هذا؟! ملك الموت؟! ملك الموت عند رأسه، ومن هؤلاء الذين يتنزلون من السماء؟! إنه يراهم بعينه، إنهم الملائكة، يا ترى ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟! يا ترى ماذا سيقول ملك الموت؟! هل سيقول لي الآن: يا أيتها الروح الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ورب راض غير غضبان، أم يقول: يا أيتها الروح الخبيثة، اخرجي إلى سخط الله وعذابه؟! ينظر لحظة الصحوة بين السكرات والكربات، فإذا هو يعي من حوله من أهله وأحبابه، فينظر إليهم نظرة استعطاف، نظرة رجاء، فيقول بلسان الحال وربما بلسان المقال: يا أولادي، يا أحبابي، يا إخواني، لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني فى لحدي، أنا أبوكم، أنا الذي بنيت لكم القصور، أنا الذي عَمرت لكم الدور، أنا الذي نمَّيت لكم التجارة، فمن منكم يزيد فى عمري ساعة أو ساعتين؟! افدوني بأموالي، افدوني بأعماركم. وهنا يعلو صوت الحق كما قال جل وعلا: مَا أَغْنَى? عَنّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنّى سُلْطَـ?نِيَهْ [الحاقة:28، 29].
وقد سجل التاريخ لهارون الرشيد عندما نام على فراش الموت فنظر إلى جاهه وماله وقال: ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه، ثم قال: أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه، فحملوه إلى قبره، فنظر هارون إلى القبر وبكى، ونظر إلى السماء وقال: يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه. أين الجاه؟! أين السلطان؟! أين المال؟! أين الأراضي والولدان؟! ذهب كل شيء.
أيا من يَدَّعِي الفهم إلى كم يا أخى الوهم
تعبّ الذنب والذنب وتخطئ الخطأ الجم
أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب
أما أسمعك الصوت أما نادى بك الموت
أما تخشى من الفَوْت فتحتاط وتهتم
فكم تسير فى اللهو وتختال من الزهو
كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط
وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم
هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود
إلى أن ينخر العود فيمسي العظم قد رمّ
فزوّد نفسك الخير ودع ما يعقب الضير
وهيئ مركب السير وخاف من لجة اليم
بذا أوصيك يا صاح وقد بحت كمن باح
فطوبى لفتى راح بقرآن الرب يأتم
أيها الشاب، أيها الشيخ، صحح مسارك، واستقم كما أُمرت، وانطلق على وجه الأرض ذات الطول والعرض، ولتكن مصباحًا للدجى ومشعلاً للهدى، فترد نفسك والفارين من الله إلى الله ربّ العالمين، وتنادي المعرضين عن سبيل الهداية والدين، وتعيد الناكصين، ممن في طريق الباطل سالكين، فتعبق بشذاك في كل مكان وفي كل زمان، فتغدو مبارك الخطوة أينما حللت وحيثما رحلت، هكذا تكون أنت البطل
ليس من يقطع طرقًا بطلاً إنما من يتقي الله البطل
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى ?للَّهِ وَعَمِلَ صَـ?لِحًا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ ?لْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
هذا وصلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين ومنارًا للسالكين، اللهم صلّ وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والمقتدين بهم إلى يوم الدين.
(1/3397)
وصايا في الاستثمار
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
البيوع, الفتن
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
17/8/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تنافس الناس على الدنيا. 2- فتنة المال. 3- حب المال. 4- كثرة المال في آخر الزمان. 5- انتشار المكاسب المحرمة. 6- وصايا للمستثمرين. 7- عناية الشريعة الإسلامية بحفظ المال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوَى الله سبحانه ومراقبتِه في السّرِّ والعلن والاستعداد ليوم المعاد، فإنَّ السّاعةَ آتية لا ريبَ فيها، وإنَّ الله يبعث مَن في القبور.
عبادَ الله، إنّ تنافسَ الناس في نيلِ مطامعِ الدّنيا لهو الدَّيدَن المعهود في غابِرِ الأزمان وحاضِرها، وإنِّه ليزدَاد هذا التنافُس معَ الطّمَع كلّما ازداد اللّهَث وراءَ المكنون من زينتِها ومفاتنها، حتى إنَّ النفسَ المغامرة لتشرئبّ أمامَ السّرابِ في القيعةِ تحسَبه ماءً وليس بماءٍ، وما ذلك إلاَّ مِن شدَّة ولع النّاس بالدنيا وزخرفها.
وإنَّ على رأس هذهِ المفاتن المالَ، المال الذي أودَعه الله بين عباده، يتناقلونه فيما بينهم، يبيع بعضهم لبعض، ويرابِح بعضهم لبَعض. يجِد الناس في هذا المالِ طاقاتٍ متفتّقةً بين الحين والآخر في إذكاءِ المضاربات والمرابحات، حتّى يصبِح التنافس والتهافُت سِمةُ مِن سماتِ مغامرات الناسِ ومخاطراتهم، وكأنهم بذلك يفرّون من فقرٍ محقَّق يدَعّون إليه دَعًّا، حتى وقَعوا فيما حذَّر منه النبيّ بقوله: ((فوالله، لا الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسَطَ عليكم الدّنيا كما بسِطَت على مَن كان قبلكم، فتنافَسوها كما تنافَسوها، وتهلِكَكم كما أهلَكتهُم)) رواه البخاريّ ومسلم [1].
ثمّ إنَّ هذا التنافسَ المحمومَ لم تسلَم بَراجِمُه مِن أوخازِ الظّلمِ والبُهتان والكيدِ والحسَد وأكلِ أموالِ الناس بالباطل؛ إذ ما مِن تَنافسٍ يخرجُ عن إطارِ الاعتدالِ والتوسُّط إلاَّ وتكون العواقبُ فيه وخيمةً والآفات المتكاثِرة عليه أليمة. ومِن هنا تنشأ الفِتنة بين النّاس، فيبغِي بعضهم على بعض، ويلعَن بعضهم بعضًا، وهذِه النتيجةُ إنما هِي مصداقٌ لقولِ المصطفى : ((إنّ لكلِّ أمّةٍ فِتنةً، وفتنة أمّتي المال)) رواه الترمذي في جامعه [2].
إنّ كرهَ الفقر وحُبّ الغنى أمران فِطريان، والشريعةُ الغرّاء لا تقِف كالِحةً في وجهِ الفِطرة التي فطَر الله الناسَ عليها، ولكنها في الوقتِ نفسِه تبرُز كمصحِّحةٍ للمَسار حاثَّةٍ على الاعتدال في كلِّ شيء حتى في المال؛ لأنّ النبيَّ قد استعاذَ بالله من شرِّ الغنى والفقر. رواه أبو داود والترمذي [3]. فالإسلام لم يحثَّ قطّ على الفقرِ؛ لأنّ الفقرَ كاد يكون كفرًا، ولم يحرِّض الناسَ على اللّهَث الأعمى وراء المال؛ لأنّ الإنسانَ قد يطغَى أن رآه استَغنى.
أيّها الناس، جاءَ في مسند أحمدَ أنّ النبيَّ ذكر أنّ الساعةَ لا تقوم حتى يفيضَ المال [4] ، وإنّ من المقرَّر المشاهَد في هذا الزّمن ـ عباد الله ـ كثرةَ المال وتنوّعَ موارده وامتلاءَ الساحة بالأطروحات الاستثماريّة والمساهماتِ الربحية؛ ما جعل الناس يتهافتون إليها تهافُت الفراشِ على النِّبراس، حتى إنّها لم تدَع بيتًا إلاَّ وأصابته بدخَنها. وليس هذا هو العجبَ عباد الله، فإنّ النبي قد أخبرنا بهذا التنافس، وإنما العجَب حينما يكون هذا الانكبابُ والانغماس في حمأة الطّفرَة الماليّة لدى المستثمِرين عاريًا عن الأناةِ والوضوح والفَرز بين ما أحلَّه الله وبين ما حرّمه، وأن تكونَ غاية الكثيرين هي التحصيلَ كيفما اتَّفق دون النظرِ إلى الضوابط الشرعية والقواعِد المرعيّة في أبوابِ المعاملات بين الناسِ بيعًا وشراءً ومرابحةً. وإنّ مثلَ هذه المعرّة لم تأتِ بغتةً دون مقدّمات، بل إنها رَجع صدًى لقلَّة العِلم وضَعف الحرص على استجلابِ المال من طُرُقه الواضحة البيّنة من حيث الحِلّ والحرمةُ. وما نشاهِده اليومَ من عروضٍ استثماريّة متنوِّعة يعتريها شبَهٌ وشكوك بل يعترِيها ظنٌّ راجح بأنها ملتاثةٌ بشيءٍ من الطّرق المحرَّمة في المعاملاتِ إنّما هو يذكِّرنا بقول النبيِّ : ((ليأتيَنَّ على الناسِ زمانٌ لا يبالي المرءُ بما أخذَ من المال بحلالٍ أو بحرام)) رواه أحمد [5].
عبادَ الله، إنّ الثورةَ الماليةَ الهائلة في أوساطِ المستثمرين قد ولَّدت شيئًا من الإحَن والمشاحّةِ والدعاوى، إضافةً إلى الإعسارِ المفاجِئ والخسائرِ المتراكِمَة التي تحُلّ ببعض الفرَص الاستثمارية، فتشتعِل على إثرِها الخصوماتُ والنّكبات جرّاءَ تلكم الحَمَالات التي لم تكن محضَ صُدفةٍ مع الاعترافِ بأنها غالبًا ما تكون مفاجئةً، وهذا كلّه يجعلنا نؤكِّد على توضيح بعض الأمور وتجلِيَتها لمن أصِيبوا بالعمَى في هذا الميدانِ واستنشقوا غُبارَه، وذلك من خِلال الوصايا التالية:
الوصيّة الأولى: أنّ أمورَ العباد وأموالَهم مبنيّة على المشاحّة والمؤاخذة، فالمستثمِرون بالجملة عُميُ البصائر أمام صاحِب الاستثمار ما دام رابحًا موفَّقًا، لا يسألونه عن صغيرةٍ ولا كبيرة، ناهيكم عن المبالغةِ في مدحِه والثناءِ عليه والإعجاب به، فإذا ما خسِر وكبا انقلَبوا على وجوههِم شاتمين له ومدَّعِين عليه، والواقع يؤكِّد موالاتَهم له في الغُنم ومعاداتَهم له في الغُرم.
الوصيّة الثانية: أنّ الأصلَ في أموال الناس وحقوقِهم الحرمةُ والحضر، فلا يجوز الاعتداءُ عليها أو المماطلة والتفريطُ فيها أو الوقوعُ في التأويلاتِ المبرِّرة للتصرّفات الممنوعةِ فيها؛ لأنّ النبيَّ يقول: ((كلُّ المسلم على المسلم حرام؛ دمُه وماله وعِرضه)) رواه مسلم [6] ، وعند مسلم أيضًا أن النبيَّ قال: ((بمَ تأخذ مالَ أخيك بغير حق؟!)) [7].
الوصية الثالِثة: أنّ القناعة والسماحةَ في ميدان التّجارة أمران مندوبٌ إليهما إذ هما مظِنّة البركة، كما أنَّ الطمعَ والجشَع وعدم القناعة مظِنّة للكبوةِ وقِلّة البركة؛ لأنّ للتجارةِ سورةً كسورةٍ الخَمرة، تأخذ شاربَها حتى ينتشِي، فإذا انتشى عاوَد حتى يصيرَ مدمِنًا، لا يفيقُ من نشوةِ المغامَرة والطمعِ حتى يستويَ عنده حالُ الخمار والإفاقة، ولاتَ ساعةَ مندَم، ولقد قال النبيّ : ((من يأخُذ مالاً بحقِّه يبارَك له فيه، ومن يأخذ مالاً بغير حقِّه فمثله كمثلِ الذي يأكل ولا يشبَع)) رواه مسلم [8]. فالسماحةُ والقناعة هما رأسُ البركة والرّحمة لقول النبي : ((رحِم الله رجلاً سمحًا إذا باعَ وإذا اشترى وإذا اقتضَى)) رواه البخاري [9].
الوصيّة الرابعة: وهي تصحيحٌ لبعضِ المفاهيم المغلوطَة لدى بعضِ المرابحين حيث يظنّون أنّ المعاملاتِ المحرمّة لا تكونُ محرَّمة إلاَّ إذا شابَها صورةٌ من صوَرِ الرِّبا، وأنّ أيَّ معاملةٍ خاليةٍ من الربا فهي حَلال، وهذا ظنٌّ خاطئ، بل إنّ المعاملات المحرّمة أعمّ في السبب من ذلك؛ لأنها في الحقيقةِ ترجع إلى ثلاثِ قواعد: أولاهنّ: قاعدةُ الربا بأنواعه وصوَره، والثانية: قاعدة الغرَر بأقسامه وأنواعه، والثالثة: قاعِدَة التغرير والخِداع بألوانه وأحواله.
وهذا ـ عباد الله ـ أمرٌ قلَّ من يتفطَّن له من التّجّار والمرابحين؛ لأنَّ المعاملةَ قد تحرُم بسبَب نُقصانها شرطًا من شروطِ صِحّة البيع المعلومة وإن لم تكن على صورةِ رِبا، فالبركة كلّ البركة في الكسبِ الحلال، والمحقُ كلّ المحقِ في الكسبِ الحرام.
أمّا الوصيةُ الخامسة ـ عبادَ الله ـ فنوجّهُها إلى من ائتمَنَهم الناس على أموالهم في الاتِّجار والمرابحة أن يتّقوا الله فيها، وأن يسيروا في إتمامِها على الوجهِ المباح والوضوح والخضوع لما أحلَّ الله فيها، والبُعد والنأي عن أيِّ موضِع ريبةٍ أو شبهة أو تفريط وإهمالٍ أو استغلال ثِقَة الناس بهم في أن يتصرَّفوا فيها على غيرِ ما وُضِعت له، فإنَّ من نوى أن يفِيَ بحقوق النّاس كان الله معه، والعكس بالعكس، وليتذكَّر أمثالُ هؤلاء قولَ النبيِّ : ((من أخذ أموالَ الناس يريد أداءها أدّى الله عنه، ومن أخَذها يريد إتلافها أتلَفَه الله)) رواه البخاري [10].
ألا فاتّقوا الله معاشرَ المسلمين، واتّقوا المالَ فإنّ فتنة هذه الأمة المال، ولتستمِعوا إلى قول الباري جلّ شأنه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمِنَ الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفِر الله إنّه كان غفّارًا.
[1] صحيح البخاري: كتاب الجزية (3158)، صحيح مسلم: كتاب الزهد (2961) عن عمرو بن عوف رضي الله عنه.
[2] جامع الترمذي: كتاب الزهد (2336) عن كعب بن عياض رضي الله عنه، ورواه أيضا أحمد (4/160)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2516)، والطبراني في الكبير (19/179) والأوسط (3295)، والبيهقي في الشعب (7/280)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وصححه ابن حبان (3223)، والحاكم (7896)، وهو في السلسلة الصحيحة (592).
[3] سنن أبي داود: كتاب الصلاة (1543)، سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3495) عن عائشة رضي الله عنها، وهو عند البخاري في الدعوات (6368، 6375، 6376، 6377)، ومسلم في الذكر (589).
[4] مسند أحمد (6/25) عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، وهو عند البخاري في الجزية (3176).
[5] مسند أحمد (2/505) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو عند البخاري في البيوع (2059، 2083).
[6] صحيح مسلم: كتاب البر (2564) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] صحيح مسلم: كتاب المساقاة (1554) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[8] صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1052) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[9] صحيح البخاري: كتاب البيوع (2076) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[10] صحيح البخاري: كتاب الاستقراض (2387) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده.
وبعد: فإنّ الشريعةَ الإسلامية قد جاءت موافقةً لبقيّة الشرائع السماويّة في حفظ الضرورات الخمس وهي الدين والنفسُ والعقل والنّسل والمال. فالبيعُ والشّراء والمرابحة كلُّها تندرِج تحت ضرورةِ حِفظ المال، وانطلاقًا مِن حِفظ هذه الضّرورة فإنّ الشارعَ الحكيم لم يدَعِ الفردَ المسلم حرًّا في التصرّف المالي دون ضوابط، لئلاّ يخرج بالمال عن مَقصدِه الذي أُكرِم به بنو آدم من كونِه نِعمة ومنّة إلى كونه نِقمة على صاحبه ووبالاً يُسأل عنه يومَ القيامة، فقد صحّ عند الترمذيّ وغيره أنّ النبي قال: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع)) وذكر منها: ((وعن مالِه: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟)) [1].
فالواجب على كلِّ مسلمٍ أن يدركَ حقيقة المال وأنه سلاح ذو حدي، وليحذَر أشدَّ الحذر أن ينقلبَ عليه فتنة وبلاءً؛ لأنّ الله جلّ شأنه قال عن المال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:28].
فالواجِبُ على ولاةِ الأمور والعلماءِ والمختصِّين في المعاملاتِ المالية أن يكونَ لهم جهودٌ ملموسَة في حفظ هذه الضرورة مِن خلال وضعِ الضوابط الشرعية والمصالحِ المرسَلَة لتكونَ سِياجًا منيعًا يحول دونَ العَبَث بأموال النّاس والعَبِّ منها كمَا الهيم، ولأجلِ أن تقلِّلَ من ضحايا المرابِحين المتهوِّرين والبُسَطاء المغامِرين، ولئلاّ تكونَ السوقُ الماليّة كلأً مُباحًا لكلِّ ساذِج يرعَى حولَ حِماها، وذلك حمايةً للحقوق والمصالِح ودرءًا للمَفاسد والعبَث بأموال النّاسِ، يقول الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20].
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خيرِ البريّة وأزكى البشريّة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحبِ الحوضِ والشّفاعة، فقد أمرَكم الله بأمرٍ بدأ فيه بنَفسِه، وثنّى بملائِكتِه المسبّحة بقُدسِه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون فقال جلّ وعلا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد...
[1] سنن الترمذي: صفة القيامة (2417) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الدارمي في المقدمة (537)، وأبو يعلى (7434)، والطبراني في الأوسط (2191)، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وله شواهد انظرها في السلسلة الصحيحة للألباني (946).
(1/3398)
يوم يعض الظالم على يديه
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, المسلمون في العالم
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
17/8/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تتابع الأحداث على العالم الإسلامي. 2- من مشاهد يوم القيامة. 3- موقف المجرمين من القرآن الكريم. 4- استمرار عناصر الخير في الأمة. 5- عوامل الفوز والنجاح. 6- قرب شهر القرآن. 7- كشف مكر اليهود وصدهم عن المسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أحداث جسام ومتلاحقة تقع في عالمنا الإسلامي من قتلٍ وتدمير وإزهاق للأرواح ومصادرة للأراضي في فلسطين والعراق؛ حيث تقوم القوات الأمريكية الغازية بحربٍ ضدّ أهلنا في العراق، ويحتار المرء عن ماذا يخطب: عن المجازر في العراق، أم المجازر في فلسطين، والتي كانت آخرها ما يحدث حاليا في غزة إذ بلغ عدد الشهداء حتى صباح اليوم 32 شهيدا، وأكثر من 150 جريحا، أو نتحدث عن جدار الفصل العنصري ومنع المصلّين من الوصول إلى ساحات المسجد الأقصى المبارك، أو نتحدث عما تدّعيه الدوائر الإسرائيلية الحاكمة أن خطرا يهدّد انهيار المصلّى المرواني؟!!
يقول الله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان:27-31].
أيها المسلمون، تذكر بعض الروايات أن سبب نزول هذه الآيات هو أن عقبة بن أبي معيط كان يكثر من مجالسة النبي ، فدعاه إلى ضيافته فأبى النبي أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين، ففعل. وعلم بذلك أبي بن خلف وكان صديقَه، فعاقبه وقال له: صبأت؟ فقال: لا والله ولكن أبى أن يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحيت منه، فشهدت له، فقال: لا أرضى منك إلا أن تأتيه فتطأ قفاه وتبزق في وجهه، فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك، فقال له النبي : ((لا ألقاك خارجَ مكة إلا علوت رأسك بالسيف)) ، فأسر يوم بدر فأمر عليًّا قتله.
إن هذه الآيات الكريمة تعرض مشهدًا من مشاهد يوم القيامة الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، اليوم الذي يندم فيه الظالمون الضالون على أفعالهم المشينة التي اقترفوها وأقوالهم البذيئة التي تفوّهوا بها في حقّ الإسلام وأهله وفي حق الرسول الأعظم الرحمة المهداة صلوات الله عليه وسلامه.
إنه مشهد رهيب عجيب، مشهد الظالم وهو يعضّ على يديه من الندم والأسف والأسى، حيث لا تكفيه يد واحدة يعضّ عليها، إنما هو يداول بين هذه اليد وتلك، أو يجمع بينهما لشدّة ما يعانيه من الندم اللاذع المتمثّل في عضّه على اليدين، وهذا فعل يرمز ويشار به إلى الحالة النفسية التي يعيشها الظالم.
يقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، فسلكت طريقه واتبعت سنته ولم أفارقه، يا ليتني كنت على دينه وعقيدته، يا ليتني كنت معه فأفوز فوزا عظيما، يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا.
وفي هذا المقام لم يذكر اسم الضالّ ليشمل كلّ صاحب سوء يصدّ عن سبيل الرسول وعن دعوةِ الإسلام ومنهج القرآن. لقد كان الظالم شيطانا يضلّ، أو كان عونا للشيطان يقوده إلى الهاوية وإلى مواقف الخذلان والخسران.
وهكذا ـ أيها المسلمون ـ نجد القرآن يهزّ قلوب الظالمين والمجرمين بهذه المشاهد المزلزِلة التي تصوّر لهم مصيرَهم البائس، وتريهم إياه واقعا مشهودا، وهم ما زالوا في هذه الأرض يكذّبون بلقاء الله، ويتطاولون على ذاته العلية. إنه الهول المرعِب ينتظرهم هناك والندم الفاجِع بعد فوات الأوان.
ثم تتحدّث هذه الآيات عن موقف المجرمين مع الرسول حيث هجروا القرآن الذي نزّله تعالى عليه لينذرهم ويبصّرهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور، هجروه فلم يفتحوا له أسماعهم، وهجروه فلم يتدبروه ليدركوا الحق من خلاله والهداية من نوره، وهجروه فلم يجعلوه دستورا لحياتهم، وقد جاء ليكون منهاج حياة يقود البشرية إلى أقوم طريق وأهدى سبيل، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإسراء:9، 10].
ثم تمضي الآيات لتبين أن لكل نبيّ أعداء يهجرون الدّين الحقّ الذي جاءهم به، ويصدّون عن سبيل الله. إن الله تعالى يهدي رسله وأولياءه إلى طريق النصر على أعدائهم المجرمين، قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51، 52].
في زحمة هذه الحياة وتهافت الكثير من الناس عليها، وفي ظل مظاهر اللهو والفسق والفجور وانتشار الفساد وظهوره في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، وفي ظل التنكّر لشرع الله وأحكامه واتّباع الهوى وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في ظلّ كلّ ذلك لن تفقد الأمة المسلمة عناصر الخير من أبنائها الذين اختاروا طريق السلامة باتباعها طريق الهداية القرآنية وتزودهم بالتقوى وإقبالهم على الله تعالى بعزم وصبر، يبتغون الزلفى والقربى إليه، في مختلف ما يبذلونه من الأعمال الصالحة، يرجون بذلك الربح الوفير والتجارة التي لن تبور، فهم ممن وصفهم الله تعالى في معرض المدح، وقوى عزائمهم للعمل واتباع الحقّ، فقال جل جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29، 30].
أيها المؤمنون، إنها ثلاثة عوامل وأسس اعتمدها الصالحون الخيّرون في دور الامتحان، وعلقوا عليها الآمال في ربح التجارة:
العامل الأول: الإقبال على تلاوة كتاب الله في تدبّر آياته والاتعاظ بمواعظه والوقوف عند عِبرِه والعمل بتوجيهاته والرهبة عند وعيده والاطمئنان عند وعده.
نعم أيها المؤمنون، تلك هي التلاوة النافعة التي تحدِث في نفسية المسلم تحوّلا محمودا، يجد أثره بردًا في قلبه وسلاما في حياته.
العامل الثاني: إقام الصلوات المكتوبة بحدودها وقيودها والخشوع في أدائها وعدم التسويف والتشاغل عنها بمنصب أو مال أو تجارة ورياسة أو بأي شيء آخر من مشاغل الحياة الدنيا وزخارفها.
العامل الثالث: مواساة البؤساء والفقراء بالأموال، ومعاونتهم برزق الله وماله، لا يبخلون به أو يكتنزونه، وكانت المواساة من هؤلاء الصالحين تختلف باختلاف المناسبات والظروف، سرا وعلانية، سرّا خشية الرياء والسمعة والشهرة، عَلَنا مع الأمن من ذلك، ليشيعوا الخير في مجتمعهم ليكونوا قدوة لغيرهم، فبلغوا بذلك أرفع مجالات الخير، وشملهم العليّ القدير بالعفو والغفران وكريم الجزاء.
قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر:30]: (يوفيهم جزاء أعمالهم، ويزيدهم من الثواب مما لم تر عين ولم تسمع أذن، ويغفر العظيم من ذنوبهم، ويشكر اليسير من أعمالهم).
حقا أيها المؤمنون، إنها سعادة لا تعدلها سعادة، وفوز ما بعده فوز، يحرزه كلّ من سار على نهجهم وطريقتهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
أيها المؤمنون، أما من كان على النقيض من سيرة هؤلاء الصالحين فهو ممن نسِي الله، فأنساه الله العمل الصالح، وهو ممن ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، قال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا [الكهف:103-106].
_________
الخطبة الثانية
_________
إن نفحات الله تعالى تبدو ضافية شاملة منذ أن تشرق على ربوع الإسلام شمس رمضان المبارك، فأوّله رحمه، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، ومن أجل ذلك تغمر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها الفرحة والبهجة استبشارا بشهر الصيام، الشهر الذي اختصّه الله بنزول القرآن، فيه الهدى والنور والفرقان.
ومن أجل ذلك يختصّ المسلمون بشهر القرآن، ويكون لهم فيه أعظم تنافس في الباقيات الصالحات كمظهرٍ للشكر على نزول القرآن، ولكي يربحوا المغنم بعد أن قامت في رمضان سوق التجارة الرابحة، فأضعف الناس همّة وأعظمهم خسارة من لم ينتهِز الفرصة للربح في التجارة.
أيها المؤمنون، تطل علينا إشراقة شهر رمضان وأفئدة المسلمين تتطلع إلى المسجد الأقصى المبارك بشوق ورغبةٍ في الوصول إليه والصلاة فيه، وبخاصة أبناء فلسطين لأنهم أهل الرباط، والمسجد الأقصى في قلوبهم وأرواحهم، إنه قريب منهم وعلى مرأى العيون والأبصار، ولكنه في نفس الوقت بعيد عنهم كلّ البعد بسبب الاحتلال وظلمه وغطرسته وأعماله المتمّثلة بإقامة الحواجز والجدُر التي تحول دون وصول أحد إليه.
إن هذه الأعمال التي يقوم بها المحتلون تمثل اعتداء صارخا على حق الإنسان الفلسطيني، وتتنافى مع الشرائع السماوية والقوانين الدولية.
لقد كان الفلسطينيون يأملون بالوصول إلى المسجد الأقصى مع حلول شهر رمضان المبارك بالرغم من العقبات التي كانت توضع في طريقهم في المواسم السابقة، إلا أنهم يفاجَؤون هذه الأيام بتصريحات المسؤولين الإسرائيليين العجيبة في صياغتها الغريبة في توقيتها ومفادها؛ إن تقديرات أمنية إسرائيلية أجريت مؤخّرا تشير وبشكل واضح إلى وجود تخوّف من احتمال انهيار المصلّى المرواني على عشراتِ آلاف المصلّين المسلمين، خصوصا خلالَ شهر رمضان، وأنه بناء على هذه التقديرات وجّه رئيس الحكومة الإسرائيلية تعليمات للأوساط الأمنية باتخاذ كافة السبل لمنع وقوع ما وصفه بالكارثة الكبيرة.
وتعقيبا على هذه التصريحات نقول:
أولا: أعلنت دائرة الأوقاف الإسلامية ومجلس الأوقاف والهيئة الإسلامية العليا في القدس ووزارة الأوقاف في عمان أن المصلى المرواني في المسجد الأقصى المبارك وجميع جدرانه وسقفه وكافة المباني داخله آمنه وسليمة بموجب تقارير صادرة عن لجان دولية تؤكد ذلك، وأن ما تشيعه إسرائيل بأنه آيل للسقوط لا أساس له من الصحة.
ثانيا: أن الهدف من إشاعة هذه التصريحات وهذه الأخبار هو التأكيد على منع المصلين من الصلاة في المسجد الأقصى مع اقتراب حلول شهر رمضان المبارك تحت ذريعة الخوف على حياتهم.
ثالثا: أن هذه التصريحات تمهّد الطريق لتنفيذ مخطّطاتهم الهادفة إلى جعل مكان لهم في المسجد الأقصى، وهم لا يخفون ذلك.
رابعا: أن مثل هذه التصريحات والإشاعات لم ولن تمنع المصلين من الوصول إلى المسجد الأقصى والصلاة فيه، بل ستزيدهم تمسّكا به وحبّا له.
خامسا: أن المسجد الأقصى هو قبلة المسلمين الأولى وثاني المسجدين وثالث المساجد التي تشدّ إليها الرحال، وهو رمز عقيدة المسلمين في كلّ زمان ومكان، وهذه حقائق ثابتة بالقرآن والسنّة، لا مجال لنفيها أو إنكارها.
إذا كان المحتلّون حريصون على حياة وسلامة هذا الشعب فلينهوا احتلالهم للأراضي الفلسطينية، وليكفّوا عن ممارساتهم اليومية المتمثلة بعزل المدن والقرى الفلسطينية وفرض حصار شامل عليها وهدم بيوتهم وملاحقة أبنائهم لقتلهم أو اعتقالهم ومصادرة أراضيهم لإنشاء جدار الفصل العنصري، وما يحدث في غزة والضفة الغربية أكبر شاهد على ذلك.
وأخيرا نناشد العرب والمسلمين ليتحمّلوا المسؤولية تجاه حمايةِ الأقصى، ونتطلّع إلى اليوم الذي يتمّ فيه تحريره وتطهيره من الاحتلال، وما ذلك على الله بعزيز.
(1/3399)
الجنة: نعيم ومبشرون
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
مازن التويجري
الرياض
28/3/1421
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
11- قصة المرأة السوداء التي دخلت الجنة بصبرها. 2- الجنة ثمن للجهاد في سبيل الله. 3- صهيب الرومي والبيع الرابح. 4- عظم نعيم آخر أهل الجنة دخولاً. 5- لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. 6- أبو الدحداح يبيع بستانه بنخلة في الجنة. 7- أم عمارة وأبناءها في رفقة النبي في الجنة. 8- صور مختلفة من نعيم أهل الجنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
قد أثقل المرض كاهلها، وهدّ الوَهَن عزمها، عاثت بجسدها النحيل أيامُ الزمن، وآلمت قلبها الصغير ليالي الحياة، لم تزل رفيقة الأسقام خليلة الآلام، ها هي ذا تقبل من بعيد، تدفع جسمها دفعًا، وقدماها تخطان في الأرض حكاية المعاناة وقصّة الأوجاع، جاءت تلقي الهموم وتحكي ضعف الحال وقلة الحيلة، ألقت بهمومها إلى البَر الرحيم، وشكت حالها إلى العطوف الكريم: يا رسول الله، إني أُصرع، وإني أتكشّف، فادع الله لي، قال: ((إن شئتِ صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك)). إنها تعلم أنها تناجي خير العالمين، تناجي حبيب الله وخليل الرحمن الذي إذا رفع يديه إلى السماء ردّدت أرجاءها ترحيبًا وتأمينًا، لقد كان بينها وبين قضاء حاجتها بإذن ربها أن تقول: فادع الله لي أن يشفيني، ولكنه كان خيارًا دون خيارٍ أعظم، ومطلوبا أسمى تلاشت أمامه كل الهموم وتناست بذكره كل الآلام.. الجنة.
إي وربي، وكأن ذلك الصدر الصغير يتردّد فيه وهو يسمع ذلك العرض: الجنة.. الجنة، لا بأس أصبِر، ومرحبًا بالمرض، وما أروعها لسعات الوجع، عندها أعلنتها دون تردّد: أصبِر أصبِر.
ومن تلك اللحظات بات للمرض طعم آخر تستلذّه وتأنس به، ولقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول لعطاء كما عند البخاري ومسلم: ألا أريك امرأةً من أهل الجنة؟! فيقول: بلى، قال: هذه المرأة السوداء.
أيها المؤمنون، هل عرفتموها؟ لا.. لا.. لم تعرفوها ولن تعرفوها، إن التاريخ لم يسجل لها اسمًا، والسير لم تذكر لها ترجمة، لقد كانت من عامة الناس، قد لا يعرفها أهل المدينة ومن حولها، بيد أنها كانت تمشي بين البشر وتقرع بقدميها الثرى وهي من أهل الجنة، فنعم المآل، وما أعظم المنقلب والمنتهى.
إنها الجنة دار المتقين، ورغبة المخبتين، ومقصد الصالحين، روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي لله عنه قال: قال رسول الله : ((قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، واقرؤوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون [السجدة:17] )) ، وفي المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دُرّي في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوّطون ولا يتمخّطون، آنيتهم فيها الذهب، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيًا)).
دعا النبي للخروج يومَ بدر، فأقبل يسعى فرحًا يستأذن أمّه العجوز في الخروج مع رسول الله ، ومضى حارثة بن سراقة مع موكب النور نحو بدر، وبينما القوم فيها قد أرخى الليل سدوله وعاث الظلام في ربوع الكون فخيم هدوء مطبق توجه الفتى الصغير حارثة بن سراقة إلى قليب بدر يريد الشرب منها، فأبصره رجل من المسلمين كان يحرس على البئر، فظنه من عسكر المشركين فرماه بسهم أرداه قتيلاً.
وانقضت الغزاة، ونصر الله حزبه، وأظهر جنده، وأعز أولياءه، فقفل المؤمنون رجوعًا إلى المدينة، فاستقبلهم الناس ترحيبًا وتمجيدًا، وكان من بين أولئك عجوز نقية لربها تقية، الرُّبَيّع بنت النضر أم حارثة بن سراقة، استوقفت أحد الصحابة تسأله: أين ابني حارثة؟ أماتَ شهيدًا؟! قال: إنه لم يمت شهيدًا، ولكنه قُتل خطأً، فأقبلت تسعى إلى النبي : يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يك في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى فترى ما أصنع، قال: ((ما قلت؟)) قالت: هو ما سمعت، قال: ((ويحك يا أم حارثة، ويحك يا أم حارثة، أهبلت؟! أوَجنة واحدة؟! إنها جنان، وإن ولدك قد أصاب الفردوس الأعلى)).
يا حارثة، زهرة شبابك أتذبل؟ وأيام صباك أتنقضي؟ ونضارة وجهك أتنمحي؟ وحلاوة الدنيا وطيب العيش ولذة الحياة أتتركها؟ نعم فلتَزُل ولتنمحِ ولتنقضِ إذا كان وراء ذلك جنة عرضها السموات والأرض.
في المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم)) ، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: ((بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين))، ولهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها في السماء ستون ميلا، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضًا)).
وبعد أن هاجر النبي إلى المدينة لم تعد مكة موطنًا لأهل الحق والإيمان، فراحوا يتسابقون فرارًا بدينهم إلى طيبة الطيبة حيث الأمان والإيمان، ولكن قريشًا كانت تعيق أولئك الفارين بدينهم بكل حيلة ما استطاعت، وكان منهم الصحابي الجليل صهيب الرومي صاحب التجارة والمال الوافر، أقامت عليه قريش رقباء يقومون عليه ليل نهار حتى لا يفلت من أيديهم بنفسه وماله.
وفي ليلة باردة تسلّل صهيب من بينهم، ويمّم وجهه شطر المدينة، لم يمض غير قليل حتى فطن له رقباؤه، فهبوا من نومهم مذعورين، وامتطوا خيولهم السوابق، وأطلقوا أعنتها خلفه حتى أدركوه، فلما أحسّ بهم وقف على مكان عالٍ وأخرج سهامه من كنانته ووتر قوسه وقال: يا معشر قريش، لقد علمتم والله إني من أرمى الناس وأحكمهم إصابة، ووالله لا تصلون إلي حتى أقتل بكلّ سهم معي رجلاً منكم، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي شيء منه، فقال قائل منهم: والله، لا ندعك تفوز منا بنفسك وبمالك؛ لقد أتيتَ مكة صعلوكًا فقيرًا فاغتنيت وبلغت ما بلغت، فقال صهيب: أرأيتم إن تركت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. فدلهم على موضع ماله في بيته بمكة فخلّوا سبيله، ثم عاود يحث المسير إلى رسول الله والمؤمنين، فلما بلغ قباء رآه رسول الله مقبلاً فهَشّ له وبَشّ وقال: ((ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى)).
إن هذه الكلمة الصادقة وذلك اللقاء الحنون وتلك الطَلّة البشوشة والمحيّا الطلق أنست صهيبًا كل أمواله، كلّ تجارته، أنسَته دُورَه وضَيعته، غاصت في أعماقه فتلاشى معها طول السفر وتعب الطريق ونصب الوحدة ولوعة الوحدة.
أيّ تجارة وأي مال إذا كان ثمنها قولة حقّ وصدق: ربح البيع أبا يحيى؟! فلتهجَر البلاد والدور إذا كان الثمن "ربح البيع أبا يحيى"، ولتفنَ الدنيا بشهواتها وملذاتها، بأموالها وقصورها وزهرتها، إذا كان المقابل ربح البيع أبا يحيى، ولكنها معادلة صعبة لا يحسن فهمَها كفار قريش الأمس وكفار الأرض اليوم.
في البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بَيْرُحَاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] قام أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ، وإن أحب أموالي إلي بَيْرُحَاء، وإنها صدقة لله أرجو بِرها وذخرها عند الله، فضعها ـ يا رسول الله ـ حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله : ((بَخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)) ، فقال أبو طلحة: أفعلُ يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
أيها الإخوة، لسنا نروي أساطير أو نحكي قصصًا من نسج الخيال، ولكنه واقع قوم كانت الدنيا بأيديهم ولم تكن في قلوبهم، باعوها بجنة الرضوان.
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((إني لأعلم آخر أهل النار خروجًا منها وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة، رجل يخرج من النار حبوًا فيقول الله تبارك وتعالى له: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب، وجدتها ملأى، فيقول الله تبارك وتعالى له: اذهب فادخل الجنة، قال: فيأتيها فيخيّل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب، وجدتها ملأى، فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو إن لك عشرة أمثال الدنيا، قال: فيقول: أتسخَر بي؟! أو أتضحك بي وأنت الملك؟!)) قال: لقد رأيت رسول الله ضحك حتى بدت نواجذه، قال: ((فكان يقال: ذاك أدنى أهل الجنة منزلة)) متفق عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
كان غلام من الأنصار يملك بستانًا يجاور بستان رجل من الصحابة، فأراد الغلام أن يبني حائطًا يفصل بستانه عن بستان صاحبه، فاعترضت له نخلة هي في نصيب الآخر، فأتاه فقال: أعطني النخلة أو بعني إياها، فأبى، فأقبل الغلام على رسول الله فشكا له الحال، فأمره أن يأتي بصاحبه، فأقبلا والنبي عليه الصلاة والسلام بين أصحابه، فقال له: ((أعطه النخلة)) ، قال: لا، فكرّر عليه ثلاثًا وهو يأبى، عندها قال النبي : ((أعطه النخلة ولك بها نخلة في الجنة)) ، قال: لا، والصحابة يرقبون الموقف ويكبِرون العرض ويعظمون الثمن ويستنكرون الإحجام من الرجل. وبينا الدهشة تعلو الوجوه وصمت الاستغراب يملأ المكان إذ شق ذلكم الصمت صوت أبي الدحداح رضى الله عنه وهو يقول: يا رسول الله، إن أنا اشتريتُ النخلة ووهبتها الغلام ألي النخلة في الجنة؟ قال: ((نعم)) ، فقال أبو الدحداح: يا هذا، قد ابتعتُ النخلة ببستاني الذي فيه ستمائة نخلة، فقبل، فذهب أبو الدحداح مسرعًا إلى بستانه ينادي زوجته: يا أم الدحداح، اخرجي وأبناءك فقد بعت البستان. قالت: لمن؟ قال: لله بنخلة في الجنة، قالت: ربح بيعك وبارك الله لك فيما اشتريت. ثم أقبلت على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر، فقال النبي كما في صحيح مسلم: ((كم من عذق معلّق أو مدلىّ في الجنة لأبي الدحداح)). ستمائة نخلة وماء نقيّ وظلّ وافر وأشجار وثمار، أطيار وأزهار بنخلة واحدة. نعم ولم لا؟! إنها نخلة في الجنة.
في المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد المضمر مائة سنة لا يقطعها))، وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي قال: ((ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا، فذلك قوله عز وجل: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43] )).
في يوم أحد انكشف الناس عن رسول الله وما بقي حوله إلا نفر قليل فيهم أم عمارة نسيبة بنت كعب قالت: أقبل رجل على فرس فضربني، فتسرت له فلم يصنع شيئًا، وولّى فضربتُ عرقوب فرسه فوقع على ظهره، فجعل النبي يصيح: ((يا ابن عمارة، أمك أمك)) ، قالت: فعاونني عليه حتى قتلته، قال ولدها عبد الله بن زيد: جُرحت يومئذ جرحًا وجعل الدم لا يرقأ، فقال النبي : ((اعصب جرحك)) ، فتقبل أمي ومعها عصائب في حقوها فربطت جرحي والنبي واقف فقال: ((انهض بنيّ، وضارب القوم)) ، وجعل يقول: ((من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة)) ، ويأتي ضارب ابنها فيقول عليه الصلاة والسلام: ((هذا ضارب ابنك)) ، قالت: فأعترض له فأضرب ساقه فبرك، فتبسم عليه السلام حتى رأيت نواجذه وقال: ((استقدتِ يا أم عمارة)) ، وجرحت اثني عشر جرحًا، فنظر النبي عليه السلام إليه ويقول لولدها: ((أمك أمك، اعصب جرحها، اللهم اجعلهم رفقة لي في الجنة)) ، قالت أم عمارة بعدها: ما أبالي ما أصابني من الدنيا. انظر: سير أعلام النبلاء (2/279).
وعن أبي هريرة عن رسول الله قال: ((إن أدنى مقعد أحدكم من الجنة أن يقول له: تمنّ، فيتمنى ويتمنى فيقول له: هل تمنيت؟ فيقول: نعم؟ فيقول له: فإن لك ما تمنيت ومثله معه)) رواه مسلم، وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : ((إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟! فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب، وأيّ شيء أفضل من ذلك؟! فيقول: أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا)) متفق عليه.
(1/3400)
إن رحمة الله قريب من المحسنين
الإيمان
الله عز وجل
مازن التويجري
الرياض
20/11/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله أرحم بعباده من الأم بولدها. 2- لله مائة رحمة. 3- عظيم سعة رحمة الله تعالى. 4- طرق استجلاب رحمة الله: إخلاص التوحيد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عمارة الأرض بطاعة الله، رحمة الضعفاء والمحاويج. 5- الفهم الصحيح لنصوص الترغيب والترهيب في الوحيين.
_________
الخطبة الأولى
_________
بينما النبي في أصحابه قد جاءه سبيٌ من سبي المشركين إذ بامرأة من السبي تطوف عَجْلَى بالقوم، تبدو على مُحَيّاها علامات الذُّعر والخوف، وترتسم في خطاها معاني الشوق واللهفة، تلفظ أنفاسها سِراعًا، تجسّد لوحة الحنان والرأفة، كلما رأت صبيًا ضمته إلى صدرها عسى أن يكون وليدها، تحدّق النظر فيه، فإذا به ليس هو، تفارقه، لتعاود البحث بين أفواج البشر، وفجأة ألقت بيديها على صبي، نظرت في وجهه فإذا هو قرة العين وريحانة القلب، ضمته إلى صدرها، ليغرق في أعماق الحنان والحب، ألقمته ثديها، وراحت تغوص في بحار عطف الأمومة ورحمتها، كل هذا والنبي وأصحابه يرقبون هذا المشهد العجيب لحظة بلحظة، عندها قال النبي لأصحابه: ((أترون هذه طارحة ولدها في النار؟!)) قالوا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال: ((لله أرحم بعباده من هذه بولدها)) متفق عليه.
إن هذه الصورة والمثال الحيّ الذي عاشه الصحابة وقلوبهم ملئت بالعجب من رحمة هذه المرأة بولدها حتى تناست معه الرِقّ الذي رمى بأغلاله عليها، وبعد كل هذا الإعجاب والإكبار قال النبي قولته؛ ليحقق في نفوس الصحابة أنه مهما بلغت رحمة الرحماء في الدنيا فهي لا تعدل شيئًا أمام رحمة أرحم الراحمين.
هل عجبتم من دفاع الطير عن فراخه في وكرها وهو يقاتل حيوانًا أو يهاجم إنسانًا؟! أم هل راعكم منظر الوحوش التي جُبِلت على القتل والإيذاء وهي تلاعب صغارها وتحنو عليها؟! أم هل رأيتم حيوانًا ضعيفًا أو حشرة صغيرة وهي تقدّم نفسها للموت دون أبنائها وصغارها؟!
إنها الرحمة التي جَبَل الله الخلقَ عليها، ولكنها لا تساوي قيد أنملة في رحمة الله، قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]. لقد جعل الله هذه الدنيا دارَ عمل وابتلاء، وأنزل فيها من الرحمات والبركات على قلوب من شاء واصطفى من عباده، وكانت هذه الرحمات مؤشرات لبلوغ رحمته وعفوه يوم يقوم الأشهاد.
روى مسلم عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة)).
فكل ما ترى من رحمة المخلوقات بعضها على بعض على امتداد الزمن منذ خلق الله هذه المعمورة إلى أن يرث الأرض ومن عليها ما هي إلا رحمة واحدة من مائة رحمة، ادّخرها الله لأوليائه وحزبه يوم القيامة، فسبحان من وسِعت رحمته كل شيء.
جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ قال: ((لما خلق الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي)). ولكن مع سعة هذه الرحمة وعمومها بقي الموفّق من عباد الله من يتحسّس الخصال التي تُستمطَر بها رحماته وبركاته، ثم علم الموفقون كذلك أن الغاية عندهم وأعلى مقاصدهم الفوز والنجاة يوم يقوم الناس لرب العالمين، فأدرَكوا أن أعظم نسائم الرحمة التي تهبّ على الخلق في هذه الحياة الدنيا أن يوفّقهم الله لسلوك طريق الخير والصلاح ونهج سبيل أهل الإيمان وحزب الرحمن.
معاشر الإخوة، إن صفاء التوحيد وعمق الإخلاص من أعظم ما تُستجلب به رحمة الله في الدنيا والآخرة، فلا يُصرف شيء من العبادة إلا لله، ولا يتعلّق القلب بسواه، ولذلك ترى كثيرًا من الناس تُمحق بركة رزقه أو ولده يوم أن صرف شيئًا من التوكل على غير الله، فتعلق بأسباب الدنيا المجردة، أو والى أعداء الله وعادى أولياءه، كيف يرجو البركة والرحمة من صرف الرغبة والرهبة لمخلوق ضعيف يرضيه بسخط الله ويحبه بغضب الله، يداهن ويجامل على حساب دينه وتوحيده؟! إن أعظم رحمةٍ يرحم الله بها عبده يومَ يوفّقه لإخلاص العبادة وتوحيد القصد.
أيها المؤمنون، إن قيام المجتمع بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من دلائل توفيقه وخيريته وسموّه ورفعته، إنه ضمانٌ من كل هَلَكة وأمان من العقوبة ومستجلبٌ لسيل الرحمات، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]، وبقدر تخلي الأمة عن هذا الركن الركين يكون هلاكها إن حسيًا أو معنويًا.
أيها الأكارم، عمارة الأرض بطاعة الله والتقرب إليه بإقامة فرائضه وإحياء النوافل والسنن من أسباب تنزل البركات وغشيان الرحمات، وإنّ عبدًا متهاونًا في الفرائض متكاسلا عن النوافل متجرّئا على كلّ معصية لهو أبعد الناس عن رحمة الله في الدنيا والآخرة.
إنّ تعلق كثير من الناس بأحاديث جاءت في رحمة العصاة بأعمال يسيرة قاموا بها واتّكالهم عليها لهو عين الجهل بالله وسننه وشرعه، إذ يؤخذ منها عظم فضله وسعة رحمته، وليس المقصود أن يحارب العبد ربه بالمعاصي والأوزار ثم يتّكل على عمومات الآيات والأحاديث، بل يجب أن تؤخذ النصوص بجمْعِها، فالله سبحانه كما أنه غفر لبغي بسقيها كلبًا فقد أدخل النار امرأةً في هرة، وكما أنه يغفِر ويتجاوز فهو يغار إذا انتهكت محارمه، نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50]، ومن كانت حاله إقامةً على المعاصي وتضييعا لأمر الله ثم يرجو العفو والصفح من غير عمل فقد أمن مكر الله، فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].
فنصوص الرحمة والمغفرة إنما تدفع أولي الألباب للعمل وتغيير الحال وتصحيح المسار، لا أن تكون سبيلاً للقعود عن العمل، ومُتّكأً لسوء الحال والعمل، إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]، فكلما أحسن العبد كان أقرب من رحمة الله، وإذا أساء فهو أبعد.
وليعلم أن رحمة الله بالكافرين والعصاة إنما هي ابتلاء لهم، وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون:75]، وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [فصلت:50].
هذا هو الإنسان الجحود البعيد عن ربّه، ينعم الله عليه ويغدق، فينسب النعمة إلى نفسه، فيسيء العمل، ويطول به الأمل حتى ينسى الله والدار الآخرة، وإن تذكر فسعة الرحمة وعظيم المن، وإذا نصح ناصحٌ قال أحدهم: ربك غفور رحيم، سبحان الله! هل ترجو خيرًا من رئيسك وأنت تسيء معاملته وتقسو في عشرته؟! ولله المثل الأعلى، أنرجو القربَ والغفران ونحن نقدّم سوء المعاملة؟! فسبحانك ربي! كيف جمع أولئك بين سوء العمل وحسن الظن؟!
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينه لا تجري على اليبسِ
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم [البقرة:218].
معاشر الفضلاء، وإنّ مما تُستمطَر به الرحمات في الدنيا والآخرة رحمة الضعفاء وذوي الحاجة، إغاثة الملهوف وكفالة اليتيم والقيام على الأرملة وسدّ حاجة المسكين والعطف على الفقراء. روى أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء)) ، وفي الصحيحين من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يرحمُ الله من لا يرحم الناس)).
فالعطفَ العطف، والرحمةَ الرحمة، مسحًا على رأس اليتيم، وأخْذًا على يد الفقير، وقضاءً لحاجة المسكين.
إن رحمة الله في الدنيا عامة للمؤمنين وغيرهم، ولكنها في الآخرة خاصة للمؤمن، وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإنسان:30، 31].
ومهما بلغ العبد من القرب والطاعة فلن يدخل الجنة إلا برحمة أرحم الراحمين، في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((سدّدوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يُدخِل أحدًا الجنة عملُهُ)) ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/3401)
تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
مازن التويجري
الرياض
25/10/1424
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل التمسك بالكتاب والسنة. 2- التحذير من الإعراض عن الكتاب والسنة وخطورة ذلك. 3- الواجب تجاه الكتاب والسنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
سبيل النجاة وطوق السلامة وطريقُ الفلاح ومهيَع النجاح هو النور كتاب الله تعالى؛ إذ لا نور ولا ضياء من غيره، بل ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، ظلمات جهل وشرك وضلال، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]. الهدى والرشاد في سبيله، والتوفيق والسداد في طريقه. هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، من أخذ به أُجِر، من عمل به هُدي إلى صراط مستقيم، اتباعه دليل حب الله، والاسترشاد بهديه علامة التوفيق، والانتفاع بما يحويه أمارة القرب والزلفى. الدين ما فيه، والشرع ما أودعه الله فيه، لا نجاة ولا زكاة ولا فلاح للعبد إلا بالتمسك به، ولا عز ولا نصر ولا سناء ولا رفعة للأمة إلا إذا نهلت من معينه وغرفت من صافي مائه، محفوظ بحفظ الله له، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]. لا نقص يعتريه، ولا زلل يتطرق إليه.
ما الأمة قبله إلا كقطعان غنم لا راعي لها، ينهش الذئب منها ويأكل، لا مأوى لها ولا مرقد، أو كقافلة قائدها أعمى وروادها صٌم بكم، متى سيصلون؟ وأين يتجهون؟ ما الأمة قبله إلا ركام من العادات والتقاليد عاثت فيها لغة القويّ يأكل الضعيف، والغني يقضي على الفقير، حتى جاء ليرفعها من الجهل إلى العلم، ومن الظلام إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى.
إنه حبل الله، نعمته، فضله، منته، إنه وحي السماء في كتاب الله وسنة رسوله ومصطفاه : قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:15، 16].
في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)) ، وفي البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاءت ملائكة إلى النبي وهو نائم فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلا، فاضربوا له مثلا، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارًا وجعل فيها مأدبة، وبعث داعيًا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أولوها له يفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: فالدار الجنة، والداعي محمد ، فمن أطاع محمدًا فقد أطاع الله، ومن عصى محمدًا فقد عصى الله، ومحمد فرّق بين الناس.
إي والله، لا صلاح لهذه الأمة ولا نجاة إلا بالأخذ بالهدى والارتباط بحبل السماء والنهل من نور الوحيين وتحكيمهما في شؤون الحياة، صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، في البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي قال: ((إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومًا فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا فانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق)).
نعم، لم يزل كتاب الله وسنة رسوله فينا نذيرًا بين يدي الناس، من اتبع سبيلهما كانت له النجاة في الدنيا والآخرة، ومن حرم السبيل والنهج القويم وأعرض عن الاتباع وقدّم قول فلان وفلان عليهما كانت عليه الوبال والخسارة في الدنيا والآخرة، فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُون [الزخرف:43، 44].
عجبًا لنا ولبني قومنا! كيف استبدلوا الذي أدنى بالذي هو خير؟! كيف عافوا النقاء والصفاء في وحي السماء، وراحوا يلهثون وراء غرب أو شرق، يثنون ويعجبون، ثم يأمرون ويدعون إلى هجر الشرع والدين والابتعاد عن النور والهدى؟!
روى أحمد في مسنده وحسّنه الألباني عن جابر بن عبد اللّه أنّ عمر بن الخطّاب أتى النّبيّ بكتابٍ أصابه من بعض أهل الكتب فقرأه النّبيّ فغضب فقال: ((أمتهوّكون فيها يا ابن الخطّاب؟! والّذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقيّةً، لا تسألوهم عن شيءٍ فيخبروكم بحقٍّ فتكذّبوا به أو بباطلٍ فتصدّقوا به. والّذي نفسي بيده، لو أنّ موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتّبعني)).
هذا في أمر كتاب أصابه عمر من أهل الكتاب، قد لا يقدمه على شريعة محمد ، وقد يكون لم يتطرق إليه التحريف بعد، ومع هذا يغلق النبي كل باب يمكن أن يفضي إلى التهلكة والبعد عن منهج الله الذي ارتضاه لعباده، ليشتدّ توبيخه للفاروق؛ أمتحيرون أم أنتم غير مبالين؟! ثم يكون البيان العظيم: ((والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيًّا لما وسعه إلا أن يتبعني))، وصدق الله سبحانه: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ [المائدة:48]، والمهيمن هو الرقيب والشاهد عن ما سبقه.
ها هو عليه الصلاة والسلام يقطع الشك باليقين، ويبين الحق فلا مرية فيه ولا التباس أو اختلاط؛ ليعلم أن الحق هو ما جاء به محمد عن ربه الذي تكفل بحفظه، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
أخرج الإمام أحمد في مسنده والحاكم عن عبد الله بن مسعود قال: خطّ لنا رسول الله خطًا ثم قال: ((هذا سبيل الله))، ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله ثم قال: ((هذه سبل ـ قال يزيد: متفرقة ـ على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه))، ثم قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
والمقصود ـ أيها الأفاضل ـ أن خير الأمة الذي به عزّها وشرفها لا يكون إلا بالتمسك بالكتاب والسنة وأخذ الإسلام بقوة، وقد كان الفصل في هذا شرع الله في وحي السنة كما روى البخاري عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه قال: ((كلّ أمّتي يدخلون الجنّة إلا من أبى))، قالوا: يا رسول اللّه، ومن يأبى؟! قال: ((من أطاعني دخل الجنّة، ومن عصاني فقد أبى)).
إذا عُلم الداء وتبين الخلل فما الواجب على الأمة تجاه أمرِ لا صلاح لها إلا به، ولا نجاة ولا فلاح؟
أولاً: البيت والأسرة هما المحضن الأول للأجيال القادمة، ولزامًا أن تقوم الأسرة بدورها الريادي في تربية الأولاد على حب الكتاب والسنة وتعظيم الوحي، تربيتهم على حب الله ورسوله ، توثيق صلتهم بإسلامهم، تغرس قيمه ومبادئه في نفوسهم.
من البيت يتخرج الشاب والفتاه، لا يقدم قول أحد كائنًا من كان على كلام الوحي وشرعة الله، الأمة في وقتها الراهن بأمس الحاجة إلى بيوتات تنشئ الأفراد على أن الحق كلّ يدعيه وكل يتعلق به، ولكن لا حقّ إلا مع القرآن والسنة، فما تسمع آذانهم وما ترى أعينهم وما يقرؤون بألسنتهم لا بد وأن يعرضوه على ما جاء في الوحي، فإن وافقه فحيّ هلا، وإن كانت الأخرى فلا حيَّ ولا هلا ولا كرامة، يفهمون هذا، بعيدًا عن التعاطف مع فلان وفلان أو التخوف لهذا أو ذاك، ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا [الجاثية:18، 19]. يسعى الوالدان لغرس الإيمان في نفوس الأبناء والبنات منذ نعومة أظفارهم، في ترسيخ القيم، وتعميق المفاهيم، عبر مناشط متعددة، وبأساليب متنوعة.
ثانيًا: المدرسة هي المحضن الثاني لأبناء الأمة، فالدور المنوط بها عظيم، والأمل كبير في أن يكون هاجس تعبيد الخلق لخالقهم هو الذي يشغل فكر المعلمين والمعلمات على اختلاف تخصصاتهم، تربي الأجيال بين ردهات المدارس على أخذ الحق من معينه الصافي وينبوعه النقي. وتتكامل عملية التربية بين أهل الإسلام في مدارسنا حينما يشغل همّ تربية الأبناء على الكتاب والسنة هيكل التعليم كله من رئيسه إلى أصغر عضو فيه.
ما أجمل أن يسمع الطالب الآية والحديث من معلم الرياضيات أو اللغة الإنجليزية، وما أروع أن يسمع الحادثة من السيرة من معلم الفيزياء أو الكيمياء. لم لا يسعى أحدنا ـ معاشر المعلمين ـ أن يربط أبناءه الطلاب بخالقهم سبحانه وتعالى؟! فمعلم العلوم والجغرافيا يرسخ الإيمان ويعمق اليقين بالخالق تعالى وتقدس من خلال مخلوقاته وآياته، بل حتى معلم الرسم والرياضة يقف مع أبنائه وقفات مع نعم الله وبركاته على الإنسان مما أعطاه من قوة وحواس وأطراف، وأن من أولى أنواع شكرها أن يستخدمها العبد في طاعة الله.
المهم أن تغدو المدرسة خلية لا تهدأ في عمل دؤوب لتعميق جذور الإيمان في القلوب، ويكون هذا هو الهم والهدف، يتذاكره الجميع ويقدمونه على ما سواه، ومن ثم يسعى المجتمع بأسره وخاصة أرباب التعليم إلى ردّ قالة السوء التي تتّهم مناهج التوحيد والسنة بافتراءات لا أصل لها، بل مصدرها الهوى والشيطان.
ثالثًا: الإعلام عليه واجب عظيم ومسؤولية كبيرة نحو تبصير الناس وبيان الحق لهم وردهم إلى منهج القرآن والسنة، إن على أصحاب القلم وأرباب الإعلام أن يتقوا الله في هذه الأمانة ولا يخونوا الله فيها، ماذا يريد أولئك الذين يتندرون من الدين ويسخرون به؟! أين عقولهم؟! ماذا يريد أولئك الذين يملؤون الأعمدة والزوايا بأحبارٍ ما خافت الله ولا صدقت في النصح لدينه، وهي تسعى جهدها لتبث للناس زعمها بأن مناهجنا تفرخ الإرهاب وتربي على العنف، أين هذا أو ذاك من أفلام الكرتون المتحركة وألعاب الحاسب التي تربي صوتًا وصورة على العنف والتعدي؟! كيف يجرّأ أولئك أن يصِموا دينهم وعقيدتهم بأنها تربي على الإرهاب والعنف؟! أين عقول القوم؟! هل زاغت الأبصار أم غابت أفهام القوم؟! كيف ينالون من دينهم وشرعة ربهم؟! أين تلك البرامج التي يقدمها الإعلام بجميع وسائله لربط الناس بخالقهم ودعوتهم للتمسك بكتاب ربهم وسنة نبيهم ؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/3402)
من صفات المربي (1)
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
مازن التويجري
الرياض
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية التربية في حياة الأفراد والمجتمعات. 2- أهم صفات المربي: العلم بجوانبه المختلفة المتنوعة، القدرة على العطاء، القدرة على القيادة والمتابعة، القدرة على بناء العلاقات.
_________
الخطبة الأولى
_________
إنّ من يتعامل مع غير الإنسان إنما يتعامل مع آلة صمّاء لا روح فيها، وإن كانت الروح تدبّ في جسدها، فما هي إلا كائن حي يمكن السيطرة عليه وترويضه مهما كان حجمه أو قوته، فالجميع مسخّر لك أيها الإنسان، مهيأ لخدمتك، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الجاثية:13].
بيد أن التعامل مع هذا الإنسان ذاته يعدّ تعاملاً مع مخلوق غريب في عالم أغرب، إنه تعامل مع الروح بإقبالها وإدبارها، مع النفس بأحوالها ومشاعرها، مع الطبع البشري بعواطفه وتقلباته ومزاجيته، مع حبه وبغضه، إقدامه وإحجامه. إنه التعامل مع عطاء الإنسان أو أنانيته، مع عالميته في البذل أو بحثه عن ذاته وشخصه ومصالحه. إذًا فالتعامل مع هذا المخلوق المتقلّب العجيب وتربيته عملية مهمة صعبة في ذات الوقت، إنها إعداد للإنسان وغرس للقيم والمعاني وتطهير للنفوس من رواسب العادات السيئة وأدران أمراض القلوب والجوارح.
إن من البدهيات المقررة لدى الناس أجمع أنه لا بد لكل وظيفة وعمل يقوم به الإنسان من إعداد وتهيئة، فالمحسوسات من حولنا تحكي الواقع وتبرهن على سنة الله في هذا الكون أن لكل صنعة صانع يسبر أغوارها ويحسن التعامل معها بما رزقه الله من فهم في هذا التخصص أو ذاك. وعليه كان لا بد لمن يتصدّى لتربية الناس من صفات يتأهّل بها ليشغل تلكم الوظيفة ويقوم بها خير قيام، إنها رسالة إلى الأب في تربيته لأبنائه، إلى المعلم بين تلاميذه، إلى من تشرّفوا بحمل الرسالة واعترك في نفوسهم هم الإصلاح والدعوة إلى الخير من مؤسسات دعوية ومحاضن تربوية في حلقات لتحفيظ القرآن الكريم أو مكتبات خيرية.
الصفة الأولى: العلم وله جوانب:
أولاً: العلم الشرعي، فالتربية في الإسلام إعداد المرء لعبودية الله تبارك وتعالى، وسبيله العلم الشرعي، فكيف يستطيع الأب أو المربي أن يأمر ابنه بالطهارة والصلاة مثلاً وهو يجهل بعض ما لله عليه فيهما، أو يعجز عن الإجابة عما يطرأ من تساؤلات في ذهن المتربي؟! وقس على هذا سائر نواحي الشرع من عبادات ومعاملات.
الجانب الثاني: ثقافة المربي العامة وإدراكه لما يدور في عصره.
الجانب الثالث: العلم بطبيعة المرحلة التي يتعامل معها إن كانوا أطفالاً أو مراهقين أو كبارًا من رجال أو نساء، فالأب الذي يجهل نفسية ابنه المراهق وما هي عليه من تقلبات وحدة في المزاج وأنه انتقل من مرحلة الطفولة إلى مرحلة بعيدة عنها مغايرة لها لن ينجح في تربيته.
جاء شاب يستأذن النبي في الزنا فقال له : ((أترضاه لأمك؟!)) قال: لا، قال: ((أترضاه لأختك؟!)) ، قال: لا، قال: ((فكذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم وأخواتهم)) أو كما قال عليه السلام. لقد كان هذا السؤال من الشاب جريئًا مفزعًا غريبًا يستثير غضبَ المسؤول، والأعظم من هذا أنه يلقيه على مسمع البرّ التقي عليه الصلاة والسلام، ومع هذا لم يعنفه أو يزجره، بل أقنعه بأسلوب حكيم ولفظ يقطر لطفًا ورحمة، وما ذاك إلا لعلمه عليه الصلاة والسلام بفورة الشباب وثوران الشهوة في تلك المرحلة.
الجانب الرابع: معرفة المربي بالشخص نفسه من حيث قدراته وإمكاناته حتى لا يبخسه حقه أو يكلفه فوق طاقته، وذلك يظهر جليًا في إلزام كثير من الآباء أبناءهم دراسة العلوم الطبيعية حتى ولو كانوا لا يملكون قدرة تؤهلهم للبروز فيها، وفي المقابل تجد لديه مخزونًا إبداعيًا في تخصص آخر لم يكتشفه والده المربي.
روى أحمد والترمذي وابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أُبي، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح)).
وكذلك دعا لابن عباس بسعة العلم، ويرسل خالد بن الوليد بسرية بعد سرية، ويشبع رغبة أبا سفيان في الوجاهة والمنصب، وهكذا كلما جهل المربي حال المتربي وقدراته وإمكاناته فسيكون تعامله معه خاطئًا ووصاياه له مجانبة للصواب أو العدل.
والمعنى فيما سبق من جوانب مهمة في العلم أن يملك المربي ما يقدمه لذلك المتربي علمًا وفهمًا للواقع وقدرة في الإجابة على تساؤلاته وسبرًا لأغوار نفسيته، وحين يفقد المربي هذا وذاك يشعر المتربون أنه ليس ثمة ما يدعوهم للارتباط بفلان من الناس، وليس عنده ما يؤهله لأن يتولى تربيتهم، فليتنبه لهذا جموع المربين من آباء ودعاة ومعلمين.
الصفة الثانية من صفات المربي: أن يملك المربي القدرة على العطاء كما يملك حسن العطاء. هناك شخصيات كبيرة فائقة التكوين، متفوقة عقليًا وذاتيًا، ولكنه لسبب ما لا يستطيع أن يعطي التجربة الواقعية لما يحمله في ذاته من مثال رائع، إذًا فليست الأهمية تكمن فيما يملك الشخص من قدرات، ولكنها أيضًا إجابة عن التساؤل: هل هو قادر على العطاء والتربية؟ ولذلك لا عجب في أن تجد أستاذًا يحمل أعلى الشهادات لا يستطيع أن يربي أو يكوّن جيلاً يحمل ولو شيئًا من علمه ومُثله وأخلاقه.
أيها الإخوة، إن البائع الذي يسعى لترويج سلعته يدرك أن مجرّد عرضها على الناس للبيع ليس كافيًا في ترويجها، فهو يحتاج لحسن عرضها والحديث عنها مع الناس بالطريقة التي تشعرهم بحاجتهم إليها. والمقصود أن المربي قد يملك القدرة على العطاء، وهذا لا يكفي بمفرده، فقد يكون عطاؤه بطريقة خاطئة منفرة، فيضيع الأثر المطلوب، وقد ينقلب إلى الضد، ولذلك قيل: قد تحبّ طفلك وتحبّ له الخير، ولكن طريقتك في تقويم الخير إليه تشككه في حبك له، وتوهمه أنك تكرهه. وخلاصة القول أن المربي الحق هو الذي يجيد استخدام الأسلوب الأمثل، في الوقت المناسب، يعرضه في قالب الحب والشفقة.
الصفة الثالثة من صفات المربي: القدرة على القيادة والمتابعة. مع العلم وحسن العطاء لا بد من قيادة الناس وإدارتهم، فالأب الذي لا يستطيع إدارة بيته والمعلم الذي لا يملك زمام فصله والداعية الذي لا يحسن استمالة الجمهور وإقناعهم بفكرته لن يستطيع أولئك أن يجروا بسفينة التربية إلى شاطئ الأمان. فالمربي الحق هو الذي يقود أفراده حسب قناعات راسخة رباهم عليها، لا بقانون العسكر وسَوْق الناس بالعصا.
والأمر الآخر بعد هذا أن يكون قادرًا على متابعة المتربي أبناء وتلاميذ وإخوانا، فالتربية عملية مستمرة لا يكفي فيها توجيه عابر مهما كان مخلصًا صوابًا، ولهذا تجد كثيرًا من المربين يظن أن دوره في التربية يقف عند حد التوجيه والتقويم، فيأمر ابنه بالصلاة ولا يتابعه عليها، وينهاه عن رفقة السوء ولا يشغله بغيرهم، وهكذا..
وليس المقصود بالتوجيه المستمر والمتابعة ـ أيها الإخوة ـ المحاسبة على كل هفوة، فذلك ينفر ولا يربي، فالمربي الحكيم يتغاضى أحيانًا أو كثيرًا عن الهفوة وهو كاره لها؛ لأنه يدرك أن استمرار التنبيه ضار كالإلحاح فيه، وهذا لا يعني الغفلة والثقة المفرطة.
الصفة الرابعة من صفات المربي: القدرة على بناء العلاقات. إن التلقي فرع عن المحبة، وبينها من الاتصال قدر كبير قد لا نتصوّره أحيانًا، وهب أن إنسانًا بلغ الغاية في التأثير وقوة المنطق ورصانة الحجة، أتراه يكون أعلم أو أنصح أو أكثر تأثيرًا من النبي ؟! ومع ذلك قال الله تعالى لنبيّه : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [التوبة:159]، هذا مع ما آتاه الله من وسائل التأثير وشعور الناس بأن الحق معه هو مأمور بأن يلين لأصحابه، وإلا كانت النتيجة أن ينفضوا من حوله، فكيف بغيره ممن يحمل قائمة طويلة من صفات القصور والنقص؟!
والرجاء أن لا يظن الآباء أنهم بمنأى عن هذا الخطاب، فهم أولى من يسعى في بناء العلاقات مع أبنائهم، وإلا ففي المجتمع أبدال وأمثال، واللبيب تكفيه الإشارة.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3403)
من صفات المربي (2)
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
مازن التويجري
الرياض
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التربية بالقدوة. 2- تأثر النفس البشرية بالقدوة. 3- خلق النبي. 4- احتجاج المتربي بمربيه. 5- تحذير المربين من يكونوا قدوة في المعاصي.
_________
الخطبة الأولى
_________
من السهل أن يتكلّم المرء عن المُثل والمبادئ، ومن اليسير أن يأمر بطيب الفعال وجميل الخصال، قد نقرأ كلامًا رصينًا عن الخلق وحسن التعامل فنتأثر به ونميل إليه، ولكن قد يكون هذا الميل وذاك التأثّر وقتيًا لا يثمر عملاً أو يربي في النفس سلوكًا. وعليه فثمة وسيلة هي الأقدر والأجدر على ترجمة الخصال الحميدة والأخلاق الفاضلة واقعًا عمليًا ومنهجًا يتربى عليه الجيل بعد الجيل، إنها نداءٌ، ولكنه خالٍ من الكلمات، أمرٌ بعيد كل البعد عن صِيَغه وجُمَله، إنها دعوة إلى منهجٍ متكامل، بيد أنه لا يحتاج إلى كبير جهد وكثير وقت، إنها دعوة صامته إلى فعل الخيرات بجميع أنواعها وأشكالها، ونبذ الشرور وإن تعددت صورها. تلك الوسيلة هي القدوة الحسنة في شخص المربي يعيش في كنفها جمهور المتربين.
لقد مضى الحديث عن صفات عديدة للمربي، واليوم نعيش مع هذه الصفة ولنفرد المقال فيها.
لقد أمر الله جل وعلا عموم الصحابة والأمة من بعدهم باتخاذ سيرة النبي وأحواله وأقواله أسوة ومثلاً يُحتذى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21].
فالنفس البشرية إذا أحبت رأت فيمن تحب مثلاً وقدوة فيما يقول ويفعل، لذلك لم تكن الرسالات محصورة في تبليغ خطاب الشارع سبحانه للناس وأمرهم بالقيام بما أوجب الله عليهم من العبادات وفضائل الأعمال والأخلاق، بل كان كل رسول يطبق الأمر الرباني في نفسه قبل أن يأمر به قومه، ولهذا كان الرسل يعتلون هامة الهرم في كمال الشخصية عقيدةً وعبادة وتعاملاً، وهذا ما توضحه آية الأنعام: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [الأنعام:90].
ولهذا كان الداعية الأول والمربي الحكيم يعرض المنهج الرباني كما أراده الله وكما جاء في القرآن، ولما سأل سعد بن هشام بن عامر عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله كما في صحيح مسلم قالت: ألست تقرأ القرآن؟! قلت: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله كان القرآن.
فالله تعالى وتقدس جعل في شخص النبي الصورة الكاملة للمنهج الإسلامي، وأراده قدوة دائمة للبشرية، فيؤمنوا بهذا الدين على واقع تراه عيونهم وتدركه عقولهم. كل هذا لعلم الخالق سبحانه بما تحتاجه النفس البشرية كي تتأثر بالبشر من حولها، فهي قد تستجيب للأمر والنهي، ولكن لفترة محدودة ثم تمل وتسأم، وفي المقابل هي تنقاد من حيث لا تشعر إلى الاقتداء ومحاكاة ما تراه واقعًا عمليًا من خير أو شر.
ولهذا ففي دراسة أجراها الدكتور مسعد عويس على 560 شابًا تتراوح أعمارهم بين 12 إلى 30 سنة، وذلك حول حاجة الشباب إلى قدوة، ظهرت النتائج بأن نسبة الذين يرون الحاجة إلى القدوة 75 في المائة.
معاشر المربين الأكارم، إن مسألة التربية ليست تنظيرًا وتقعيدًا يصبّ في قالب الأمر والنهي، كلا، ولكنها منهج يتمثله المتربون، يرونه صورة واقعية في شخص المربي وحياته في أقواله وأفعاله وتصرفاته. والذي لا بد أن نعيه جميعًا ـ أيها الإخوة ـ أن المربي دائمًا ما يكون تحت عدسة مجهر المتربي ابنًا وتلميذًا وأخًا، فكلماته محسوبة، وحركاته معدودة، والخطأ منه كبير قد لا يغتفر.
والواقع يشهد، فكثيرًا ما تسمع احتجاجًا من ابنك الصغير على فعل ما، فإذا سُئل أخبر أن المدرس لا يفعله أو قد نهى عنه، بل تراه أحيانًا يفعل الفعل لأنه رأى أستاذه يفعله، أو يتكلم بالكلمة بطريقة المعلم، بل قد يحاكي حركاته ومشيته، وقد تكون خطأ أو نسيانًا من معلمه، أو قد لا يعرف معناها وأبعادها ولماذا عملها، وكل ما في الأمر أن أستاذه المحبوب قالها وعملها.
بل قد يترسخ في ذهن الناشئة أحيانًا فعل يرونه حسنًا وهو قبيح، وغاية ما في الأمر أنه صدر عن أبيه أو من يتولى تربيته، يكذب لأنّ والده كذب، يظن حلق اللحية أو إسبال الثوب أمرا لا بأس به لأنه يرى صورة معلمه هكذا، لا يرى في التدخين معصية وعيبًا لأنه اعتاد رؤية لفافاته بين أنامل والده، كذلك من تربى بين أبوين محافظين وفي جوّ مستقيم اعتاد رؤية شعائر الدين تقام قولاً وفعلاً، لا يستسيغ رؤية المنكر أو السكوت عن المخالفة.
حدثني أحد الأساتذة الأفاضل في جامعة الملك سعود عن طفل من أقاربه في الصف الثاني الابتدائي، بينما هو في فصله الدراسي إذ قدم معلم جديد على المدرسة فأخذه المدير في جولة تعريفية على الفصول، فدخلوا على الفصل الذي يوجد فيه هذا الطفل، فأخذ المدير يعرف بالمدرس الجديد ويثني عليه وأنه من خيرة المدرسين، وكان هذا الأخ المدرّس حليق اللحية، وبينما المدير يمدح ويطري إذ قاطعه ذلكم الطالب الصغير: كيف يكون من خيرة المعلمين وقد حلق لحيته؟! عندها تلعثم المدير وخرج مع ضيفه لا يدري ما يقول.
معاشر الآباء والدعاة والمعلمين، إننا بحاجة إلى أن نكون أكثر صدقًا ووضوحًا في تربيتنا لأبنائنا ومن تحت أيدينا، أن يقع المربي في المعصية أو الخطأ فذاك أمر يخصه لا يتعداه لغيره يحمل وزره يوم القيامة، ولكن أن يكون وقوعنا في الخطأ وتجاوزنا حدود الله ذريعة لأن نقنع من حولنا أنه عين الصواب فذاك الخزي وتلك النكسة.
ولمزيد وضوح إذا كان الأب أو المعلم قائمًا على معصية من المعاصي كحلق اللحية مثلاً أو إسبال الثياب ـ وما يمثل بهما إلا لكونهما ظاهرين ـ فلا يجب أن يكون إفهام المتربي بجوازه هو السبيل لتبرئة النفس من الخطأ. إننا بحاجة أن نربيهم بأن الخطأ خطأ وإن وقع مني، وتلك مرحلة لا يستطيعها إلا الأقوياء من المربين.
أيها الإخوة، إنه من المأسوف عليه أن تبقى التربية انتصارًا للنفس، وبحثًا عن كمالٍ مزيّف يظهر المعصية للمتربي جائزة الفعل وحرية في الاختيار، يبقى قصور بعض المربين عن بلوغ الفضيلة مدعاة لأن يصوّروا قبيح فعلهم حسنًا، فيُخرج جيلاً لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المربي، إنّ وقعَ حركاتك وأفعالك على من تحتك له الأثر البالغ في تغيير سلوكهم وتقويم أخطائهم، وآلاف الكلمات والعظات تذهب أدراج الرياح، يغني عنها موقف صدق وحق، وفي حياتك أنت كم هي المرات التي دُعيت فيها إلى الصدقة مثلاً أو بر الوالدين، قد يكون التأثر فيها وقتيًا ولكن لم تزل صورة لواقعة ما عالقة في ذهنك عندما رأيت بارًا بأمه أو متصدقًا أخفى صدقته.
ولهذا جاء في إجابة نفس الدراسة التي أجريت على عينات الشباب حول تجديد صفات القدوة أن 83 في المائة رأوا أن من صفات القدوة أن يكون له مواقف إنسانية، و82.30 في المائة أنه يتحلّى بالتواضع، و79.10 في المائة أنه متدين، و59.50 في المائة أنه طيب القلب.
وميزات الدعوة بالفعل أنها: 1 – خالية من أسلوب الأمر والنهي الذي تأباه النفس البشرية من مثلها، 2 – لا تحتاج إلى وقت وجهد، 3 – تعمق روابط المحبة وعلاقات الإخاء بين المتربي ومربيه، 4 – أنها سريعة الأثر طويلة التأثير.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3404)
غياب الهوية
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
مازن التويجري
الرياض
16/2/1424
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إظهار الغرب الكافر لما كان يخفيه من العداوة والبغضاء. 2- أهمية الهوية الإسلامية والاعتزاز بها. 3- عزة سحرة فرعون وثباتهم على الحق. 4- حرص اليهود والأعادي على إقصاء الهوية الإسلامية عن الصراع معهم. 5- مفهوم الهوية الإسلامية. 6- أمثلة معاصرة لدور الهوية الإسلامية في عزة المسلمين ودحر الكافرين.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الناظر اليوم لهذا العالم الممتد وهو يغلي تحت نار الصراعات والأحقاد يرى أمم الكفر من شرق وغربٍ تداعت على أمة الإسلام من كل حدب وصوب، وليس هذا بغريب، ولكن الجديد فيه هو لغة الخطاب الذي يصاغ فيه صراع اليوم.
ها هو الغرب الكافر يسفر عن وجهه الحقيقي، فما عاد الذئب النذل بحاجة أن يلبس لبوسَ الحمل الوديع، ويقلّم مخالبه، ويخفي أنيابه، لينهب ما شاء من القطيع، بل هو اليوم يتكلّم بلغة جديدة، يطالب فيها من شاء من القطيع ومن أعجبه أن يتقدّم لينطرِح بين يديه، كُل ما شئتَ ودَع ما شئتَ، والذئب الآخر يطالِب القطيع أن يذبحوا حبيبَه المفضّل ثم يقدّموه بين يديه على الطريقة التي تروق له.
معاشر الفضلاء، إن الأسباب كثيرة وراء هذا الواقع الذي تعيشه الأمة اليوم، ولكن ثمة سبب مرجع جميع الأسباب إليه، وهو الإجمال لتفصيلها، ما انتصرت أمة إلا كان هو شعارها ودثارها، بدونه لا تسعى الأمة لهدف، ولا تنشد غاية، تتخبط في الأرض، تتلقف ثقافات الأمم، وتجري خلف كل ناعق.
إنها قضية العزة، الافتخار، الاعتزاز بالدين، الشعور بتملّك الحق الفريد الذي لا يشركنا فيه غيرنا، الذي يثمر شخصية للمسلم متميزة، لها هويتها المستقلّة الفذّة، التي تمتلئ اقتناعًا بسلامة طريقها ومنهجها، وفي المقابل لا تشكّ بأن ما عليه أولئك باطل محض يفضي إلى النار والعطب، قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِين [الأنعام:161]، قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ [الزمر:64-66].
أين نحن من تصديق سحرة فرعون؟! أين نحن من اعتزازهم بدينهم والعقيدة السماوية التي آمنوا بها؟! لقد قالوها وأعلنوها صريحة مدوية والوعود بالقتل والصلب والفناء تقرع أسماعهم: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:72، 73]، بل لا يقف الأمر عند هذا، فقناعتهم بصحة اختيارهم وسلامة ما هم عليه دفعهم لبيان الحق، إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه:74-76]. أين هذا من واقع المسلمين اليوم وأنت ترى صور التقليد والتبعية والانحلال من قيود الشرع والدين؟!
مصيبتنا ـ يا أحبابي ـ أننا نحب الإسلام ولكننا نستحي من إظهاره، يرى بعضنا انتماءه إلى إسلامه نقصًا وعيبًا ورجعية وتخلفًا، فتُغيَّر ثوابت الدين وشرائع الملة؛ لأنها لا تتماشى مع العصر وتقنياته، تبدَّل الشرائع لترضى عنا أمم وتصفّق لنا دول.
يخجل الفرد من أبناء الأمة أن يظهر شيئًا من شعائر دينه خوفًا من سخرية ساخر وتندّر ضاحك، التمسّك بالدين والاستقامة على شرع الله الذي هو طريق العبد لسعادة الدنيا والفوز بالجنة أضحى نقصًا وتخلفًا أو إرهابًا وتشددًا. وما ذاك إلا يوم جهلت الأمة حقيقة دينها وأنه الحق، ثم غُيبت وأنسيت أو تناست بأن ما سوى هذا الحق باطل ولا شك، بهرتها حضارةٌ برّاقة، وما تغني إذا كان مآلها في الدنيا الزوال، ولأهلها في الآخرة البوار.
ولقد علم أعداؤنا هذا علم يقين، فكان هو شغلهم الشاغل. جاء في صحيفة يهودية صادرة بتاريخ 18/3/1978م ما نصه: "إن على وسائل إعلامنا أن لا تنسى حقيقة هامة هي جزء من إستراتيجية إسرائيل في حربها على العرب، هي أننا نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال الثلاثين عامًا، ويجب أن يبقى الإسلام بعيدًا عن المعركة إلى الأبد، ولهذا يجب أن لا نغفل لحظة واحدة عن تنفيذ خطتنا في منع استيقاظ الروح الإسلامية بأي شكل وبأي أسلوب، ولو اقتضى الأمر الاستعانة بأصدقائنا لاستعمال العنف والبطش لإخماد أية بادرة ليقظة الروح الإسلامية في المنطقة المحيطة بنا". ومصداق ذلك اليوم: كلما قامت حركة إسلامية أو دعوة للعودة للدين وُصِمت بالإرهاب ليكون مسوّغًا لضربها ومطاردة فلولها.
إنهم ليرضون بل ويشجّعون أن يُرفع أيّ شعار في العالم الإسلامي لا يمتّ إلى الإسلام بصلة، المهمّ أن لا يكون له علاقة من قريب أو بعيد بالإسلام وروحه وهويته. رعوا نبتة العلمنة، وربوا طفيليات الديمقراطية المزعومة، واعتنوا بالاشتراكية والقومية والبعث، لكن الإسلام يجب أن لا يحيى ولو كان من فردٍ واحد أو أطفال صغار.
إن هذه الهوية التي نقصدها تستوعِب مناشط الحياة كلها، كانت عبادات محضة أو أعمالاً وعادات وتفكيرًا، كلها تدخل في العبادات والقرب متى ما صاحب ذلك حسن نية وسلامة قصد، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين [الأنعام:162]. عباداتنا، وظائفنا، أقوالنا، أفعالنا، حركاتنا، سكناتنا، حبنا، بغضنا، بل حتى أنفاسنا، كلها تدخل في تشكيل الإسلام في نفوسنا "هويتنا العظمى".
إن الإسلام جعل لشخصية المسلم الاستقلالية والتميز؛ لكي لا تختلط بالهويات التي صاغها البشر أهل النقص والعجز والهوى. جاء في صحيح مسلم لما أنزل الله الأمر باعتزال النساء في المحيض قالت اليهود: ماذا يريد هذا النبي؟! يريد يخالفنا في كل شيء. إنها الهوية المستقلة بحيث لا تلتفت إلى رجيع أفكار الآخرين وسقط هوّياتهم، لقد فهم اليهود ماذا يريد الإسلام من أتباعه، وما فهم أتباعه ماذا يريد منهم، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]. حين نتميز بهويتنا ونعتز بشخصيتنا وننتصر من دواخلنا في قلوبنا ونفوسنا يحصل لنا السؤدد والتمكين.
في يوم بدر مع قلة ذات اليد والحيلة، عندما كان الاعتزاز بالهوية شعارنا انقلبت الموازين من أجلنا، وفي يوم الفتح المجيد دانت لنا كفرة العرب قاطبة إذ كانت النفوس أبية عزيزة، انتصرت على شهواتها وتعالت فوق شهواتها، فكان النصر ولا دم.
وبعد قرون ضاعت هوية الأمة، فسام الكفار المسلمين صنوف الذل والهوان ليبعث الله صلاح الدين يحيي في القلوب هويتها وانتماءها ويوقظ عزائمها وتميزها، فيذعن الكفر ويعود الأقصى.
في حرب أفغانستان الأولى خرج الروس في صورة لن ينساها التأريخ أذلّة صاغرين يوم عادت للأمة هويتها، وها هي دويلات صغيرة وجماعات يسيرة تربت على بعث الهوية في نفوس أفرادها تصمد أمام قوى عظمى في البوسنة وكوسوفا والشيشان. إن الأمة اليوم يجب أن تراه درسًا عمليًا في أطفال الحجارة وكتائب عز الدين القسام وفلول المجاهدين في أفغانستان والشيشان حين تصفو الهوية وتبدو الرؤية واضحة كيف تهابهم الدنيا وتخشاهم بطارقة العالم. كل هذا وغيره يدل دلالة قطعية بأن التأريخ قابل أن يعيدَ نفسه متى ما عادت الأمة إلى هويتها وانكفأت على عقيدتها وشربت كأس العز من ينبوع الكرامة. بيد أنها يوم ألقت ظهرها لعقيدتها ومبادئها وهويتها، بل وحاربها أبناؤها وتنكروا لها إلا من رحم ربك، واتهم كل من تمسك بعقيدته ودينه.
آل واقعها إلى ما ترى؛ هزائم متتالية، اتفاقيات مخجلة، ومعاهدات ذليلة، يضحك العدو بها على القوم، ومؤتمرات لا تصنع القرار لندرك قول عمر رضي الله عنه: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3405)
استقبال رمضان
فقه
الصوم
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
24/8/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حسن استقبال المناسبة الحسنة. 2- حقيقة استقبال رمضان. 3- ضرورة فهم المقصود من الصيام. 4- فوائد الصيام. 5- نعمة إدراك رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتقوا الله وابتَغوا إليه الوسيلةَ، واحرِصوا على الاستزادةِ من الباقيات الصالحات، وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:46].
أيّها المسلمون، إنَّ جمالَ المناسَبةِ وجلالَها وثيقُ الصّلَةِ بحسنِ استقبالها وكمالِ السّرور وغامِرِ السعادةِ بها، وإنَّ مِن أجمل المناسباتِ وأجلِّها في حياةِ المسلم مناسبةَ استقبال هذا الشهرِ المبارك رمضان الذي أكرَمَ الله الأمّةَ به وجعلَ صيامه وقيامَه واستباقَ الخيراتِ فيه من أعظم أبوابِ الجنة دارِ السلام. وحريٌّ بأولي الألباب وقد أظلّهم زمانُ هذا الشهرِ العظيم، حرِيٌّ بهم أن تبيَّنوا حقيقةَ استقبال رمضان. إنّ هذا الاستقبالَ لا يكون بالاجتهادِ في جمعِ ما يُشتهَى وما يستطرَف من ألوان الطعامِ والشراب، ولا يكون بتهيِئَة النّفس للهرَب مِن رهَق الحِرمان بالنّوم المستغرِق معظمَ ساعاتِ النهار، فإن كان تمَّةَ عملٌ فبصبرٍ نافِد وتبرُّمٍ ضجَر وسوءِ خلُق، يصحبُه سِباب وطَعن ولَعن، بل وقذفٌ موجِب للحدّ أحيانًا، ولا يكون أيضًا بتفقُّد أجهزةِ الاستقبالِ للقَنَوات الفضائيّة وتعهُّدها بالإصلاحِ أو التّجديد حِرصًا على عدَم فواتِ شيءٍ مما تبثُّه في أيّام هذا الشهرِ ولياليه ممّا تُحشَد له من برامِج وما تُرصَد له مِن أموال وما تُنفَق فيه من أوقات وما تُصرَف فيه من جهود، لا توافِق غالبًا ما يرضِي اللهَ ربَّ العالمين ولا تنتفِع به جماعةُ المؤمنين، ولا يكونُ الاستقبال كذلك بالعَزم على قضاءِ لياليه في جولاتٍ عابِثة في الأسواقِ استجابةً للشّطحاتِ والنّزَوات وإضاعةً للأوقات وإعراضًا عن الصّلوات وإيذاءً للمسلمين والمسلمات.
إنَّ رمضانَ لا يستَقبَل بهذا ولا بأمثالِه مما يعظُم ضررُه ويقبح أثرُه، وإنما يستَقبَل بالتّشمير عن سواعِدِ الجدّ في استباقِ الخيرات وبِعقدِ العزمِ على اغتنامِ فرصته، في تزكيةِ النفس وتهذيبها وإِلزامها بسلوكِ الجادّة وقطعِ الصّلَة بماضي الخطايَا وسابقِ الآثام وانتهاج السبيلِ الموصِل إلى رضوان الله والحظوَة عنده بالدرجات العُلى والنعيمِ المقيم.
وإنَّ مِن أظهر ما يعين على حُسن استقبالِ هذا الشّهر فَهمَ المقصودِ من الصيام الذي هو كما قالَ العلامة الإمام ابن القيم رحمه الله: حبسُ النفس عن الشهواتِ وفِطامها عن المألوفات وتعديلُ قوّتها الشهوانيّة لتستعدَّ لطلَب ما فيه غايةُ سعادتها ونعيمها ولقَبول ما تزكو به مما فيهِ حياتها الأبديّة، ويكسِر الجوعُ والظّمَأ مِن حِدّتها وسَورتها ويذكِّرها بحالِ الأكبادِ الجائعة من المساكينِ، وتُضيَّق مجارِي الشيطان من العبدِ بتضييق مجاري الطّعام والشّراب، وتُحبَس قوَى الأعضاء عن استرسَالها لحكمِ الطبيعة فيها يضرُّها في معاشِها ومعادِها، ويُسكَّن كلّ عضوٍ منها وكلّ قوّةٍ عن جماحه وتُلجَم بلجامه، فهو لِجام المتّقين وجُنّة المحارِبين ورياضة الأبرارِ والمقرَّبين، وهو لربّ العالمين من بين سائِر الأعمال؛ فإنّ الصائمَ إنما يترُك شهوتَه وطعامَه وشرابه من أجلِ معبودِه، فهو تركُ محبوباتِ النّفس وتلذُّذاتها إيثارًا لمحبّة الله ومرضاتِه، وهو سِرّ بين العبدِ وربّه لا يطَّلع عليه سواه، والعِبادُ قد يطّلِعون مِنه على تركِ المفطّرات الظّاهرة، وأمّا كونه ترك طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجلِ معبودِه فهو أمرٌ لا يطَّلع عليه بشرٌ، وتلك حقيقةُ الصوم، وهي التي أشار إليها رسول الله في الحديث الذي أخرجَه البخاريّ ومسلمٌ في صحيحَيهما واللفظُ لمسلمٍ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّه عليه الصلاة والسلام قال: ((كلُّ عملٍ ابنِ آدمَ يضاعَف؛ الحسنةُ بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلاَّ الصّومَ فإنّه لي وأنا أجزِي به، يدَع شهوتَه وطعامَه من أجلي)) الحديث [1].
وللصّومِ تأثيرٌ عجيب في حِفظ الجوارِح الظاهرةِ والقوَى الباطنة وحِميتِها عن التخليطِ الجالبِ لها الموادَّ الفاسِدة التي إذا استولَت عليها أفسدتها، فالصوم يحفَظ على القلب والجوارِح صحَّتَها ويعيد إليها ما استلَبته منها أيدِي الشهوات، فهو مِن أكبر العونِ على التّقوى كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، وقال النبيُّ في الحديثِ الذي أخرجه الشّيخان في صحيحَيهما عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: ((الصومُ جنّة)) [2].
والمقصودُ أنّ مصالحَ الصوم لما كانت مشهودةً بالعقول السليمةِ والفِطَر المستقيمة شرَعه الله لعِبادِه رحمةً بهم وإحسانًا إليهم وحِميةً لهم وجُنّة، وكان هديُ رسول الله فيه أكملَ الهديِ وأعظمَ تحصيلاً للمقصود وأسهلَه على النفوس.
فاتّقوا الله عبادَ الله، واستقبِلوا شهرَكم بما يليق به من جِدّ واجتهادٍ واستباقٍ للخيرات ومسارعةٍ إلى مغفرةِ من ربِّكم وجنّةٍ عرضها السموات والأرض.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
نفَعني الله وإياكم بهديِ كتابه وبسنّة نبيّه ، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفورُ الرّحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1894، 1904)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1151).
[2] هو جزء من الحديث السابق.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الحكَم العدلِ اللطيفِ الخبير، أحمده سبحانَه وهو العلِيّ الكبير، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسولُه البشير النذير والسّراج المنير، اللهمَّ صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبِه.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، إنه لا مندوحةَ للمؤمن عند استقبالِ رمضان عن تذكُّر أولئك الذين كتبَ الله لهم إدراكَ صيامِ شهر رمضانَ المنصرم، وكانوا منّا مِلءَ السّمع والبصَر، لكنّنا لا نراهم اليومَ، فقد قعَد بهم الأجلُ عن بلوغِ الأمل في الحظوةِ باستقبال هذا الشهرِ وبصيامِه وبقيامِه، فسكَنوا الأجداث، وغيّبَتهم المقابِر، ووجب علينا شُكرُ ربِّنا لما حَبانا به من دونهم، وتعيَّن علينا أن نسألَه سبحانه القبولَ والمعونة وحسنَ التوفيق إلى محابِّه ومراضيه في رمضانَ وفي جميع الأزمان، وأن يختمَ لنا جميعًا بخيرٍ، وأن يصرفَ عنَّا من الشرور والفِتَن والبلايا ما لا يصرِفه غيره، وأن يجعل عاقبةَ أمرِنا رشدًا.
ألا فاتقوا الله عبادَ الله، واذكروا على الدّوامِ أنّ الله تعالى قد أمَركم بالصلاةِ والسلام على خيرِ الأنام، فقالَ في أصدقِ الحديثِ وأحسَن الكلام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...
(1/3406)
شهر التوبة قد أقبل
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
24/8/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الخطأ من طبيعة البشر. 2- التحسّر على المعاصي. 3- أركان التوبة وشروطها. 4- حقيقة التوبة. 5- فضل التوبة والاستغفار. 6- سعة رحمة الله تعالى وعفوه ومغفرته. 7- قرب موسم التوبة. 8- المبادرة للتوبة. 9- النهي عن صوم يوم الشكّ. 10 – الحث على المبادرة إلى قضاء فائت الصوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ في الموارد والمصادِر، فتقواه خيرُ ما أعِدَّ لليومِ الآخر، والمتّقِي هو المنتصر والظافِر، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4].
أيّها المسلمون، المؤمِن ليس معصومًا من الخطيئة، وليسَ في منأى عنِ الهَفوة، ليس في معزِل عن الوقوعِ في الذنب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((والّذي نفسِي بيَدِه، لو لم تذنِبوا لذَهَب الله بكم، ولجاءَ بقومٍ يذنِبون فيستغفِرون اللهَ فيغفِر لهم)) أخرجه مسلم [1] ، وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((كلُّ بني آدَمَ خطّاء، وخيرُ الخطّائين التوّابون)) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه [2]. وكم من مذنبٍ طال أرقُه واشتدَّ قلقُه وعظُم كمَده واكتوى كبِدُه، يَلفُّه قَتارُ المعصية، وتعتصِره كآبَة الخطيئة، يتلمَّس نسيمَ رجاءٍ، ويبحَث عن إشراقةِ أمَل، ويتطلَّع إلى صُبحٍ قريب يشرِق بنورِ التوبةِ والاستقامةِ والهدايةِ والإنابة؛ ليذهب معها اليأسُ والقنوط، وتنجلِي بها سحائبُ التّعاسة والخوفِ والهلَع والتشرُّد والضياع. وإنَّ الشعورَ بوطأةِ الخطيئةِ والإحساسَ بألمِ الجريرةِ والتوجُّع للعَثرةِ والنّدمَ على سالف المعصية والتأسُّف على التفريط والاعترافَ بالذّنب هو سبيلُ التصحيح والمراجعةِ وطريق العودَة والأوبة.
وأمّا ركنُ التوبةِ الأعظم وشرطُها المقدَّم فهو الإقلاعُ عن المعصيةِ والنّزوع عن الخطيئةِ، ولا توبةَ إلا بفعلِ المأمورِ واجتناب المحظور والتخلُّص من المظالم وإبراءِ الذمّة من حقوق الآخرين. ومن شاء لنفسِه الخيرَ العظيم فَليُدلِف إلى بابِ التوبَة وطريقِ الإيمان، وليتخلَّص من كلِّ غَدرَة، وليُقلِع عن كلِّ فَجرة، فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ [التوبة:74]، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. يستوجِبُ العفوَ الفتى إذا اعترَف ثم انتهَى عمّا أتاه واقترَف؛ لقوله سبحانه في المعترِف: إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38].
أيّها المسلمون، التّوبةُ خضوعٌ وانكسَار وتذلُّل واستغفارٌ واستِقالَة واعتِذار وابتِعاد عن دواعِي المعصيةِ ونوازِع الشرِّ ومجالس الفِتنة وسُبُل الفساد وأصحابِ السّوء وقرَناء الهوى ومثيراتِ الشرِّ في النفوس. التوبةُ صفحةٌ بيضاء وصفاءٌ ونقاء وخشيَة وإشفاق وبكاء وتضرُّع ونداء وسؤالٌ ودعاء وخوفٌ وحياء. التوبة خجَل ووَجل ورجوع ونزوع وإنابةٌ وتدارك، نجاةٌ من كلّ غمّ، وجُنّة من كلّ معرَّةٍ وهمّ، وظفَرٌ بكلِّ مطلوب، وسلامةٌ من كلّ مرهوب، بابُها مفتوح وخيرُها ممنوح ما لم تغرغِر الروح، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لو أخطَأتم حتى تبلُغ خطاياكم السّماء ثم تُبتُم لتابَ الله عليكم)) أخرجه ابن ماجه [3] ، وعن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله : ((قال الله تعالى: يا عبادي، إنكم تخطِئون بالليل والنهار وأنا أغفِر الذنوبَ جميعًا فاستغفِروني أغفر لكم)) أخرجه مسلم [4] ، وعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: ((قال الله تعالى: يا ابنَ آدم، إنّك ما دعوتني ورجَوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي. يا ابنَ آدم، لو بلغَت ذنوبك عَنانَ السماءِ ثم استغفرتني غفرتُ لك. يا ابنَ آدم، إنك لو أتيتني بقرابِ الأرض خطايا ثم لقيتَني لا تشرِك بي شيئًا لأتيتُك بقرابها مغفرةً)) أخرجه الترمذي [5] ، وعند مسلم: ((من تقرَّبَ منّي شِبرًا تقرّبتُ منه ذِراعًا، ومن تقرَّب مني ذراعًا تقرَّبت منه باعًا، ومن أتاني يمشِي أتيتُه هرولةً، ومن لقيَني بقُراب الأرضِ خطيئةً لا يشرِك بي شيئًا لقِيتُه بمثلِها مغفرة)) [6].
فيا له من فضلٍ عظيم وعطاء جسيم من ربٍّ كريم وخالقٍ رحيم، أكرمنا بعفوِه، وغشَّانا بحِلمِه ومغفرتِه، وجلَّلنا بسِتره، وفتح لنا بابَ توبته. يعفو ويصفَح ويتلطَّف ويسمَح وبتوبةِ عبدِه يفرَح، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ [غافر:3]، يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ [الشورى:25]، وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ [الرعد:6]، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110]، ((يبسُط يدَه بالليل ليتوب مسيءُ النّهارِ، ويبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل، حتى تطلعَ الشمس من مغربها)) [7].
فأكثروا ـ عبادَ الله ـ من التوبةِ والاستغفار، فقد كان رسولُ الله يكثِر من التّوبةِ والاستغفار، قال أبو هريرة رضي الله عنه: ما رأيتُ أكثرَ استغفارًا من رسول الله [8] ، يقول ـ بأبي هو وأمّي ـ صلواتُ الله وسلامه عليه: ((والله، إني لأستغفِر الله وأتوب إليه في اليومِ أكثرَ من سبعين مرة)) أخرجه البخاريّ [9] ، وعن الأغرّ بن يسارٍ المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يا أيّها النّاس، توبوا إلى الله واستغفِروه، فإني أتوب في اليومِ مائة مرّةٍ)) أخرجه مسلم [10].
أيّها المسلمون، هذه التوبةُ قد شُرِعت أبوابُها وحلَّ زمانها وإِبّانها ونزل أوانُها، فاقطعوا حبائلَ التسويف، وهُبّوا مِن نومَةِ الرّدى، وامحوا سوابِقَ العِصيان بلواحِقِ الإحسان، وحاذِروا غوائلَ الشيطان، ولا تغترّوا بعيشٍ ناعم خضِلٍ لا يدوم، وبصِّروا أنفسَكم بفواجِعِ الدّنيا ودواهِمِ الدهر وهَوازِمه ودالهاته وتقلُّب لياليه وأيّامه، وتوبوا إلى الله عزّ وجلّ من فاحشاتِ المحارم وفادحات الجرائم وورطةِ الإصرار، توبوا على الفورِ، وأحدِثوا توبَةً لكلّ الذنوب التي وقعت، وتوبوا من المعاصِي ولو تكرَّرت، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ يقول: ((إنَّ عبدًا أصابَ ذنبًا فقال: ربِّ، أذنبتُ ذنبًا فاغفِر لي، فقال ربّه: أعلِمَ عبدي أنّ له ربًّا يغفِر الذنبَ ويأخُذ به؟ غفرتُ لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبًا فقال: ربّ، أذنبتُ آخر فاغفِره، فقال: أعلِم عبدي أنّ له ربًّا يغفِر الذنبَ ويأخذ به؟ غفرتُ لعبدي، ثم مكثَ ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا فقال: ربِّ، أذنبتُ آخرَ فاغفِره لي، فقال: أعلِمَ عبدي أنّ له ربًّا يغفر الذنبَ ويأخذ به؟ غفرتُ لعبدي)) متفق عليه [11] ، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله : ((ما مِن عبدٍ يذنِب ذنبًا ثمّ يتوضّأ ثم يصلّي ركعتين ثم يستغفِر اللهَ لذلك الذنبِ إلاَّ غفَر الله له)) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي [12].
يا عبدَ الله، لا تكن ممّن قال: أستغفِر الله بلسانِه وقلبُه مصِرٌّ على المعصيةِ وهو دائمٌ على المخالفة، ليُقارِن الاستغفارَ باللسان موافقةُ الجَنان وإصلاحُ الجوارِحِ والأركان، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
أيّها المسلمون، توبوا من قريبٍ، وبادِروا ما دمتُم في زمنِ الإنظار، وسارِعوا قبلَ أن لا تُقالَ العِثار، فالعُمر منهدِم والدَّهر منصرِم، وكلُّ حيّ غايتُه الفَوت، وكلّ نفسٍ ذائقةُ المَوت، ومن حضَره الموتُ وصارَ فيه حينِ اليأسِ وحالِ المعاينةِ والسَّوق وغَمرَةِ النَّزع والشّرَق والغُصَص والسّكَرات لم تُقبَل منه توبةٌ ولم تنفَعه أوبة، وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:18]، وعن عبد الله بن عمَر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إنّ اللهَ عزَ وجلَ يقبَل توبة العبدِ ما لم يغرغِر)) أخرجه الترمذي [13].
فيا عبدَ الله،
قدِّم لنفسِك توبةً مرجوَّة قبل المماتِ وقبل حبسِ الألسن
بادِر بها غَلقَ النّفوس فإنها ذخرٌ وغُنم للمنيب المحسِنِ [14]
أيّها المسلمون، إلى من يلجَأ المذنِبون؟! وعلى من يعوِّل المقصِّرون؟! وإلى أيِّ مهرَب يهربون؟! والمرجِع إلى الله يومَ المعادِ، يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ [غافر:16]، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]. فأقبِلوا على الله بتوبةٍ نصوح وإنابة صادقة وقلوبٍ منكسرة وجِباه خاضِعة ودموعٍ منسكِبة.
أيّها المسلمون، أتاكم شهرُ الغفران المرتجَى والعطاءِ والرّضا والرأفةِ والزُّلفى، أتاكم شهرُ الصّفح الجميلِ والعفوِ الجليل، شهرُ النّفَحات وإقالةِ العثرات وتكفيرِ السيّئات، فليكُن شهرُكم بدايةَ مَولدِكم وانطلاقةَ رجوعِكم وإشراقَ صُبحكم وتباشيرَ فجركم وأساسَ توبتِكم، ومن لم يتُب في زمنِ الخيرات والهبات فمتى يتوب؟! ومَن لم يرجِع في زمَن النّفحات فمتى يؤوب؟!
صعدَ رسول الله المنبرَ فقال: ((آمين، آمين، آمين)) ، فقيل: يا رسولَ الله، إنك صعدتَ المنبرَ فقلت: ((آمين، آمين، آمين)) ! فقال رسول الله : ((إنّ جبريلَ عليه السلام أتاني فقال: من أدركَ شهرَ رمضان فلم يُغفر له فدخلَ النار فأبعَدَه الله، قل: آمين، قلتُ: آمين)) أخرجه ابن خزيمة وابن حبان [15].
اللهمّ فبلِّغنا شهرَ رمضان، اللهمّ اجعلنا ممّن أدرك رمضان، اللهمّ بلّغنا شهرَ رمضان، وارزُقنا فيه توبةً نصوحا، تمحَى بها الأوزار ونرتقي بها إلى منازلِ الأبرار، يا عزيز يا غفّار.
أقول ما تسمعون، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب التوبة (2749).
[2] مسند أحمد (3/198)، سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة (2499)، سنن ابن ماجه: كتاب الزهد، باب: ذكر التوبة (4251) من طريق علي بن مسعدة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه ، وأخرجه أيضا الدارمي في الرقاق (2727)، قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة"، وصححه الحاكم (4/244)، وتعقبه الذهبي بقوله: "علي لين"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4515).
[3] سنن ابن ماجه: كتاب الزهد، باب ذكر التوبة (4248)، حسنه البوصيري في مصباح الزجاجة (4/246)، والعجلوني في كشف الخفاء (2/199)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (3426).
[4] صحيح مسلم: كتاب البر (2577).
[5] سنن الترمذي: كتاب الدعوات، باب: في فضل التوبة والاستغفار (2540)، وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/400): "إسناده لا بأس به"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (127).
[6] صحيح مسلم: كتاب الذكر (2687) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[7] رواه مسلم في كتاب التوبة (2759) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[8] رواه أحمد في الزهد (ص50) من طريق مكحول عن رجل عن أبي هريرة. وانظر: تفسير القرطبي (4/210).
[9] صحيح البخاري: كتاب الدعوات (6307) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] رواه مسلم في كتاب الذكر (2702).
[11] صحيح البخاري: كتاب التوحيد (7507)، صحيح مسلم: كتاب التوبة (2758).
[12] مسند أحمد (1/2، 8، 10)، سنن أبي داود: كتاب الصلاة (1521)، سنن الترمذي: كتاب الصلاة (406)، وأخرجه أيضا ابن ماجه في إقامة الصلاة (1395)، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه ابن حبان (623)، وهو في صحيح الترغيب (680، 1621).
[13] سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3537)، وأخرجه أيضا أحمد (2/153)، وابن ماجه في الزهد (4253)، وأبو يعلى (5609)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (628)، والحاكم (7659)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (3143).
[14] هذان البيتان للشاعر العباسي محمود بن حسن الوراق (220هـ).
[15] صحيح ابن خزيمة (1888)، صحيح ابن حبان (907) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد (646)، وأبو يعلى (5922)، والطبراني في الأوسط (8131، 8994)، والبيهقي (4/304)، قال الهيثمي في المجمع (10/167): "فيه كثير بن زيد الأسلمي، وقد وثقه جماعة وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات". وله شاهد من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه أخرجه الطبراني (19/291)، وصححه ابن حبان (409)، قال الهيثمي في المجمع (10/166): "فيه عمران بن أبان، وثقه ابن حبان، وضعفه غير واحد، وبقية رجاله ثقات". وله شاهد آخر من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه أخرجه الطبراني (19/144)، والبيهقي في الشعب (1572)، وصححه الحاكم (7256)، قال الهيثمي في المجمع (10/166): "رجاله ثقات". وهذه الأحاديث الثلاثة صححها الألباني في صحيح الترغيب (995، 996، 997). وفي الباب أيضا عن عمار بن ياسر وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله وابن عباس وابن مسعود وأنس وعبد الله بن الحارث رضي الله عنهم، انظر: مجمع الزوائد (10/164-166).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله على إِحسانِه، والشّكرُ له على توفيقِه وامتِنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شَريكَ له تعظيمًا لشأنِه، وأشهَد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمَّدًا عبده ورسوله الداعِي إلى رضوانِه، صلّى الله عليه وعلى آلِه وأصحابه وإخوانِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا اللهَ وراقبوه، وأطيعوه ولا تَعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيّها المسلمون، لا تَقَدّموا رَمضَانَ بصيامٍ على نِيّةِ الاحتياط لرمضانَ، ويحرُم صومِ يومِ الشّكِّ لمَعنى رمضانَ على الصحيح من أقوال أهلِ العلم، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبي قال: ((لا يتقدّمنّ أحدُكم رمضانَ بصومِ يومٍ أو يومين إلاّ أن يكونَ رجلٌ كان يصوم صومًا فليصُم ذلك اليوم)) متفق عليه [1] ، وعن صلةَ قال: كنّا عند عمّار بن ياسرٍ في هذا اليومِ الذي يُشَكّ فيه، فأتِيَ بشاةٍ فتنحّى بعضُ القوم فقال عمّار: من صامَ هذا اليومَ فقد عصَى أبا القاسِم. أخرجه أبو داود [2].
أيّها المسلمون، ومن كان عليهِ قضاءُ أيّامٍ من رمضانَ الماضي فليبادِر إلى القضاء، ولا يجوز له تأخيرُ القضاء حتّى يدركَه رمضانُ آخر.
أيّها المسلمون، إنّ ثمرةَ الاستماع الاتّباعُ، فكونوا من الذينَ يستمعون القولَ فيتّبعون أحسنه.
واعلموا أنّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنّى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون من جِنِّه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ على النبيِّ المصطفى المختار، اللهمّ صلّ عليه ما غرَّدت الأطيارُ وأزهرت الأشجَار وهطَلت الأمطار، اللهمّ صلّ عليه ما سالت الأوديةُ والأنهار وفاضت العيون والآبار، اللهمّ صلّ عليه وعلى المهاجرين والأنصار وعلى جميع الآل والصحب والأخيار...
[1] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1914)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1082).
[2] سنن أبي داود: كتاب الصوم (2334)، وأخرجه أيضا الترمذي في الصوم (686)، والنسائي في الصيام (2188)، وابن ماجه في الصيام (1645)، والدارمي في الصوم (1682)، قل الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (1914)، وابن حبان (3585، 3595، 3596)، والدارقطني (2150)، والحاكم (1542)، وهو مخرج في إرواء الغليل (961).
(1/3407)
ذكرى مجزرة المسجد الأقصى
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الصوم, المسلمون في العالم
محمد أحمد حسين
القدس
24/8/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توالي العدوان الإسرائيلي. 2- مجازر بشعة أمام مرأى ومسمع العالم. 3- مجزرة المسجد الأقصى. 4- قوة العقيدة. 5- الاستعداد لاستقبال رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، لليوم العاشر على التوالي يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على شمال قطاع غزة، في بيت لاهيا وبيت حانون ومخيم جباليا وتل الزعتر، ويستهدف هذا العدوان الغاشم الحجر والشجر والبشر، وقد زاد عدد الشهداء على ثمانين شهيدا، من بينهم الأطفال والشيوخ والنساء، مما يدلّ دلالة واضحة على أن العدوان يستهدف الشعب الفلسطيني دون تمييز بين مدني ومقاتل؛ فالعدوان على الشعب الفلسطيني منذ بدايات النزاع فوق هذه الأرض بين أهلها الشرعيين والمحتلين لم يميز بين فئات الشعب؛ إذ يأخذ هذا العدوان في كثير من أشكاله وأساليبه طريق التطهير العرقي وأسلوب الأرض المحروقة، إمعانًا في الظلم ورغبة للوصول إلى أهدافه في كسر إرادة هذا الشعب وإخضاعه لمخططات الاحتلال والمحتلين.
وتجري هذه المجازر البشعة في غزة تحت سمع وبصر العالم بأسره في ظل صمت عربي وإسلامي، وصل إلى شبه صمت أهل القبور، وفي ظلّ غياب دولي حتى في أروقة الهيئات الدولية التي تزعم رعاية الأمن والسلم الدوليين، هذه الهيئات التي غدت منذ زمن بعيد أداةً في يد قوى الاستعمار العالمي، لخدمة أهداف هذه القوى وتنفيذ مخططاتها، كما جرى في العدوان الأمريكي على أفغانستان ومن بعدها على العراق، والقادم أعظم ما دامت شعوب الأمة الإسلامية تغطّ في سبات عميق، وغابت عن ساحها عزيمة الرشيد ومروءة قطز وصلاح الدين.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن الدماء البريئة التي تضيء فوق أرض غزة هاشم في هذه الأيام تقود بالذاكرة إلى تلك المجزرة التي اقترفت في رحاب المسجد الأقصى المبارك بحقّ المصلين المسلمين من أبناء هذه الديار قبل أربعة عشر عامًا من اليوم.
في 2/10/1990 أقدمت سلطات الاحتلال على ارتكاب جريمة قتل الأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء والشباب الذين هبّوا للدفاع عن قدسية هذا المسجد المبارك وحمايته من اعتداء جماعات التطرف والاستيطان والحالمين ببناء الهيكل المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى المبارك.
إن أرواح الشهداء التي انطلقت من رحاب هذه الديار الطاهرة إلى رحاب الرضوان والكرامة في جنات الخلود التي أعدّها الله لعباده المكرمين ما زالت تهتف بأبناء المسجد الأقصى وأهل هذه الديار المقدسة إلى مزيد من الصبر والثبات والرباط الذي يريد الاحتلال ضدّ شعبنا وأرضنا ومقدساتنا أن يثنيه، بل على وجودنا في هذه الأرض التي قرر الله إسلاميتها، ونفذ سلفنا الصالح هذا القرار الرباني يوم جاؤوا فاتحين لهذه الديار بقيادة الفاروق عمر وصحبه الكرام من أصحاب رسول الله.
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، إن ذكرى مجزرة الأقصى المبارك تضع المسلمين جميعًا أمام مسؤولياتهم في حماية هذا المسجد ودياره، فلم يعد خافيًا على أحد في دنيا المسلمين خطورة ما يتهدد هذا المسجد وأهله في ظلّ غياب المواقف الجادة للأمة الإسلامية التي كلّفها الله رعاية مقدساتها وجعلها القيِّمة على إرث الرسالات والنبوات.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، إن العقيدة التي حملها المسلمون من سلفكم الصالح ودفعتهم إلى هذه الديار معلنين نداء التوحيد بالتهليل والتكبير على لسان مؤذن رسول الله ، هي العقيدة نفسها التي حركت جيش المظفر صلاح الدين لتحرير القدس ومسجدها الأقصى من دنس الصليبيين الذين لم يرعوا في المسجد الأقصى وأهله عهدًا ولا ذمة، ولم يطبّقوا أبسط حقوق الإنسان في حفظ دينه وحياته، وهي العقيدة التي جعلت وما زالت تجعل من شعبنا الأعزل يواجه بلحمه ودمه وإيمانه عصابات البغي وجند الاحتلال دفاعًا عن الأقصى المبارك وعن كرامة الأمة في أرضها ومقدساتها.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن الله اختاركم الطليعة المتقدّمة من أبناء الأمة الإسلامية للدفاع عن كرامة المسجد الأقصى، في هذا الظرف الدقيق والعصيب من حياة الأمة، فكونوا أهلاً لهذا الشرف العظيم والمسؤولية الجسيمة، فأرواح الشهداء التي ترفرف في رحاب الخلد وتطلّ على أنوار المسجد الأقصى تهتف بكم أن لا تفرّطوا بالذي قضوا من أجله، وتحذّركم أن تضعف الهمم أمام غطرسة الباطل.
فكونوا ـ أيها المرابطون ـ أهلاً لبشرى رسولكم بالظهور على الحق حتى يأتي أمر الله وأنتم كذلك: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) ، والله يخاطبكم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].
جاء في الحديث الشريف عن سهل بن سعد رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، يستعدّ المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها لاستقبال شهر رمضان الفضيل، هذا الشهر المبارك الذي جعل الله صيامه في سائر الديانات، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. وهو شهر القرآن وشهر التراويح وشهر العزة والنصر للمؤمنين على مدار التاريخ. أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، فمن صامه إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ذنوبه لقول رسولنا الأكرم : ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه)).
فمن واجب المسلمين أن يقبلوا على مائدة الله في الشهر الفضيل، فيؤدّوا فريضة الصيام على الوجه الأكمل ليفوزوا بثواب الله الذي أعدّه لعباده الصائمين، فقد جاء في الحديث القدسي عن رب العزة: ((قال تعالى: كل وعمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به)).
أيها المسلمون، ويثبت شهر رمضان برؤية الهلال، فإن لم تثبت الرؤية تكمل عدة شهر شعبان ثلاثين يومًا لقول الرسول : ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا)).
إننا من على هذا المنبر الشريف نناشد المسلمين الذين تشترك ديارهم في جزء من الليل أن يصوموا معًا عملاً بالحكم الشرعي بوحدة المطالع، وإن ثبوت الرؤية في هذا الزمان أصبح متيسّرًا من خلال أجهزة المراقبة التي ترصد الهلال في بدايته. وإن الصيام الذي يوحد الأمة في مشاعرها وشعورها لحري أن يوحدها في بداية الصيام ونهايته، فأركان الإسلام توثّق عرى وحدة الأمة، وهي من أكبر مظاهر هذه الوحدة في الشعور والسلوك.
(1/3408)
صور لم تلتقِطها عدَسات المصوِّرين
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, الولاء والبراء
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
14/8/1424
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيان شدة عداوة اليهود للمؤمنين منذ فجر الإسلام. 2- صور حاضرة من جرائم اليهود ضد إخواننا في فلسطين: الحواجز العسكرية، التفتيش، مداهمات البيوت، هدم المنازل، تدمير الحرث والنسل، السرقة، إثارة الرعب، إشاعة الفاحشة، الإذلال والإهانة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، نستشهد دائمًا ويستشهد الكثيرون من الناس على عداوة اليهود بقوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ?لنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ [المائدة:82]، من حيث إنها تتضمن أمرًا ظاهرًا مكشوفًا يجده كل إنسان، والذي يلفت النظر في صياغة العبارة هو تقديم اليهود على الذين أشركوا في صدد أنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا، وأن شدة عداوتهم ظاهرةٌ مكشوفة وأمرٌ مقرر يراه كلُ من يرى ويجده كلُ من يتأمل، والعطف بالواو في التعبير العربي يفيد الجمع بين الأمرين ولا يفيد تعقيبا ولا ترتيبا، ولكنَّ تقديم اليهود هنا مع أنهم أهل كتاب على المشركين يجعل لهذا التقديم شأنًا خاصا غير المألوف، وهو يوجه النظر إلى أن كونهم أهل كتاب لم يغير من الحقيقة الواقعة شيئًا، وهي أنهم كالمشركين في العداوة أو أشد من المشركين عداوة.
إخوة الإسلام، وحين يستأنس الإنسان في تفسير هذا التقرير الرباني بالواقع التاريخي المشهود، منذ فجر الإسلام وحتى هذه اللحظة الحاضرة، فإنه لا يتردد في تقرير أن عداء اليهود للذين آمنوا كان دائما أشدَّ وأقسى وأعمق إصرارًا وأطول أمدًا من عداء الذين أشركوا.
لقد واجه اليهود الإسلام بالعداء منذ اللحظة الأولى التي قامت فيها دولة الإسلام بالمدينة، وكادوا لأمة الإسلام منذ اليوم الأول الذي أصبحت فيه أمة، وتضمن القرآن الكريم من التقريرات والإشارات عن هذا العداء وهذا الكيد ما يكفي وحده لتصوير تلك الحرب المريرة التي شنها اليهود على الإسلام وعلى رسول الإسلام وعلى الأمة الإسلامية في تاريخها الطويل، والتي لم تخبُ لحظة واحدة قرابة أربعة عشر قرنًا، وما تزال حتى هذه اللحظةِ يتسعر أوارها في أرجاء الأرض جميعًا، استخدموا في ذلك كلَّ الأسلحة والوسائل التي تفتقت عنها عبقرية المكر اليهودية، وأفادتها من قرون السبي في بابل والعبودية في مصر والذل في الدولة الرومانية، ومع أن الإسلام قد وسعهم بعدما ضاقت بهم الملل والنحل على مدار التاريخ فإنهم ردوا للإسلام جميله عليهم بأقبح الكيد وأشنع المكر منذ اليوم الأول في تاريخ الإسلام وإلى اليوم.
ولكنّنا ـ إخوة الإسلام ـ لن نستعرض في هذه العجالة ما تضمنه القرآن من عداوتهم وقبح طباعهم وقتلهم الأنبياء وجرأتهم على الرب جل جلالة، ولن نستعرض شواهد تاريخيةً مضت، ولكنا ننتقل سريعًا إلى عرض شيء من حال إخواننا في أرض الرباط، في أرض الإسراء والمعراج، في فلسطين المحتلة، ليتبين لنا أن عداوة اليهود لا تقارن بعداوة من سواهم، وأنهم فعلاً أشدُّ الناس عداوة للمؤمنين، أريد أن أنقل لكم صورًا من معاناة إخواننا لم تنقلها لكم عدسات المصورين، لبيان ما قرره كتاب الله من إجرام اليهود وعداوتهم، وهو من باب بيان سبيل المجرمين وطرائقهم، وليتبين أنه لا سلام مع من هذه حاله، ولنعرف حجم معاناة إخواننا فنقوم بالواجب علينا، وأقله الدعاء والدعم الفكري والمعنوي.
إخوة الإسلام، إن جرائم اليهود كبيرة وكثيرة جدًا، فهي ليست بالمئات أو الآلاف فقط، فتكاد أن لا تسلم عائلة في فلسطين من شرورهم الآن، وربما تناقلت وسائل الإعلام في العالم كله كثيرًا من صور الجرائم البشعة التي تمت على أيديهم في القديم والحديث، ولكن مع هذا فما ينشر عن معاناة أهلنا في فلسطين هو أقل القليل، وما سنذكره هو من روايات شهود العيان الصادقين من إخواننا، لا تحتاج لخطيب مصقع يلهب الحماسة، ولا تحتاج لشاعر يبكي بها العيون على وقع القوافي، نذكرها على سجيتها دون (رتوش) ولا تجميل، لأن القصصَ الداميةَ لا تحتاج للمحسنات البديعة ولا لجميل البيان.
إخوة الإسلام، إن الجرائم التي يمارسها اليهود لا تمثل شخصية شارون، بل إنها ممثِّلة لسياسة اليهود كلهم؛ فمن الذي دعمه في الانتخابات وأوصله إلى سدة الحكم إلا الأغلبية؟! ووصلت نسبة من يؤيدون سياسته الإجرامية في القمع والاغتيالات إلى أكثر من 72 في المائة كما بينت استطلاعات الرأي، وهي صفعة قوية لمن يحلم بسراب السلام والتطبيع مع اليهود.
مظاهر الحقد اليهودي كثيرة جدًا، ونأتي على شيء منها في المظاهر التالية:
أولاً: الحواجز العسكرية: لقد تحولت الضفةُ الغربية وقطاعُ غزة إلى سجن كبير، وقسِّمتا إلى نحو مائتي منطقة مغلقة ومعزولة بعضها عن بعض، وأقيمت الحواجز العسكرية التعسفية بينها، ومن يريد الذهاب من منطقته إلى منطقة مجاورة على بعد مائة متر فقط فربما يضطر إلى سلوك طرق التفافية تستغرق منه ساعتين، مائة متر تستغرق ساعتين كاملة! وكم من امرأة حامل وضعت جنينها عند الحواجز التي أقامها أبناء القردة والخنازير وهم ينظرون إليها ويتلذذون بمعاناتها، مع أن المستشفى لا يبعد عن الحاجز إلا بضع مئات من الأمتار، وكم من طفل مات بعد ولادته دون أن يجد من يسعفه، أو دون أن يأذن له الجنود الصهاينة بالمرور إلى المستشفى، وكم من مريض بالسرطان أو الفشل الكلوي وغيرهما من الأمراض الخطيرة مات عند هذا الحاجز أو ذاك، وكم من سيارة إسعاف حيل بينها وبين المرضى في قراهم النائية، وقد كثرت القصص التي تتحدث عن منع القوات اليهودية لسيارات الإسعاف من نقل المرضى والمصابين إلى المستشفيات أو المراكز الصحية.
إحدى النساء لم تتمكن من الذهاب إلى أي مركز صحي، فأجاءها المخاض في السيارة التي هي فيها عند الحاجز العسكري، ورزقها الله تعالى بمولودة أسمتها حاجز، لأنها ولدت عند الحاجز.
أحد الطرق الرئيسية وضع عليه اليهود حاجزًا لا تعبره السيارات، فينزل الناس ويترجلون ويركبون سيارات الأجرة في الجهة المقابلة، ثم وضعوا حاجزًا آخر يبتعد عنه خمسمائة متر، ليسير الناس هذه المسافة إلى أن يصلوا إلى سيارات الأجرة، ثم تمدد الفاصل بين الحاجزين في سنة واحد إلى ثلاثة كيلومترات يسيرها الناس ليصلوا إلى سيارات الأجرة، ومنهم العجزة وأصحاب العربات ومن معه أمتعه، ولا يضر اليهود قربه ولا بعده، ولكنه الحقد الأعمى والحرب النفسية على إخواننا.
أحد المرضى المسنين يعاني من فشل كلوي، ومن المفترض أن تتم عملية غسل الكلى له مرتين أسبوعيًا، لقد كانت رحلة ذهابه إلى المستشفى نوعًا من العذاب والمعاناة له ولذويه، حيث ينقل بسيارة الإسعاف إلى نقطة معينة هي آخر ما يمكن أن تصل إليه سيارة الإسعاف، بعدها يحمل على نقالة ويتعاقب على حمله أقاربه وجيرانه مشيًا على الأقدام، ثم يصعدون به تلاً غير ممهد حتى يصلوا به إلى المستشفى، وبعد إتمام عملية غسيل الكلى تبدأ رحلة المعاناة من جديد، ليمضي عدة ساعات في اليوم وهو على هذه الحال بين الألم والأنين، في انتظار الرحلة القادمة بعد يومين.
ثانيًا: التفتيش: نوع آخر من التعذيب، يقوم المجرمون بنصب الحواجز على الطرقات والمعابر، وهي كثيرة جدًا، وفي بدء الانتفاضة كان اليهود ينتظرون مرور أي سيارة محملة بالحجارة الكبيرة أو الرمل أو الحصى فيطلبون من السائق إفراغ الحمولة في الشارع لإغلاقه، فإن رفض أخذوا مفاتيح السيارة وأفرغوا الإطارات من الهواء وطردوا السائق، وغالبًا ما يجبر الشباب على خلع ملابسهم عند الحواجز، وأحيانًا يطلب منهم نزع ملابسهم كما ولدتهم أمهاتهم، ويفتشون بدقة، ويسلبون ما معهم من نقود، ثم يطردون عراة. ذكر شهود عيان أنه في إحدى المرات هرب مجموعة من الشباب بسيارتهم، فما كان من يهود إلا أن أطلقوا النار عليهم، فأصيب من في السيارة كلهم وعددهم ستة بجروح متنوعة بعضها بليغ.
ثالثًا: مداهمات البيوت: ليس عند اليهود مزيد من الوقت ينتظرونه لفتح الباب خلال مداهمة المنازل، فلذلك يقومون بنسف الباب عند وصول المنزل فورًا بأحدث الوسائل المتوفرة، وعند مداهمة كثير من البيوت يقوم اليهود بجمع أصحاب البيت كلهم في غرفة واحدة، أو يخرجونهم خارج البيت بعدما يعصبون أعينهم، ويعيثون في البيت فسادًا وتكسيرًا وتخريبًا وتفتيشًا، ويأخذون ما يجدونه في البيت من نقود وذهب ومستندات وأجهزة حاسب وغير ذلك، وبعد خروجهم يصبح البيت كأنه كومةٌ كبيرة من القمامة.
رابعًا: هدم البيوت: كل شاب أو فتاة يقوم بعملية استشهادية فإن بيته سيهدم ويدمر، وهذا أمر مفروغ منه، ومع ذلك العمليات مستمرة ويعلن الفلسطينيون عن اسم منفذ العملية، وعن مكان سكنه مما يدل على أنه لم يعد هناك شيء يؤسف عليه ما دام المحتل باقيًا.
ولكن هناك تهديم لكثير من البيوت دون القيام بعمليات ضد اليهود، فهذا المواطن الفلسطيني فرج حرباوي من القدس أصبح دون مأوى بعد أن أرسلت بلدية القدس جرافات في حراسة كتيبة من الشرطة إلى حي وادي قدوم الفقير بالقدس الشرقية وهدمت بيته، قال حرباوي: "طلبنا ترخيصًا لبناء بيتين من طابق واحد ورفضوا الطلب، تجادلنا معهم، ودفعنا الغرامة، ورخصوا لنا، وبعد إتمام البيتين، جاءت الجرافات وهدمت البيتين"، ومثل هذه القصص في القدس وغيرها كثير.
خامسًا: تدمير الحرث والنسل: في إطار خطتهم لتدمير البنية التحتية وحرق مصادر الرزق يقوم اليهود باصطحاب عدد كبير من الجرافات لتجريف وتدمير الأراضي الزراعية، فالجرافات تحرث الشوارع المسفلتة، وتجرف المزارع، وتهدم البيوت، ومن الطبيعي أن تجرف مزارع الخضروات البسيطة للمزارعين، وغالبًا ما يكون التجريف في وقت نضج الثمار، يتركون المزارع المسكين يشقى ويسقي ويجهد ثم يأتون في وقت النضج لتجريف مزرعته، أو رشها بالمبيدات المهلكة لها أو التي لا يمكن أكل الثمر بعدها.
ومما يدخل في تدمير البنى التحتية قطع أسلاك الهاتف والكهرباء من بعض المناطق، فضلاً عن نسف أبواب عامة المحلات والدكاكين، وقد نشرت صور كثير منها في وسائل الإعلام، وربما أطلقوا زخات من الرصاص داخل الدكاكين الصغيرة تلك لإفساد ما فيها إن كان ثمة شيء بقي فيها.
ومن تدميرهم للبنية التحتية ما يقومون به من تدمير السيارات، وذلك بإعداد كبيرة، وما من شارع تمر فيه الدبابات إلا وتدوس فيه على السيارات الموجودة كما تداس علبة المرطبات الفارغة مما لا أمل في إصلاحها، وقد شاهد الكثيرون في وسائل الإعلام صور عشرات السيارات التي دمرها اليهود بالكامل.
سادسًا: السرقة: يقوم اليهود بمصادرة الذهب والمال من المنازل عند تفتيشها، ومن أكثر ما يسألون الناس عنه: "هل عندكم ذهب؟ أخرجوه فورًا وسلموه لنا"، ويتم هذا تحت تهديد السلاح، والأطفال يتفرجون ويرون هذا الرعب.
ذكر بعض شهود العيان أن اليهود يمسكون بالمارة وهم عائدون إلى بيوتهم ويسلبون ما معهم من نقود، قائلين لهم: "اذهبوا واشتكوا إلى مجلس الأمن".
قام اليهود بالسطو على البنوك والجمعيات الخيرية ولجان الزكاة، وأكد هذا الأمر بعض المسؤولين الفلسطينيين الكبار.
قام اليهود بحرق وإتلاف جميع الوثائق والمستندات والدراسات في بعض مباني الوزارات المختلفة في بعض مناطق وقرى رام الله والخليل ونابلس وغيرها، مما يذكر بأفعال المغول التتر.
سابعًا: إثارة الرعب: الحالة النفسية لدى الشيوخ والأطفال والنساء تسوء عند الكثيرين؛ مما أدى إلى زيادة أمراض ضغط الدم والسكري والكوابيس والتبوّل اللاإرادي لدى الكثير من الأطفال، وقد ذكر أحد الأطباء النفسيين المعروفين أن نسبة التبول اللاإرادي بين الأطفال في منطقة غزة تمثل نحو 35 في المائة بين الأطفال.
يقوم اليهود المجرمون بقطع التيار الكهربائي في معظم الأحيان عن القرى خصوصًا خلال الليل؛ مما يقصد منه إثارة الرعب والخوف لدى الناس، ولا يعرفون مما يجري شيئًا سوى سماع هدير الدبابات والطائرات وأزيز الرصاص طوال الليل، ولا يملكون إلا فرج الله، ثم ترقُّب الصباح.
ثامنًا: إشاعة الفاحشة: سيطر الجيش اليهودي على محطات تلفزة محلية فلسطينية في رام الله، وراح يبث منها أفلامًا إباحية ثلاثة أيام على التوالي، ولا زال جنود الاحتلال بين فترة وأخرى يسطون على هذه المحطات ويعرضون فيها أفلامًا أغلبها إباحية بحتة، إضافة إلى أفلام صهيونية تدّعي حق الصهاينة في فلسطين.
تاسعًا: كيف يعامل اليهود المرأة المسلمة في فلسطين؟ هناك كلام بذيء وسيئ للغاية لا يكتب ولا يقال في وسائل الإعلام ولا منابر الجمعة يتلفظ به اليهود أمام النساء والبنات أثناء مداهمة البيوت، وهو كلام ينم عن شخصية اليهودي المنحطة المرذولة.
اعتداء اليهود على النساء عند الحواجز: بعد العمليات الاستشهادية بدأت قوات اليهود بإيقاف النساء على الحواجز وتفتيشهن، ومن ترتدي الخمار يطلب منها رفعه وكذلك خلع القفازين، حتى وصل الأمر إلى أنهم في إحدى المرات أمسكوا بإحدى الفتيات من شعرها وأخذ الجنود اليهود يجرونها من شعرها، ومثل هذه القصة كثير.
المرأة الحامل يطلب منها الجيش اليهودي رفع ملابسها حتى يتأكدوا أنها حامل وليس بحوزتها حزام ناسف على بطنها.
وفي قصص كثيرة طلب الجيش اليهودي من النساء كشف وجوههن أو شعورهن، وخاصة إذا كانت عروسًا، فإن السفلة يحرصون على رؤيتها.
أوقف الجيش اليهودي سيارة فورد تحمل بعض الطالبات المحجبات، فطلبوا منهن النزول والوقوف على الأرض حتى توقفت سيارات أخرى في نفس المكان، وفيها بعض الشباب، فأنزلوهم وطلبوا من كل منهم تقبيل إحدى الطالبات، فرفض الشخص الأول ذلك وقال: "اقتلوني ولا أفعل هذا"، فقال له الجندي: "لا بل خذ علبة الكبريت هذه وأشعل النار في ذاك الإطار" (عجلة سيارة)، وإذا بالإطار قد ملئ بالبنزين والشاب المسكين لم يكتشف ذلك، فاشتعلت النار في وجهه فهرب والنار مشتعلة فيه، وحاول هو وزملاؤه إطفاء الحريق ولكن المسكين تغيرت معالم وجهه، وبقي في المستشفى مدة طويلة.
وفي أوائل شهر أبريل 2002م جاء في قناة الجزيرة الفضائية خلال إحدى نشرات الأخبار القصة الآتية: تقول الأخت التي روت القصة: "إن ثلاث فتيات كن يسرن في الطريق، فاستوقفهن أحد الجنود اليهود، وطلب منهن تحت الإكراه كشف عوراتهن!! وتقول: إن إحداهن كانت ترتدي العباءة، فأجبرها على رفع العباءة إلى أن بان صدرها. تقول: أما أنا فقد طلب مني رفع البلوزة (القطعة العلوية من لباس النساء)، وأمرني بأن أكون على هيئة السجود"، ثم لم تستطع أن تواصل الحديث.
يحصل هذا ونحن نسمع ونرى وأمة المليار لا تستطيع فعل شيء لإنقاذهن! لا نتكلم إلا عن السلام وإنقاذ عملية السلام، نسأل الله أن يقيم علم الجهاد، لينكشف وَهمُ القوة التي يزعمون أنها لا تقهر، وحتى يبطل عن اليهود حبل الناس، فيعودوا كما كتب عليهم من الذلة والمسكنة، ويسومهم سوء العذاب بأيدينا أو بأيدي أولادنا أو أحفادنا، وكل آت قريب، وما ذلك على الله بعزيز، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، لا ينقضي العجب من هذه المظاهر التي يقوم بها اليهود وما هي إلا مصداق لما ذكر الله في كتابه، عداوة مريرة، وحقد أزرق، لا يمكن أن تتفتق عنه إلا أنفس الحيات والعقارب وأراذل البشر، ممن رضعوا سمًا زعافًا في الكبرياء والغطرسة والحقد على الآخرين، وما تقدم غيض من فيض ونزر يسير من بحر لجيٍ كبير، وكثيرة هي القصص، ولكنا نذكر منها ما يحصل به البيان.
إخوة الإسلام، العاشر من مظاهر الحقد والعداء اليهودي: سياسة الإذلال والإهانة، ولها صور متعددة وقصص كثيرة، فهذا شخص فلسطيني كان يقود سيارته للنقل كانت تحمل دهانات، فأوقفه اليهود وطلبوا منه فتح جالونات البوية وسكبها على أرضية السيارة، ولما سكب العديد منها واختلطت ببعضها أمروه بالجلوس عليها. ما المقصود من هذا؟ وما هي فائدتهم؟ إنه الإذلال والإهانة وشفاء ما في صدورهم.
يقول أحد شهود العيان: "قبل موسم الحج ولدى محاولة البعض الخروج إلى الأردن للذهاب عن طريقها إلى الحج رفض المسؤول اليهودي خروجهم، ثم طلب من المجموعة التي كانت ستسافر إلى الحج بالطواف حول الدبابة، قائلاً: إن الدين في القلب ويغني عن الطواف بمكة أن يطوفوا حول هذه الدبابة"، قاتلهم الله.
وهناك قصص كثيرة من هذا النوع، فعند إحدى نقاط التفتيش في إحدى القرى مر رجل يرتدي بدلة لونها كحلي فاقع ومعه حقيبة دبلوماسية، فطلب منه اليهود أن يجلس على الأرض الترابية فجلس على حقيبته، فقال له الجندي: اجلس على الأرض، فجلس، ثم طلب منه النوم على شقه الأيمن ثم على شقه الأيسر ثم قال: على ظهرك، ثم قال: على بطنك، وما كان من الرجل إلا أن امتثل لما قال الجندي وأصبحت بدلته مثل لون التراب، ولو لم يفعل ذلك لكان لقي ما لا تحمد عقباه.
عادة ما يقف الجيش على الطرقات ويوقفون السيارات المارة فيطلبون من الشباب الوقوف ووجوههم إلى الشمس وأيديهم مرفوعة إلى الأعلى، وفي إحدى المرات تكلم شاب على يهودي بغضب، فأوقفوه جانبًا وطلبوا منه الوقوف، ثم طلبوا منه فتح رجليه إلى أبعد نقطة يستطيعها ثم انهالوا ضربًا على رجليه ومفاصله حتى سقط أرضًا بزاوية 180 درجة، وحمل إلى المستشفى.
أحد مندوبي المبيعات كان معه ابنه الوحيد، ولحبه له فقد كان ابنه متعلقًا به دائمًا، سأله اليهود: كم عندك من الأولاد؟ قال: من الذكور هذا، قالوا له: هل تحب أن يموت؟ قال الأب: لا، فأخذ الجنود الكلاب الولد وأوقفوه على بعد عدة أمتار، وطلبوا من والده الوقوف والنظر إليهم وهم يتدربون على إطلاق النار من بعيد بالقرب من الولد، فمرة يمر الرصاص من أمامه ومرة عن يمينه أو يساره أو من بين رجليه، ولم يتوقفوا إلا عند الغروب بعد أن جمد الدم في عروق الرجل. يقول الرجل: "والله، كنت أموت مع كل رصاصة موتة"، ألا لعنة الله على اليهود. نعم إخوة الإسلام، هذا الفن لا يتقنه إلا اليهود، ومع مَنْ؟ مع الذين آمنوا.
الحادي عشر: القتلى والجرحى من الأطفال: هناك تقارير كثيرة مفصلة في هذا الجانب، حيث قتل عشرات الطلاب ممن كانوا على مقاعد الدراسة، وهؤلاء الأطفال قتلهم جنود الاحتلال الإسرائيليون بدم بارد وبوحشية لا توصف، معظمهم قضوا نحبهم وهم في الطريق إلى مدارسهم، أو عائدون إلى بيوتهم، ومنهم من قُتل وهو في بيته، بين كتبه ودفاتره وألعابه، والشواهد على ذلك كثيرة؛ فمحمد الدرة قتل وهو عائد إلى بيته، وإيمان حجو الطفلة الصغيرة التي اخترقت القذائف جسمها الصغير، وسامر طبنجة الذي قتل وهو يلعب في محيط منزله، وأبو دراج قتل وهو في غرفته وعلى سريره إلخ... وعشرات القصص المماثلة، أما الإصابات فهي بالآلاف، وقد أدت قذائف وصواريخ ورصاص الاحتلال الإسرائيلي إلى جرح آلاف الأطفال، ومنهم من أصيب بجراح خطيرة سببت لهم إعاقات وعاهات دائمة، ومنهم من فقد عينه أو رجله أو يده، فضلاً عن قصف مئات المدارس لا العشرات بمختلف أنواع الأسلحة الثقيلة: رصاص الرشاشات وقذائف الدبابات وصواريخ الطائرات، بشكل همجي سافر، لا مثيل له في التاريخ.
وفي أكثر المشاهِد وحشية ما أقدمت عليه قوات الاحتلال حين قصفت الدّبابات مدرسة المكفوفات في مدينة البيرة، حيث دبّ الرعب والهلع في صفوف الطالبات الكفيفات وتفرقن في صخب على غير هدى، ويتقصد اليهود المدارس أثناء وجود الطلبة على مقاعد الدرس وأحيانًا وهم يقدمون امتحاناتهم لقتل أكبر عدد ممكن منهم.
الثاني عشر: هذا هو شارون يقول: "أتعهد بأن أحرق كل طفل فلسطيني يولد في هذه المنطقة؛ فالأطفال والنساء الفلسطينيون أكثر خطورة من الرجال؛ لأن وجودهم يعني استمرار أجيال قادمة من الفلسطينيين".
هذا ما قاله رئيس الوزراء الصهيوني إريل شارون في لقاء معه نشر عام 1956م، والذي أوضح فيه المبادئ التي ما زال يتبعها في حربه ضد الفلسطينيين بعد مرور 45 عامًا.
وتنقل صحيفة (فلسطين كرونيكل) الفلسطينية الصادرة بالإنجليزية في عددها الصادر على الإنترنت الاثنين 1/4/2002م بقية حوار شارون الذي قال فيه: "أتعهد بأني حتى لو فقدت كل المناصب وأصبحت مواطنًا (إسرائيليًا) عاديًا، فإنني سأحرق كل فلسطيني أقابله في الطريق، وسأجعله يتعذب قبل أن يموت"، وأضاف: "أنا لا تهمني الأعراف الدولية؛ فقد قتلت بضربة واحدة أكثر من 750 في رفح عام 1956م، وأريد أن أشجع جنودي على اغتصاب الفتيات الفلسطينيات؛ لأنهن عبيد لـ(للإسرائيليين)، ولا يملي أحد علينا إرادتنا، بل نحن من يصدر الأوامر، وعلى الآخرين الطاعة"، وأمريكا تقول: هذا رجل السلام! ويحق له أن يدافع عن نفسه!! وينبغي أن لا تشعر إسرائيل بأنها مقيدة في الدفاع عن نفسها، وهذا ميزان العدل عند من يدعونه، وهؤلاء هم شركاء السلام ارتموا في أحضان اليهود في هيام تاريخي وقصة حب عجيبة، وَسَيَعْلَمْ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227]، وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3409)
إعداد القوة النفسية
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
6/3/1424
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المؤمن قوي في دينه وفي علمه وعمله. 2- حاجة الأمة إلى بناء النفوس القوية التي تقف في وجه الأزمات. 3- أثر الاستعمار في توهين قوى المسلمين الروحية والخلقية. 4- المعالم التي يتميز بها المؤمن القويّ. 5- التحسّر على الماضي ليس من أخلاق المؤمن القوي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
معاشر المسلمين، إن صدق العقيدة وصحتها يضفي على صاحبها قوة تظهر في أعماله كلها، فإذا تكلم كان واثقا، وإذا عمل كان ثابتًا، وإذا جادل كان واضحًا، وإذا فكّر كان مطمئنًا، لا يعرف التردد، ولا تميله الرياح، قوي العلم، قوي الجسم، وقبل ذلك وبعده قوي الدين، يأخذ تعاليم دينه بقوة لا وهن معها، ممتثلاً لقول الله جل وعلا: خُذُواْ مَا ءاتَيْنَـ?كُم بِقُوَّةٍ [البقرة:63]، وقوله: ي?يَحْيَى? خُذِ ?لْكِتَـ?بَ بِقُوَّةٍ [مريم:12].
المؤمن يأخذ أمره بعزيمةٍ لا رخاوة معها، وقوةٍ لا ضعف فيها، لا قبول لأنصاف الحلول، ولا هزال، ولا استهزاء. هذا هو عهد الله مع أنبيائه والمؤمنين، جد وحق، وصراحة وصرامة.
المؤمن القوي يثق بما يوقن به، ويعرف برهان فعله، ثم لا يأبه بما يلقاه من سخرية واستنكار، قدوته في ذلك سيد الأقوياء من البشر محمد ، يقول رسول الهدى : ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)).
أيها المسلمون، إننا نطالب بإعداد القوة لمجابهة أعداء الدين، وإن أول خطوة نخطوها في ذلك هي إعداد المؤمن القوي، ذلك أن المؤمن القوي هو عماد الرسالات وروح النهضات ومحور الإصلاح، أعِدَّ ما شئت من معامل السلاح والذخيرة فلن تقتل الأسلحة إلا بالرجل المحارب القوي، وضَع ما شئت من مناهج للتعليم والتربية فلن يقوم المنهج إلا بالرجل الذي يقوم بتدريسه، وأنشئ ما شئت من لجان فلن تنجز مشروعًا إذا حُرمتَ الرجل الغيور.
سقطت دول تملك السلاحَ دون أقوياء الرجال، وبقيت مقاومة أقوياء الرجال تثخن في أعداء الله وهي في قلة من السلاح. ذلك ما يقوله الواقع الذي لا ريب فيه.
إن القوة ليست بحد السلاح بقدر ما هي في قلب الجندي، والتربية ليست في صفحات الكتاب بقدر ما هي في روح المعلم، وإنجاز المشروعات ليس في تكوين اللجان بقدر ما هو في قوة القائمين عليها.
إن الأمة اليوم أحوج ما تكون إلى زرع القوة في أفرادها دينًا وعلمًا وخلقًا. تحتاج الأمة اليوم إلى المؤمنين الأقوياء، والذين يحملون في قلوبهم قوة نفسية تحملهم على معالي الأمور، وتبعدهم عن سفسافها، قوة تجعل أحدهم كبيرًا في صغره، غنيًا في فقره، قويًا في ضعفه، قوة تحمله على أن يعطي قبل أن يأخذ، وأن يؤدي واجبه قبل أن يطلب حقه، يعرف واجبه نحو نفسه، ونحو ربه، ونحو بيته ودينه وأمته.
تحتاج الأمة اليوم لأن ترى انتصارات أبنائها في ميادين التحديات الصغيرة، فمن انهزم في الميدان الصغير سيخذلنا في الميدان الكبير، ومن خارت قواه أمام الشهوات فسيخذلنا في الجبهات، ومن هزم في ميدان "حيَّ على الصلاة" فسيهزم قطعًا في ميدان "حي على الكفاح". نريد أن يمتلئ المجتمع بالنفوس القوية والتي تتعالى على شهواتها، وتنتصر على رغباتها، وتتحول إلى نفوس مجندة لخدمة هذا الدين، وليس هذا فحسب، بل نريد القوة المتكاملة بجوار قوة الدين والنفس، نريد قوة البدن وصلابته، ونريد قوة العقل وحدته، نطالب كل مسلم أن يتحول إلى مؤمن قوي يتكفل بنفسه، وينطلق إلى غيره، معتصمًا بالله، متوكلاً عليه، قويًا بإيمانه، معتزًا بإسلامه، لا ينهزم في الحروب النفسية التي تدير رحاها وسائل الإعلام دون سلاح، لا تكن سماعًا لهم، كن واعيًا، كن واثقًا، كن حذرًا، لا تكن عاهة مستديمة في أمتك، عالة على مجتمعك، طور نفسك، احفظ عقلك ووعيك، كن صعب المراس، لا تسهل خديعتك، واعلم أن القوة التي نريد في الدرجة الأولى قوة الإيمان والنفس، وتأتي قوة البدن تبعًا، وليست القوة بعظمة الجسم وطولِ القامة وقوةِ البنية مع ضعف الدين والعقل:
لقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير
وتضربه الصغيرة بالهراوى فلا حسَّ لديه ولا نكير
وكان عبد الله بن مسعود نحيفًا نحيلاً، فانكشفت ساقاه يومًا وهما دقيقتان هزيلتان، فضحك بعض الصحابة، فقال الرسول : ((أتضحكون من دقة ساقيه؟! والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من جبل أحد)). فالمرء قيمته بأصغريه، لا بيديه ولا رجليه:
ترى الرجل النحيل فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور
ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير
وليست القوة بتقدّم السن وطول العمر، فكم من شيخ في سنّ السبعين وقلبه في سن السابعة، يفرح بالتافه، ويبكي على الحقير، ويتطلع إلى ما ليس له، وكم من غلام في مقتبل العمر، ولكنك ترى الرجولة المبكرة في قوله وعمله وتفكيره وخُلقه.
إخوة الإسلام، إن خير ما تقوم به دولة لشعبها وأعظم ما يقوم عليه منهج تعليمي وأفضل ما تتعاون عليه أدوات التوجيه كلها من صحافة وإذاعة ومسجد ومدرسة هو صناعة هذه القوة وتربية هذا الطراز من الرجال. ولم تر الدنيا مؤمنًا قويًا في أجلى الصور وأكمل المعاني كما رأتها في تلك النماذج الكريمة التي صنعها الإسلام على يد رسوله العظيم ، من رجال يكثرون عند الفزع، ويقلّون عند الطمع، لا يغريهم الوعد، ولا يلينهم الوعيد، لا يغرّهم النصر، ولا تحطمهم الهزيمة.
أما اليوم، وقد أفسد الاستعمار جوّ المسلمين بغازاته السامة الخانقة من إلحاد وإباحية، فقلّما ترى المؤمن القوي، ويختنق الأمل في نفسك عندما ترى شبابًا يعرضون زنودهم القوية في الطرقات، ويملؤون المقاهي والمنتزهات، ومع ذلك هم من مظاهر الضعف، لأنه ليس منهم غناء، بل هم عاهة اجتماعية، نسأل الله لهم الهداية.
وهذا الدين لا يشكو من قلة الرجال، فإنه يضمّ ما يزيد على ألف مليون مسلم، ينتسبون إليه، وُيحسبون عليه، ولكنهم كما قال رسول الله : ((غثاء كغثاء السيل)) ، أو كما قال الشاعر:
يثقلون الأرض من كثرتهم ثم لا يغنون في أمر جلل
وماذا يغني عن الإسلام رجال أهمتهم أنفسهم، وحكمتهم شهواتهم، وسيرتهم مصالحهم، فلا وثقوا بأنفسهم، ولا اعتمدوا على ربهم؟! رجال يجمعهم الطمع، ويفرقهم الخوف، أو كما قيل: "يجمعهم مزمار وتفرقهم عصا".
أما والله لو ظفر الإسلام في كلّ ألف من أبنائه برجل واحد فيه خصائص القوة لكان ذلك خيرًا له وأجدى عليه من هذه الجماهير المكدسة التي لا يهابها عدو ولا ينتصر بها صديق.
فليت لي بهمُ قومًا إذا ركبوا شنوا الإغارة فرسانًا وركبانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، إنّ المؤمن القوي يقوم على ركنين هما الإيمان والقوة، وهذان يتضمنان معالم نذكر أهمها باختصار:
أولها: همه الآخرة، يحبّ الموت في سبيل الله ويكره الحياة الدنية.
ثانيها: الثقة بموعود الله.
وثالثها: الاستعلاء عند نزول المصائب.
ورابعها: استقلال التفكير المبني على العلم، وينتج عن ذلك عدم تصديق الأكاذيب التي يقوم على تسويقها الكفار والمنافقون؛ لأن مصاب الأمة أن فيها سماعين لهم.
وإن مجتمعًا كهذا يعد خطيرًا ولو كان مجردًا عن السلاح.
و من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، والتوكل على الله هو ضرب من الثقة به، وحين قال عليه الصلاة والسلام: ((استعن بالله ولا تعجز)) ، فهو يمثّل صورة أخرى من صور قوة الإيمان، إنها قوة العزم والأخذ بالأسباب على وجهها، يستجمع المؤمن في ذلك كل ما يستطيع في سبيل تحقيق غاياته، غير مستسلم للحظوظ.
إن المرء مكلّف بتعبئة قواه وطاقاته لمغالبة مشكلاته إلى أن تنزاح عن طريقه، فإذا استطاع تذليلها فذلك هو المراد، ثم بعد ذلك يكل أمره إلى ربه ومولاه، أما التردد والاستسلام للهواجس والوساوس وتغليب جوانب الريب والتوجّس فهذا مجانب للقوة وصدق العزيمة.
فالقوة إنما يكون في الجزم والحزم والأخذ بكل العزم، وقبل ذلك وبعده التوكل على الله والاستعانة به، ولهذا كان من أعظم المصائب الهدامة العجز والكسل والجبن والبخل، فهي صور من صور الضعف والخور، وقد استعاذ منها جميعها نبيّكم محمد في دعاء رفعه إلى مولاه قائلا: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)) متفق عليه. إنها كلّها أمراض تصبّ في مصابّ الضعف والانهزام النفسي والعملي.
إن الصبر والرجاء هما عدة اليوم والغد، يتحمّل المرء في ظلّهما المصائب الفادحة، فلا يذلّ، بل يظلّ محصّنًا من نواحيه كلها، عاليًا على الأحداث والفتن، لأنه مؤمن، فالمؤمن لا يضرع إلا لله.
إن استعادة الأحزان والتحسر على ما فات والتعلّق بالماضي وتكرار التمني بـ"ليت" والتحسّر في الزفرات بـ"لو" ليس من خلق المؤمن القويّ، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان، وما عمله إلا الهواجس والوساوس، فهو الوسواس الخنّاس، فلا التفات إلى الماضي إلا بقدر ما ينفع الحاضر ويفيد المستقبل.
فاتقوا الله رحمكم الله، واستمسكوا بعرى دينكم، وخذوا أمركم ودينكم بقوة وحكمة، وسيروا في درب الحق بعزيمة، متوكلين على ربكم، معتصمين بحبله، تكونوا من الراشدين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3410)
الإيدز أفيون العصر
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
11/10/1424
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حيرة العالم بأسره أمام هذا الداء.2- الإيدز عقوبة إلهية عاجلة. 3- انحطاط في جانب القيم والأخلاق. 4- إحصائيات مذهلة لسرعة انتشار هذا المرض. 5- بيان العلاج الشرعي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، لقد قضت سنة الله تعالى أن الأمم لا تفنى ولا تدمّر إلا حين تسقط الهمم وتستسلم الشعوب لشهواتها، فتتحول الأهداف من مثل عليا إلى أهداف دنيئة، فتسود فيها الرذائل، وتنتشر الفواحش، وتفتك بها الأمراض الخبيثة، فلا تلبث أن تتلاشى وتضمحل، وتصيبها السنة الإلهية في التدمير. ولقد قص الله علينا من أنباء السابقين ما فيه عظة وزجر للآخرين، ونشهد اليوم من أحوال الزائغين التائهين ما يؤكد العبرة عبر القرون.
أيها الإخوة، يُثار هذا الكلام وتُقلَّب صفحاته والملايين من البشر يتقلبون في أمراض فتاكة ناتجة عن الرذيلة، يتجرعون غُصصها وأوجاعها، ولا زال الأطباء والعلماء، بل والعالم بأسره يتشوّفون لعلاج ناجع يخلّصهم من وبيل سياطها، لكنهم لما يفلحوا في إيقافها، فضلاً عن اقتلاع جذورها، والإسلام خير لهم لو كانوا يعلمون. لقد جاء الإسلام بما يحفظ العقول والأبدان من الأوبئة والأمراض، وذلك بتشريعاته السامية التي أحاطت جانب العِرض بسياج من العفة منيع، وهذّبت الغرائز، فأباحت الحلال الطيب، وحرمت وعاقبت على المنتن الخبيث.
ومع حديث العالم عن سرطان العصر وآثاره ومسبباته وأرقامه وإحصائياته وذلك في اليوم العالمي لمكافحة الإيدز نساهم نحن في دفع هذا الوباء الوبيل، ولكن بتصور الشرع الحكيم المنزه عن الخطأ والخلط وسوء القصد.
أيها المسلمون، إن هذا المرض كما هو معروف ينتشر بصورة أكبر بين الشواذ اللوطيين والمساحقات والزناة والمتعاطين للخمور والمخدرات وكل من وقع في حمأة الرذيلة في بلاد القوم الذين ارتضوا الفاحشة وأعلنوا بها، وهو الطاعون المدمر والوباء الكاسح، والذي يعاني المريض فيه من الآلام والأوجاع لمدة سنوات قبل أن يقضي نحبه، هذا علاوة على الآلام النفسية المدمرة للمريض بعد نبذه من أقرب الناس إليه، بل والهروب منه والهلع حتى من جثته بعد موته، وقد نشرت إحدى المجلات الأمريكية خبرَ وفاة امرأة أمريكية بلغت من العمر خمسة وخمسين عامًا، وقد أصيبت بالإيدز، فرفض الحانوتي الذي يجهز الموتى أن يستلمها، أما الطبيب فقد قام بإحراق قفازاته وأدواته وثيابه التي استعملها أثناء التشريح.
إن هذا المرض لم يسمع به أحد من قبل، فلم يُسبق أن اكتُشف فيروس هذا المرض ولا عرِفت أعراضه ولا الفيروس المسبّب له قبل زمننا هذا، أليس هذا المرض وأمثاله هو عقوبة إلهية لمن انتكست فطرهم من الخلق فاستبدلوا بالعفة والطهارة الفواحش المحرمة من الزنا واللواط والسحاق وأعلنوا بتلك الفواحش إباحةً ورضًا وتفاخرا؟! أليس ذلك هو عين ما أخبر عنه نبي الإسلام منذ أربعة عشر قرنا من الزمان: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) رواه ابن ماجه، وفي الحديث الآخر: ((ولا فشا الزنا في قوم قط إلا كثر فيهم الموت )) رواه مالك في الموطأ؟! ولقد أشارت هذه الأحاديث إلى حقيقة هامة وهي أن هذا الأمر سنة جارية ونظام لا يتخلف في أي قوم قط من أي دين أو جنس أو بلد، طالما ظهرت وكثرت فيهم الفاحشة واستعلنوا بها واستمرؤوها، ظهرت فيهم الأوبئة والأوجاع الجديدة التي لم تُبتَلَ بها الأجيال قبلهم، والذي يؤكّد هذه الحقيقة طبيعة الأمراض التي تنتقل عن طريق الزنا والشذوذ، فهي أمراض تسبّبها جراثيم ذات طبيعة خاصة، فهي لا تصيب إلا الإنسان، ولا تنتقل إليه إلا عن طريق الجنس أو الدم، ولهذه الجراثيم مقدرة عجيبة في اختراق جلد الأعضاء التناسلية والشفاه، وتصل الإصابة بها إلى عمق الأجهزة التناسلية، بل وإلى عموم الجسم، ولا يوجد لهذه الجراثيم أمصال تقِي الجسم من أخطارها، ولا يكوّن الجسم منها مناعة طبيعية؛ لأن هذه الجراثيم تتغير خواصها باستمرار مما يجعلها مستعصية العلاج، والجسم غير قادر على مقاومتها، ومن الممكن أن تظهر بصور وصفات جديدة في المستقبل. وهذا يؤكد أن المزيد من هذه الأوبئة الكاسحة والأوجاع المميتة ما زالت تنتظر الشاردين عن نداءات الفطرة وتعاليم السماء.
إنه الشبح المخيف والمرض المرعب واللوحة السوداء لحضارة الرجل الأبيض، إنه ثمرة الانحراف الخلقي ونتيجة الزهد في القيم، وهو نموذج مشين لأي حضارة لا يرعاها الإسلام ولا يتولى دفتها المسلمون.
لقد بلغ الغرب مبلغًا من التطور والتقنية المادية، وبلغ حدًا لا يجارى في الصناعة والعمارة، ولكنه أفلس في قيادة العالم في المضمار الحضاري بمفهومه الصحيح، برعاية القيم واعتبار الخُلُق والمحافظة على الطهر والعفاف، ووصل دون مبالغة إلى البهيمية في أخلاقه في تلك الديار بحدائقها ومتنزّهاتها وشواطئها وأفلامها وقنواتها. إن انتشار مرض الإيدز وإعلانَ العجز عن مقاومته مؤشر لهذا الإفلاس الحضاري، ومانعٌ من القيادة الراشدة لركب سفينة العالم.
إخوة الإسلام، مرض الإيدز أو نقص المناعة المكتسبة هو وباء آت من فساد الأخلاق، وإن الطريق الوحيد الذي نتج المرض بسببه هو الرذيلة، وذلك في عام 1981م يعني قبل ما يزيد على عشرين عامًا، وعلى الرغم من مرور هذه السنين فإن العالم يقف اليوم عاجزًا عن حل هذه المشكلة، بل إن المشكلة تضاعفت واستفحلت، وأصبح انتشار المرض اليوم أسرعَ من انتشار النار في الهشيم، ومع كل طلعة شمس هناك ما يصل إلى أربعة عشر ألف إصابة جديدة بالإيدز على مستوى العالم بواقع 10 إصابات كل دقيقة، تتسع دائرة الصدمة عندما نلحظ الارتفاع الصاعق من حالة واحدة في أوائل الثمانينات عند أول اكتشاف للفيروس إلى 42 مليون مصاب حاليًا أكثرهم من الشباب، ومنذ أن بدأ الوباء فقد أكثر من 16 مليون شخص حياتهم، وقد أصبح الإيدز بلا شك أحد الأمراض المُعْدِية الفتَّاكة الرئيسية، إذ بلغ صرعاه في عام 1999م وحده 2.6 مليون نسمة، مما يعني وفاة 7123 شخصًا يوميًا أو 297 شخصا كل ساعة أو 5 أشخاص كل دقيقة، وإذا كان الإيدز قد صعد من المرتبة السابعة إلى المرتبة الرابعة في قائمة أسباب الوفاة في العالم، وإلى المرتبة الأولى في أسباب الوفاة في إفريقيا، فالصورة في المنطقة العربية كما تعكسها الأرقام قد لا تبدو مفزعة للوهلة الأولى، فبرنامج الأمم المتحدة للإيدز يقدر عدد المصابين وحاملي الفيروس في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بـ550 ألف حالة، وكثير من الباحثين يشكك في الأرقام المعلنة في الدول العربية لأن المجتمع ما زال يمارس الستر ويتعامى عن المرض ولا يساهم في دفعه، بل يترك الحبل على الغارب حتى تأتي الفواجع على أمة الإسلام.
إخوة الإسلام، ويخطئ البعض حينما يظنون أن وباء الإيدز مشكلة خاصة بالمجتمعات الغربية أو بالمجتمعات غير الإسلامية على وجه أعمّ، ولتجلية خطأ هذا الظن ينبغي أن يعلم أن المجتمعات البشرية المتنوعة والمتباعدة بفعل التطور المهول في وسائل النقل والاتصال صارت كالمجتمع الواحد، فما يستشرى في بعضها من أضرار وأمراض يوشك أن ينتشر في البعض الآخر في وقت يسير.
ثم إن الأسباب التي أدّت إلى انتشار الوباء في المجتمعات المنحلّة موجودة في المجتمعات العربية والإسلامية ولو بنسبةٍ أقل، وفي السنوات الأخيرة وبعد حرب الخليج الثانية والتبشير بالنظام العالمي الجديد نحَت بعض الدول العربية إلى تقنين الرذيلة أو على الأقل التغاضي عنها، ورأى الناسُ المخازيَ والدواهيَ في دولٍ كان اللائق بهم أن يشكروا نعمة الله عليهم، ولكنهم بدلوا نعمة الله كفرًا، وأصبحت السياحة عندهم متاجرة بالنساء، ويزداد الأسف إذا عُلم أن نسبة كبيرة منهن من العربيات، ومن المسلمات في كثير من الأحيان، وإذا استهين بهذا الواقع المرير فإن المصير واحدٌ وسنن الله لا تحابي أحدًا، وقد بدأت الإحصائيات تتوالى عن أعداد مرضى الإيدز في البلاد العربية وفي دول الخليج، ونحن لسنا بمعزل عن العالم، وعندنا من العمالة ومن الشباب الفاقد للمسؤولية ما هو كفيل بنقل هذا المرض إلى قعر بلادنا، وأصبحت صحفنا تذكرها على استحياء، وبلغ عدد المرضى وفق تصريح أعلنه مدير البرنامج السعودي للوقاية من مرض فقدان المناعة المكتسبة "الإيدز" يوم الثلاثاء الماضي الثامن من شوال أنه تم إحصاء 6787 إصابة بالإيدز بينها 22 في المائة لسعوديين في المملكة. وقال مدير البرنامج أن عدد السعوديين المصابين بلغ 1509، أما غير السعوديين فهو 5278 تم ترحيلهم بعد إجراء فحوصات طبية إجبارية للحصول على تأشيرة الإقامة.
وأضاف وفقا لصحيفة الراية أن الإصابة انتقلت في 45 في المائة من الحالات عن طريق علاقات جنسية، وأن 77 في المائة من الإصابات بين الرجال، وأشار إلى أن أعمار المصابين تتراوح بين 15 و45 سنة، مضيفًا أن وزارة الصحة أنفقت 24 مليون ريال على حملات التوعية لمكافحة الإيدز.
وفي شهر رجب من هذا العام أعلنت وزارة الصحة عن وفاة 450 مواطنًا سعوديًا بالإيدز، وفي اليوم الثامن من الشهر نفسه صرح د. عبد الله الحقيل لصحيفة الرياض أن 400 شخص يتلقون العناية والمتابعة في المستشفى، وأن 20 في المائة من الحالات التي سجلت في المستشفى نقلت داخليًا ولم يسافروا إلى الخارج، وأن 90-95 في المائة من النساء المصابات في المستشفى كانت الإصابة عن طريق أزواجهن، وذلك في العشر السنوات الأخيرة، ونأخذ من هذه الإحصائيات أن المشكلة بدأت تنتقل إلى قعر دارنا، وأن كثيرا من النساء إنما هن ضحايا لبعض الأزواج.
وهذا الأمر لم يعد سرًا نتغاضى عن ذكره وعلاجه، بل هو ظاهرة مثيرة للجدل اليوم، فقبل كل إجازة سواء الصيف أو العيدين تجد العروض والدعايات السياحية، وتجد الإقبال من بعض الشباب المفتون لقضاء سبع ليال وثمانية أيامٍ حسومًا يذهبون في الإجازة الصيفية، والعشر الأواخر من رمضان، وفي عشر ذي الحجة، إجازات دينية عبادية يقضيها المؤمنون مستقبلين لبيت الله الحرام، وهؤلاء قد استدبروا البلد الحرام، وقضوا كثيرًا من أوقاتهم في الحرام، وهؤلاء كثير لا كثرهم الله، ثم يأتون بعد نهاية الإجازة يملؤون المستشفيات الخاصة طلبًا للتحليل عن الإيدز، وتجدهم يخرجون بالنتيجة مغلفة مراعاة للخصوصية، ويهجم بعضهم على زوجته التي حفظته وخانها، والتي أكرمته فأهانها، والتي تسهر عليه إذا مرض، ثم ينقل لها الأمراض التي حملها معه من العمل الحرام.
ونقول لمن يعمل هذا العمل: لو ظفر بك الشرع فإن حدك الرجم حتى الموت، وأنت مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب، ثم أنت زيادة على جرمك الشرعي، أنت خسيس على مستوى الأخلاق، لئيم على مستوى الوفاء، مستهتر على مستوى المسؤولية، فما ذنب زوجتك وأولادك حتى تدخلهم معك في المصيبة؟! ولكن هذا جزاء من يسكت على هذه الأعمال.
إخوة الإسلام، نحن لا نقول: إن كل من يسافر إلى بعض الدول هو ممن يقع في الرذيلة، ولكنَّ المسافرين للرذيلة عليهم أمارات في صحبتهم، وفي وقت ذهابهم، وفي صورتهم، وغير ذلك، فإذا عرفَت الزوجة وأهلها من الزوج هذا الصنيع فعليهم أن يدفعوه بالراحتين، أو يركلوه بالقدمين، والزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، وإذا سكتت المرأة على هذه الأعمال المشينة فإن العاقبة عليها وعلى ذريتها مشينة.
وعلى وزارات الصحة أن تقوم بمهمتها في هذا، وأن تمنع دخول الحاملين لهذا الفيروس، وليس هذا تدخلا في الخصوصية الشخصية، فهل يترك حتى يقضي على زوجته وذريته من أجل حماية حريته الشخصية؟! إن الحرية الشخصية مكفولة للشخص فيما لا يخالف الشرع، وفيما لا يضر بالآخرين، وأما هذه الأعمال المشينة فهي اعتداء على الأسرة وهدمٌ لكيانها وتشكيك بالأنساب وتضييع للأطفال وإشاعة للريبة في النساء والزوجات وعزوف عن الزواج وانتشار للأمراض إلى غير ذلك من المفاسد والأضرار، فكيف يُترك سفه السفهاء بحجة عدم التدخل في الحرية الشخصية؟! كل ذلك لقاء لذة وقتية يمكنه أن يحصل عليها بطريق مشروع وهو الزواج الطيب الطاهر أو التعدد المشروع، وتعسّر الزواج عليه أو التعدد أو تأخره لا يبرر له جريمة الزنا؛ لأنه باعتباره عضوًا في المجتمع عليه أن يسلك المسلك الحميد الذي لا يجلب الضرر على المجتمع، خاصة أقرب الناس إليه، وأخلصهم له وهم زوجته وذريته.
هذا ما يقال للزوجة وأهلها وللمسؤولين، أما العلاج الإسلامي الشامل لهذا المرض فهو ما سنطرقه في الخطبة الثانية.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، إن البشرية كلها ستكون في تيه واضح وضلال بيّن ما لم تهتدِ بنور الوحي، وما لم تطبق تعاليم الإسلام، ولقد رأينا تخبط البشرية في علاج هذه المشكلة في اليوم العالمي لمكافحة الإيدز، فبعضهم يبحث عن عقاقير طبية، وبعضهم يركز على التوعية بممارسة الرذيلة بطريقة آمنة وتعاطي المخدرات بطريقة آمنة، وهو إذا سكِرَ تصرّف دون عقل، ففعَل كلّ شيء، أبحتم له ما يُزيل عقلَه ثم أمرتموه بأمر يحتاج فيه إلى عقله، أين أنتم من دين الإسلام العظيم؟! أين أنتم من الدين الخاتم للبشرية جميعًا؟! فلقد شرع نهجًا واضحًا لحماية الإنسان وصحته من أخطار الأمراض الجنسية المدمرة والذي يتمثل في كلمتين هما: العفة والإحصان، وتحريم كل مسكر ومفتر، وتتمثّل العفّة في طهارة القلب من وساوس الشهوات، وذلك بتعميق الإيمان وتقوى الله ومراقبته والبعد عن المثيرات بغضّ البصر عن المحرمات، وبمنع الاختلاط بالنساء، وبحفظ النساء لأنفسهن من التبرج ومن الاختلاط بالرجال وتجنب الخضوع بالقول والبعد عن أماكن اللهو والعبث، قال تعالى: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا الآية [النور:30، 31].
ويتمثل الإحصان بالزواج، وذلك بتيسيره للناس، انظروا إلى نور الوحي في توجيهات النبي : ((النكاح سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) ، ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)) ، ((إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)).
إن علاج مشكلة الأمراض الجنسية وأوبئتها الفتاكة بالبشر لن يُتغلب عليها إلا بالتزام تعاليم الإسلام الذي حرّم الزنا والبغاء العلني والسرّي، وأمر بتطبيق حدود الله على الزناة والشاذّين جنسيا، وحرّم الخمور والمخدرات، ومنع بيعها وصناعتها، وأمر بتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية على المفسدين، وأمر بنشر الوعي الديني والصحي وتعميق الإيمان في نفوس الناس، وأمر بوضع برامج إعلامية هادفة، وحارب وسائل الإعلام التي تشيع الفاحشة في المجتمعات، ونظم عمل المرأة ومنع اختلاطها بالرجال في المكاتب والمصانع، وحثّ المرأة على العودة إلى بيتها، ووفر لها الحياة الكريمة أمًا وأختًا وبنتًا وزوجة، ونظم سفر العاملين خارج أوطانهم، وحلّ مشكلة اصطحاب أسرهم معهم، ومنع التعليم المختلط والتبرج والسفور، وهذه كلها هي أسباب الإباحية وشيوع الفاحشة، وبغير القضاء عليها ستظل الأوبئة والأمراض الموجعة والمهلكة تفتك بالبشر في كل مكان تتحقق فيه هذه السنن.
ونحن ـ إخوة الإسلام ـ مطالبون بحماية أنفسنا ومجتمعاتنا من هذا الوباء وغيره، والحماية لا تكون بمجرد العلاج إذا وقع الداء وتفشَّى المرض، وإنما يجب الوقاية أولاً، والوقاية خير من العلاج وأجدى.
إن علينا أن لا نفكر في دخول جحر الضب المظلم الذي دخله هؤلاء، ونحن نرى بأم أعيننا كيف كان المنتهى، ويجب علينا أن ننظر إلى دعوات التقليد البلهاء على أنها صوت من أصوات السفهاء، وعلى العقلاء أن يأطروهم على الحق أطرًا، وكيف تكون الحرية الشخصية لأناس يسكرون ويجلبون الخزي لبلدهم؟! فعلينا أن ندرك مسؤوليتنا تجاه الناشئة، ونجنبهم مواطن الردى، ويا ويح أمة يغرق شبابها بالمخدرات، ويفتنون بما تعرضه الشاشات من زبالات. إن توفر الصورة الهابطة عند الشباب عن طريق المجلات والشاشات ربما يكون في النهاية طريقًا للفاحشة، وإن إغراق الشباب بسيل المسلسلات الفاتنة إنما هو انتحار للقيم وخطوات في طريق الفساد، وإن سفر الشباب للخارج دون حسيب ولا رقيب ودون تنظيم يحقق المصالح ويمنع من المفاسد هو رمي للشباب في معركة خاسرة تفوق طاقتهم، ومن يرضى لفلذات الأكباد أن يكونوا ضحايا للفساد أو يكونوا نَقَلة فيروسات الدمار لبلاد الإسلام؟!
ليس من المنطق السليم أن نطالب الشباب بالعفة والطهر ونحن نواصل إغرائهم ونهيّئ لهم ما يثير غرائزهم، لا بد أن نُسهم جميعًا في حمايتهم ونشارك في تربيتهم، والبطالة والمغالاة في المهور كل ذلك ربما ساهم في دفع الأنفس الضعيفة إلى اقتراف المحرمات والوقوع في حمأة الرذيلة، وأما المرأة فهي وسيلة للفتنة إذا لم تصن وتحترم، وهل كانت فتنة بني إسرائيل إلا في النساء؟!
ألا فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيرًا، واحفظوهن من التعرض للبلاء، وتنبهوا للدعوات المحمومة التي تريد بهن وبمجتمعهن الشرور والفساد.
وهكذا ـ إخوة الإسلام ـ يظهر هذا الكابوس القاتل والجاثم على صدور المنحرفين، وغدًا ربما يظهر ما هو أشد منه طالما ظل الناس سادرين في غيهم مستثمرين العلم الحديث وإمكاناته الهائلة في نشر هذا الفساد وتزيينه للناس، بل ومحاولة قهر الآخرين عليه في المستقبل القريب كما هو ظاهر في مؤتمراتهم الأخيرة عن السكان والمرأة، ولكن: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [الصف:8]، وستدور الدائرة عليهم: وَسَيَعْلَمْ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3411)
الانتفاضة في فجرها الجديد
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
13/4/1424
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أثر الانتفاضة الفلسطينية. 2- التغيير من أهم أسباب حصول النصر.3- من أهم مظاهر التغيير انتشار حلقات القرآن والعلم والقيام بواجب الحسبة. 4- المجتمع اليهودي في طريقه نحو الانحدار الخُلقي والسلوكي. 5- انهيار الجنود اليهود معنويًا.6- تدهور الاقتصاد اليهودي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، حديثنا يتجدد عن فلسطين، فلسطين التي يُدمَى جرحها كل يوم، وتدمي جراح اليهود. لقد أبانت لنا قضية فلسطين مقدار ما استودعت هذه الأمة من خير في شبابها وشيوخها ونسائها، حين ترى أولئك الأبطال الذين وقفوا في وجه الصهاينة يقاومونهم بالحجر، أمام أسلحتهم ومجنزراتهم، يسارعون إلى ملاقاة ربهم، دماؤهم على ثيابهم لم ترفع، لتبقى وسامًا فوق صدورهم، يقدمون أنفسهم شهداء في سبيل الله لقتل الصهاينة اليهود في محلاتهم وسيارتهم.
أيها المسلمون، إن كثيرًا من المسلمين يتعاطفون مع أهداف الانتفاضة عمومًا، لكنهم لا يدركون حقيقة الانتفاضة وأثرها العظيم وموقعها التاريخي، وكثير منهم ينخدع بالإعلام اليومي عربيًا وغربيًا، والذي يشدد دائما على العنف الصهيوني والخسائر في الجانب الفلسطيني، فيبدو إيقاف الانتفاضة وكأنه رحمةٌ بإخواننا الفلسطينيين وفرصةٌ لالتقاط النَفَس، وربما يتساءل كثيرون: ما جدوى الاستمرار في دفع هذه التكاليف الباهظة؟! حتى حين تقع عملية ناجحة بكل المعايير يأتي التعليق عند البعض: "ولكن هذا سيؤدي إلى انتقام شديد".
إن عرضَ التألم والتكاليف من جانب واحد تفصيلاً وإجمالَ القول عند الحديث عن خسائر العدو هو في الحقيقة حملة نفسية موجهة، يرتِّب لها العدو، ويسايره مخدوعًا من لا يدرك الحقائق، أو لا يملك الوقت وعدة النظر للبحث عنها، وهذا يتفق مع اتجاه القيادات العربية الحكومية، والتي رضخت منذ أمد بعيد للهزيمة والاستسلام؛ لكنها تغلف ذلك بإيقاف العنف والعودة للمفاوضات ورفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني.
إن الانتفاضة الحالية فجر جديد، يراه أهل البصيرة زاحفًا على ليل المعاناة الطويل، ولذلك يتعين علينا أن نكشفَ وجه الحقيقة عن واقع الانتفاضة، والتي أذاقت اليهود عذابًا فوق العذاب.
إخوة الإسلام، يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، وكِلا طرفي المعركة غيَّر.
إخواننا الفلسطينيون غيَّروا من الخضوع إلى المقاومة، ومن الخوف إلى الشجاعة، ومن الفرار إلى الثبات، ومن الاتكال على الحكومات إلى التوكل على الله والثقة في الذات. وأهم تغيير في الحقيقة هو أنهم غيروا من ضعف الإيمان وقلة التدين والانخراط في المنظومات العقدية الوضعية ـ من اشتراكية وقومية وناصرية ووطنية ـ إلى قوة الإيمان وانتشار التدين والانضواء تحت راية الإسلام والجهاد. ومن مظاهر ذلك التغيير الإقبال على الشهادة في سبيل الله بشكل لا نظير له من قبل. ومن مظاهر ذلك الإقبال على كتاب الله؛ ففي كل حي أو قرية تقريبًا أقيمت حلقة لتحفيظ القرآن أو أكثر، وعددها الآن في الضفة والقطاع يقارب الألف حلقة، بعد أن لم يكن شيء. ومن مظاهر ذلك الاهتمام بالعلم الشرعي وانتشار حلقاته ومحاربة الفساد والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فقد صاحب قيام الانتفاضة حملة انتفاضة على دور السينما والفساد، وكثير منها أغلق وضعفت مظاهر الضياع بين الشباب بعد أن كان اليهود يعملون لتدمير أخلاقه بالمراقص والملاهي.
وفي الطرف الآخر حدث التغيّر عند اليهود؛ كانت الجماعات اليهودية المؤسسة للكيان اليهودي كتائب حرب منظمة ومدربة، والمستوطنون كانوا رجال عقيدة وإرادة، والدافع لهم ديني قبل كل شيء، وكانت الهجرة عبادة وتضحية، وكان التوحد في الأهداف والمواقف ظاهرًا، والفروق الاجتماعية والعرقية تكاد تكون ملغاة. أما الآن فقد ظهر جيل التّرف والأمراض الاجتماعية، الجيل الذي يبحث عن المتعة الرخيصة بأيّ ثمن، ولا يؤمن بأي مبدأ أو قيمة، وكثرت مظاهر التراخي والتفرق، فالجنود يهربون من الخدمة، والمستوطنون يبحثون عن الرفاهية، والسياسيون انتهازيون، والوعود التوراتية لم يعد لها بريق، والشباب يدمِنون المخدرات، والتمييز العنصري على أشدّه؛ الأمر الذي جعل قادة الفكر اليهودي يشعرون بهذا التغيّر، ويتحدثون عنه قبل قيام الانتفاضة.
أيها المسلمون، لقد أتى الله اليهود من حيث لم يحتسبوا، فقلبت هذه الانتفاضة معايير الحروب عليهم، فلم تعد معركة بين جيشين، وإنما هي عناصر متخفية تضرب الجيش اليهودي في مقاتِله، وتشل قدرته على المقاومة، وهذا هو أخطر أنواع الحروب، وبعد أن كان الجيش اليهودي أقوى جيوش المنطقة وخامس جيش في العالم ـ كما يقول كثيرون ـ أدخلت الانتفاضة المباركة هذا الجيش في نفق "الحرب غير المتوازية" وجعلته في أسوأ حالة له منذ نشوئه.
وحيّدت الانتفاضة قوة اليهود الهائلة، والصاروخُ المطوّر بمعونة أمريكية يمكنه تهديد عاصمة عربية أو تدمير قاعدة عسكرية عربية، لكنه لا يستطيع التقاط استشهادي من مستوطنة أو حافلة، والمفاعلات النووية تتحول من مركز القوة الأعظم إلى هدف مفضّل للمهاجمين الاستشهاديين، وإلى مصدر خطر هائل على الدولة، وهلم جرًّا، وهكذا يصدق على الدولة اليهودية قوله تعالى عن أسلافهم: فَأَتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ?لرُّعْبَ [الحشر:2].
أيها المسلمون، ما أكثر آلام إخواننا في الأرض المحتلة، وما أشد معاناتهم، لكننا لن نتحدث عن هذا الجانب فالإعلام اليومي كفانا هذا العناء، والإعلام العربي ـ كما أشرنا ـ يحاول أن يجعل المعاناة هي المشكلة، ربما لكي يكون إيقاف الانتفاضة هو الحل، أما الإيلام الواقع باليهود فهو مما لم يشهدوه في تاريخهم كله، وأبرز ذلك الإثخان بقتل قوم هم أحرص الناس على حياة، وهنا نجد الخط البياني شاهدًا بوضوح على أن الانتفاضة في تقدم وعلوّ، وأن العدو في انحطاط ودنو، فعند قيام الانتفاضة كانت نسبة القتلى من العدو 1 من اليهود إلى 50 من الفلسطينيين، ومع ذلك فقد كان اندلاعها والإخفاق في إيقافها سببًا في إسقاط باراك وترشيح شارون، وهو أشقى المغضوب عليهم وأشدهم وحشية وهمجية، وقد علق اليهود آمالهم عليه لذلك، وصدقوه حين وعد بالقضاء على الانتفاضة خلال مائة يوم، فما الذي حدث؟!
استمرت الانتفاضة وتضاعفت آثارها، وارتفع معدل عدد القتلى من المستوطنين من 3 قتلى شهريّا أيام باراك، إلى 17 قتيلا بعد مجيء السفاح المخلِّص شارون. وبعد 400 يوم من الإفراط في العنف وجد شارون أن القتلى من اليهود بلغوا في شهر واحد في شهر وذلك في إبريل سنة 2002م أكثر من 140 قتيلا، وهو ما يعادل خسائر العشرة شهور الأولى من الانتفاضة كاملة، وهنا جنّ جنونه أو كما عبر عن ذلك رئيس الموساد: "اضطربت قواه العقلية"، فجاء بمشروع الجدار الواقي واجتياح المدن الفلسطينية، وكل هذه الحيل العسكرية لم تنفع إلى أن جاؤوا بخارطة الطريق والتي ولدت ميتة بحمد الله.
أيها المسلمون، الهزيمة تمر بثلاث مراحل: مرحلة القلق والخوف والحيرة، ثم مرحلة اليأس وفقد الثقة، ثم مرحلة الاستسلام أو الموت، وقد تأتي مرحلتان منهما معًا كما هو حال اليهود بعد خمسة شهور فقط من اشتعال الانتفاضة؛ ظهرت العلامة الكبرى على الانهيار المعنوي للعدو، متمثلة في البيان الذي أعلنه الرافضون للخدمة العسكرية، وهم مجموعة من 50 ضابطًا وجنديًا قد أعلنوا إنشاء حركة أسموها: "الشجاعة في الرفض"، وعللوا موقفهم بأمرين: أن الضفة والقطاع أرض محتلة؛ فالقتال فيها غير شرعي، وأن الانتفاضة أدت إلى فيضان الدم. وظل المنضمون إلى الحركة يتكاثرون بالمئات حتى بلغوا الألف، كما ذكرت بعض المصادر الغربية.
ومن أقرب المظاهر إلى رفض الخدمة مظهر التهرب منها بالتمارض أو التأجيل أو غيرها من الحيل التي يجيدها اليهود، وكذلك قلّة الإقبال على الدخول في الأكاديميات العسكرية؛ حتى إن بعضها قد أقفل، ولم تُجدِ العقوبات العسكرية شيئا، بل ارتفع عدد المُوقَّفين المتهربين من الخدمة من 600 في أول عام 2002م إلى ألف بعد عشرة شهور، وحاول الإعلام اليهودي تعليل هذه الظاهرة الغريبة، فقالت جريدة (معاريف): "إن حياة الجنود في الدبابات جحيم لا يُطاق، فالأوامر الصادرة لهم تتضمن البقاء داخل الدبابة طوال الفترة المحددة لهم دون الخروج منها، بل إنه صدرت أوامر لهم تحظر عليهم حتى النظر من فوهات الدبابة؛ خوفًا من تعرضهم لرصاصات طائشة تأتيهم من المناطق المحاصرة، كما لا يستطيع الجنود الخروج من الدبابة لقضاء حاجتهم كالذهاب إلى مرحاض أو إلى حمام، وذلك خوفًا من تعرضهم لقناص فلسطيني ينتظر خروجهم من الدبابة.
والأمر الذي يجب أن نقوله هنا: إن يقظة العقل المؤمن بل مبادرته جعلت الرعب مستمرًا، وهيأت له الدوافع التي لا تنقطع، وقد دلت البيانات اليهودية على هذا الرعب بدقة الأرقام، فنشرت صحفهم أن معدلات الخوف بين المستوطنين كانت 57 في المائة في مطلع شهر أكتوبر 2001م، ثم بلغت 68 في المائة في منتصف الشهر، ثم بلغت 78 في المائة في مطلع الشهر التالي. والأمثلة كثيرة جدًا، والتساؤل الذي قد ينشأ هنا هو: إذا كان اليهود يعيشون هذه الحالة فلماذا يزدادون عنفًا وشراسةً، ويفرطون في الانتقام والتشفي يوما بعد يوم؟! هل لهذا من تعليل أو قاعدة؟ والجواب على ذلك يدل عليه كتاب الله وواقع الكائنات الحية، فضلاً عن تاريخ اليهود، وخلاصة الجواب أن الوحشية في الانتقام والعنف المفرط هما دليل واضح على بلوغ مرحلة اليأس التي تسبق عادة مرحلة الاستسلام أو الموت لدى الكائنات الحية، والطواغيت حين يتصرفون بغريزة حب البقاء ويتعامون عن الإقرار بالهزيمة يلجؤون في مرحلة اليأس إلى استنفار كل الطاقة والضرب بها في كل اتجاه بلا تفكير ولا هوادة، كما تفعل الوحوش أو الطيور إذا حشرت في زاوية، لكن ذلك يعقبه عادة النهاية المحتومة، وعسى أن يكون قريبًا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، قبل اشتعال الانتفاضة المباركة كانت الدولة اليهودية تعيش عصرها الذهبي، لا سيما في الاقتصاد، فقد أصبحت تطمع لتكون إحدى الدول العشر الأولى في العالم من حيث مستوى دخل الفرد، أما التقنية المتقدمة ـ لا سيما في مجال الاتصالات ـ فقد بلغت الذروة، فلما قامت الانتفاضة المباركة هبطت بالاقتصاد اليهودي إلى أسوأ حالاته منذ قيام الدولة، وذلك بإجماع الخبراء والمراقبين في إسرائيل، ولا شك أن ركود الاقتصاد أو انهياره مشكلة خطيرة في أي بلد في العالم، لكنه بالنسبة للدولة اليهودية كارثة محققة، وقد عبر أحد المحللين عن هذه الحال قائلاً: بالنسبة لنا ـ معشر اليهود ـ الاقتصاد أهم من الأمن، ومما يشهد للتردي الكبير في اقتصاد الدولة اليهودية هبوط نسبة دخول السياح إلى إسرائيل بنسبة 38 في المائة، وانخفاض حركة المسافرين بنسبة 13 في المائة، وكذلك انخفاض نسبة زوار المجمعات التجارية في إسرائيل بنسبة 30-50 في المائة في عيد الفصح، وتلا ذلك السلسلة المتلاحقة في إغلاق المصانع في إسرائيل، فقد أعلن رئيس اتحاد المصانع الإسرائيلية عن إغلاق 60 مصنعًا في إسرائيل سنة 2002م، بالإضافة إلى إغلاق 150 مصنعًا للتقنية المتقدمة، وأنذر المجتمعون في مؤتمر الاتحاد بأن عام 2003م قد يشهد إغلاق 90 مصنعًا للأثاث، وكذلك 150 مصنعًا للتقنية، وكل هذا بحمد الله بسبب الانتفاضة التي سلبتهم الأمن، وحولت حلم الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً إلى أرض تفيض دمًا وأشلاء.
أيها المسلمون، وهكذا يتبين لنا مصداق قول الله عز وجل: إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ [النساء:104]، وفلسطين التي أبانت لنا هذه العزة وهذه الإرادة أوضحت لنا مقدار خذلاننا وخَوَرنا، وأعظم من ذلك كله أن يتبرم البعض من الانتفاضة التي أحرجته وأبانت ضعفه وخوره، فيسعى في إيقافها بحجة قطع معاناة الشعب الفلسطيني، والشعب الفلسطيني لم يطلب من أحد قطع معاناته، وإنما طلب مد يد العون والمساعدة لأبطال قدموا لنا أروع الأمثلة بعمليات استشهادية لا زلنا نراها ونسمع عنها، تجلب لنا ولهم العزة والكرامة، ويعزم أبناء فلسطين على التسابق إلى قتال اليهود والإثخان فيهم حين علموا حقًا أن لا مقاومة للصهاينة إلا بالقتال، وأن قذيفة من حديد أو حجر تساوي آلاف القذائف من الكلمات، وبدأت قوائم القتلى تتصاعد في أوساط اليهود، وأخذ الأمن ينحسر، وفي هذا الوقت بالذات خرجت خارطة الطريق لتنقذ اليهود من ورطتهم بعد أن نفذوا جميع الخطط لإيقاف الانتفاضة فلم يستطيعوا وأيسوا من قمعها بمفردهم، فما كان لهم من ملجأ إلا توظيف المنافقين من أبناء الشعب الفلسطيني لقمع الانتفاضة بحجة إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني، وحقيقة الحال أنها لإنهاء معاناة الشعب الإسرائيلي، وحتى التنازلات التي وردت في خارطة الطريق لا يرضى بها اليهود، وإنما يريدون البنود التي تتعلق بأمنهم، فإذا تحقق لهم الأمن سلحوا على خارطة الطريق وما فيها من إقامة دولة فلسطينية، وهذا يظهر من تصرفاتهم هذه الأيام، فهم يريدون حربًا داخلية تشغل المجاهدين عن اليهود، وأنى لهم ذلك؟! فالشعب الفلسطيني أوعى من ذلك ولله الحمد، والمهم عندنا اليوم أن يتغير تصور البعض عن الانتفاضة، ويعلم أنها ذات أثر كبير، وأنها اختيار الشعب الفلسطيني، وأن الذين يريدون إيقافها أصحاب أهداف مشبوهة وعمالة مفضوحة، وهم يريدون إنقاذ إسرائيل لتبارك حكمهم أمريكا، وأن الذين يبادرون بمثل هذه المبادرات إنما هم يريدون خفض سقف التطلعات لدى الشعب الفلسطيني، وقد أبانت الأيام الأخيرة سبيل المجرمين، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3412)
التفجيرات: التطرف لا يعالج بالتطرف
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
15/3/1424
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وسطية الإسلام. 2- إدانة التفجيرات التي وقعت في الرياض. 3- بيان هيئة كبار العلماء حول التفجيرات. 4- الهجوم على الثوابت من قبل بعض الإعلاميين لا تزيد النار إلا وقودا. 5- استخدام العنف بمفرده لا يجدي شيئًا في معالجة الغلو والتطرف. 6- الحوار ونشر عقيدة السلف وإحياء دور العلماء من أهم ركائز معالجة الغلو.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، لقد اختار الله لأمة الإسلام منهجها وبيّن لها طريقها، فهي وسط بين الأمم، وطريقها هو الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه، وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ?لنَّاسِ [البقرة:143]، فهي أمة الوسطية، ودينها وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسطِ بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيّع له فالغالي فيه مضيّع له، هذا بتقصيره عن الحدّ، وهذا بتجاوزه الحدّ، وإن التزحزحَ عن هذا المنهج الوسط يعتبر افتراءً على الله في حكمه، واستدراكًا عليه في شرعه، وإن وسطية الإسلام وسماحته لا تؤخذ من العقول البشرية، ولكنها تؤخذ من النصوص الشرعية، وإن دين الإسلام والمتمسكين به بعلم برآء من الانحراف عن الوسط، سواء الجانحِ إلى الغلو، أو الجانحِ إلى التقصير. والذي ينحرف عن هذه الوسطية بغلو أو جفاء، لم يتمسك بالإسلام بكماله، وهو غير ممثل له، وإنما يمثل نفسه.
أيها المسلمون، ولَئن كانت الأمة قد عايشت صورًا من الغلوّ والتطرف في عصور سلفت، فإن أشد أنواع التطرف ما عاشته الأمة في عهودها وعقودها هذه الأخيرة، حيث تطرَّفَ التطرُّف إلى طرَف الطَّرَف، ولئن كانت الضوضاء قد علت وعلا ضجيجها عن التطرف أخيرًا فإن وجود التطرف حقيقة لا مرية فيها، ولكن قبل ذلك إن التطرف سابق للضجة التي أثيرت حوله بكثير، عانت الأمة من التطرف، وعانت من ثمار التطرف، ذلك أنه شجرة خبيثة، إذا نمت نمت معها أشواكها الحادة، ومن أشواكها الحادة العنف واستباحة الدماء.
ولا شك أن القتل والتفجير والترويع الذي يستهدف أمن المجتمعات المسلمة واستقرارَها عملٌ يتنافى مع أحكام الشريعة التي جاءت بعصمة دماء المسلمين والمستأمنين، ويخالف مقاصد الشريعة التي جاءت بحفظ الدين والنفس والمال والعرض، ولذلك فإنا نُدين التفجيرات التي حصلت هذا الأسبوع، ونؤكِّد على خطورتها على دين من يقوم بها قبل خطورتها على غيره؛ فإن المسلم لا يزال في فسحة في دينه ما لم يصب دمًا حرامًا.
ولقد أصدرت هيئة كبار العلماء بيانًا ضافيًا في هذا الموضوع، وبينت أن ما وقع في مدينة الرياض من حوادث التفجير أمر محرّم لا يُقرّه دين الإسلام، وتحريمه جاء من وجوه: 1- أن هذا العمل اعتداءٌ على حرمة بلاد المسلمين وترويعٌ للآمنين فيها، 2- أن فيه قتلاً للأنفس المعصومة في شريعة الإسلام، 3- أن هذا من الإفساد في الأرض، 4- أن فيه إتلافًا للأموال المعصومة.
وكل ذلك تم بيانه بالأدلة الشرعية القطعية من الكتاب والسنة، وبينت الهيئة أيضًا أن هذا العمل كما أنه محرم شرعا فإن فيه ذريعة لتسلّط الأعداء على الأمة الإسلامية من كل جانب، وبينت أن أعداء الإسلام يفرحون بالذرائع التي تبرر لهم التسلط على أهل الإسلام وإذلالهم واستغلال خيراتهم، فمن أعانهم على مقصدهم وفتح على المسلمين وبلاد الإسلام ثغرًا لهم فقد أعان على انتقاص المسلمين والتسلط على بلادهم، وهذا من أعظم الجرم.
ثم حثت الهيئة على العناية بالعلم الشرعي المؤصّل من الكتاب والسنة وفق فهم سلف الأمة، وأوصت بالعناية بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وحثت شباب المسلمين على إحسان الظن بعلمائهم والتلقي عنهم، لأن أعداء الدين يسعون للوقيعة بين شباب الأمة وعلمائها وبينهم وبين حكامهم حتى تضعف شوكتهم وتسهل السيطرة عليهم، فالواجب التنبه لهذا.
ثم ختم علماؤنا الأجلاء بيانهم بالوصية بتقوى الله عز وجل في السر والعلن، وبسؤال الله أن يصلح حال المسلمين، وأن يجنب بلاد المسلمين كل سوء ومكروه.
إخوة الإسلام، وما جاء في بيان هيئة كبار العلماء من أحكام وتحذيرات هو ما يعتقده عموم المسلمين في هذه البلاد ولله الحمد، وهو المعتقد السائد في الصحوة الإسلامية المباركة بجميع أطيافها ومؤسساتها، وهو الذي ينتشر في أوساط الصالحين في المدارس وحلق القرآن، وهو الذي تعالت به نداءات الدعاة قبل وقوعه في بيان الجبهة الداخلية وغيرها. وهذا الفكر الوسط المعتدل هو الذي تقوم عليه مناهج التعليم في هذه البلاد المباركة.
معاشر المسلمين، وإذا نشأ في المجتمع فكر نشاز فإنّ أهل الوسط والاعتدال من العلماء والدعاة ومن تبعهم هم أشدّ الناس شعورا بالمسؤولية، وأحرصهم على علاجه بالمنهج العلمي الرصين، والذي يستشعر الواقع ويستشرف المستقبل بعيدًا عن أساليب المعالجة السطحية والتي تعتقد أن حلَّ المشكلة ينتهي عند إدانة الحدث وشتم المنفّذين ونشر صورهم وتواريخ ميلادهم وصور منازلهم وتجريدهم من إنسانيتهم فحسب، ثم كيل التهم يمينا وشمالاً.
إن هذه المشكلة قد استعصت على كثير من الدول لما أقصي المعتدلون عن حلها، وتركت بأيدي أناس متطرفين من الجهة الأخرى، استعصت المشكلة لما تركت بأيدي العلمانيين وأهل النفاق؛ ذلك أن علاج هذه الأحداث ليس فرصة للمباهاة والكبرياء ونيل ثناء المسؤولين وشكرهم، فجسامة الحدث وضخامته أكبر من ذلك كله.
ومع أن هوية المنفذين لم تحدّد بعد إلا أنه على فرض صحة رواية وسائل الإعلام فإن أول وصية في علاج ظاهرة التطرف والغلو في الدين أن يتولى علاجها المعتدلون الناصحون، والذين يعرفون أن الغلو في الدين هو الخروج عنه بالزيادة فيه أو الخطأ في فهمه ونحو ذلك، وليس غلوًّا الأخذُ بالدين على منهج الوسطية والاعتدال، ويؤكد أهمية هذا العلاج أن كثيرًا من الكتّاب والإعلاميين والساسة يتعاملون مع الغلوّ بدون فهم صحيح لحقيقته، بل يرى كثير منهم في التمسك بالدين غلوًّا، ولذلك نجد من ألصق سبب التفجيرات في المناهج الدينية وخطب الجمعة والدعاة والتعليم الديني وحلقات القرآن، ولم يُبْق هؤلاء شيئًا مما يتّصل بالدين لم يتهموه بأنه سبب التفجير.
وإن من المقطوع به عقلاً وحسًّا أن المناهج الدينية لها في مجتمعاتنا عمر طويل، يتجاوز السبعين عامًا، هو عمر التعليم النظامي، وأن تعليم القرآن الكريم لم ينقطع في بلادنا وفي أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي منذ نزوله وإلى يومنا هذا، ومع ذلك ـ ومع وجود هؤلاء الغربيين في بلادنا على مدى أكثر من سبعين عامًا ـ لم يحدث ما حدث تجاههم من وقائع التفجير من قبَل أناس من أبناء هذه البلاد إلا في الأعوام المتأخرة، مما يؤكد أن هذه الوقائع طارئةٌ، ولا ترتبط أسبابها بأمر يتّصل بالمناهج أو العلماء أو بطبيعة هذه البلاد؛ وإنما بالوقائع الخارجية، فهي تستهدف جنسية معيّنة هي الجنسية الأمريكية على وجه الخصوص، ولأسباب تتّصل برؤية هؤلاء للسياسة المعادية للمسلمين من قبل هذه الدولة التي بالغت في الوقوف ضد مصالح المسلمين مع تأييد مفضوح لليهود.
إخوة الإسلام، ولو تُرك علاج هذه القضايا الكبيرة بيد هؤلاء الذين يرون في تعاليم الدين غلوًا وتطرفًا ويريدون تمييعها أو إزالتها فإن التطرف سيزداد بلا شكّ؛ لأنهم سيحاربون هذا المجتمع في أعزّ ما يملك وهو دينه وعفاف نسائه ومناهج تعليمه، ولذلك نستطيع القول: إن كثيرًا من الصحف والكتّاب مارسوا في الأسبوع المنصرم عداءً حقيقيًا للمجتمع، حتى رأينا بعض الأقلام المغرضة تعبر من الحديث عن نقد الغلوّ والتطرف الديني إلى نقد الدين ذاته، وتعبر من نقد بعض الجماعات المتطرفة إلى نقد الصحوةِ الدينية بعامة، وتعبُر من نقد بعض مظاهر الغلو إلى نقد شعائر الدين الظاهرة كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحرّضوا ولاة الأمر على كل ما يعرفون من معالم الدين، ولذلك فإن المتعيّن على جميع المسلمين حكامًا ومحكومين أن لا ينخدعوا بهذه المكيدة التي تحاول تبرير محاربة التديّن في البلاد بحجّة محاربة الغلو؛ فإنّ الغلو في مجتمعنا بحمد الله قليل الحجم، ومن الظلم أن يسحب الحكم على الكثرة التي تمثل تيار الاعتدال.
الوصية الثانية في علاج هذه الظاهرة: عدم استخدام العنف بمفرده؛ ذلك أن الواضح من تجربة معالجة الغلو في العصر الحديث أن العنف لم يجدِ فيها شيئًا، بل كان سببًا لظهور تيارات غلوّ أخرى، والوسيلة الأنفع في ذلك هي الحوار، وهي الواردة عن النبي وابن عباس، فلقد حاور النبي ذا الخويصرة وقال له: ((ويحك، من يعدل إن لم أعدل؟!)) ، وكذلك حاور ابن عباس الخوارج فرجع منهم ألفان. ولا شكّ أن أسلوب الحوار في هذه المشكلة هو من أنفع الأساليب؛ ذلك أن نور الحقّ ساطع وبرهانه قاطع، وهو يعلو ولا يعلى عليه، وهو الذي يعالج المشكلة من جذورها؛ لأن العنف مظهَر للفكر، ولا يمكن إزالة الفكر بإزالة مظهره فقط.
الوصية الثالثة: تعزيز ما من شأنه إزالة أسباب هذا الغلو كنشر عقيدة السلف ونشر العلم الشرعي ونشر المنهج الشرعي في الاستدلال والاستنباط، ذلك أن السمَة الغالبة لكثير ممن يغلو في دين الله جل وعلا هي الجهل بعقيدة السلف ومنهجهم في الاستدلال، ولذلك قال النبي في صفة الذي اعترض على قسمته: ((إن من ضئضئ هذا قومًا يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان)) رواه البخاري، فذكر من أبرز مظاهر الغلاة عدم فهم القرآن، ولو قرؤوه بألسنتهم فهم لا يتفقهون فيه، ولا يعرفون مقاصده، وهذا يجعلهم يأخذون آيات نزلت في الكفار فيجعلونها على المؤمنين، كما قال ابن عمر رضي الله عنه.
وهذا يقودنا إلى الوصية الرابعة وهي إحياء دور العلماء؛ ذلك أن غياب العلماء عن الساحة في كثير من الأحيان هو من ضمن أسباب الغلو المبني على الجهل، ولذلك فإن الوصية المبذولة هي الاهتمام بإعادة دور العلماء، ويتولى مسؤولية ذلك بشكل رئيس ثلاث فئات:
الفئة الأولى: العلماء أنفسهم، وذلك بالإخلاص لله عز وجل، والقيام بواجبهم تجاه ولاة الأمر بالمناصحة، وتجاه عموم المجتمع بالتربية والتوجيه، وتجاه فئة الشباب بالتربية والعناية، والبعد عن كل ما يخدش مقام وكرامة العلماء من الحرص على الدنيا والتكالب عليها، ومن ضعف الالتزام بأوامر الدين.
الفئة الثانية: ولاة الأمر، وذلك بأن يصدِّروا العلماءَ ويستشيروهم ويأخذوا برأيهم في جميع أمور الدين دون انتقائية، ويوكِلوا إليهم مهمّة معالجة مظاهر الانحراف.
الفئة الثالثة: المجتمع والشباب بشكل خاصّ، وذلك بأن يأخذوا من العلماء ويأتمروا بأوامرهم وفتاواهم الشرعية.
وإذا تحقق دور العلماء في المجتمع فإن المجتمع سيكتسب حصانة من مظاهر الانحراف ووقاية من مشكلة الغلو وغيره من المشكلات.
أسأل الله أن يحفظ هذه البلاد من كل سوء ومكروه وسائر بلاد المسلمين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، يتفق الباحثون في مشكلة الغلوّ والتطرّف والعنف على أن هذه الظاهرة إنما هي ردّ فعل لما يعايشه الإنسان من أوضاع شاذّة وخاطئة تحياها المجتمعات المسلمة، وهذه المظاهر التي تكوّن منها ردّ الفعل أو الظروف التي كوّنت القابلية للغلوّ هي ما يشاهده في مجتمعه من غياب شرع الله عن الحكم، وما يراه من غربة الدين، ومن العداء له والتحريض على شعائره في الصحف والمجلات، وما يظهر له من التضييق على الإسلام وفتح المجال للاتجاه العلماني يقول ما يشاء ويكيل التهم على من يشاء.
وتتكوّن ردة الفعل أيضًا بسبب ما يشاهده من الفساد والتحلّل الأخلاقي الذي يشجعه على القول بجاهلية المجتمعات، وكذلك ما يراه من فتح المجال لأهل التغريب ونشر الفساد في المجتمع، وكذلك الهزائم السياسية والعسكرية، كل هذه المظاهر التي يراها الإنسان ولا يملك أن يفعل تجاهها شيئًا يوصله إلى ردّة فعل مساوية في القوة معاكسة في الاتجاه، وبناء على ذلك تكون الوصية الخامسة: إزالة المظاهر غير الإسلامية وفتح المجال للمصلحين كما يفتح المجال للمخربين الذين تمكنوا من إعلام البلاد وسُكِت على تخريبهم، ولا شك أن بقاءهم على هذا الوضع يعَدّ رافدًا كبيرًا من روافد الغلوّ وجذرًا رئيسًا من جذوره، وسببًا لاستفزاز الحليم فضلاً عن غيره، ولذلك فإنا نطالب ولاة الأمر ـ وفقهم الله ـ بإزالة الشكاية وفتح المجال للمصلحين وقبول قولهم وإزالة المظاهر التي تستفز المشاعر وتشكل مناخًا مولّدًا للغو والتطرّف.
الوصية السادسة: دفن الهوّة بين العلماء والحكام من جهة وبين الشباب من الجهة الأخرى؛ ذلك أن الشاب إذا وثق بوليّ الأمر من حاكم أو عالم فإنه سيسمع ويطيع، وعندما يثق ولي الأمر من حاكم أو عالم بالشاب فإنه سيفتح قلبه له ويحل مشكلاته ويزيل شكايته.
نسأل الله أن يهدي ضالّ المسلمين، وأن يدفع عن هذه البلاد الفتنَ والمحن ما ظهر منها وما بطن، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ، يعزّ فيه أهل الطاعة، ويهدَى فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3413)
التفجيرات عودًا على بدء
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
19/4/1424
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرمة بلد الله الحرام. 2- وضوح منهج النبي مع أعداء الدين. 3- وجوب مراعاة المصالح والمفاسد في الجهاد والعمل لنصرة الدين. 4- غير المسلمين ليسوا على حكم واحد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، حين دخل رسول الله البلد الأمين فاتحًا معظّمًا لشعائر الله ودينه أحلّ الله له بطاح مكّة ساعةً من النهار لتعودَ حرمتها أبديّة بعد ذلك، لا يخفرها إلا ظالم لنفسه منتهك لحرم الله، قال : ((إنّ مكّة حرّمها الله ولم يحرّمها النّاس، فلا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا ولا يعضد بها شجرةً، فإن أحدٌ ترخّص لقتال رسول الله فقولوا له: إنّ الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنّما أذن لي ساعةً من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلّغ الشّاهد الغائب)) رواه البخاري ومسلم.
ولعلكم سمعتم وقرأتم ـ إخوة الإسلام ـ ما حدث في مطلع هذا الأسبوع من الفتن العظيمة في البلد الحرام الآمن، والتي سلمت منها أيدينا ونسأل الله أن يعصم من الخطأ فيها ألسنتنا، ولكَم يألم المرءُ ويدهَش لما أريق في البلد الحرام من دم حرام، وهو حدثٌ جلَل يقرع فوق رؤوسنا ناقوسَ الخطر، ويدعونا إلى الالتفافِ حول علمائنا والتشبّثِ بهدي سلفنا الكرام في اجتناب الفساد والفتن وما ينشأ فيهما من أراجيف وأكاذيب وبلايا.
ولا شك أنا رأينا بعض الشباب الذين لم يأخذوا العبرة مما حدث في تفجيرات الرياض، ولم يستمعوا لقول العلماء في هذه الأحداث، مما أدى بهم إلى الاستمرار في الطريق المخالف لشرع الله تعالى، وإن مهمة انتشالِهم من هذه الأفكار والتبيينِ لهم ولغيرهم ممن يظن سلامة طريقهم ومنهجهم هو واجب علينا، وهؤلاء الشباب أمانة في أعناقنا جميعًا، والصراحة والصدق معهم واجب على كل من يريد وجه الله ويحرص على قطع الطريق على من يتربص بالدين وأهله ويشوِّه سمعة الإسلام ويستر محاسنه، ولذلك فإن الصراحة مع الشباب في مثل هذه الأمور لهو من العوامل الأساسية في الإصلاح.
ولذلك فإنا نقول لإزالة بعض الإشكالات الفكرية لدى الشباب: إن سلامة قصدهم لا تعفيهم من أخذ الدين بكماله وجماله وإعمال النصوص الشرعية جميعها دون تعطيل بعضها، يقول تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?دْخُلُواْ فِي ?لسّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة:208].
ولقد كان منهج النبي واسعًا وواضحًا في التعامل مع أعداء الدين، ف لم يلجأ النبي في يوم من الأيام إلى قتل بعض المسلمين من أجل قتل عدد قليل من المشركين، ولم يكن أحد من الصحابة يقتل نفسه عمدًا من أجل قتل المشركين، وما يحدث في فلسطين وغيرها من العمليات الاستشهادية هو من الأمور التي ضبطها العلماء الذين أفتوا بها بضوابط لا يسوغ أن يأتي الشباب ويأخذوا الحكم ويتركوا ضوابطه ويغيّروا موقعه بسبب حماس زائد أو قصور في التصور ونحو ذلك، وليعلم المقدم على أمثال هذه الأمور أنه قد أقدم على أمر عظيم في دين الله عز وجل، يقول تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ عُدْو?نًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30]، ويقول تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]. فليت شعري من يسمع هذا الوعيد كيف يجرؤ على قتل نفسه؟! ومن يسمع هذا الوعيد كيف يجرؤ على قتل النفس التي حرم الله تعالى؟!
يا أيها المعتز بدينه والمتعالي بكرامته أن يدنّسها اليهود والنصارى، إن هذا أمر نشاركك فيه، ولكن ضوابط الشريعة تمنعنا من تخطيها، فما الذي يضطرنا إلى هذا الطريق الضيق في مجاهدة الكفار؟! هذا الطريق الذي رأيناه في التفجيرات القريبة مليء بالمخاوف الشرعية على عامله قبل غيره، فهو في عمله هذا يدور بين أمرين: إما أن يعطل نصوص الشريعة ويجعل نفس ه في نجوة منها، وإما أن يتقحمها بتأويلات باردة، وهذا والله هو قمّة الحماس، ولكنه في الحقيقة يفتقد الورع والخوف من وعيد الله تعالى، والذي عهدناه من ديدن العلماء والصالحين هو التزام الورع والوقوفُ عند حدود الله خوفًا من الله وتعظيمًا لحرماته، أفلا يسع الشابَّ الناشئ ما وسع العلماء والصالحين، يقول رسول الهدى : ((لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)) رواه البخاري.
يا أيها المعتز بدينه والمتعالي بكرامته أن يدنسها اليهود والنصارى ، إن دين الله تعالى قد جاء بمراعاة المصالح والمفاسد في الجهاد والعمل لنصر هذا الدين، وذلك بناء على القاعدة العظيمة التي ذكرها الله في كتابه كما في قوله تعالى: وَلاَ تَسُبُّواْ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ فَيَسُبُّواْ ?للَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]، وانتهجها النبي في سيرته الزكية، ومن ذلك ترك النبي قتل المنافقين الذين كفروا بعد إيمانهم، ومع ذلك لم يقتلهم النبي ، ورأى في دين الله فسحة أن يترك قتلهم خشية من المفاسد المترتبة على هذا القتل وهي أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، وإن مخالفة سنة النبي واتخاذ غيره أسوة لا يورث إلا الفتنة والعذاب كما قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
كما أن النبي رأى في دين الله فسحة أن يؤجل قتال بعض الأعداء في أوقات الضعف أو الانشغال بقتالٍ آخر، وهذا من السياسة الشرعية التي يهبها الله لأوليائه وجنده قبل أن يمكّن لهم في الأرض وبعده، فهذا رسول الله يهادن قبائل اليهود عندما أتى المدينة في وقت الضعف، ويصالح قريشًا في الحديبية، وينصرفُ عن ثقيف، ويستميل زعماء غطفان وغيرها بالعطاء، وكان إذا أراد أن يغزو قومًا ورّى بغيرهم، وإذا عاداه قوم حرص على مصالحة الآخرين ليتفرغ لهم، وإذا حالفته قبيلة مثل خزاعة وهب مشركها لمسلمها ولم يستعْدِه، إذ لو فعل فربما خسر القبيلة كلها، وكان يفرق بين من نصره وحماه من المشركين، وبين من عاداه وآذاه وآذى أصحابه، كما أن المشركين كان منهم من تقاسموا على الكفر وعلّقوا صحيفة الجور والحصار في الشعب، ومنهم من أنكره ومزَّقها، فالنبي كان يفرّق بين هذا وهذا، وعامة الأمة اليوم تعمل بهذا التفريق المحمدي، فهي تفرح بمقتل يهودي في فلسطين أو نصراني في العراق، وترى ذلك جهادًا في سبيل الله، ولكنها تحزن إذا رضخ البعض لقلة الحيلة، فحكّموا عاطفتهم وقدموها على الشرع، فقتلوا المسلمين أو المعاهدين في بلاد الإسلام والذين لا ناقة لهم ولا جمل.
إنه لمن المؤسف أن تغيب هذه الحقائق الشرعية عن البعض، فنجدهم يستسلمون لأمواج الأحداث، ويدفعون بأنفسهم إلى ارتكاب الكبائر المتوعَّد عليها في القرآن بالوعيد الشديد، وذلك مع صراحة النصوص في أن المخالفين لنا في الدين ليسوا على حكم واحد، بل منهم المحارب المعتدي، ومنهم المسالم العادل، ومنهم المعاهد والمستأمن، والتفريق بينهم في التعامل ثابت بصريح القرآن وصحيح السنة وسيرة الخلفاء الراشدين وإجماع العلماء، يقول تعالى: وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً [النساء:92]، ويقول رسول الهدى : ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا)) أخرجه البخاري، وهذا وعيد شديد لمن تعرض للمعاهدين، ولم يكن هذا الوعيد بهذه الشدة إلا لأن البعض ربما استخف بحقوقهم لما فيهم من الكفر، فجاء هذا الوعيد ليردع بعض المتحمسين الذين لم يتبصروا بنور العلم الشرعي.
ولقد كان العهد والجوار محترمًا عند رسول الله حتى ولو كان المعاهد للمشركين من عامة القوم، فذمة المسلمين واحدة، يقول النبي : ((المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم)) ، ولما أجارت أم هانئ رضي الله عنها رجلاً مشركًا عام الفتح وأراد علي بن أبى طالب رضى الله عنه أن يقتله ذهبت للنبيّ فأخبرته فقال : ((قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)) أخرجه البخاري ومسلم.
يا أيها المعتز بدينه والمتعالي بكرامته أن يدنسها اليهود والنصارى، يجب علينا ونحن نفكر في مقاومة الذلة والمهانة أن نُحكِّم شرع الله في تصرفاتنا، يجب علينا بلا خيار أن نرجع إلى نصوص الشريعة المحكمة، وأن لا نتذرع في انتهاك كبائر المحرمات بتأويلات باردة خاطئة منزَّلة في غير محلها.
يا أيها المسلم، اتق الله تعالى أن تلقاه وفي عنقك أنفسٌ مسلمة معصومة وأموال مسلمة معصومة أو ذرائع أوجدتها لأهل الكفر يتسلّطون بها على أهل الإسلام أو أسباب يفرح بها أهل النفاق ليحاربوا بها الدعوة إلى الله عز وجل، ولا شيء حصلته وراء ذلك إلا موت عدَد يسير من الناس كلّهم من معصومي الدماء: إما مسلم أو معاهد، ثم يكون المرء قد ختم حياته بمجموعة من الكبائر المحرّمة في شرع الله ، على أمل المغفرة من الله بسبب نيتك الصادِقة، وفي هذا ما فيه من المخاطرة الكبيرة والبعد عن الورع، فمن يضمن لك هذه المغفرة وقد جعلها الله تحت مشيئته: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذ?لِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:116].
إنّ هؤلاء الذين ألهبوا مشاعرك ثم وجهوها ذلك التوجيه الخاطئ لن يغنوا عنك من الله شيئًا، وستلقى الله تعالى غدًا مسؤولاً عن نفسك التي قتلتها، وعن أنفس مسلمة أو معاهدة أزهقتها، وعن أموال محرمة أتلفتها.
اللهمّ إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم وكما عصمتَ منها دماءنا وأموالنا فاعصمنا من الخطأ فيها بألسنتنا وأقلامنا، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، ما نريد قوله في هذه العجالة هو أن الأخصّائيين النفسيّين يؤكّدون على قوة الدافع لمثل هذه الأعمال عند بعضِ الشباب، ففي بعض المراحِل العمرية تجد أن الشابّ يأبى الضّيم والمهانة مع ضعفٍ فيه، فإذا كسِرت شأفته لجأ إلى مثل هذه الأعمال الانتقاميّة من عدوّه حتى ولو كان فيها من المفاسد الشيء الكثير، فهذا الشعور قويّ في سلطانه عليهم بسبب ما يرونه ويشاهدونه من الاستفزاز اليهودي والأمريكي، وإذا كان الدافع قويًّا وموجودًا فيجب أن يكون التوجيه والإرشاد والتوعية بالمستوى المطلوب من أجل إقناع هؤلاء، وينبغي أن يكون ذلك على كافة الأصعدة في الإذاعة والتلفاز والمدرسة وخطبة الجمعة وحلقة القرآن والمركز الصيفي، ويجب أن ننطلق من شريعة الله تعالى وأنها تحرّم هذه الأعمال ولا تدعو إليها، ونقطع بذلك الطريق على المصطادين في الماء العكر، والذين يريدون استغلال هذه الأحداث من أجل التهجّم على شعائر الإسلام.
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يدفع عنا سوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يهيّئ لشباب الإسلام دعوة رشيدة وأفكارًا سديدة، تنوّرت بنور الوحي، وانضبطت بقيود الشرع، وانطلقت في نصرة هذا الدين، حتى يحقّق الله لهذه الأمة ما تصبو إليه من إقامة علم الجهاد ورفع راية الإسلام في كل مكان.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد..
(1/3414)
المحاسبة في الثبات على دين الله
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, فضائل الأعمال
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
29/12/1424
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية التأمل في النفس والعمل على ما يصلحها. 2- حاجة المسلمين إلى الثبات. 3- وسائل الثبات على دين الله. 4- أهمية المداومة على الأعمال الصالحة. 5- الصبر من أهم أسباب الثبات على دين الله. 6- فضيلة الصوم في شهر الله المحرم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، مع دورة الأفلاك وتعاقب الليل والنهار وانصرام الشهر بعد الشهر ومجيء العام بعد العام، وعلى مشارف عام ينتهي وإطلالة عام يبتدي لا بد للإنسان أن يرجع إلى نفسه فيقف معها ويتأمّل فيما يصلحها وما يضرها؛ فنهاية عام يعني أن الله متع ابن آدم فيه ما يزيد على ثمانية آلاف وخمسمائة ساعة، وكم في هذه الساعات من نبضات قلب ما كان له أن يعيش لو أن الله أوقفها لحظة من الزمن، وكم صعد خلال هذه المدة من نفَس ما كان للإنسان أن يعيش لو كتمه الله لحظة من الزمن.
عام يمضي يعني امتلاء السجلات بما كسبت يداك وسطّره الكرام الكاتبون لك أو عليك، وغدًا سيكشف عن المخبوء وتبلَى السرائر، فأعدّ للسؤال جوابًا، وللجواب صوابًا، ومن كان مقصّرًا فليستعتِب، ومن كان محسنًا فليزدَد، وعليكم بالثبات على دين الله تعالى، الثباتَ الثباتَ، حاسبوا أنفسكم عليه في ختام العام حتى تلقوا ربكم غيرَ مبدّلين ولا مغيّرين، يقول رسول الهدى : ((بادِروا بالأعمال فتنًا كقِطَع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)) رواه مسلم.
إخوة الإسلام، نحن في حاجة اليوم إلى فقهِ الثبات على دين الله تعالى أكثر من أيّ فترة مضت، أفواج المنحدرين قد كثرت، ومزامير الشياطين قد علت، والأطباق في كثير من البيوت قد تمكنت.
ما أوضاع المسلمين اليوم؟ وما أنواع الفتن والمغريات التي بنارها يكتوون وأصناف الشهوات والشبهات التي بسببها أضحى الدين غريبًا فنال المتمسكون به مثلاً عجيبًا ((القابض على دينه كالقابض على الجمر)) ؟
ولا شك عند كل ذي لبّ أن حاجةَ المسلمِ اليومَ لفقه الثبات أعظمُ من حاجة أخيه أيام السلف، والجهد المطلوب لتحقيقه أكبر من أي وقت مضى؛ وما ذاك إلا لفساد الزمان وندرة الإخوان وضعف المعين وكيد الفاجر مع قلة الناصر، ولقد كثرت حوادث النكوص على الأعقاب والانتكاسات إلى الوراء والانحدار إلى الفساد؛ مما يحمل المسلمَ على الخوف من أمثال تلك المصائر، ويتلمس أمورًا يتحصّن بها، فلقد عشنا سنين متطاولةً في هذه البلاد المباركة ونحن في معزل عن كثير من الفتن، وكان يتقاطر علينا الفساد من بعض الجوانب، ولكنه انهمر اليوم، يمطر بيوتًا كثيرة بوابله المشين، حتى تغيرت بيوتٌ وانتكست فطرٌ؛ فساء مطر المنذرين، وألفَت الفتنُ أمةً لم تتحصّن كثيرًا بالثبات وفقهه، وألفتِ الفتنُ بعضًا من القوم لم يتركوا الفساد رغبةً مجردة فيما عند الله، وإنما لأنه لم يتوفّر لهم، فلما كان الخيار لهم بين طريقين واضحَين متاحين إذا هم لا يمتنعون من الانزلاق، ولا يردّون يد لامس، بل يستبيحون محارمَ الله بأدنى الحيل.
نعم إخوة الإسلام، حُذِّرنا من هذه الفتن، وبُيّنَت لنا حرمتها، ولم تزدد إلا سوءً، ومع ذلك كثير من الناس ثبتوا زمنًا ثم استباحوا محارم الله بالأهواء والحيل، فلم يكن البعض في سبيل الثبات بأقوياء، ولا في سبيل الأمانة على الأهل والذريات بأوفياء.
ومن رحمة الله عز وجل بنا أن بين لنا في كتابه وعلى لسان نبيه وفي سيرته وسائلَ كثيرةً للثبات، يلجأ إليها المسلم في مثل هذا الزمان، ويستعين بها حتى يلقى الرحمن، ومن أبرزها أثرًا وأكثرها نفعًا لدين المرء ما يحصل له من الأثر الجميل إذا أقبل على كتاب الله تعالى، فالقرآن هو وسيلة الثبات الأولى، وهو حبل الله المتين والنور المبين، من تمسّك به عصمه الله، ومن اتّبعه أنجاه الله، ومن دعا إليه هُدِي إلى صراط مستقيم، ولقد نصّ الله على أنّ الغاية التي من أجلها أنزل هذا الكتاب منجّمًا مفصّلاً هي التثبيت، فقال تعالى في معرض الردّ على شُبه الكفار: وَقَالَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ?لْقُرْءانُ جُمْلَةً و?حِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَـ?كَ بِ?لْحَقّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان:32، 33]، لقد كان القرآن مصدَرًا للتثبيت؛ لأنه يزرع الإيمان ويزكي النفس بالصلة بالله، ولأن تلك الآيات تتنزل بردًا وسلامًا على قلب المؤمن، فلا تعصف به رياح الفتنة، ويطمئن قلبه بذكر الله، ولأنّ القرآن يزوّد المسلم بالتصوّرات والقيم الصحيحة التي يستطيع من خلالها أن يُقوِّم الأوضاع من حوله، وكذا الموازين التي تهيّئُ له الحكم على الأمور فلا يضطرب حكمه ولا تتناقض أقواله باختلاف الأحداث والأشخاص.
ومن هنا نستطيع أن ندرك الفرق بين الذين ربطوا حياتهم بالقرآن وأقبلوا عليه تلاوة وحفظًا وتفسيرًا وتدبرًا ومنه ينطلقون وإليه يفيئون وبين من جعلوا كلام البشر جلّ همهم وشغلهم الشاغل، ويا ليت الذين يطلبون العلم يجعلون للقرآن وتفسيره نصيبًا كبيرًا من طلبهم، فوالله سيجدون أثره صلاحًا في أعمالهم وثباتًا في قلوبهم.
ومن وسائل الثبات على دين الله ما يحصل للمرء من التزام شرع الله والعمل الصالح، فمن يلتزم شرع الله يثبته الله، يقول المولى جل وعز في كتابه: يُثَبّتُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?لْقَوْلِ ?لثَّابِتِ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَيُضِلُّ ?للَّهُ ?لظَّـ?لِمِينَ وَيَفْعَلُ ?للَّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:27]، قال قتادة: "أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة في القبر"، وكذا روي عن غير واحد من السلف، وقال سبحانه: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [النساء:66]، أي: تثبيتًا على الحق والصراط المستقيم في وقت الفتن، وهذا بيّن ظاهر البيان، وإلا فهل نتوقع ثباتًا على الدين من الكسالى القاعدين عن صلاة الفجر وعن الأعمال الصالحة؟! إن هؤلاء هم المسارعون في الفتن إذا ادلهمت، وهم حطبها إذا اتَّقدت، ولكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم صراطًا مستقيما، ولذلك كان يثابر على الأعمال الصالحة، وكان أحب العمل إليه أدومه وإن قل، وكان أصحابه إذا عملوا عملاً أثبتوه، وكانت عائشة رضي الله عنها إذا عملت العمل لزمته.
ومن صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجّهون إلى الله بالدعاء أن يثبّتهم، ويذكرون الله كثيرًا، وهذان الأمران: الدعاء وذكر الله من الوسائل العظيمة في ثبات المسلم، ولقد حكى لنا القرآن دعاء المؤمنين مغريًا بالاقتداء بهم أنهم يقولون: رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8]، رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا [البقرة:250]. ولما كانت قلوب بني آدم كلُّها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء كان رسول الله يكثر أن يقول: ((يا مقلب القلوب، ثبّت قلبي على دينك)) رواه الترمذي عن أنس وصححه الألباني. وتأمل في هذا الاقتران بين الأمرين في قوله عز وجل: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَ?ثْبُتُواْ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيرًا [الأنفال:45]، فجعل ذكر الله من أعظم ما يعين على الثبات في الجهاد، وهل ثبت يوسف عليه السلام في محنته أمام امرأةٍ ذات منصبٍ وجمالٍ إلا بالذكر والدعاء، قَالَ مَعَاذَ ?للَّهِ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاى [يوسف:23] وهذه استعاذة وذكر، وقال عليه السلام: رَبِّ ?لسّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مّنَ ?لْجَـ?هِلِينَ [يوسف:33] وهذا دعاء، قال تعالى: فَ?سْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [يوسف:34]، لقد تكسرت أمواج جنود الشهوات على أسوار حصنه، وهو الذكر والدعاء، وكذا تكون فاعلية الأدعية والأذكار في تثبيت قلوب المؤمنين.
إخوة الإسلام، ومن أعظم وسائل الثبات أن يتلقى المسلمُ تربية إيمانية وعلمية واعية، وهل كان مصدر ثبات صحابة النبي في مكة إلا بهذه التربية الواعية؟! كيف ثبت بلال وخباب ومصعب وآل ياسر وغيرُهم من المستضعفين، وحتى كبارُ الصحابة في حصار الشعب وغيره؟! وهل يمكن أن يكون ثباتهم بغير تربية عميقة من مشكاة النبوة صقلت شخصياتهم؟! لا شك أن هنالك تربية عميقة من لدن رسول الهدى محمد.
معاشر المسلمين، وبعض الناس يشعره الشيطان بأنه يسبح ضدّ التيار، وأن الناس كلَّهم هكذا، ولا بد من الاندماج في المجتمع ومواكبة العصر وغير ذلك من الحجج التي لا تعارض بينها وبين الثبات، ولكن الأفهام تختلف، ولهؤلاء نقول: إن الصراط المستقيم الذي تسلكه ـ يا أخي ـ ليس جديدًا، ولا وليد قرنك وزمانك، وإنما هو طريق عتيق قد سار فيه مِن قبلِك الأنبياءُ والصديقون والعلماء والشهداء والصالحون، فإذا عرفت ذلك فهل تشعر بالغربة مع هؤلاء؟! وهل تستوحش في طريق سلكه الأنبياء؟!
فيا أخي أزل غربتك، وبدّل وحشتك، وما يضرّك من فساد زمانك إذا وثقت بطريقك أنها موصله، وأنها صراط الذين أنعم الله عليهم، وهؤلاء كلهم إخوة لك في الطريق والمنهج، فقرَّ عينًا وطب نفسًا، فوالله إن قلة السالكين معك اليوم يدلّ على اصطفائك لا على أخطائك، والله كما يصطفي أنبياءه يصطفي أولياءه، فبدّل شعورك بالغربة شعورًا بالاصطفاء، قال الله عز وجل: قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النمل:59]، وقال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا ?لْكِتَـ?بَ ?لَّذِينَ ?صْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32]. ماذا يكون شعورك لو أن الله خلقك جمادًا أو دابة أو كافرًا ملحدًا أو داعيًا إلى بدعة أو فاسقًا أو مسلمًا غير معتزّ بإسلامه وغير ذلك؟! فإذ لم تكن واحدًا من هؤلاء ألا تشعر أنك مصطفى؟! ألا ترى أن شعورك باصطفاء الله لك يزيل عنك كثيرًا من الغربة ويزيدك ثباتًا على منهجك وطريقك؟! بلى هو كذلك.
ثبتك الله وسدّدك، وألهمك رشدَك ووفّقك.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، النفس إن لم تتحرّك تأسن، وإن لم تنطلق تتعفّن، ومن أعظم مجالات انطلاق النفس الدعوة إلى الله، فهي وظيفة الرسل ومجال إبراز الطاقات وإنجاز المهمات، والدعوة بالإضافة لما فيها من الأجر العظيم هي وسيلة من وسائل الثبات والحماية من التراجع والتقهقر؛ لأن الذي يُهاجِم لا يحتاج للدفاع، والله مع الدعاة يثبتهم ويسدد خطاهم.
معاشر المسلمين، يقول : ((إن من الناس ناسًا مفاتيح للخير مغاليق للشر)) رواه ابن ماجه وحسنه الألباني، وهؤلاء صحبتهم والبحث عنهم من أعظم وسائل الثبات، ابحث عن العلماء والصالحين والدعاة المؤمنين، وقد حدثت في التاريخ الإسلامي فتن ثبت الله فيها المسلمين برجال، ومن ذلك ما قاله علي بن المديني رحمه الله تعالى: "أعزّ الله الدين بالصدِّيق يوم الردّة وبأحمد يومَ المحنة". وهنا تبرز الأخوّة الإسلامية كمصدر أساسي للتثبيت، فإخوانك الصالحون، هم مُعين كبير لك في الطريق، وهم ركن شديد تأوي إليه؛ فيثبتونك بما معهم من آيات الله والحكمة. الزمهم وعش في أكنافهم، وإياك والوحدة فتتخطفك الشياطين، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
معاشر المسلمين، قد ينزلق البعض في الفساد بسبب الإعجاب والاغترار بما يتظاهر به أهل الباطل، ولقد حذر الله من هذا وحثّ المؤمنين على استبانة سبيل المجرمين فقال تعالى: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ?لْبِلَـ?دِ [آل عمران:196]، وفي هذا تسرية عن المؤمنين وتثبيت لهم، وفي قوله عز وجل: فَأَمَّا ?لزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء [الرعد:17] عبرة لأولي الألباب في عدم الخوف من الباطل والاستسلام له، ومن طريقة القرآن فضح أهل الباطل وتعرية أهدافهم ووسائلهم قال تعالى: وَكَذَلِكَ نفَصّلُ ?لآيَـ?تِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ?لْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55]، حتى لا يؤخذ المسلمون على حين غرة، وحتى يعرفوا من أين يؤتى الإسلام، ومن هذا الباب ما يقوم به الدعاة من كشف خطط المفسدين والمنافقين وغيرهم لاستبانة سبيلهم ومعرفة حالهم وأنها لا تستحقّ الاغترار بها أو الإعجاب.
إخوة الإسلام، ومهما يكن من الوسائل المعينة على الثبات فإنه لا محيص من استجماع الأخلاق المعينة على الثبات وعلى رأسها الصبر، لا يمكن أن تفعل شيئًا من الوسائل إذا لم تكن صابرًا، وفي الحديث قال : ((وما أعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر)) رواه البخاري ومسلم.
وبعد: إخوة الإسلام، فإن الثبات على دين الله مطلب عزيز ومرتقى صعب، لا يتجاوزه إلا المخفّون من الذنوب والموفّقون من عباد الله، فاجعل من محاسبتك لنفسك هذا العام أن تتفقّد ثباتك على الطريق الذي تحبّ أن تلقى الله عليه، تفقّد ثباتك على الطريق الذي تحبّ أن تختم حياتك به، فما أكثر الصالحين المتنسكين في المواسم، وما أقلّ الثابتين على الخير، وما عساك تستفيد من عمل سبق أن عملته ولكنك طمسته؟! وما نَفْعُك من خير عملته يومًا وتركته دهرًا إلا نفع قليل؟! وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل.
أيها المسلمون، تذكّروا أن عامًا بأكمله سيجري الله فيه ما يشاء من الأحداث، ويقدّر فيه ما يشاء من الأرزاق، ألا فاسألوا ربكم من خير هذا العام، واستعيذوا به من شروره وفتنه، فلا يردّ القضاء إلا الدعاء، وكم من فتنة حصلت، وكم من أمراضٍ ومصائبَ وشرورٍ حدثت في العام المنصرم، فإذا سلمكم الله منها فيما مضى فاسألوه أن يحفظكم منها ويعيذكم من شرورها فيما تستقبلون من عامكم الجديد.
وإنكم في هذا الأسبوع تستقبلون شهر الله المحرم، وهو إضافة على كونه محرمًا فله مزيّة أخرى وهي فضل صومه قال: ((أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل)) رواه مسلم.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3415)
الحب الشرعي وعيد الحب
الأسرة والمجتمع, الإيمان
الولاء والبراء, قضايا المجتمع
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
14/12/1423
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عيد الحب في أصله عيد الخنا والفجور. 2- حرمة الاحتفال بأعياد الكفار. 3- أمثلة من حب النبي. 4- مجالات الحب في الإسلام أشمل وأسمى. 5- دراسات وأرقام حول الزواج عن طريق الحب. 6- عيد الحب مناقض لعقيدة الولاء والبراء. 7- بعض تجار المسلمين يكونون عونا في مثل هذه الاحتفالات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، وفي الوقت الذي يحتفل فيه المسلمون بعيدِهم المباركِ عيدِ التوحيد لله تعالى وتكبيره وتمجيده وشكرِه، وعيدِ الإحسان لعباد الله وبذلِ المعروفِ لهم وإدخالِ السرور عليهم، عيدِ الطهرِ والنقاء والعفاف والصفاء، يحتفل غيرهم بعيدٍ يخالِف اسمه مسمّاه، يسمونه عيد الحب، وحقيقته الخنا والفجور والعهْر، يُرتَكَب فيه من الفواحش ما لا يخطر على بال ولا يقبله شريف، يستدرِجون به الناس إلى حمأة الشهوات والرذيلة.
وليس الحديث عنه ترويجًا، وإنما المقصود هو التحذير منه لأنه في الواقع عيد رائج لا يحتاج إلى ترويج، وإنما يحتاج إلى تحذير، يدل على ذلك الحركة التجارية التي تصاحبه والتي تؤكد تفشي هذا الوباء في قطاع من المجتمع لا يستهان به، وهم فئة الشباب من البينين والبنات، وهو عادة جاهلية وبدعة مذمومة وتقليد أعمى اخترقت به الفضائيات خصوصيات المسلمين. ولا شك أن هذا العيد إنما هو دعوة وراءها ما وراءها من إغراء بالشهوات وإشاعة للفحشاء والانحلال بين أبناء المسلمين تحت مسمى الحب ونحوه.
ولسنا نحرّم الحب إذا حرّمنا هذا العيد، فهذا عيد من أعياد الكفار، والمسلمون قد عوضهم الله بعيدين شرعيين لا يجوز لهم الاحتفال بغيرهما، والأعياد من خصائص الأمم، فلا يجوز لنا أن نشارك أمم الكفر الذين هم أعداؤنا في أفراحهم واحتفالاتهم، ولا شك أنه من الخطأ أن يخلط الإنسان بين ظاهر اسم اليوم وحقيقة ما يريدون من ورائه؛ فالحبّ المقصود في هذا اليوم هو العشق والهيام واتخاذ الأخدان، والمعروف عنه أنه يوم الإباحية والجنس عند الكافرين، لا قيود ولا حدود، ولا شك أنهم لا يتحدّثون عن الحب الطاهر بين الرجل وزوجته والمرأة وزوجها، وإنما عن علاقات محرمة.
أيها المسلمون، إن التعبير عن المشاعر والعواطف لا يسوِّغ للمسلم إحداثَ يوم يعظمه ويخصّه من تلقاء نفسه بذلك ويسميه عيدًا أو يجعله كالعيد.
ولا توجد أمة من الأمم ولا دين من الأديان يحث أبناءه على التحابِّ والمودة والتآلف كدين الإسلام، وهذا في كل وقت وحين لا في يوم بعينه، بل حث على إظهار العاطفة والحب في كل وقت، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه إياه)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح غريب"، وجعل المحبة طريقًا إلى الجنة كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: ((والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) ، وهذا رسولنا عليه الصلاة والسلام يضرب لنا أروع الأمثلة في محبته لأهل بيته كما جاء في السنة المطهرة؛ فيحرص عليه الصلاة والسلام أن يشرب من الموضع الذي شربت منه زوجه عائشة رضي الله عنها، وفي مرض موته يستاك بالسواك الذي رطبته له، ويموت عليه الصلاة والسلام بين سحرها ونحرها، فأي حبّ أشرف وأسمى من هذا؟! بل إن المسلم تمتد عاطفته لتشمل حتى الجمادات، فهذا جبل أحد يقول عنه عليه الصلاة والسلام: ((هذا أحد جبل يحبنا ونحبه)) ، ولا شك أن الحب في الإسلام أعم وأشمل وأسمى من قصره على الحب بين الرجل والمرأة، بل هناك مجالات أشمل وأرحب وأسمى، فهناك حب الله تعالى وحبّ رسوله عليه الصلاة والسلام وصحابته وحب الدين ونصرته وحب الشهادة في سبيل الله وهناك محاب كثيرة، فمن الخطأ والخطر إذًا قصر هذا المعنى الواسع على هذا النوع من الحب.
أيها المسلمون، ولعل البعض يظن متأثّرًا بما تبثّه وسائل الإعلام ليل نهار أنه لا يمكن أن ينشأ زواج ناجح أو انسجام تام إلا إذا قامت علاقةُ محبة قبله بين الشاب والفتاة، وقد يغفل الإنسان حينما تتكرر عليه العروض الإغرائية عما تتضمنه من دعوة إلى الاختلاط والانحلال وكثير من الانحرافات الخلقية، وما ينشأ عنه من فساد كبيرٍ وجرائم عظيمة وضياع للحرمات والأعراض، لسنا في مقام بيانها، لكن نشير إلى أن الدراسات العلمية أثبتت نقيض هذا المفهوم الخاطئ الذي تروّج له وسائل الإعلام، ففي دراسة أجرتها جامعة القاهرة حول ما أسمته بزواج الحب والزواج التقليدي جاء في الدراسة أن الزواج الذي يأتي بعد قصة حب ينتهي بالإخفاق بنسبة ثمان وثمانين في المائة، أي: بنسبة نجاح لا تتجاوز اثني عشر في المائة، وأما ما أسمته الدراسة زواجا تقليديًا فهو يحقّق النجاحَ بنسبة سبعين في المائة، وبعبارة أخرى فإنّ عدد حالات الزواج الناجحة في الزواج الذي يسمونه تقليديًا تعادل ستة أضعاف ما يسمى بزواج الحب.
وهذه الدراسة أكدتها جامعة سيراكوز الأميركية في دراسة تبيّن منها بما لا يقبل الشك إطلاقًا أن الحب أو العشق ليس ضمانة لزواج ناجح، بل في الأغلب يؤدي إلى الإخفاق، وما هذه النسب المخيفة في حالات الطلاق إلا تصديق لهذه الحقائق. يقول أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة تولين: "إنّ الحب الرومانسي قوي وعاطفي جدًا، ولكنه لا يدوم، بينما الحبّ الواقعي مرتبط بالأرض والحياة ويستطيع أن يصمد أمام التجربة". وهذا الذي يسميه الحبَّ الواقعي هو ما عبر القرآن عنه بالمودة في قوله تعالى: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جًا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]. فالصلة بين الزوجين صلة مودة ورحمة، وليست علاقةَ عشق وهيام وصبابة وغرام، فهي صلة محبة هادئة، لا أوهامٍ عشقية لا تثبت على أرض الواقع، ولا خيالات غرامية لم يقم عليها أيّ زواج ناجح. وما أفقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال مخاطبًا النساء: (إذا كانت إحداكن لا تحبّ الرجل منا فلا تخبره بذلك؛ فإن أقلّ البيوت ما بني على المحبة، وإنما يتعاشر الناس بالحسب والإسلام).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها الإخوة المتحابون بجلال الله، إن الاحتفال بمثل هذا الأعياد مناقض لعقيدة الولاء والبراء ولوازمها، وهو من التشبه بأهل الكتاب في مظاهرهم وأعيادهم وأيامهم، وهو مخالفة صريحة لنهي النبي عن التشبه بالكافرين، ومزاحمة لأعياد الله التي جعلها كافية لهذه الأمة المحمدية المرحومة.
فيا أيها المسلم، دع عنك التبعية لأعداء الدين، والتفت إلى المحبة في الله والبغض في الله؛ فالمرء مع من أحب يوم القيامة، واقتدِ بالصحب الكرام في هذا الأمر، فلقد ضربوا أروع الأمثلة في المحبة العالية السامقة المقرّبة إلى الله تعالى، فلقد روى الطبراني في الأوسط من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، إنك لأحبُّ إليّ من نفسي، وإنك لأحبُ إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعتَ مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي فأنزل الله: وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لَّذِينَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِم [النساء:69].
وإذا حقت الحاقة ووقعت الواقعة وزلزلت الأرض زلزالها ودنت الشمس من الرؤوس فحدث ولا حرج عن الكرامات لهؤلاء المتحابين بجلال الله، يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) ، وذكر منهم: ((رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه)) ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي أخبر أن الله يقول يوم القيامة: (( أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي )).
إخوة الإسلام، ولا شك أن الوعيَ بخطر هذا العيد وتحريمه قد تحسّن في المجتمع بشكل كبير، وعلم كثير من الشباب والشابات ما في هذا العيد من الخطر على عقيدتهم وسلوكهم، وحتى وسائل الإعلام في هذا البلد بحمد الله تحذر منه وتغري المسؤولين بالتصدي لمظاهره، لكنها ليست بريئة من إفساد عقليات الشباب والشابات بالأفلام التي تعرض والمسلسلات التي تنشر، والتي تزين الحبّ بين الفتى والفتاة، وتصور العشق مقدمة لا بد منها لأيّ زواجٍ ناجح كما يزعمون، فهي مع كونها ترسّخ في أذهان الفتيات الصغيرات أوهامًا وخيالات تجعلهن عرضة للخطأ وصيدًا سهلاً لشباك الشباب الزائغ الضائع فإلى جانب ذلك تعمل على هدم المجتمع وترفع نسَب الطلاق؛ فتهدم المجتمع بإثارة الفتنة والشهوات بين أبنائه، وترفع نسب الطلاق حين تحسَب الفتاة بعد الزواج أن زواجها قد أخفق؛ لأن مشاعر العشق توقفت، وواقعية الزواج ظهرت، والمسؤوليات تسارعت؛ فتحسب المخدوعة أن زواجها أخفق. وكذلك يحسب الفتى الذي يجد زوجته قد انشغلت ببيتها وأولادها ولم تعد تظهر له العواطف القديمة ومشاعر العشق الوالهة أن زواجه قد أخفق؛ فينشأ الشجار لأتفه الأسباب، وتشتد الخلافات، ويحتدم الشقاق، وربما وقع الطلاق.
إخوة الإسلام، ويشارك وسائل الإعلام في نشر مثل هذه الأعياد البدعية بعض تجار المسلمين الذين يدفعهم حرصهم على ربح عاجل إلى بيع ما يستعان به على الاحتفال بمثل هذه الأعياد، ولا شك أن هذا لؤم وتجرد من المسؤولية ومشابهة لليهود في خيانتهم وإفسادهم لمجتمعاتهم، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن بيعهم في أعيادهم للأكل والشرب واللباس يكره كراهة تحريم؛ لأن هذه إعانة قد تفضي إلى إظهار الدين الباطل.. وهذا أعظم من إعانة شخص معين، وهذا المنع إذا كان يبيعه لأهل الكتاب ليستعينوا به على دينهم؛ فكيف ببيعه للمسلم المأمور بعدم التشبه بهم أصلاً؟!
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3416)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
22/4/1424
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1-أهل الفساد من قضوا على الأمم التي أهلكها الله بسبب عصيانهم. 2- شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاصية هذه الأمة. 3- ثمرات واقعية لتطبيق مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 4- الناقمون على الآمرين بالمعروف هم فئة ضالة تتبع الشهوات.5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس فضولاً ولا تدخلاً في خصوصيات الآخرين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، لقد قصَّ الله تعالى علينا أخبار الأمم السابقة والعواقبَ الوخيمة التي انتهوا إليها حين شاعت فيهم الانحرافات والمخالفات، دون أن يرفع أحد منهم رأسًا أو يقول كلمة لأولئك الذين يستعجلون أيام الله لأنفسهم ولأممهم، فقال تعالى : لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79]. وعندما نقلب صفحات التاريخ وأحداثه نجد أن أممًا وحضارات سادت ثم بادت، وحينما نتعمّق في البحث عن أحوال هذه الأمم نجد أن الفساد وأهله هم الذين قضوا على تلك الأمم، وعاثوا في الأرض فسادًا، وأشاعوا الفاحشة، وأرخصوا القيم العليا في الوقت الذي غُفِل عنهم ولم يؤخذ على أيديهم، وهكذا تتحلّل الأمم وتسترخي وتفقد حيويتها، فتهلك وتطوى صفحتها.
وكان من نعمة الله على أمة الإسلام أن قرّر لها في شرعتها ما هو سبب بقائها واستمرارها، ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعله من الخصائص والمميزات التي تفردت بها هذه الأمة عن سائر الأمم الكافرة الضالة عن سواء السبيل، يقول تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، وقال تعالى: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، فلا بد من جماعة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لا بد من سلطة في الأرض تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فمنهج الله في الأرض ليس مجرد وعظ وإرشاد وبيان، بل لا بد من قيام سلطة الأمر والنهي على تحقيق المعروف ونفي المنكر من الحياة البشرية وصيانة أخلاق المجتمع الخيّرة من أن يعبث بها كل ذي هوى وكل ذي شهوة وكل ذي مصلحة،برأيه وبتصوره زاعمًا أن هذا هو الخير والمعروف والصواب.
أيها المسلمون، إن كل مجتمع مهما بلغ من الفضل والرقي لا يستغني عن شريحة فيه تتمثل فيها المثل العليا لذلك المجتمع، تحفظ عليه وجوده المعنوي المتمثل في عقيدته وأخلاقه وضوابط علاقاته.
وإن هؤلاء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر يملكون من التوهّجِ في أرواحهم والحيويةِ في نفوسهم ما يجعل همَّ مجتمعِهم همَّهم الأكبر، فيسعَدُ بهم ذلك المجتمع؛ إذ يحفظون عليه توازنه واستقامته وشروط استمراريته، رفعوا عن الأمة الإثم، وحموها من الزيغ، وتمثلوا الفرض الكفائي، وقادوا سفينة الأمة إلى بر النجاة والأمان؛ حيث الأعراض مصانة والخمور مراقة والمعاكسون مقموعون والأمن مستتبّ، يقول رسول الهدى : ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)) رواه البخاري من حديث النعمان بن بشير.
واسألوا ـ إخوة الإسلام ـ من وقع في أيدي الآمرين بالمعروف من الفتيات وهنّ على حالة منكرة: كيف انتشلوهن من بحور الظلمات؟ كيف صانوا أعراضهن؟ كيف أنقذوهن من براثن الكلاب المسعورة التي لا ترحم؟ لم يكن منعُهن من التبرج في الأسواق تعدّيًا عليهن، بل صيانة لهن وحفاظًا عليهن، واسألوا الشباب: كم تائب تاب على أيديهم؟ وكم ضائع اهتدى بسببهم بعد الله؟ وكم حائر أخذوا بيده إلى الطريق القويم؟ كم مدمن للخمر ضربوا على يديه حفاظًا على دينه وصحته؟ وكم تارك للصلاة أرجعوه إلى بوتقة الدين؟ وقل مثل ذلك في المروجين والمتشبهين وغيرهم، ومع ذلك ـ إخوة الإسلام ـ كثير من الناس لا يعلم فضلهم عليه المتجلي في أمنه وصيانة أهله وعرضه وصيانة أمته من العقوبة العامة.
وعلى كل حال فقد جرت سنة الله في الابتلاء أن تلقى هذه الفئة الطيبة الخيرة المُحَارَبة دائمًا، وتلقى الأذية والعنت، وما ذلك إلا لأنها تسير في الاتجاه المضاد لأهل الشهوات والأهواء الذين يمكن أن نسميهم بـ(المختزلة) حيث يقصُرون هموم البشرية كلّها في همّ واحد هو همهم، ويتجاوزون رغبات الخلق ومصالحَهم مهما عظمت إلى رغباتهم ومصالحهم هم، فإذا تحقّقت لهم رغباتهم فلا همّ لهم بما يحدث للأمة بعد ذلك. فئة أنانية تضيق ذرعًا بمن يأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر، تلمزهم وتحطّ من قدرهم، تحيك التهم لهم، تشوّه صورتهم في المجالس، وتريد للمجتمع الفساد كما قال تعالى: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27]، فهم يريدون أن يطلقوا الغرائز من كل عقال: ديني أو أخلاقي أو اجتماعي، يريدون أن ينطلق السعار الجنسي المحموم بلا حاجز ولا كابح، السعار المحموم الذي لا يقرّ معه قلب، ولا يسكن معه عصب، ولا يطمئنّ معه بيت، ولا يسلم معه عرض، ولا تقوم معه أسرة، يريدون أن يعود الآدميون قطعانًا من البهائم، ينزو فيها الذكران على الإناث بلا ضابط إلا ضابط القوّة أو الحيلة أو مطلق الوسيلة، كل هذا الدمار وكل هذا الفساد وكل هذا الشر باسم الحرية، وهي في هذا الوضع ليست سوى اسم آخر للشهوة والنزوة الحيوانية.
وهذا هو الميل العظيم الذي يحذر الله المؤمنين منه، وهو يحذّرهم ما يريده لهم الذين يتبعون الشهوات، وقد كانوا يبذلون جهدَهم لرد المجتمع المسلم إلى الانحلال في المجال الأخلاقي الذي تفوّقوا فيه وتفرّدوا بفعل المنهج الإلهي القويم النظيف، وهو ذاته ما تريده اليوم الأقلام الهابطة والأجهزة الموجّهة لتحطيم ما بقي من الحواجز في المجتمع دون الانطلاق البهيميّ الذي لا عاصم منه إلا منهج الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أيها المسلمون، إن رئاسة الهيئات في هذه البلاد لم تكن تمزح عندما وضعت سفينة النجاة شعارًا لها، ولم تكن أهدافها فراغًا، بل إن نصف الأمن في هذه البلاد قائم عليها، وكثير من الجرائم تحبط على أيديهم.
كم من فتاة قد حفظتم عرضها توصونها باللين أن تتسترا
كم غافل أرشدتموه إلى الهدى إذ عاد من بعد الضلالة مبصرًا
يا من إذا نمنا بثوب أماننا فتحوا العيون الناعسات لتسهرا هيئاتنا تاج على هاماتنا أخشى دونهم أن لا نمطرا
معاشر المسلمين، وإنه نظرًا للأخطار التي تهدد الأمة بخلوِّها من هذه الشريحة المباركة التي تأمر بالقسط والتي تعد قلب الأمة النابض وبصيرتها النافذة فإن الله تعالى قرن محاربة هذه الفئة بالكفر به وقتل رسله حيث قال جلَّ وعلا: إِنَّ ?لَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَـ?تِ ?للَّهِ وَيَقْتُلُونَ ?لنَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ ?لَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِ?لْقِسْطِ مِنَ ?لنَّاسِ فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ ?لَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَـ?لُهُمْ فِي ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَمَا لَهُم مّن نَّـ?صِرِينَ [آل عمران:21، 22].
ولاشك ـ إخوة الإسلام ـ إن الوقيعة في الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر متوقَّعة من الذين يتبعون الشهوات، ذلك أن كل امرئٍ ينفق مما عنده، وكل إناء بما فيه ينضح، ولا تحتاج المسألة إلى تفكير طويل ولا إلى ذهن ثاقب، يهاجمون الهيئات من غير ذنب جنوه ولا إثم ارتكبوه، وإذا أردتَ أن تتعرّف على أسباب ذلك فاسأل مدمن المخدّرات عن محبّته لجهاز مكافحة المخدرات، واسأل اللصوص وقطاع الطرق عن محبتهم لرجال الأمن الذين يأخذون على أيديهم، وهكذا هؤلاء الموتورون، والذين جثموا على صدورنا من خلال وسائل الإعلام، والذين يطالبون بإعادة النظر في شعيرة من أعظم شعائر الدين، بل من خصائص الأمة ومن ميزات هذه البلاد، وما ذاك إلا لأنها منعتهم من شهواتهم المحرمة، وحالت دون تنفيذ مشاريعهم المشبوهة، هؤلاء هم المتربّصون بأمن هذه البلاد، هؤلاء هم الذين كانوا يظهرون الولاء لحكومة البلاد في أيام الرخاء، فلما هبّت الرياح وجاءت الضغوط الخارجية قفزوا عليها بأقلامهم الثقيلة، وزادوا الكافرين ضغطًا على ضغطهم، وقوة إلى قوتهم، وهم في تصرفهم هذا يرتكبون خيانة عظمى لولاة الأمر، فيجب أن يوقفوا عند حدهم، وأن تسمع الشكوى عليهم، وأن يقوم القضاة باستقبال الدعاوى عليهم، حتى يعلموا أي جرم فعلوا، وأي خيانة عظيمة ارتكبوا.
ومع ذلك نحن لا ندّعي العصمة، ولا ننفي الخطأ عن رجال الحسبة، فالخطأ طبيعة ابن آدم، والمحاسبة على الخطأ أمر طبعي إذا كان ذلك يطبّق على جميع الدوائر الحكومية، وأما أن يتسلّق من هذه الأخطاء على إلغاء الجهاز وتعطيل أعماله فهذا هو الاصطياد في الماء العكر، وهو المحاربة لله ولرسوله، وهو مطالبة بتعطيل آيات من كتاب الله تعالى، ومطالبة للدولة بإلغاء ميزة من أعظم مزاياها، وإذا حصل ضعف في أيّ دائرة حكومية فإن ذلك يعالج بالدعم والتطوير وزيادة الموظفين والمعدات وأجهزة الاتصال، أما من يطالب بالإلغاء فهو غير مؤمن بحاجة الأمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو قادح في قرار إنشائه من الأصل ومعترض على شعائر الله.
نسأل الله أن يوفق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر لكل خير، وأن ينصر من نصرهم، ويخذل من خذلهم أو حاول كبتهم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس فضولاً وليس تدخّلاً في خصوصيات الآخرين وحرياتهم الشخصية، وإنما هو قيام بواجب أوجبه الله تعالى وبشعيرة من أعظم شعائر الدين، وأي حرية في التعدي على حدود الله ومحارمه؟! وأي حرية في التعرض لأعراض المسلمين؟! وأي حرية في العبث بفتيات الأمة؟! وأي حرية في شرب الخمر والمتاجرة بها؟! أي حرية في التبرج والسفور وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين؟! أي حرية في التشبه بالنساء وإضاعة حقوق الله والتعدي على محارمه؟! نعم، أي حرية هذه؟! إن هذا تدخّل في البهيمية التي يريد البعض أن يمارسها في الشوارع ونواصي الطرقات، وليست هذه حرية، إن الحرية مقيدة بالكتاب والسنة ونحن نقرأ قوله : ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)).
ونقول في الختام: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة الجميع، والدفاع عن هذه الشعيرة مهمة الجميع، ونقول للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر: إن الوصف بالتدخّل والفضولية هو أقل ما سيأتيكم.
أهل الإيماوةىي
وعلى كل حال فإنّ الذي يظنّ أنه باستطاعته أن يسير في دروب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مقوّمًا للمعوج ومحاربًا للأهواء والشهوات وناصرًا للمظلوم ثم لا يلحقه شيء مما لحق بهم فهو واهم في ذلك، وإلى هذا أشار لقمان وهو يعظ ابنه حين قال : ي?بُنَىَّ أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ وَأْمُرْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?نْهَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَ?صْبِرْ عَلَى? مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ?لأمُورِ [لقمان:17]، فقد أشعر ابنه بما يلحقه من الأذية إذا هو قام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من القائمين بحدود الله، الذابين عن حياض هذا الدين، الغيورين على محارمه، واقدروا لمن يقوم بهذه المهمة قدرهم، وكونوا لهم سندًا، ومدوا لهم يدًا، وكونوا على الحق أعوانا.
(1/3417)
الدخان: حكمه وأضراره
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
8/7/1424
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تأكيد الإسلام على حفظ الضروريات الخمس. 2- تاريخ التدخين. 3- أضرار التدخين الصحية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية. 4- أسباب انتشار التدخين. 5- حكم التدخين في الشرع. 6- بيان حرمة شرب الدخان وبيعه والاتّجار به. 7- دعوة للتوبة إلى الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، لقد أمر الإسلام بالمحافظة على ضروراتٍ خمس، وشدّد في المحافظة عليها، ورتب على انتهاكها حدودًا في الدنيا وعقابًا في الآخرة، ألا وإن هذه الضرورات التي حفظها الإسلام مال المرء وعقله ونفسه ودينه وعرضه، فهذه الأمور تكفلت الشرائع السماوية في أحكامها بحفظ مصالحها، وحرمت كل ما يضر بها، وجاءت شريعة محمد مؤكدة لذلك، مرسّخة له بتعاليمها، وهو أمر مستقر في فطر الناس، متعارف عليه، ولكن هذا قد يغفل عنه في أعمال نشأ البعض عليها وحظيت بالدعم والدعاية الإعلامية الكبيرة، والتي غرت كثيرين وسلبتهم أموالهم وأضرت بأبدانهم وأديانهم، إرباحًا لهذه الشركات العالمية التي لا تريد إلا المال ولا يهمها ما حدث للناس بعد أن تسلبهم أموالهم.
إخوة الإسلام، إن هذا الأمر منطبق تمامًا على حال بعض الناس مع تلك المادة الخبيثة وهي الدخان، وإن الذي دعاني للكلام في هذا الموضوع هو الإيضاح لقطاع كبير من المجتمع يتلقّون الدعاية المتواصلة من الشركات ووسائل الإعلام، ويرون ما توحي به الفضائيات والأفلام من الرجولة في المدخّنين والتفهّم لمعاني الحب والمثل الرقيقة، في الوقت الذي صمتنا فيه عن التحذير والبيان لنقارع الحجة بالحجة والدعاية الفارغة بالبيان العلمي الصحيح.
لقد انتشر الدخان في قطاع كبير من المجتمع، ولا يخلو أحد إلا وهو يعرف قريبًا أو صديقًا في العمل ونحوه من المدخنين، وأكثر من يقع تحت غائلته فئة الشباب لما يتركب في أنفسهم من حب الاستطلاع والكشف عن الأمور التي حُذّروا منها، وتستغل ذلك شركات تصنيع التبغ فتزيد الجرعات من مادة النيكوتين والذي يسفر عن زيادة مستويات الإدمان من قبل حديثي السن وخاصة المراهقين، فيستمرون عليه بعد التجربة إدمانًا عليه، وهنا يقعون في حبائل هذه الشركات التي أغرتهم بالدعاية أولاً، ثم سلبت أموالهم وأهدرت صحتهم.
أيها المسلمون، إن من قواعد الإسلام العامة في المأكل والمشرب أن الله أحل لعباده الطيبات التي تعود عليهم بالنفع، وحرم عليهم ما خبث طعمًا أو رائحة أو ضررًا، وأصل ذلك قوله تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمُ ?لطَّيِّبَـ?تِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ ?لْخَبَئِثَ [الأعراف:157]، ولا يجوز للإنسان أن يتناول شيئًا ثبت عند الأطباء قديمًا وحديثًا أنه مضر بالصحة ضررًا بالغًا، فإن المسلم لا يملك نفسه، وإنما حياته ملك لله الذي وهبه إياها، ولا فرق بين من يقتل نفسه بوسيلة عاجلة ومن يقتلها بسمّ بطيء، فكلاهما يودي بحياة الإنسان عاجلاً أم آجلاً، وأصل ذلك قوله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ عُدْو?نًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30]، وقال تعالى: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ?لتَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، ثم إن المال نعمة من الله تستوجب الحفظ، فلا ينفقه إلا في الأوجه المشروعة، ففي ضياع المال ضياع لثروة الأمة ودعم لهذه الشركات التي تتاجر بهذه المواد الخبيثة، وأصل ذلك ما ثبت عن الرسول أنه نهى عن إضاعة المال.
أيها المسلمون، لقد عرِف التدخين منذ زمن بعيد وتحديدًا في القرن الخامس عشر الميلادي، وعرفت مادته ومكوناته في أمريكا تحديدًا، وكان سكان أمريكا الأصليون وهم الهنود الحمر يستعملونه بعدة وسائل، فهم يمضغونه أو يستنشقونه أو يضعونه في لفائف ليدخنوها، وهي السجائر المعروفة اليوم، ثم انتقلت هذه العادة من أمريكا إلى أوروبا، وانتشرت في أنحاء المعمورة، وأنشئت لها المعامل الآلية التي تنتج في اليوم الواحد ملايين اللفائف، فارتفع معها الاستهلاك ارتفاعًا هائلاً، وظهرت طرق جديدة لاستعماله منها طريقة الغليون والنرجيلة التي تعرف بالشيشة، وكذلك الشمة وهي مخلوط من الرماد والتبغ.
وقد أدرك الأطباء خطورته وأضراره منذ زمن مبكر، وأطلقوا الصيحات تلو الصيحات في التحذير منه، وتتابعت البحوث في ذلك، وكان لهذا أثره على الدول التي حاولت أن تحدّ منه بفرض الضرائب عليه دون أن تقوم بمنعه طمعًا في المصلحة المادية الكبيرة من ورائه، وأما شركات التبغ فهي تخصّص في موازناتها نصيبًا هائلاً للدعاية بوسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، وتشتري من بعض الأطباء ضعاف النفوس ضمائرهم ليكتبوا أبحاثًا في التقليل من شأن الأضرار التي تقال في التدخين. ونتيجة لهذه الدعايات فقد سرت عادة التدخين بين جميع الأعمار والأجناس، وإن كانت نسبتها ترتفع بين المراهقين.
إخوة الإسلام، وإذا أردنا التعرّف على أضرار التدخين فإنا نعرّج أولاً على المكونات التي يركب منها، فهو يحتوي على العديد من المركبات الكيميائية، والتي تسبب الكثير من الأمراض، وأهم مركباته النيكوتين وهو مادة كيميائية سامة حيث وجد أن 60 مِلِجرام منها قادرة على قتل إنسان بالغ لو أعطيت له دفعة واحدة عن طريق الوريد. ويحتوي ثانيًا على غاز أول وثاني أكسيد الكربون والذي ينتج عن احتراق التبغ، وكذلك احتراق الورق الملفوف به السجائر وهو ضار جدًا.
وإذا عرفنا هذه المكونات المضرة بالصحة فبإمكاننا أن نقسم ما ذكره الأطباء من الأضرار في الدخان إلى أربعة أقسام بحسب الجهاز المصاب:
فللتدخين أضرار على الجهاز القلبي حيث يزيد في ضربات القلب، ويزيد الذبحة الصدرية، ويحدث اضطرابات في الدورة الدموية في الأطراف، ويحدث عن هذا الجلطات المؤدية إلى البتر أحيانًا والغرغرينا ونحوها، وهذا ما نشاهده نحن في أطراف المدخنين من الإحمرار أو الدكونة الشديدة مما يدل على هذه الاضطرابات.
وللتدخين أضرار على الجهاز التنفسي، فهو يسبب سرطان الرئة حيث سجلت الإحصائيات أن نسبة الوفيات به عالية جدًا بين المدخنين إذا قورنت بنسبة الوفيات بنفس المرض عند غيرهم، وحوادث السرطان هذه تتزايد بازدياد عدد اللفائف المدخنة يوميًا، كما يسبب سرطان الحنجرة، ويزيد في أمراض الحساسية والربو وضيق التنفس.
وللتدخين أضرار على الجهاز الهضمي، فهو يسبب سرطان الفم والبلعوم والمريء والبنكرياس، ويزيد من قرحة المعدة والإثني عشر، ويسبب حموضة المعدة.
وللتدخين أضرار على الجهاز العصبي، فهو يسبب الاكتئاب والقلق والخمول والكسل واعتلال المزاج واضطرابات النوم وضعف الشهية والتوتر وسرعة الانفعالات، وهذه الأضرار العصبية ظاهرة جدًا على المدخنين، وليسمح لي المدخنون بالصراحة في هذا الأمر فنحن رأيناهم أسرع الناس غضبًا وأكثرهم نزقًا وأجرأهم على المعاصي، وهذا ما يفسر قول العامة عن الدخان أنه بداية فساد المرء، وهذا ما يفسر وقوع المدخن بعد ذلك في الخمر أو المخدرات، فنحن لا نعلم مدمنًا على الخمر وهو لا يدخن، ولا نعلم مدمنًا على المخدرات وهو لا يدخن، فالدخان هو العتبة الأولى في بوابة السكر والخمور والمخدرات، وهذه المخدرات هي الولد الشرعي للدخان، وهذا الدخان هو البداية دومًا لنهايةٍ بالإدمان على المسكرات والمخدرات، فهذا ما يشهد عليه الواقع، وهذا ما يزيد من خطورة الدخان الذي يبدأ به الشاب عبثًا، ثم ينتهي به إلى أمور لا تحمد عقباها.
ولذلك نقول: كما أن للدخان أضرارًا صحية فله أضرار كبيرة على دين المرء وعلاقته بربه، فهو شرب لأمر خبيث منهي عنه، وهو يفسد العقل ويقطع الوقت ويشغل عن الصلاة ويؤذي المساجد برائحته، ثم هو عائق كبير عن صيام رمضان، بل إن بعض المدخنين يترك ركنا من أركان الإسلام وهو الصيام بسبب هذا الدخان، ورأينا أناسًا من المسلمين يدخّنون في نهار رمضان، فتأمل كيف أدى به هذا الدخان الذي استصغر أمره إلى هذه المصائب العظيمة والأخطار الجسيمة على دين المرء، يقول تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ?لْعَدَاوَةَ وَ?لْبَغْضَاء فِى ?لْخَمْرِ وَ?لْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَعَنِ ?لصَّلَو?ةِ [المائدة:91]، فذَكر الله تعالى من أسباب تحريم الخمر والميسر الصدّ عن الذكر وعن الصلاة، وهذه العلة تتحقّق في الدخان، فإن شاربه في العادة يهرب عن حلق الذكر والقراءة ويألف اللهوَ والباطل عادة، وهو غالبًا السبب الرئيسي لبعد كثير من المدخنين عن حضور المساجد والصلاة مع جماعة المسلمين، وما كرّه الخير للعبد فهو شرّ، وكذلك فهو يدعو متعاطيه إلى مخالطة الأراذل والسفهاء والابتعاد عن الأخيار، فهذا يكون سببا لما هو أكبر منه وهو تعاطي المخدرات، نسأل الله السلامة.
إخوة الإسلام، وللدخان أضرار اجتماعية، فلا يمكن لرب الأسرة المدخن أن ينهى أولاده عن ذلك، بل غالبًا تكون ذريته على منواله وأسوأ، ويعاقب غير المدخن بالتدخين السلبي الناتج عن مجالسة هؤلاء المدخنين واستنشاق دخانهم، وهو أشد خطورة من الدخان الأصلي.
فإن شارب الدخان يسيء إلى مجتمعه، ويسيء إلى كل من جالسه وصاحبه، بحيث ينفخ الدخان في وجوه الناس، فيخنق أنفاسهم ويضايقهم برائحته الكريهة حتى يفسد الجو من حولهم من غير خجل ولا حياء، ولا يفكر في وخيم فعله، ولو أن إنسانا تنفس في وجه هذه المدخن أو امتخط أمامه كم يكون تألمه واستنكاره لهذا الفعل؟! وهو يفعل أقبح من ذلك بمُجالِسه، فنفخ الدخان في وجوهِ الناس أعظم من ذلك بأضعاف.
وللتدخين أيضًا أضرار اقتصادية حيث سيكون سببًا في ضياع المال الذي نهانا الرسول عنه، والأثرياء لا يضرهم البذخ في شرائه وإن كانوا يؤثرون على الاقتصاد العام للأمة، بعكس واقع الفقراء الذي رأينا وسمعنا عن بعضهم عندما يقتِّرون على أنفسهم وأولادهم في النفقات الضرورية لتوفير نفقات التدخين، وهذا أول العقوبة على هؤلاء.
بل يمكن أن يقال: إن التدخين ليس له حسنة واحدة يمكن أن تقال فيه، بل على العكس فكله مضار كما ذكرنا، والتدخين في الحقيقة هو أحبولة غربية لملء جيوب هذه الشركات، وبعض المدخنين يقول: الدخان أمر عادي ليس بحرام أو لا يقدح في المروءة، ولو رأى أحدنا إماما أو واعظا أو رجلا من أهل القدر والرفعة يشرب الدخان لاستنكر هذا الفعل ولشهّر به في المجالس ويقول منتقِدا: رأيت الشيخ فلانا يشرب الدخان! وما ذاك إلا لأنه ليس من مقام المروءة ومكارم الأخلاق، ومن رأى مجالس المدخنين ومن يرتادها ومجالس الصالحين ومن يحضرها يعرف الفرق.
إخوة الإسلام، ولو أردنا التعرف على أسباب انتشار التدخين فإنا نذكرها للحذر منها:
وأولها: وسوسة الشيطان، والأول مكرَّرًا أيضًا: رفقاء السوء، فهم الذين يدعون إليه في الغالب، وإلا فإنه لا يدعو إلى نفسه.
ثالثًا: التقليد الأعمى وحب الاستطلاع، وهنا ندعو الشباب أن يكون استطلاعهم فيما يفيد من العلم والأخبار وتاريخ الأمم والدول، لا أن يكون محصورًا فيما يفسدهم.
رابعًا: عدم الوعي الكافي بأضراره وحكم الشرع فيه.
خامسًا: ضعف الوازع الديني.
سادسًا: وسائل الإعلام والتي توحي بأن التدخين من الرجولة والفتوة ونحوها.
أسأل الله أن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم لسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، بعد أن عرفنا هذا القدر من الأضرار في الدخان نقول: ما حكم التدخين في الشرع؟
ولعلك ـ أيها المسلم ـ بتحكيم عقلك وتفكيرك في شيء اتّصف بالضرر على الدين والبدن والمال وتعدَّى ضرره إلى الغير وعدمت فيه المنفعة أصلا لا تتوقّف في تحريمه قبل أن تسمع النصوص النقلية، ولكن لتقوية مدلول العقل تحقّق أن الشرع قد نصّ على التحريم إجمالا وتفصيلا، ولا شك أن الشرع هو الدليل القاطع في مسألة النزاع، وبهذه النظرة العامة يتضح أن استعمال التدخين محرم وممنوع شرعًا، ولا يباح بحال من الأحوال، وأما كلام العلماء وقولهم بالتحريم وأدلتهم فأكثر من أن تحصر، وقد قال الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية سابقا رحمه الله في فتواه: "مما يعلم كل أحد تحريمنا إياه نحن ومشايخنا ومشايخ مشايخنا ومشايخهم وكافة المحققين من أئمة الدعوة وسائر المحققين سواهم من العلماء في سائر الأمصار من له وجود بعد الألفِ بعشرة أعوام إلى يومنا هذا" انتهى كلامه.
فيا من ابتليت بشرب الدخان، أسأل الله لنا ولك العافية، إنني أدعوك بدافع النصيحة الخالصة أن تبادر بالتوبة منه وأن تتركه طاعة لربك وحفاظًا على صحتك، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، ثم لا تنس ـ أيها المدخن ـ أنك ستكون قدوة سيئة لأولادك إن كنت والدًا، ولتلاميذك إن كنت مدرسًا، ولأصحابك ومخالطيك، فتكون قد جنيت على نفسك وغيرك، وإذا تركته وتبتَ منه صرت قدوةً حسنة لغيرك، فكن قدوة في الخير، ولا تكن قدوة في الشر.
أيها المسلمون، وكما يحرم شرب الدخان يحرم بيعه والاتجار به واستيراده، فثمنه سحت، والاتجار به مقت، وقد قال : ((إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه)) رواه الإمام أحمد وأبو داود وهو صحيح، وعلى هذا فالاتجار به لا يجوز، وثمنه يحرم أكله كثمن الخمر، ومن تاجر فيه أي: باعه بعد معرفته بالتحريم ففيه شبه من اليهود؛ لمّا حرمت عليهم الشحوم أذابوها فباعوها وأكلوا ثمنها، فاستحقوا اللعن على هذا الفعل، فالذي يبيع هذا الدخان قد ارتكب جريمتين عظيمتين:
الأولى: أنه عمل على ترويجه بين المسلمين فجلب إليهم مادة فساد.
الثانية: أن بائع الدخان يأكل من ثمنه مالاً حراما ويجمع ثروة محرمة، فالحرام لا يدوم، وإن دام لا ينفع، وقد شاهد الناس أن كلّ متجَرٍ فيه دخان وإن استدرج ونما ماله في وقت ما فإنه يبتلَى بالقلة في آخر أمره وتكون عواقبه وخيمة.
فاتقوا الله عباد الله، وانظروا في العواقب، فإن في الحلال غنية عن الحرام، وقد ورد في الحديث عنه قوله: ((إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا يطلب إلا بطاعته)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3418)
الصحبة وأثرها على التربية
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
29/7/1424
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1-... المرء على دين خليله. 2- خصال الصديق الصالح. 3- مصاحبة الصالحين دواء القلوب.4- دعوة للأخيار بحسن المعاملة مع من أقبل على الخير والهداية. 5- الرفقة مطلب نفسي لا يستغني عنه الإنسان. 6- أهمية الصحبة الصالحة خاصة في مرحلة الشباب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، الصحبة والصداقة عاطفة سامية القدر ونعمة غزيرة المآثر، وإن من مظاهر امتحان الأخلاق واختبار الأدب ما يعانيه الإنسان في حياته من اختيار أصحاب له وأخلاء، يقرُب من هذا، ويبعد من ذاك، ويتوافق مع أقوام، ولا يتلاءم مع آخرين، يدرك أن صاحبه هو رقعة ثوبه، فينظر بم يرقع ثوبه، ويرتضي لنفسه ما يوافق شخصيته وما يحب أن يزنه الناس به؛ ذلك أن ميزان الإنسان أصدقاؤه، فقل لي من صاحبك أقل لك من أنت، والناس تعرِف المرء صالحًا أو طالحًا من خلال النوعيّة التي شاكلها والصحبة التي سايرها، ولقد جسّد ذلك محمّد بقوله: ((الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)) أخرجه أبو داود بإسناد صحيح.
فالإنسان موسوم بسيماء من قارب، ومنسوب إليه أفعال من صاحَب، وهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول: (ما من شيء أدلّ على شيء ولا الدخان على النار من الصاحب على الصاحب)، وقال عدي بن زيد:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
ولما للصاحب من أثر بالغ على صاحبه نهى النبي عن صحبة غير المؤمنين فقال : ( (لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي)) أخرجه أبو داود والترمذي بسند لا بأس به.
أيها المسلمون، كم ضل من ضل بسبب قرين فاسد أو مجموعة من القرناء الأشرار، وكم أنقذ الله بقرناء الخير من كان على شفا جرف هار فأنقذه الله بهم من النار.
وإن من الخيبة ـ والله ـ أن ترى المرء لا تنبسط أساريره إلا مع قرناء السوء، ويصطفي لنفسه من مجموع هذه الخلائق أراذل الناس، إن همَّ بخير ثبطوه، وإن أبطأ عن سوء عجلوه، وإن استحيا من منكر شجعوه وهونوه، فهم دعاة له على طريق جهنم، إن استمر معهم أردوه في أبأس عاقبة وأتعس مصير، وكانت عاقبته الندامة والعض الشديد على اليدين ندمًا على صحبتهم، وإن أشاح عنهم بوجهه وبدنه وعقله وفكره وبحث عن الصحبة التي تدعوه إلى الجنة عصمه الله بإذنه، وَيَوْمَ يَعَضُّ ?لظَّـ?لِمُ عَلَى? يَدَيْهِ يَقُولُ ي?لَيْتَنِى ?تَّخَذْتُ مَعَ ?لرَّسُولِ سَبِيلاً ي?وَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ ?لذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِلإِنْسَـ?نِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
معاشر المسلمين، ذكر أهل العلم والأدب جملة من النعوت والأوصاف يعرف بها الأصحاب في حسن مناقبهم والخلان في مستحسن مذاهبهم يجمل بالمرء أن يعرفها، ونحن نذكر في هذا المقام ثلاث خصال تحوي فروع الفضائل، ولا يمكن التنازل عنها في الصديق:
الخصلة الأولى: عقل موفور يهدي إلى مراشد الأمور، فالأحمق لا تثبت معه مودة، ولا تدوم لصاحبه استقامة، وعداوة العاقل أقل ضررًا من صحبة الأحمق.
الخصلة الثانية: دين يقف بصاحبه على الخيرات ويحجزه عن المنكرات، وقليل الديانة عدو لنفسه قبل غيره، فكيف ترجى منه مودة غيره؟! والصديق الفاسق شؤم على صاحبه لأنه لن يتركه وشأنه، بل سيجرّه معه إلى فسقه ومجونه، ليُذهب عن نفسه وحشة الانفراد بالمعصية، أو ليهدم حاجز النفرة بينه وبين صديقه بسبب معصيته.
الخصلة الثالثة: أن يكون محمود الأخلاق مرضي الفعال مؤثرًا للخير آمرًا به كارهًا للشر ناهيًا عنه، ولا يكفي التدين دون الخلق الحسن؛ لأن المرء قد يطبع على خلال لا تستقيم معها الصحبة.
معاشر المسلمين، وإذا كانت القلوب تموت بمصاحبة الأشرار أو تصاب بالعلل الكبرى فإن في مصاحبة الأخيار دواءً للقلوب وحياة لها، وقد يقنع المرء بصحبة الصالحين، ولكنه يجد في نفسه تثاقلاً أو حياءً أو حواجز نفسيةً تمنعه من صحبتهم، فلا بد أن يجاهد نفسه في البداية فإنها ستنقاد له في النهاية، ولا بد أن تعلم ـ أخا الإسلام ـ أن العتبة الأولى في مصاحبة الصالحين هو أن تكون صالحًا مثلهم، فإذا أصلحت حالك زالت عنك وحشة الذنوب، وانقشع عنك ذل المعصية، وأتتك الجرأة على صحبتهم، فاستعن بالله تعالى وبادر قبل الندم.
وأنتم ـ معشر الأخيار ـ إذا جاءكم المرء مقبلاً على الخير فإياكم أن تكفهرّوا في وجهه حتى ولو رأيتم عليه بقايا المعاصي، فحقّ من وضع رجله في الطريق الصحيح أن يقابل بالودّ والترحاب، وحقّ من استغاث بأهل الخير أن يغيثوه، وإنّ من الخطأ أن ينغلق أهل الخير على أنفسهم أو تكون الريبة هي الأصل في تعاملهم.
فيا أخا الإسلام، نصيحتي لك أن تفرّ من المجذوم في هذه الحياة فرارك من الأسد، ولا تسلّم فكرك للآخرين يقودونك حيث شاؤوا ويوقعون بك من مصائب الدنيا ما يظلّ خزيه يلاحقك ما حييت، والفضيحة على رؤوس الأشهاد أنكى وأخزى، وهذا كتاب الله يقصّ عليك حوارًا معبّرًا عن أثر القرين إلا من حمى الله ووقى، يقول تعالى: قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ يَقُولُ أَءنَّكَ لَمِنَ ?لْمُصَدّقِينَ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَـ?مًا أَءنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ فَ?طَّلَعَ فَرَءاهُ فِى سَوَاء ?لْجَحِيمِ قَالَ تَ?للَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّى لَكُنتُ مِنَ ?لْمُحْضَرِينَ [الصافات:51-57].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، إن الإنسان اجتماعيٌّ بطبعه، والتعارف بين الناس وما يترتب عليه من مصالح عظيمة في تعاونهم وتزواجهم وتآلفهم أمر قائم مشهود، والصديق والصاحب لا يكاد ينفك عنه تاريخ الإنسان، وهو مصدر من مصادر تربيته ومعرفته وأنسه وسروره ومواساته ومعاونته، وهو ذو أثر كبير في حياة المرء النفسية والاجتماعية والثقافية، ومن الأمثلة التاريخية المتميزة المبينة لأثر الصحبة ووظائفها صحبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لرسول الله والارتباط النفسي والمصيري الذي اقتضته هذه الصحبة الفريدة، نظرًا لارتباطها بأهداف عالية رفيعة، وكيف كان أثرها على أبي بكر رضي الله عنه.
والرفقة مطلب نفسي لا يستغني عنه الإنسان وخصوصًا في مرحلة الشباب والمراهقة، ويصعب منع الشاب عن الرفقة أو فرض العزلة عليه، وهو أمر يصطدم مع طبع الإنسان وجبلته، ويحرمه من حاجة نفسية مهمة، ولذا كان السجن الانفرادي عقابا قاسيا لأنه يعزل الإنسان عن حاجة من حاجاته المهمة ويحرمه من الاجتماع بالناس، والاختلاط بهم وبثّ همومه وأحزانه وأشجانه إليهم.
والشاب المراهق يستوحش كثيرًا من العزلة، ويحسّ بحاجة داخلية ملحة للالتقاء بأصحابه وأبناء مرحلته، ويشعر أنهم يمدونه بزاد نفسي لا يقدمه له الكبار أو الأطفال، وفي الوقت ذاته لا يجد راحة في علاقته بوالديه أو أساتذته ونحوهم، ويشعر أنهم لا يفهمون شخصيته، خاصة إذا بدا منهم احتقار له أو سخرية منه. وهذا يؤكد على أمر مهم جدًا وهو أنك إذا علمت حاجته للصحبة وعلمت أن صحبة الوالدين لا تغني عن صحبة أترابه وأسنانه وعلمت أنه سيصاحب شئتَ أم أبيت فعليك أن تعرِف أهمية الصحبة الصالحة.
وأنت ـ أيها الشاب ـ لا بد أن تنتبه لشأن حالتك النفسية، فلا يكون توجيهك عفويًا لها، بل لا بد أن تلبي حاجتك في صحبة صالحة، ذلك أن لصحبتك أثرًا تراكميًا متدرجًا على شخصيتك، وقلّ أن نجد شابًا كان له خلة ومحبة ومرافقة لصحبة إلا ويكون على نهجها وطريقها متّحدًا معها في أفكاره ومسالكه وأخلاقه، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، وهذا يؤكّد دور الآباء في انتقاء الصحبة الصالحة لأبنائهم، وعدم تجاهل هذه الحاجة النفسية الملحة حتى يفاجأ بأن ابنه يسير مع صحبة سيئة.
نسأل الله أن يعصمنا جميعًا وذرياتنا من مضلات الفتن ما ظهر منها ومات بطن. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3419)
الصلاة في رمضان
فقه
الصلاة
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
5/9/1424
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الصلاة في الإسلام. 2- حرص النبي على المحافظة على الصلوات الخمس. 3- فضل المحافظة على الصلوات الخمس في الجماعة. 4- بيان أثقل الصلاة على المنافقين. 5- فتاوى أهل العلم في تارك الصلاة. 6- الكلام على بعض البرامج التي تعرض في رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، أيها الإخوة ، لئن تفاضل بعض الأيام والشهور وتضاعفت في بعض المواسم الأجور فما ذلك إلا من أجل مزيد العمل وتنشيط الهمم، ليزداد فيها حب الطاعة ويستيقظ فيها أهل الغفلة.
ومن أجل محاسبة دقيقة ومعالجة لأحوال النفس صادقة واختبار للعمل بيِّن فهذه وقفة مع فريضةٍ من فرائض الله ليست مرتبطة بموسم، ولا موقوفة على مناسبة، فريضةٍ ليست في العمر مرة ولا في العام مرة، بل ولا في اليوم مرة، ولكنها في اليوم والليلة خمس مرات، لها في الإسلام منزلة لا تعدلها منزلة أيِّ عبادة أخرى.
إنها الصلاةَ يا عباد الله، الصلاة الصلاة أيها المسلمون، ركنُ الدين وعموده، قال : ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)) رواه أحمد والترمذي بسند صحيح.
أولُ ما أوجبه الله تعالى من العبادات، وهي أول ما يحاسب عليه العبد، وهي آخرُ وصية وصَّى بها رسول الله أمته عند موته، عن أَنَسٍ قَالَ: كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ: ((الصَّلاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)) حَتَّى جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ يُغَرْغِرُ بِهَا صَدْرُهُ وَمَا يَكَادُ يُفِيضُ بِهَا لِسَانُه. رواه أحمد وابن ماجه.
وهي آخر ما يُفقد من الدين، فإن ضاعت ضاع الدين كله، قال : ((لتنقضن عرى الإسلام عروةً عروةً، فكلما انتقضت عروةٌ تشبّث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضًا الحكمُ، وآخرهنَّ الصلاة)) رواه أحمد وغيره. وليت شعري، ماذا يبقى من الدين إذا ذهبت الصلاة؟! قال الإمام أحمد رحمه الله : "كل شيء ذهب آخره لم يبق منه شيء"، ولقد صدق والله، فإذا كانت الصلاةُ هي آخرَ ما يبقى من الدين وقد ضيعت فماذا يبقى من دين المرء.
ولقد قال تعالى حكاية عن أهل النار: مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ?لْمُصَلّينَ [المدثر:42، 43]، وتوعد عز وجل تاركَ الصلاة بقوله: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ?لَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـ?تِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]، والسهو عن الصلاة تركها حتى يخرج وقتها.
وقد جعل الرسول الحد الفاصل بين الإسلام والكفر ترك الصلاة فقال: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)) رواه أحمد وأهل السنن بسند صحيح.
وتوعد عز وجل من ضيعها بالعذاب الشديد فقال: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا [مريم:59]، والغي واد في جهنم خبيث الطعم بعيد القعر، جعله الله لمن أضاع الصلاة واتبع الشهوات.
ولقد كان النبي شديد الحرص على الصلاة والمحافظة عليها، عن الأسود قال: سألت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي يصنع في بيته؟ قالت: يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. رواه البخاري. وكان في مرض موته يغتسل المرتين والثلاث لعلَّه يجد خفة فيصلي مع الناس، فيغمى عليه في كل مرة، فلما وجد من نفسه خفة خرج يهادى بين رجلين، قالت عائشة رضي الله عنها: كأني أنظر إلى رجليه تخطان من الوجع. رواه البخاري. فلم يكن رسول الله يقدر على رفع رجليه عن الأرض ومع ذلك خرج إلى الصلاة.
ولقد بشر رسول الله من اهتم بالصلاة من أمته وحافظ عليها أن يظلّه الله في ظله فقال : ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم: ((ورجل قلبه معلق بالمساجد إذا خرج منه حتى يعود إليه)) متفق عليه.
ولقد أبدى وأعاد في شأن الصلاة وحثّ عليها ورغّب فيها وحذّر من تركها وتضييعها، فعن عبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلاةَ يَوْمًا فَقَال: ((مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلا بُرْهَانٌ وَلا نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ)) رواه أحمد بسند جيد والطبراني وابن حبان في صحيحه.
ولم يرخص النبي في ترك الصلاة لا في مرض ولا في خوف، بل إنها لا تسقط حتى في أحرج الظروف وأشد المواقف في حالات الفزع والمسايفة والمنازلة.
أما المريض فليصل قائمًا، فإن لم يستطع فقاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنبه، وإذا عجز عن شروطها من الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة صلى بلا طهارة وبلا ستر عورة وإلى غير قبلة. فالصلاة ـ أيها المسلمون ـ لا تسقط بحال ما دام العقل موجودًا، وهذا ولا شك يدلّ على عظمتها وتأكّد وجوبها.
عباد الله، ومن أوضح صفات المنافقين التخلّف عن صلاة الجماعة، قال عبد الله بن مسعود : (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق) رواه مسلم.
وقد تساهل الناس في أمر الصلاة في المساجد والله يقول في كتابه الكريم: وَأَقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ وَآتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَ?رْكَعُواْ مَعَ ?لرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، قال العلامة ابن باز رحمه الله تعالى: "وهذه الآية الكريمة نص في وجوب الصلاة في الجماعة والمشاركة للمصلين في صلاتهم، ولو كان المقصود إقامتها فقط لم تظهر مناسبةٌ واضحة في ختم الآية بقوله سبحانه: وَ?رْكَعُواْ مَعَ ?لرَّاكِعِينَ.
ولقد كان يحرص على صلاة الجماعة ويتفقد أصحابه فيها ويخبر دائمًا أن الصلاة ثقيلة على المنافقين وخاصة جماعة العشاء والفجر، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ يَوْمًا الصُّبْحَ، فَقَال: ((أَشَاهِدٌ فُلانٌ؟)) قَالُوا: لا، قَالَ: ((أَشَاهِدٌ فُلانٌ؟)) قَالُوا: لا، قَالَ: ((إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلاتَيْنِ أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَيْتُمُوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الرُّكَبِ، وَإِنَّ الصَّفَّ الأَوَّلَ عَلَى مِثْلِ صَفِّ الْمَلائِكَةِ، وَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا فَضِيلَتُهُ لابْتَدَرْتُمُوهُ)) رواه أحمد وأبو داود وصححه الذهلي وابن معين.
ولم يرخص النبي في ترك الجماعة إلا لعذر من خوف أو مرض، ولقد جاءه رجل أعمى فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أنا كما تراني قد دَبَرَت سني ورقَّ عظمي وذهب بصري، ولي قائد لا يلائمني قياده إياي، فهل تجد لي رخصة أصلي في بيتي الصلوات؟ فقال : ((هل تسمع المؤذن في البيت الذي أنت فيه؟)) قال: نعم يا رسول الله، قال رسول الله : ((ما أجد لك رخصة، ولو يعلم هذا المتخلّف عن الصلاة في الجماعة ما لهذا الماشي إليها لأتاها ولو حبوًا على يديه ورجليه)) رواه الطبراني وأصله في الصحيحين، وفي رواية قال: يا رسول الله، إن منزلي شاسع وأنا مكفوف البصر وأنا أسمع النداء، قال: ((فإن سمعتَ الأذان فأجب ولو حبوًا أو زحفًا)) رواه أحمد وغيره.
عباد الله ، هذا رجل مكفوف البصر شاسع الدار كبير السنّ ضعيف البدن لم يرخّص له النبي في ترك الجماعة، وفي بيوت المسلمين اليوم رجال قادرون أقوياء يسمعون النداء صباح مساء ثم يتخلّفون عن الصلاة مع الجماعة!! ما حجّتهم أمام الله؟! وما عذرهم؟! وما جوابهم أمام الجبار سبحانه وتعالى؟! وما حجة من يراهم فيسكت على أفعالهم؟! قال : ((من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر)) أخرجه ابن ماجه والدار قطني وغيرهم، قال ابن باز: "إسناده على شرط مسلم"، وقالت عائشة رضي الله عنها: (من سمع النداء فلم يجب لم يجد خيرًا ولم يرَد به خير)، وقَالَ ابن مسعود رضي الله عنه: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ إِلا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ) رواه مسلم.
نعم، والله لقد كان المرضى في زمن النبي يحرصون على الجماعة وإن لم تجب عليهم طمعًا في الثواب الجزيل من الله تعالى. قال الشافعي رحمه الله: "لا أرخص لمن قدر على صلاة الجماعة في ترك إتيانها إلا من عذر".
أيها المسلمون، لقد تَفَلَّتَ أمرُ الصلاة من المسلمين، فمنهم من يصلي في رمضان فحسب، ومنهم من يصلي الجمعة فقط، ومنهم من يصلي في بيته، ومنهم من يصلي العصر مع غروب الشمس ويصلي الفجر مع طلوع الشمس، وآخرون يصلون أربع صلوات فحسب وأسقطوا صلاة الفجر، وآخرون يصلون ويتركون أبناءهم خلفهم في البيت فلا يأمرونهم بصلاة ولا ينهونهم عن منكر.
إخوة الإسلام ، لما سئل العلامة ابن باز رحمه الله عمّن يثبِّتُ ساعته على السابعة صباحًا ـ أي: بعد شروق الشمس ـ ولا يصلي الفجر إلا بعد استيقاظه، قال في الجواب رحمه الله: "من يتعمّد تركيب الساعة إلى ما بعد طلوع الشمس حتى لا يصلّي فريضة الفجر في وقتها هذا قد تعمّد تركها، وهو كافر عند جمع من أهل العلم ـ نسأل الله العافية ـ لتعمده ترك الصلاة، وهكذا إذا تعمّد تأخير الصلاة إلى قرب الظهر ثم صلاها عند الظهر أي: صلاة الفجر، أما من غلبه النوم حتى فاته الوقت فهذا لا يضره ذلك، وعليه أن يصلي إذا استيقظ، ولا حرج عليه إذا كان غلبه النوم أو تركها نسيانًا".
وسئل أيضًا العلامة ابن عثيمين رحمه الله بهذا السؤال: يعيب بعض علماء المسلمين على المسلم الذي يصوم ولا يصلي، فما دخل الصلاة في الصيام، فأنا أريد أن أصوم لأدخل مع الداخلين مع باب الريان ومعلوم أن رمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، أرجو التوضيح وفقكم الله؟ فأجاب حفظه الله: " الذين عابوا عليك أنك تصوم ولا تصلي على صواب فيما عابوه عليك، وذلك لأن الصلاة عمود الإسلام، ولا يقوم الإسلام إلا بها، والتارك لها كافر خارج عن ملة الإسلام، والكافر لا يقبل الله منه صيامًا ولا قيامًا ولا حجًا ولا غيرها من الأعمال الصالحة لقوله تعالى: وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَـ?تُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِ?للَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ ?لصَّلَو?ةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى? وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَـ?رِهُونَ [التوبة:54]. وعلى هذا فإذا كنت تصوم ولا تصلي فإنا نقول لك: إن صيامك باطل غير صحيح، ولا ينفعك عند الله ولا يقربك إليه. وأما ما وهمته من أن رمضان إلى رمضان مكفر لما بينهما فإننا نقول لك: إنك لم تعرف الحديث الوارد في هذا، فإن رسول الله يقول: ((الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان والجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)) رواه مسلم، فاشترط النبي عليه الصلاة والسلام لتكفير رمضان إلى رمضان، اشترط أن تجتنب الكبائر، وأنت ـ أيها الرجل الذي لا تصلي وتصوم ـ لم تجتنب الكبائر، فأيّ كبيرة أعظم من ترك الصلاة؟! بل إن ترك الصلاة كفرٌ فكيف يكفر الصيام عنك؟! فترك الصلاة كفر ولا يقبل منك الصيام، فعليك ـ يا أخي ـ أن تتوب إلى ربك وأن تقوم بما فرض الله عليك من صلاتك، ثم بعد ذلك تصوم" انتهى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، أيها المؤمنون، إن رمضان هبة الله لهذه الأمة وعطيته لأهل الملة، فمن فاته الخير فيه فقد فاته من الخير أوفره ومن الهدايا أغلاها وأثمنها.
وإن مما يجب التذكير به ـ ونحن نودع الأيام الأولى منه ـ أن في البشر قُطَّاعَ طريق، يصدون الخلق عن خالقهم، ويضلونهم عن سبل رشادهم وهدايتهم، لم نزل نراهم في الصحف والمجلات، في الشوارع والطرقات، في الإذاعات والشاشات، يعِدون ويبشّرون، ويدعون الناس إلى قضاء أسعد الأوقات وعمارة ليالي رمضان ـ زعموا ـ والاستمتاع بمتابعة السهرات والحفلات في تلك القناة أو غيرها.
أيها العقلاء، اسمحوا لي أن أقول: إن في الأمة عددًا ليس باليسير من هو ضعيف الإرادة والعزيمة، قليل الوعي والتخطيط، وإلا بمَ تفسّرون لهث الناس ومتابعتهم لبرامج ساذجة سخيفة؟! أتوا عقول القوم من باب التسلية والسمر والضحك وقضاء الأوقات، فيُلمَز الناس ويستهزَأ بعادات البلَد تحت مظلّة الضحك، يمَسّ جناب الدين ويُهَوَّن من شأن شعائر الدين ونحن نضحك، يُسخَر بشعائر الدين الثابتة كالمَحرَم ونحوه ونحن نضحك، تعرَض المرأة المتمسِّكة بحجابها على أنها المتخلِّفة الرجعية ونحن نضحك، تُصوَّر بعض مظاهر الحِشمة والغَيْرة على الأعراض على أنها سَذاجة ودروشَة وحمق ونحن نضحك، تظهر المرأة المتكشّفة المتبرّجة على أنها المتقدّمة غير المعقّدة ونحن نضحك.
وبعد هذا يأتي من يقول بكل برود: "لا تعطوا القضية أكبر من حجمها، المسألة ضَحِك وانتقاد لسلبيّات المجتمع". وإن سلّمنا جدلاً أنّ ما يعرض في مثل هذه البرامج لا ينقل إلا تلك العادات السيئة في المجتمع فهل هذا هو الأسلوب الأمثل لتصحيح الأخطاء وتعديل السلوك؟ ماذا قدّم أولئك لمجتمعهم وأمتهم في واقع الجدّ والعمل للرفع من شأن المجتمع؟! إنهم على جنبات الطرقات، قطعوا الطريق على المتهجدين والصائمين، شغَلوا الناس عن ذكر الله والصلاة، حرموا المسلم من شغل وقته بالطاعات.
إنّنا بحاجة ـ أيها الأكارم ـ إلى أن نعاود النظر في اهتماماتنا، نراجع الحساب في نظرنا للأمور وسبر أغوارها وأبعادها وما الهدف منها، لسنا أمة تحرّكها النكات ويستهويها حمق المهرّجين وسفه الحمقى والمغفّلين أو يقودها همج الخلق ورعاع الناس.
واسمحوا لي ـ أيها الفضلاء ـ أن أقول: إنه قد لا يعتريك استغراب ودهشة أن يتابع مثل ذلكم الهراء شابّ في مقتبل عمره أو فتاة لم تزَل في ريعان شبابها، ولكن الأسف والألم والدّهشة والحيرة تحتويك إذا رأيت حديث الرّجال الكمّل والعقلاء من الناس لا يتعدّى أحداث حلقاته وصور ممثليه. فما بقي للرجولة والعقل والغَيرة؟!
ينبغي أن نترفع عن أفكار هؤلاء المفلسين، والذين لا يحملون مشاريع الإصلاح، وإنما يجيدون الهدمَ والفساد، نسأل الله أن يكفي المسلمين شرهم.
اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الحوض والمقام المحمود...
(1/3420)
زوروا القبور
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع, الموت والحشر
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
17/6/1424
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فظاعة منظر القبر. 2- الحث على زيارة المقابر. 3- واعظ القبر. 4- تذكر الموت من أسباب خشية الله والعمل الصالح. 5- ثمرة تذكر الآخرة هي العمل لها. 6- الانشغال بالدنيا عن الآخرة من أكبر أسباب ضعف الاستعداد للآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، إنه واعظ صامت لا يتكلّم، ولكن صوته في أعماق الناس أعلى من صوت الواعظ الجهوري الصوت، لا يملك العبارات المنمقة، ولا يحرك يديه ولا وجهه ليجذب جمهور المستمعين والمشاهدين لخطبته؛ لأن الجاذبية تركزت فيه، وهو يجذب القلوب قبل الأجساد، لا يزال يقول لكل إنسان: "تعال وهلم إليّ، وكل الطرق تمر عليّ"، إنه الواعظ الصامت، إنه الحفرة التي توضع فيها الأجساد بعد أن يبقى أهلها ومالها، إنه القبر، إنه القبر الذي ما نزل فيه قط مَلِك عظامه من ذهب، ولا بطل عضلاته من حديد، ولا أمير جلده من ديباج، ولا غني جوفه خزانة، إنه القبر الذي تتساوى فيه الرؤوس، ولا تصطحب فيه الفلوس، لا يذهب معك إلا عملك الصالح.
أيها المسلمون، إن القبر واعظ بليغ الموعظة، وناصح واضح النصيحة، وبسبب ذلك حث الرسول في أكثر من موضع على زيارة القبور، وزار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله وقال: ((استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت)) رواه مسلم، وفي الترمذي: ((فإنها تذكر الآخرة)) ، وزاد ابن ماجه من حديث ابن مسعود: ((وتزهد في الدنيا)).
زيارة القبور ـ عباد الله ـ تذكر الموت، تذكِّر مَن طبعُه النسيان بالنّهاية الحتمية وهي الموت، وهذا من شأنه أن يجعل المرء متذكرًا للآخرة، عاملاً لما بعد الموت.
أيها المسلمون، يمعن البعض في قساوة القلوب وغفلتها، ظانين بذلك أنهم سيهربون من الموت فيفلتون منه، وما من شيء تهرب منه إلا تركته وراءك إلا الموت فما يهرب أحد منه إلا وجده أمامه، سيحتضنك الموت الذي تفر منه، هو ينتظرك أبدًا دون تململ، وأنت مع هربك تتقدم إليه دون تراجع، قُلْ إِنَّ ?لْمَوْتَ ?لَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَـ?قِيكُمْ [الجمعة:8].
أيها المسلمون، إن التراب الصامت في المقابر ما هو إلا واعظ، وزيارة ذلك الواعظ من أكبر أسباب تقوية القلب وإزالة الغشاوة، فأنت عندما تذهب إلى المسجد يوم الجمعة تستمع إلى واعظ واحد، فالمصلون كثيرون والواعظ واحد، ولكن الصورة على العكس في المقبرة، فكل قبر واعظ، والمقبرة مليئة بالوعاظ، وأنت تستمع إليهم في آن واحد، وتعتبر من حالهم، وهذه حالة فريدة لا تكون إلا في ذلك المكان.
أيها المسلمون، إن زيارة القبور تذكر بالموت الذي هو هادم اللذات ومفرق الجماعات، من أكثر ذكره تعلق بالآخرة وزادت خشيته، فبادر بالأعمال قبل لحاق الموت به، يقول رسول الهدى : ((أكثروا ذكر هادم اللذات الموت)) رواه الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان، وزاد الطبراني: ((فما ذكره عبد قط وهو في ضيق إلا وسعه الله عليه، ولا ذكره وهو في سعة إلا ضيقه عليه)).
يقول ابن مسعود رضي الله عنه لما سئل: أي الناس أكيس؟ قال: (أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم لما بعده استعدادًا، أولئك الأكياس)، وقال عمر بن عبد العزيز: "الدنيا سريعة الفناء قريبة الانقضاء، تعِد بالبقاء ثم تخلف في الوفاء، وتنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة وهي سائرة سيرًا عنيفًا ومرتحلة ارتحالاً سريعًا".
أيها الإخوة في الله، لا بد أن نتذكر ذلك اليوم الذي تتوقف فيه الابتسامات والقهقهات، وتلك الحفرة التي يتوقف فيها الجدال والصرخات، ويتوقف العناد والكبرياء والإخلاص والرياء، ويتحول الوجه الفاتن واليد الظالمة واللسان الكذوب والعين الخائنة والقلب القاسي إلى جماجم وأعظم نخرة، ولا يبقى إلا العمل الذي قدمه صاحب القبر، هناك تزول أسئلة الدنيا: من أنت؟ وماذا تملك؟ ولا يبقى إلا سؤال واحدٌ: ما هو عملك الصالح؟ ما هو عملك الذي يحيل قبرك إلى روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار؟ يقول رسول الهدى : ((يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى واحد. يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله)) رواه مسلم.
معاشر المسلمين، إننا نريد تذكر الآخرة لكي نعمل لها، إن التذكر مطلوب شرعًا ليكون موصلاً إلى العمل الذي هو من أسباب النجاة من النار، ولا ينفع البكاء والندم بتذكر الموت والآخرة إذا لم يقترنا بالعمل، لا بد من العمل، لا بد من العمل للآخرة، لقد أكثرنا من العمل لدار الغرور فلا بد أن نعمل للآخرة.
يا بانيَ الدار المعدّ لها ماذا عملت لدارك الأخرى؟
وممهد الفرش الوثيرة لا تغفل فراش الرقدة الكبرى
أتراك تحصي من رأيت من ال أحياء ثم رأيتهم موتى فلتلحقن بعرصة الموتى ولتنزلن محلة الهلكى
نعم أخا الإسلام، هذا شاعر يقسم على أن كل واحد منا سيلتحق يومًا بأماكن الموتى ومجامعهم، وسينزل في ديارهم، ونحن نؤمن بهذا يقينًا، وأنت تؤمن بهذا يقينًا، وهذه الدنيا بما فيها تشهد على هذا، يقول تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
اللهم ارزقنا عملاً صالحًا نفوز به، اللهم ارزقنا عملاً نرحم به، فيزحزحنا ربنا عن النار ويدخلنا الجنة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، لا شك أن الانشغال بالدنيا عن الآخرة هو من أكبر أسباب ضعف الاستعداد وجمود العمل لما بعد الموت، ومن جعل الآخرة همه حسن عمله، يقول الحسن البصري رحمه الله: "ما أكثر عبد ذكر الموت إلا رأى ذلك في عمله، ولا طال أمل عبد قط إلا أساء العمل"، ولهذا قال النبي لابن عمر: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) ، وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) أخرجه البخاري. فقصر الأمل ومعرفة حقيقة الدنيا وزوالها طريق إلى الاهتمام بالآخرة، وما أضر على العبد من التسويف في التوبة والنظر إلى المعمرين من الناس ظنا أن سيكون منهم، يقول ابن الجوزي رحمه الله: "يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعدًا، ولا يغتر بالشباب والصحة، فإن أقل من يموت الأشياخ ـ يعني كبار السن ـ وأكثر من يموت الشبان، ولهذا يندر من يكبر ويعمر، ولذا قال الشاعر:
يعمّر واحد فيغِرُ قومًا ويُنسى من يموت من الشباب".
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا...
(1/3421)
عبير المحرمين إلى البلد الأمين
فقه
الحج والعمرة
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- روعة منظر الحجيج. 2- تحقيق وعد الله عز وجل لإبراهيم عليه السلام بجعل البيت العتيق مهوى أفئدة الناس.3- بيان فرضية الحج وشروط وجوبه. 4- استحباب تكرار الحج والمتابعة بين الحج والعمرة. 5- فضائل الحج. 6- فضل العمل الصالح في العشر الأوَل من ذي الحجة وما يُشرع فيها من الأعمال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد : اتقو الله حقّ التقوى.
معاشر المسلمين ، إن الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وسن سننًا فلا تتركوها، وإن الله تبارك وتعالى قد فرض على عباده الحج فريضة من أكبر وأعظم الفرائض. وهو تلك الرحلة الفريدة في عالم الأسفار والرحلات، ينتقل المسلم فيها بروحه وبدنه إلى البلد الأمين لمناجاة رب العالمين.
ما أروعها من رحلة، وما أعظمه من منظر يأخذ الألباب ويشد الأفئدة، فهل شممتَ عبيرًا أزكى من غبار المحرمين؟! وهل رأيت لباسًا قط أجمل من لباس الحجاج والمعتمرين؟! هل رأيت رؤوسًا أعزُّ وأكرم من رؤوس المحلقين والمقصرين؟! وهل مر بك ركبٌ أشرفُ من ركب الطائفين؟! وهل سمعت نظمًا أروع وأعذب من تلبية الملبين وأنين التائبين وتأوه الخاشعين ومناجاة المنكسرين؟!
قف بالأباطح تسري في مشارفها مواكب النور هامت بالتقى شغفا
من كل فج أتت لله طائعة أفواجها ترتجي عفو الكريم عفا
صوب الحطيم خطت أو للمقام مشت مثل الحمائم سربًا بالحمى اعتكفا
مشى الحجيج بها ركبا حدته ضحى أسلافنا فحدونا ركبه خلفا
توسّد الأمن غاديها ورائحها ونام في كنف الرحمن حيث غفا
إخوة الإسلام ، في كل عام نرى وفود الحجيج وضيوف الرحمن يلبّون نداء الله بالحجّ إلى بيته الأمين، أقبلوا بقلوب طائعة مختارة ملبية تريد رضا ربها، ومن لم يتيسر لهم الحج من المسلمين الباقين يلبّون بقلوبهم ويتطلّعون بأنظارهم إلى هذه البقاع التي شرفها الله ببيته الحرام.
معاشر المسلمين ، لقد عرَّف الله إبراهيم مكان البيت ليقيمه على التوحيد ثم يؤذّن في الناس بالحج، ووعده أن يلبي الناس دعوته فيتقاطرون على البيت من كلّ فج، رجالاً يسعون على أقدامهم، وركوبًا على كل ضامر جهَدَه السيرُ فضمر من الجهد والجوع.
وما يزال وعد الله يتحقق منذ إبراهيم عليه السلام وإلى اليوم بل وإلى ما بعد اليوم، وما تزال أفئدة من الناس تهوي إلى البيت الحرام، وتحنّ إلى رؤيته والطواف به، وتتذكّر أصفى نفس أحرمت وأزكى روح هتفت وأفضل قدم طافت وسعت وأطهر شفة نطقت وكبّرت وهللت وأشرَف يد رمت واستلمت.
ولا تزال القلوب تثوب إلى البيت بعد أن رجعت منه متلهفة لمتابعة الحج والعمرة بعد أن أذن إبراهيم عليه السلام في الناس بالحج، وبعد أن أوجبه الله على كل مسلم وجعله ركنا من أركان الإسلام، قال الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].
وتبوأ الحج في الإسلام منزلة عظيمة، فكان ركنًا من أركانه التي لا بد منها، فلما سئل رسول الله عن الإسلام قال: ((أن تشهد إلا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت إذا استطعت إليه سبيلاً)) رواه مسلم. وهو مع كونه فريضة لا يستقيم إسلام المرء دونها فهو لا يجب في العمر إلا مرة واحدة، فعن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله فقال: ((يا أيها الناس، إن الله فرض عليكم الحج فحجوا))، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله : ((لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم)) رواه مسلم.
معاشر المسلمين ، والحج لا يجب إلا بشروط أعظمها الاستطاعة بالمال والبدن بعد حاجات الإنسان وضروراته الأصلية، وذلك بأن يملك الزاد والراحلة اللتين تكفيانه ذهابًا وإيابًا من مأكول ومشروب وكسوة بنفقة وسط لا إسراف فيها ولا تقتير. ويعتبر في الزاد والراحلة أن يكونا فاضلين عن نفقة عيالِه ومن تلزَمه نفقتهم من حين ذهابه للحج وحتى رجوعه إلى أهله، وأن تكون ملكية الزاد والراحلة فاضلةً عمّا تمس إليه حاجته الأصلية كقضاء الديون ونحوها، وأن تكون الراحلة مما يصلح لمثله بشراء أو استئجار.
ومما يعتبر لهذه الاستطاعة المشروطة أيضًا أن يكون الإنسان صحيح البدن غير مريض ولا مصاب بعاهة دائمة أو شيخوخة طاعنة لا يستطيع معها أن يثبت على الراحلة بنفسه، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم لقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً.
معاشر المسلمين ، ومما يدخل في شرط الاستطاعة بالنسبة للمرأة أن يتيسّر لها محرم يحجّ معها، وأن لا تكون المرأة معتدّةً، فإن لم يتيسر للمرأة محرم يسافر معها للحج سواء كان زوجها أو أحدَ محارمها فلا يجب عليها الحجّ على الصحيح من أقوال أهل العلم؛ لأنها غيُر مستطيعة للحج، والله شرط لوجوبه الاستطاعة، وكذا إن كانت المرأة في العدّة؛ لأن الله نهى المعتدّات عن الخروج من بيوتهن فقال تعالى: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطلاق:1]، والحج يمكن أداؤه في وقت آخر غيرِ وقت العدة، فلا تلزم به في وقت العدة.
إخوة الإسلام، فإذا توفرت شروط وجوب الحج في الإنسان بأن كان مسلمًا بالغًا عاقلاً حرًا مستطيعًا فهنا تجب المبادرة بأداء هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، ويحرم عليه التأخير بعد توفر شروط الوجوب إلا لعذر، يقول رسول الهدى : ((تعجلوا بالحج؛ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) رواه أحمد بسند صحيح، وقد ثبت عن عمر أنه قال: (ليمت يهوديًا أو نصرانيًا ـ ثلاثًا ـ رجل مات ولم يحجّ، وجد لذلك سعة وخليت سبيله) رواه البيهقي بسند صحيح كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله.
معاشر المسلمين ، فإذا أدى الإنسان ما وجب عليه من حجة الإسلام فإنه يسنّ في حقه تكرار الحجّ والعمرة متى تيسّرت له السبل، وأفضل من ذلك المتابعة بين الحج والعمرة كما قال رسول الله في حديث ابن مسعود : ((تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة جزاء إلا الجنة)) رواه أحمد والترمذي والنسائي بسند صحيح، وعن أبي هريرة أن النبي قال في حديث طويل : ((والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر)) متفق عليه.
وللحج فضائل كثيرة متنوعة نصت عليها الأحاديث منها:
أن الحاج يعود من ذنوبه كيوم ولدته أمه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) متفق عليه.
ومن فضائل الحج أنه أفضل الأعمال بعد الإيمان والجهاد، عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله : أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)) متفق عليه.
ومن فضائل الحج أنه أفضل الجهاد، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟ قال: ((لا، لكن أفضل الجهاد حجّ مبرور)) رواه البخاري.
ومن فضائل الحج أن المبرور منه ليس له جزاء إلا الجنة كما تقدم في حديث أبي هريرة في الصحيحين : ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
ومن فضائل الحج أنه يهدم ما كان قبله، فعن عمرو بن العاص أن النبي قال له: ((ألم تعلم أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟!)) رواه البخاري ومسلم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أنكم في هذه الدنيا في دار ممرّ، وما زلتم في سفر، وأن إلى ربكم المستقر، وأنها تمر بكم مواسم عظيمة تضاعف فيها الحسنات وتكفر فيها السيئات، ومن المواسم شهر ذي الحجة، فقد جمع الله فيه من الفضائل ونوّع فيه من الطاعات، ففيه الحجّ وتنحر فيه الهدايا ويتقرب من لم يحج بالأضحيات، وفيه أيام مفضّلة غرّ، فيها عظيم الثواب والأجر، ألا وهي أيام العشر التي قال فيها الرسول : ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)) يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)) رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقد دل هذا الحديث على أن العمل في هذه الأيام العشر أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا بلا استثناء، وأنه أفضل من الجهاد في سبيل الله إلا جهادًا واحدًا هو جهاد من خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيء من ذلك، فهذا الجهاد بخصوصه يفضُل على العمل في هذه العشر، وأما بقية الجهاد فإن العمل في هذه العشر أفضل وأحب إلى الله منها.
ولتعلموا ـ يا عباد الله ـ أنّ بعض العلماء فضّل هذه الأيام العشر على العشر الأواخر في رمضان، ومن توسط فضّل أيامها على أيام العشر الأواخر وفضل ليالي العشر الأواخر على ليالي عشر ذي الحجة، فاغتنموا خيرات هذا الشهر الذي تنوّعت فيه الفضائل والخيرات التي أعظمها إيقاع الحج فيه إلى بيت الله الحرام والأضحية. فعلى من نصح نفسه أن يجتهد في عمل الخير أيام العشر من الذكر والصيام والصدقة والبر.
إخوة الإسلام، ويسن التكبير المطلق في كل عشر ذي الحجة في جميع الأوقات وصفته: "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد". قال البخاري رحمه الله: "وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما".
إخوة الإسلام ، ويشرع لمن أراد الأضحية أن لا يأخذ من شعره وأظفاره شيئًا من بداية هذه العشر إلى أن يذبح أضحيته، وهذا خاص بالأضحية، فمن أراد الحج وله هدي ينحره فإنه يأخذ من شعره وأظفاره بلا حرج في ذلك.
تقبل الله من المسلمين حجهم، ووفقهم لتعلّم أحكام دينهم.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك...
(1/3422)
فلا يغررك تقلبهم في البلاد
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, المسلمون في العالم
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
15/2/1424
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اللجوء إلى كتاب الله تعالى عند وقوع الفتن. 2- التحذير من الاغترار والحزن بظهور الكفار. 3- الحث على الصبر والمصابرة. 4- سنة الابتلاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى.
معاشر المسلمين، لقد تدرّعت الأمة بالهم والتحفت بالغمّ وخاب منها الأمل وكثر منها الوجَل يومَ أن تمكّن أحلاف الكفر من انتهاك كرامة بلد مسلم يملؤه أحباءٌ لنا وأشقاء، وتمكّن القهر من النفوس يوم أن رأت نزق المحتل وانتفاش الباطل ووقاحة الطغيان وتصعير الغرور والخيلاء حتى تجرؤوا على رفع أعلامهم في بلاد المسلمين وتمويل حربهم من ثروات المسلمين، مع قلة الناصر وضعف المعين، والله المستعان.
وإن الله تعالى بحكمته لم يتركنا في الفتن هملاً دون توجيه أو تحفيز، بل أرشدنا إلى الالتياذ بكتاب الله واللجأ إليه لأن فيه الهدى والنور، وما من حال تمرّ بها الأمة إلا وجدت في كتاب الله ما يسلّي منها ويرفع الغمة عنها.
لقد أُرشدنا إلى الرجوع إلى كتاب الله تعالى لنجد فيه: فَإِنَّ ?لعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعًا [النساء:139]، وأن ما حازته الأمم من القوة إنما هو جزء من قوة الله وأنه تحت قهر الله وسطوته، فلا خوف منه ولا ضمان لدوامه، وإنما هو تحت إرادة الله، فمتى شاء نزْعَه نَزَعه كما نزع قوّة النظام العراقي، ولكلّ أجل كتاب.
لقد أرشدنا سبحانه إلى الرجوع إلى كتاب الله تعالى لنجد فيه قول الحق تعالى: وَإِلَى? ?للَّهِ ?لْمَصِيرُ [النور:42]، وأن الخلق جميعهم صائرون إليه، يستوي في ذلك الطاغية الظلوم والضعيف المهضوم، فلا مهربَ من حسابه، ولا مفرَّ من لقائه، وإليه الأوبة والمعاد، وأن القهرَ والظلم والطغيان الذي يحصل اليوم ليس هو نهاية الأمر، وإنما نهاية الأمر يوم التغابن، يوم العرض على الله تعالى، والانتصاف من الجبّارين والمتكبرين والمعتدين وإذلالهم، وأخذ الحق للمظلومين والمقتولين وإعزازهم.
لقد أرشدنا إلى الرجوع إلى كتاب الله تعالى لنجد فيه التوجيه بعدم الاغترار والحزن بظهور الكفّار في زمن منَ الأزمان، وأخذهم بأسباب النعمة والوجدان والمكانة والسلطان، وأن ذلك متاع زائل واستدراج لهؤلاء الكافرين وإملاء لهم، وليس هو نهاية المطاف ولا نهاية الدنيا، وإنما هو متاع قليل لا يساوي شيئًا عند عاقبته الوخيمة ونهايته الأليمة، ولكن الذين كفروا يكذّبون، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
لقد وجهنا الله في كتابه بآية عظيمة كأنما أنزلت في حالنا يوم ساورنا اليأس والقهر مما يجري، لقد قال تعالى في كتابه: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ?لْبِلَـ?دِ مَتَـ?عٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمِهَادُ [آل عمران:196، 197]. متاع قليل يظفرون به، ولكنه ينتهي ويذهب، ويبقى لهم المأوى الدائم: جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمِهَادُ.
إن ما نسمعه اليوم ونشاهده لهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء لا محالة، يوم نرى إخوة الدين يعانون الشظف والحرمان، ويعانون الأذى والجَهد، ويعانون المطاردة والقتل والنهب. يحيك في القلوب شيء يوم نرى أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون وأهل الحق يعانون، ولكن هذه الآية تأتي دواء لما يحيك في النفوس وشفاء لما يعتري الصدور، فلا مجال للاغترار بتقلّب الذين كفروا في البلاد؛ لأن الله أخبر بأنّ هذا المتاع قليل، وأنه ليس نهاية الطريق، بل إن مصيرهم إلى جهنم وبئس المهاد.
ولقد حذر الله من هذا الاغترار بتقلّب الكافرين في الأرض فقال: فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى ?لْبِلاَدِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ?لاْحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَـ?دَلُوا بِ?لْبَـ?طِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ?لْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ وَكَذ?لِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ عَلَى ?لَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ [غافر:4-6].
إنها آيات تشفي الصدور المقهورة، وتداوي النفوس المكلومة، تعلّمها أن الكفار مهما تقلبوا وتحركوا وملكوا واستمتعوا فهم إلى اندحار وهلاك وبوار، وأن مصيرهم إلى النار، وأنهم في هذا الطغيان والتقلب في البلاد ليسوا الأولين، كما أنهم لن يكونوا الآخرين، بل سبقتهم أقوام وأحزاب على شاكلتهم، توحي عاقبتهم بعاقبة كل من يقف في وجه القوة الطاحنة العارمة التي يتعرّض لها من يعرض نفسه لبأس الله بظلم عباده وقتلهم وقهرهم.
لقد أرشدنا إلى الرجوع إلى كتاب الله تعالى لنجد فيه الأمر بالصبر والمصابرة في الرضا بما يقضي الله ويقدر، والصبر والمصابرة في حماية حوزة الدين، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلّوا من صبر المؤمنين الذين يجب عليهم أن يظلّوا أصبر من أعدائهم وأقوى، فلا مجال لمقابلة الجهد إلا بجهد أكبر منه، ولا مجال لمقابلة الوقاحة في الإصرار على الباطل إلا بإصرار أقوى على الحق، ثم تكون العاقبة بإذن الله للمؤمنين، فإذا كان الباطل يصِرّ ويصبر ويمضي في الطريق فلا مجال لأهل الحق إلا أن يكونوا أشدّ إصرارًا وأعظم صبرًا على المضِيّ في الطريق؛ ذلك أن المعركة إنما هي بين الحق والباطل، وبين الإيمان والطغيان، وبين المتكبرين المتجبرين في الأرض وبأس الله الذي يأخذهم بالدّمار والتنكيل.
أيها المسلمون، وما ذكره الله في كتابه عن حال الكفار الذين يغتصبون البلاد وأن متاعهم قليل وزوالهم سريع يصدّقه ما جرى في تاريخ المسلمين مع الكافرين، فأين المستعمرون الذين جثموا على البلاد الإسلامية وثرواتها؟! كم سنة تقلبوا في البلاد؟! إنها سنوات معدودة كانت أقصر من التوقعات، وكم مكث الذين أسقطوا بغداد يوم أن كانت حاضرة الخلافة؟! وكم سنة تقلّبوا في بلاد الشام؟! إنها سنتان فقط ثم هزموا شرّ هزيمة في عين جالون؛ ذلك أنّ لصاحب الحقّ مقالاً، وقد جعل له الله سلطانًا فلا مقامَ هنيئًا لمحتلّ في بلاد الإسلام.
نسأل الله يشعل العراق على الكافرين نارًا، وأن يجعل حياتهم فيها جحيمًا، اللهم لا تحقّق لهم غاية، ولا ترفع لهم في بلاد الإسلام راية، واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم إنه كان غفارا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، إنّ الوثبة العالية للقوّة الأمريكية هي من المداولة المذكورة في كتاب الله عز وجل: وَتِلْكَ ?لأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ [آل عمران:140]، وهي نتيجة للاستفادة من السنن الربانية، فهؤلاء تذرّعوا بالسنن، فاكتشفوا واخترعوا وتعلّموا وجرّبوا واتّحدوا وتعاونوا، حتى وصلوا إلى هذا المستوى من القوة الاقتصادية والتقنية والعسكرية التي بها استطاعوا أن يستفردوا هذه الفترة بحكم العالم تقريبًا. إن انتصارهم ليس انتصارًا عسكريًا فحسب، وعندما نرى ذلك الجندي المتغطرس يظهر قوته ويرفع علَمه على أرضنا نشعر بالغيظ والمقت، لكننا ندري أن هذا النصر الذي يقتطفه الآن إنما هو نتاج مجموعة من التفوّقات التي حصلت عليها إدارته في غيبة وغفلة من الأطراف الأخرى.
فهم استفادوا من هذه السنن الربانية، حتى وصولوا إلى ما وصلوا إليه، وانتصارهم الشامل على المسلمين هو جزء من سنة الابتلاء التي تقابل بالصبر، وتقابل بالمدافعة أيضًا، وهل سنبقى نشتمهم ونلعنهم ونحن لا نعمل شيئًا؟! إن الذي دفق الرضا في صدور المؤمنين هو الذي أمرهم بالعمل والتوحد والتقدم والضرب في الأرض والاستفادة مما خلق فيها، وهو الذي أخبرهم بأن ما أصابهم إنما هو من عند أنفسهم: أَوَ لَمَّا أَصَـ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلّ شَىء قَدِيرٌ [آل عمران:165]. نريد أن نلوم أمريكا، وكم يسرنا ونطرب حين نسمع من المحلّلين والكتبة والإعلاميين والخطباء وغيرهم من يتكلّم في هذه الدولة الظالمة، ونعتقد أن كل ما يقال عنها إنما هو جزء قليل مما تستحقّ، ولكن علينا أن لا نغفل أن هذه الإدارة المتغطرسة الظالمة التي لا يمكِن أن يخفى قبحها لم تكن لتبلغ فينا ما بلغت لولا أننا أوتينا من قبل أنفسنا، وها هو ربنا سبحانه وتعالى يقول للمبشرين بالجنة: قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلّ شَىء قَدِيرٌ [آل عمران:165]. فينبغي علينا أن نقول هذا لأنفسنا الآن والجراح ساخنة والدماء نازفة والآلام حيّة: "هو من عند أنفسنا"، علينا أن نعتبر هذه فرصةً لنصحح فيها أوضاعنا، ونصلح فيها أحوالنا، ونستدرك ونعود إلى الله سبحانه وتعالى بتوبة صادقة، وتصحيح شامل على مستوى الفرد والجماعة والأسرة والمجتمع والدولة والأمة.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3423)
معالم الطغيان
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
11/1/1424
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فرعون مثل صارخ للطاغية المتجبر. 2- عرض أهمّ المعالم المستنتجة من قصة فرعون الطاغية: الحكم بغير ما أنزل الله، الافتخار بالمال والعتاد. إنكار الغيبيات. التكذيب بآيات الله ومعاداة الرسل والدعاة إلى الله. التنكيل بالمعارضين والبطش بالدعاة إلى الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين، الطغيان آفة من الآفات التي تنزل بالأقوام والشعوب فتدمر كيانها وتهلك أهلها وتأتي على الأخضر واليابس فيها، وحين يزداد الطغيان بين الناس وتستشري شروره ثم يركن الناس إلى الطغاة ويستمرئون الخضوع والاستكانة لمظالمهم وطغيانهم يعمّهم الله بالعذاب ويحاسبهم على ذلك محاسبته للطغاة أنفسهم.
ولقد كان فرعون مثلاً صارخًا للطاغية المتجبر، وكان قومه صورة للأقوام التي خضعت وتابعت الطاغية، ووصل الأمر بفرعون إلى ادعاء الألوهية والاستخفاف بعقول الناس والإعراض عن كل الآيات التي جاءته من الله حتى أهلكه الله وقومه.
ووردت قصة فرعون في سبع وعشرين سورة، فضلاً عن الإشارة إليها في ثنايا بعض السور الأخرى وعرضتها الآيات مفصلة ومقتضبة، وعرضت صورًا لطغيان فرعون وضلالاته وبغيه وكفره.
وأمرُ فرعون مَثلٌ لكلّ طاغية يتجاوز الحدّ في الظلم والتجبّر والاستبداد والمعصية والاستخفاف بعقول الناس وإرادتهم ومصالحهم، وكلما أنس منهم السكوت على ظلمه والخضوع لبغيه وعدوانه ازداد صلَفًا وتجبرًا وتمردًا، حتى يصل إلى التألُّه وادعاء الإرادة المطلقة في مصائر الناس من حوله.
ولكي نبين ملامح الطغاة التي لا تتغير في مضمونها ونتذكر بعض صور طغيانهم ووسائلهم والتي تتشابه في مآلاتها نستعرض اليوم عددًا من الأمور التي نستخلصها من الآيات الكريمة التي وردت في معرض الحديث عن فرعون وقومه، ذلك الطاغية الذي تجاوز الحد في الكفر والتأله والتجبر على عباد الله لأجل مصالحه الشخصية كما يفعل الطغاة في كل زمان.
لقد أراد الله لفرعون أن يكون درسًا بليغًا للطغاة، فأبقى بدنه ليكون لمن خلفه آية وعبرة، وعدَّد الأساليب في عرض قصته، وسنَّ رسول الله صيام اليوم الذي هلك فيه ونجّى موسى عليه السلام لتغتبط الأمة بنجاة المؤمنين وتتشفّى بهلاك الكافرين، ولكي تتذكّر الأمم المستضعَفَة في كلّ زمان أن مصير الطغاة واحد، وأن عاقبتهم مخزية، وأن الله يمهل لهم وقتًا ثم يأخذهم أخذًا ويصرعهم صرعًا، ليكون حال هلاكهم مناقضًا لحال حياتهم، إنها نهاية شافية كافية للمستضعفين، يوم أن يلقي الله فرعونَ جثةً هامدة على شاطئ البحر مع أوساخه ونفاياته، قد امتلأ بطنه من نفاياته، وانسدّ فمه من وحله، بعد أن كان يذبح الأبناء ويستحيي النساء، بعد أن كان يقول: أنا ربكم الأعلى، بعد أن كان يقول: ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدّل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد.
أيّها المسلمون، إن الطغيان ليس قصة ماضية ولكنه حقيقة باقية، والوقوف عند قصص طغاة الأمس يعطي معالم لطغيان اليوم ويفيد في دراسة الصور المشابهة في كلّ عصر ومصر مهما اختلفت الألوان وتغيرت العناوين والشعارات؛ وذلك لأن الله جل وعلا لم يقصَّ على عباده المؤمنين إلا لكي يتّعظوا ويعتبروا ويتدبّروا أمرهم فلا يقعوا فيما وقع فيه الأقوام، وحتى لا ينالهم من الله العذاب: كَذ?لِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ اتَيْنَـ?كَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وِزْرًا [طه:99، 100]، لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِى ?لألْبَـ?بِ [يوسف:111].
أيها المسلمون، ومن خلال استعراض الآيات القرآنية، تتضح معالم المنهج الفرعوني في الطغيان وهي كثيرة ومتعددة من أهمها:
أنه يحكم بغير ما أنزل الله عز وجل ويجعلُ من نفسه معبودًا من دون الله عز وجل يتحكم في الناس، ويأمرهم أن يطيعوه، ويشرع لهم ما يراه متّفقًا مع أهوائه ومصلحته، ويدعي أنه الخير لهم والبركة عليهم، وأنه يريد لهم الصلاح وغيره يريد الفساد، وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى? وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى ?لأرْضِ ?لْفَسَادَ [غافر:26]، وَقَالَ فِرْعَوْنُ ي?أَيُّهَا ?لْملاَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى ي?هَـ?مَـ?نُ عَلَى ?لطّينِ فَ?جْعَل لّى صَرْحًا لَّعَلّى أَطَّلِعُ إِلَى? إِلَـ?هِ مُوسَى? وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ ?لْكَـ?ذِبِينَ [القصص:38].
فرعون الطاغية أتى إلى قومه بصورة الناصح المشفق عليهم من تبديل دينهم وإظهار الفساد عليهم، وطريقته في علاج هذه المشكلة طريقة رائعة، ولا يدرك روعتها إلا الطغاة من أمثاله، وهي أن يقتل موسى، وأن يقتل أبناء الذين آمنوا معه ويستحيي نساءهم، إنها طريقة تدلّ على صدقٍ معهم وإخلاص لهم وشفقة عليهم، إنها الطريقة التي سار عليها تلاميذ مدرسة الطغاة من بعده، نريد أن نحرّركم من الظلم ونخرجكم إلى عالم من الحرية لم تكونوا تحلمون به، وطريقتنا في ذلك هي أن نأتي بمئات الآلاف من الجنود وبأطنان الأسلحة وأنواع العتاد ثم نقصفكم حتى الموت، ونملأ بلادكم بالأمراض والأسقام، ونجرّب عليكم أنواع الأسلحة الجديدة، وهذا شرفٌ لكم أن جرّبنا عليكم أسلِحة جديدة، أو طريقة أخرى هي أن تهربوا لدولٍ مجاورة لتعيشوا حياةً كريمة مغترِبين في خيام اللاجئين ومنّةِ المتبرّعين.
أيها المسلمون، ومن أبرز معالم الطاغية أنه يفتخِر بما يملك من مال أو قوة أو مُلك أو تقدُّم مادي، وينسى مصدر ذلك كله، وينسبها لنفسه معتمدًا على حبّ الناس لمتاع الدنيا، ولذلك افتخر فرعون بأنه يملك الأرض الخضراء ولديه الماء والأنهار والسلطان: وَنَادَى? فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ ي?قَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَـ?ذِهِ ?لأَنْهَـ?رُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلاَ تُبْصِرُونَ [الزخرف:51]، وهذا الادّعاء ناتج عن الغرور بما أعطاه الله من الملك والمال والقوة والنعيم والحاشية والأتباع، ولكن ذلك مقترن أيضًا بخضوع الناس للطاغية وسكوتهم عن مظالمه وخوفهم من سطوته وجبروته وانكبابهم على الأمور المادية والمنافع الدنيوية ونسيانهم لآخرتهم، مما يجعلهم مستعبَدين للظالم وأتباعًا للطاغية كما فعل أتباع فرعون وقومه.
وعندما أراد أن يقنع قومه بأنه المعبود لهم من دون الله وأنّ دعوة موسى عليه السلام لا تنفعهم ولا تفيدهم استخدم هذا الأمر الذي يملك أفئدتهم ويسدّ عليهم طريق الهدى فقال: فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ ?لْمَلَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف:53]، والناس المضلَّلون الذين استعبَدهم الطغاة وأذلّوهم حتى أفسدوا فِطَرَهم يستجيبون لمثل هذه المغريات ويذعنون لحواسهم القاصرة وينكرون ما لا تصِل إليه حواسهم ويعطلون عقولهم.
أيها المسلمون، ومن معالم الطغاة ثالثًا أنهم ينكرون الغيبيات ويعادونها؛ لأن ذلك يتعارض مع ما يريدون؛ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ي?أَيُّهَا ?لْملاَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى ي?هَـ?مَـ?نُ عَلَى ?لطّينِ فَ?جْعَل لّى صَرْحًا لَّعَلّى أَطَّلِعُ إِلَى? إِلَـ?هِ مُوسَى? وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ ?لْكَـ?ذِبِينَ [القصص:38].
يخاف الطغاة من إيمان الناس بالغيب؛ لأنه يحرّرهم من أسر العبودية لجبروت الظالمين، ويفسحُ أمامهم النظر في ملكوت الله عز وجل، فيعرفون أن هناك مالِكًا قديرًا، وأن هؤلاء الطغاة بشر مخلوقون مثلهم انحرفوا عن شرع الله وتجبروا وظلموا، وأنهم سوف يمضون بعد حين ليواجِهوا مصير العذاب؛ لأن الله وحده يملك المصير ويملك الموت والحياة، إِنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْو?لُهُمْ وَلاَ أَوْلـ?دُهُم مّنَ ?للَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ ?لنَّارِ كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِأَيَـ?تِنَا فَأَخَذَهُمُ ?للَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ?للَّهُ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [آل عمران:10، 11].
ومن معالم الطغاة التكذيب ب آيات الله ومعاداة الرسل والدعاة وأولياء الله عز وجل والتنكيل بهم ورميهم بشتى التهم والأباطيل حتى ولو كانت الدعوة قد جاءتهم بالوسيلة الليِّنة والخطاب الشفوق؛ لأن المتجبر لا يصغي لغير نفسه، ولا يفهم في لغة الحوار إلا حبال المشانق وسياط الجلادين.
ها هو موسى وهارون عليهما السلام يخاطبان فرعون بالخطاب اللين الرشيد، ولكنه تجبر وتكبر وأرعد وأزبد وقال: لَئِنِ ?تَّخَذْتَ إِلَـ?هًَا غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ ?لْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29]، ولكن موسى لم يَخَفْ هذا التهديد، بل قدَّم لفرعون الآية تلوَ الآية لعله يخشى ويعود إلى الحق، فَأَلْقَى? عَصَـ?هُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء لِلنَّـ?ظِرِينَ [الشعراء:32، 33]، وظلت الآيات تترى واحدة إثر أخرى والطاغية لا يستمع ولا يرعوي حتى أهلكه الله وقومه الظالمين، ونجَّى موسى وقومه المؤمنين.
وظلت هذه العنجهية هي لغة الطغاة في الحوار والجدال، وطغاة اليوم في هذا كطغاة الأمس، لم يفارقوا هذه اللغة المحبّبة إليهم في الحوار، فلا مجال عندهم للجدال بالحسنى، وإنما على متنِ المقاتلات ورؤوس المدرَّعات، وما قالوه هو الصحيح لأنه قولهم، وليس لأنه صحيح، مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى? وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ?لرَّشَادِ [غافر:29].
أيها المسلمون، ومن معالم الطغاة أنهم يلجؤون إلى التنكيل الظالم بالمعارضين والبطش بالدعاة إلى الله، ولا يمنعهم شيء من ارتكاب كلّ جريمة مهما بدت منافية للخلق والمنطق، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى? بِئَايَـ?تِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى? فِرْعَوْنَ وَهَـ?مَـ?نَ وَقَشرُونَ فَقَالُواْ سَـ?حِرٌ كَذَّابٌ فَلَمَّا جَاءهُمْ بِ?لْحَقّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ ?قْتُلُواْ أَبْنَاء ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ وَ?سْتَحْيُواْ نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ ?لْكَـ?فِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَـ?لٍ [غافر:23، 25].
أيها المسلمون، ولكل طاغية أعوان، منهم من يعين بالرأي للتضليل والإفساد وتزيين الباطل للناس وإنفاذ رغبات الطاغية مثل هامان، ومنهم من يعين بالمال كقارون، إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَـ?مَـ?نَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَـ?طِئِينَ [القصص:8]، ومع هذا الوزير الطاغية أيضًا حشدٌ من الجنود والأعوان والأتباع التي تنكّل بالناس وترصد حركاتهم وتبطش بهم وتتعالى على الناس بما لديها من قوة وسلاح وسلطان، وَ?سْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ [القصص:39]، ولكن الله لهؤلاء بالمرصاد؛ للطاغية وأعوانه ولكل من يشايعه ويخضع له، فَأَخَذْنَـ?هُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـ?هُمْ فِى ?لْيَمّ فَ?نظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لظَّـ?لِمِينَ وَجَعَلْنَـ?هُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ?لنَّارِ وَيَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ لاَ يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَـ?هُم فِى هَذِهِ ?لدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَـ?مَةِ هُمْ مّنَ ?لْمَقْبُوحِينَ [القصص:40-42]. وهكذا يكون مصير الطغاة، لهم يوم موعود ومصرع مشهود.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، وبعد هذا العرض السريع للطاغية والطغاة مُمَثَّلاً بفرعون وقومه يتبين لنا أن الفساد يصيب تصوّرات الناس كما يصيب حياتهم الاجتماعية حين يكون هناك أرباب متفرّقون يتحكّمون في رقاب العباد من دون الله، وما صلحت الأرض قطّ ولا استقامت حياة الناس إلا أيام كانت عبوديتهم لله وحده عقيدةً وعبادة وشريعة، وما تحرّر الناس قطّ إلا في ظلال ربوبيته الواحدة.
إن نسيان ذلك من الناس يضلّلهم في الحياة فيجعلهم أشياعًا للباطل وجنودًا للطغاة الظالمين الذين لا يكفُّون عن تسخيرهم لغير ما أراد الله وامتلاك إرادتهم وقلوبهم وعقولهم.
إن أصناف الطغيان كثيرة وأنواعَ الطغاة متعددة، فإذا كان بالأمس فرعون ففي الحياة كثير من أصناف الفراعنة، وعلى كلّ ما عُرف من طغيان فرعون فقد كان في تصرفه هذا أقلَّ طغيانًا من طواغيتَ كثيرةٍ في القرن العشرين في مواجهة العالم الإسلامي ومواجهة دعوة الدعاة إلى ربوبية ربّ العالمين وتهديد لسلطان الباطل بهذه الدعوة الخطيرة. فهل يستيقظ الناس وهم يعيشون محنة من أقسى ما عرف العالم الإسلامي من المحن، ويمرون في ثنايا فتنة كبيرة نسأل الله عز وجل أن يجعلها نصرًا للحق والإسلام والمسلمين؟! وكل ذلك بفعل الطغيان وتصرفات الطغاة.
نسأل الله أن يقصم ظهور طغاة اليوم كما قصم ظهور أسلافهم، وأن يشفي صدور المسلمين منهم كما شفى صدور المؤمنين بنهاية فرعون البئيسة.
اللهم أرنا فيهم يومًا أسود أسوأَ من يوم فرعون وهامان وأبي بن خلف. اللهم أرنا فيهم بطشك الشديد، وأخذك القوي، واشف صدور قوم مؤمنين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3424)
معاني العقيدة في شعيرة الحج
الإيمان, فقه
الحج والعمرة, الولاء والبراء
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
1/12/1424
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قدرة الله في جمع هؤلاء الحجيج في مكان ووقت واحد. 2- نداء إبراهيم عليه السلام بالحج.3- شعيرة الحج قائمة على أساس التوحيد لله وحده. 4- بروز جانب التسليم والانقياد لله في شعيرة الحج. 5- تعظيم شعائر الله وترسيخ عقيدة الولاء والبراء. 6- التذكير بيوم القيامة. 7- فضل عشر ذي الحجة وما يشرع فيها من أعمال. 8- الدعوة إلى الله في الحج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، لا تقدِر أيّ قوةٍ في الأرض أن تجمَع الحجَّاج كلَّ عامٍ من أطراف الأرض ومن جميع أجناس البشر وطبقات المجتمعات وأصنافِ الناس، يأتون بقلوبٍ مملوءة بالشوق والمحبة، يتلذَّذون بالمشقَّات في الأسفار، ويفرَحونَ بمفارقةِ الأهلِ والأصحابِ والأوطان، ويحسّون أن ساعات الحجّ أسعدُ ساعات العمر، ويعظِّمون مشاعرَ الحجّ، وينفقون الأموال للحج بسخاوة نفس وطيبة قلب، ولا يقدر على ذلك إلا من خلق النفس البشرية وأوجدها وهو ربنا سبحانه وتعالى، وهو القائلُ لخليله إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لاْنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْبَائِسَ ?لْفَقِيرَ [الحج:27، 28]، فالحجُّ آية من آيات الله العظمَى على أنَّ مَا جاءَ به محمَّد هو الدِّين الحقّ.
ذكر المفسرون ابنُ جرير وابن كثير وغيرهما عن ابن عباس أنَّ الله لما أمرَ خليلَه إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام أن يؤذِّن في الناس بالحج قال: يا ربّ، كيف أبلّغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟! فقال: نادِ وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل: على الحِجْر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس، إن ربَّكم قد اتخذ بيتًا فحجُّوه، فيقال: إن الجبالَ تواضعت حتى بلغ الصوتُ أرجاءَ الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابَه كلُّ شيء سمعه من حجر ومدرٍ وشجر، ومن كتب الله أنه يحجَّ إلى يوم القيامة.
أيها المسلمون، إنّ وقفاتٍ يسيرةً مع شعيرة الحجّ في كتاب الله تعالى لهي كفيلةٌ في كشف شيء من أسرار الحج وحِكَمه وما تحويه من معاني التكامُل والتهذيب، وما تشمله من معاني العقيدة ومسائل أصول الدين.
تتمثّل هذه الوقفاتُ في أعظم الحِكَم والمقاصد لهذا النُسُك العظيم، إنها الوقفةُ مع توحيد الله جلّ وعلا الذي بُني البيتُ العتيق من أجلِه وجُعل قصدُ الناس إليه من أرجاءِ المعمورة لإذكاءِ شعيرةِ توحيد العبادةِ وخلوصها لله سبحانه لا شريكَ له، وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْر?هِيمَ مَكَانَ ?لْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئًا وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَ?لْقَائِمِينَ وَ?لرُّكَّعِ ?لسُّجُودِ [الحج:26].
إنّ التوحيد الخالصَ هو عماد خلافةِ الإنسان في الأرض، وهو أفضلُ ما يُطلب وأجلُّ ما يُرغب وأشرفُ ما يُنسَب، لا يُشيَّد الملك العتيدُ إلا على دعائم التوحيد، ولا يزول ويتلاشى إلا بفقده، وما عزّت دولةُ الإسلام إلا بانتشاره، ولا ذلَّت واستكانت إلا باندثاره.
إنّه التوحيد الخالصُ الذي يأرِز بالناس إلى بِرّ الأمان والوقايةِ من زوابع الشرك بالله في ألوهيته وربوبيته والإلحاد في أسمائه وصفاته. إنّه توحيدٌ يعلِّق الرجاء بالله والخوف منه والاستعانةَ والاستغاثة به وأن لا يُحكم في الأرض إلا بما شرع الله سبحانه. إنّه التوحيدُ الذي يغمر قلوبَ المسلمين باليقين الخالص، والذي شُرع الحج لأجله حيث يقول الباري سبحانه: فَ?جْتَنِبُواْ ?لرّجْسَ مِنَ ?لأوْثَـ?نِ وَ?جْتَنِبُواْ قَوْلَ ?لزُّورِ حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ?لسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ?لطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ?لرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:30، 31].
نعم إخوة الإسلام، إن شعيرة الحج قائمةٌ في أساسها على تجريد التوحيد لله وحده لا شريك له؛ بل من أجل تحقيق التوحيد لله وحده والكفر بالطاغوت شُرع للحاج أن يستهل حجه بالتلبية قائلاً: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، ومن أجل تحقيق التوحيد شُرع للحاج أن يقرأ في ركعتي الطواف بعد الفاتحة بسورتي الإخلاص والكافرون كما كان يفعل الرسول ، ومن أجل تحقيق التوحيد شرع التهليل للحاج عند صعود الصفا والمروة، فيستحب للحاج والمعتمر أن يستقبلَ القبلة عند صعوده الصفا والمروة ويحمدَ الله ويكبرَه ويقول: "لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"، ومن أجل تحقيق التوحيد أيضًا كان خير الدعاء يوم عرفة أن يقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
وفي مناسك الحج وشعائره تربيةٌ للأمة على إفراد الله سبحانه بالدعاء والسؤال والطلب والرغبة إليه والاعتماد عليه والاستغناء به عن الناس والتعفف عن سؤالهم والافتقار إليهم؛ فالدعاء مشروع في الطوافوالسعي وأثناء الوقوف بعرفة وعند المشعر الحرام وفي مزدلفة، كما يشرع الدعاء وإطالته بعد الفراغ من رمي الجمرة الصغرى والوسطى في أيام التشريق، شرع الدعاء في هذه المواقف الستة لتعليق القلوب بالله وإفراده بالعبادة والدعاء والالتجاء.
معاشر المسلمين، ووقفة أخرى مع شعيرة الحج فكم فيها من التربية على التسليم والانقياد لشرع الله تعالى، وكم في الأمة من أناس لا يرضَون بالانقياد لشرع الله في أمور حياتهم، ولكنهم يسلّمون في الحج ويخضعون، ولن يحصل لهم إيمان إلا بالرّضا بحكم الله والتسليم له تسليمًا، والحج خير مثالٍ لتحقيق هذا التسليم، فإنّ تنقّلَ الحجاج بين المشاعر وطوافَهم حول البيت العتيق وتقبيلَهم للحجر الأسود ورميَ الجمار وغيرَه كثير، كلّ ذلك أمثلةٌ حيّة لتحقيق هذا الانقياد لشرع الله تعالى وقبولِ حكم الله عز وجل بكل انشراح صدر وطمأنينة قلب، ولا يتم حجك إلا بفعل هذه الشعائر، ولو انتقيت منها فحجّك مردود عليك. وكذلك دين الإسلام كلُّه يجب الانقياد له، ولا يجوز الانتقاء منه، فدين الإسلام يحكم على المسجد وخارجه، على العبادة والسياسة، على الرجل والمرأة، ولا يجوز الانتقاء، يقول تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?دْخُلُواْ فِي ?لسّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة:208] أي: ادخلوا في جميع شرائع الدين، ولا تتركوا منها شيئًا. وفي الحجّ بخصوصه دعا إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام فقالا : رَبَّنَا وَ?جْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ ?لتَّوَّابُ ?لرَّحِيمُ [البقرة:128]، فلقد دعوا لنفسيهما وذريتهما بالإسلام الذي حقيقته خضوع القلب وانقياده لربه، وذلك يتضمّن انقياد الجوارح، ورضِي الله عن الفاروق عمر إذ يقول عن الحجر الأسود: ( إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك) رواه البخاري، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة فيه".
معاشر المسلمين، ووقفة أخرى مع شعيرة الحج تعلّمنا تعظيم شعائر الله تعالى وحرماته، يقول تعالى بعد أن ذكر أحكامًا عن الحج: ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَـ?تِ ?للَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ [الحج:30]، والحرمات المقصودة ها هنا أعمال الحجّ المشار إليها في قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ [الحج:29]، وقال سبحانه: ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32]، فتعظيم مناسك الحج عمومًا من تقوى القلوب، وتعظيم شعائر الله تعالى يكون بإجلالها بالقلب ومحبتها وتكميل العبودية فيها، يقول ابن القيم رحمه الله: " وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلّى أحدهما عن الآخر فسدت"، وفي الحديث قال : (( لا تزال هذه الأمة بخير ما عظّموا هذه الحرمة ـ يعني: الكعبة ـ حق تعظيمها، فإذا ضيّعوا ذلك هلكوا )) أخرجه ابن ماجه وحسنه الحافظ ابن حجر.
معاشر المسلمين، ووقفة أخرى مع شعيرة الحج ترسخ عندنا الولاء بين المؤمنين والبراءة من المشركين، وكم هو محزن حقًا تفرّق المسلمين شيعًا وأحزابًا وتمزقهم إلى دول متعددة ومتناحرة، وقد غلبتْ عليهم النعرات الجاهلية المختلفة، وإن فريضة الحجّ أعظمُ علاج لهذا التفرّق والتشرذم، فالحج يجمع الّشمل وينمّي الولاء والحبّ والنصرة بين المؤمنين، وإذا كان المسلمون يجمعهم مصدر واحد في التلقّي الكتاب والسنة وقبلتُهم واحدة فهم في الحج يزدادون صلة واقترابًا، حيث يجمعهم لباس واحد ومكان واحد وزمان واحد ويؤدون جميعًا مناسك واحدة. كما أن في الحج أنواعًا من صور الولاء للمؤمنين؛ حيث الحجُ مدرسة لتعليم السخاء والإنفاق وبذل المعروف أيًا كان، سواء أكان تعليم جاهل أو هداية تائه أو إطعام جائع أو إرواء غليل أو مساعدة ملهوف.
وفي المقابل ففي الحج ترسيخ لعقيدة البراء من المشركين ومخالفتهم، يقول ابن القيم في تهذيب السنن: " استقرت الشريعة على قصد مخالفة المشركين لا سيما في المناسك" ا.هـ. لقد لبى النبيّ بالتوحيد خلافًا للمشركين في تلبيتهم الشركية، وأفاض من عرفات مخالفًا لقريش حيث كانوا يفيضون من طرف الحرم، كما أفاض من عرفات بعد غروب الشمس مخالفًا أهلَ الشرك الذين يدفعون قبل غروبها، ولما كان أهل الشرك يدفعون من المشعر الحرام ـ أي: مزدلفة ـ بعد طلوع الشمس خالفهم الرسول فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأبطل عوائد الجاهلية ورسومها كما في خطبته في حجة الوداع، حيث قال: ((كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع)) ؛ يقول ابن تيمية: "وهذا يدخل فيه ما كانوا عليه من العادات والعبادات مثل دعواهم: يا لفلان، ويا لفلان، ومثل أعيادهم وغير ذلك من أمورهم" ا.هـ.
معاشر المسلمين، ووقفة أخيرة مع شعيرة الحج تذكر الحاج وغيره ممن يشاهده في وسائل الإعلام تذكِّره بيوم الخروج من الدنيا إلى ميقات القيامة وأهوالها، فعلى الحاجّ إذا فارق وطنه وتحمّل عناء الرحيل بالسفر إلى تلك المشاعر أن يتذكّر يوم الرحيل عن الدنيا، وإذا لبس المحرِم ملابس الإحرام وتعبد لله بلباس تلك اللفائف فعليه أن يتذكر أنه سيوسَّد التراب بمثلها، وأنه سيلقى ربه على زيّ مخالف لزيّ أهل الدنيا، وإذا وقف بعرفة ورأى من ازدحام الخلق وارتفاع أصواتهم واختلاف لغاتهم فليتذكر موقف القيامة واجتماع الأمم في ذلك الموطن العظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه كان غفارا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، يستقبل المؤمنون في هذا اليوم عشرًا مباركة فاضلة هي عشر ذي الحجة التي هي من أفضل الأيام عند الله تعالى، وللعمل الصالح فيها مزية عن غيرها من الأيام، وتقدم في الجمعة الماضية شيء من فضلها، وفي هذه العشر تشرع أنواع من العبادات الخاصة والمطلقة، وأعظم العبادات في هذه العشر هو أداء الركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج لمن لم يقم بأداء فرضه، قال تعالى في الحديث القدسي: ((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)).
ثم أداء مناسك الحج تطوعًا من غير الفريضة، وهو أفضل عمل يمكن أن تعمله في هذه الأيام بعد حج الفريضة؛ لأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، ويرجع الحاج المتقبل منه من ذنوبه كيوم ولدته أمه، نسأل الله من فضله. ثم بقية الأعمال الصالحة ومنها ذكر الله، فيستحب الإكثار من ذكر الله تعالى والتكبير والتحميد والتهليل المطلق في كل وقت، فربنا سبحانه يقول: وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ [الحج:28]، وصفة التكبير: "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد". قال البخاري رحمه الله: "وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما".
إخوة الإسلام، ومما يستحب دومًا صيام النوافل والصدقة وتلاوة القرآن وصلة الأرحام والصلاة بالليل والناس نيام، وفي مثل هذا الموسم المبارك يزداد فضلها وتتأكد مشروعيتها.
أيها المسلمون، ومن العبادات الجليلة التي تعمل في عشر ذي الحجة ذبح الأضاحي تقربًا إلى الله عز وجل لقوله سبحانه: فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ [التكاثر:2]، وذبح الهدايا والأضاحي من شعائر هذا الدين الظاهرة ومن العبادات المشروعة في كل الملل. ومن عزم على الأضحية فإنه يحرم عليه الأخذ من شعره وأظفاره من حين دخول شهر ذي الحجة إلى أن يضحي، وذلك لقوله : ((إذا دخل شهر ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من ظفره ولا من بشرته شيئًا)) رواه مسلم. وهذا الحكم خاص بمن سيضحي، أما من سيضحَّى عنه فلا يشمله هذا الحكم، فربّ البيت الذي عزم على الأضحية هو الذي يحرم عليه مس شعره أو أظفاره دون أهله وعياله. وهذا خاص بالأضحية فمن أراد الحج وله هدي ينحره فإنه يأخذ من شعره وأظفاره بلا حرج في ذلك.
إخوة الإسلام، ومن باب الدلالة على الخير لمن يحرص عليه في هذه العشر المباركة أدلّك على عمل يسير ولكنَّ أجره كبير، تكلفته قليلة ولكنَّ بركته عظيمة، هو سير على منوال الأنبياء، وهو أحسن العمل، إنه الدعوة إلى تعالى بنشر الكتب الطيبة في الحج، هو صدقة ولكنها جارية، هو هداية ولكنه إنقاذ لآخرين من براثن البدع والشرك والمعاصي، ساهم في دعم توزيع كتب العقيدة الصحيحة في موسم الحج، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم. كتاب واحد في العقيدة مع شحنة بريال واحد، وقد يهتدي بريالك هذا أشخاص، وهذا موجود عند مؤسسة الحرمين المجاورة لنا.
حقيبة دعوية كاملة بخمسة عشر ريالا فقط، وهذا عند المنتدى الإسلامي باسم حقيبة منافع، وفيها من المنافع ما يطابق اسمها، فلا تترك هذا الخير العظيم، تصدّق بما تستطيع، يقول رسول الهدى : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))، ومن يساهم في مثل هذه المشاريع هو يساهم في عملين عظيمين كلاهما لا ينقطع عنه حتى بعد وفاته: صدقة جارية وعلم ينتفع به. وفقني الله وإياك لكل خير وجنبنا كل شر.
اللهم يسر للحجيج حجهم، وأعنا وإياهم على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعلنا جميعا من المقبولين.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك...
(1/3425)
أحداث دارفور
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
17/8/1425
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تخطيط اليهود والنصارى لضرب الإسلام وأهله. 2- إقليم دارفور. 3- أسباب الهجوم على السودان وافتعال مشكلة دارفور. 4- كشف أباطيل الغرب. 5- حقيقة مشكلة دارفور. 6- السياسة الغربية تجاه الدول الإسلامية. 7- دروس وعبر من مشكلة دارفور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، ولا يزال أعداء الملة من اليهود والدول الصليبيّة يخططون بعد كل فترة لضرب الإسلام في أحدِ الأماكن واحتلال أرضه وإذلال أهله، وها هو العالم الإسلامي يعيش هذه الأيام مشكلة دارفور السودانية.
هذا القطر المترامي الأطراف، الغنيّ بالثروات، والذي يحتلّ موقعًا متميزًا يربط شرق القارة الإفريقية بغربها، وشمالها بجنوبها، كما أنه يمكن أن يلعب دورًا بارزًا في نشر الإسلام، إذ إن جميع الدول التي تحيط به من ناحية الجنوب والشرق دول يحكمها نصارى يرتبطون بوضوحٍ بالمصالح الصليبية الغربية، وهذا هو مفتاح فهمِ مسار الأحداث واتجاهاتها في السودان.
يقع إقليم دارفور في أقصى غرب السودان الذي يمثّل نحو خُمس مساحة السودان، ويبلغ عدد سكان دارفور ما يقارب 6 ملايين نسمة. وكانت دارفور في السابق مملكة إسلامية مستقلّة تَعاقب على حكمها عدد من السلاطين، كان آخرهم السلطان علي دينار، وكان للإقليم عُملته الخاصة وعلَمُه، وجميع سكان دارفور مسلمون ، وقد انضمّت إلى السودان عام 1916م.
أيها المسلمون، لماذا الهجوم على السودان؟ ولماذا جاءت هذه المشكلة الآن؟ إنّ هناك أكثر من سبب يجعل السودان في مقدمة أجندة كثير من القوى العالمية ومطمع للصهيونية والصليبية، منها:
أولاً: الدور الإسلامي للسودان في شتى المحافل الدولية ومحاولة تطبيقه للشريعة الإسلامية ولو بشكل مبسّط وفي حدود ضيّقة، وخاصة دوره الواضح في تأييد المقاومة في فلسطين والعراق، ورفضه للإملاءات الأمريكية لتغيير الثوابت الإسلامية.
ثانيًا: أن السودان تجاوِر تسع دول إفريقية متعددة الأزَمَات والديانات واللغات، وأمن كل هذه الأنظمة مرتبط بصورة أو بأخرى بأمن السودان، فمعظم قبائل السودان الحدوديّة في الشمال والشرق والغرب والجنوب هي قبائل مشتركة، نصفها في السودان ونصفها الآخر في الدولة المجاورة.
ثالثًا: السودان به ثروة من المعادن وأهمها البترول لم تستغلّ حتى الآن، وهناك صراع دائر بين شركات الدول الكبرى حول استغلال تلك الثروة، ولا يفوتنا المشهد السينمائي الأمريكي نحو الاندفاع حول وزارة البترول في العراق واحتلال الآبار هناك بمجرّد احتلالهم للبلاد. هل تعلم ـ يا أخي الحبيب ـ أن احتياطي السودان من النفط يقدَّر بحوالي 2 مليار برميل؟! ومن المتوقع زيادتها إلى 4 مليارات عام 2010م، كل هذا يجعل شهية الولايات المتحدة مفتوحة لالتهام هذا المنجَم المفتوح. ويزيد في ذلك تأكيد وجود اليورانيوم في دارفور مما يعطي أهمية خطيرة لهذا الإقليم، فضلا عن أنّ السودان دولة بمساحة مليون ميل مربّع، صالحة للزراعة والصناعة، ويرقد على مواد هائلة من المياه الجوفية والمعادن والنفط والثروات وتجري تحته الأنهار.
رابعًا: أن بريطانيا تنظر على الدوام للسودان على أنّه مستعمرة تاريخيّة، ويجب أن تظلّ هذه الفريسة الإفريقية تحت مجهر التاج البريطاني، كما تنظر فرنسا إلى السودان كدولة مهمة تجاور الشريط الفرنسي الإفريقي والذي له أكثر من باب يفتح على السودان، ولا بدّ أن تؤمّنَ هذه الأبواب جميعها. ثم يأتي دور الولايات المتحدة أَسَدُ هذه الغابة الكبيرة في ظلّ انعدام التوازن العالمي، وهذا الأسد في عالمه الجديد يرى أنّ كل الصيد في الغابة العالمية هو ملكه، ولا يذهب شيء إلى أحد ولو كانت عشيقته بريطانيا إلا بعد إذنه وعلمه.
خامسًا: إسرائيل والصهيونيّة التي تريد عزل السودان عن محيطه العربي والإسلامي، فللصّهاينة دور واضح في حرب الجنوب في محاولةٍ لخلق دولة منفصلة معادِية للعرب على مجرى النيل ولا تربطها روابط بمصر، بهدف السيطرة على المياه، وليُّ ذراع كل من مصر والسودان. وقد سبق للكيان الصّهيونيّ تقديم مساعدات للحركة الشعبيّة لدى انفجار التمرّد.
سادسًا: أن الطغيان الأمريكي دائمًا يستهدف الدول الضعيفة بسبب ضعف الموارد كأفغانستان، والاستنزاف في الحروب كالعراق، وتأتي السودان فرصة مع قرب الانتخابات الأمريكية كهدف استراتيجي ضعيف وسهل؛ لأن المتتبّع لمجريات أحداث العراق يدرك أن المشروع الأمريكي للتغيير في المنطقة متعثّر في العراق بسبب صمود المقاومة العراقية وتسديدها لضربات قاصمة للوجود الأمريكي ومشاريعه للسيطرة على العراق، وبات النظام في وضع قلق على مشروعه الأساسي في المنطقة، ومع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية أصبحت الحكومة في وضع حرج: إما التسليم بإخفاق مشروعها للتغيير، وهذا يعني هزيمتها، أو محاولة ترميم وضعها في العراق بقدر الإمكان، وفي نفس الوقت الانتقال خطوة أخرى نحو تطبيق مشروعها للمنطقة والبدء بالحلقة الأضعف وهي السودان، فأوجدت الولايات المتحدة مشكِلة دارفور.
سابعًا: موقع السودان الإستراتيجي على البحر الأحمر وجنوب مصر وفى حوض النيل وقلب إفريقيا، كل هذا يجعله فاتحًا لشهيّة سعار الذئب الأمريكي ليفترس عظام السودان الطيّب المكافح في ظلّ حالة من السلبية أو الخوف عربيًا وإسلاميًا.
لهذا ولغيره أوجدت الصليبية هذه المشكلة محاولِة تغطيتها بغطاء هيئة الأمم المتحدة.
أيها المسلمون، وبينما العالم مشغول بمتابعة أخبار العراق وممارسات الاحتلال الأمريكي والمقاومة، وكذلك أخبار ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين فجأة سلّطت الأضواء الأمريكيّة والبريطانيّة على دارفور، وكأنّ المشاعر المرهفة والأخلاق الإنسانيّة استيقظت فجأة لتبصر مشكلة دارفور والصراع العرقي المزعوم بين القبائل العربيّة والقبائل الإفريقيّة، وتجمعت سحب سوداء في الأجواء منذِرة باحتلال دارفور، وكأن الآلة الإعلاميّة المدعّمة بالطغيان الأمريكي تريد أن تسحب التركيز العالمي والعربي من مصائب الاحتلال في العراق إلى دارفور حيث تعلو نبرة إنسانية تمثيليّة أمريكيّة.
وإذا كان التدخل الغربي والأمريكي مقبولا فيما يتعلق بالوضع في جنوب السودان بدعوى أن هناك صراعا بين مسلمين ومسيحيين، استنادًا إلى الإحصاءات التي تشير إلى أن نسبة المسلمين في الجنوب 18 في المائة ونسبة المسيحيين 17 في المائة وباقي السكان وثنيون، فهو ليس مقبولا في دارفور؛ لأن كل القبائل هناك مسلمة سواء العربية أو الإفريقية بنسبة 99 في المائة، وليس هناك معنى لتدخّل الاتحاد الأوربي بدعوى وجود تطهير عرقي أو ديني.
ولو أن الاستنفار العالمي حاصل لنصرة وإغاثة كلّ المضطهدين والمسحوقين من ضحايا الصراعات في أنحاء العالم لما كان هناك مبرّر للشك أو القلق، ولكن أَنْ تتعدّد الصراعات في أماكن شتى ويتساقط في ثناياها ومن جرّائها مئات بل ألوف الضحايا الذين هم في أمس الحاجة إلى العودة والإغاثة والحماية ثم يتمّ تجاهل ذلك كله ويجري التركيز على دارفور بوجه أخصّ، فإن ذلك يثير أكثر من علامة استفهام وتعجّب، من ثم فليس السؤال هو: لماذا الاستنفار العالمي من أجل دارفور؟ بقدر ما أنه لماذا الاستنفار لأجل دارفور وإهمال غيرها؟! لهذا فلسنا ندعو إلى تقليل الاهتمام بالحاصل هناك، ولكننا ندعو إلى توجيه اهتمام مماثل لملفّات وقضايا مماثلة، إن لم تكن أشد تعقيدًا وأكثر جسامة من قضية دارفور.
إن أحدًا لم يهتمّ مثلا بالتقرير الذي أصدرته منظمة العفو الدولية عن أوضاع مسلمي الصين، والذي كشف النقاب عن أجواءِ القمع القاسية التي يتعرّض لها أكثر من عشرة ملايين مسلم في تركستان الشرقية. تقرير من هذا القبيل لم يُحدث أيّ صدى حتى في وسائل الإعلام، في حين كان المسؤولون الدوليون يركضون نحو دارفور، في مقدمتهم الأمين العام للأمم المتحدة ووزيرا خارجيتي الولايات المتحدة وألمانيا.
مأساة مسلمي الصين تعدّ أمرًا بسيطًا إذا قورِنت بالحاصل في فلسطين أو في بلاد الشيشان، في تلك الأجواء أيضًا واصلت إسرائيل افتراسها للفلسطينيين، من خلال الاجتياحات والاغتيالات وعمليات التدمير ونهب الأراضي التي شملت قطاع غزة ونابلس وغيرها من مدن الضفة، وقبل ذلك تابع العالم التقارير البشعة التي نشرت عن ممارسات الجنود الروس في الشيشان وجارتها أنقوشيا. هذه الممارسات قوبلت بالصمت المشهود أو بتحرّكات سياسية اتجهت صوبَ مناصرة القَتَلة وليس الضحايا كما في الحالة الفلسطينية.
الفيضانات الهائلة التي اجتاحت بنجلادش مؤخّرًا وشرّدت أكثرَ من عشرين مليونًا من الفقراء والعجزة والأطفال، لماذا لم يلتفت لهم العالم؟! التمييز العنصري والتصفية الدينية التي يمارسها الهندوس تجاه المسلمين المستضعفين في الهند أو في كشمير، ماذا كان تعليق الغرب عليها وفي مقدمتهم الولايات المتحدة؟! قالوا: إنها قضية داخلية لا علاقةَ للغرب بها. التهجير والإبادة الجماعية التي يتعرض لها شعب أراكان من الحكومة البورمية لماذا لم تقلق الدول الكبرى؟! الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان في الشيشان وجنوب الفلبين وأوزبكستان وأرتريا، كل ذلك لا علاقة للغرب به، فهم على حدّ زعمهم يحترمون سيادة الدول وقضاياها الداخلية. أما دارفور فتتصاعد فيها الأحداث بصورة مذهلة جدًا، ويتواطأ الغربيون للضغط وإصدار القرارات والتهديد بالمحاصرة، بل بالتدخّل العسكري، فما الذي يجري إذًا؟! وما هذا التناقض والكيل بمكيالين؟!
لقد استأثرت دارفور بالاهتمام الدولي والإقليمي، الأمر الذي يؤكّد الشك في براءة ذلك الاهتمام، ويوحي بأنّ وراء الأكمة ما وراءها، وأن في دوافعهم أشياء أخرى غير الاعتبارات الإنسانية.
تتعمّد واشنطن توصيف أزمة دارفور على أنّها حرب إبادة بين العرب والأفارقة في السّودان، تديرها مليشيات الجنجويد العربيّة بدعم من حكومة السودان، وتنطوي على التّطهير العرقيّ والتّهجير والتّعريب وغير ذلك من التّهم الباطلة. والإدارة الأمريكيّة تفعل ذلك بخبث لكي تعقّد الأمور، ولكي تتاح لها الفرصة في التدخّل والاصطياد في الماء العكِر.
إنّ المشكلة في دارفور هي والحمد لله بين طرفين مسلمين، وليس بينهما طرف مسيحي أو وثني، وإلا لكانت الأمور أكثر تعقيدًا. والنزاع الحالي في دارفور طبيعيّ، وهو ليس تطهيرًا عرقيًّا كما تصفه الإدارة الأمريكية، فالأمر لا يعدو نزاعًا بين القبائل الرعويّة الرحّل والقبائل الزراعيّة المستوطنة والتي قد تحصل في أيّ مكان وفي أيّة دولة، هذه هي كل المشكلة. لكنه المخطّط الأمريكيّ الذي يتضمّن تخويف أبناء دارفور من الحكومة السودانيّة من أجل البدء في تنفيذ مخطّط تفتيت السودان بدءًا بإقامة دولة مستقلّة تضمّ قبائلها كبيرة العدد والمنتشرة على جانبي الحدود السودانيّة التشادية، وتكون عاصمتها دارفور، على أنْ ترتبط بالولايات المتّحدة، فتصبح قاعدة إستراتيجيّة لها في هذا الموقع بغرب السودان مجاورًا لليبيا وتشاد ودول شرق إفريقيا التي ترتبط تقليديًّا بفرنسا، هذا هو الهدف.
ولأجل عدم تكرار أخطاء العراق فقد حرصت الإدارة الأمريكية على استصدار قرار من مجلس الأمن بالتدخل في دارفور، منحازًا من خلال دعوته حكومة السودان إلى جمع أسلحة الجنجويد فقط دون ذكر الميليشيات الأخرى؛ ليساعد ذلك على تقسيم البلاد. وهذه المفارقة تذكّرنا فيما حدث بالبوسنة في عهد بطرس غالي عندما منعَ السلاح عن المسلمين فقط، وهو شرط لا يقبله عاقل إطلاقًا، فأبسط مبادئ العدل نزع السلاح من جميع أطراف الصراع، هذا فضلا عن شروط أخرى أقلّ ما توصف بأنها شروط طرف يشعر بالانتصار والحماية الدولية.
أيها المسلمون، لقد وضح بجلاء السياسة الغربية تجاه جميع الدول الإسلامية وهي سياسة التقسيم ومحاولة إثارة النّعَرات لأجل أن تقبل عدد من الطوائف وتطالب بالتقسيم، وهي إستراتيجيّة أمريكا والغرب بعد الحرب الباردة، وتريد أنْ تطبّقه على العالم الإسلاميّ بأسره، ففي دول الخليج والعراق الصّراع والتقسيم يكون على أساس طائفيّ: سنة وشيعة، وفي مصر يكون التقسيم على أساس دينيّ بين المسلمين والأقباط، وفي الجزائر والمغرب على أساس لغويّ بين العرب والبربر، وفي ماليزيا وأندونيسيا على أساس عرقيّ ودينيّ بين المسلمين والهندوس والبوذيين، وهكذا. هذا مخطط مدروس وقديم، لكن هل يتمكنون من تطبيقه وتنفيذه؟! هنا يأتي دور الشعوب المسلمة ودوَلها وأن تكون على حذر من ذلك، وأن تحاول بكل ما تملك أن تفسد هذا المخطط الصليبي اليهودي الماكر.
والدور الآن أتى على السودان، تلك الدولة العربية المسلمة والتي قد ابتليت بمصائب شتى، كان أهمها حركة التمرّد الصليبي المدعومة من إسرائيل في جنوب السودان، والتي ظلّت حكومة السودان تقاوِمها سنوات طويلة، مما عطّل وأجهض كثيرًا من مشاريع التنمية واستنزف كثيرًا من موارد الدخل، وبعد أنْ كانت السودان كما تؤكّد الدراسات أنّها سلّة غذاء إفريقيا أو العالم العربي أضحت سلّة حركات التمرد والصراعات الحزبية المقيتة مما زاد ذلك من تدهور أحوالها.
وجاءت مشكلة دارفور العرقيّة وما خلّفته من أوضاع متردّية إنسانية لتزيد من كمّ مصائب السودان التي أُجبرت على التفاوض بطريقة مهينة مع حركة التمرّد في الجنوب، وقبلت شروطًا وإملاءات تؤدي إلى تقسيم السودان والقبول بالأمر الواقع بكل ما فيه من تواجد صهيوني أمريكي في جنوب السودان.
وكان السودانيون يأملون أن تكون اتفاقيّات الجنوب نهاية للضغوط التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكيّة، ولكن هيهات، فإنّ الاستعمار بكل أساليبه القديمة وأشكاله الكئيبة عاد يطلّ على السودان في القرن الحادي والعشرين.
السؤال: أين ذهبت الجامعة العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي؟! لا وجودَ لهما. لماذا هذا الصمت والسلبية؟! هل ننتظر أن يأتي الدور على دولة أخرى قريبة؟! وربما نكون نحن في القائمة الأمريكية أيضًا.
نسأل الله جل وتعالى أن يحفظ بلاد المسلمين، وأن يدمّر أعداء الدين، وأن يجعل كيدهم في نحورهم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لم يعد خافيًا الآن أن ظهورَ مشكلة دارفور بهذا الشكل المخطّط هو للقبض على السودان متلبّسًا بأي اتهام؛ كي يسهل إنزال العقوبات وفرض الشروط والتهيئة للاحتلال كما حدث مع العراق.
والمشهد العراقيّ يكرّر نفسه في السّودان، حيث مسلسل الضّغوط المتلاحقة بات الأكثر استعمالا ضدّ الحكومة السودانيّة، الأمر الذي يمهّد إمّا إلى ضمّ دارفور إلى السودان الجديد في الجنوب بعد ستّ سنوات على أحسن التقديرات وإمّا الاستقلال المباشر تحت حماية القوّات الأمريكيّة والبريطانيّة التي ستدخل السودان تحت مسمّى تأمين وصول المساعدات الإنسانيّة التي ستشرف عليه قوات الاتحاد الإفريقيّ العاملة في دارفور لمراقبة وقف إطلاق النار حسب السيناريو الأنجلوأمريكي.
أيها المسلمون، إنَّ تداعياتِ الأحداث النازلة وممارسات الإكراه على ديارِ المسلمين مِن قِبَل أعدائهم ليست وليدةَ اليوم، إذ الابتلاءُ سنّة ماضية، بل الابتلاء ليس قاصرًا في الشرّ وحدَه إذ يقول تعالى: وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، وليست المصيبةُ في الابتلاء لكونه سنّةً ربانية ماضية، وإنما المصيبة في كيفية التعاملِ السلبيّ معه، إذِ المفترض أن يكونَ موقفُ المؤمنين منه واضحًا جليًّا من خلال الإيمان بأنّه من عند الله، ثمّ الإدراك بأنه وإن كان ظاهره الشرّ إلا أنّه قد ينطوي على خيراتٍ كثيرة لمن وفّقه الله لاستلهام ذلك. ولا أدلَّ على مثل هذا من حادثةِ الإفك الشهيرة التي رُمي فيها عِرض سيِّد ولد آدم ـ بأبي هو وأمّي ـ صلوات الله وسلامه عليه، حيث يقول تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ جَاءوا بِ?لإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [النور:11]، فالسعيدُ مِن الناس من اقتبسَ الأملَ وسطَ هذه الزوابع، والكيِّس الفطِن هو مَن استخرج لطائفَ المنَح وسطَ لفائفِ المحَن.
فالغارَةُ الكاسِحة على ديار المسلمين قد أبرَزت لنا دروسًا ليست بالقليلة، كان من أهمِّها أنّ المسلمين مهما بلَغوا مِن المقام والرِّفعة وهدوء البال واستقرار الحال فإنهم معرَّضون لأيّ لون من ألوان الابتلاء، فعليهم أن لا يستكينوا إلى درجتِه ويطمئنّوا إلى مكانته، وأن لا يحكمَهم اليأس والقنوطُ في إبّانه، كما أنَّ توطينَ النفس على السرّاء دومًا سببٌ ولا شكّ في التهالُك عند القوارعِ التي تنزل بالمسلمين أو تحلّ قريبًا من دارهم، فيقع الانحراف ويضيع الأمَل بالله، وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ?للَّهَ عَلَى? حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ?طْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ?نْقَلَبَ عَلَى? وَجْهِهِ خَسِرَ ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةَ ذ?لِكَ هُوَ ?لْخُسْر?نُ ?لْمُبِينُ [الحج:11].
ثمَّةَ درسٌ مهمّ يبرز جليًّا إثرَ تلك التداعياتِ، ألا هو أنه لا فائدة مع العدو المحتلّ إلا سلاح المقاومة، لأنه قد دخل بالقوة ولا يمكن أن يخرج إلا بالقوة، فالتفاهم يكون مع الخارج، أمّا الداخل فلا تفاهمَ معه حتى يخرج، ولنا في القضية الفلسطينية أكبر شاهد على ذلك، فكم حقّقت الانتفاضة ولله الحمد من انتصارات ومكاسب، ولو قدّموا تضحيات كبيرة وأنفسًا نحسبهم شهداء عند الله تعالى، لأن المحتل لا يمكن أن يخرج إلا بهذه الطريقة...
(1/3426)
على عتبة رمضان
فقه
الصوم
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
1/9/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تهنئة المسلمين ببلوغ الشهر. 2- فرح الأمة برمضان. 3- فضائل رمضان. 4- دعوة للتوبة في هذا الشهر الكريم. 5- الحث على الاجتهاد في أنواع الطاعات. 6- الجود في رمضان. 7- أسرار الصوم وحِكمه. 8- رمضان وحال الأمة. 9- صيانة الصيام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. اتَّقوا الله وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]، واعلم أنّه مهما طال بك الزّمان فإنَّ المردَّ إلى الله والمصيرَ إمَّا إلى جنّةٍ أو نار.
أيّها المسلمون، في أوّلِ يومٍ من أيّام شهرِ رمَضان المبارَك نهنِّئ أنفسَنا والمسلمين ببلوغِ هذا الشّهرِ العظيم، جعَلَه الله مبَاركًا على أمّةِ الإسلام وعمومِ المسلمين في مشارِقِ الأرضِ ومغَاربها، أهلَّه الله علينا بالأمنِ والإيمان والسلامَةِ والإسلام والعِزّ والنّصر والتمكين للمسلمين.
أيّها المؤمنون، تستقبِل الأمّة هذا الزائرَ المحبوب بفرحٍ غامِر وسرورٍ ظاهرٍ وبهجةٍ بك يا رَمَضان، إنّ يومَ إقبالك لهوَ يومٌ تفتّحت له قلوبُنا وصدورُنا، فاستقبَلناك بملءِ النّفس غبطةً واستبشارًا وأمَلاً، استبشرنا بعودةِ فضائِك الطاهر الذي تسبَح به أرواحُنا بعد جفافِها وركودِها، واستبشَرنا بساعةِ صلحٍ مع الطاعاتِ بعدَ طول إعراضِنا وإباقنا، أعاننا الله على بِرِّك ورفدِك، فكم تاقت لك الأرواحُ وهفَت لشذوِ أذانِك الآذانُ وهمَت سحائبُك الندِيّة هتّانةً بالرّحمة والغفران. في رحابِكَ تورِق الأيادي والنّفوس فتفيضُ بالبِرِّ والإحسان.
رمضانُ إطلالةُ بُشرى فمنذ هلَّ هِلاله والسماءُ مشرقة بالسّناء، بل عمَّ النور والندَى كلَّ الأكوان. هذه الأيّامُ نسأل الله تعالى أن يبارِك في قدومها وورودها، وأن يجعلَ لنا وللمسلمين الحظَّ الأوفَرَ مِن يُمنِها وسعودها. فرائِدُ قلائدِ الأيّام وغُرَر جَبَهات الأعوام، كيف لا وهو مِلءُ أسماعنا وأبصارِنا وحديثُ منابِرِنا وزينَةُ منائِرِنا وبضاعَةُ أسواقِنا وحياةُ مساجدنا. اللهمَّ كما بلَّغتَنا رمضانَ فنسألك التّمامَ والقَبول.
عبادَ الله، مَن مِنَ المسلمين لا يعرِف فضلَ هذا الشهرِ وقدرَه، فهو سيِّد الشهور وخيرُها، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، من صامه وقامه غفِر له ما تقدَّم من ذنبِه، فيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألفِ شهر، وقد ثبت في الصحيحَين عن النبي أن مَن صام رمَضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبه، وأنّ من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدم من ذنبه، وأنّ من قام ليلةَ القدر إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبه [1].
هذا هو رمضانُ، أعظم القرُبات فيه الصومُ الذي افترضه الله تعالى تحقيقًا للتّقوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. فهو شهرُ تزكيةِ النفوس وتربيتِها، والتّقوى حساسيّةٌ في الضمير وصَفاء في الشعورِ وشفافيّة في النفس ومراقبةٌ لله تعالى، فالصّوم ينمِّي الشعورَ بالمراقبة ويزكِّي النفس بالطاعة.
أمَّا ثواب الصائمين فذاك أمرٌ مردُّه إلى الكريم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ قال: ((قال الله عزّ وجلّ: كلُّ عمَلِ ابنِ آدم له إلاَّ الصّوم، فإنه لي وأنا أجزِي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صومِ أحدكم فلا يرفث ولا يسخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتَله فليقُل: إني امرُؤ صائم. والذي نفس محمّد بيده، لخلوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله يومَ القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرِح بفطره، وإذا لقيَ ربَّه فرح بصومه)) رواه البخاري ومسلم [2] ، وفي رواية عندهما: ((يدع طعامَه وشرابه وشهوتَه من أجلي)) [3] ، وفي صحيح مسلم أنّ النبيّ قال: ((ورمضانُ إلى رمضان مكفِّرات لما بينهنّ إذا اجتُنِبت الكبائر)) [4].
فيا من أوجَعته الذنوبُ وأزرَى بهِ العِصيان، بادِر برفعِ يدٍ في ظلامِ الليل ولا تقنَط من رحمةِ الله الكريم الذي يقول بين آيات الصيام: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، ورغِم أنفُ من أدرَكَه رمضانُ فلم يغفَر له؛ وذلك لما فيه مِنَ النفحاتِ والرحمات التي لا يحرَمُها إلاَّ من حرَم نفسَه، ففي الصحيحَين أنّ النبيَّ قال: ((إذا جاء رمضانُ فتِّحَت أبواب الجنة وغلِّقَت أبواب النار وصفِّدَت الشياطين)) [5].
شهرُ رمضان شهرُ القيام والتراويحِ والذّكر والتسابيح، فاعمُروا لياليَه بالصلاةِ والدّعاء وقراءةِ القرآن، ورُبَّ دعوةٍ صادقةٍ بجَوف ليلٍ تسري حتى تجاوِزَ السماءَ، فيكتب الله بها لَك سعادةَ الدّارين.
ورمضانُ شهر القرآنِ حيث كان جبريل عليه السلام يلقى النبيَّ فيه في كلِّ ليلة فيدارِسُه القرآن، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185]. وقد كان السلَفُ رحمهم الله إذا جاءَ رمَضان ترَكوا الحديثَ وتفرَّغوا لقراءةِ القرآنِ، وسيرتُهم إلى وقتٍ قريب شاهدةٌ لمن يختِم القرآن في رمضانَ كلَّ يوم أو كلَّ ثلاثةِ أيّام ونحو ذَلِك. فالهَجوا ـ رعاكُم الله ـ بذِكرِ ربِّكم، ورَطِّبوا ألسِنَتكم بتلاوةِ كِتابِه، فبهِ تزكو النّفوس وتنشرِح الصدور وتعظُم الأجور.
أيّها المسلِمون، الجودُ والإنفاق مرتَبِط بالقرآن، فعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: كان النبيّ أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضانَ حيث يلقاه جبريلُ فيدارسه القرآن، فلرسولُ الله حين يلقَاه جبريلُ أجودُ بالخيرِ من الرّيح المرسلة. رواه البخاري [6]. وذلك أنَّ رمضانَ شهر يجودُ الله فيه على عبادِه بالرحمة والمغفِرة والعِتق من النار والرِّزق والفضل، فمن جادَ على عبادِ الله جاد الله عليه.
واليومَ وقد جفِّفَت كثيرٌ مِن منابع العطاءِ فمَن للفقراءِ والمساكين واليتامى والأيامى؟! من لشعوبٍ قهَرَتها الخُطوب وأوهَنَتها الحروبُ، سيحُلّ بهم الشّتاءُ عمَّا قريب، إخوةٌ لكم في الدّين من لهم بعدَ الله إلاَّ أنتم؟! فهل نتَّخِذ من هذا الشهر الكريم تجديدًا للبِرِّ والإحسان؟!
فيا مَن أفاء الله عليه من الموسرينَ، إنَّ الله هو الذي يعطِي ويمنَع ويخفِض ويرفَع، وهو الذي استخلَفَكم فيما رزقَكم لينظرَ كيف تعملون، والمؤمِنُ في ظِلِّ صدقته يومَ القيامة، وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، ولن يُعدَم الموسِر محتاجًا يعرِفه بنفسِه أو جهاتٍ موثوقَةٍ تعينُه.
أيّها المسلمون، الصومُ حِكَم وأسرار، ومنها أنّه حِرمان مشروع وتأدِيبٌ بالجوع وخُشوع لله وخضوع، يستثير الشَّفَقةَ ويحضُّ على الصّدقة، يكسِر الكِبر، ويعلِّم الصبر، ويسنُّ خِلالَ البرّ، حتى إذا جاعَ مَن ألِفَ الشِّبَع وحُرِم المترَف أسبابَ المُتَع عرَف الحرمانَ كيف يقع والجوعَ كيفَ ألمُه إذا لذع.
أيّها المؤمنون الصّائمون، رمَضان شهرُ الفُتوحات والانتِصارات، وبقدر ما نستبشِر بحلوله بقدرِ ما نعقِد الآمالَ أن يبدِّل الله حالَ الأمّة إلى عزٍّ ونصرٍ وتمكين، وأن يردَّها إليهِ ردًّا جميلاً، وإلاَّ فإنّ رمَضانَ يحلّ بِنا والأمة مثخَنَة بالجراح مثقَلَة بالآلام. يحلُّ رمضانُ ومسرَى رسولِ الله محتَلّ من حُثالةٍ نجِسة قد أصاب رجسُها أصقاعَ الأرض. يحُلّ رمضان والمرابِطون في أكنافِ بيت المقدِس من المؤمنين يقتَلون ويشرَّدون وتهدَم منازلهم وتجرَف أراضيهم وتبَادُ جماعتهم برِعايةِ الظالمين الذين شغَلوا الناسَ بطغيانٍ مماثلٍ له في أرضِ العراق، فإلى الله المشتكى. إنَّ أقلَّ حقٍّ لإخوانِكم وليس بقليلٍ في هذا الشهرِ الكريم أن تذكروهم بدعاءٍ صادق، وأن تدعُوا الله لهم في سجودِكم وإخباتكم، وأن تشاطِروهم قضاياهم وتهتمّوا بأحوالهم، ومن لم يهتمَّ بأمرِ المسلمين فليس منهم، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً [النساء:84].
إنّ رمضانَ موسمُ الإنابة والتّوبة، أفما آن للأمّة أن تحقِّق العبوديةَ الصادقة لخالقها، وأن تركنَ لباريها وتستنزِل النصرَ من السماء بأسبابه، وتتوجَّه إلى الله لا إلى سواه؟! إنّ الآمالَ كبيرة، والثّقةَ في اللهِ تعالى كامِلة، وهو المستعانُ وعليه البلاغ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:183-185].
بارَك الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفعَنا وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله تعالى لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب وخطيئةٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرّحِيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (35، 37، 38)، صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين (759، 760).
[2] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1904)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1151).
[3] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1894)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1151).
[4] صحيح مسلم: كتاب الطهارة (233) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1898، 1899)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1079) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق (3220). وأخرجه مسلم أيضا في كتاب الفضائل (2308).
_________
الخطبة الثانية
_________
إنّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفِره، ونعوذُ بالله من شُرورِ أنفسِنا وسيّئات أعمَالنا، من يهدِهِ الله فلا مضلَّ له، ومَن يضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، جلّ عن الشبيه وعن الندِّ وعن النظير، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وأشهد أنَّ محمّدًا عبده ورسوله الهادي البشير والسراج المنير، بلَّغ الرسالَةَ، وأدَّى الأمانة، ونصَح الأمّة، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً وسلامًا دائمين إلى يوم البعث والنشور.
أمّا بعد: أيّها المؤمِنون، حينَما يستقبِل المسلم موسمًا يرجو غنيمَتَه فإنّه يجب عليه ابتداءً تفقُّد نفسِه ومراجعةُ عملِه حتى لا يتلبَّس بشيءٍ من الحوائِلِ والموانِعِ التي تحول بينَه وبين قبولِ العمَل أو تُلحِق النقصَ فيه؛ إذ ما الفائِدة من تشميرٍ مهدورٍ أجرُه وعمَلٍ يرجَى ثوابه فيلحقُ وِزره؟! ومِن ذلك التّفقُّه في دينِ الله واجتنابُ الذنوبِ والمعاصي ومحبِطات الأعمال وإعفافُ الجوارح، قال ابن رجب رحمه الله: "واعلَم أنه لا يتِمّ التقربُ إلى الله بتركِ هذه الشهواتِ المباحَة أصلاً في غيرِ حالِ الصيام إلاَّ بعد التقرُّب إليه بتركِ ما حرّم الله في كلّ حالٍ كالكذب والظلمِ والعدوان على الناس في دمائِهم وأموالهم وأعراضهم، ولهذا قال النبيّ : ((من لم يدَع قولَ الزورِ والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ أن يدَع طعامه وشرابَه)) رواه البخاري [1] ".
أيّها المسلمون، إنّ مقصودَ الصيام تربيةُ النفس على طاعةِ الله وتزكيتُها بالصبر وتنمِيَة التقوى واستعلاؤُها على الشهوات، وكما يمنَع الجسدُ عن بعض المباحاتِ فمِن باب أولى منعُ الجوارِحِ عنِ الحرام. إنَّ وقتَ رمضان أثمنُ من أن يضيَّع في السهراتِ الفارغات أو التسكُّع في الأسواقِ أو أمام شاشاتِ الفضائيات التي لو لم يكُن فيها إلاَّ إضاعةُ الوقت الثمينِ لكان ذلك كافيًا في ذمِّها، كيف وقد أجلبَت بخيلها ورجلِها وضاعفَت جُهدها لتقومَ بدورِها ودورِ الشياطينِ المصفَّدَة؟!
وأخيرًا، فكم بين من يَرعَى رمضانَ كأنه حبيبٌ زار بعد طولِ بِعاد وطيف خَيالٍ ألمَّ في طيبِ سُهاد، شغَلَه أنسُه بالعبادة عن الأنامِ، فهو يتمنَّى لو كان على الدّوام، وآخرُ يرى رمضانَ موسِمًا لنيلِ الشهواتِ، قد فرَّط في الإنابةِ والتوبة، واستكثَرَ من العثراتِ فازدادَ وِزرًا على وزره، واكتسب بأيّامه خُسرًا على خُسره، ولم يتزوَّد منه ليوم حشرِه. فاللهمَّ أعِنّا على ذكرك وشكرِك وحسن عبادتك.
هذا وصلّوا وسلّموا على رسول الله الرّحمةِ المهداة والنّعمة المسداة محمّدِ بن عبد الله صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر.
اللهمّ صلّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمّد وعلى آله وصحبه، وأورِدنا حوضَه، واحشُرنا في زمرته برحمتِك يا أرحم الرّاحمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام وانصر المسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين...
[1] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6057) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/3427)
أهمية الصلاة
فقه
الصلاة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
17/8/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الصلاة في الإسلام. 2- فرض الصلاة. 3- الصلاة في الشرائع السابقة. 4- فضائل الصلاة. 5- حكم تارك الصلاة. 6- الحث على الصلاة والعناية بها. 7- ميزة الصلاة عن سائر الأركان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، الصلواتُ الخمس لها في الإسلامِ منزلةٌ عظيمة ومكانَة رفيعَة. إنّها عمودُ الإسلام. إنها الرّكنُ الثّاني من أركانِ الإسلام. إنها قرينةُ التوحيد في كتابِ الله معَ الزكاة في آيٍ كثيرٍ من القرآن، وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]. إنها مع التوحيد والزّكاة تعصِم دمَ المسلم ما لم يأتِ بموجبٍ يوجب قتلَه سوى ذلك، فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]. وهي أيضًا تحقِّق الأخوَّةَ الإسلامية، فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11].
أيّها المسلم، والإسلامُ بنِي على أركانٍ خمسة، أوّلها شهادةُ أن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسولُ الله، وثانيها إقامُ الصلاة.
أيّها المسلم، افترضَ الله هذه الصلواتِ الخمس على المسلمين في اليومِ واللّيلة خمسَ مرّات، ففي حديث معاذٍ قولُ النبيّ له: ((فإن هم أجابوك ووحّدوا الله فأعلِمهم أنّ الله افترض عليهم خمسَ صلواتٍ في اليوم والليلة)) [1].
هذه الصّلواتُ افتُرِضت على نبيِّنا وعلى أمّة الإسلام بمكّةَ قبلَ الهجرة، وافتُرضت ليلةَ الإسراء حينما عُرِج بالنبيِّ حتى جاوَز السبعَ الطّباق وخاطبَه الله بها مشافَهةً، فكانت خمسينَ في الأصل، فما زال محمّد متردِّدًا بين ربه وبين موسى إلى أن جعَلَها الله خمسَ صلوات، فهي خمسٌ في العدد وخمسون في الثواب.
وهذه الصلواتُ الخمس أوّلُ ما يحاسَب عنه العبد يومَ القيامة، فأوّل ما يحاسب عنه العبد يومَ القيامة فيما بينه وبين الله هذِه الصلوات الخمس، فإن صحَّت صلاتُه نُظِر في سائر أعماله، وإن تكُن الصلاة غيرَ موجودةٍ فلا اعتبارَ لأيِّ عملٍ ما من الأعمال.
أيّها المسلم، افتَرَض الله هذه الصلواتِ على المسلم في يومِه وليلتِه خمسَ مرّات، افترَضَها وجَعَل لها أوقاتًا مخصَّصة: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النسا:103]. افترضها عليهم حين يمسون وحين يصبِحون وعشِيًّا وحين يظهِرون. افترضها عليهم لأنّها البرهانُ الصادِق على ما في القلبِ من توحيدِ الله والإيمان به، فالتّوحيد عملٌ قلبيّ إنما يدلّ على ثبوتِه في القلبِ أداءُ هذه الصلواتِ الخمس، فإنّ المؤدِّيَ لها يدلّ دلالةً واضحة على ما في قلبه من إيمان، فهي الفارقةُ بين المسلم والكافِر، وهي الدالّة على خلوصِ القلب من النّفاق إن أداها كما أمره بذلك ربّه.
أيّها المسلم، إنّ الصلواتِ الخمسَ عبادةٌ قديمة، فما شريعة من شرائِعِ الله إلا وللصّلاة فيها ذكر، لكن الصلواتُ في هذه الشريعة العظيمةِ لها خصوصيّتها وفضائلها. ذكر الله في دعاءِ الخليل عليه السلام قولَه: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:40]، ويمدَح ابنَه إسماعيل الذبيحَ حينمَا قال عنه جلَ جلاله: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم:55]، ويأمُر بها موسَى عليه السلام : وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:13] إلى أن قال: وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، وينطق بها عيسى ابن مريم في مهده: وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:31]، ويذكُرها الله جلّ وعلا صفةً من صفات المؤمنين بالغَيب: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة [البقرة:3]، ويفتَتِح بها صفاتِ المؤمنين ويختَتِم بها صفاتهم: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1، 2] إلى قوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ [المؤمنون:9، 10]، ويخبر تعالى عن أهلِ النّار إذا سئلوا: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر:42] أجابوا: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:43-46]، وقال: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:31، 32]. إذًا فالصّلاة دالّةٌ على وجودِ الإيمانِ في القلب، وتركُ الصلاة والعياذُ بالله عنوان على خلوِّ القلب من الإيمان. وقد ذمَّ الله المتخلفين عنها وتوعَّدهم بالوعيد الشديد: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، وقال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7].
أيّها المسلم، مِن نعمةِ الله افتراضُ هذه الصّلوات الخمس في اليوم والليلة، فهي تذكِّرك بربِّك وتوقِظُك من غَفلتِك وتزكّي أخلاقك وتطهِّر نفسَك وتحملك على الخير. إنّ حبَّك لها ورغبتَك فيها دليلٌ على الخيرِ الكامن في نفسِك، فهذا نبيُّك يقولُ: ((حبِّب إليَّ من دنياكم النساءُ والطّيب، وجُعِلت قرّةُ عيني في الصلاة)) [2] ، وهيَ راحتُه وأُنسُه فيقول: ((أرِحنا ـ يا بلال ـ بالصلاة)) [3].
إنَّ الصلاةَ إذا أدِّيَت كما شرَع الله وأدّاها المسلم بكمالِ أركانها وواجباتِها وحافَظَ على ما تيسَّر له من المحافظةِ على سنَنِها قادَته إلى كلّ خير، ودلَّته على كلّ خير، وتأثَّر بها في أخلاقِه وسلوكه.
أيّها المسلم، إنَّ شأنَ الصلاة عظيم، ولا يعطِّلها أو يستخفّ بها إلاَّ من ضعُف إيمانه وقلَّ إسلامه والعياذُ بالله، يقول أميرُ المؤمنين عمرُ رضي الله عنه: (ولا حظَّ في الإسلام لمن ترَك الصّلاة) [4] ، ونبيُّنا يتوعَّد تاركَ الصلاة بأعظمِ وعيدٍ فيقول: ((العهدُ الذي بيننا وبينَهم الصلاة، فمن ترَكَها فقد كَفَر)) [5] ، وقال أيضًا: ((بين العبدِ وبين الكفر أو الشرك تركُ الصلاة)) [6].
أيّها المسلم، حافظ على هذه الصلواتِ الخمس، واعتَنِ بها، واجعلها من أهمِّ أمورك، وربِّ الأولادَ والنشءَ عليها لتكونوا مسلِمين حقًّا، فلا إسلامَ بلا صلاة، من لم يصلِّ دلّ علَى أنّ القلبَ خالٍ من الإيمان؛ إذ لو كان هناك إيمانٌ حقًّا لحمله على المحافظةِ والعناية بهذه الصلوات الخمس والاهتمام بها.
أخي المسلم، هذه الصلواتُ الخمس تذكِّرك بربِّك دائمًا وبفاقتكَ وفَقرك واحتياجِك إلى ربّك، إنها موقِفُ ذلٍّ واستكانة بين يدي الله، تكسبك إيمانًا ويقينًا، وتكسبك طاعة وعملاً صالحًا، إنّك في موقفك تناجي ربَّك فتناجي قريبًا غيرَ بعيد، وتلجأ إليه، تلجأ إلى عزيزٍ قويّ غيرِ ذليل، وتسأله فتسألُ كريمًا جوادًا رحيمًا.
أيّها المسلم، إن هذه الصلواتِ الخمس كلَّما حافظتَ عليها واعتنيتَ بها دلَّ على خيرٍ في نفسك وأنّه يرجَى لك الخير حتى ولو [ضعُف] الإنسانُ وأخطأ، فالمصلّي يرجَى له أن يعودَ إلى خيرِه وأن يؤوبَ إلى رشدِه.
أيّها المسلم، إنّ فضائلَهَا عظيمة، يقول : ((مثَل هؤلاء الصّلواتِ الخمسِ كمثَل نهرٍ غَمر جار ببابِ أحدكم يغتسِل منه كلَّ يوم خمسَ مرات، هل يبقى من دَرَنه شيء؟)) قالوا: لا، قال: ((فكذلك الصلواتُ الخمسُ يمحو الله بهنّ الخطايا)) [7]. وقال سلمان الفارسيّ: أخذ النبيّ غُصنا يابسًا من شجرةٍ فهزَّه حتى تحاتّ الورق فقال: ((يا سلمان، لمَ فعلت؟)) قال: الله ورسوله أعلم، قال: ((هذه الصلواتُ الخمس تحطُّ الخطايا كما تحتّ هذه الشجرةُ ورقَها)) [8]. والصلواتُ الخمس بعضُها بعد بعضٍ مكفِّرات لما بينهنّ من صغائر الذنوبِ، وفي الحديث: ((الصلواتُ الخمس والجمعةُ إلى الجمعة ورَمَضان إلى رمضان مكفِّرات لما بينهنّ ما اجتُنِبت الكبائر)) [9].
أخي المسلمُ، تركُ الصلاة كفرٌ، وصِف تاركُها بالكفر في قوله: ((بين العبد وبين الشّرك أو الكفر ترك الصلاة)) [10] ، وقال: ((العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن ترَكَها فقد كفر)) [11] ، قال عبد الله بن شقيق: "لم يكن أصحابُ النبيّ يرَونَ شيئًا من الأعمالِ تركُه كفر إلا الصّلاة" [12] ، فأصحاب محمّد مجمِعون على أن تركها كفر، لكن هل هو كفرُ رِدّة ينقل عن الإسلام؟ هذا قول كثيرٍ من المحقِّقين، أنّ تاركَها كافر مرتدٌّ عن الإسلام ولو أقرَّ بوجوبها إذا أصرَّ على تركِها ولو يؤدِّها يرَى جمع من العلماء أنَّ هذه رِدّةٌ عن الإسلام، وآخرون يقولون: هو مرتَكِب أعظمَ الذنوب وأخطرَها، لكنهم مجمِعون على أنّ تركَها أعظم من اقترافِ كبائر الذنوب، أعظم من اقترافِ شربِ الخمر أو الزّنا أو قتل النفس أو أخذِ الأموال بغير حقّ، فإنّ هذه معاصٍ وكبائر، لكن ترك الصلاةِ أشدّ عند الله إثمًا من الذنوبِ التي دونها.
إذًا فعليك ـ أيّها المسلم ـ أن تتّقيَ الله، وعليك أن تحافظَ عليها وتحمَدَ الله إذ فرضَها عليك وجعلَها ركنًا من أركان دينك؛ ليقوَى بها الإيمان وتبتعِد عن وساوس الشيطان.
أخي المسلم، صلِّ إن كنتَ عاقلاً، وإيّاك أن تكونَ من الجاهلين الذينَ صرَفوا حواسَّهم في غيرِ طاعةِ ربِّهم حتى كانوا غيرَ فقيهين، وكما قال جل وعلا: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف:179].
أخي المسلم، صلِّ إن كنت حرًّا كريمًا، ولا تغترّ بكثرة المخالفين والتاركين لها.
أخي المسلم، صلِّ إن كنتَ ممن يحفَظ الجميلَ ويعرف المعروفَ، فإنّ الله أنعم عليك بنعَمِه، فاشكر الله جل وعلا على هذه النّعمة.
أخي المسلم، صلِّ إن كنتَ تحبّ نفسَك لتنقذَها من عذاب الله يومَ لا ينفع مالٌ ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم.
أخي المسلم، صلِّ إن كنتَ بارًّا بوالدَيك ليكونَ برُّك نافعًا وبرُّك موصِلاً لك إلى ثوابِ الله، وعمَلٌ بلا صلاة لا اعتبارَ له.
صلِّ ـ أخي المسلم ـ إن كنتَ تحِبّ أولادَك لكي يقتَدُوا بك ويتأسَّوا بك، وهل يمكِن أن يؤدّوا فريضةً وأبوهم يرونَه جالسًا لا يهتمّ ولا يبالي؟! وهل ترضَى أن تراهم في عذاب الله يتقلَّبون في نار جهنّم لكونهم ضيَّعوا الصلاة ولم تربِّهم أنت عليها ولم تأمرهم بها؟!
أخي، إن كنتَ وفيًّا لزوجتِك فمُرها بالصلاة، ولْتَرَك تصلّي حتى تصلّيَ مثلَك، أيسرُّك أن تصلّيَ هي وأنت مضيِّعٌ للصلاة؟!
أخي المسلم، صلِّ هذه الصلواتِ إن كنتَ محبًّا لربّك، فإنَّ المحبَّ أحبّ ما يكون عنده مناجاة محبوبه.
أخي المسلم، صلِّ فإنّك مفتقِر إلى ربّك ولا غناءَ لك عن ربّك، فاعرِفه في رخائك يعرِفك في شدّتِك وكربَتِك.
أخي المسلم، صلِّ وإيّاك أن تدّعيَ الإسلامَ وأنت مضيِّع لها، فتكون دعِيًّا على الإسلامِ وأهلِه.
أخي، صلِّ لترضِيَ ربَّك وتُسخِط عدوَّك إبليس.
أخي، صلِّ فإنّ الصلاة نورٌ يزيل ظلمةَ ما في القلب من الضّلالات، ونورٌ لك في قبرك، ونورٌ لك يومَ قدومك على ربك.
أخي المسلم، صلِّ فإنّ هذه الصلواتِ عَون لك على ما أهمَّك من أمور دينك ودنياك، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].
أخي، في الدّنيا همومٌ وأحزان وشدائِدُ تمرّ بالعَبدِ، فالصلوات الخمسُ يفرِّج الله بها همَّ العبد ويُذهب بها همَّه وحزنه ويبدِلُه فرحًا وسرورًا، كان نبيّنا إذا حزبه أمرٌ [13] فزع إلى الصّلاة [14].
أخي، صلِّ فإنّ الصلاةَ تسلِّيك عن مصائبك وتنسِيك همومَ الدنيا وأحزانَها.
أخي المسلم، صلِّ فإنّ الصلاةَ بركة في عمُرك وبركةٌ في رزقك ونورٌ في بيتك.
أخي، صلِّ وتقرَّب إلى الله بهذه الصلواتِ فالحساب غدًا عَسير، فكن من المصلِّين لتكونَ صلاتك منجيةً لك من عذابِ الله، مخلِّصةً لك من سخَط الله.
أخي، كن محبًّا لهذه الصلاة آلفًا لها مستأنِسًا بها، فإنها قرّةُ عينِ نبيِّك وراحة بالِه وانشراح صَدرِه.
أخي المسلم، إيّاك والتفريطَ بها، إيّاك أن تصلّيَ وقتًا وتتخلّف آخَر، فذاك عارٌ عليك.
أيها المسلم، حافِظ عليها، ولا تكن ممّن خدعه الشيطانُ فيؤدّي صلاةَ الجمعة ثمّ لا يبالي بأيّ فريضةٍ ضيّع.
أخي المسلم، ستقِفُ غدًا على الحساب، وترى أعمالَك السيئة أو الصالحة، فاغتنِم حياتك وحافِظ على هذه الصلواتِ الخمس، فترى لها لذّةً في قلبِك وأنسًا في نفسِك وعافيةً في جسدِك، ثمّ عند الاحتضار ومفارقَةِ الروح للجسَد ترى أثرَ هذه الصلاة وترى ثِمارها، عندما تُوَحَّد في قبرِك ويتخلّى عنك الأهلُ والأقرباء، فترى لذّةَ تلك الصلاة أنسًا لك في لحدِك وسرورًا لك في لحدِك، ويومَ قيام الأشهاد تراها شافِعةً لك يومَ قدومك على الله.
أخي المسلم، حُثَّ البنينَ والبنات والزوجاتِ والخدَم، ورغِّب الجميعَ في الخير، وأْمُرهم بهذه الصلوات، إنها تدعو إلى كلِّ خلُق فاضل وتحذِّر من كل خلُق سيّئ، اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].
فحافِظ ـ أخي ـ على هذهِ الصّلوات، اهتمَّ بها، واعتَنِ بها الاعتناءَ المطلوب؛ لأنّك إن ضيَّعتَها ضيعتَ دينك، يقول نبيُّك : ((مَن حفِظها وحافظَ عليها كانت له نورًا ونجاةً وبرهانًا يومَ القيامة، ومن لم يحافِظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاة يومَ القيامة، وحُشِر مع قارونَ وهامان وفرعونَ وأبيّ بن خلف)) [15] أئمة الكفر والضلال. إذًا فالمحافظُ عليها مع النبيِّين والصدِّيقين والشهداءِ والصالحين، وحسُن أولئك رفيقًا. اسمَع لقمانَ يقول لابنه: يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ [لقمان:17].
فتآمَروا بها عباد الله، وتواصَوا بها، وليَحُثّ بعضنا بعضًا عليها، ولننصَح من تكاسَلَ أو تهاونَ بها، فإنّ خيرَ نصيحة له أن تحثَّه على الصلاةِ وتدعوه إلى العنايةِ بها.
أسأل الله أن يوفِّقني وإيّاكم لكلّ خير، وأن يعيننا وإيّاكم على كلّ خير، وأن يحبِّبَ الصلاة إلينا ويجعلَها قرّةَ أعيننا وراحةَ بالنا وانشراحَ صدورنا، إنه على كل شيء قدير.
بارَك الله لي ولكُم في القرآنِ العظيمِ، ونَفَعني وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذّكر الحكيمِ، أقول قولي هذا، وأستغفِر اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلِمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرّحيم.
[1] أخرجه البخاري في الزكاة (1395)، ومسلم في الإيمان (19) عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه.
[2] أخرجه أحمد (3/128، 199، 285)، والنسائي في عشرة النساء (3939، 3940)، وأبو يعلى (3482)، والضياء في المختارة (1737) من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2676)، وجوّد إسناده العراقي كما في فيض القدير (3/371)، وقواه الذهبي في الميزان (2/177)، وصححه الحافظ في الفتح (3/15، 11/345)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (1809، 3291).
[3] أخرجه أحمد (5/364)، وأبو داود في كتاب الأدب، باب: في صلاة العتمة (4985) عن رجل من الصحابة بنحوه، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (4171).
[4] أخرجه مالك في الموطأ (1/39)، ومن طريقه البيهقي في السنن (1/357)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/439) والإيمان (ص34)، والطبراني في الأوسط (8/130)، قال الهيثمي في المجمع (1/295): "رجاله رجال الصحيح"، وقال الألباني: "صحيح الإسناد على شرط الشيخين".
[5] أخرجه أحمد (5/346، 355)، والترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في ترك الصلاة (2621)، والنسائي في الصلاة، باب: الحكم في تارك الصلاة (463)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب: ما جاء فيمن ترك الصلاة (1079) من حديث بريدة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وصححه ابن حبان (1454)، والحاكم (11)، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح الترغيب (564).
[6] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (82) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[7] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (528)، ومسلم في كتاب المساجد (667) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[8] أخرجه أحمد (5/437، 438)، والطيالسي (ص90) وابن أبي شيبة (1/16)، والطبري في تفسيره (12/133)، والدارمي (719)، والطبراني في الكبير (6/257) من طريق حماد بن سلمه، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان، وهذا سند ضعيف علي بن زيد هو ابن جدعان.
[9] أخرجه مسلم في الطهارة (233) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] تقدم تخريجه.
[11] تقدم تخريجه.
[12] رواه الترمذي في كتاب الإيمان (2622)، وصححه النووي في المجموع (3/16)، والألباني في صحيح الترغيب (565).
[13] حزبه أمر أي: نزل به أمر شديد.
[14] أخرجه أحمد (5/388)، وأبو داود في الصلاة، باب: وقت قيام النبي من الليل (1319) من حديث حذيفة رضي الله عنه، وفيه محمد بن عبد الله الدّؤلي أبو قدامة قال عنه الحافظ في التقريب: "مقبول"، ومع ذلك فقد حسن إسناده في الفتح (3/172)، وحسّنه أيضًا الألباني في صحيح سنن أبي داود (1168).
[15] أخرجه أحمد (2/ 169)، والدارمي في الرقاق، باب: في المحافظة على الصلاة (2721)، والطبراني في الأوسط (1788) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان (1467)، قال المنذري في الترغيب (820): "رواه أحمد بإسناد جيد"، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 292): "رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، ورجال أحمد ثقات"، وأورده الألباني في ضعيف الترغيب (312).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله حَمدًا كثيرًا طيّبًا مُباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محَمّدًا عبده ورَسوله، صَلَّى الله عَليه وعَلَى آله وصَحبِه، وسَلّمَ تَسلِيمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّين.
وبعد: أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوَى.
عبادَ الله، للصلواتِ الخمسِ خُصوصيَّة من بينِ سائرِ أَركانِ العمَل الأربعة، فَهيَ لها خصوصيّة دون غيرها، قال الله جل وعلا: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:238، 239].
الزكاةُ تجِب في العامِ مرّة وفي أموالٍ خاصّة وعلى خاصّةٍ منَ الناس مَن يملك نصابًا زكويًّا مضى عليه الحَول. الصومُ يجب في وقتِه أداءً والمريضُ والمسافِر يفطران ويقضِيَان أيامًا بعدَه، ومَن عجزَ عن الصيام لكِبَر سِنّه ودوام مرضِه فإنّه يطعم. الحجّ إنما يجِب في العمُر مرّة.
نأتي لهذه الصّلَوات الخمس كيف هي؟ هذه الصلواتُ الخَمس تجِب على المسلِمِ في كلِّ أحواله؛ في سلمِه وحربِه، في أمنه وخوفِه، في صحّته ومرضه، في سَفَره وإقامته. ما دام عقله حاضرًا فهو مطالَب بهذه الصلوات. الخائف قال الله: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا أي: صَلّوا مشاةً وراكبين ولو لم تستقبِلوا القبلةَ إن اضطُرِرتم فالمهمّ أن تؤدَّى هذه الصّلاة. المسافِر يصلّيها يقصُر الرُّباعية، الخائف يصلّي، الآمنُ يصلّي، الصحيح يصلّي، المريضُ يصلّي، صلِّ قائمًا، فإن لم تستطِع فقاعدًا، فإن لم تستطِع فعلى جنبِك، فإن لم تستطِع فمُستلقيًا، ما دام العقل حاضرًا فلا بدّ من هذه الصلاة.
فهي ـ يا إخواني ـ أمرُها مهمّ، ركنٌ يلي التوحيد، وركن عمليّ واجب على المسلمين ذكورِهم وإناثهم، أغنيائِهم وفقرائهم، أصِحَّائهم ومرضاهم، خائفين وآمنين، لا بدّ من هذه الصلوات، ولا بدّ من أدائها، مما يدلّ على عظيمِ شَأنها وكبير خطَرِها، وأنّ المتخلِّفَ عنها دالّ على نفاقه وخُبثه، قال تعالى في حقّ المنافقين: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54]، وقال: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]، تقوم أبدانُهم وقلوبُهم منكِرةٌ لها كارِهة لها غيرُ مؤمِنة بها، أمّا المسلم فيقوم بين يدَي ربّه موقنًا بها مستحضِرًا عظمةَ من يقف بينَ يديه شاكرًا اللهَ على نعمتِه أن فرضَ عليه هذه الصلوات؛ ليكونَ شاكرًا لله مثنِيًا على الله مستكِينًا لعظمة الله مديمًا الرجاءَ والخوف من ربّ العالمين.
فيا إخواني، وصيَّتي لكم بهذه الصلوات، أوصيكم بالمحافظةِ عليها والعناية بها فإنها عمودُ الإسلام.
جعلني الله وإيّاكم من المحافظين عليها المديمين لأدائها إلى أن نلقاه غيرَ مبدِّلين ولا مغيِّرين بفضله ورحمته وهو أرحم الراحمين.
واعلَموا ـ رَحِمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هدي محمّدٍ ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بدعَةٍ ضلالة، وعليكم بجَماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله علَى الجماعةِ، ومَن شذَّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمَكم الله ـ على محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائهِ الرّاشدِين...
(1/3428)
شهر الغنائم
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
1/9/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شكر الله تعالى على شريعةِ الإسلام. 2- فضل أركان الإسلام. 3- فضل رمضان. 4- دعوة للتوبة في هذا الشهر الكريم. 5- فضل صلاة التراويح وتلاوة القرآن. 6- الحثّ على تفطير الصائمين والإكثار من الدعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حقَّ التقوى، فهي وسيلتُكم إلى ربّكم في هذه الدنيا وفي الأخرى.
أيّها المسلمون، اذكُروا نعَمَ الله عليكم إذ شَرَع لكم ما يرضَى به عنكم ويقرِّبكم إليه زلفى، ونهاكم عن الشّركِ والمعاصي التي تُبعِدكم عن ربِّكم وتوقِعكم في العذابِ الأليم.
شَرَع لكم ربُّكم ما يرفَع به الدّرجاتِ ويكفِّر به السّيّئات ويُعظِم به الأجورَ والحسناتِ، فشهادةُ أن لا إلهَ إلا الله وأنّ محمّدًا رسول الله قولُها باللّسان واعتقادُ ما دلَّت عليه والعمَلُ بمقتضاها ومحبّتُها والتمسُّك بها أفضلُ ما تقرَّب به المتقرِّبون إلى الله عزّ وجلّ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أشهدُ أن لا إلهَ إلاّ الله وأني رسولُ الله لا يلقَى اللهَ بهما عبدٌ غيرَ شاكٍّ فيهما إلاَّ أدخله الله الجنّة)) رواه مسلم [1] ، وتتضمّن أصلين عظيمَين أن لا نعبدَ إلاَّ الله وحدَه فلا ندعو معه غيرَه، والأصل الثاني أن لا نعبدَ الله إلاَّ بما شرَع.
وشرَع الله الصلاةَ توحيدًا لربِّ العالمين وذُلاًّ وخضوعًا ومحبّةً لله تعالى، يكفِّر الله بها الذنوبَ ويطهِّر بها القلوب، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أيضًا قال: قال رسول الله : ((أرأَيتم لو أنّ نهرًا ببابِ أحدِكم يغتسِل منه كلَّ يومٍ خمسَ مرّات هل يبقى من درَنه شيء؟)) قالوا: لا، قال: ((فذلك مثَل الصّلواتِ الخمس يمحو الله بهنّ الخطايا)) [2] ، وعن حُمرانَ مولى عثمان رضي الله عنه أنّ عثمان توضّأ وقال: والله، لأحدِّثنَّكم حديثًا لولا آية في كتاب الله ما حدّثتُكُموه، سمعتُ رسول الله يقول: ((لا يتوضَّأ رجلٌ فيحسِن وضوءه ثم يصلِّي الصلاة إلاَّ غفِر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها)) رواه البخاري ومسلم [3].
وشرَع الله الزكاةَ شُكرًا لله على نعمةِ المال وتطهيرًا للنّفس من الرذائل ومواساةً للفُقراء، قال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]. والزّكاةُ يحفَظ الله بها المالَ وينمِّيه عن عمرَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما تلِفَ مالٌ في برٍّ وبحر إلاَّ بحبسِ الزكاة)) رواه الطبراني في الأوسط [4] ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((ما خالَطَت الصّدقة ـ أو قال: الزكاة ـ مالاً إلاَّ أفسَدَته)) رواه البزار [5]. وبذلُ الصدقة حجابٌ من النار ففي الحديث: ((اتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرة)) [6] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما تصدَّق أحدٌ بصدقةٍ من طيِّب ولا يقبل الله إلاَّ الطيِّب إلاَّ أخذها الرحمنُ بيمينه وإن كانت تمرةً، فتربو في كفِّ الرحمن حتى تكونَ أعظمَ من الجبل كما يربِّي أحدُكم فلُوَّه وفصيلَه)) رواه البخاري ومسلم [7].
وشرَع الله الحجَّ ومحا به الذنوبَ والآثام، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((العمرة إلى العمرةِ كفَّارة لما بينهما، والحجّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنّة)) رواه البخاري ومسلم [8].
أيّها المسلمون، إنّ اللهَ تعالى لم يكلِّفكم بالفرائضِ والواجبات ولم ينهَكم عن المحرَّماتِ إلاَّ لنفعِكم وتطهيرِكم وسعادتِكم ولما فيه الخير لكم، وليصرفَ المكروهَ والشرَّ عنكم، قال الله تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6].
أمّةَ الإسلام، هذا شهرُ الصيام أحدُ أركانِ الإسلام، فضَّلَه الله على شهورِ العام، وأفاض فيه على المسلمينَ الخيراتِ والبركات، وضاعف فيه الحسناتِ، وتجاوز فيه عن الذّنوب العظام الموبقات، وأقال فيه العثراتِ، فهو شاهدٌ للمحسنين، وشاهد على المعرِضِين والعصاةِ المصرِّين.
وأنتم ـ معشرَ المسلمين ـ في أوَّله، وما أسرعَ انقضاءَ آخره، فأرُوا الله من أنفسِكم خيرًا بفعلِ الطاعات والتوبةِ من المحرّمات؛ فإنّ هذا الشهرَ من أسباب مكفِّرات الذنوب، فرَضَ الله صيامَه، وسنَّ رسول الله قيامَه، وبشَّر على القيام بذلك أعظمَ البشائر، فاغتنموا هذا الشهرَ يا ذوي البصائر، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الصلواتُ الخمس والجمُعة إلى الجمعَة ورمضان إلى رمضانَ مكفِّرات لما بينهنّ إذا اجتُنِبت الكبائر)) رواه مسلم والترمذي [9] ، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أيضًا قال: قال رسولُ الله : ((من صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبِه)) رواه البخاري [10] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من قامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبه)) رواه البخاري [11] ، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله في ليلةِ القدرِ: ((فمَن قامها إيمانًا واحتسابًا ثمّ وفِّقَت له غفِر له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخّر)) رواه أحمد والطبراني [12]. فانظر إلى ما أفاضَ الله في هذا الشهرِ المبارك على المسلمين من أسبابِ تكفير السيّئات ومضاعفةِ الحسنات.
شهرُ رمضانَ شهرٌ يتهيّأ فيه من أسبابِ الطاعات والبُعد عن المعاصي ما لم يتهيَّأ في غيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله : ((إذا دخَلَ رمضانُ فتِّحَت أبواب الجنة وأغلِقَت أبواب جهنّم وسُلسِلت الشياطين)) رواه البخاري ومسلم [13] ، وعنه رضي الله عنه أيضًا قال: قال رسول الله : ((إذا كان أوّلُ ليلةٍ من رمضان غلِّقَت أبواب النار فلم يفتَح منها باب، وفتِّحَت أبواب الجنة فلم يغلَق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغيَ الخير هلُمَّ وأقبِل، ويا باغي الشرِّ اقصُر، ولله عتقاءُ من النّار، وذلك في كلِّ ليلة حتى ينقضيَ رمضان)) رواه الترمذي [14].
فيا من يمنِّي نفسَه بالتوبة وهو مكِبٌّ على الذنوب وله عِبرةٌ بمن يغادِر الدنيا ولا يؤوب، ذهبت لذّاتُ الأيّام الخاليات، وبقِيت التّبِعات، وكتِب في صحيفَتِك ما عمِلتَ من سيّئاتٍ وحسنات. أتغترُّ ـ أيّها الإنسان ـ بالأجلِ؟! هل أمِنتَ الأمراضَ والعِلَل؟! كلُّ يومٍ مضى لن يعودَ أبدًا.
فبادِر ـ أيّها المسلم ـ بالتّوبةِ النصوح التي تنفعُ صاحبَها في يومِ يفرُّ المرء من أخيه وأمِّه وأبيه، لكلِّ امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه. أقبِلوا على إصلاحِ أنفسِكم وأعمالكم، صوموا عن الغيبةِ والنّميمة وقولِ الزور، واحفظوا أبصارَكم وأسماعكم وجوارِحَكم؛ فإنَّ الصومَ ليس هو الصوم عن الطعامِ والشراب والنكاح فحَسب، واستقبلوا شهرَكم الفضيل بأحسنِ الأعمال، واستقبلوه بالتوبةِ من قبيحِ الفعال، فمن قطَعَ رحمه فليصِلها، ومن فرَّط في واجبٍ فليقُم به ويلازِمه، ومن اقترَفَ سيّئة فليتُب منها إلى ربِّه، ومن آذى أحدًا منَ الخلقِ فليُقلع عن أذيّة الخَلق، ومن ظلَم مسلِمًا أو أحدًا فليؤدِّ إليه حقَّه قبل أن تأتيَ ساعةٌ لا ينفع فيها النّدَم، ومن ادَّعى دعوًى كاذِبة فليتُب إلى الله منها، ففي الحديث: ((مَن ادَّعى كذِبًا فهو في سخَط الله حتى ينزِعَ عن دعواه)) [15].
وحافِظوا ـ عباد الله ـ على صلاة التراويح؛ فإنها سنّة مؤكَّدةٌ عن النبي ، والقيامِ مع الإمام لتكونُوا ممّن قامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا، ففي الحديث: ((من قام مع الإمامِ حتى ينصرِفَ كتِبَ له قيامُ ليلة)) [16] ، ولو صلّى في بيته فلا حرجَ عليه، ولكنّ صلاةَ التراويح أفضل.
وأكثِروا من تلاوةِ القرآن في هذا الشهرِ المبارك، فإنّه شهرُ القرآن، وفي الحديث: ((من قرأَ حرفًا من القرآنِ فله بكلِّ حرفٍ عشرُ حسنات، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) [17] ، والمناسبةُ بين هذا الشّهرِ والقرآنِ عظيمَة، فقد أنزلَ الله فيه القرآنَ رحمةً للناس، والقرآنُ غذاءُ القلوبِ والأرواح كما أنّ الطعامَ والشراب غذاء الأبدان، فإذا صام المسلم عن غذاءِ البدَن صفَت الروح وضعُفت النفسُ الأمّارة بالسّوء وتغذَّت الروحُ بالقرآن العظيم، فأحِلّوا حلالَه، وحرّموا حرامَه، وآمنوا به، وتدبَّروا آياته، وتفقَّهوا في أحكامه؛ لتكونوا من أهلِ القرآن الذين هم أهلُ الله وخاصّتُه، فمن عمِلَ بالقرآن فهو من أهلِه وإن لم يكن حافظًا لحروفه كلِّها، ومن لم يعمَل بالقرآنِ فليس من أهله وإن كان حافظًا للقرآن، قال الله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136].
بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمينَ من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (27).
[2] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (528)، ومسلم في كتاب المساجد (667) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] صحيح البخاري: كتاب الوضوء (160، 164)، صحيح مسلم: كتاب الطهارة (227).
[4] قال المنذري في الترغيب (1/308): "هو حديث غريب"، وقال الهيثمي في المجمع (3/63): "فيه عمر بن هارون وهو ضعيف"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (575).
[5] أشار المنذري في الترغيب (1/309) إلى ضعفه، وقال الهيثمي في المجمع (3/64): "فيه عثمان بن عبد الرحمن الجمحي، قال أبوحاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (5069).
[6] أخرجه البخاري في الزكاة (1417)، ومسلم في كتاب الزكاة (1016) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه.
[7] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1410)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1014).
[8] صحيح البخاري: كتاب الحج (1773)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1349).
[9] صحيح مسلم: كتاب الطهارة (233)، سنن الترمذي: كتاب الصلاة (214).
[10] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (38)، وأخرجه أيضا مسلم في صلاة المسافرين (760).
[11] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (37)، وأخرجه أيضا مسلم في صلاة المسافرين (759).
[12] مسند أحمد (5/318، 321، 324)، قال الهيثمي في المجمع (3/175): "فيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وفيه كلام وقد وثق"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (11/1/145-146).
[13] صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق (3277)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1079).
[14] سنن الترمذي: كتاب الصوم (682)، وأخرجه أيضا ابن ماجه في الصيام (1642)، وأبو نعيم في الحلية (8/306)، والبيهقي في الكبرى (4/303)، وصححه ابن خزيمة (1883)، وابن حبان (3435)، والحاكم (1532)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (1331).
[15] ينظر من أخرجه.
[16] أخرجه أحمد (5/159)، وأبو داود في الصلاة (1375)، والترمذي في الصوم (806)، والنسائي في قيام الليل (1605)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1327) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (403)، وابن خزيمة (2206)، وابن حبان (2547)، والألباني في الإرواء (447).
[17] أخرجه الترمذي في فضائل القرآن، باب: ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن (2910)، وأبو نعيم في الحلية (6/263)، والبيهقي في الشعب (2/342) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب" ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1416).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد للهِ معِزِّ من أطاعه واتّقاه، ومُذِلّ من خالف أمرَه وعصاه، أحمده سبحانَه وأشكره على ما أولاه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له ربُّ العالمين لا إلهَ سواه، وأشهد أنّ نبينا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله، اصطفاه ربُّه واجتباه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وأصحابه ومن والاه واتبع هداه.
أما بعد: فاتقوا الله، اتقوا الله أيها المسلمون، واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله.
عبادَ الله، إنّ شهرَ رمضان جمع الله فيه من الخيراتِ والطاعات وأبوابِ الخير ما فيه حثٌّ على أنواع القرُبات، وسَدّ الله فيه من أبوابِ الذنوب والشرِّ ما فيه أكبرُ داعٍ للتوبة والإقبالِ على الرّبِّ الغفور الودود، فأكثِروا من الأعمال الصالحة فيه، فإنّ اللهَ يضاعفُ فيه الحسنات، واسُوا الفقراءَ والأيتام، فإنّ الله تبارَكَ وتعالى يقول في كتابه: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261].
ومِن أبوابِ الخيرِ فيه تفطيرُ الصائم بقدر ما تستطيعُ فاحرِص على ذلك، فإنَّ الرسولَ يقول: ((من فطَّر صائمًا كان له مثلُ أجره من غير أن ينقُصَ من أجرِه شيء)) [1].
وأكثِروا فيه من الدعاء والتضرُّع إلى الله تعالى، أكثِروا فيه من الدعاء لأنفسِكم بالمغفرة والتوفيقِ لطاعة الله ومجانبَةِ معاصيه، والدّعاء للمسلمين وولاةِ أمور المسلمين وجمع كلمةِ المسلمين على الحقّ والهدى ومجانبتهم كلَّ ما يسخِط الله عز وجل. ادعوا الله عزّ وجلّ أن يردَّهم إلى تحكيمِ كتابه وإلى سنّة رسوله ، وادعوا الله أن يؤلِّف بين قلوبهم. وعليكم أن تدعُوا اللهَ تعالى للمستضعَفين المضطَهدين من المسلمين الذين اضطُهِدوا من أعداء الإسلام، فإنَّ الدعاءَ في هذا الشهر المبارك دعاءٌ مستجاب، وادعوا اللهَ عزّ وجلّ أن يحفَظَ المسلمين من كيدِ أعداء الإسلام والمسلمين، فإنّه على كل شيء قدير.
أيّها الناس، عليكم بالإخلاصِ لله في أعمالكم في سرِّها وعلانيتها؛ فإنَّ الإخلاصَ هو روح الأعمال، قال الله تبارك وتعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، فمن أدرَكَه رمضانُ ولم ينتفِع به فمتى ينتفع؟! ومن أدركَته هذه الساعاتُ ومَن أدركته هذه الأيّامُ فمتى يرجِع إلى الله عزّ وجلّ؟! ومتى يتوب إليه؟! وليتذكَّر بأنّ الموت آتٍ وأنه قريب وأنه سيُقام ويعرَض عملُه على ربِّه، والله تبارك وتعالى يقول له: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14].
عبادَ الله، إنّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه فقال عزّ من قائِلٍ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قالَ : ((من صلَّى عليَّ صلاةً واحِدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيِّد الأولين والآخرين وإمامِ المرسلين.
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلم تسليمًا كثيرا...
[1] أخرجه أحمد (4/114-115)، والترمذي في الصوم (804)، والنسائي في الكبرى (3330)، وابن ماجه في الصيام (1746) من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3429)، وهو في صحيح سنن الترمذي (647).
(1/3429)
شهر الغنائم
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
1/9/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شكر الله تعالى على شريعةِ الإسلام. 2- فضل أركان الإسلام. 3- فضل رمضان. 4- دعوة للتوبة في هذا الشهر الكريم. 5- فضل صلاة التراويح وتلاوة القرآن. 6- الحثّ على تفطير الصائمين والإكثار من الدعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حقَّ التقوى، فهي وسيلتُكم إلى ربّكم في هذه الدنيا وفي الأخرى.
أيّها المسلمون، اذكُروا نعَمَ الله عليكم إذ شَرَع لكم ما يرضَى به عنكم ويقرِّبكم إليه زلفى، ونهاكم عن الشّركِ والمعاصي التي تُبعِدكم عن ربِّكم وتوقِعكم في العذابِ الأليم.
شَرَع لكم ربُّكم ما يرفَع به الدّرجاتِ ويكفِّر به السّيّئات ويُعظِم به الأجورَ والحسناتِ، فشهادةُ أن لا إلهَ إلا الله وأنّ محمّدًا رسول الله قولُها باللّسان واعتقادُ ما دلَّت عليه والعمَلُ بمقتضاها ومحبّتُها والتمسُّك بها أفضلُ ما تقرَّب به المتقرِّبون إلى الله عزّ وجلّ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أشهدُ أن لا إلهَ إلاّ الله وأني رسولُ الله لا يلقَى اللهَ بهما عبدٌ غيرَ شاكٍّ فيهما إلاَّ أدخله الله الجنّة)) رواه مسلم [1] ، وتتضمّن أصلين عظيمَين أن لا نعبدَ إلاَّ الله وحدَه فلا ندعو معه غيرَه، والأصل الثاني أن لا نعبدَ الله إلاَّ بما شرَع.
وشرَع الله الصلاةَ توحيدًا لربِّ العالمين وذُلاًّ وخضوعًا ومحبّةً لله تعالى، يكفِّر الله بها الذنوبَ ويطهِّر بها القلوب، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أيضًا قال: قال رسول الله : ((أرأَيتم لو أنّ نهرًا ببابِ أحدِكم يغتسِل منه كلَّ يومٍ خمسَ مرّات هل يبقى من درَنه شيء؟)) قالوا: لا، قال: ((فذلك مثَل الصّلواتِ الخمس يمحو الله بهنّ الخطايا)) [2] ، وعن حُمرانَ مولى عثمان رضي الله عنه أنّ عثمان توضّأ وقال: والله، لأحدِّثنَّكم حديثًا لولا آية في كتاب الله ما حدّثتُكُموه، سمعتُ رسول الله يقول: ((لا يتوضَّأ رجلٌ فيحسِن وضوءه ثم يصلِّي الصلاة إلاَّ غفِر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها)) رواه البخاري ومسلم [3].
وشرَع الله الزكاةَ شُكرًا لله على نعمةِ المال وتطهيرًا للنّفس من الرذائل ومواساةً للفُقراء، قال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]. والزّكاةُ يحفَظ الله بها المالَ وينمِّيه عن عمرَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما تلِفَ مالٌ في برٍّ وبحر إلاَّ بحبسِ الزكاة)) رواه الطبراني في الأوسط [4] ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((ما خالَطَت الصّدقة ـ أو قال: الزكاة ـ مالاً إلاَّ أفسَدَته)) رواه البزار [5]. وبذلُ الصدقة حجابٌ من النار ففي الحديث: ((اتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرة)) [6] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما تصدَّق أحدٌ بصدقةٍ من طيِّب ولا يقبل الله إلاَّ الطيِّب إلاَّ أخذها الرحمنُ بيمينه وإن كانت تمرةً، فتربو في كفِّ الرحمن حتى تكونَ أعظمَ من الجبل كما يربِّي أحدُكم فلُوَّه وفصيلَه)) رواه البخاري ومسلم [7].
وشرَع الله الحجَّ ومحا به الذنوبَ والآثام، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((العمرة إلى العمرةِ كفَّارة لما بينهما، والحجّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنّة)) رواه البخاري ومسلم [8].
أيّها المسلمون، إنّ اللهَ تعالى لم يكلِّفكم بالفرائضِ والواجبات ولم ينهَكم عن المحرَّماتِ إلاَّ لنفعِكم وتطهيرِكم وسعادتِكم ولما فيه الخير لكم، وليصرفَ المكروهَ والشرَّ عنكم، قال الله تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6].
أمّةَ الإسلام، هذا شهرُ الصيام أحدُ أركانِ الإسلام، فضَّلَه الله على شهورِ العام، وأفاض فيه على المسلمينَ الخيراتِ والبركات، وضاعف فيه الحسناتِ، وتجاوز فيه عن الذّنوب العظام الموبقات، وأقال فيه العثراتِ، فهو شاهدٌ للمحسنين، وشاهد على المعرِضِين والعصاةِ المصرِّين.
وأنتم ـ معشرَ المسلمين ـ في أوَّله، وما أسرعَ انقضاءَ آخره، فأرُوا الله من أنفسِكم خيرًا بفعلِ الطاعات والتوبةِ من المحرّمات؛ فإنّ هذا الشهرَ من أسباب مكفِّرات الذنوب، فرَضَ الله صيامَه، وسنَّ رسول الله قيامَه، وبشَّر على القيام بذلك أعظمَ البشائر، فاغتنموا هذا الشهرَ يا ذوي البصائر، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الصلواتُ الخمس والجمُعة إلى الجمعَة ورمضان إلى رمضانَ مكفِّرات لما بينهنّ إذا اجتُنِبت الكبائر)) رواه مسلم والترمذي [9] ، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أيضًا قال: قال رسولُ الله : ((من صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبِه)) رواه البخاري [10] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من قامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبه)) رواه البخاري [11] ، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله في ليلةِ القدرِ: ((فمَن قامها إيمانًا واحتسابًا ثمّ وفِّقَت له غفِر له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخّر)) رواه أحمد والطبراني [12]. فانظر إلى ما أفاضَ الله في هذا الشهرِ المبارك على المسلمين من أسبابِ تكفير السيّئات ومضاعفةِ الحسنات.
شهرُ رمضانَ شهرٌ يتهيّأ فيه من أسبابِ الطاعات والبُعد عن المعاصي ما لم يتهيَّأ في غيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله : ((إذا دخَلَ رمضانُ فتِّحَت أبواب الجنة وأغلِقَت أبواب جهنّم وسُلسِلت الشياطين)) رواه البخاري ومسلم [13] ، وعنه رضي الله عنه أيضًا قال: قال رسول الله : ((إذا كان أوّلُ ليلةٍ من رمضان غلِّقَت أبواب النار فلم يفتَح منها باب، وفتِّحَت أبواب الجنة فلم يغلَق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغيَ الخير هلُمَّ وأقبِل، ويا باغي الشرِّ اقصُر، ولله عتقاءُ من النّار، وذلك في كلِّ ليلة حتى ينقضيَ رمضان)) رواه الترمذي [14].
فيا من يمنِّي نفسَه بالتوبة وهو مكِبٌّ على الذنوب وله عِبرةٌ بمن يغادِر الدنيا ولا يؤوب، ذهبت لذّاتُ الأيّام الخاليات، وبقِيت التّبِعات، وكتِب في صحيفَتِك ما عمِلتَ من سيّئاتٍ وحسنات. أتغترُّ ـ أيّها الإنسان ـ بالأجلِ؟! هل أمِنتَ الأمراضَ والعِلَل؟! كلُّ يومٍ مضى لن يعودَ أبدًا.
فبادِر ـ أيّها المسلم ـ بالتّوبةِ النصوح التي تنفعُ صاحبَها في يومِ يفرُّ المرء من أخيه وأمِّه وأبيه، لكلِّ امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه. أقبِلوا على إصلاحِ أنفسِكم وأعمالكم، صوموا عن الغيبةِ والنّميمة وقولِ الزور، واحفظوا أبصارَكم وأسماعكم وجوارِحَكم؛ فإنَّ الصومَ ليس هو الصوم عن الطعامِ والشراب والنكاح فحَسب، واستقبلوا شهرَكم الفضيل بأحسنِ الأعمال، واستقبلوه بالتوبةِ من قبيحِ الفعال، فمن قطَعَ رحمه فليصِلها، ومن فرَّط في واجبٍ فليقُم به ويلازِمه، ومن اقترَفَ سيّئة فليتُب منها إلى ربِّه، ومن آذى أحدًا منَ الخلقِ فليُقلع عن أذيّة الخَلق، ومن ظلَم مسلِمًا أو أحدًا فليؤدِّ إليه حقَّه قبل أن تأتيَ ساعةٌ لا ينفع فيها النّدَم، ومن ادَّعى دعوًى كاذِبة فليتُب إلى الله منها، ففي الحديث: ((مَن ادَّعى كذِبًا فهو في سخَط الله حتى ينزِعَ عن دعواه)) [15].
وحافِظوا ـ عباد الله ـ على صلاة التراويح؛ فإنها سنّة مؤكَّدةٌ عن النبي ، والقيامِ مع الإمام لتكونُوا ممّن قامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا، ففي الحديث: ((من قام مع الإمامِ حتى ينصرِفَ كتِبَ له قيامُ ليلة)) [16] ، ولو صلّى في بيته فلا حرجَ عليه، ولكنّ صلاةَ التراويح أفضل.
وأكثِروا من تلاوةِ القرآن في هذا الشهرِ المبارك، فإنّه شهرُ القرآن، وفي الحديث: ((من قرأَ حرفًا من القرآنِ فله بكلِّ حرفٍ عشرُ حسنات، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) [17] ، والمناسبةُ بين هذا الشّهرِ والقرآنِ عظيمَة، فقد أنزلَ الله فيه القرآنَ رحمةً للناس، والقرآنُ غذاءُ القلوبِ والأرواح كما أنّ الطعامَ والشراب غذاء الأبدان، فإذا صام المسلم عن غذاءِ البدَن صفَت الروح وضعُفت النفسُ الأمّارة بالسّوء وتغذَّت الروحُ بالقرآن العظيم، فأحِلّوا حلالَه، وحرّموا حرامَه، وآمنوا به، وتدبَّروا آياته، وتفقَّهوا في أحكامه؛ لتكونوا من أهلِ القرآن الذين هم أهلُ الله وخاصّتُه، فمن عمِلَ بالقرآن فهو من أهلِه وإن لم يكن حافظًا لحروفه كلِّها، ومن لم يعمَل بالقرآنِ فليس من أهله وإن كان حافظًا للقرآن، قال الله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136].
بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمينَ من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (27).
[2] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (528)، ومسلم في كتاب المساجد (667) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] صحيح البخاري: كتاب الوضوء (160، 164)، صحيح مسلم: كتاب الطهارة (227).
[4] قال المنذري في الترغيب (1/308): "هو حديث غريب"، وقال الهيثمي في المجمع (3/63): "فيه عمر بن هارون وهو ضعيف"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (575).
[5] أشار المنذري في الترغيب (1/309) إلى ضعفه، وقال الهيثمي في المجمع (3/64): "فيه عثمان بن عبد الرحمن الجمحي، قال أبوحاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (5069).
[6] أخرجه البخاري في الزكاة (1417)، ومسلم في كتاب الزكاة (1016) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه.
[7] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1410)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1014).
[8] صحيح البخاري: كتاب الحج (1773)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1349).
[9] صحيح مسلم: كتاب الطهارة (233)، سنن الترمذي: كتاب الصلاة (214).
[10] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (38)، وأخرجه أيضا مسلم في صلاة المسافرين (760).
[11] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (37)، وأخرجه أيضا مسلم في صلاة المسافرين (759).
[12] مسند أحمد (5/318، 321، 324)، قال الهيثمي في المجمع (3/175): "فيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وفيه كلام وقد وثق"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (11/1/145-146).
[13] صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق (3277)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1079).
[14] سنن الترمذي: كتاب الصوم (682)، وأخرجه أيضا ابن ماجه في الصيام (1642)، وأبو نعيم في الحلية (8/306)، والبيهقي في الكبرى (4/303)، وصححه ابن خزيمة (1883)، وابن حبان (3435)، والحاكم (1532)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (1331).
[15] ينظر من أخرجه.
[16] أخرجه أحمد (5/159)، وأبو داود في الصلاة (1375)، والترمذي في الصوم (806)، والنسائي في قيام الليل (1605)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1327) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (403)، وابن خزيمة (2206)، وابن حبان (2547)، والألباني في الإرواء (447).
[17] أخرجه الترمذي في فضائل القرآن، باب: ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن (2910)، وأبو نعيم في الحلية (6/263)، والبيهقي في الشعب (2/342) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب" ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1416).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد للهِ معِزِّ من أطاعه واتّقاه، ومُذِلّ من خالف أمرَه وعصاه، أحمده سبحانَه وأشكره على ما أولاه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له ربُّ العالمين لا إلهَ سواه، وأشهد أنّ نبينا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله، اصطفاه ربُّه واجتباه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وأصحابه ومن والاه واتبع هداه.
أما بعد: فاتقوا الله، اتقوا الله أيها المسلمون، واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله.
عبادَ الله، إنّ شهرَ رمضان جمع الله فيه من الخيراتِ والطاعات وأبوابِ الخير ما فيه حثٌّ على أنواع القرُبات، وسَدّ الله فيه من أبوابِ الذنوب والشرِّ ما فيه أكبرُ داعٍ للتوبة والإقبالِ على الرّبِّ الغفور الودود، فأكثِروا من الأعمال الصالحة فيه، فإنّ اللهَ يضاعفُ فيه الحسنات، واسُوا الفقراءَ والأيتام، فإنّ الله تبارَكَ وتعالى يقول في كتابه: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261].
ومِن أبوابِ الخيرِ فيه تفطيرُ الصائم بقدر ما تستطيعُ فاحرِص على ذلك، فإنَّ الرسولَ يقول: ((من فطَّر صائمًا كان له مثلُ أجره من غير أن ينقُصَ من أجرِه شيء)) [1].
وأكثِروا فيه من الدعاء والتضرُّع إلى الله تعالى، أكثِروا فيه من الدعاء لأنفسِكم بالمغفرة والتوفيقِ لطاعة الله ومجانبَةِ معاصيه، والدّعاء للمسلمين وولاةِ أمور المسلمين وجمع كلمةِ المسلمين على الحقّ والهدى ومجانبتهم كلَّ ما يسخِط الله عز وجل. ادعوا الله عزّ وجلّ أن يردَّهم إلى تحكيمِ كتابه وإلى سنّة رسوله ، وادعوا الله أن يؤلِّف بين قلوبهم. وعليكم أن تدعُوا اللهَ تعالى للمستضعَفين المضطَهدين من المسلمين الذين اضطُهِدوا من أعداء الإسلام، فإنَّ الدعاءَ في هذا الشهر المبارك دعاءٌ مستجاب، وادعوا اللهَ عزّ وجلّ أن يحفَظَ المسلمين من كيدِ أعداء الإسلام والمسلمين، فإنّه على كل شيء قدير.
أيّها الناس، عليكم بالإخلاصِ لله في أعمالكم في سرِّها وعلانيتها؛ فإنَّ الإخلاصَ هو روح الأعمال، قال الله تبارك وتعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، فمن أدرَكَه رمضانُ ولم ينتفِع به فمتى ينتفع؟! ومن أدركَته هذه الساعاتُ ومَن أدركته هذه الأيّامُ فمتى يرجِع إلى الله عزّ وجلّ؟! ومتى يتوب إليه؟! وليتذكَّر بأنّ الموت آتٍ وأنه قريب وأنه سيُقام ويعرَض عملُه على ربِّه، والله تبارك وتعالى يقول له: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14].
عبادَ الله، إنّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه فقال عزّ من قائِلٍ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قالَ : ((من صلَّى عليَّ صلاةً واحِدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيِّد الأولين والآخرين وإمامِ المرسلين.
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلم تسليمًا كثيرا...
[1] أخرجه أحمد (4/114-115)، والترمذي في الصوم (804)، والنسائي في الكبرى (3330)، وابن ماجه في الصيام (1746) من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3429)، وهو في صحيح سنن الترمذي (647).
(1/3430)
همّ الليل وذلّ النهار
فقه
الديون والقروض
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
14/5/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تنظيم الإسلام للعلاقات بين الناس. 2- حاجة الناس بعضهم إلى بعض. 3- الاستعاذة من الدين. 4- خطورة حقوق العباد. 5- ظاهرة تسارع الناس إلى الدين. 6- التحذير من الأماني الكاذبة. 7- كتابة الدين. 8- نية الوفاء. 9- القضاء وحسن الوفاء. 10- خطورة الدين. 11- إنظار المعسر. 12- من نماذج الوفاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، شريعةُ الإسلامِ نظّمَت المعامَلاتِ بين المجتمَع المسلِمِ بوَجهٍ يكفل التّعاوُنَ والتّساعُدَ وأداءَ الحقوقِ ومَعرفةَ كلٍّ ما لَه وما عليه، والمسلمُ حينَما يتدبَّر نُصوصَ الكتابِ والسنّة يجِد نظامَ المعاملاتِ في الإسلامِ نظامًا كاملاً يحقِّق للفَردِ والمجتمَع معًا السّعادةَ والهناءَ والتفاهُم بَين الأفرادِ، ويشمَلُهم قولُه تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].
أيّها المسلِم، في هذه الحياةِ لا يمكِن لأحدٍ أن يستقلَّ بكلِّ حاجاتِه ولا أن تتوفَّر له أمورُه كلُّها دائمً مهما يكن حالُ الإنسان، فالمعاملاتُ والداخِل في المعاملات لا بدَّ أن يكون له وعليه، فيومًا تراه مدينًا للآخرين، ويومًا ترى الناسَ مدينين له في حقوقٍ في ذِممهم، فما بين مستدين لنفسِه وما بين مُدين لغيره، هذا أمرٌ لا بدَّ منه عند من يطرُق بابَ المعاملات ويلِج فيها ويأخُذ ويُعطي، ولكن شريعةُ الإسلام وجَّهت الفردَ المسلم أن يتّقيَ الله في نفسِه قبل كلِّ شيء، وأرشَدته إلى أن حقوقَ العبادِ لا بدَّ من أدائها، فهي مبنيّة على المشاحّةِ والمضايَقة، ولا يمكن التهاوُنُ بها، ومهما عمِل المسلم من عمَل فإنَّ حقوقَ العباد متعلِّقة برقَبَته حتى يؤدّيَها، وإن لم يؤدِّها في الدّنيا فنفسُه معلَّقَة يومَ القيامة بدَينه، وأعماله الصّالحةُ مهما كثُرت لا تسقِط حقوقَ الناس من ذمّته، هكذا بيّن النبيّ وأرشَدَ المسلم إلى أن يعلَمَ حُرمة الأموالِ وحرمةَ الدماء، وأنَّ حرمة الأموالِ قرينةٌ لحرمةِ الدماء، كما قرنَ بينهما النبيُّ في قوله: ((إنّ دماءَكم وأموالَكم عليكم حرام)) [1].
أيّها المسلم، نبيُّنا كان يدعو بهذه الكلماتِ في دُبُر الصلاة أي: قبل أن يسلِّم، يقول في دعائه: ((اللهمّ إني أعوذ بك من الهمِّ والحَزَن والعَجز والكَسَل والبُخل والجُبن وغَلَبة الدّين وقَهرِ الرجال)) [2]. فكان يستعيذ بالله من غَلَبة الدَّين أي: من الدَّينِ الذي يغلبه ويعجزُ عن قضائِه ويلقَى اللهَ وحقوقُ العبادِ في ذمّته، فالنّبيُّ يستعيذ من ذلك لأنّ حقوقَ العباد إذا لم تُؤدَّ في الدنيا أدِّيَت يومَ القيامة من حسناتك؛ من صلاتك، من صيامك، من حجِّك، من بِرِّك، مِن فعلِك الخير.
حقوقُ العباد لا بدَّ من أدائها، فأدِّها في الدنيا لتبرَأَ منها ذمّتك، أدِّها في الدنيا لتسلمَ من عقوبةِ الله، أدِّها في الدنيا لتريحَ من بعدك من الوَرَثة حتى لا تؤخَذَ أموالهم من بين أيدِيهم فيعودون فقراءَ بعدما كانوا يؤمِّلون الغِنى من الله ثم ممّا خلَّفتَ.
حقوقُ العباد أدِّها في الدّنيا ليعرفَ الناسُ صدقَك، أدِّها ليعرفَ الناس أمانَتَك، أدِّها ليثقَ الناس بك، أدِّها ليدلَّ الأداءُ على صلاحٍ في نفسك وحبّ الخير لغيرك.
أيّها المسلم، حقوقُ الناس مهما طالَ الزمن فتقادُم الزمن لن يُعفيَك عنها، طولُ الزّمن لن يعفيَك عنها، غِيابُ أهلها لن يُعفيَك عنها، فبادِر بالأداء واتّق الله في ذلك.
أيها المسلم، نبيُّك يقول: ((إنَّ أعظمَ الذنب بعد الكبائِرِ التي نهى الله عنها أن يلقَى العبدُ الله بدَينٍ لم يترُك له قضاءً)) [3]. فهي مصيبةٌ عظيمة وبلِيّة كبيرة، ولهذا استعاذ النبيّ من غَلَبة الدين.
إذًا فالمؤمنُ يفكِّر عندما يريد أن يستدِين من الآخرين: أوّلاً ضروريّةُ هذا الدَّين، وهل هو ضرورة؟ ثم هل هو حاجة ملِحّة أم حاجَة كمَال وحاجةُ مجاراة وحاجَة لأمورٍ لا قيمةَ لها؟ فإن يكن ذلك الدَّين ضروريًّا لك أو حاجَةً ملِحّة أنت بحاجَةٍ إليها فخذ من الدَّين قدرَ ما يغلِب على ظنِّك قُدرتَك على الوفاء وقدرَتَك على التّسديد، وإلاّ فإن حمَّلتَ ذمَّتَك ما لا تطيق بُؤتَ بالإثم والغضَبِ من الله.
أخي المسلم، للأسَفِ الشّديد أنَّ التهافتَ على الدَّين أصبَحَ ظاهرةً خطيرة في مجتمَعنا، فكثيرٌ من الناس لا يبالي بالاستدانةِ، لماذا؟ المصارفُ فتحَت لهم الأضواءَ بأنواعِ القروض الميسَّرة كما يقولون، وبأنواع البركة وبكذا وبكذا.. سهَّلوا المهمَّةَ في الظاهر وقالوا: استقرِض منَّا قروضًا ميسَّرة ونعطيك رواتبَ سنةٍ كاملة وإلى غير ذلك، فربما حمَلَه الطمَع واطمأنَّ إلى قولهم فحمَّل ذمّتَه فوقَ ما يستطيعُ وفوقَ ما يقدِر عليه، ثمّ ماذا؟ ثم يعودُ بالصّفقَةِ الخاسِرة.
أيّها المسلم، البعضُ من أولئِك يستدينُ، لماذا؟ قال: أستدينُ لأربَحَ في الدَّين وأشتغِل في الدَّين وآخُذُ الأسهمَ وأنافِس وأقتحِمَ ميادينَ التجارةِ، فلعَلَّ فرصةً سانحة أكونُ غنيًّا بعدما كنتُ فقيرًا، وأكون من رؤسَاءِ الأموالِ بعدما كان لا يحسَب لي حسابٌ. هذه أمنيّتُه التي تخالج نفسَه، فيدخُلُ بديونٍ وديونِ الناس ثمّ يقتحِم هذا الميدانَ، فرُبَّ صفقةٍ خاسِرة تمحَق كلَّ ماله، فيصبح مَدينًا ومَدينًا وأيّ دين؟! المصارِف أحيانًا سهّلت لهم المهمَّةَ وقالت: نعطيكُم أضعافَ ما تريدون، فلمّا حقّتِ الحاقّة ورأتِ المصارفُ بعضَ أوجُهِ الكَسادِ في بعضِ الأحوال انسَحَبت وأخذَت حقوقَها وعادَ هذا المسكينُ الذي كان في عافِيَةٍ عاد مُثقَلاً بحقوقِ الآخرين، ويا ليته سلِم من ديونِه كلِّها.
يا أخي، اقتحامُ التّجارة وخَوضُ ميادين التّجارة أمرٌ مطلوب، والله يقول: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل:20]، ولكن كلُّ شيءٍ بأصولِه، وكلّ شيء بضوابِطه، وكلّ شيءٍ على قدرِ نفسك أيها المسلم. اعرِف نفسَك أوّلاً واعرِف وضعَك واعرِف هل أنت ذو قدرةٍ على العمَل والتنافس أم أنت عاجز؟ ما كلُّ مَن ملَك مالاً يكون صاحبَ قُدرةٍ ومَهارة، فاعرِف نفسَك، وقيِّم نفسَك قبلَ أن يقوّمَك الآخرون، واعرِف نفسَك قبل أن يعرِّفَك بوضعِك الآخرون.
أيّها المسلم، إنّ النبيَّ حذَّرنا فقال في دعائه: ((اللهمّ إني أعوذ بك من غَلَبة الدَّين)). غلبةُ الدَّين مصيبة، وإذا أُخِذتَ أخِذتَ بحقٍّ؛ لأنّك حمَّلتَ نفسَك ما لا تطيق، يُحجَر عليك في تصرّفاتِك، وإن يكن لك عقارٌ أخِذَ العقار وحُجز ثم بيع في المزادِ ليُعطَى الناسُ حقوقَهم، وإذا هربتَ عن الناس بالحِيَل والخداع فستلقى الله يومَ القيامَة ويُمكَّن الغرماءُ من أخذِ حسناتك وهي أغلى ما عندك.
أيّها المسلم، الله جلّ وعلا قال لنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282]، فأمَرَ بكتابةِ الدَّين وتسجيلِه ليسلمَ النّاس من التلاعُب وأكلِ بعضهم مالَ بعض.
أيّها المسلم، وعندما تلجِئُك الحاجةُ إلى الدَّين فاجعَل نيّةً صالحة في قلبِك يَعلمُها الله منك أنّك تريد قضاءَ الدَّين، في الحديث: ((من أخَذ أموالَ الناس يريد أداءها أدّى الله عنه، ومَن أخذَها يريد إتلافَها أتلَفَه الله)) [4]. قال العلماء: ((أدّى الله عنه)) : يسّر أمورَه ومكّنه في الدنيا من الأداء أو هَيّأ له مَن يؤدّي عنه أو تجاوَز الله يومَ القيامة وأرضَى الغرماءَ من فضلِه حتّى يَسمَحوا بها في ذمّتِه لهم، ((وإن أخَذَها يريد إتلافَها أتلَفَه الله)) : أتلَف نفسَه، أتلَف صحَّته، أتلف مكاسِبَه، ضيَّق عليه الأمور، عسّر عليه الأسباب، حتى يصبِحَ في قلقٍ وشقاءٍ وهمٍّ وحزن، وفي الحديث: ((مَن استدانَ دَينًا يعلَم الله من صاحبه الأداءَ فإنّ الله يؤدِّي عنه)) [5] ، وإن علِمَ من صاحِبِه عَدمَ الوَفاءِ فإنّ الله يتلِف عليه ماله.
يا أخي المسلِم، ليس المهِمّ أن تجدَ من يُدينك ولا مَن يُقرضك ولا مَن يحمِّلك الحقوقَ، المهمّ أن تكونَ متبصِّرًا في أمورِك كلِّها قبل أن تستدينَ، متبصِّرًا في أمورِك، واقعيًّا في أحوالك، لا يغرنَّك كثرةُ الناس، ولا يغرنَّك أنّ هذا ربِح وذا ربح، لا، انظر نفسَك أنت أخصّ، انظر نفسَك ووضعَك وهل عندك القدرةُ الماليّة فيما لو استدَنتَ ثم فشِلتَ في هذه الصّفقة أنك قادِر على أن تعطيَ الناسَ من مال آخر؟ وأمّا رأسُ مالٍ تأخذه دَينًا لتظنَّ الربح فيه وأنت لستَ ذا خِبرةٍ ولا بصيرةٍ وليس لك تقيِيمٌ للأوضاع كما يُراد فإنّك بذلك تخسَر.
أيّها المسلم، كثيرٌ من أبناءِ المسلمين تراه يحمِل بطاقاتِ ديون: هذه سيّارَةٌ، هذا أثاثٌ، هذا للسَّفر، هذا لكذا، هذا لكذا.. لماذا يا أخي؟ لماذا تحمّل نفسَك ما لا تطيق؟ ليس الدَّين فَخرًا ولا شَرَفًا، إنما الفخرُ راحةُ الذمّة من الأمور، في الحديثِ يروَى أنه قال: ((لا تخيفُوا أنفسَكم بعد أمنها))، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: ((تخيفوها بالدَّين)) [6]. فالدَّين همٌّ وحزنٌ وذلّ وصَغار، يطأطِئ رأسَ الإنسان عندما يتوجّه المدّعون عليه، يطلبونَه حقوقَهم ولا يرحمونَه ولا يحسِنون إليه.
فليتّقِ المسلم ربَّه، وليؤدِّ الذي عليه أداءً كاملاً، إنّ الله يقول لنا في كتابِه العزيز: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283]، والله يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].
كان على النبيِّ دَين لأحدِ الأنصار فأمَر أن يُعطي حقَّه، فلمّا أعطاه الأنصاريّ حقَّه، قال: ليس هذا حقّي، قال: هذا حقُّك ألا ترضَى بقولِ رسول الله؟! قال: لا، وأولى الناسِ بالعَدل رسولُ الله، فلمّا سمع ذلك النبيُّ ذرَفت عيناه وقال: ((نعم، أنا أولى النّاس بالعدلِ، أعطوه حقَّه ووفّوه كاملاً)) [7].
فمحمّد كان حرِيصًا على قضاءِ الدَّين، ولما شاجَر رجلٌ النبيَّ وقال: يا كذا، فهمَّ الصحابةُ به، قال: ((دعوه؛ فإنَّ لصاحب الحقّ مقالاً)) [8]. فهذا الذي يطلُب النبيَّ النبيُّ أنكَرَ على الصحابةِ حين نهَروه قال: لا، هو تكلَّم عليّ لأنّ له حقًّا، ((دعوه؛ فإنّ لصاحبِ الحقّ مقالاً)). وكان يُوفي الغريمَ حقَّه ويزيد، اقترَض مِن رجلٍ بكرةً فقال: ((أعطوه)) ، قالوا لا نجد إلا رباعيًا، قال: ((أعطوه إياه؛ فإنّ خيارَ المسلمين أحسنُهم قضاءً)) [9].
فيا أخي المسلِم، اتَّق اللهَ في نفسِك، واتّقِ الله فيما تحمِّله ذمّتَك، واحذَر أن تلقى اللهَ بتبعاتٍ، أن تلقى الله بحقوقِ الخَلق وما أعطَيتَهم حقَّهم، اتّق الله ونَم مُرتاحًا بفَراغ ذمَّتك مِن حقوقِ الخلق، وإن اضطُرِرتَ فاكتُب وأشهِد واستوثِق واجعَل الأمرَ واضحًا لك ولمن بعدَك من ذرّيّتك؛ فإنَّ العبدَ لا يَدري متى يفجؤُه الأجَلُ وفي ذمّتِه حقوق الناس.
خطب النبيُّ فأخبَرَ عن ثوابِ المجاهدين وأنَّ من قتِل في سبيل الله مقبِلاً غيرَ مدبِر كفّر الله عنه خطاياه وأعادها، فقال رجلٌ: حتى الدين؟ فسكتَ النبيُّ ثم قال: ((إلاَّ الدَّين؛ فإنّ جبريلَ أخبرني بذلك آنفًا)) [10] ، يعني الشهادةَ في سبيل الله مع عِظمِها لا تكفِّر الدَّينَ ولا تخفِّف الدّين، فالشهيد يَلقَى الله بالشهادَةِ، ولكن دَينُ العِبادِ في ذمّته، فكيفِ بحالِنا نحن أيّها الإخوة؟! فالمطلوبُ منّا أن نتعاوَنَ على الخير، وأن لا نحمِّل أنفسَنا ما لا نطيق، وأن نحذَرَ من التهاونِ بحقوق النّاسِ مهما كانت حالُها.
أسأل اللهَ للجميع التوفيقَ لما يحبّه ويرضاه، إنّه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيمِ، ونفعني وإيّاكم بما فيهِ من الآيات والذّكر الحكيمِ، أقول قولي هذا، وأستغفِر اللهَ العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلِمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الحج، باب: الخطبة أيام منى (1741)، ومسلم في القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. وفي الباب عن جابر بن عبد الله وابن عباس وابن مسعود وابن عمر وعمرو بن الأحوص وأبي سعيد والحارث بن عمرو وأبي الغادية الجهني ونبيط بن شريط وحذيم السعدي والعداء بن خالد الكلابي رضي الله عنهم.
[2] أخرجه البخاري في الدعوات (6363، 6369)، ومسلم في الذكر (2706) عن أنس بن مالك رضي الله عنه نحوه، وليس فيه أنه كان يقول ذلك دبر الصلاة.
[3] أخرجه أحمد (4/392)، وأبو داود في البيوع (3342) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود (725).
[4] أخرجه البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها (2387) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه أحمد (6/335)، والنسائي في البيوع (4686، 4687)، وابن ماجه في الأحكام (2408)، والطبراني في الكبير (24/24) عن ميمونة رضي الله عنها نحوه، وصححه ابن حبان (5041)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (1952).
[6] رواه أحمد (4/146، 154)، وأبو يعلى (1739)، والطبراني في الكبير (17/328)، والبيهقي في الكبرى (5/355) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب (2/370) والهيثمي في المجمع (4/127): "رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما ثقات"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2420).
[7] ينظر من أخرجه.
[8] أخرجه البخاري في الوكالة (2306)، ومسلم في المساقاة (1601) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه مسلم في المساقاة (1600) عن أبي رافع رضي الله عنه.
[10] أخرجه مسلم في الإمارة (1885) عن أبي قتادة رضي الله عنه نحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محَمّدًا عبده ورَسوله، صَلَّى الله عَليه وعَلَى آله وصَحبِه، وسَلّمَ تَسلِيمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، نبيُّكم كان يعظِّم الدَّينَ في نفوس أصحابِه تعظيمًا عظيمًا، قال جابرُ بن عبد الله: تُوفِّيَ رجل منَّا فغسَّلناه وحنَّطناه وكفّنّاه وأتينا به النّبيَّ ليصلّيَ عليه، فخَطا خطَواتٍ ثم قال: ((أعليه دَين؟)) قالوا: ديناران يا رسول الله، فتأخَّرَ عنِ الصّلاةِ عليه وقال: ((صَلّوا على صاحِبِكم))، فقال أبو قتادة: هما عليَّ يا رسولَ الله، قال له النبيُّ: ((برِئَت ذمّةُ الغريم وحُقَّ الدين؟)) قال: نعم يا رسول الله، فصلّى عليه النبيّ ، ثم لقِيَ أبا قتادة في اليومِ الثاني قال: ((يا أبا قتادةَ ما فعَل الديناران؟)) قال: يا رسول الله، إنما ماتَ بالأمس! ثمّ لقِيَه اليومَ الثاني وقال: ((يا أبا قتادةَ ما فعل الديناران؟)) قال: يا رسول الله، دفعتُهما لصاحبهما، قال: ((الآن برَدت عليه جِلدَته)) [1] ، لمّا سُدِّد الديناران خفِّف الأمرُ عن ذلك الغريم الذي ماتَ وفي ذمّته هذان الديناران.
فيا أخي المسلم، هكذا علَّم النبيّ أمّته؛ ليعرفوا حقوقَ العباد ولا يظلِم بعضهم بعضًا ولا يتعدَى بعضهم على بعض.
أيّها المسلم، إذا كان غريمُك معسِرًا لا يستطيع الوفاءَ فإيّاك أن تشقَّ عليه وإيّاك أن تشمتَ به وإياك أن تشوِّهَ سمعته، واسمع الله يقول: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]. جاء في الحديث: ((إنّ رجلاً كان يدايِن الناسَ، وكان يقول لغِلمانه: يسِّروا على الموسِرين وتجاوزوا عن المعسِرين، فقال الله: أنا أحقُّ بالتّجاوُز منك، فتجاوَزَ الله عنه)) [2].
يا أخي، لا بدَّ من عَفوٍ ومسامحةٍ للمعسِرين الذين أرادوا الوفاءَ لكن عجزوا، أن تيسِّروا عليهم ولا تحمِّلوهم ما لا يطيقون ولا تعرُّض بالكلام والمرافَعَة وأنت تعلَم وضعَه وحالَه. فعلى المسلِم أن يؤدِّيَ الحقوق، وعلى من عليه الحقّ أن يتّقيَ اللهَ في الوفاءِ ويستعينَ بالله على ذلك، ومَن صدَق الله في نيّته حقّق الله مرادَه بتوفيقٍ من الله ورَحمَة.
أيّها المسلم، إنّ الحرصَ على قضاء الدَّين عملٌ صالح ودليلٌ على الصِّدق والالتزام الحقّ، وأمّا من يماطِلُ بحقوقِ النّاس فلا ينفعُه أن يلتزمَ بالخير وهو يظلِم الناسَ ويجحد حقوقَهم، وتلك مصيبةٌ عظيمة، فلنتَّقِ الله في تعامُلنا مع عبادِ الله لنكونَ إن شاء الله على الخيرِ في ظاهرنا وباطِنِنا.
أيّها المسلم، إنّ نبيَّنا ـ كما سبَق ـ يعظِّم أمرَ الدين ويبيِّن أهمّيتَه وشأنه، فيذكر لنا خبرًا من أخبار الماضينَ، وهذا الخبرُ الذي أخبرَ به النبيّ إنّما حدّثنا به للعِظَة والاعتبار.
ذكر لنا أنّ رجلاً من بني إسرائيل استدانَ من آخر ألفَ دينار، أخذ دَينًا مقدارُه ألفُ دينار، وأعطاه صحيفةً مسجَّلاً فيها ذلك الدَّين، فأخذ صاحِبُ الحقّ الدَّين الألفَ دينار والصحيفةَ التي هي نسخةٌ تدلّ على ما في ذمّتِه وقد وعدَه يومًا معيَّنًا يأتيه بالسّداد فيه، فلمّا جاء اليومُ المعيَّن خرج ذلك الرجُل ومعه الألفُ دينار والصحيفةُ يلتمِس مركبًا في البحرِ يركبُه حتى يصِلَ إلى صاحبِ الحقّ فيعطيَه حقَّه، مضى اليومُ ولم يأتِ مركَبٌ يكرب فيه ولا يستطيع أن يخوضَ غِمار البحر، فماذا فعل؟ قال: أخَذ خشبةً ونجرَها ووضعَ فيها ذلك المالَ والصحيفةَ وزجَّها وربَطها وأكَّد وِكاءَها ثم استقبل القبلة وقال: اللهمّ إن فلانَ بنَ فلان أعطاني ألفَ دينار، سأني شهيدًا فقلت: كفى بالله شهيدًا، وسأَلني كفيلاً فقلتُ: كفى بالله كفيلا، أعطاني ثقةً بي، وقد وعدتُه هذا اليومَ، فتعلم أني لم أجِد مركبًا أركَب فيه، ثم ألقاها في البحر مما في نفسِه ورجَع إلى دارِه، خرج ذلك الرجلُ صاحبُ الحقّ يلتمِس لعلَّ مركبًا يأتي وفيه ألفُ الدينار التي له، فمضى اليومُ ولم يجد أحدًا يأتي، لكنه وجَدَ تلك الخشبةَ على ساحلِ البحر، فأخذها لكي تكونَ حطبًا لغدائه أو عشائه، فلمّا نشرَها فإذا الألفُ دينار والصحيفةُ في تلك الخشَبَة، فأخذ دنانيرَه وصحيفتَه وحمِد الله على هذه النعمة، لكن مَن عليه الدَّين ماذا فعل؟ خرَج في يومٍ ثانٍ بألفِ دينار ووجَد مركبًا فركب فيه، وأتى لصاحب الحقّ وقال: يا فلان، يعلم الله ما تركتُك إلاَّ أني لم أجِد مركبًا أركبه هذه ألفُ دينار والصّحيفة التي بيني وبينك، قال: أما بَعَثتَ الخشبة لي؟! قال: يا فلان، والله ما وجدتُ مركبًا أركب فيه، قال: اذهَب راشدًا فقد قضَى الله عنك ما عَليك [3].
يا إخواني، هذهِ كلُّها من نبيِّنا ترغيبٌ لنا في الوفاءِ وحثٌّ لنا على الصّدق والتزامِ الموعد، فنسأل الله أن يجعلنا وإيّاكم ممّن يستمعون الحقَّ فيتّبعون أحسنَه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم ألو الألباب.
واعلَموا ـ رَحِمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخير الهديِ هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعةِ، ومن شذَّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد امتثالا لأمر ربّكم حيث يقول: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائهِ الرّاشدين...
[1] رواه أحمد (3/330)، والطيالسي (1673)، والبيهقي في الكبرى (6/74، 75)، وصححه الحاكم (2346)، وحسنه المنذري في الترغيب (2/377)، والهيثمي في المجمع (3/39، 4/127)، والألباني في أحكام الجنائز (27).
[2] رواه البخاري في البيوع (2078)، ومسلم في المساقاة (1562) عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[3] علقه البخاري في الحوالات، باب: الكفالة في القرض والديون بالأبدان وغيرها عن أبي هريرة رضي الله عنه، ووصله في البيوع، باب: التجارة في البحر (2063).
(1/3431)
استقبال شهر رمضان المبارك
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الصوم, المسلمون في العالم
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
1/9/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البشارة بقدوم شهر رمضان. 2- فضائل رمضان. 3- زعم باطل. 4- دعوة للصلاة بالمسجد الأقصى. 5- التحري في وقت المغرب. 6- رمضان شهر الجد. 7- حقيقة الصيام. 8- الاجتياح الإسرائيلي لشمال غزة. 9- قضية المسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد روى الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام خطب في آخر يوم من شهر شعبان قائلاً: ((يا أيها الناس، قد أظلّكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعًا، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة)).
أيها المسلمون، أيها الصائمون، اليوم الجمعة، وهو الأول من شهر رمضان لعام ألف وأربعمائة وخمس وعشرين للهجرة، فقد أطلّ علينا هذا الضيف العزيز على قلب كلّ مؤمن، إنه شهر الخير والبركات، شهر القربى والعبادات، شهر الإنجازات والانتصارات. فيه تفتح خزائن الفضل والرحمة والإحسان، تقبِل ليالي الجود والعفو والغفران لقول رسولنا الأكرم: ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلِّقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين)). والحكمة من ذلك حتى يكون للناس حافز بالإقبال على الله عز وجل، وبالتوبة الخالصة لله رب العالمين، فإن باب التوبة مفتوح على مصراعيه، ينتظر التائبين المستغفرين العابدين، فهل من تائب يتوب لله عز وجل؟ هذا الشهر الذي أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، سنصلي ـ بإذن الله ـ خمس جمَع في هذا الشهر الفضيل، وفي ذلك مزيد ثواب، ولا صحّة لما يشاع لدى العامة من الناس بأنهم يتشاءمون من شهر فيه خمس جمع، فالأمر يدعونا إلى التفاؤل، لا إلى التشاؤم، ويدعونا إلى الحصول على المزيد من الثواب إن شاء الله. وطوبى لمن صلى الجمعة في المسجد الأقصى المبارك في هذا الشهر الفضيل، فيكون قد جمع ثلاث فضائل: الجمعة له فضيلة، والأقصى له فضيلة، والصوم له فضيلة. فاحرصوا ـ أيها المسلمون ـ على صلاة يوم الجمعة في المسجد الأقصى المبارك.
وعليه نقول: ينبغي على كل مسلم يتمكن من الوصول إلى المسجد الأقصى أن يشد الرحال إليه، وإن من يستطيع الوصول إلى الأقصى ولم يأت إليه فإنه يكون آثمًا شرعًا.
ونقول للذين يقيمون الجمعة في مساجد أحياء وضواحي القدس، نقول لهم: أن يتقوا الله في الأقصى، وينبغي عليهم التوجه إلى الأقصى في جميع أيام الأسبوع، وبخاصة يوم الجمعة، سواء أعجبتهم الخطبة أم لم تعجبهم.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، إن المسلمين في هذا الشهر يعيشون عبادة متواصلة من صلاة للتراويح وتلاوة للقرآن الكريم، في الوقت نفسه فهم يُمتحنون امتحانًا شديدًا لما يشاهدونه من معاص وتحديات ومنغصات وتجاوزات بفعل الاحتلال البغيض خلال هذا الشهر الفضيل، فإن هذا الشهر شاهد يوم القيامة بالإحسان لمن أحسن، وبالإساءة لمن أساء، والعاقبة للمتقين، فطوبى للصائمين، والويل للمفطرين، والويل للمنغصين.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، بحمد الله وتوفيقه بدأ المسلمون في مختلف الأقطار صومهم في يوم واحد، ونسأل الله العلي القدير أن يجمع صفوفهم ويوحد كلمتهم ويرفع رايتهم، راية "لا إله إلا الله محمد رسول الله". ونتوقع أن يكون عيد الفطر السعيد لدى جميع المسلمين في يوم واحد أيضًا إن شاء الله، لنطمئن على عباداتنا، كيف لا والصوم ركن من أركان الإسلام؟!
هذا وقد وزعت عدة إمساكيات دون مراجعة دور الفتوى لها، مما أدى إلى وقوع بعض الأخطاء المطبعية والعلمية فيها، ومنها موعد صلاة عيد الفطر، فإن موعد صلاة عيد الفطر هو الساعة السادسة وأربعون دقيقة. وسننبه إلى هذا الموعد قبيل حلول عيد الفطر، ونقول للصائمين أن يتأكدوا من دقة وقت المغرب حين الإفطار، وكذلك بالنسبة لأذان الفجر حين الإمساك.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، هل صحيح أن شهر رمضان هو شهر خمول وكسل ومضيعة للوقت وتوقف عن العمل؟! والجواب: إن هذا الشهر في الحقيقة هو شهر عمل ونشاط واندفاع لعمل الخير والعبادة وتحقيق الانتصارات.
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأواخر أشد، وكان يحيي ليله، ويوقظ أهله، ويشد المئزر.
وكما هو معلوم يعرف شهر رمضان بشهر الانتصارات؛ لأن الانتصارات المهمة في تاريخنا الإسلامي قد وقعت في شهر رمضان، فقد كان النصر فيها حليف المسلمين الصائمين.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، يتوهم بعضٌ بأن الصوم هو الامتناع في نهار رمضان عن تناول الطعام والشراب والجماع فقط، فهل هذا صحيح؟! والجواب: لم يكتف الإسلام بأن يكون الصيام هو الامتناع عن الأكل والشرب والجماع فقط، بل أوجب الامتناع عن ارتكاب المعاصي، وأوجب الكف عن الآثام كالكذب والغيبة والنميمة وقول الزور والخوض في أعراض الناس، كما أوجب ديننا العظيم حفظ اللسان عن فحش الكلام وأرذله.
وهناك ـ يا مسلمون ـ عشرات الأحاديث النبوية التي توضح ذلك، منها قوله: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) ، وقوله: ((ليس الصيام من الأكل والشرب فقط، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل: إني صائم)) ، وفي الحديث القدسي: ((قال الله عز وجل: كل عمل ابن ادم له إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، والصيام جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم)).
إذًا يا مسلمون، ما فائدة صيام من يفحش في كلامه ويؤذي الناس بلسانه؟ وقد أجاب رسولنا الأكرم محمد عن ذلك بقوله: ((رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش)) ، وفي رواية أخرى: ((كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)). فما بالكم ـ أيها المسلمون ـ فيمن يسب الدين والرب والعياذ بالله وهو صائم بحجة أنه عصبي ومزاجي في الصيام؟! فهل يبقى مسلمًا؟! إنه خرج من الإسلام وبئس المصير، والله غني عن العالمين وعنه وعن صومه، سواء كان صائمًا أو غير صائم.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، توبوا إلى الله رب العالمين توبة نصوحًا لعلكم ترحمون وتنتصرون. ها قد أطل عليكم شهر التوبة والمغفرة والعبادة، فأحسنوا صيامه وقيامه، وضاعفوا فيه الطاعة، وحافظوا على حرمته، وتزودوا لآخرتكم فإن خير الزاد التقوى، قال رسولنا الأكرم : ((الطهور شطر الإيمان، وسبحان الله والحمد لله تملأ الميزان، والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض، والطهور نصف الإيمان، والصوم نصف الصبر)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، مع حلول شهر رمضان المبارك لا تزال هناك قضيتان ساخنتان تواجهان شعبنا الفلسطيني المرابط:
القضية الأولى: بشأن الاجتياح الإسرائيلي العسكري الاحتلالي لشمال قطاع غزة منذ أسبوعين، مما أدى إلى استشهاد ما يزيد عن مائة شخص من الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء، وهدم العشرات من المنازل والمصانع والمكاتب، وقلع الآلاف من الأشجار المثمرة، وذلك بأسلحة أمريكية فتاكة. أمريكا التي استعملت حقّ النقض "الفيتو" في مجلس الأمن إمعانًا منها في معاداتها للإسلام والمسلمين، ويخطئ من يظن أن الشعب الفلسطيني سيستسلم أو أنه سيركع أو أنه سيرفع الراية البيضاء.
إن الشعب الفلسطيني شعب مؤمن له جذوره في الأرض المباركة المقدسة، وإنه سيستمر ثباته لما عنده من إيمان وحقّ شرعي، في الوقت نفسه ندين الصمت العربي المريب من قبل الأنظمة العربية، فإن الصمت لن يفيدها، ولن يثبت كراسيها، ولا يصح إلا الصحيح، وليقضي الله أمرًا كان مفعولاً.
هذا وستقام صلاة الغائب على أرواح شهدائنا الأبرار في غزة والعراق وأفغانستان.
القضية الثانية: تتعلق بالمسجد الأقصى بشكل عام، والمصلى المرواني بشكل خاص، إنه الأقصى الذي يرتبط به مليار ونصف المليار مسلم في العالم ارتباطًا عقديًا إيمانيًا.
إن باحات الأقصى تمثل جزءًا لا يتجزأ من الأقصى دينيًا وتعبديًا، إنها تستوعب ما يزيد عن ثلاثمائة ألف مصل. إذًا ما معنى تحديد السلطات الإسرائيلية المحتلة لأعداد المصلين وأعمارهم؟! والمعلوم أن باحات الأقصى مكشوفة، وليست فيها إنشاءات ولا مبان، وإذا كانت السلطات المحتلة حريصة على أرواح المسلمين فلماذا تحدد الأعمار وتحرم الشباب من الصلاة؟! فهل هذا هو العلاج؟!
إن الإجراءات الاحتلالية منذ عام 1967 وحتى الآن تهدف إلى حرمان المواطنين من العبادة، وبخاصة في شهر رمضان المبارك عبر السنوات الماضية، وهذا يتعارض مع حرية العبادة، ويتعارض مع أبسط حقوق الإنسان.
إن الأقصى للمسلمين وحدهم، وإن الأروقة للمسلمين وحدهم، ولن نقبل بأي مشاركة في إدارة المسجد الأقصى المبارك لغير المسلمين.
وسيبقى أهل بيت المقدس وأكناف بيت المقدس الحراس والسدنة للأقصى، ولن يتخلوا عنه بأي حال من الأحوال، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا ما أصابهم حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك)) ، قيل: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ((ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس)).
(1/3432)
قنوات تسرق منا رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, الكبائر والمعاصي
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
1/9/1425
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شكر الله على بلوغ رمضان. 2- سارقو رمضان. 3- نشاطات القنوات الفضائية الفاسدة في رمضان. 4- بعض ما يعرض في هذه القنوات الهابطة. 5- أهداف هذه القنوات. 6- ظاهرة التناقض في المجتمع. 7- دعوة للإقلاع عن مشاهدة هذه القنوات. 8- أثر هذه القنوات في الحياة الاجتماعية. 9- ظاهرة تكريم الممثلين والممثلات. 10- من أحوال السلف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى واحمدوه واشكروه على أن بلغكم شهر رمضان، رمضان النور والذكر والخير والطهر، فيه ليلة القدر والذكريات الكثر، فيه عزّ الفتح وفيه نصر بدر، وفي ختامه بهجة العيد وفرحة الفطر.
أيها المسلمون، نسمع عن سرقة الجواهر والأثاث والدنانير وعن الاعتداء وقطع الطريق، لكن كيف يُسرق من الناس رمضان؟! نعم إخوتي، من أولئك الذين يسرقون من المسلمين رمضان ثم يعلنون على صحف الجرائد سرقاتهم هذه لتلك اللحظات المباركة في هذا الشهر العظيم؟! وكيف واتَتهم الجراءَة ليسرقوا هذا الشهر الكريم بعد أن مثّلوا وخرّبوا أوقاتِ الشهور الأخرى التي لم يكفِهم الفساد فيها فجلبوه إلى رمضان؟! لعلّكم إذًا عرفتم هؤلاء السارقين، إنهم من اعتدى على الأمّة قبل وبعد وأثناء رمضان، فانبروا بقنواتهم الفضائية المهترئة وباسم الترفيه عن الصائمين بطرح برامج ومسلسلات لهم تتنافس فيما بينها لسرقة رمضان وجوِّه الروحي من عباد الرحمن الذين رضوا بها فشاهدوها مضيِّعين معنى الصوم الحقيقي وهو التقوى، فمن لم يدع قول الزور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه.
أيها الإخوة، في رمضان يعطى السائل ويغفَر للتائب، تتّصل القلوب ببارئها، تمتلئ المساجد؛ هذا مصلٍّ، وهذا ذاكر، وآخر يتلو كتاب ربّه، كلهم يرجون الأجر والتخلّص من أوزار الذنوب. ترى هؤلاء وتحمَد الله، لكنك تحزن وأنت ترى بالمقابل فئامًا من الناس يستقبلون رمضان انتظارًا لأن تتسلّط عليهم هذه القنوات ببرامجها التافهة التي تحمل شرًا وفسقًا ورقصًا وعريًا، والأعظم استهزاء بدين الله وشرائعه وتشويهًا للتاريخ ومراجعه. فما الذي دهى القوم؟! قد يكون هدف هذه القنوات ماديًا لجلب المال، ولكن بالمقابل كيف بمن أضاع فرصة رمضان العظيمة بالمغفرة والرحمة والعتق من النار ليشتري بدلاً منها وزرًا وإثمًا؟! ثم ألم يكف هذه القنوات ورجالها ما أفسدوه خلال العام في بيوت المسلمين ليعتدوا على هذه الشهر الكريم بهذا الفسق والفجور بالبرامج الرمضانية كما يسمونها؟! ما الذي دهى القوم؟! وأيّ قناعات تسرّبت إليهم ليجعَلوا من شهر التقى والعفاف موسم حياة لاهية وسمر عابث؟! أين هم من النداء الرمضاني ((يا با غي الخير أقبل، ويا با غي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار في كل ليلة)) ؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المسلمون الصائمون، إن البرامج الفضائية كما هو مشاهد أنها تنشط في رمضان بشكل عجيب، ويتضاعف جهود المحطات وقنوات البث، وهذا لا يتعارض مع حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه أن رسول الله قال: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين)) وفي رواية مسلم: ((وصفدت الشياطين)) لأنّ الذي يسلسل هو الشياطين من الجن كما جاء في رواية الترمذي وابن ماجه: ((ومردة الجن)) ، لكن الذين وراء هذه البرامج هم مردة شياطين الإنس ممن يتسمّى بأسماء إسلامية، وبعضهم من هذه البلاد، لكنه مع الأسف يتنكّر لدينها وأهلها، بل وعاداتها وتقاليدها المرعيّة بهذه البرامج ودعمها المادي وهي التي لا هدف لها إلا إزالة الأجر والثواب الذي حصل عليه العبد في نهار رمضان، فتأتي هذه البرامج وتقضي عليه بالليل. لكن هؤلاء الشياطين لم يدَعوا الصائمين من جمع الحسنات حتى في النهار، هي تعمل طوال ساعات الليل والنهار، فانشغل الكثيرون حتى في نهار رمضان عن الذكر والاستغفار وقراءة القرآن، وجلسوا أمام هذه القنوات، واكتفوا من الصيام بالإمساك عن الطعام فقط.
قد يتهمني البعض ـ إخوتي ـ بالمبالغة والتهويل، لكن تعالوا إلى حديث صريح نناقش إخواننا فيه المتابعين لتلك البرامج هدانا الله وإياهم.
أيها المسلمون، هل ينكر أحدٌ منا أن الله حرم علينا ـ معاشر الرجال ـ النظر إلى المرأة الأجنبية؟! ولا أتكلم عن الخلاف المعروف بين الفقهاء في وجه المرأة لأن الذي يعرض على التلفاز وجه المرأة وشعرها وصدرها وذراعاها وساقاها، وربما أعظم من هذا، هل ينكر أحدٌ منا أن الإسلام قد حرّم علينا الاستماع إلى الغناء وآلات الطرب واللهو؟! ولا يمكن أن تخلو برامج هذه القنوات من أصوات الموسيقى المحرمة. كل هذا ـ أيها الأحبة ـ لو سلّمنا بأن ما يعرض على الناس هو النساء والموسيقى، ولكن الواقع أن الأمر أعظم من هذا، واعذروني أن أخدش سمع أولئك الذين عافاهم الله من هذا البلاء، ولكن الوعي له تبعاته.
إن الذي يعرض على الناس الآن في رمضان الشرك والكفر بالله تعالى، يعرض على الناس السحر والشعوذة والزندقة، ويعرض على الناس تمثيليات الجنس ومسلسلات العشق والغرام والكذب والسيئ من الأخلاق، يعرض على الناس الزنا الصريح، يعرض على الناس صور الجريمة وأساليب النصب والاحتيال، يعرض على الناس التهوين بحجاب المرأة والاستهزاء بعباءتها ونقابها وعادات المجتمع وتقاليده، يعرض على الناس برامج منتجة في بلاد عربية مسلمة وأغلب القائمين على إنتاجها وتمثيلها نصارى يحاربون الله ورسوله، يعرض على الناس الخمر والمخدرات. قنوات غنائية تبثّ على مدار الساعة أغاني يستحي الإنسان من وصفها فكيف بصوَرها وكلامها ورقصها؟! وهي لا تستحي أن تتوقّف حتى في رمضان تُرى هل تبلّدت أحاسيس الناس؟! وهل ماتت الكثير من الفضائل الإسلامية في نفوسهم حتى صاروا يتقبلون أن ينظروا في الشاشة رجلاً يحتضن بنتًا شابّة على أنه أبوها؟! ونحن مطالبون أن نأخذ الأمر بعفويّة وطبيعية يدعوننا إليها.
وصرنا لا ننكر وجود رجلٍ وامرأة في وضع الزوجين، ونصِف الرجل بأنه ممثل محترم وأنها ممثلة قديرة، وصرنا لا ننكِر أن تظهر المرأة حاسِرة الرأس كاشفةَ الشعر والرقبة والذراعين والساقين، ثم تهريج وإضحاك غير منضبط واستهزاءٌ بالشعوب واللهجات وانتقادٌ واستهزاءٌ لما حسن من العادات.
برامج تجعل من العادة مناظر احتساء الخمور والتدخين والاغتصاب والسرقات والقتل والسباب بأقذع الألفاظ، وتقبَّلنَا كلَّ هذا على أساس أنه تمثيل، وكل هذا متّفقون جمعيًا على أنه حرام مضادّ لأمر الله عز وجل، فهم يستهزئون بدين الله حين يظهرون رجال الدّين على أنهم من كلّ شرّ قريب، ويظهرون أنفسهم بهيئاتهم المزرية على أنهم المصلِحون المجدِّدون.
أيها الصائمون، أسألكم وأنتم تعرفون الجواب: هل يتناسب كل ما ذكر مع رمضان شهر جمع الحسنات وشهر نزول الرحمات والبركات؟! كيف تنزل الرحمات على البيوت؟! ما هذه التناقضات التي نعيشها؟! نمسك عن الطعام والشراب ولا نمسك عن النظر والاستمتاع، هل الصيام فقط الامتناع عن الأكل والشرب؟! من كان لا يعرف الصيام إلا بهذه الصورة مخطئ وجاهل، الصيام هو صيام الجوارح كلها لكي يخرج في النهاية لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
فهل مشاهدة هذه البرامج تكسب التقوى؟! إنها تقضي على البقية الباقية من إيمان العبد. كيف نرضى لأنفسنا أن نرتكب المحرم ونحن صائمون؟! كيف نرضى أن نخالف ونطيع في نفس الوقت؟! إنها لمن المتناقضات العجيبة.
وإذا كان لا بد من هذه البرامج في حياتك ـ أخي المسلم ـ ووصلتَ إلى قناعة أنه لا يمكنك الاستغناء عنها وهي في حياتك بمثابة الهواء والماء كما هو حال البعض هدانا الله وإياهم وعافاهم فلا أقلّ من أن تتركه في رمضان لكي لا تجرح صيامك وتنقص الأجر.
فاتقوا الله أيها الصائمون. يا من ابتلي بمشاهدة هذه المحرمات، إننا نخاطب الإيمان الذي في قلوبكم ونخاطب الصيام الذي تصومون أن تتقوا الله جل وتعالى وأن يستحي الواحد منا من ربه فلا يعصيه ويخالفه وهو صائم أو مفطر، ولا يعصيه بنعَمِه التي أنعمها عليه، فهل هذا شكرٌ لله أن بلّغك رمضان حين حال الموت بين البعض وبين بلوغهم رمضان فماتوا قبل رمضان فلم يدركوه؟!
يا عبد الله، يا من أيام عمره في حياته معدودة، يا من عمره يقضى في الساعة والساعة فيما لا فائدة منه، يا كثير التفريط في قليل البضاعة، يا شديد الإسراف، يا قوي الإضاعة، كأني بك عن قليل ترمى في جوف قاعة مسلوبًا لباس القدرة وبأس الاستطاعة، وجاء منكر ونكير في أفظع الفظاعة، كأنهما أخوان من الفظاظة من لبان الرضاعة، وأمسيت تجني ثمار هذه الزراعة، وتمنيت لو قدرت على لحظةٍ لطاعة، وقلت: "ربّ ارجعون" وما لك كلمةٌ مطاعة، يا متخلّفًا عن أقرانه قد آن تلحق الجماعة، وتعلن التوبة عن تلك الآثام هذه الساعة.
أيها المسلمون الصائمون، إننا نخاطب الإيمان الذي في قلوبكم أن تحفظوا نعمة البصر ولا تطلقوها في النظر إلى ما حرم الله، فإن النظر سهمٌ من سهام إبليس. إن النظر بمنزلة الشرارة في النار، ترمَى في الحطب اليابس، فإن لم تحرقه كله أحرقت بعضه.
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرةٍ فعلت في قلب صاحبها فعل السهام بلا قوسٍ ولا وتر
والمرءُ ما دام ذا عينٍ يقلبها في أعين الغيد موقوفٌ على الخطر
يسرُّ مقلتَه ما ضرّ مهجتَه لا مرحبًا بسرورِ عاد بالضرر
إن من غضّ بصره عما حرم الله عليه عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خيرٌ منه، فكما أمسك نور بصره عن المحرمات أطلق الله نور بصيرته وقلبه، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره في محارم الله، وهذا أمرٌ يحسه الإنسان من نفسه، فإن القلب كالمرآة والذنوب كالصدأ فيها، فإذا خلصت المرآة من الصدأ انطبعت فيها صور الحقائق كما هي، وإذا صدأت لم تنطبع فيها صور المعلومات، فيكون علمه وكلامه من باب الخوض والظنون.
ثم بعد هذا كله أيها الآباء، ما ذنب الأولاد أن نربيهم منذ الصغر والنساء المحصنات في البيوت على مسلسلات الخلاعة والمجون ويكبرون على التناقضات، فيتربى الطفل منذ الصغر والمرأة في المنزل وعندهم أن لا مانع من النظر إلى النساء والاختلاط بين الشاب والبنت، ولا ما نع من رؤية الفواحش، ولا مانع من رؤية مناظر الخمور والدعارة، ومع هذا كله نعلمه أن لا مانع من أن يصوم ويسمك عن الطعام والشراب، ولكنه لا يطلق بقية جوارحه والله المستعان. ما ذنب الأبناء والنساء؟! ثم يشتكي الواحد منا بعد ذلك من ولده أنه وقع في هذه البلوى أو تلك أو من أذية امرأته أو خطئها.
أيها المسلمون، هذه القنوات في حياة الناس تدخلت في كل شيء، وغيرت ترتيب وجبات الطعام عند بعض الناس، فصارت الوجبات ملتزمة بمواعيد البرامج، وأحيانًا يأتي موعد الوجبة الغذائية ويمضي والمشاهدون مشدودون للتلفاز دون اهتمام بحاجة الجسم للطعام ودون شعور بالجوع في بعض الأحيان، وذلك عندما يبلغ السكر منتهاه.
لقد غير التلفاز طريقة تجمُّع الناس، لقد كان هناك تزاورٌ بين الجيران في السابق وكانت هناك أحاديث جميلة وتسامر نظيف واهتمام بمشاكل البعض، أما الآن فكلَّ ليلٍ الأسَرُ مشغولةٌ بمتابعة الأفلام، وتعدّى الأمر حتى إلى العجائز وكبار السن والله المستعان.
بل إن الأسرة الواحدة واسألوا أنفسكم يا بعض الآباء يا من غفلوا عن بيوتهم وأولادهم: أفراد البيت على كم مرة تلتقي في الأسبوع بكامل أفراد البيت غير أوقات الطعام والتلفاز لتتحدثوا عن موضوعٍ معين، أو على الأقل تجلس معهم ـ أيها الأب ـ لكي يكتسبوا من أخلاقك؟ ومتى سوف يتعلمون منك التعقل والحكمة والاتزان؟! ومتى يقتبسون من أفكارك وآرائك أيها الوالد؟!
إذا كنت الآن وفي هذا السن لا تجلس معهم فمتى يكون إذًن؟! فبعد أن يكبر الأولاد الالتقاء معهم يكون في المناسبات، فالتلفاز لم يترك وقتًا للالتقاء الأسريّ ولا للتجمع العائلي، وليس هناك مجال لتبادل الخبرات والتجارب، والجواب أتركه لكل والد.
أين هذا الحال الرمضاني الذي نتكلم عنه عن حال سلفنا وقدواتنا في رمضان حين كانوا يقيمون ليله بالقرآن ويصومون النهار ويجرّدون فيه السيوف ويبعثون الجيوش لنصرة الإسلام؟! بل أين هدوء ليالي رمضان التي كنا نعرفها قديمًا، حين كان لليل رمضان جوّه الخاص وشفافيته الفياضة وروحانيته الخاصة، بين قارئ لكتاب الله ومستغفر بالأسحار وقائم يصلي لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء؟! الكلُّ في هدوءٍ وسكينةٍ، فجاءت هذه القنوات في رمضان وحرمتِ الناسَ تلك السكينة وذاك الهدوء بأفلام رعاة البقر ومسلسلات العنف والجريمة الدرامية وجولات المصارعة الحرة والمشاهد الفكاهية المستهزئة والأغاني المائعة، والأدهى من ذلك كله أن يخدع الناس في رمضان ببعض الأفلام التي يسمونها الإسلامية أو المسلسلات الدينية، فالفاسقون من الممثلين الذين كانوا في شعبان يمثلون أفلام الخلاعة والتفاهة إذا جاء رمضان مثّلوا أدوار الصحابة في تمثيلياتهم، فهذا خالد بن الوليد وعمر بن عبد العزيز وآخرها هارون الرشيد، وقد مثلوا قبل ذلك أدوارَ الفِسق والفجور، والممثّلة الساقطة التي كانت في شعبان تُقبّل على شاشات التلفاز ويمارس معها الفساد والفجور تخرج في رمضان بحجابٍ وجلباب طويل لتمثّل دور الصحابيات أو زوجة أحد الشخصيات الإسلامية بلغةٍ ركيكة، وكأنهم يستهزئون بنا، أيّ مغالطةٍ أعظم من هذا؟! بل أيّ منكر أعظم من هذا؟! وكثير منا ينظر ويتقبل الأمر بشكل طبيعي، فهل ماتت الغيرة عندنا حتى على أصحاب رسول الله ؟! وإذا كان هناك برامج وأخبار صادقة وتحاليل وحوار فإنها مع الأسف ضاعت وسط هذا الركام النتن لتلك البرامج التي يتبعها كثرةٌ من الناس في غفلةٍ عظيمة.
فلنتّق الله أيها المسلمون، ولنعرف لرمضان حقه وحرمته ولنترك المعاصي والذنوب، ونتوب إلى الله توبة صادقة في هذا الشهر، فإنها والله فرصة، والمحروم من حرم ذلك، وإنها مسؤولية عظمى على عاتق الأنظمة والشعوب في نبذ هذه البرامج ومحاسبة أهلها والتضييق عليهم بدلاً من أن تفتح لهم قنواتنا ليبثوا فسادهم ونترك لهم جرائدنا ليعلنوا بها فاحشتهم، بل الأدهى والأمرّ حين يكرَّمون وتصرَف لهم الأوسمة وأثرهم في الأمة أعظم ممن يفسد الأمن ويسرق المال، فكيف يكرَّمون وهم أفسدوا الأمن الأخلاقي والأمن الفكري؟! لماذا يكرمون؟ ألأنهم أفسدوا الأمة؟! لماذا يقدَّمون وتفتح لهم الأبواب المغلقة على غيرهم من الجادين؟! ألأنهم ألهو الشعوب عن قضاياهم الكبرى المصيرية؟! لماذا يبرزون؟! ألأنهم بذلوا الأموال الطائلة لهذا الإفساد في وقت تذبح فيه كرامة الأمة وتراق دماؤها وتدنّس مقدساتها وجثث أبنائها وأعراض نسائها على الطرقات ومسلسلات رمضان هذا العام تكلّف أصحابها أكثر من مائة مليون دولار ينفقونها ثم تكون عليهم حسرة وسببًا لإفساد الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [لقمان:1-9].
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه، واعلموا أن ربكم بفضله ومنّه قد جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه بطاعته، فبادروا ـ وفقكم الله ـ إلى الخيرات، وأصلحوا من أحوالكم، فالمسؤولية عظمى والمحاسبة دقيقة.
أوصى أبو ذر رضي الله عنه أصحابه يومًا فقال: (إن سفر القيامة طويل، فخذوا ما يصلحكم، وصوموا يومًا شديد الحر لحرّ يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور، وتصدقوا بصدقة السر ليوم العسر)، ولما قيل للأحنف بن قيس إنك شيخ كبير والصوم يضعفك قال: "إني أعدّ لسفر طويل، والصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذاب الله".
فانظر لآثارهم وأفعالهم يا عبد الله، واقتدِ بهؤلاء، واستكثروا من الطاعات والنوافل من بعد الفرائض استغلالاً لشهركم، واسعوا في قضاء حوائج المحتاجين، وتفقدوا أحوال المساكين، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "أحبّ للصائمين الزيادة في الجود في شهر رمضان اقتداءً برسول الله ".
إنه شهر القرآن عباد الله، فيه تصفو القلوب، وتزكو النفوس بالإقبال على الصلاة وقراءة آي القرآن الكريم، من صامه إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، بشر بقدومه رسول الله صحابته فقال: ((أتاكم رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمة ويحّط الخطايا ويستجيب في الدعاء، ينظر تعالى إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرًا، فالشقي من حرم فيه رحمة الله)) حديثٌ رواه الطبراني وصححه الألباني.
(1/3433)
كتب عليكم الصيام
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
24/8/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقصد العبودية لله تعالى. 2- تنوّع العبادات. 3- ركنية الصوم. 4- الفرح بنعمة إدراك رمضان. 5- من خصائص رمضان. 6- أصناف الناس في هذا الشهر الكريم. 7- المقصد من الصيام. 8- شروط وجوب الصوم. 9- صوم المسافر والمريض. 10- فضل صلاة التراويح. 11- تفنيد شائعة أن أذان الفجر واقع قبل الوقت الشرعي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ كلَّ مسلمٍ موقنٌ بأنّ الله تعالى إنَّما خلَقَه لعبادَتِه، فالغايةُ مِن خلقِنا ـ معشرَ الثقلين الجنّ والإنس ـ عبادتُنا للهِ جلّ وعلا، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. تلك العبادةُ التي حقيقَتُها إخلاصُ الدِّين لله وتعلّقُ قلبِ العبد بربِّه محبّة وخوفًا ورجاءً، يعتقِد حقًّا أنّ الله وحدَه المستحقّ للعبادة دونَ ما سواه، فيكون دعاؤه لله ورجاؤه لله واستغاثته بالله واستعاذته بالله وخشيتُه وخشوعه لله جلّ جلاله، فقلبه متعلِّقٌ باللهِ في كلِّ أحوالِه.
ثمّ إنّه تعالى رحِم العِبادَ بأن شرَعَ لهم عباداتٍ متنوّعةً، شرَع لهم عباداتٍ ونوّع لهم تلك العباداتِ، وحِكمته تعالى مِن شرعِها ليزدادَ الإيمانُ وتتضاعَف الأجورُ وتقوَى الرّغبةُ في الخير، وسبحان الحكيم العليم.
خَلقُ الثقلين لم يكن سَفَهًا ولعِبًا، وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الدخان:38، 39]. حِكمتُه تعالى تأبَى أن يتركَ عبادَه سدًى بلا أمرٍ ولا نهي؛ لذا رحِم العبادَ فشرَع لهم عباداتٍ متنوِّعةً، كلُّ عبادةٍ من تلكم العبادات رتَّب عليها الأجرَ العظيم والعطاء الجزيل. نوَّع العبادات تمحيصًا لإيمانِ المؤمن، فإنّ من عباد الله من يقبَل فرضًا ولا يقبَل آخر، والمسلمُ الحقّ يقبَل فرائضَ الله كلَّها، ويؤمِن بوجوبها، ويعتقِد ذلك، ويطبِّقها كما افترَض الله عليه، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2، 3].
أيّها الإخوةُ، فأعظمُ أمرٍ هو عبادةُ الله وإخلاصُ الدّين له، ثم بقيّةُ أركانِ الإسلام العمليّة ما بين عبادةٍ متعلّقة بذاتِ البَدَن كالصلوات الخمس، وعبادةٍ متعلِّقة بالمال كالزّكاة، وعبادةٍ متعلِّقة بالمال والبَدَن كالحجّ وكالجهادِ في سبيل الله، وعبادةٍ متعلّقة بكفّ النّفس عن مشتهياتِها وما تهوَى كعبادة الصيام. فإذا وفَّق الله العبدَ فاستكمَلَ أركانَ إسلامه بإخلاصٍ ويقين سهَّل الله عليه بقيَّةَ واجباتِ الإسلام وانقادَ لها عن قناعةٍ ورضا.
أيّها المسلم، ومِن هذه الأركانِ الخمسةِ صيامُ شهر رمضانَ، فصيامُ شهرِ رمضان أحدُ أركانِ الإسلام التي بُنِي عليها الإسلام، في الحديث عنه قال: ((بُني الإسلام على خمس: شهادةِ أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، وصومِ رمضان، وحجِّ بيت الله الحرام)) [1]. فصيام رمضان ركنٌ من أركانِ الإسلام بإجماع أمّة الإسلام. صيام رمضان عبادةٌ قديمة تعبَّدنا الله بها كما تعبّدَ بها مَن قبلنا من الأمم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، لكن لأمّةِ محمّدٍ في هذا الشهرِ مزيدُ فضلٍ وإحسان ليس لمَن قبلهم مِنَ الأمم، يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [آل عمران:74].
أيّها المسلمون، يرتقِب المسلمون شهرَ رمضان، ويترقَّبون هذا الشهرَ بفرحٍ وسرور واغتباط وشكرٍ لله وثناءٍ عليه. أجل، يترقَّب المسلمون هذا الشهرَ بفرَحٍ وسرور واغتباطٍ وشكرٍ لله على هذه النّعمةِ العظيمة.
أيّها المسلم، نَعم نفرَح برمضان، ويفرح المسلمون برمضانَ، لماذا هذا الفرح بهذا الشهر؟ فرِحوا به لعِلمِهم ما أعدَّ الله فيه من الثوابِ الجزيل والعطاءِ العظيم ومضاعفةِ الحَسَنات وتكفيرِ الخطايا والسيّئات. هذا الشهر المبارَك يستقبِله المسلمون بالفرَحِ والسرور، يسألون اللهَ أن يبلّغَهم رمضانَ، فإذا أدركوه وصاموه سأَلوا ربَّهم أن يتقبَّله منهم، يسألون اللهَ أن يسلِّمَهم لهذا الشهرِ ويسلِّمَ لهم هذا الشهرَ وأن يتسلَّمَه منهم متقبَّلاً.
أخي المسلم، إدراكُ رمضانَ نعمةٌ من نِعَم الله وفضلٌ من فضل الله عليك، إذ أبقَى في عمرِك أن تدركَ هذا الشهر، فعسى توبة نصوح، وعسى رجوع إلى الله، وعسى إقلاع من الخطايا والسيئات، وعسى تكفير للخَطَايا ورفع للدّرجات، وعسى دُعاء مستجاب، وعسى عمَل مقبول.
أيّها المسلم، نبيُّكم يرغِّب في رمضانَ ويبيِّن لأصحابِه فضائلَ هذا الشهر ومزايا هذا الشهرِ ترغيبًا لهم في صيامِه وحثًّا لهم على القيامِ بحقِّه.
أيّها المسلم، من خصائصِ شهرِ رمضانَ أنّ صيامَه وقيامَه سببٌ لمغفرَةِ ما مضى من الذّنوب، يقول : ((من صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفَر الله له ما تقدَّم من ذنبِه)) [2] ، و((من قام رمضانَ إيمانًا واحتِسابًا غفَر الله له ما تقدَّم من ذنبه)) [3]. مِن خصائصِ هذا الشّهر أن صيامَه يكفِّر ما بينه وبين رمضانَ الآخر من صغائرِ الذنوب، في الحديث: ((الصّلوات الخمسُ والجمعةُ إلى الجمعة ورمضانُ إلى رمضان كفّارة لما بينهنَ إذا اجتُنِبت الكبائر)) [4].
أيّها المسلم، هذا الشهرُ العظيم يستقبِله الناسُ على حسَب اختلافِ مقاصدِهم ونيّاتهم، فمِن مستقبلٍ له ليكونَ ميدانًا للتنافُس في صالح العمل، ومن مستقبلٍ له بأن يشغلَه في تتبُّع غفَلات الناس وعوراتِ الناس والبحثِ عن زلاّتهم وخطاياهم، فيذهبُ الشهر وما استفاد منه خيرًا، يقول يومًا وهذا رمضان: ((أهلَّ عليكم شهرُكم هذا، ما مرَّ بالمسلمين شهرٌ خير لهم منه بمحلوف رسول الله ، ولا مرَّ بالمنافقين شهرٌ شرّ لهم منه بمحلوفِ رسول الله ، إنّ الله ليكتُب أجرَه ونوافلَه قبل أن يُدخلَه، ويكتب إصرَه وشقاءَه قبل أن يُدخلَه، ذلكم أنّ المؤمنَ يُعدّ فيه القوتَ من النفقة للتّقوِّي على العبادةِ، ويعِدّ فيه المنافق تتبُّع غَفَلات الناس وعوراتهم، فهو غنمٌ للمؤمن)) وفي لفظ: ((فهو غنم المؤمن يغتَنِمُه الفاجِر)) [5].
أيّها المسلم، في هذا الشهر تُفتَح أبوابُ الجنّة الثمانيَة وتُغلَق أبواب النيران، وينادي منادٍ: يا باغيَ الخير أقبل، ويا باغي الشرّ أقصِر، ولله عتقاءُ من النّار كلَّ ليلةٍ، حضَر رمضانُ يومًا فقال لهم النبيُّ مبيِّنًا لهم فضلَه، قال فيه: ((إنّه شَهرُ برَكَة يغشاكم الله فيه، فينزِل الرّحمةَ ويحطّ الخطيئةَ ويستجِيب الدّعاءَ، ينظر الله إلى تنافُسِكم فيه، فأروا اللهَ من أنفُسَكم خَيرًا، فإنَّ الشقيَّ من حُرِم فيه رحمةَ الله)) [6].
أيّها المسلم، كتَب الله صيامَه علَى المسلمين تَشريفًا لهم ورَحمَةً بهم وإحسانًا إليهم وتَفَضُّلاً عليهم بما تَفَضَّل عليهم به منَ الفَضل، نادَى أهلَ الإيمان بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، خاطبَهم باسمِ الإيمان، فالمؤمِنونَ هم المستجيبون السّامعون المطيعون المنقادونَ لأوامِرِ الله، كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ وفُرِض عليكم الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، فلَستم بِدعًا من النّاس، لكنها عبادةٌ قديمة تعبَّد الله بها من قَبلكم، ولكم ـ يا أيتها الأمة ـ من الخير والفضلِ ما ليس لمن سبقكم من الأمَمِ فضلاً مِنَ الله ورحمة، كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، هنا يقف المسلم ليتأمّلَ الجزءَ من الآية: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، هذا الصومُ الذي تُعُبِّدنا به الغايةُ منه أن نحقِّق لنا جانبَ التقوى، وأن نكونَ بالصيام متَّقين لله، وكلُّ عباداتنا من صلاةٍ وزكاة وحجٍّ هي أيضًا تحقِّق التقوى، فلماذا خُصَّ الصيام بهذا فقيل: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ؟!
أجل أيّها المسلم، يتجلّى التقوَى على حقيقَتِه في حقِّ الصائم، فالصّائمُ يدَع الطعامَ ويدَع الشرابَ ويَدع النساءَ من طلوعِ الفَجر الثاني إلى غروبِ الشمس، يترُك تلك الشّهواتِ التي تميل إليهَا نفسُه بالطّبع، لكنه يتركها طاعةً لله وقربَةً يتقرَّب بها إلى الله وطاعةً لربِّه في كلّ أحواله، فبذا يكون من المتّقين. الصائم الماء والطعام والمرأة قريبٌ منه، وفي خلوةٍ لا يطّلع عليه إلا عالم السّرّ والعلانية ربّ العالمين، إذًا بالحامل له على اجتنابها علمُه باطّلاع الله عليه، خوفُه من الله إن انتهك حرمةَ هذا الشهر، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]. الصائم يمتنع عن هذه المشتهياتِ مقدِّمًا رضا ربه على هوى نفسه وشهواتها. الصائم يتركها فيعرف عظيمَ نعَم الله عليه، تركها باختياره مع وجودها عنده فهو يتذكّر من لا يملكها ولا يقدر عليها. إنه يدعوك إلى البذل والعطاء والسّخاء والإنفاق في الخير، إنه يدعها فيروّض نفسَه على قبول الأوامر وترك النّواهي، فإذا تُعُبِّد بتركِ المشتهياتِ المباحة زمنًا فليعلَم أنه متعبَّد بتركِ النواهي في كلِّ العام.
أيّها المسلم، إنّ الصيامَ لم يأتِ لتعجيزِ البَشَر ولا للتّثقيلِ عليهم، ولكن جاء رحمةً وإحسانًا بهم؛ ليحقِّقَ لهم الخيرَ ويسمو بهم إلى العُلا، ليربّيَ نفوسهم التربيةَ الإسلامية التي حقيقتُها الانقياد لشرعِ الله والخضوع لأمر الله.
أيّها المسلم، واسمَع الله يقول: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:183، 184]، ما افتُرِض العام كلّه، ولا ثلث العام، ولا سدس العام، وإنما افتُرِض شهر من اثنَي عشر شهرًا، معدودةٌ ما بين ثلاثين أو تسعٍ وعشرين يومًا.
ثم اعلم ـ أيّها المسلم ـ أنَّ المطالب بالصّوم هو المسلم البالِغ العاقِل القادِر المقيمُ، فهذا مطالَب بالصَوم أداءً في وقتِه، ومن تركه متعمّدًا دلَّ على نَقص الإيمانِ وعدَم الإيمان والتّصديق، فإن كان منكِرًا لوجوبه فذاك مرتدّ عن الإسلام والعياذ بالله، وإن كان مقرًّا بالوجوبِ فقد ارتكَب إثمًا عظيمًا وجُرمًا كبيرًا.
فالمسلم البالِغ العاقل القادِر المقيم مطالَب بالصّوم أداءً، أمّا الصغير غيرُ البالغ فليس بواجبٍ عليه، ولكن ترويضُه وتعويده على الصّيام قدرَ الممكن فذا حسَن لينشَأَ محِبًّا للصّوم وراغبًا فيه.
أيّها المسلم، المسافِر له أن يفطِر في سَفَره، وله أن يصومَ في سفره، فإن أفطَر قابلاً للرُّخصة فلا شيءَ عليه، فأصحابُ محمّد يسافرون معَه في رمضانَ، فمنهم الصّائم ومنهم المفطر، فلم يعِبِ الصائم على المفطرِ ولا المفطرُ على الصائم [7] ، ونبيّنا يقول: ((إنّ الله يحبّ أن تؤتَى رخصُه كما يكرَه أن تؤتَى معصيته)) [8] ، ومن صام لكونِه قادرًا ويخشَى من مشقِّةِ القضاء فلا شيءَ عليه.
حمزة الأسلميّ قال: يا رسول الله، إني شابٌّ قويّ، ولي جمل أعالجه أكريه وأسافر عليه، وأجِد فيّ القوّةَ على الصيام وأخشى من تبِعات القضاء، قال: ((يا حمزة، أيَّ ذلك فعلتَ)) [9] أي: فهو مجزئ. فإن صام المسافر فالصّوم جائز له وإبراء للذمة، وإن أفطر فالفطر له إن كان هذا السّفر سفرًا مباحًا في طاعةٍ أو عملٍ أو تجارة ما لم يكن سفرًا يُستعان به على معاصِي الله.
المريضُ يباح له الفِطر بنصّ القرآن: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، وهذا المريضُ يختلِف حاله، فهناك المريض العاجِز الذي قرَّر الأطبّاء عجزَه عن الصيام بصِفَةٍ دائمة، ولا يمكنه القضاء مطلقًا، كالمصابِين ببعض الأمراضِ المعلوم استمرارُها عافانا الله وإياكم، فهؤلاء يفطرون ولا قضاءَ عليهم، بل عليهم أن يطعِموا عن كلِّ يوم مسكينًا أي: كيلو ونصف من الأرز، خمسا وأربعين كيلو عن الشّهر كلّه، سواء دفعها في أوَّل الشهر أو في آخره.
أمّا المريض الذي مرضُه ليس بالأمراضِ المستمرَّة، بل هي أمراض عارضة، فإن كان هذا المرَض لا يؤثِّر صام، وإن كان يشقُّ عليه استحِبّ أن يفطِر، وإن كان المرَض يهدِّد حياتَه فإنّه يجِب عليه أن يفطرَ ويقضيَ أيّامًا أخر والله يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29].
المريضُ الذي يُصرَف له علاجٌ مستمرّ وقُرِّرت له أدويَةٌ يأخذها في ساعاتٍ متعدِّدة ككلِّ ستِّ ساعات أو نحو ذلك، إذا كان هذا العلاجُ ضروريًّا لا يمكن تأخيره بل تعاطيهِ في الأوقات المحدَّدة فإنه في حكمِ المريض يفطر، فإن قدر على الصيام، وإن تعذَّر القضاء أطعَم عن كلِّ يومٍ مسكينًا.
المرأةُ الحامِل والمرضِع إذا خافَت من ألَم الصّوم ولم تتمَكّن منَ الصّوم في حملِها أو إرضاعِها جازَ لها الفِطر والقضاء، فإن كان الأمر متعلِّقًا بذاتِ الجنين قضَت وأطعمت، وإن كان متعلِّقا بذاتها أفطَرت وقضَت ولا شيءَ عليها.
أيّها المسلمون، هذا شرعُ ربِّ العالمين، لا آصار ولا أغلالَ، ولكن رحمة بالعباد وإحسان إليهم.
كان الصّيامُ في أوّل الإسلامِ يُخَيَّر المسلم بين الصيامِ والإطعام، ثم أمَر الله بقولِه: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]. وكانوا في أوّل الإسلام من أفطرَ له أن يأكلَ ويشربَ ويأتي امرأتَه ما لم ينَم أو يصلِّ العشاءَ، فحدَث أنّ أحد أصحاب رسول الله كدَح في يومه كلِّه وعمل، وجاء لامرأته ليلتمِس عشاءً فقالت: مضى الوقتُ ولا شيء عِندنا، فبات طاويًا جائعا، وأصبح صائمًا، فغُشيَ عليه في أثناء النهار لطولِ العمل وقلّة الزاد، فعند ذلك أباحَ الله لنا الأكل والشربَ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] [10].
أحدُ الصحابة أتى امرأتَه في إحدى ليالي الصّيام، فاشتكى إلى رسولِ الله فأنزل الله: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187]، وقال: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187] [11] ، فأباحه في الليل وأبقى التحريم في النهار.
كلُّ هذا رحمةٌ من الله بنا وإحسانٌ منه إلينا، والله يقول: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة:185].
أيّها المسلم، استقبِل هذا الشهرَ بالفَرَح والسرور، واحمَدِ الله على هذه النّعمة، استقبله بتوبةٍ نصوح وإخلاصٍ لله في القول والعمل والدعاءِ الصالح وبذلِ المعروف وحسنِ الأخلاق والمحافظةِ على الصلوات الخمس في أوقاتها جماعَة والتقرّب إلى الله بما يرضيه، فالنافِلة تعدِل فريضةً فيما سواه، والفريضةُ تعدِل سبعين فريضةً فيما سواه، وهو شهرٌ أوّلُه رحمة، وأوسطه مغفِرة، وآخره عِتق من النار، فمن فطّر فيه صائمًا كان له مثلُ أجورِ الصائم من غيرِ أن ينقصَ ذلك من أجور الصّائمين شيئًا، ومَن سقَى فيه ضمآن شربةَ ماء سقاه الله من حوضِ نبيِّه شربةً لا يظمَأ بعدها، فاستقبِلوه بالفرح والسرور، واحمدوا الله على إدراكه، واسألوا الله التوفيقَ لما يحبّه ويرضاه، إنّه على كلّ شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولعموم المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (8)، ومسلم في الإيمان (16) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين (760) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الإيمان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين (759) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في الطهارة (233) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه أحمد (2/374)، وابن خزيمة (3/188)، والطبراني في الأوسط (9/21) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (3/141): "رواه أحمد والطبراني في الأوسط عن تميم مولى ابن زمانة، ولم أجد من ترجمه"، وفي إسناده أيضًا عمرو بن تميم قال الذهبي في الميزان (5/302): "عمرو بن تميم عن أبيه عن أبي هريرة في فضل رمضان وعنه كثير بن زيد، قال البخاري: في حديثه نظر"، وقال العقيلي في الضعفاء (3/260): "لا يتابع عليه"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (590).
[6] عزاه المنذري في الترغيب (2/99) إلى الطبراني من حديث عبادة رضي الله عنه وقال: "رواته ثقات إلا محمد بن قيس لا يحضرني فيه جرح ولا تعديل"، وقال الهيثمي في المجمع (3/142): "رواه الطبراني في الكبير، وفيه محمد بن أبي قيس ولم أجد من ترجمته"، وذكره الألباني في ضعيف الترغيب (592).
[7] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (1947)، ومسلم في كتاب الصيام (1118) عن أنس رضي الله عنه. وأخرجه مسلم في الصيام أيضا (1116، 1117) عن أبي سعيد الجدري وجابر رضي الله عنهما.
[8] أخرجه أحمد (2/108)، والبيهقي (3/140) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان (2742)، وقال المنذري في الترغيب (2/87): "رواه أحمد بإسناد صحيح، والبزار والطبراني في الأوسط بإسناد حسن، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما"، وصححه الألباني على شرط مسلم. انظر: الإرواء (564).
[9] أخرجه أبو داود في الصوم (2403)، وهو عند البخاري في الصوم (1942، 1943)، ومسلم في الصيام (1121) مختصرا بنحوه.
[10] أخرجه البخاري في الصوم (1915) عن البراء رضي الله عنه بنحوه.
[11] رواه أبو داود في الصوم (2313)، والبيهقي في الكبرى (4/201) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال النووي في المجموع (6/251): "في إسناده ضعف"، وقال المنذري: "في إسناده على بن حسين بن واقد وهو ضعيف"، ويشهد له حديث البراء عند البخاري في التفسير (4508) قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضانَ كلّه، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ، ولذا أورده الألباني في صحيح سنن أبي داود (2028).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربنا ويَرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول : ((من قام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه)) [1]. دلّ ذلك على فضلِ قيامِ رمضان. وإنَّ من قيامِ رمضان أداءَ صلاة التراويح، فأداؤها في الجماعة سنّة سنَّها محمّد ، صلّى بأصحابه ليلةً فصلى وراءَه أناس، وفي الليلة الثانية ازدادَ العدَد، وفي الثالثَة امتلأ المسجدُ، فلم يخرج عليهم، وقال لهم: ((عرفتُ مكانَكم، ولكن خشيتُ أن تفرَض عليكم فلا تستطيعوها)) [2]. وفي عهد أمير المؤمنين عمَر رضي الله عنه رأى الناسَ يصلّون أوزاعًا، فجمعهم على إمامٍ واحد [3] ، ووافقه الصّحابة على ذلك، فكان إجماعَ الأمة. والنبيّ لما قال الصحابة: يا رسول الله، لو نفَّلتَنا بقِيّةَ ليلَتِنا قال: ((من قام مع الإمامِ حتى ينصرِف كتِب له قيامُ ليلة)) [4] ، فحافظوا على التراويحِ وأدّوها واصدُقوا وارغبوا في الخير لعلكم تفلحون.
أيّها المؤذنون، إنّ في هذا الزمنِ تُثار قضايَا ويتكلَّم من يتكلَّم ويقول من يقول، ويريد بعضُهم أن يغيِّر ما الناس عليه وما سار الناس عليه في أوقاتِ صلواتهم، ولا شكَّ أنّ الله جل وعلا افترَض خمسَ أوقات وأنَّ جبريلَ أَمَّ النبيَّ في يومين، أي: أمَّه في اليومِ الأول في أوّل الوقت، وأمَّه في اليومِ الثاني في آخرِ الوقت، وقال: يا محمّد، الصلاة بين هذين الوقتين [5] ، والله يقول لنبيِّه: أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، ونبيُّنا بيّن طلوعَ الفجر وأنَّ وقتَ صلاةِ الفجر والإمساك عند طلوعِ الفجر الثاني، ولذا قال: ((إن بلالاً يؤذِّن بليل، فكلوا واشرَبوا حتى يؤذِّنَ ابن أم مكتوم)) ، وكان رجلاً أعمى لا يؤذِّن حتى يقال: أصبحتَ أصبحتَ [6].
في هذه الأيّام يثير بعضُهم قضيّة، ويقول: إنَّ إمساكَنا في رمضانَ متقدِّم على الوقت بعشرين دقيقة أو سبع عشرةَ دقيقة، بل قد يبالغ بعضهم فيقول: إنّكم تمسِكون في رمضانَ قبل دخول الوقتِ بأربعين دقيقة، هذه المقالةُ الخاطئة التي لم تعتمِد على دليل ولم تستنِد لبرهان، وإنما هي تقوُّلات وتنطُّعات ممَّن قَلَّ فِقهه وضعُف عِلمه وقلَّ إدراكه، وتقويمُ أمِّ القرى الموجود بأيدي الناسِ هو تقويمٌ موثوق به من هيئةٍ عِلمية موَثَّقة، وقد جُرِّب وطبِّق على أرض الواقع فوُجدَ التناسب بينه وبين طلوعِ الفجر الثاني. وهذا التقويم موثوقٌ به فلا ينبغِي لمؤذِّنٍ أن يؤخِّر أذانَ الفجر لهذه الدِّعايات وأمثالِها، بل يلتَزِم بالتقويمِ فهو إن شاء الله على حقٍّ وعلى هدى.
وقد زكَّى هذا التقويمَ بوضعِه الحاضرِ علماءُ المسلمين، وتعاقبَ عليه علماءُ المسلمين مقرِّين ومؤيِّدين ومدرِكين أنّه موافقٌ للوقت، فلا تقدُّمَ فيه كما يزعم، لا تقدّمَ فيه، بل هو موثوقٌ على حسَب التجاربِ مع طول الزّمَن، تعاقب مُلوكٌ وعُلماء على هذا التقويمِ مقتنِعين به راضِين به، فالأمر ولله الحمدُ واضحٌ جليّ لا إشكالَ فيه.
وشيخُنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله منذ سَنواتٍ ـ أي: في حدود عام ثمانية عشر وأربعمائة ـ أصدَرَ بيانًا وثَّق فيه هذا التقويمَ، وقال: إنّ وقتَه منضَبِط وأنّه كوَّن لجنةً علمية طبّقوه على أرضِ الواقع فوجدوا التناسُبَ بين التقويم وبين الوقتِ الشّرعيّ، فلا اختلافَ ولا اضطرابَ. فكلُّ دعايةٍ يُراد بها تغييرُ الواقع بلا برهان لا سيما المتعلِّقة بعباداتِ المسلمين من صلاةٍ وصيام يجب أن تُرفَضَ ولا تقبَل؛ لأنّ الأمّةَ سائرةٌ على منهَج تعاقَبَ عليه سلفُها وأَعقبَها خلفُها على هذا المنهجِ، فلا ينبغي إحداثُ شكوكٍ ووساوِسَ وأمورٍ خاطئة لا تعتمِد على دليلٍ ولا تعوِّل على برهان، وإنما هو تنطُّعٌ وتكلّف ما أمَرَهم الله به، وشريعة الإسلام سَهلَة ميسَّرة لا أغلالَ ولا آصار فيها، فالحمد لله ربِّ العالمين أوّلاً وآخرًا.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدَثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعَةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائِه الرّاشدين...
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين (759) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الجمعة (924، 1129)، ومسلم في صلاة المسافرين (761) عن عائشة رضي الله عنها.
[3] أخرجه البخاري في صلاة التراويح (2010).
[4] أخرجه أحمد (5/159)، وأبو داود في الصلاة (1375)، والترمذي في الصوم (806)، والنسائي في قيام الليل (1605)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1327) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (403)، وابن خزيمة (2206)، وابن حبان (2547)، والألباني في الإرواء (447).
[5] أخرجه أحمد (1/333)، وأبو داود في الصلاة، باب: في المواقيت (393)، والترمذي في الصلاة، باب: ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي (149) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال الترمذي: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (149)، وابن خزيمة (325)، والحاكم (1/306)، وأبو بكر ابن العربي وابن عبد البر كما في التلخيص الحبير (1/173)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (377).
[6] أخرجه البخاري في الأذان (617)، ومسلم في الصيام (1092) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(1/3434)
الاستعداد لرمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
إبراهيم بن محمد علي
غير محددة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استقبال رمضان. 2- الإكثار من الصيام في شعبان. 3- النهي عن الاحتياط لرمضان. 4- الحث على الإكثار من تلاوة القرآن. 5- التوبة إلى الله تعالى. 6- تفريغ النفس لاستقبال رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، إني أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، فهي وصية الله تعالى للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].
ثم اعلموا ـ عباد الله ـ أنّكم مقبلون على موسم من خير المواسم، نَعَم إنه موسم الصيام والقيام والإكثار من قراءة القرآن، ونحن على أبواب شهر الصيام نسأل الله تعالى أن يبلغنا إياه، فإنه يجدر التنبيه على بعض الأمور التي ينبغي للمسلم فعلها والمسارعة إليها قبل دخول الشهر ليهيّئ نفسَه ويشوّقها للخير.
ومن تلكم الأمور الصيام والإكثار منه اقتداء برسول الله ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبي يصوم شهرًا أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كله. متفق عليه. ومعنى قولها: "كلّه" أي: أكثرهُ، كما جاء عنها في رواية النسائي: لم يكن رسول الله لشهرٍ أكثر صيامًا من شعبان، كان يصومهُ أو عامتهُ. صحيح سنن النسائي (2218). قال ابن حجر رحمه الله: "كان صيامه في شعبان تطوعا أكثر من صيامه فيما سواه، وكان يصوم معظم شعبان".
وها هو شهر شعبان قد أزف على الرحيل، ولم تبق منه إلا بقية، فتداركها ـ أخي ـ بالصيام، فما هي إلا أيام قليلة، واحذر من تعمُّد الصيام من أجل الاحتياط لرمضان ومن صيام يوم الشك وهو يوم الثلاثين، فقد ورد النهي عن صيامه ما لم يكن يوافق صوما كنتَ تصومه كالاثنين والخميس وصيام يوم وفطر آخر، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا بقي نصفٌ من شعبان فلا تصوموا)) رواه الترمذي (738) وقال: "حسن صحيح"، قال الترمذي رحمه الله: "ومعنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن يكون الرجل مفطرًا فإذا بقي من شعبان شيءٌ أخذ في الصوم لحال شهر رمضان". وقال : ((لا تقدّموا رمضان بيوم أو يومين إلا من كان يصوم صوما فليصمه)) رواه البخاري ومسلم.
ومما ينبغي للمسلم كذلك الإكثار من قراءة القرآن الكريم وتدبر معانيه والعمل به، قال سلمة بن كهيل: كان يقال: شهر شعبان شهر القرّاء، وكان عمرو بن قيس إذا دخل شهر شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن.
والمسلم ـ عباد الله ـ مأمور بقراءة القرآن الكريم وتدبره في كل وقت وحين لما فيه من ذكر لله تعالى وتليين للقلب وتذكير له بالآخرة، ولما فيه من الهداية والبشارة بالجنة، قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9].
ومما ينبغي أن نسابق ونسارع إليه التوبة والإنابة إلى الله تعالى والمبادرة إلى ذلك قبل فوات الأوان، والتوبة واجبة على المسلم في كلّ حين، قال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [التحريم:8].
والتوبة من صفات الأنبياء والصالحين، قال تعالى ممتدِحًا نبيه سليمان عليه السلام: وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:30] أي: رجّاع تواب إلى الله. والله تعالى يحبّ التائب من ذنوبه، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].
فيا عبد الله، ها هو ربّك يناديك: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، وها هو الله يفرح بتوبة التائب وندم النادم، قال : ((لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم سقَط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة)) رواه البخاري ومسلم، وهو سبحانه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها. فبادر بالتوبة، ودع عنك "لعل" و"سوف"، ولا يغرنّك طول الأمل؛ فإن الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل.
فالتوبةَ التوبةَ قبل أن تصِل إليك النّوبة، والإنابةَ الإنابة قبل أن يغلق بابَ الإجابة، ولا تغترّ بالدنيا فإنها خدّاعة مكارة، فإلى متى وأنت في طلبها؟! وإلى كم الاغترار بها؟! فالبِدارَ البدار قبل مفاجأة الأجل، فلو أنّ أحدًا يجد إلى البقاء نفقًا في الأرض أو سلّمًا في السماء دون أن يُقضى عليه بالموت لكان ذلك لسليمان بن داود عليه السلام الذي سخَّر الله له ملك الجنّ والإنس، فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ [ص:36-38]، هذا مع نبوّته وعظيم زلفته، غيرَ أنه لما استوفى طُعمتَه واستكمل مُدّته رماه قوسُ الفناء بنبال الموت، وأصبحت الديارُ منه خالية، وورثها قوم آخرون.
فيا مؤخِّرًا توبتَه بمطل التسويف، لأيّ يوم أجّلتَ توبتك وأخَّرت أوبتك؟! ويحك أيها المقصّر، فلا تقنع في توبتك إلا بمكابدة حزن يعقوب عن البَين، أو بعَبرة داود ومناداة أيوب لربه في ظلمات ثلاث: "لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ"، أو بصَبر يوسف عن الهوى، فإن لم تُطق ذلك فبذُلِّ إخوته يوم أن قالوا: "إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ".
فلا تخجل من التوبة، ولا تستحِ من الإنابة، فلقد فعلها قبلك آدم وحواء حين قالا: "رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"، وفعلها قبلك إبراهيم حين قال: "وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ"، وفعلها موسى حين قال: "رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ".
فلا إله إلا الله، من يمنع المذنب من التوبة؟! ولا إله إلا الله، من يقنط من رحمة ربه إلا الضالون؟! يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (دعا الله إلى مغفرته من زعم أن عزيرًا ابن الله، ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة، يقول لهؤلاء جميعا: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:74]).
فاللهمّ تب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: معاشر المسلمين، وإن مما ينبغي للمسلم قبل حلول شهر الصيام تفريغ النفس من الشواغل والملهيات لتستقبل رمضان وهي متهيّئة للصيام بعيدة عن الشواغل وملذات الدنيا مقبلة على الآخرة، ولقد فهم السلف رضوان الله تعالى عليهم ذلك فكانوا يتهيّئون لرمضان من شهر رجب، وكانوا يتركون أعمالهم قبل رمضان ويكبّون على القرآن، بل كانوا حتى يتركون الجلوس للتعليم، كل ذلك تعظيما لرمضان وحِرصا على تهيئةِ النفوس لاستقباله، قال أبو بكر البلخي: "شهر رجب شهر الزّرع، وشهر شعبان شهر سقي الزّرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع"، وقال أيضا: "مثل شهر رجب كالريح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثَل المطر، ومن لم يزرع ويغرس في رجَب ولم يسق في شعبان فكيف يريد أن يحصد في رمضان؟!".
واعلم ـ أخي ـ أن من أهمّ ما يستقبل به الشهر دعاء الله تعالى بأن يبلّغك رمضان ويوفّقك فيه لطاعته ومرضاته، فقد روي أن النبي كان يقول: ((اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان)) أخرجه أحمد والبزار والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان وضعّفه. وكان السلف رضوان الله عليهم كما نقِل عنهم يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبّله منهم.
اللهم بلغنا رمضان، ووفقنا فيه للقيام وتلاوة القرآن، ويسر لنا صيامه وقيامه، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن الله تعالى أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك الموحدين...
(1/3435)
ذكر الله
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
عبد المجيد بن غيث الغيث
الرياض
جامع الدرعية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثناء الله تعالى على عباده المؤمنين. 2- فضل الذكر على سائر الأعمال. 3- فضائل الذكر. 4- الحث على الإكثار من الذكر. 5- مشروعية الذكر في جميع الأحوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، قد أثنى الله سبحانه على عباده المؤمنين الذين عبدوه واجتهدوا في طاعته فقال سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ [الرعد:29]، وقد أجزل الرب سبحانه العطية لمن أنفق في سبيله وأطعم الطعام لوجهه الكريم فقال: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان:9-11].
كما امتدح سبحانه من قام ليله في عبادة وتحنّث فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:15-17]. وقد وعد الله سبحانه الصائمين والمجاهدين وحجّاج بيته عالي الدرجات ورضا رب الأرض والسماوات، وكل هذه العبادات الجليلة لا يستطيعها كلّ أحد لما فيها من حرمان النفس من فضل المال وراحة الأجساد والتلذذ بالمأكل والمشرب والشهوةِ.
أيها المسلمون، روى الإمام أحمد والترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((ألا أنبّئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((ذكر الله تعالى)).
نعم عباد الله، ذكر الله أشرف ما يخطر بالبال، وأطهر ما يمر بالفم وتنطق به الشفتان، وأسمى ما يتعلق به قلب المسلم، وأسهل ما يتعبّد لله به.
وذكرُ الله هو أحب الكلام إلى الله سبحانه، ففي صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ألا أخبركم بأحب الكلام إلى الله؟)) قلت: بلى يا رسول الله، فقال: ((إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده)) ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) ، ويروي لنا سمرة بن جندب رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)).
والله سبحانه يباهي بمن يذكره ملائكتَه، ففي صحيح مسلم من حديث معاوية رضي الله عنه أنه قال: خرج رسول الله على حلقةٍ من أصحابه فقال: ((ما أجلسكم؟)) فقالوا: جلسنا نذكر الله ونحمدهُ على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا، قال: ((آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟)) قالوا: ما أجلسنا إلا ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: ((أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجلّ يباهي بكم الملائكة)) ، يباهي بهم الرب سبحانه لأنهم ذكروه جل وعلا.
أيها المؤمنون، ذكرُ الله تعالى ينال العبد به أعظم الأجور وأجزل الهباتِ بإذن الله سبحانه، فقد فقال تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35]، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ قال: ((سبق المفردون)) ، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: ((الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات)) ، وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله النبيّ : ((من قال: لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يومٍ مائة مرة كتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان، ولم يأتِ أحدٌ أفضل مما جاء به إلاّ أحدٌ عمل أكثر من ذلك)) ، ويقولُ عليه الصلاة والسلام: ((من قالَ: سبحان الله وبحمدهِ في يومٍ مائة مرة حطت خطاياهُ ولو كانت مثلَ زبدِ البحر)) ، ويقولُ عليه الصلاة والسلام لعبدِ الله بن قيس: ((ألا أدلك على كنزٍ من كنوز الجنة؟)) قال: بلى يا رسول الله، قال: ((قل: لا حول ولا قوة إلاّ بالله)).
وأبشرْ ـ يا من تحافظ على الأذكار ـ بعد الصلوات، فقد قال رسول الله : ((من سبح دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين وكبَّرّ ثلاثًا وثلاثين وحمد ثلاثًا وثلاثين وختم المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر)).
أيها المؤمنون، ذكرُ الله براءةٌ من النفاق، فقد قال الله تعالى عن المنافقين: وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142].
وذكرُ الله ـ يا عباد الله ـ شعارٌ للطمأنينة، قال الله تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]. ولا عجب أن يرتاح الذاكرون، فهذا هو الأصل الأصيل، لكن العجب العجاب كيف يعيش الغافلون عن ذكره، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:21].
وبذكر الله تُستدفع الآفات وتكشف الكربات، بل الذكر سببٌ لجلبِ الخيراتِ فإنه سبحانه قد قال: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143، 144]، وقال جل شأنه على لسان نوح عليه السلام: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].
وذكر الله تعالى علامة حبهِ سبحانه، فمن أحب شيئًا أكثر من ذكره، وبقدر إكثارك من ذكره ينبسط خاطرك ويهدأ قلبك وتسعد نفسك ويرتاح ضميرك؛ لأن في ذكره جل في علاه معانيَ التوكل عليه والثقة به والاعتماد عليه والرجوع إليه وحسن الظن به وانتظار الفرج منه، فهو سبحانه قريب إذا دعي، سميع إذا نودي، مجيب إذا سئل.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلتُ ما قلت، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه، إن ربي كان غفورًا رحيمًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
عبادَ الله، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41، 42]، ويقول جل شأنه: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10]، بل يقول تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، ويقول سبحانه: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، ويقول المصطفى : ((لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله)) ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت)) أخرجه مسلم، وتقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يذكر الله في كل أحيانه.
فقد كان عليه الصلاة والسلام يسبح ويهلل ويستغفر ما لا يحصيه العادّ، ومع هذا فقد شرِع لنا في مواضعَ عديدة أذكار لأجل أن نتلعق بالله سبحانه، فمن واظب عليها حذَا حذو رسول الله الذي كان يذكر الله في كل أحيانه، وحياة المسلم كلها ذكر، فمن السنة أن يقول المسلم حين استيقاظه من النوم: "الحمد لله الذي عافاني في بدني ورد عليّ روحي وأذن لي بذكره"، وإذا خلع المسلم ثيابه فله ذكر، وإذا دخل الخلاء فله ذكر، وإذا توضأ أو خرج من بيته أو أكل طعاما أو فرغ منه فله ذكر، بل حتى إذا رأى نفسه في المرآة أو هبت الريح أو جاء الصباح أو المساء فله ذكر، وإذا أتته نعمة أو حلت به مصيبة أو قام من مجلسه فله ذكر، إلى غير ذلك من هذه الأمور التي علمها من علمها وجهلها من جهلها، فيصبح المؤمن مدججا بسياج من الله يحفظه من كل سوء.
وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود بسند صحيح أن رجلا كان رديف رسول الله على دابة، فعثرت بهما، فقال ذلك الرجل: تعِس الشيطان، فقال الرسول : ((لا تقل: تعس الشيطان؛ فإنه عند ذلك يتعاظم حتى يكون مثل البيت، ولكن قل: بسم الله؛ فإنه عند ذلك يصغر حتى يكون مثل الذباب)).
عبادَ الله، جميع العبادات مبناها على ذكر الله تعالى، فقد قال تعالى عن الصلاة: وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، وفي السنن من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة والطواف بالبيت لإقامة ذكر الله)) ، ويقول تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200]، والصيام حفظ للِّسان ولهجٌ بذكر الله قبل أن يكون إمساك عن الطعام وسائر المفطرات.
عبادَ الله، قد حذر الله سبحانه من الغفلة عن ذكر الله سبحانه فقال: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]، ويقول جل شأنه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]، ويقولُ : ((مثل الذي يذكرُ ربه والذي لا يذكرُ ربه كمثلِ الحي والميت)).
اللهم اجعلنا ممن ذكرك فأكثر من ذكرك، وشكَرَك فأحسن شكرك، وعبدك فتلذّذ بعبادتك.
عباد الله، صلوا وسلموا على الهادي البشير وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين...
(1/3436)
مفسدات الصوم
فقه
الصوم
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
1/9/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقصد الصبر في الصيام. 2- الصوم أمانة. 3- أصول المفطرات. 4- مفسدات الصيام. 5- عذر النسيان. 6- أمور لا تفطر الصائم. 7- من أحكام صيام المرأة. 8- من آداب الصيام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، أيّها الصائمون، شرِع لكم الصيامُ لتزكية نفوسِكم وطهارةِ قلوبِكم وصِحّةِ أبدانكم وقوّةِ صِلتِكم بربِّكم وخالقِكم.
أيّها الصائمون، شهرُكم هذا يسمَّى بشهرِ الصّبر، أجل إنّه الصبرُ بكلِّ ما تحمِله الكَلمة من مَعنى، إنّه صبرٌ على طاعةِ الله، وإنّه صبرٌ عن معاصي الله، وإنّه صَبر على أقدارِ الله المؤلِمَة. أجّل أيّها الصائم، فأنت بصيامِك تصبِر على الصومِ لكونك موقنًا بأنَّ هذا طاعةٌ لله، وأنّ صيامَك عبادةٌ لله، وأنَّ صيامك قربةٌ تتقرَّب بها إلى الله. إنك تصوم أيها المسلم، تصوم رمضان صبرًا عن معاصي الله التي حرَّمها عليك، فتصبر عنها في رمضانَ لتكون صابرًا عنها مدَى العام. صبرٌ على الأقدار المؤلمة، كلّما آلمك الجوع أو العطَش وتذكَّرتَ أن ذلك في سبيل الله صبرتَ على ذلك صبرَ الموقِنِ الراجي للثّوابِ الخائفِ من العقاب.
أيّها الصائم المسلم، في الصيامِ امتحانٌ لأمانَتِك التي حمِّلت إياها، فإنَّ الواجباتِ الشرعيّةَ أمانة في عنُق العبد، والله سائلُه عنها. إذًا أنت مؤتَمَنٌ على صيامِ رمضان، إنّه عبادَةٌ بينك وبين ربِّك، سِرّ بينك وبين ربِّك، لا يطَّلع عليه إلاَّ الله، فإذا حقَّقتَ تلك الأمانةَ نِلت الثوابَ العظيم في الدنيا والآخرة.
أيّها الصائم المسلم، الصومُ أمانةٌ؛ إذ الصوم تركُ مشتهياتِ النفس: من الطعام، من الشراب، من النساء، من طلوع الفجر الثاني إلى غروبِ الشمس.
أيّها الصائم، إنّ الصومَ أمانةٌ، فاتَّقِ الله وأدِّ الأمانة وحافِظ عليها محافظةَ المؤمِنِ الموقن.
أيّها الصائم المسلِم، إنَّ تفقُّهَك في دين الله وعلمَك بما يفسِد صيامَك حتى تكون بعيدًا عن ذلك أمرٌ مهِمّ.
فاعلم ـ أخي الصائم ـ أنّ الله جلّ جلاله بيَّن لنا في كتابِهِ العزيزِ أصولَ المفطِّرات التي أجمَع المسلمون إجماعًا قطعيًّا على أنها منافيةٌ للصّيام، وهي الأكل أو الشّربُ أو مواقعةُ النساء، فتلك أمورٌ أجمع المسلمون على أنها منافِيَة للصيام ومفسِدة للصّيام ولا تتَّفِق مع الصّيام.
إذًا فيا أخي المسلم، الأكلُ والشرب منافيانِ لحقيقةِ الصيام لأنّ الله يقول: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، فأمَرَنا أن نتِمَّ الصيامَ إلى الليلِ، وجعل ميقاتَ الأكل والشّربِ إلى طلوع الفجر الثاني، وهو تبيُّن الخيط الأسود من الخيط الأبيض. وأمرنا أن نتِمَّ الصيام إلى الليل. إذًا فالأكل والشّرب مفسدان للصيام مهما كان نوعُ ذلك المأكولِ أو نوع ذلك المشروب، وسواء كان هذا الأكلُ والشّرب من طريق الفَمِ أو الأنفِ أو مِن أيِّ موضعٍ من البدَن إذا كان هذا طعامًا أو شرابًا فإنّ الصائمَ إذا تعاطاه متعمِّدًا بطَل صيامه وفسَد صيامه؛ لأنّ هذا منافٍ لحقيقةِ الصيام، ولذا قال النبيّ في حديث لقيط بن صبرة: ((وأسبغ الوضوءَ، وبالِغ في الاستنشاق إلا أن تكونَ صائمًا)) [1] ، مما يدلّ على أنّ الأنفَ منفَذٌ للجَوف، فإذا أدخِلَ الطعامُ أو الشراب من طريق الفمِ أو من طريق الأنف أو من أيِّ موضعٍ كان من البدَن وكان هذا يعطي وجبةَ طعامٍ أو شراب يتغذّى به الجسدُ فإنّ هذا منافٍ للصيام.
وثانيًا: الإبَر المغذِّيةُ التي توضَع في المريض لكي تكونَ مغنيةً له عن الطعام والشرابِ عندما يتعذَّر إدخاله من الفم ونحو ذلك فإنها أيضًا منافيَةٌ ومفسِدة للصيام.
أيها الصائم، إتيانُ الرجلِ امرأتَه في الصّيام مُنافٍ للصّيام، فإنّ الجماع في نهارِ رمضان منافٍ للصّيام بإجماع الأمّة. جاء رجلٌ إلى النبيِّ فقال: هلكتُ وأهكلت يا رسول الله، قال: ((ما فعلت؟)) قال: أتيت امرأتي في رمضانَ، قال: ((هل تجد أن تعتِق رقبةً؟)) قال: لا، قال: ((هل تستطيع أن تصومَ شهرين متتابعين؟)) قال: لا، قال: ((هل تستطيعُ أن تطعِمَ ستين مسكينًا؟)) قال: لا.. الحديث [2]. فدلَّ على أنّ إتيانَ الرجل امرأتَه مترتِّب عليه أولاً معصيةٌ لله وارتكابُ كبيرة من كبائرِ الذنوب، وثانيًا: إفسادُ ذلك اليومِ ووجوبُ الكفّارة المغلَّظة والتوبةُ إلى الله من ذلك الذنبِ العظيم.
أيها المسلم، والمسلم يتوقَّى كلَّ وسيلةٍ يمكن أن تفضِيَ به إلى الحرامِ، فيتّقي اللهَ ويراقبُ الله في نهارِهِ كلِّه ليكونَ من المؤدِّين للأمانة على الحقيقةِ.
أيّها المسلم، ومما يفسِد الصيامَ حَقنُ الدّمِ لمن احتاج إليه، فإذا أُسعِف الصائم بدَمٍ لكون الدّمِ ناقصًا عنده فإنّ إدخالَ هذا الدمِ في الجوف ومعلومٌ أثرُه في صحَّةِ البدن فإنّ ذلك أيضًا مفسِد للصّيام.
أيّها الصائم، ومما يفسِد صيامَ المسلم تعمُّدُه إخراجَ القيء من جوفه، فإنّ تعمّدَ إخراجِ القيء من الجوف مفسِدٌ للصيام؛ لأنّ النبيَّ قال: ((من استقاء وهو صائم فليقضِ، ومن ذَرَعه القيءُ فلا قضاء عليه)) [3].
احتلامُ الصائِمِ في رمضانَ لا يؤثِّر عليه؛ لأنّ هذا أمرٌ غالِب عليه ولا قدرةَ له على مَنعِه.
تعمُّدُ الصّائمِ إخراجَ المادّة المنويّة بطريق العادَةِ المستهجَنَة السّريّة أو نحو ذلك هذا أمرٌ منافٍ للصّيام؛ لأنّ الصائمَ يدَع طعامه وشرابَه وشهوته، وهذا من إخراجِ الشهوة فذاك منافٍ للصيام.
أيّها الصائمُ المسلِم، خروجُ دَمِ الحيض من المرأةِ مفسِدٌ لصيامِها ولو كان قبلَ الوقتِ بدقائقَ، وخروجُه بعد غروبِ الشمس لا يؤثِّر على صيامِها؛ لأنَّ الوقتَ قد انتهى لقوله : ((إذا أقبل الليلُ من ها هنا وأدبر النهارُ من ها هنا وغربتِ الشمس فقد أفطر الصائم)) [4].
تعمُّد إخراجِ الدّمِ بطريق الحِجامة مفسِدٌ للصّومِ بنصِّ سنّة رسولِ الله حيثُ يقول: ((أفطَر الحاجِمُ والمحجوم)) [5].
أيّها المسلم، عندما يقَع الأكلُ أو الشّرب نِسيانًا فإنّ ذلك لا يؤثِّر على الصيام؛ لأنَّ النبيَّ قال: ((من نسيَ فأكَلَ أو شرِب فليتِمَّ صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه)) [6].
أيّها المسلم، تأكَّد في فطرِك من غروبِ الشمس، ووَسائِلُ التحقُّق الآنَ ممكِنة، بطريق الساعة، مِن طريق الهاتف، من طريق وسائِلِ الإعلام، فالأمرُ جليٌّ وواضِح، فعلى المؤذّنين أن يتأكَّدوا من غروبِ الشمس ويتحقَّقوا بالوسائل الممكِنَة حتى لا يقَعَ الصائمون في حرَجٍ في صيامهم.
أيّها الصائم، لعلَّك أن تتساءَل عن أمورٍ يضطرُّ لها الصائم في صيامِه:
أوّلاً: قد يحتاج الصائمُ إلى تحليل الدّم، إمَّا في آخر النّهار أو في أوّلِه أو عند غروب الشمس لا سيّما الأنسولين السكّري وأمثاله، فالجواب أنّ هذه الإبَر التي تؤخَذ لهذه الضّرورة فإنها لا تنافي الصيامَ؛ لأنها ليس إدخالَ شيء للجوف مأكولاً أو مشروبًا.
وثانيًا: لعلّك أن تتساءَلَ عن تحليلِ الدّم، فتحليلُ الدّمِ اليسير الذي لا يؤثِّر على الصائمِ ولا يضعِفُ قوّتَه فإن شاء الله أنّه لا ينافي الصّيامَ.
ولعلّك أن تتساءَل: قد يضطرّ الصائم يومًا إلى قلعِ سِنّه فما العمل؟ نقول: إذا اضطررتَ إليه، إن أمكَنَ التأخيرُ للّيلِ فهو أولى، وإن اضطررتَ إلى قلعِه في النهار فإنّ ذلك لا يؤثِّر على صومِك وإن قُدِّر خَرَج دمٌ؛ فإنه ليس المقصود إخراجَ الدّم، إنما المقصود علاجُ هذا السّنِّ بقلعه.
وقد تتساءَلُ عن حشوِ الأسنان أثناءَ الصيام، فإنّ ذلك أيضًا لا ينافي الصيامَ ولو أعطِيتَ بَنجًا لأجل قَلع الضِّرس، فإنّ ذلك لا ينافي صيامَك.
وقد تتساءلُ أيها الصائم، وقد أصاب الناسَ شيءٌ مِن أنواع الأمراض، فيضطرّون إلى البخّاخ لأنّ النفسَ يضيق أحيانًا، ويصيبُ المصابين بداءِ الربوِ أو غيرها، فإن تحتاجون إلى هذا البخّاخ الذي حقيقتُه توسيعُ قصَبات الهواء لراحةِ الإنسان وليس مقصودُه شيئًا يدخلُ الجسم ليقوّيَه مطعومًا أو مشروبًا، فالظاهرُ إن شاء الله أنّ ذلك لا يؤثِّر على الصيام لأنّه لا يُلحَق بما يؤكَل أو يشرَب.
أيّتها المرأة المسلمة، لا بدَّ من التفقُّه في الدِّين ومعرفةِ أحكامِ الشّرع في الطّهارة وعدمِها.
فاعلمي ـ أيتها المرأة المسلمة ـ أنّ المرأةَ المسلمة الصائمة لو أصابها دمٌ وهي أثناء الحمل فإنّ هذا الدمَ لا يسمَّى حيضًا ولا ينافي الصيامَ؛ لأنّ المعروفَ أن الحاملَ لا تحيض، وما يخرُج منها من دمٍ فيعتَبَر دمًا فاسدًا.
المرأةُ المسلِمة أحيانًا تتساءَل عَمّا يحصُل لدَى النساء من أمورٍ قد تكون سببًا في تأخيرِ الدّمِ أو نُزوله على فتراتٍ متعاقبة، كالنّسوة اللواتي يستعمِلنَ ما يسمَّى باللّولِب لأجل أمرٍ ما من الأمور، فإنّ ذلك قد يؤدِّي إلى استمرار خروجِ الدّم أيّامًا متعدِّدةً، وربما بلغتِ الشهرَ كلَّه، وهذا لا شكَّ أنه مما قد تحار فيه المرأةُ المسلمة، فإذا ثبتَ عندها ذلك فإنَّ الواجب عليها أن تتركَ الصلاة والصيامَ أثناءَ العِدّة المعتَبَرة قبل هذا التغيُّر، وأنّ هذا التغيّرَ لا اعتبارَ له.
ودلَّت سنّةُ رسول الله على أنّ المرأةَ المسلمة إذا رأَت شيئًا بعد طُهرِها أنَّ ذلك لا يؤثِّر عليها، ففي حديثِ أمّ عطيةَ أنّ النبيَّ أخبرهم أنّ الكدرةَ والصفرة بعد الطُّهر لا تعتَبَر شيئًا، قالت أمّ عطية: كنَّا لا نعُدّ الكدرَةَ والصفرةَ بعدَ الطّهرِ شيئًا [7].
ودلّت سنّةُ رسولِ الله على أنّ المرأة إذا أسقَطَت جنينًا قبل أن يتخلَّق أي: قبل أن يمضيَ عليه أكثرُ من ثمانين يومًا، فإنَّ هذا السّقطَ لا تعتَبِر المرأة نفسَها نفساء؛ لأنّه لم يتبيَّن فيه خلقُ إنسان ظاهرًا، ولأنّ ما أقلّ من الثمانين يومًا لا يمكن أن يبدوَ فيه خلقُ إنسان.
أيّها المسلم، تفقَّه في دينِك، وكن على بصيرةٍ في أمر دينك، وحافظ على أمانة صيامِك.
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والسداد والعونَ على كلِّ خير، وأن يجعلَنا وإياكم من الصائمين الصادقين، إنه على كلِّ شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33].
بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئةٍ، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (4/33)، وأبو داود في الطهارة (142)، والترمذي في الصوم (788)، والنسائي في الطهارة (87)، وابن ماجه في الطهارة (407)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (80)، وابن خزيمة (150، 168)، وابن حبان (1054، 1078، 4510)، والحاكم (7094)، والنووي في شرح صحيح مسلم (3/105)، وابن حجر في الإصابة (5/685)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (328).
[2] أخرجه البخاري في الصوم، باب: إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق (1936)، ومسلم في الصيام، باب: تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم (1111) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (2/498)، وأبو داود في الصوم (2380)، والترمذي في الصوم (720)، والنسائي في الكبرى (3130)، وابن ماجه في الصيام (1676) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحوه، وصححه ابن الجارود (385)، وابن خزيمة (1960، 1961)، وابن حبان (3518)، والحاكم (1/426)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الإرواء (923).
[4] أخرجه البخاري في الصوم (1954)، ومسلم في الصيام (1100) من حديث عمر رضي الله عنه.
[5] أخرجه أحمد (3/465)، والترمذي في الصوم (774)، والطبراني في الكبير (4/242) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (1964)، وابن حبان (3535)، والحاكم (1/428)، وقال الترمذي: "وفي الباب عن علي وسعد وشداد بن أوس وثوبان وأسامة بن زيد وعائشة ومعقل بن سنان ـ ويقال: ابن يسار ـ وأبي هريرة وابن عباس وأبي موسى وبلال... وذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج"، وهو في صحيح سنن الترمذي (621).
[6] أخرجه البخاري في الصوم (1933)، ومسلم في الصيام (1155) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في الحيض (326)، وأبو داود في الطهارة (307) واللفظ له.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدّين.
أمّا بعدُ: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ تناوُلَ المسلم وهو صائمٌ للعطوراتِ وأنواعِ الطِّيب السائلة لا يؤثِّر على صيامه، فالعطوراتُ على اختلافِها لا تؤثِّر على الصّيام، إنما الذي ينبغِي أن يجتَنَب هو البخور، فالبَخور أثناءَ الصيام هو الذي يتأكَّد اجتنابُه والبُعد عنه، أمّا أنواعُ العطورات فإنها لا تؤثِّر على الصائم.
المرأةُ النُّفَساء إذا مضَى عليها عشرون يومًا أو نحو ذلك وانقطَعَ الدّم عنها انقطاعًا كاملاً ولم ترَ صفرةً ولا دمًا وجَب عليها أن تصومَ ولو لم تستكمِل أربعين يومًا؛ لأنَّ الأربعين هي أقصى حدٍّ، فإذا انقطَعَ الدّمُ ورأتِ الطهرَ الكامل وجَب عليها أن تغتسلَ وتصومَ وتصلّيَ ولا يضرُّها شيء.
أيّها المسلم، إنَّ سنّةَ نبيك تعجيلُ الفطر إذا تأكَّد الغروب، هذه سنّةُ نبيِّك ، يقول فيما صحَّ عنه: ((أحبُّ عبادِ الله إلى الله أعجلُهم فطرًا)) [1] ، وقال : ((لا يزال الناسُ بخيرٍ ما عجَّلوا الفِطر)) [2] ، وقال عن ربّه أنه قال: ((أحبُّ عبادِي إليّ أعجلُهم فطرًا)) [3]. فكان يبادِر بالفطرِ متى تحقَّق غروبَ الشمس، هكذا هديُه ؛ بداءَته بالفطرِ قبل الصلاة.
وكان من هديِ نبيِّكم أن يؤخِّرَ السحورَ إلى قُرب الوقت، هكذا هديُه ، تسحَّر زيدُ بن ثابتٍ مع النبيِّ فسأل أنَسٌ زيدًا: كم كان بين سحورِكم وإقام الصلاة؟ قال: مقدار خمسين آية [4].
وكان نبيّكم يحثّ على السحور ويرَغِّب فيه ويقول: ((فصلُ ما بين صيامِنا وصيامِ أهل الكتاب أكلَةُ السّحر)) [5] ، ويقول لنا : ((تسحَّروا؛ فإنّ في السحور بركة)) [6]. بركةُ السّحور بركةُ الوقتِ والقيامِ في ذلك الوقتِ المفضَّل ليدعوَ الإنسان ربَّه ويتوسَّل إليه ويرجوَه ويطيعَه ويتضرَّع بين يدَيه، ويكون طائعًا لله متَرّقبًا لساعةِ إجابةِ الدعاء، وبركةُ أداء صلاةِ الفجر في وقتها، وبركة الاقتداء والتأسّي بمحمّدٍ.
أيّها الصائم، إنَّ النبيَّ يقول: ((السَّحور بركةٌ فلا تدعوه، ولو أن يجرعَ أحدُكم جرعةً من ماء، فإنّ الله وملائكتَه يصلّون على المتسحِّرين)) [7]. إذًا فالمسلم يرتقِب السّحور ولو بشيءٍ قليل، وهو يقول: ((نِعم سَحور المسلِمِ التّمر)) [8].
فيا أخي المسلِم، هذه سنّةٌ أحيِها، ولو قُدِّر أنّ عشاءَك كان متأخِّرًا فأحيِ هذه السنّةَ بما تستطيع اقتداءً وتأسّيًا بمحمّد.
ونبيّكم كما أخبرنا عنه أنَس أنه كان يفطِر على رُطَب إن كان زمنَ رطب، وإلاَّ فعلى تمراتٍ إن كان في غيرِ زمن الرطب، وإذا لم يجد في بيته رُطبًا ولا تمرًا فإنّه يحسو حَسَواتٍ من ماء صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين [9] ، بمعنى أنّه يمرّ به أيّامٌ من رمضانَ ليس في بيته ما يأكلُه الصائِم وينتفِع به، وإذا قارنّا أحوالَنا وموائدَنا وتنوّعَها وتفنُّنَنا فيما نتسحَّر وفيما نفطِر وفيما نتعشّى ورأينا تلك النعمَ العظيمة والخيراتِ الكثيرة ورأَينا ورأينا عُدنا إلى أنفسِنا لننظرَ: هل قمنا بحقِّ هذه النعمة؟ وهل شكرناها على الحقيقة؟ هل أدّينا واجبها؟ هل شكَرنا من تفضَّل وأنعم بها بقلوبِنا وألسنَتِنا وجوارحنا؟ فإنها نِعَم شاهدةٌ علينا، فلِلَّه علينا نِعَمٌ وآلاء عظيمة، نسأل الله شكرَ هذه النعمة والقيامَ بحقِّها، إنه على كل شيء قدير.
أخي الصائم، كُن عندَ الإفطار مقبِلاً على ربّك، فإنّ للصائم عند فِطره دعوةً لا ترَدّ، والصائم أحدُ الثلاثة الذين لا تُرَدّ دعوتهم، ففي الحديث: ((ثلاثةٌ لا ترَدّ دعوتهم: المسافِر والصائِم والمظلوم)) [10] ، فإنّ هؤلاء يجاب دعاؤهم بتوفيقٍ من الله، فكن عند إفطارِك خاضعًا لربّك مستقبِلَ القبلة رافعًا أكُفَّ الضراعة لذي الجلال والإكرام، اسأَله من فضلِه وكرَمِه وجودِه، فإنك في عبادةٍ وفِطرُك عبادة، فأنت فرِحٌ بفطرِك أن وافقتَ أمرَ الله فصمتَ، وفرِح بما تشتهيه نفسُك. إذًا فادعُ الله وأخلِص له الدينَ، وكن ذاكرًا شاكرًا لربّك نعمَه عليك، فكم نعمة من الله عليك، غيرُك يتمنّى أن يصومَ فحيل بينَه وبين الصيام، فاشكر اللهَ على هذا الفضل وعلى هذه النّعمة، نسأل الله أن يديمَ علينا وعليكم توفيقَه ونِعَمَه، وأن يجعَلَنا وإياكم ممن يستعملُها في طاعةِ الله وفيما يقرِّبنا إلى الله، إنه على كل شيء قدير.
أيّها المسلم المريض الذي حِيلَ بينه وبين الصيام، اعلَم أنّكَ بنيَّتِك الصالحة وعزيمَتِك الصادِقة أنّ لك ثوابَ الصائمين وأجرَ الصّائمين، يقول : ((إذا مَرِض العبدُ أو سَافَر كتَب الله له مَا كانَ يَعمَلُه صَحيحًا مقيمًا)) [11] ، فإذا عَجزتَ عن الصّيام فلا تعجَز عن تلاوةِ القرآن، ولا تعجَز عن ذِكرِ اللهِ، ولا تعجَز عن نوافِلِ الطّاعة، فإنّ فضل الله واسِع وثوابه عظيم. أسأل الله أن يوفِّقَنا جميعًا لما يُرضيهِ، إنّه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسَنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هدي محمّد ، وشرّ الأمورِ محدَثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجمَاعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله علَى الجماعة، ومَن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمّد امتثالا لأمر ربِّكم كما قال جل وعلا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائِهِ الرّاشدين...
[1] ينظر من أخرجه، وسيأتي بلفظه حديثا قدسيا.
[2] أخرجه البخاري في الصوم (1957)، ومسلم في الصيام (1098) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (2/237، 329)، والترمذي في الصوم (700) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "حسن غريب"، وصححه ابن خزيمة (2062)، وابن حبان (3507)، ورمز له السيوطي بالصحة، إلا أن في إسناده قرة بن عبد الرحمن متكلَّم فيه، والحديث في ضعيف سنن الترمذي (111).
[4] أخرجه البخاري في الصوم (1921)، ومسلم في الصيام (1097).
[5] أخرجه مسلم في الصيام (1096) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (1923)، ومسلم في كتاب الصيام (1095) عن أنس رضي الله عنه.
[7] أخرجه أحمد (3/12، 44) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (3/150): "فيه أبو رفاعة، ولم أجد من وثقه، وبقية رجاله رجال الصحيح"، هذا في إسناد الموضع الأول، أما الموضع الثاني ففي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم مشهور بالضعف، وقد قوّى الألباني الحديث بمجموع الطريقين وبشواهده. انظر: صحيح الترغيب (1070).
[8] أخرجه أبو داود في الصوم (2345)، والبيهقي في الكبرى (4/236) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (3475)، وهو في السلسلة الصحيحة (562).
[9] أخرجه أحمد (3/164)، وأبو داود في الصوم (2356)، والترمذي في الصوم (696)، عن أنس رضي الله عنه نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الدارقطني (2/185)، والحاكم (1575)، وحسنه الألباني في الإرواء (932).
[10] ينظر من أخرجه بهذا اللفظ. وروى أحمد (2/445)، والترمذي في الدعوات (3598)، وابن ماجه في الصيام (1752) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((ثلاثة لا تردّ دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم)) ، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه ابن خزيمة (1901)، وابن حبان (7387)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1358).
[11] أخرجه البخاري في الجهاد (2996) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(1/3437)
ماذا بعد نزول الأمطار؟
موضوعات عامة
مخلوقات الله
أحمد بن عبد الله الحزيمي
المجمعة
11/10/1424
جامع عثمان بن عفان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الرزق بيد الله وحده. 2- نعمة نزول المطر. 3- الفرح بنزول المطر. 4- المطر من الله تعالى. 5- عبر وعظات من نزول المطر. 6- أدعية مناسبة لزمن نزول المطر. 7- من السنن عند نزول المطر. 8- نصائح وتنبيهات. 9- وجوب شكر الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوه رحمكم الله؛ فتقوى الله طريق النجاة والسلامة وسبيل الفوز والكرامة. المتقون هم الناجون من عذاب الله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:72]، ولِجَنّة الله هم الوارثون: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].
عباد الله، كلنا نعلم أن الله تعالى عليم حكيم، وأن الله تعالى بيده خزائن السموات والأرضين، ألم يقل سبحانه: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ [المنافقون:7]؟! ألم يقل محمد وهو أعلم الخلق بربه: ((يَدُ اللَّهِ مَلأَى، لا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ؟! فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ)) أخرجه البخاري، وقال الله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر:21].
عباد الله، إننا في هذه الأيام نتقلّب في نعمٍ من الله وافرة وخيرات عامرة، سماؤنا تمطر، وشجرنا يثمر، وأرضنا تخضرّ، فتح لنا أبواب السماء، فعمّ بغيثه جميع أرضنا، فامتلأت السدود والوديان والنخيل والآبار وارتوت الأرض.
أيها الناس، لا يخفى على أحد ما حصل من الضرر بتأخّر نزول الغيث في الأعوام الماضية، فالآبار قد نَضَبت، والأشجار يبِست، والأرض قحَطت، والنخيل قد عطِشت، والثمار قد ذبَلَت، والمواشي قد هُزِلت، ومعها القلوب قد وجَفَت، والنفوس قد هلعت إلا من رحم الله تعالى، فكاد اليأس أن يصيب القوم لما رأوا في مزارعهم؛ فبينما هي كذلك إذا بها تهتزّ خضراء رابية، قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت:39]، وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى:28].
عباد الله، لقد فرح بهذه النعمة الصغار والكبار والصالحون والمقصرون، إنك لترى البهجة والسرور في الجميع استبشارًا بهذه النعمة وفرحا بها، حتى سمعنا من بكى كثيرا بهذه الرحمة عندما نزلت وعمّت حتى قال أحدهم: إذا كان فرح الجميع بهذه النعمة واستبشارهم بها فكيف الفرح بعفوه ودخول جنته؟!
إنك عندما ترى الحشود الكبيرة من السيارات وهي تتجه إلى أماكن اجتماع السيول ونزول الأمطار وفيها الرجال والنساء والكبار والصغار ترى وحدةً واحدة تجمعهم، إنها ـ يا عباد الله ـ الفرحة بنزول الأمطار.
أيها المؤمنون، وإن في تصريف الأمطار في بعض البلاد وحبسها عن بعض الدّيار لعبرة لأولي الأبصار وعظة للعصاة الفجار، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا [الفرقان:48-50].
أيها الإخوة المسلمون، إن كون الله تعالى هو وحده القادر على إنزال الغيث أمرٌ يعتقده كل مسلم، بل ويعتقده كثيرٌ من المشركين، قال الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [العنكبوت:63]، ولكن بعض المسلمين يقعون أحيانًا في الخطأ الفادح حين ينسبون إنزال المطر إلى غير الله من الكواكب والأنواء وارتفاع الضغط الجوي أو انخفاضه أو غير ذلك من الأسباب، فعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطِرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) رواه مسلم.
عباد الله، وفي إحيائه للأرض بعد موتها عبرة ومثال لقدرته تعالى على إحياء للموتى يوم القيامة، ولذا نجد أن الله كثيرا ما يربط بين إحياء الأرض بعد موتها وبين إحياء الموتى من قبورهم: فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت:39].
نعم إن إحياء الله الأرض بعد موتها لدليل واضح على قدرته سبحانه على إحياء الموتى، فبينما الأرض جرداء قاحلة إذا بها تهتز خضراء رابية، فما يعرض عن هذا إلا أعمى البصيرة، وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق:9-11] أي: كذلك خروجكم من قبوركم بعد موتكم، فالذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على بعثكم بعد موتكم.
أيها المسلمون، إن إنزال المطر ليس بالتأكيد دليلا على رضا الله عن خلقه، فها هي دول الكفر والضلال ينزل عليها المطر يوميًا وعلى مدار العام، ونزول المطر قد يكون بسبب دعوة رجل صالح أو من صبي أو رحمة بالبهائم أو قد يكون استدراجًا من الله تعالى لخلقه، وقد تكون تنبيهًا للمؤمنين المقصّرين لشكره وحمده والرجوع إليه.
أيها الإخوة المسلمون، لقد علّمنا رسول الله أدعية وأذكارا تقال آناء الليل وأطراف النهار، ومنها ما هو مخصوص بحسب الحال والمكان، وما ذلك إلا ليبقى المسلم دائما متصلا ومتعلقا بربه جل وعلا، ذاكرا وداعيا إياه مستغيثا ومناجيا. فلقد كان الرسول كما يروي البخاري إذا رأى المطر قال: ((اللهم صيِّبا نافعا)) ، وعند ابن ماجه وصححه الألباني رحمه الله: ((اللهم اجعله صيّبًا هنيئًا)) ، وعندما يتوقف المطر كان يقول: ((مطِرنا بفضل الله ورحمته)) ، وكان إذا نزل المطر وخشي منه الضرَر دعا وقال: ((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر)) ، وإذا هبت الريحُ نهانا عن سبّها لأنها مأمورة، وكان يدعو بهذا الدعاء: ((اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به)) ، وجاء في الأثر بسند صحيح عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: (سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته).
ومما يندب له مع نزول المطر أن يحسر الواحد منا شيئا من ملابسه حتى يصيبه المطر تأسيًا برسول الله كما عند مسلم عن أنس قال: أصابنا ونحن مع رسول الله مطر قال: فحسر رسول الله ثوبه حتى أصابه من المطر فقلنا: يا رسول الله، لم صنعت هذا؟ قال: ((لأنه حديث عهد بربه)). فلا ينبغي للمسلم أن تفوته مثل هذه الأدعية والأذكار، وكم هو جميل أن تعلّمها أهلك وأطفالَك وترغبهم في حفظها والعمل بها.
والدعاء ـ يا عباد الله ـ عند نزول الغيث مستجاب، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبيّ رسول الله أنه قال: ((ثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء وتحت المطر)) حسنه الألباني في صحيح الجامع. فهذا من فضائل نزول الغيث، فما لنا لا نغتنمها؟!
عباد الله، وفي أثناء فرحتنا بهذه النعم العظيمة يحسن التنبيه على أمور أهمها:
1- ضبط تلك الرحلات البرية، فلا تضيع صلاة مكتوبة، بل المشروع التأذين لكل صلاة وجمع الأهل والأولاد وكل من خرج للصلاة جماعة.
2- أن لا يترتب على تتبع السيول والأمطار والبحث عن مضانها تضييع الساعات الطويلة والأوقات الكثيرة فيضيع بسبب ذلك مشاغل الأهل والأولاد.
3- الحذر من تبرج النساء، أو خروجهن بكامل زينتهن، أو كشف الوجه أمام السيارات المارة والمتنزهين الآخرين.
4- القيام بالاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتي هي أحسن عند الحاجة إلى ذلك.
5- أن لا يكون هذا الفرح على حساب آخرتنا، فما نراه من أحبابنا الشباب من العبث بالسيارات وإيذاء الآخرين ورفع صوت الموسيقى الصاخبة من السيارة ينافي شكر هذه النعمة.
6- كم هو جميل أن تشرك أهلك ووالديك في الاستمتاع بمشاهدة هذا الخير، وأن لا تقصر ذلك على أصحابك وأحبابك.
7- عدم الغفلة عن الأبناء في ذهابهم مع من يشاؤون بحجة الاستمتاع بهذه الأجواء، فقد يستغلّ ذلك ضعاف النفوس في أمور لا تحمد عواقبها.
8- وفي هذه الأجواء يحسن التنبيه والتأكيد بتوخّي الحذر أثناء قيادة السيارة خاصة عند السفر، ويتأكد عند انعدام الرؤية أحيانًا، فكم حصلت قبل أيام من حوادث مروعة مؤلمة.
9- ومثله كذلك الابتعاد عن أماكن اجتماع السيول وعدم الاقتراب منها أو السباحة فيها خاصة من قبل الأطفال.
هذه تنبيهات عابرة حول السيول والمنتزهات، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين له والذاكرين والمتقين له والعابدين.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة المؤمنون، إذا أجدبت الأرض ومات الزرع وجف الضرع وذبلت الأزهار وغار الماء وقل الغذاء واشتد البلاء يلجأ المسلمون المكروبون إلى ربهم، فينزل المطر، وينهمر الغيث، ويذهب الظمأ، وترتوي الأرض، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت:39].
خلق سبحانه فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى. السماء بناها، والجبال أرساها، والأرض دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها. يبسط الرزق، ويغدق العطاء، ويرسل النعم، التواب الرحيم، ذو الفضل العظيم، الواسع العليم، العزيز الحكيم. سبحانه ما أعظمه، سبحانه ما أرحمه، سبحانه سبقت رحمته غضبه، سبحانه سبق عفوه عقوبته. فسبحانه من خالق عظيم، جواد كريم، الكرم صفة من صفاته، والجود من أعظم سماته، والعطاء من أجلّ هباته، فمن أعظم منه جودًا سبحانه؟!
عباد الله، أكثروا من شكره، واحمدوه كثيرا، فهو سبحانه يحبّ الشاكرين، ووعد بتتابع النعم عند شكرها: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7].
أيها المسلمون، إن هذا الغيث الذي أنزله الله علينا لمن فضل الله ورحمته، فكلنا يعلم أن هذه المنطقة ليس بها أنهار ولا بحار، وأنها تعتمد ـ بعد الله ـ على المياه الجوفية السطحية التي يغذيها المطر، وفي انعدامه انعدام المياه السطحية، فعلينا أن نقوم بشكره، وأن نستعين به على طاعته، فإن من قام بشكر الله زاده الله، ومن كفر بنعمة الله حرمه الله، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
فاشكروا الله بالثناء عليه بألسنتكم والتحدث بنعمته، واشكروا الله بالقيام بطاعته امتثالاً للأمر واجتنابًا للنهي، واشكروا الله بالإنابة إليه بقلوبكم واعتقاد أن هذه النعم فضل منه ورحمة وإحسان ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96].
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعل ما رزقتنا عونًا لنا على طاعتك، إنك خير مسؤول.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
(1/3438)
علامات توفيق الله للعبد
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, فضائل الأعمال
ناصر بن يحيى الحنيني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الخوف من الفتن. 2- أهمية الحديث عن علامات التوفيق. 3- علامات التوفيق: العمل الصالح، طلب العلم، الدعوة إلى الله، التوبة، قضاء حوائج الناس، العناية بالقرآن، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حسن الخلق، ترك ما لا يعني، الإحسان إل الأهل، الحكمة، الجهاد في سبيل الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، إن الله عز وجل خلق الخلق لطاعته ومحبته ومرضاته، والله سبحانه يحبّ من عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، ولا يرضى لعباده الكفر، والله سبحانه لا يأمر بالفحشاء والمنكر، وأعظم نعمة على العبد وهي النعمة التي لا توازيها نعمة أن هداه للإسلام والعيش بين المسلمين والتنعم بأحكام وشرائع هذا الدين، ولكن ـ يا عباد الله ـ المؤمن يعيش في هذه الدنيا وهو يخاف من فتنها ومن تقلّباتها، ويخشى على نفسه الفتنة والزيغ بعد الهدى، فاللهمّ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وخاصةً ـ أيها المسلمون ـ بعد أن فُتح على المسلمين من وسائل اللهو والعبث والاتصال ما فتح؛ ولهذا كان حريّا بالمسلم في خضمّ هذه الفتن والمشغلات أن يتلمّس مرضاة الله وتوفيقه ويتعرّف علاماتِ توفيق الله لعبده، فإن كانت فيه فليحمد الله ولْيَثْبُت ويزدد منها، وإن لم تكن فيه تدارك نفسه وأكثر منها.
ومما يجعل لطرح مثل هذا الموضوع أهميةً كبرى اختلالُ موازين كثير من الناس، وظنُّهم أن من توفيق الله للعبد هو أن تفتح له الدنيا وإن ضيّع أمر دينه وآخرته، وهذا من الجهل المركّب بدين الله وبكتاب الله وسنة مصطفاه، وعليه فإنّ من تأمّل كتاب الله وسنة رسوله الكريم وتدبّرهما حقّ التدبر يجد أن من علامات توفيق الله للعبد ما يلي:
أولاً: إن أعظم ما يمكن أن يكون من علامات التوفيق هو التوفيق للعمل الصالح عمومًا على اختلاف أنواعه بدنيا أو ماليًا أو قوليًا، والله عز وجل بيّن أن الطاعة والتوفيق لها هو الفوز العظيم فقال سبحانه: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71]، وجاء في الحديث الصحيح عنه أنه قال: ((إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله)) قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعمله؟ قال: ((يوفقه لعمل صالح قبل موته)). وجاء أيضا في الحديث عنه عن أبي بكرة أن رجلا قال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: ((من طال عمره وحسن عمله)) قيل: فأي الناس شر؟ قال: ((من طال عمره وساء عمله)).
ثانيًا: أن يوفّق العبد لطلب العلم الشرعي والتفقه في دين الله، ومن سلك طريقَ العلم فإنه على خير كثير، فقد جاء في الحديث الصحيح عنه أنه قال: ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)).
ثالثًا: التوفيق لنشر الخير والدعوة إلى الله وإصلاح الناس، فإن هذه مهمة الأنبياء والرسل، وقد قال الله عز وجل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]. وإن من توفيق الله للداعية والذي ينشر الخير أن يدعوهم للأصل العظيم والأمر الأول الذي لأجله خلقَت السموات والأرض، وهو الدعوة إلى توحيد الله، والتي كانت أساس دعوة الأنبياء والرسل عليهم السلام؛ لأن الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك ووسائله مما يحبه الله عز وجل؛ لأن التوحيد أعظم ما يطاع الله به في هذه الأرض، والشرك أعظم ما عصي الله به في الأرض كما صحّ عنه أنه سئل أي الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله ندًا وهو خلقك)) ، وفقنا الله وإياكم للدعوة إلى توحيده ومحاربة الشرك وأهله، إنه ولي ذلك والقادر عليه سبحانه.
رابعًا: أن يوفق العبد للتوبة من الوقوع في المعاصي حتى لو تكرّرت منه، أو يحال بينه وبين المعاصي فلا يستطيع أن يصل إليها، فإن هذا من علامة التوفيق والسداد وإرادة الله به خيرًا، كما قال جل وعلا: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27]، والله عز وجل يفرح بتوبة عبده، نسأل الله أن يمنّ علينا وعليكم بقبول توبتنا وأوبتنا إلى ربنا، وأن يحول بيننا وبين المعاصي وكل ما يبغض ربنا.
فيا أيها الشاب الكريم، إذا هممت بأن تعصي ربّك وأعددت العدّة لذلك وأغلقت الأبواب وأرخيت الستورَ وحيل بينك وبين المعصية فاحمد الله كثيرًا، واشكره كثيرًا، فإن ربك يريد بك خيرًا، فربك لما أراد بيوسف عليه السلام خيرًا عصمه من الوقوع في الفاحشة وصرفها عنه فقال سبحانه: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، عصمنا الله وإياك من الزلل والوقوع فيما يغضبه سبحانه.
خامسًا: ومن علامات التوفيق أن يوفّق العبد لنفع الناس وقضاء حوائجهم كما صحّ عنه أنه قال: ((أحب الناس إلى الله أنفعهم)).
سادسًا: أن يوفق العبد للعناية بكتاب الله تعلّما وتعليما، ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)). فهنيئًا لك يا من تدرس كتاب الله وتدرّسه ويا من تقرؤه كلّ يوم. وأنت يا من فرّطت في كتاب الله وتلاوته، تدارك نفسك فإن من علامة التوفيق أن توفّق لتلاوة كتاب الله حتى تحوز على هذه الخيرية والأجر العظيم.
سابعًا: أن يوفق العبد للقيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال جل وعلا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، وقال سبحانه: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، فعلق سبحانه الفلاح والتوفيق على من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وجعل الخيرية في هذه الأمة لمن أمر ونهى، جعلنا الله وإياكم منهم.
ثامنًا: أن يوفق العبد لكريم الخصال وحسن الأخلاق وسلامة الصدر ومحبة الخير للمؤمنين كما جاء في الحديث: ((إن من خياركم أحاسنكم أخلاقًا)). وحسن الخلق أثقل شيء في الميزان، وأما سلامة الصدر من الغلّ والغشّ والحسد فهو من توفيق الله للعبد؛ لأنه من أسبابِ دخول الجنّة كما جاء في الحديث والرسول قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
تاسعًا: عدم تدخل الإنسان فيما لا يعنيه كالاشتغال بتتبّع أخبار الناس وما فعلوا وما أكلوا وما شربوا، والتدخّل في الأمور التي لا يحسنها ونحو ذلك، فقد قال النبي : ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه))، وجاء في سير أعلام النبلاء في ترجمة الصحابي الجليل أبو دجانة المجاهد البطل أنه دخل عليه بعض أصحابه وهو مريض ووجهه يتهلل فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: "ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى فكان قلبي للمسلمين سليمًا".
عاشرًا: حسن عِشرة الإنسان لأهله، فقد قال : ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) ، فالعبد إذا قضى حوائج أهله وقدّمها على الأصدقاء والأصحاب والأقارب كان موفّقًا مسدّدًا، فحقّهم أولى وأوجب من غيرهم، فيجب عليك ـ أخي ـ أن تعطيَ لكلّ ذي حقّ حقه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
أما بعد : ومن علامات توفيق الله للعبد وهي العلامة الحادية عشرة: أن يلهم السداد والصواب في الأقوال والأعمال والمواقف، وهي الحكمة التي قال الله عنها سبحانه: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269].
العلامة الثانية عشرة: أن يوفق العبد وييسّر له الجهاد والشهادة في سبيل الله، فإنها من أفضل القربات وأعلى المقامات، وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:95]، كيف لا والله عز وجل قال عمّن استشهد أنه مصطفى ومختار فقال سبحانه: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، فاتخذهم الله واصطفاهم وأنعم عليهم بالشهادة في سبيله. فاللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك مقبلين غير مدبرين.
فيا عبد الله، بعد أن تعرّفنا على بعض علامات توفيق الله للعبد عليك أن تلهجَ بالدعاء لربّك صباحا ومساء بأن يوفقك لما يحبه ويرضاه، وأن يوفقك لخير الأعمال وأفضلها عنده سبحانه، فاللهم وفقنا لما تحب وترضى يا حي يا قيوم.
(1/3439)
العشر الأواخر
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
آفات اللسان, الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
يزيد بن الخضر ابن قاسي
بوزريعة
19/9/1424
علي مغربي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العشر الأواخر من رمضان. 2- من فضائل ليلة القدر. 3- تحري ليلة القدر. 4- الحث على الإكثار من قراءة القرآن. 5- مصيبة هجر القرآن الكريم. 6- حفظ اللسان في رمضان. 7- سب الله ورسوله ودينه ردة عن الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله حقَّ التقوى، فالتقوى سبيل المؤمنين، وزاد الصالحين، وبها النجاة والصلاح يوم الدين. فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله في كل وقتٍ وحين، فإن تقوى الله عز وجل منال يرجَى إدراكه وتحقيقه، وقد أخبر الله عز وجل في كتابه العزيز أن مما تنال به التقوى فريضة الصيام: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، فصيام شهر رمضان زيادة على ما فيه من جزيل الفضل والرحمة والمغفرة والعتق من النار فهو مدرسة لتعلم الصبر وتحقيق التقوى، فعلينا ـ عباد الله ـ أن نغتنم هذا الموسم العظيم والشهر الكريم وما تبقى فيه من أيام لنتزود فيها بخير الزاد ولندرك فيه خيره وفضله.
أتى رمضان مزرعة العباد لتطهير القلوب من الفساد
فأدِّ حقوقه قولا وفعلا وزادك فاتخذه للمعاد
من زرع الحبوب وما سقاها تأوَّه نادما يوم الحصاد
ألا وإنّ أفضل أيام هذا الشهر ولياليه ـ يا عباد الله ـ عشره الأخيرة، ونحن مقبلون عليها من الغد إن شاء الله، فأيّام العشر أفضل أيام الشهر، ولياليه أفضل ليالي العام كله، وحسب هذه الليالي شرفًا ورفعة وفضلاً أن الله اختصّها بليلة عظيمة، ليلة القدر التي عظَّم الله سبحانه قدرها، وأعلى شأنها، وشرفها بإنزال الوحي المبين هذا القرآن العظيم على سيد المرسلين.
إنه كتاب ربنا، هذا الكتاب الذي بين أيدينا إنه النعمة الباقية والمعجزة الخالدة والعصمة الواقية والحجة البالغة والدلالة الدامغة، وهو شفاء لما في الصدور، والحكم العدل عند مشتبهات الأمور، وهو الكلام الجزْل، وهو الفصل الذي ليس بالهزل، منزه من الخطأ والزلل، صالح في كل مكان وزمان، لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
فهذا القرآن العظيم اختار الله لنزوله أشرفَ الأزمان وأعظم الشهور، وأفضل الليالي وهي ليلة القدر، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [الدخان:3]، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
ومن خصائص هذه الليلة أن فيها يفرق كل أمر حكيم، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:3، 4]، أي: في هذه الليلة يفصل من للوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق وما يكون فيها إلى آخرها.
ومن فضائل هذه اليلة أنها خير من ألف شهر، والعبادة فيها تفضُل عبادة ألف شهر خلت من ليلة القدر، فهي ليلة عظيمة البركات كثيرة الخيرات، تضاعف فيها الحسنات، ويستجاب فيها الدعوات، لِما يتنزل فيها على العباد من عظيم المنح الربانية وجليل النفحات الإلهية، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1].
وإن من صدق إيمان العبد ودلائل توفيق الله له أن يغتنمَ هذه الليالي المباركة، بجلائل الأعمال الصالحة، وأنواع العبادة والطاعة، والتذلل بين يدي الله عز وجل، والإنابة إليه، أملا في إحراز فضل ليلة القدر ونيل بركاتها، فلقد بلغ من عظيم فضلها وجليل ثوابها أن من قامها بنية خالصة وعبودية صادقة كفّر الله عنه ما تقدم من ذنوبه وخطاياه، فقد قال : ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه)) أخرجاه في الصحيحين.
وقد رغب رسول الله أمته إلى التماس ليلة القدر في ليالي العشر الأواخر، أو السبع البواقي منها، وأنها ترجى في ليالي الأوتار، وأرجاها ليلة السابع والعشرين من هذا الشهر الكريم، فقد روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي)) ، وفي لفظ آخر له: ((فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر)) ، وقد سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله عما تدعو به في ليلة القدر إن هي علمتها، فأرشدها أن تقول: ((اللهم إنك عفو، تحب العفو، فاعف عني)).
وقد كان رسول الله يخصُّ هذه العشر الآواخر من رمضان بمزيد من العبادة، ويضاعف فيها الأعمال الصالحة، ويجتهد فيها بأنواع الطاعات والقربات ما لا يجتهد فيما سواها من الأزمنة، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا ليله، وأيقظ أهله، وجدّ وشدّ المئزر.
فمن التوفيق والرشاد ونفاذ البصيرة وسداد الرأي أن يغتنم المسلم هذه الأيام الفاضلة واليالي المباركة بالتزود بالصالحات، والمسابقة إلى الخيرات، والمحافظة على العبادات من صلاة وصيام وقيام، وصدقة وبر وإحسان، وعطف على الفقراء والأيتام، والإكثار من الاستغفار، وإدامة ذكر الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار، فإن ذكر الله تعالى يزكي النفوس، ويشرح الصدور، ويورث الطمأنينة في القلوب، كما قال تعالى: أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
وإن خير أنواع الذكر قدرًا وأعظمها عند الله أجرًا تلاوة كتاب الله الكريم الذي لا يَأتيهِ الباطلُ من بينِ يَديهِ ولا من خَلفِه تنزيلٌ من حَكيمٍ حمِيد. فقد كان من هديه الإكثار من تلاوته في رمضان أكثر من تلاوته في غيره، وكان جبريل يأتيه في رمضان يدارسه القرآن.
وقد أبان عن فضل تلاوة كتاب الله وعظيم ثوابه بقوله: ((من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)).
والقرآن شافع لك يوم القيامة، ((يأتي القرآن شافعًا لأصحابه يوم القيامة)) ، فاقرؤوه وتدبروه، في رمضان وفي غيره، ولتكن قراءته في رمضان عظيمة.
أيها المسلمون، ينبغي وخاصة في هذا الشهر العظيم أن تسري عظمة القرآن في نفوسنا، وأن تلين له جلودنا، بعد أن تخشع له قلوبنا، فتلكم الهداية التي أخبرنا الله عز وجل عنها: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23]. وكيف لا تقشعر جلودنا وتلين قلوبنا وربنا يخاطبنا ويقول: لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدّعًا مّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الاْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21].
أيها المؤمنون، إنه من الأسف الشديد أن الكثير من الناس في هذا الزمان قد أصابتهم الغفلة، وقعوا في هجر القرآن، ولربما تجد بعضهم يمرّ عليهم الأسبوع أو الشهر وهم لم يقرؤوا أو لم يسمعوا آية من القرآن، ولقد شكا النبي إلى ربه من هجر القرآن قال تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30].
ومن هجر القرآن هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه، فتجد بعضهم يستمع إلى إذاعات الدنيا كلها، ويستمع إلى أنواع منوّعة من الأغاني الساقطة الماجنة، ويحرم نفسه من سماع القرآن في شهر القرآن، وإذا مر بسمعه القرآن أغلق الجهاز أو المذياع كأن القرآن يزعجه أو يذكّره بشيء لا يريده، وتجد البعض الآخر قد يقرأ كل ما يجده من مجلات وجرائد مختلفة، ويحرم نفسه من القراءة في المصحف ولو لآيات قليلة، وبعضهم قد خصوا قراءة القرآن وسماعه في الجنائز فقط، وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30] والله المستعان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29، 30].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
وإن مما ينبغي التذكير به ـ يا عباد الله ـ وخاصة في هذه العشر الآواخر المحافظة على الصلوات، والحذر من الذنوب والمعاصي والانقياد للأهواء والشهوات وإضاعة الأوقات باللهو والباطل مما يصدّ عن ذكر الله وطاعته، والحذر كل الحذر من آفات اللسان التي قد تفسد صومك وتقدح في صحته وسلامته، فاجتنب الغيبة والنميمة والكذب وقول الزور، فلا خير فيها للصائم، ولا لغيره، ولكن حرمتها في الصيام أشد، ففي الحديث: ((من لم يدع قول الزور والعملَ به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) ، ليس لله مراد في ترك طعامك وشرابك إذا لم يحملك صيامك على البعد عمّا حرم الله عليك، فالكذب وقول الزور حرام في رمضان وفي غيره، ولكنه في رمضان وفي حق الصائم أشدّ حرمة، وكذلك الغيبة والنميمة واللعن والسباب كما في الصحيح عنه أنه قال: ((والصوم جُنة، فإذا كان يوم صوم حدكم فلا يرفث ولا يصخب، وإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني امرؤٌ صائم)).
ولا يخفى علينا ما نراه ونسمعه في مجتمعنا في أسواقنا وطرقاتنا من خصومات وما يحصل فيها من بذاءة في الألفاظ وفحش فى الكلام، ومن سب ولعن وشتم وسباب بأساليب عديدة، تجري على الألسنة بسهولة ويسر، ودون تفكير في العاقبة، ونخص بالذكر ـ لأنه الأدهى والأمر ـ سب الله سبحانه وتعالى أو سب رسوله الكريم أو سب دينه الحنيف، إنه ـ والله ـ لمن المصيبة العظمى والطامة الكبرى أن تسمع سب الله أو سب دينه تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًّا أن عمدوا لمثل هذا السبّ، وخاصة في رمضان، وفي الحقيقة أن هذه المصيبة شاعت وانتشرت في أوساط الناس حتى لا تكاد تخلو خصومة دون أن تسمع ذلك الفسق وذلك الكفر، ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم، ويسبون الله أو يسبون دينه بكلّ تبجح وارتياح، ولسانهم طلق وسهل بذلك ومدرّب عليه، فبمجرّد ردّةِ فعل أو معارضةٍ ما أو سوء تفاهم أو صُراخ لغضب مزعوم فلأول وهلة يسبّون الله أو دينه.
فهؤلاء الناس قد هان في قلوبهم تعظيم رب العالمين، فلو كان عندهم تعظيم لله وكانوا على تقوى وخوف منه لما تجرؤوا على سبه أو سب دينه؛ لأن اللسان ـ عباد الله ـ ترجمان القلب، وجعل اللسان على ما في القلب دليلا، وفي الحقيقة أن سب الله أو سب دينه أصبح عند هؤلاء أسلوبا لتخويف الناس ورمزا وإعلانا وشعارا للتجبر ولإظهار القوة والشجاعة الشيطانية، كأن السابّ يريد أن يقول بسبه: أنا جبار وقوي وشجاع ولا أخاف من أحد بدليل أني أسبّ الله الذي أنتم تخافونه، أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى، أما يخشى هذا الساب أن تقبض روحه وهو في تلك الحالة؟! وقد وقع مثل هذا، فقد حدثني غير واحد ممن أعرف كانوا شهود عيان فيمن قبضت روحه وهو يسبّ الله والعياذ بالله، فيا لها من سوء خاتمة وسوء عاقبة، والنبي يقول: ((وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم)) قال كلمة فقط من سخط الله، فما بالكم بمن سب الله أو سب دينه وتقصّد ذلك بأفحش السباب.
اعلموا ـ عباد الله ـ أن سب الله أو سبّ رسوله أو سب دينه في رمضان أو في غيره من الكفر المخرج من الملة بالإجماع، وهو ردة عن الإسلام، فمن وقع في مثل هذا فليجدّد إسلامه وليتب إلى الله.
فعلى الصائم أن يحفظ لسانه، وأن يكون متخلّقًا بالحلم والأناة مع غيره، معرضا عن الجاهلين والسفهاء، لقول النبي : ((فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخب)) ، يبتعد عن كل قول رذيل، عن كلّ قول سيئ، وكل قول فاحش، وكل عمل سيئ، يبتعد عنه طاعةً لله، إذا سفه عليه سفيه وانتقصه جاهل قال له: إني امرؤ صائم، ولذا قال : ((وإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني امرؤ صائم)) ، يذكّره بأنه صائم، فصومي يحجزني ويمنعني أن أخوض في الباطل أو أقول السفه.
فاتقوا الله عباد الله، فإن شهر رمضان قد مضى أكثره، ولم يبق منه إلا القليل، فلنغتنم ما تبقى من أيامه ولياليه، بالمسارعة إلى طاعة الله ومرضاته، والتعرض لنفحاته وألطافه، فربما أدركَت العبدَ رحمة من رحمات ربه، فارتقى بسببها إلى درجات المقربين، وكان في عداد أولياء الله المتقين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
(1/3440)
فضل الجمعة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأزمنة والأمكنة
يزيد بن الخضر ابن قاسي
بوزريعة
علي مغربي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأعياد في الإسلام. 2- اهتداء الأمة المحمدية ليوم الجمعة. 3- حسد اليهود للمسلمين على يوم الجمعة. 4- خصائص يوم الجمعة وفضائله. 5- عبادات يوم الجمعة. 6- التحذير من التهاون بصلاة الجمعة. 7- تحريم البيع إذا نودي لصلاة الجمعة. 8- التبكير لصلاة الجمعة. 9- الجمعة يوم عبادة وفرح.
_________
الخطبة الأولى
_________
اتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله قد فضل بعد الشهور والأيام على بعض، وجعل من الأيام مواسم وأعيادا، اصطفاءً منه واختيارًا، وتشريفًا منه وتكريمًا، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [القصص:68]. وإن الله تعالى قد جعل للمسلمين من أيام الدنيا ثلاثة أعياد، عيدين يأتيان في كل عام مرة مرة: عيد الفطر وعيد الأضحى، وعيد يتكرر كل أسبوع، وهو يوم الجمعة الذي قال فيه النبي : ((إن يوم الجمعة يومُ عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده)).
والذي ينبغي على المسلم أن يعلمه، أن الأعياد في الإسلام منبثقة ونابعة من شعائر ديننا الحنيف، فعيد الأضحى يكون بعد عبادة الحج، وعيد الفطر يأتي بعد فريضة الصيام، ويوم الجمعة عيد الأسبوع، كما قال الإمام ابن رجب رحمه الله: فهو مترتب على إكمال الصلوات المكتوبات، فإن الله عزوجل فرض على المؤمنين في كل يوم وليلة خمس صلوات، وأيام الدنيا تدور على سبعة أيام، فكلما كمل دور أسبوع من أيام الدنيا، واستكمل المسلمون صلواتهم فيه، شرع لهم العيد في يوم استكمالهم، وهو يوم الجمعة... إلى أن قال: وفي يوم الجمعة يكون الاجتماع على سماع الذكر والموعظة وصلاة الجمعة، وجعل ذلك لهم عيدا، ولهذا نهي عن إفراده بالصيام.
فيوم الجمعة ـ أيها المسلمون ـ هو يوم من أيام الله العظيمة، وهو من أعظم الأيام عند الله قدرًا، وأجلها شرفًا، وأكثرها فضلاً، فقد اصطفاه الله تعالى على غيره من الأيام، وفضله على ما سواه من الأزمان، واختص الله به أمة الإسلام، فقد ضلت عنه اليهود والنصارى، وهدى الله تعالى إليه أمة الإسلام، فعن أبي هريرة وحذيفة بن اليمان رضى الله عنهما قالا: قال رسول الله : ((أضل الله عن يوم الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يومُ السبت، وكان للنصارى يومُ الأحد، فجاء بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة)).
وفي لفظ متفق عليه من حديث أبي هريرة مرفوعًا قال : ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بَيدَ أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم, هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فهم لنا فيه تبع، فاليهود غدًا، والنصارى بعد غد)).
وجاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، إنكم تقرؤون آية في كتابكم، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال عمر: (وأي آية؟) قال: قوله: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى [المائدة:3]، فقال عمر: (والله، إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله؛ عشية عرفة في يوم جمعة وكلاهما لنا عيد).
واليهود ـ عباد الله ـ يحسدوننا على هذا اليوم، فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: بينما أنا عند النبي إذ استأذن رجل من اليهود، فأذن له، فقال: السَّام عَليك، والسام بمعنى الموت، فقال : ((وعليك)) ، قالت: فهممت أن أتكلم، قالت: ثم دخل الثانية، فقال مثل ذلك، فقال النبي : ((وعليك)) ، قالت: فهممت أن أتكلم، ثم دخل الثالثة، فقال: السَّام عليكم، قالت: فقلت: بل السام عليكم وغضب الله، إخوان القردة والخنازير، أتحيّون رسول الله بما لم يُحيَّه به الله عز وجل؟! قالت: فنظر إليَّ فقال: ((مَهْ! إن الله لا يُحب الفحش ولا التفحش، قالوا قولاً فرددناه عليهم، فلم يضرنا شيئًا، ولزمهم إلي يوم القيامة، إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على الجمعة التي هدانا الله لها، وضلوا عنها)).
وقد خصّ الله سبحانه يوم الجمعة بخصائص عظيمة، فعن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله قال: ((خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم عليه السلام، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)).
فيوم الجمعة هو اليوم الذي كمل فيه الخلق، فالله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ابتداء من يوم الأحد وانتهاء بيوم الجمعة، وفي يوم الجمعة خلق آدم وأدخل الجنة وأخرج منها، وفيه يطوَى العالم، وينتهي أمد الدنيا، فتخرب وتزول، وتقوم الساعة، وفيه يُبعَث الناس إلى منازلهم من جنة أو نار، وفيه تفزع الخلائق كلها إلا الإنس والجن، فعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله : ((خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة)) إلى أن قال: ((وما من دابة إلا وهي مُصيخة يوم الجمعة، من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقًا من الساعة، إلا الجن والإنس)).
وزيادةً على هذا فإن يوم الجمعة موافق ليوم المزيد في الجنة، وهو اليوم الذي يجمع فيه أهل الجنة في وادٍ أفيح، ويُنصب لهم منابرُ من لؤلؤ، ومنابر من ذهب، ومنابر من زَبَرجَد ـ وهو نوع من الأحجار الكريمة ـ، وياقوت على كثبان المسك، فينظرون إلى ربهم تبارك وتعالى ويتجلى لهم، فيرونه عيانًا، ويكون أسرعهم موافاة أعجلهم رواحًا إلى المسجد، وأقربهم منه أقربهم من الإمام، وفي حديث أنس الطويل: ((فليس هم في الجنة بأشوق منهم إلى يوم الجمعة، ليزدادوا نظرًا إلي ربهم عز وجل وكرامته، ولذلك دعي يوم المزيد)).
ومن فضائل هذا اليوم أن فيه ساعة الإجابة، وهي الساعة التي لا يسأل الله عبد مسلم فيها شيئًا إلا أعطاه، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يُصلي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إيَّاه)) ، وقال بيده يُقللَّها، وجاء في رواية مسلم أن وقتها بعد العصر قبل المغرب.
ومما ورد في فضل الجمعة كذلك بسند صحيح قول النبي : ((أفضل الصلوات عند الله صلاة الصبح يوم الجمعة في جماعة)).
وكما ورد في فضلها ما جاء بسند صحيح أن النبي قال: ((من مات في يوم الجمعة أو ليلته وقاه الله فتنة القبر)) وهذا من علامة حسن الخاتمة للمسلم الموحد.
وكان من هديه تعظيم هذا اليوم وتشريفه وتخصيصه بعبادات، ومما أرشد إليه ، استحباب قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، فعن أبي سعيد الخدري أن النبي قال: ((من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له النور ما بين الجمعتين))، وفي رواية له: ((من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلي عَنان السماء يضيء به يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين)).
كما أوصى بكثرة الصلاة عليه في يوم الجمعة وفي ليلته، قال في حديث أنس: ((أكثروا من الصلاة عليَّ يوم الجمعة وليلة الجمعة)) ، وعن أوس بن أوس الثقفي رضى الله عنه قال: قال رسول الله : ((من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ))، قالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرِمْتَ؟! فقال: ((إن الله عز وجل حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "رسول الله سيد الأنام، ويوم الجمعة سيد الأيام؛ فللصلاة عليه في هذا اليوم مزية ليست لغيره، مع حكمة أخرى وهي أنّ كل خير نالته أمته في الدنيا والآخرة فإنما نالته على يده، فجمع الله لأمته بين خيري الدنيا والآخرة، فأعظم كرامة تحصل لهم فإنما تحصل يوم الجمعة، فإن فيه بعثهم إلى منازلهم وقصورهم في الجنة، وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنة، وهو يوم عيد لهم في الدنيا، ويوم فيه يسعفهم الله تعالى بطلباتهم وحوائجهم، ولا يردّ سائلهم، وهذا كله إنما عرفوه وحصل لهم بسببه وعلى يده ، فمِن شُكره وحَمده وأداء قليل من حقه أن نكثر من الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته، وقد قال الله عز وجل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
_________
الخطبة الثانية
_________
يقول الله عز وجل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَو?ةِ مِن يَوْمِ ?لْجُمُعَةِ فَ?سْعَوْاْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ وَذَرُواْ ?لْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ ?لصَّلَو?ةُ فَ?نتَشِرُواْ فِى ?لأَرْضِ وَ?بْتَغُواْ مِن فَضْلِ ?للَّهِ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:9، 10].
إن من أعظم خصائص هذا اليوم المبارك صلاة الجمعة التي أمر الله بها عباده المسلمين، قال ابن القيم رحمه الله: "الخاصة الثالثة: صلاة الجمعة التي هي من آكد فروض الإسلام، ومن أعظم مجامع المسلمين، وهي أعظم من كل مجمع يجتمعون فيه وأفرضُه سوى مجمع عرفة، ومن تركها تهاونًا بها طبع الله على قلبه".
وإنه من كبائر الذنوب ـ يا عباد الله ـ أن يتخلف المسلم عن حضور الجمعة من غير عذر شرعي، فقد شدّد رسول الله في التحذير من ذلك مبينًا أنّ من فعل ذلك فقد عرّض نفسه للإصابة بداء الغفلة عن الله والطبع على قلبه، ومن طبع الله على قلبه عميت بصيرته وساء مصيره، روى مسلم في صحيحه أن رسول الله قال: ((لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)) ، وروى الإمام أحمد بإسناد حسن والحاكم وصححه عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة طبع الله على قلبه))، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لقد هممت أن أحرِّق بيوت أقوامٍ لا يشهدون الجمعة)).
فهذه الأحاديث تفيد الوعيد الشديد لمن تهاون في أداء هذا الفرض العظيم، فالعناية كل العناية بهذا الواجب، واعلم ـ أخي المسلم ـ أن الاهتمام به والحرص عليه من علامات الإيمان، والتخلف عن أدائه والتهاون فيه من علامات النفاق.
ويستثنى من إجابة نداء الجمعة المرأة والصبي والعبد والمريض والمسافر، ويلحق بهؤلاء الأصناف من كان على وظيفة ضرورية، كمصالح التطبيب والتمريض في المستشفيات، والحراسة والأمن والحماية، ولكن على أن يكون ذلك على التنواب، حتى لا يفوتهم فضل الجمعة.
ويحرم البيع إذا نودي للصلاة يوم الجمعة كما أخبرتعالى، وأيّ مال دخل بعد نداء الجمعة كان كسبا خبيثا ومالا حراما، ولا يفوتني أن أنبه على ما يفعله بعض الناس أنه إذا حان وقت الجمعة يترك على بضاعته أو دكانه خادما لا يصلي أو صبيا لم يبلغ الحلم ليقوم مقامه في البيع ظنا منه أن ذلك لا يدخل في التحريم، وهذا في الحقيقة أشبه بحيلة بني إسرائيل والعياذ بالله.
واعلم ـ أخي المسلم ـ أن صلاتك يوم الجمعة، كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى، يقول : ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)).
ولقد ندب النبي المسلم أن يجتهد في التبكير إلى الجمعة، لما في ذلك من الفضل العظيم، فإن الملائكة يوم الجمعة يجلسون عند أبواب المسجد، يكتبون الأول فالأول، فإذا أتى الإمام طوَوا صحفَهم واستمعوا الذكر، قال : ((من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرّب بيضة، فإذا دخل الإمام طُويت الصحف وحضرت الملائكة يستمعون الذكر)) ، وقال : ((يدنو المؤمنون من ربهم يوم القيامة على قدر قربهم من الإمام)). فيا أخي المسلم، لا تفوِّت على نفسك هذا الفضل العظيم، واحرص على التبكير قدر الاستطاعة.
واحذر ـ أخي المسلم ـ من معوِّقاتٍ تعوقك عن التبكير، فمنها السهر في ليلة الجمعة، وربما يسهر الواحد إلى طلوع الفجر، ثم يستغرق معظم النهار نومًا، فعساه أن يستيقظ للفريضة ولو متأخّرًا، وبعضهم ربما يستغرق في نوم عميق، فتفوته الجمعة، فتحصل له الخسارة الكبيرة.
ومما ينبغي على المسلم أن يعلمه، فكما أن الله عزوجل جعل لهذا اليوم فضلا وشرفا، وأن الأعمال الصالحة فيه لها مزية وأجر على غيرها في سائر الأيام، فكذلك ليوم الجمعة حرمته عند الله، فالذي يعصي الله ويقصد يوم الجمعة بنوع من أنواع الذنوب والمعاصي فإثمه ووزره أعظم من الذي يعصيه في غيره من الأيام لانتهاكه لحرمة هذا اليوم.
أيها المسلمون، يجب أن نعتز بهذا اليوم المبارك، وأن تسري عظمته في قلوبنا، وأن لا ننسى حسد اليهود لنا عليه، وأن نستغل ما جاء فيه من الفضائل العظام وأنه يوم عبادة وعيد وفرح جعله الله لأمة الإسلام، وأن نسعى في تحبيبه لأبنائنا وأهالينا بإدخال السرور عليهم والتيسير عليهم، حتى لا نكون كبعض الناس ممن لم يعرفوا للجمعة قدرا ولا فضلا، ولا عبادة ولا فرضا، يتضجرون من يوم الجمعة، ويعتبرونه يوما بطيئا وثقيلا، يسبّب لهم الكآبة والقلق والملل، وقد طالب البعض منهم لأسباب واهية بنقل عطلة آخر الأسبوع من الخميس والجمعة إلى السبت والأحد، فهؤلاء لم يعرفوا للجمعة فضلا ولا قدرا، والله المستعان.
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: "إن يوم الجمعة هو اليوم الذي يُستحب أن يُتفرّغ فيه للعبادة، وله على سائر الأيام مزيةٌ بأنواع العبادات واجبة ومستحبة، فالله سبحانه جعل لأهل كل ملةٍ يومًا يتفرغون فيه للعبادة، ويتخلَّون فيه عن أشغال الدنيا، فيوم الجمعة يومُ عبادة، وهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور، وساعةُ الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان، ولهذا من صح له يومُ جمعتِه وسلِم سلمت له سائرُ جمعتِه، ومن صح له رمضان وسَلِم سَلِمت له سائر سَنَتِه، ومن صحت له حَجَتُه وسَلِمَت له صح له سائرُ عُمرِه، فيوم الجمعة ميزان الأسبوع، ورمضان ميزان العام، والحج ميزان العمر".
(1/3441)
الحياء
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
المرأة, مكارم الأخلاق
يزيد بن الخضر ابن قاسي
بوزريعة
علي مغربي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عناية الإسلام بالأخلاق. 2- الحياء من صفات الله تعالى. 3- حياء النبي. 4- فضل الحياء وأهميته. 5- حقيقة الحياء. 6- الحياء من الله. 7- الحياء من الناس. 8- خطورة الجهر بالمعاصي. 9- الحياء كله خير. 10- حياء المرأة. 11- وجوب حجاب المرأة وبيان فضله. 12- وعيد المتبرجات. 13- تفنيد بعض شبهات المتبرجات.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الله تعالى قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، وثمة أمور عظيمة بعِث بها النبي ، والتي كانت نبراصا منيرا ودليلا قويا على صدق وعظم ما بعِث به، ومن هذه الأمور ـ عباد الله ـ مكارم الأخلاق، قال : ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)) ، فللأخلاق منزلة عظيمة في ديننا، ولقد عني الإسلام بها عناية جليلة وفريدة، وما ذلك ـ عباد الله ـ إلا لأن الآداب والأخلاق لها صلة وثيقة وقوية بعقيدة الأمة ومبادئها، فكمال الأمة بكمال أخلاقها، وصلاح الأمة بصلاح آدابها وأخلاقها.
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وإن من هذه الأخلاق الكريمة الفاضلة والصفات العالية الحميدة صفة الحياء، هذا الخلق النبيل والسلوك القويم الذي ما اتصف به مسلمٌ ما إلا وحاز به الخير الكثير، وابتعد به عن الشر المستطير، ونال به الثواب الكبير.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن هذه الصفة الكريمة عظيمة الشأن رفيعة القدر، بل ويكفي لعظمها وجلالها أن الله سبحانه وتعالى متصف بها، فالحياء صفة من صفات الرحمن، قال : ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسّتْرَ))، وقال : ((إنَّ اللهَ حييٌّ كريمْ يَسْتَحي مِنْ عبدِه إذا رفع يديهِ إليهِ أن يرُدَهُما صِفْرًا)).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وأما حياء الرب تعالى من عبده فذاك نوع آخر، لا تدركه الأفهام، ولا تكتنفه العقول، فإنه حياء كرم وبرٍّ وجود وجلال، فإنه تبارك وتعالى حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرًا، ويستحي أن يعذّب ذا شيبة شابت في الإسلام". نعم الحياء صفة من صفاته تعالى، وصفاته تعالى كلها صفات كمال، منزهة عن أي وضعف ونقصان.
ولا يخفى علينا جميعا ـ أيها المسلمون ـ ما كان لنبينا من هذه الصفة الجليلة، فقد وصفه أبو سعيد الخضري بقوله: لرسول الله أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه. والعذراءُ هي البنتُ التي لم يَسبقْ لها زواج، وخِدرُها موضعُها الذي تُصانُ فيه عن الأعْيُنِ. نعم، هكذا كان رسولنا وقدوتنا.
ويتجلّى ـ عباد الله ـ عظم وأهمية صفة الحياء في ديننا بما أخبر به أن الحياء شعبة من شعب الإيمان، فقال : ((الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان)) ، وقال أيضا : ((الحياء والإيمان قرناء جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر)) ، أي: كل واحد منهما مرتبط بالآخر، فإذا ذهب الواحد ذهب الآخر.
والحياء كما عرفه العلماء: هو خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق من الحقوق، فالحياء خلق فاضل يدعوك إلى التحلي بالفضائل والبعد عن الرذائل، والحياء يدعوك أن تخجل في نفسك، وتستحي من ربك، ثم تستحي من الناس.
وإن الاستحياء من الله هو أسمى وأعظم مرتبة للحياء، وقد أمر به النبي أصحابه فقال: ((استحيوا من الله حق الحياء)) ، فقالوا: يا رسول الله، إنا نستحي من الله حق الحياء! قال : ((ليس ذلك؛ الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطنَ وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، من فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)).
فحقيقة الاستحياء من الله أن تحفظ لسانك وسمعك وبصرك وبطنك وفرجك عما حرم الله سبحانه وتعالى عليك، وإن الاستحياء من الله يشمل كذلك أن لا تعصيه في خلوتك وقد قال بعض السلف: "خف الله على قدر قدرته عليك، واستح منه على قدر قربه منك".
وصدق من قال:
وإذا خلوتَ بِريبةٍ في ظُلْمَةٍ والنَّفْسُ داعيةٌ إلى الطُغْيانِ
فاستحي من نظرِ الإلهِ وقُلْ لها إنَّ الذي خلقَ الظلامَ يَرَاني
وإن من الحياء ـ عباد الله ـ أن تستحي من الناس، فحياؤكَ من الناسِ يمنعك من أن تقع أعينهم على ما يعيبونه عليك، وحياؤك من الناس يقودُكَ إلى رفعِ الأذى عنهم، قال ابنُ القيمِ رحِمَهُ الله: "فالحياءُ هو من أعظمِ الأخلاقِ وأكْرَمِها، ذلك لأنه مصدرُ الفضائِلِ، فالولدُ يبرُ بوالديهِ بسبب الحياءِ، وصاحِبُ الدارِ يُكْرِمُ ضيفَهُ بسبب الحياءِ، والعبدُ يفي بالموعدِ بسبب الحياءِ أيضًا، لذلك عندما سُئِلَ المصطفى عليه الصلاة والسلام قالَ: ((إنَّ لِكُلِ دين خُلُقًا، وخُلُقُ الإسلامِ الحياء))" مروي بإسناد حسن عن أنس.
والحياء ـ عباد الله ـ مأثور عن الأنبياء المتقدمين، وأن الناس توارثوه عنهم قرنا بعد قرن، ففي صحيح البخاري من حديث أبي مسعود رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت)) ، وفي فهم قوله : ((إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت)) معنيان، أحدهما: أنه أمر بمعنى التهديد والوعيد، أي: إذا لم يكن لك حياء فاعمل ما شئت فالله يجازيك عليه بما تستحق، وهو من باب قوله تعالى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40]، والمعنى الآخر: أنه بمعنى الخبر، أي: أن الإنسان الذي لم يستح صنع ما شاء، فإن المانع من فعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياء انهمك في كل فحشاء ومنكر، كما ذكر ذلك ابن رجب رحمه الله.
فالمرء حينما يفقد حياءه يتدرج في المعاصي من سيئ إلى أسوأ، من رذيلة إلى أرذل، ولا يزال يهوي حتى ينحدر إلى الدرك الأسفل.
وكذلك المرء إذا لم يكن له حياء جهر بالمعاصي أمام الناس ولا يبالي، فالمجاهرون بالجرائم والمعاصي والمعلنون لها أمام الناس جهارا نهارا ولا يبالون بما يفعلون هؤلاء لا يستحيون من الله، ولا يستحيون من الناس، ولهذا استحقوا الوعيد الشديد الذي أخبر به النبي بقوله: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين)) ، ونفهم من هذا ـ عباد الله ـ أن الجهر بالمعصية أخطر من الإسرار بها، والجهر بالمعصية أعظم إثما وأشدّ جرما عند الله من الإسرار بها، فالذي يشرب الخمر أو يعصي الله بنوع من أنواع الفجور والفسوق على قارعة الطريق أمام أعين الناس أعظم إثما عند الله من الذي يعصيه في كل هذا وهو ساتر لنفسه، بينه وبين نفسه، ساتر لمعصيته عن أعين الناس، بينه وبين ربه؛ لأن الجهر بالمعصية أمام الناس ـ عباد الله ـ فيه تحدٍّ لله عز وجل في محارمه أمام عباده، ولأن الجهر بالمعصية يقود إلى استحلالها، والجهر بالمعصية فيه دعاية ودعوة وإشهار للحرام، ويورث في قلوب الناس الرغبة في ارتكابه، فالناس مفطورون على حبّ التوافق والمشابهة بعضهم ببعض، خاصة عند قصار العقول وضعاف النفوس، فيزين لهم الشيطان ارتكاب الحرام، فيكثر الفساد ويشيع وينتشر في أوساط المسلمين، وكما أن الجهر بالمعصية من موجبات غضب الله وسخطه وعذابه في الدنيا، ولهذه الأسباب كلها كان الجهر بالمعصية أعظم وأشد إثما من الإسرار بها، فمن استحيى من الله ومن الناس وستر معصيته عن أعين الناس وستر نفسه معترفا بذنبه أدركته عافية الله وستره في الدنيا والآخرة، وأما من فضح نفسه وخلع ثوب حيائه وأعلن وجاهر بذنبه أمام الناس كان وبال أمره خسرا، وعقابه عند الله شديدا، ولم يكن من المعافين، قال تعالى: أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَنًا فَإِنَّ ?للَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء [فاطر:8].
وقد أحسن من أنشد بقوله:
إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تستح فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيى بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء
وقال الآخر:
إذا قلّ ماء الوجه قلّ حياؤه ولا خير في وجه إذا قل ماؤه
حياءك فاحفظه عليك فإنما يدلّ على وجه الكريم حياؤه
إن الحياء ـ عباد الله ـ كله خير، رأى النبي رجلا يعاتب أخاه في الحياء، فقال له : ((دعه؛ فإن الحياء لا يأت إلا بخير)). والحياء المقصود في هذا الحديث هو الحياء الشرعي الذي يحمل صاحبه على ترك القبيح، ويمنعه من التقصير في حق من الحقوق، وليس الحياء المذموم، قال الإمامُ النووي في شرحِ هذا الحديث: "وأما كونُ الحياءِ خيرًا كُلُه ولا يأتي إلا بخيرٍ فَقَدْ يُشْكِلُ على بعضِ الناسِ من حيثُ أن صاحِبَ الحياءِ قد يسْتحي أن يواجه بالحقِ من يُجِلُه، فيتْرُكَ أمْرَه بالمعْروفِ ونهيه عنِ المُنْكرِ، وقدْ يحْمِلُه الحياءُ على الإِخْلالِ بِبعضِ الحُقوقِ وغيرِ ذلك مما هو معْروفٌ في العادة".
فلا ينبغي أن يكون الحياء مانعًا من قول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا حائلا عن طلب العلم، وقد قال : ((اثنان لا يتعلمان: مستحي ومستكبر)) ، وهذا من قبيل الحياء المذموم، فلا يمنعك الحياء ـ أخي المسلم ـ أن تسأل عما أوجب الله عليك، وأن تستفسر عما أشكل عليك في أمور دينك ودنياك، فإن الله لا يستحي من الحق.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، لقد خلق الله المرأة وكانت مثالا للحياء، فقد فطرها الله سبحانه وتعالى على هذه الصفة الجليلة، وجاء الإسلام فجعلها شعارا للعِرض والحرمة، وعنوانا للحشمة والعفة، ورمزا للحياء والسترة، فشرع لها من الشرائع والأحكام ما يحفظ به حياءها وعفتها، وما يصون به شرفها وقيمها.
ومن هذه الأحكام ما أوجبه الله عليها من السترة واللباس، هذا الحجاب هذا اللباس الرباني الذي هو عنوان الحياء والعفة عند المرأة المسلمة، فقد أوجبه الله تعالى في كتابه فقال جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لأزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:59]، وثبت أن النبي قال: ((يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض فلا يحلّ أن يرى منها إلا وجهها وكفيها)).
أيها الإخوة الكرام، إن هناك تلازما بين ما شرعه الله من اللباس لستر العورات وبين التقوى، فكلاهما لباس، قال تعالى: يَـ?بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُو?رِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ?لتَّقْوَى? ذ?لِكَ خَيْرٌ ذ?لِكَ مِنْ آيَـ?تِ ?للَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يَـ?بَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ ?لْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا ?لشَّيَـ?طِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:26، 27].
فالتقوى يستر عورات القلب ويزينه، واللباس الشرعي يستر عورات الجسم ويزينه، وهما متلازمان، فمن الشعور بالتقوى والحياء ينبثق شعور يستقبح به المرءُ أن يتعرّى في جسده، ومن لا يستحي من الله ولا يتقيه لا يهمه أن يتعرّى أو أن يدعو غيره إلى العُري، ولهذا كان ستر العورة عند الرجل والمرأة ملازما للتقوى والحياء.
والحجاب الذي يستر المرأة هو عنوان عفتها، فالحجاب يحفظها من أذى الفساق ومرضى القلوب، فلا تتسابق النظرات إليها، لأنها حفظت أوامر الله، فحفظها الله سبحانه تعالى.
والحجاب ـ عباد الله ـ يتناسب مع غيرة الرجل التي جبله الله عليها، أبًا كان أو زوجا أو أخا أو ابنا، فالمؤمن لا يرضى أن توجَّه نظرات خائنة إلى أهله وعياله، وحفظُ كلِّ ذلك بالحجاب.
كما أن الحجاب طهارة للمرأة المحجّبة وطهارة لقلب الرجل، قال تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـ?عًا فَ?سْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذ?لِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]. فوصف الله سبحانه الحجاب بأنه طهارة لقلوب المؤمنين والمؤمنات؛ لأن العين إذا لم تر لم يشتهِ القلب، أما إذا رأت العين فقد يشتهي القلب وقد لا يشتهي. ومن هنا كان القلب مع عدم الرؤية أطهر، ومع عدم الفتنة أسلم.
فالمرأة المحجبة تجدها من أكثر النساء حياء، في لباسها، في كلامها، في مشيتها، وقد ذكر الله على سبيل المدح في سورة القصص من موقف ابنتي الرجل الصالح اللتين تربتا على العفة والطهارة والحشمة والحجاب، قال تعالى: فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى ?سْتِحْيَاء [القصص:25].
وإنّ ما نراه اليوم ـ عباد الله ـ مما أحدثه بعض المسلمات في هذا الزمان من التعري ولبس القصير والضيق والشفاف من اللباس بقصد أو بغير قصد مناف للحياء، وهو أمر فظيع، وهو بعيد كلَّ البعد عما أوجبه الله على المسلمات لما أبدينه من المفاتن والمحاسن، فكان سببا عظيما في إثارة الفتنة عند الشباب، وقد حذر الله سبحانه وتعالى من التبرج في كتابه فقال للمسلمات: وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لأولَى? [الأحزاب:33]، ولقد ثبت عن النبي في السنة الصحيحة أنه قال: ((صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)).
هذه صفات نساء من أمته رآهن النبي في النار، ولم يرهن في زمانه، وهذا من معجزاته ، فقال في وصفهن: ((كاسيات عاريات)) أي: عليهن كسوة لا تفيد ولا تستر، إما لقصرها أو خفتها أو ضيقها، ((مائلات مميلات)) مائلات عن الحق وعن الصراط المستقيم، مميلات لغيرهن، وذلك بسبب ما يفعلنه من الملابس والهيئات الفاتنة التي ضلت بها في نفسها وأضلت غيرها، ثم فقال : ((لا يدخلن الجنة)) أي: لا يدخلن الجنة مع الداخلين الأولين من المسلمين، يمرون بجهنم أولاً والعياذ بالله.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ في بناتكم ونسائكم، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
وقد يرفض بعض النساء الحجاب بدعوى أنه لباس قديم، ونحن في عصر حضارة وتقدم، فجوابها أن أحكام الله في القرآن صالحة لكل مكان وزمان، ولكل حضارة وانحطاط، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].
وكذلك بعض الآباء والأمهات قد يتساهلون في قضية الحجاب بحجة أن البنت ما زالت صغيرة السن، أو لم تنه الدراسة بعد، قال مبينا السن الذي تكلف به البنت بالحجاب: ((يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض فلا يحل أن يرى منها إلا وجهها وكفيها)).
ومن النساء والفتيات من يمتنعن من ارتداء الحجاب خوفا من عدم الزواج، فبزعمهن أن الفتاة إذا ارتدت الحجاب فإنها ستكون مخبأة عن أنظار الرجال، ولن تعجب أحدا وهي مستورة، وسيفوتها الزواج، وأما إذا كانت متبرجة ومتزينة فستجلب الكثير من الرجال، وأكيد أنها ستقع على من يتزوجها، وهذه نظرة قاصرة ناتجة عن ضعف في الإيمان، فالمسلمة المؤمنة الصادقة يهمها ابتداء طاعة الله ومرضاته واجتناب غضبه وسخطه لا الزواج، والزواج هو نصيب مكتوب بيد الله، والحقيقة والواقع الذي نراه في شوارعنا يكذّب هذا، فإن المرأة المتبرجة لا تجلب أنظار الرجال فحسب، بل أنظار الذئاب كذلك الذين همهم الوحيد هو العبث والسخرية ببنات الناس، ولاحول ولا قوة إلا بالله.
عباد الله، إنَّ الحياءَ خُلُقٌ عظيمْ يحْفَظُ لِلرَجُلِ هيْبَتَهُ ورُجولَتَهُ، ويَحْفظُ لِلمرأةِ عِزّتَها وأُنوثتَهَا، ويُلْبِسُ الشَّابَ الْجَمالَ والْكرَامةَ.
رزقنا الله وإياكم الحياء، وجعله لنا رادعا عن كل محظور، ومانعا من كل منكر.
اللهم أصلحنا وأصلح شبابنا وبناتنا ونساءنا أجمعين.
(1/3442)
يا تارك الصلاة
فقه
الصلاة
يزيد بن الخضر ابن قاسي
بوزريعة
علي مغربي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصلاة أعظم العبادات. 2- تعظيم قدر الصلاة. 3- وعيد ترك الصلاة. 4- حكم تارك الصلاة. 5- شبهات التاركين للصلاة. 6- فوائد الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
اتقوا الله عبادَ الله، واعلموا أن الله جل وعلا خلقنا لعبادته، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لرَّزَّاقُ ذُو ?لْقُوَّةِ ?لْمَتِينُ [الذاريات:56-58].
وإن من أعظم العبادات عند الله وأرفعها شأنا وأجلّها قدرا إقامة الصلاة، فالصلاة ركنُ الدين وفريضة الله على المسلمين ومعراجُ المؤمنين المتّقين، وهي الصلة بين العبد وبين ربه، وهي أفضل أعمال الإسلام، فلا دينَ لمَن لا صلاةَ له، ولا حظَّ في الإسلام لمَن ترك الصّلاة، فإنه لا يستهين بأمرها ولا يعرف قدرها ولا يُعظّم شأنها إلا من نقص تعظيم الله في قلبه، لأن تعظيم قدر الصلاة هو تعظيم لله عز وجل، فينبغي على كل مسلم أن يعرف عظم قدر هذه الصلاة التي أوجبها الله على عباده.
ومما يعرف به قدر الصلاة عند الله أنها الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين، فالصلاة عمود الإسلام، قال : ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة)).
ويتجلى كذلك تعظيم قدرها أن كل الأحكام والتشريعات شرعت والنبي على أرض جزيرة العرب، وأما الصلاة ـ عباد الله ـ فلعظم قدرها عند الله فرضت ليلة المعراج، وذلك لما عرج بالنبي إلى السموات العلى، ففي الصحيح قَالَ النَّبِيُّ : ((ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوَى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلام،ِ فَفَرضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلاة، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ: مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِك؟ قُلْت: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلاة، قَال: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى قُلْتُ: وَضَعَ شَطْرَها، فَقَال: رَاجِعْ رَبَّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ، فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَال: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذَلِك، فَرَاجَعْتُهُ فَقَال: هِيَ خَمْسٌ، وَهِيَ خَمْسُون، لا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ)).
نعم، هكذا فرضت الصلاة أيها الإخوة المسلمون، فرضت فوق السموات العلى، ليلة أسري بالنبي ، خمس صلوات في العدد باعتبارالتكليف والعمل، وخمسون في الأجر والثواب، فالحسنة بعشر أمثالها.
ولا يخفى ـ عباد الله ـ أن الصلاة أكثر الفرائض والواجبات ذكرا في القرآن الكريم تبيانا لعظم قدرها عند الله.
ويتجلى عظم قدرها كذلك أنه لا عذر لأحد على أيّ حال من الأحوال أن يتركها، بخلاف بقية الواجبات والفرائض التي قد يكون لك العذر في تركها كالصيام والحج وغيرهما، بل الصلاة لا تترك حتّى إذا عجز المسلم عن شروطِها وأركانِها، يصليها ما دامَ العقل سليما، والصلاة لا تسقط بمرضٍ ولا خوف ولا فزع ولا قتال، قال تعالى: حَـ?فِظُواْ عَلَى ?لصَّلَو?تِ و?لصَّلَو?ةِ ?لْوُسْطَى? وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـ?نِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ [البقرة:238، 239]، فالجهاد الذي هو ذروة سنام هذا الدين، ومع ذلك لا يجوز للمجاهد وهو في ساحة الوغى أن يترك الصلاة، ولأجل ذلك شرعت صلاة الخوف في الجهاد، فعلى أيّ حالٍ لا بدّ أن يصليَ المسلم، حتى وإن عجز عن طهارةٍ أو ستر عورة أو غير ذلك صلّى على أيّ حال، وحتى وإن تعذرت الصلاة بركوعها وسجودها يصليها إيماء برأسه أو تحريكا بعينه أو بأصبعه، فإن لم يستطع فبقلبه، وإن تعذر الوضوء أو الغسل لفقدان الماء أو المرض شرع التيمم، وهذا كله حتى لا يترك المسلم صلاته لعظم قدرها عند الله.
ولعظم قدرها كذلك شرع للمسلم أن يصلي في أي مكان، وعلى أي أرض كان، مجتنبا في ذلك المقابر ومواطن النجسات إلا أن يتعذر ذلك، قال : ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا)).
وعند السفر الذي هو قطعة من العذاب ـ كما وصفه النبي ـ رخِّص للمسلم المسافر قَصر الصلاة، وكذلك في الحضر والسفر رخِّص له الجمع بين الصلاتين والمسح على الخفين وهذا كلّه حتى لا يتركها.
ولأجل الصلاة ولأجل هذه الشعيرة العظيمة بنيت المساجد وشيِّدت، وشُرع الأذان، وشرعت صلاة الجماعة تعظيما لقدر الصلاة.
ولعظم قدر الصلاة عند الله أن النبي أمر بتعليمها الصبيان إذا بلغوا سبع سنين، وضربهم عليها في السن العاشر، قال : ((مُروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)).
ولا يخفى أن الصلاة كانت وصيّةَ رسول الله عندَ فِراق الدّنيا وهو يغالِب سكراتِ الموت، تخرج روحُه الشريفة وهو مشفِق على أمّته، يجود بنفسِه وينادي: ((الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانُكم)) ، وكانت همَّه وهو في الرّمَق الأخيرِ يسأل: ((هل صلّى الناس؟ مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس)) ، نعم كل هذا لعظم قدر الصلاة.
وفريضة الصلاة لعظم قدرها كانت فريضة مشتركة بين النبيين، فكلُّهم أُمِروا بها، قال الله سبحانه عن إبراهيم ولوطٍ ويعقوبَ وإسماعيل عليهم السلام: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ ?لْخَيْر?تِ وَإِقَامَ ?لصَّلو?ة [الأنبياء:73]، وهي دعوةُ أبينا إبراهيم حينَ دعا ربَّه بقوله: رَبّ ?جْعَلْنِى مُقِيمَ ?لصَّلو?ةِ وَمِن ذُرّيَتِى [إبراهيم:40]، وقال: رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ?لْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ [إبراهيم:37]. وقال سبحانه عن عيسى عليه السلام: وَأَوْصَانِى بِ?لصَّلَو?ةِ وَ?لزَّكَو?ةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:31]. وفي كلامِ الله تعالى لموسى عليه السلام: إِنَّنِى أَنَا ?للَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلا أَنَاْ فَ?عْبُدْنِى وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِذِكْرِى [طه:14]، ولنبيّنا محمّد عليه الصلاة والسلام: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132]، أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِدُلُوكِ ?لشَّمْسِ إِلَى? غَسَقِ ?لَّيْلِ وَقُرْءانَ ?لْفَجْرِ إِنَّ قُرْءانَ ?لْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، وقال سبحانه عن عبادِه الصالحين المصلحين: وَ?لَّذِينَ يُمَسّكُونَ بِ?لْكِتَـ?بِ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ?لْمُصْلِحِينَ [الأعراف:170].
ولقد وردت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تترى في تأكيد تعظيم قدر الصلاة، وفي بيان الوعيد الشديد لمن تركها وضيّعها، من ذلك قوله سبحانه: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا [مريم:59]، وقال تعالى في وصف الوجوه الباسرة أي: الكالحة العبوسة: فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى? وَلَـ?كِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى? ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى? أَهْلِهِ يَتَمَطَّى? أَوْلَى? لَكَ فَأَوْلَى? ثُمَّ أَوْلَى? لَكَ فَأَوْلَى? أَيَحْسَبُ ?لإِنسَـ?نُ أَن يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:31-36]، وقال تعالى: إِلاَّ أَصْحَـ?بَ ?لْيَمِينِ فِى جَنَّـ?تٍ يَتَسَاءلُونَ عَنِ ?لْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ?لْمُصَلّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ?لْمِسْكِينَ [المدثر:39-44]، أصحاب اليمين في الجنات يتساءلون عن سبب دخول المجرمين سقر وهي جهنم، فأول شيء أجاب به هؤلاء المجرمون اعترافا بذنوبهم في الدنيا هو ترك الصلاة وتضييعها، إلى غير ذلك من الآيات.
ومن الأحاديث الصحيحة قول النبي : ((أول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائرُ عمله، وإن فسَدت فسَد سائرُ عمله)) ، وقال أيضا : ((العهد الذي بننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)) ، وقال : ((من ترك الصلاة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله)) ، وقال : ((ليس بينَ الرّجل والكفرِ أو الشرك إلاّ ترك الصّلاة)).
وإزاء هذه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة اختلف الأئمة والعلماء في حكم تارك الصلاة، والخلاف فيه معتبر لا يستهان به، وينبغي على كل المسلم أن يكون على علم به، وخلاصته وحقيقته أن من الأئمة الفضلاء والعلماء الأجلاء فقهاء ومحدثين من السلف والخلف من قالوا بتكفير تارك الصلاة، وإن كان الراجح من ذلك هو قول الجمهور القائلين بعدم كفر تارك الصلاة، وأن تارك الصلاة يبقى على إسلامه، وإن مات يصلّى عليه ويدفَن في مقابر المسلمين، ويحمَل ما جاء في الأحاديث من إطلاق الكفر على الكفر العملي لا الكفر الاعتقادي الذي يخلد صاحبه في النار، ولكن ولكن مع هذا لم يختلف الجمهور على تفسيق تارك الصلاة، وأنه قد قارب الكفر بعمله، وأنه يستتاب من طرف الإمام، وأنه مردود الشهادة، وإن مات على تلك الحال فذلك من سوء الخاتمة والعياذ بالله، ويبقى في حقه الوعيد الشديد، وهو تحت مشيئة الله سبحانه، وحكمه إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
فيكفي تارك الصلاة أن علماء المسلمين قد اختلفوا في شأنه، أمسلم فاسق هو أم كافر، أفيسرّك ويرضك ـ يا تارك الصلاة ـ أن يكون هذا حكمك وحالك في الإسلام؟! أترضى بأن تكون لك قدم في دائرة الإسلام والقدم الأخرى في دائرة الكفر؟!
فترك الصلاة ـ عباد الله ـ ليس بالأمر الهين كما قد يعتبره بعض االناس، فإن ترك الصلاة جرم كبير وشنيع، ومنكر خطير وفظيع، قد يؤدي والعياذ بالله إلى الردة عن الدين واللحوق بالمشركين، فتارك الصلاة قد هدم عمود الإسلام، وفتح على نفسه بابا قد يؤدي به إلى الكفر والخروج من الإسلام، وهو جاحد لنعمة الله عليه. يا سبحان الله، الله الذي أنعم عليك بنعمة الإسلام وبنور الإيمان، وجعل لك فؤادا وعقلا، وأعطاك صحة وقوة وسمعا وبصرا، وأسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة تكريما وتشريفا، وأنت ترفض أن تركع له ركوعا وتسجد له سجودا، واللهِ إنها لمن المصائب العظمى والبلايا الكبرى في هذا الزمان، أن تجد الواحد قد بلغ العشرين أو الثلاثين أو الأربعين ولا تعرف له صلاة ولا ركوعا ولا سجودا، أو تجده قد جاوز الخمسين أو حتى الستين ولم يسجد لله سجدة واحدة والعياذ بالله.
قال تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا [مريم:59]، وقال سبحانه: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ?لسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَـ?شِعَةً أَبْصَـ?رُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ?لسُّجُودِ وَهُمْ سَـ?لِمُونَ [القلم:42، 43].
قال ابن كثير رحمه الله: "أي: لما دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامتهم، كذلك عوقبوا بعدم قدرتهم عليه في الآخرة".
فإن قضية الصلاة لأمر جلل، ولا يستهان بها، لا في حالة الجزع ولا في حالة الملل، لا في الصغر ولا في الكبر، لا في الشدة ولا في الرخاء.
فخذوا ـ عباد الله ـ بأيدي إخوانكم وأهاليكم وأبنائكم بالنصيحة والتعليم والإرشاد والتوجيه في أمر الصلاة، قال الله لنبيه : وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132]، وقد امتدح الله إسماعيلَ عليه السلام بقوله: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِ?لصَّلَو?ةِ [مريم:55]، وقال : ((مُروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)).
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
وللحديث بقية، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، إن مما يحسن في هذا المقام الرد على بعض الشبه الداخلة على بعض تاركي الصلاة، فإن الشيطان يجتهد كل الجهد في إبعاد الناس عن الصلاة بكل وسائله وشبهه الباطلة.
فبعض الناس بسبب إدمانهم على معصية أو وقوعهم في كبيرة معينة يرفضون الصلاة، وذلك بزعمهم خشية الوقوع في النفاق مع الله، وفي ظنهم أنه يشترط للإنسان أن يكون صافيا وخاليا من المعاصي ليصبح مصلّيا، وهذا في الحقيقة هو من تلبيس إبليس عليهم، ومكيدة من مكائده الخبيثة، والمشكلة أن هذه الشبهة قد شاعت في الكثير من الناس وخاصة عندنا في الجزائر.
اعلم ـ يا عبد الله ـ أن فعلك للكبيرة وأنت تقيم الصلاة أهون عند الله من فعلك الكبيرة وأنت مضيّع وتارك لها، بل كونك تصلّي فصلاتك تكون لك عونا في التخلّص مما أنت فيه من المعاصي، قال تعالى: إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].
والبعض الآخر له حجته الباطلة في تركه للصلاة، فيقول: الإسلام ليس فقط الصلاة (الإسلام ماشي غير الصلاة)، المهم في المسلم أنه لا يسرق ولا يخدع ولا يكذب ويتصدق، هذا هو الصحيح والأهم في نظره، فيستهين بأمر الصلاة، فنجيبه ونقول: صحيح أن كل ما ذكرته من عدم سرقة وخداع وغير ذلك من الإسلام، ولكن هذه الأمور متعلقة بحقوق الناس، أما الصلاة فهي حق الله، وحق الله مقدّم ومؤكّد على حقوق الناس، وزد على هذا فقد تجد من الكفار من لا يسرق ولا يخدع ويتصدق وهل ينفعه ذلك عند الله وهو مضيع لحقوق الله من إيمان وتوحيد وصلاة؟!
وبعض الناس إذا قلت له: لماذا لا تصلي؟ يجيبك بكل جرأة ووقاحة: لقد رأينا الذين يصلون ماذا يفعلون، أو: لقد رأينا أصحاب المساجد ماذا يعملون، هذا الجواب الضعيف الذي ليس له أصل في دين الله، فالمسلم لا يعلق دينه بالناس، بل يعلقه برب الناس وبدينه، فما لك وللآخرين؟! إذا كان غيرك على اعوجاج، فصلِّ أنت وكن خيرا منهم، وكن أكثر استقامة منهم، وكن قدوة لهم، وزيادة على هذا فأنت لا تصلي من أجل الناس، فالصلاة حق الله وحده، فلماذا تعلقها بالناس؟!
والبعض الآخر يترك الصلاة أو يتهاون بها من أجل عمل ما أو وظيفة ما، ويقول: الوظيفة ما تركتني أصلي، ما عندي الوقت لأصلي، فيترك الصلاة. سبحان الله، صلاة الظهر مثلا بعدد ركعاتها وأركانها تأخذ منك خمس دقائق، فأيّ عذر أقبح من أن تقول: ليس عندي وقت لأصلي؟! أليس عندك وقت لتأكل وأنت في وظيفتك؟! أوما تجد وقتا لقضاء حاجتك وأنت في عملك؟! فكيف تهون عليك الصلاة من ذلك كلّه حتى لا تجد لها وقتا يسيرا أثناء وظيفتك وعملك؟! ولكنه حب الدنيا ونسيان الآخرة، ولا حول ولا قوة إلا الله.
ومنهم من يترك الصلاة ويشتغل كلّ وقته بعمله أو تجارته ويقول: العمل عبادة، وكلنا نعلم بطلان هذه المقولة مما تقدم من الخطبة، فأعظم العبادات عند الله الصلاة، وهي أفضل أعمال الإسلام كما أخبر الصادق المصدوق.
عباد الله، إن للصلاة فوائد عظيمة وكثيرة، فالصلاة هي عنوانُ الفلاحِ وطريق النجاح، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون:1، 2]، إلى أن قال في آخر نعتِهم: وَ?لَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلَو?تِهِمْ يُحَـ?فِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْو?رِثُونَ ?لَّذِينَ يَرِثُونَ ?لْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [المؤمنون:9-11].
ومن فوائد الصلاة تكفير الخطايا والذنوب، واسمَع قول الله تعالى: وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ طَرَفَىِ ?لنَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ ?لَّيْلِ إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذكِرِينَ [هود: 114]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله يقول: ((أرأيتُم لو أنّ نهرًا بباب أحدِكم يغتسِل منه كلَّ يومٍ خمسَ مرّات، هل يبقى من درنِه شيء؟)) قالوا: لا يبقى من درنِه شيء، قال: ((فذلك مثَل الصلوات الخمس، يمحو الله بهنّ الخطايا)).
والصلاةُ بابٌ للرزق، قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه:132].
إنّ الصلاةَ أوّل شروط النصرِ والتمكين، قال تعالى: ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لأمُورِ [الحج:41]، فلا ينصر الله أمة ضيعت صلاتها ولم تعرف للصلاة تعظيما ولا قدرا وركنت إلى الدنيا باتباع الشهوات، قال تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا [مريم:59]، فجعل الله سبحانه سبب تضييع الصلاة الركون إلى الدنيا باتباع الشهوات.
وإن الصلاة ـ عباد الله ـ تنهى عن الفحشاء والمنكر، فتطهِّر القلوبَ من درن الذنوب والمعاصي، إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].
والصلاة هي المفزَع عند الجزَع، وإليها الهرَب عند الهلَع واللجوء عند الخوف، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة:153]؛ لذا كانت قرَّة عين النبيِّ ، فإذا حَزَبه أمرٌ أو نزل به كرب فزع إلى الصّلاة.
والصلاة راحة النفس وطمأنينة القلب قال : ((أرِحنا بها يا بلال)).
(1/3443)
العشر الأواخر
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
آفات اللسان, الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
يزيد بن الخضر ابن قاسي
الأبيار
19/9/1424
الموحدين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العشر الأواخر من رمضان. 2- من فضائل ليلة القدر. 3- تحري ليلة القدر. 4- الحث على الإكثار من قراءة القرآن. 5- مصيبة هجر القرآن الكريم. 6- حفظ اللسان في رمضان. 7- سب الله ورسوله ودينه ردة عن الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله حقَّ التقوى، فالتقوى سبيل المؤمنين، وزاد الصالحين، وبها النجاة والصلاح يوم الدين. فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله في كل وقتٍ وحين، فإن تقوى الله عز وجل منال يرجَى إدراكه وتحقيقه، وقد أخبر الله عز وجل في كتابه العزيز أن مما تنال به التقوى فريضة الصيام: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، فصيام شهر رمضان زيادة على ما فيه من جزيل الفضل والرحمة والمغفرة والعتق من النار فهو مدرسة لتعلم الصبر وتحقيق التقوى، فعلينا ـ عباد الله ـ أن نغتنم هذا الموسم العظيم والشهر الكريم وما تبقى فيه من أيام لنتزود فيها بخير الزاد ولندرك فيه خيره وفضله.
أتى رمضان مزرعة العباد لتطهير القلوب من الفساد
فأدِّ حقوقه قولا وفعلا وزادك فاتخذه للمعاد
من زرع الحبوب وما سقاها تأوَّه نادما يوم الحصاد
ألا وإنّ أفضل أيام هذا الشهر ولياليه ـ يا عباد الله ـ عشره الأخيرة، ونحن مقبلون عليها من الغد إن شاء الله، فأيّام العشر أفضل أيام الشهر، ولياليه أفضل ليالي العام كله، وحسب هذه الليالي شرفًا ورفعة وفضلاً أن الله اختصّها بليلة عظيمة، ليلة القدر التي عظَّم الله سبحانه قدرها، وأعلى شأنها، وشرفها بإنزال الوحي المبين هذا القرآن العظيم على سيد المرسلين.
إنه كتاب ربنا، هذا الكتاب الذي بين أيدينا إنه النعمة الباقية والمعجزة الخالدة والعصمة الواقية والحجة البالغة والدلالة الدامغة، وهو شفاء لما في الصدور، والحكم العدل عند مشتبهات الأمور، وهو الكلام الجزْل، وهو الفصل الذي ليس بالهزل، منزه من الخطأ والزلل، صالح في كل مكان وزمان، لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
فهذا القرآن العظيم اختار الله لنزوله أشرفَ الأزمان وأعظم الشهور، وأفضل الليالي وهي ليلة القدر، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [الدخان:3]، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
ومن خصائص هذه الليلة أن فيها يفرق كل أمر حكيم، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:3، 4]، أي: في هذه الليلة يفصل من للوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق وما يكون فيها إلى آخرها.
ومن فضائل هذه اليلة أنها خير من ألف شهر، والعبادة فيها تفضُل عبادة ألف شهر خلت من ليلة القدر، فهي ليلة عظيمة البركات كثيرة الخيرات، تضاعف فيها الحسنات، ويستجاب فيها الدعوات، لِما يتنزل فيها على العباد من عظيم المنح الربانية وجليل النفحات الإلهية، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1].
وإن من صدق إيمان العبد ودلائل توفيق الله له أن يغتنمَ هذه الليالي المباركة، بجلائل الأعمال الصالحة، وأنواع العبادة والطاعة، والتذلل بين يدي الله عز وجل، والإنابة إليه، أملا في إحراز فضل ليلة القدر ونيل بركاتها، فلقد بلغ من عظيم فضلها وجليل ثوابها أن من قامها بنية خالصة وعبودية صادقة كفّر الله عنه ما تقدم من ذنوبه وخطاياه، فقد قال : ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه)) أخرجاه في الصحيحين.
وقد رغب رسول الله أمته إلى التماس ليلة القدر في ليالي العشر الأواخر، أو السبع البواقي منها، وأنها ترجى في ليالي الأوتار، وأرجاها ليلة السابع والعشرين من هذا الشهر الكريم، فقد روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي)) ، وفي لفظ آخر له: ((فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر)) ، وقد سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله عما تدعو به في ليلة القدر إن هي علمتها، فأرشدها أن تقول: ((اللهم إنك عفو، تحب العفو، فاعف عني)).
وقد كان رسول الله يخصُّ هذه العشر الآواخر من رمضان بمزيد من العبادة، ويضاعف فيها الأعمال الصالحة، ويجتهد فيها بأنواع الطاعات والقربات ما لا يجتهد فيما سواها من الأزمنة، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا ليله، وأيقظ أهله، وجدّ وشدّ المئزر.
فمن التوفيق والرشاد ونفاذ البصيرة وسداد الرأي أن يغتنم المسلم هذه الأيام الفاضلة واليالي المباركة بالتزود بالصالحات، والمسابقة إلى الخيرات، والمحافظة على العبادات من صلاة وصيام وقيام، وصدقة وبر وإحسان، وعطف على الفقراء والأيتام، والإكثار من الاستغفار، وإدامة ذكر الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار، فإن ذكر الله تعالى يزكي النفوس، ويشرح الصدور، ويورث الطمأنينة في القلوب، كما قال تعالى: أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
وإن خير أنواع الذكر قدرًا وأعظمها عند الله أجرًا تلاوة كتاب الله الكريم الذي لا يَأتيهِ الباطلُ من بينِ يَديهِ ولا من خَلفِه تنزيلٌ من حَكيمٍ حمِيد. فقد كان من هديه الإكثار من تلاوته في رمضان أكثر من تلاوته في غيره، وكان جبريل يأتيه في رمضان يدارسه القرآن.
وقد أبان عن فضل تلاوة كتاب الله وعظيم ثوابه بقوله: ((من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)).
والقرآن شافع لك يوم القيامة، ((يأتي القرآن شافعًا لأصحابه يوم القيامة)) ، فاقرؤوه وتدبروه، في رمضان وفي غيره، ولتكن قراءته في رمضان عظيمة.
أيها المسلمون، ينبغي وخاصة في هذا الشهر العظيم أن تسري عظمة القرآن في نفوسنا، وأن تلين له جلودنا، بعد أن تخشع له قلوبنا، فتلكم الهداية التي أخبرنا الله عز وجل عنها: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23]. وكيف لا تقشعر جلودنا وتلين قلوبنا وربنا يخاطبنا ويقول: لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدّعًا مّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الاْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21].
أيها المؤمنون، إنه من الأسف الشديد أن الكثير من الناس في هذا الزمان قد أصابتهم الغفلة، وقعوا في هجر القرآن، ولربما تجد بعضهم يمرّ عليهم الأسبوع أو الشهر وهم لم يقرؤوا أو لم يسمعوا آية من القرآن، ولقد شكا النبي إلى ربه من هجر القرآن قال تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30].
ومن هجر القرآن هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه، فتجد بعضهم يستمع إلى إذاعات الدنيا كلها، ويستمع إلى أنواع منوّعة من الأغاني الساقطة الماجنة، ويحرم نفسه من سماع القرآن في شهر القرآن، وإذا مر بسمعه القرآن أغلق الجهاز أو المذياع كأن القرآن يزعجه أو يذكّره بشيء لا يريده، وتجد البعض الآخر قد يقرأ كل ما يجده من مجلات وجرائد مختلفة، ويحرم نفسه من القراءة في المصحف ولو لآيات قليلة، وبعضهم قد خصوا قراءة القرآن وسماعه في الجنائز فقط، وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30] والله المستعان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29، 30].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
وإن مما ينبغي التذكير به ـ يا عباد الله ـ وخاصة في هذه العشر الآواخر المحافظة على الصلوات، والحذر من الذنوب والمعاصي والانقياد للأهواء والشهوات وإضاعة الأوقات باللهو والباطل مما يصدّ عن ذكر الله وطاعته، والحذر كل الحذر من آفات اللسان التي قد تفسد صومك وتقدح في صحته وسلامته، فاجتنب الغيبة والنميمة والكذب وقول الزور، فلا خير فيها للصائم، ولا لغيره، ولكن حرمتها في الصيام أشد، ففي الحديث: ((من لم يدع قول الزور والعملَ به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) ، ليس لله مراد في ترك طعامك وشرابك إذا لم يحملك صيامك على البعد عمّا حرم الله عليك، فالكذب وقول الزور حرام في رمضان وفي غيره، ولكنه في رمضان وفي حق الصائم أشدّ حرمة، وكذلك الغيبة والنميمة واللعن والسباب كما في الصحيح عنه أنه قال: ((والصوم جُنة، فإذا كان يوم صوم حدكم فلا يرفث ولا يصخب، وإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني امرؤٌ صائم)).
ولا يخفى علينا ما نراه ونسمعه في مجتمعنا في أسواقنا وطرقاتنا من خصومات وما يحصل فيها من بذاءة في الألفاظ وفحش فى الكلام، ومن سب ولعن وشتم وسباب بأساليب عديدة، تجري على الألسنة بسهولة ويسر، ودون تفكير في العاقبة، ونخص بالذكر ـ لأنه الأدهى والأمر ـ سب الله سبحانه وتعالى أو سب رسوله الكريم أو سب دينه الحنيف، إنه ـ والله ـ لمن المصيبة العظمى والطامة الكبرى أن تسمع سب الله أو سب دينه تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًّا أن عمدوا لمثل هذا السبّ، وخاصة في رمضان، وفي الحقيقة أن هذه المصيبة شاعت وانتشرت في أوساط الناس حتى لا تكاد تخلو خصومة دون أن تسمع ذلك الفسق وذلك الكفر، ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم، ويسبون الله أو يسبون دينه بكلّ تبجح وارتياح، ولسانهم طلق وسهل بذلك ومدرّب عليه، فبمجرّد ردّةِ فعل أو معارضةٍ ما أو سوء تفاهم أو صُراخ لغضب مزعوم فلأول وهلة يسبّون الله أو دينه.
فهؤلاء الناس قد هان في قلوبهم تعظيم رب العالمين، فلو كان عندهم تعظيم لله وكانوا على تقوى وخوف منه لما تجرؤوا على سبه أو سب دينه؛ لأن اللسان ـ عباد الله ـ ترجمان القلب، وجعل اللسان على ما في القلب دليلا، وفي الحقيقة أن سب الله أو سب دينه أصبح عند هؤلاء أسلوبا لتخويف الناس ورمزا وإعلانا وشعارا للتجبر ولإظهار القوة والشجاعة الشيطانية، كأن السابّ يريد أن يقول بسبه: أنا جبار وقوي وشجاع ولا أخاف من أحد بدليل أني أسبّ الله الذي أنتم تخافونه، أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى، أما يخشى هذا الساب أن تقبض روحه وهو في تلك الحالة؟! وقد وقع مثل هذا، فقد حدثني غير واحد ممن أعرف كانوا شهود عيان فيمن قبضت روحه وهو يسبّ الله والعياذ بالله، فيا لها من سوء خاتمة وسوء عاقبة، والنبي يقول: ((وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم)) قال كلمة فقط من سخط الله، فما بالكم بمن سب الله أو سب دينه وتقصّد ذلك بأفحش السباب.
اعلموا ـ عباد الله ـ أن سب الله أو سبّ رسوله أو سب دينه في رمضان أو في غيره من الكفر المخرج من الملة بالإجماع، وهو ردة عن الإسلام، فمن وقع في مثل هذا فليجدّد إسلامه وليتب إلى الله.
فعلى الصائم أن يحفظ لسانه، وأن يكون متخلّقًا بالحلم والأناة مع غيره، معرضا عن الجاهلين والسفهاء، لقول النبي : ((فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخب)) ، يبتعد عن كل قول رذيل، عن كلّ قول سيئ، وكل قول فاحش، وكل عمل سيئ، يبتعد عنه طاعةً لله، إذا سفه عليه سفيه وانتقصه جاهل قال له: إني امرؤ صائم، ولذا قال : ((وإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني امرؤ صائم)) ، يذكّره بأنه صائم، فصومي يحجزني ويمنعني أن أخوض في الباطل أو أقول السفه.
فاتقوا الله عباد الله، فإن شهر رمضان قد مضى أكثره، ولم يبق منه إلا القليل، فلنغتنم ما تبقى من أيامه ولياليه، بالمسارعة إلى طاعة الله ومرضاته، والتعرض لنفحاته وألطافه، فربما أدركَت العبدَ رحمة من رحمات ربه، فارتقى بسببها إلى درجات المقربين، وكان في عداد أولياء الله المتقين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
(1/3444)
سورة الحجرات (1)
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, خصال الإيمان
خالد بن محمد بابطين
جدة
18/10/1424
مسجد الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خير الحديث وخير الهدي. 2- فضل سورة الحجرات. 3- النداءات في سورة الحجرات. 4- مع النداء الأول: النهي عن التقديم بين يدي الله ورسوله. 5- وقوف الصحابة رضي الله عنهم عند النصوص. 6- صور من التقديم بين يدي الله ورسوله.
_________
الخطبة الأولى
_________
فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وبهذين الأصلين اهتدت الأمّة قديمًا، وهما سبيل النجاة في سائر الأزمان والأحوال، من تمسك بهما رشد واستقام، ومن ضل عنهما غوى وهوى، وإنه ليزداد يقيننا ـ معشر المؤمنين ـ يومًا بعد يوم أنه لا خلاصَ لهذه الأمة من هذا الواقع الذي تعيشه والبؤس الذي تحياه لتعود كما كانت خير أمة أخرجت للناس إلا بأن ترجع إلى القرآن الكريم الذي هو سبيل نجاتها وحبل خلاصها وهاديها من حيرتها وموقظها من رقدتها ومنقذها من هلكتها، به تحيا، وفي ضوئه تسير، وعلى منهاجه تموت، وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وانسجامًا مع هذه القناعة وتفاعلاً مع هذا اليقين فقد رأيت أن نقف مع سورة عظيمة من كتاب الله عز وجل نتأمل آياتها، نتأدب بآدابها ونتّعظ بعظاتها.
تلكم السورة ـ أيّها الإخوة ـ هي سورة الحجرات، فهي مدرسة متكامِلة تربّى في ضوئها أصحاب محمّد ، فإنها مع قصرها وقلّة عدد آياتها جاءت شاملة لأحكامٍ وآداب وأوامرَ ونواهٍ لا تجدها مجتمعة في سورة سواها.
سورة الحجرات مدرسة متكامِلة جاءت تربّى الفرد والمجتمع بل الأمة جميعًا على سموّ الأخلاق وفضائل الأعمال وعلوّ الهمم.
إنها مدرسة عقدية وتشريعية وتربوية، فلا عجَب حينئذٍ أن نرى أخلاقَ الجيل الأول هي أخلاق القرآن التي هي أخلاق رسول الله ، ولذلك قادوا الدنيا بأسرها لا بسيوفهم ولا بأموالهم ولكن بأخلاقهم المستمَدَّة من دينهم ومُثُلهم المأخوذة من كتاب ربهم وسنة نبيهم ، وأمتنا اليومَ أحوج ما تكون إلى منقِذ لها مما هي فيه، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وما صلح أولها إلا بالكتاب والسنة، ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنتي)). ولذلك جاءت هذه السورة تعالج قضايا وأمورًا مهمّة تسهم في حلّ كثير من المعضلات المعاصرة.
أيها الإخوة، هذه السورة ذات الآيات الثمانية عشرة تضع معالم كامِلة لعالم رفيع كريم نظيف سليم، عالمٍ يصدر عن الله ويتّجه إلى الله، عالم نقيّ القلب نظيف المشاعر عفّ اللسان، وقبل ذلك عفّ السريرة، عالم له أدب مع الله وأدبٌ مع رسوله وأدب مع نفسه وأدب مع غيره، أدَب في هواجس ضميره وفي حركات جوارحه.
أيها الإخوة، يقول عبد الله بن مسعود : (إذا سمعتَ الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فأرعها سمعك، فإنما هو أمر تأمَر به، أو نهي تُنهَى عنه، أو خبر تخبَر به).
وفي ثنايا هذه السورة المباركة جاءت ستة نداءات: خمسة منها جاء المنادَى فيها موصوفًا بوصف الإيمان، أما النداء السّادس فقد جاء عامًّا للناس كلّهم.
أول هذه النداءات هو قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1].
ثانيها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2].
أما النداء الثالث فهو: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6].
رابع هذه النداءات قوله جل شأنه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].
والنداء الخامس في هذه السورة هو: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12].
أما آخر نداء ورد في السورة فهو النداء السادس: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
أيها الإخوة، هذه النداءات المتكرِّرة لم تسَق عبثًا في هذه السورة على هذا النسق المتوالي، ولكن جاءت لحِكَم عظيمة وفوائد جليلة، نسأل الله تعالى أن يوفّقنا لتدبّرها وتعقّل معانيها والعمل بمقتضاها، وسيكون حديثنا هذا اليوم عن النداء الأول منها وهو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1].
قال حبر الأمّة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس في معنى الآية: (لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة)، وقال مجاهد: "لا تفتاتوا على رسول الله بشيء حتى يقضيَه الله على لسانه"، وقال الضحاك: "لا تقضوا أمرًا دون الله ورسوله من شرائع دينكم".
فهذا أدب نفسيّ عظيم مع الله ورسوله، وهو منهج في التلقّي والتنفيذ، وهو أصل من أصول التشريع والعمل في الوقت ذاته، وهو منبثق من تقوى الله وراجع إليها.
وحين نتأمل حال الصحابة الذين شهدوا التنزيلَ نرى كيف كان أدبهم في هذا الأمر مع الله ورسوله، جاء في حديث أبي بكرَة نفيع بن الحارث الثقفي أنّ النبي سأل في حجة الوداع: ((أي شهر هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنّه سيسميه بغير اسمه فقال ((أليس ذا الحجة؟)) قلنا بلى، قال: ((أيّ بلد هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: ((أليس البلدة الحرام؟)) قلنا بلى، قال: ((فأيّ يوم هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: ((أليس يوم النحر؟)) قلنا: بلى... الحديث.
فهذه صورة من الأدب ومن التحرّج ومن التقوَى التي انتهى المسلمون إليها بعد سماعهم ذلك النداء وذلك التوجيه وتلك الإشارة إلى التقوى للسميع العليم.
وهذا مقتضى العبودية لله تعالى، فلا يُقَدِّمَ هوَى نفسه أو غيره على أمر الله تعالى وحكمه، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [الأحزاب:36]، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
ولقد كان الصحابة أعظمَ من غيرهم انتفاعًا بالدليل والوحي وتسليمًا له لنزاهة قلوبهم وخلوِّها من كلِّ ميل أو هوى غير ما جاءت به النصوص واستعدادِها التامِ لقبول ما جاء عن الله ورسوله والإذعانِ والانقياد له انقيادًا دون حرج ولا تردّد ولا إحجام.
روى البخاري عن ابن عباس أنه قال: قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحرّ بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القرّاء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شبانًا، فقال عيينة لابن أخيه:يا ابن أخي، لك وجهٌ عند هذا الأمير فاستأذِن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحرّ لعيينة فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هِي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجَزل ولا تحكم بيننا بالعَدل، فغضب عمر حتى همّ أن يوقعَ به، فقال الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه: خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين، قال: والله، ما جاوزَها عمر حين تلاها وكان وقّافًا عند كتاب الله عز وجل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عَظُمَ شأنه ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره، عمّ امتنانه وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: إن الاستجابة الكاملة للوحي تعني عدم التقديم بين يديه وعدمَ جعل نصوص الوحيين وأحكامهما مجالاً للنّقاش والحوار والأخذ والردّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1].
أيها الإخوة، إننا نعيش واقعًا يَعُجُّ بالفِتن والرزايا، ومن أعظم ذلك ما نراه من السعيِّ الحثيث والدّؤوب لتغيير المسلَّمات والمقرَّرات عند المسلمين وجعلها مجالاً للنقاش والحوار، ومن ثَمَّ القبول أو الردّ واستهدافِ مكانة النص الشرعي وقدسيته؛ كي لا يبقى لدَى المسلم ثوابتُ ولا أصولُ يرتكز عليها ويفيء إليها عند الفتن والمدلهمات والأمور المشتبهات، والهدف من وراء ذلك كلّه أن ينسلخ المسلم من دينه ولا يبقى لديه من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه.
فهذه صورة من صور التقديم بين يدي الله ورسوله، وثمة صورة أخرى وهي جعل العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية أو الدّولية أساسًا يرجَع إليه دون الكتاب والسنة.
وصورة ثالثة لهذا الأمر ألا وهي القول على الله بلا علم والتصدّر للإفتاء والتحليل والتحريم بل والتفسيق والتبديع والتكفير من أحداثٍ أغرار جهّال، وذلكم من أعظم الآثام وأكبر المحرمات، قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].
أخيرًا أيها الإخوة، من يردُّ الأحاديث الصحيحة بل المتواترة أحيانًا بحجّة مخالفتها للعقل هذا من أعظم المقدِّمين بين يدي الله ورسوله، وفي الحقيقة لو كان عقله سليمًا لما وجد تعارضًا بينه وبين النصّ الشرعي؛ لأنهما صادران عن الله، فلا يمكن أن يعارض صحيح المنقول صريح المعقول.
(1/3445)
سورة الحجرات (2)
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي, القرآن والتفسير
خالد بن محمد بابطين
جدة
25/10/1424
مسجد الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مع النداء الثاني: النهي عن رفع الصوت عند النبي وعن الجهر له بالقول. 2- سبب نزول الآية. 3- خوف الصحابة رضي الله عنهم من ذلك. 4- أدب العلماء مع حديث النبي. 5- فضل العلم والعلماء. 6- وجوب احترام العلماء والتأدب معهم. 7- أصناف الطاعنين في العلماء. 8- واجبنا تجاه العلماء. 9- الموقف الشرعي من خطأ العالم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون، في هذا اليوم نتأمل النداء الإلهي الثاني في سورة الحجرات، وهو قول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2].
نزلت هذه الآية الكريمة في أبي بكر وعمر ، فقد روى البخاري عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيّران أن يهلكا أبو بكر وعمر؛ رفعا أصواتهما عند النبي حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر فقال أبو بكر لعمر: ما أردتَ إلا خلافي، فقال: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآية [الحجرات:2]، قال ابن الزبير : فما كان عمر يُسمع رسول الله بعد هذه الآية حتى يستفهمه مما يخفض. وعن طارق بن شهاب عن أبي بكر قال: لما نزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قلت: يا رسول، والله لا أكلّمك إلا كأخي السِّرار.
أيها الإخوة، هكذا كانت استجابة الخيِّرين لهذه الآية، وهكذا دأب الصحابة في أدبهم مع رسول الله ، وفي الصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي افتقد ثابت بن قيس فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكِّسا رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شرّ، كان يرفع صوته فوق صوت النبي فقد حبط عمله وهو من أهل النار، فأتى الرجل النبي فأخبره أنه قال: كذا وكذا، فقال موسى بن أنس بن مالك: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: ((اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة))، قال أنس : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة. فهنيئًا له ثم هنيئًا له.
قال ابن كثير رحمه الله: "قال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره كما كان يكره في حياته؛ لأنه محترم حيًا وفي قبره ، وقد روِّينا عن عمر بن الخطاب أنه سمع صوتَ رجلين في مسجد النبيّ قد ارتفعت أصواتهما، فجاء فقال: أتدريان أين أنتما؟! ثم قال: مِن أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربًا". ولهذا فإنه ينبغي على الإنسان أن يتأدب مع سنّته وحديثه حين يسمعه أو يقرأه أو يكتبه.
ولله در مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله، فلم يكن يحدّث بحديث رسول الله إلا اغتسل وتبخر وتطيّب وجلس على صدر فراشه وسرّح لحيته وتمكن من جلوسه بوقار وهيبة، ثم يقول: أحبّ أن أعظِّم حديث رسول الله ولا أحدث به إلا على طهارة متمكّنًا، وإذا رفع أحد صوته عنده قال: اغضض من صوتك فإن الله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ، فمن رفع صوته عند رسول الله فكأنما رفع صوته فوق صوت رسول الله ، وقال: حرمته حيًّا ومَيْتًا سواء. ولذلك فما أعظم إثم من يعارض سنّته بعَقله ورأيه، وما أسوأ أدب من يناوئ الذّابين عنها وينتقصها ويهزئ بها وبأهلها كما نسمَع ونقرأ ونشاهد.
أيها الإخوة، لقد أعلى الله تعالى شأنَ العلماء وأبان منزلتهم فقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، وقال سبحانه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وقال تعالى: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، وقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران:18]، فبدأ سبحانه وتعالى بنفسه وثنى بملائكته المسبحة بقدسه وثلث بأهل العلم، وكفاهم ذلك شرفًا وفضلاً وجلالة ونبلاً، وفي البخاري من حديث معاوية أن النبي قال: ((من يردِ الله به خيرًا يفقهه في الدين))، وروى أبو الدرداء عن النبي أنه قال: ((فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر))، وقال ابن عمر : (مجلس فقه خير من عبادةِ ستين سنة)، وقال الحسن البصري رحمه الله: "كانوا يقولون: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيءٌ ما اختلف الليل والنهار"، وقال أبو مسلم الخولاني رحمه الله: "العلماء في الأرض مثلُ النجوم في السماء، إذا بدت للناس اهتدوا بها، وإذا خفيت عليهم تحيّروا"، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "عالم معلّم يدعَى كبيرًا في ملكوت السماء"، وقال سهل بن عبد الله رحمه الله: "من أراد النظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء".
أيها الإخوة، من خِلال هذه النصوص الكريمة السابقة وهذه الأقوال المحفوظة يتبيّن لنا المكانة العظيمة والدّرجة العالية التي يتمتّع بها علماء الأمة، ومن ثم وجب علينا أن نوفّيَهم حقّهم من التعظيم والتقدير والإجلال وحفظ الحرمات، قال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30]، وقال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، والشعيرة كما قال القرطبي: كل شيءٍ لله فيه أمر أشعَر به وأعلم. وعلى ذلك فالعلماء لا شكّ أنهم من شعائر الله، غير أننا ـ أيها الإخوة ـ قد ابتلِينا في هذا الزمن بمن يلمِز العلماء ويغمِزهم، بل يصرّح بتنقّصهم وذمّهم ويتتبّع مثالِبَهم وعثراتهم ويتهمهم بالسذاجة والغفلة، ناهيك عمّن يصمهم بالمداهنة والعمالة أو بأنهم منابِت التطرّف والإرهاب وأن كتبهم ومناهجهم في الدعوة والتعليم هي مصدر للتكفير والتطرف، وهؤلاء مرضى القلوب على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، الذين ينالون من العلماء ويقعون فيهم في الصّحف وعلى شبكة الإنترنت وغيرها لم يدفعهم إلى ذلك إلا الغِيرة والحسد والهوى، أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:54]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "صاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه"، وكان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا قد أعمته دنياه.
وثمة صنف من هؤلاء الواقعين في أعراض العلماء والآكلين من لحومهم دفَعهم إلى ذلك التعالم وادِّعاء الفهم في الشريعة حتى أصبحتَ ترى أحداثًا أغرارًا لم يبلغوا من العلم الشرعي ما يؤهّلهم للتصدر والإفتاء ولم تحنّكهم التجارب ولا الأيام يخوضون في مسائل وأمور لو عرِضَت على عمر لجمع لها أهل بدر، فالله المستعان على ما يصفون.
أيّها الإخوة المؤمنون، وإنّ من أعظم أسباب النيل من العلماء والثّلب فيهم النفاقَ وكره الحقّ، وصدق الله حين وصف المنافقين بقوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13]، وبقوله تعالى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14]، فهؤلاء المنافقون من العلمانيين والحداثيين وأمثالهم هم من أكثر الواقعين في أعراض العلماء لما في قلوبهم من المرض والبغض للحق وأهله.
وهؤلاء ـ أيها الإخوة ـ لا يستهدفون العلماء لذواتهم فحسب، بل إنهم يهدفون من وراء ذلك إلى جعل الناس يردّون ما يحمله ذلك العالم من الحقّ كحال المشركين مع الرسول سواء بسواء، فقريش لم تطعن في الإسلام أولاً، بل طعنوا في شخص رسول الله ؛ لأنهم يعلمون يقينًا أنهم إن استطاعوا تشويهَ صورته في أذهان الناس فلن يقبلوا ما يقوله من الحقّ، ولذلك فجرح العالم هو جرح للعلم الذي معه وهو إرث محمد ، وبالتالي فهو طعن في الإسلام من حيث يشعر هؤلاء أو لا يشعرون، قال عبد الله بن عباس : (من آذى فقيهًا فقد آذى رسول الله ، ومن آذى رسول الله فقد آذى الله جل وعلا)، والله تعالى يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:57، 58]. إن هؤلاء العلماء من أولياء الله، وفي الحديث القدسي: ((من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب)) رواه البخاري، قال الإمامان أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله: "إن لم يكن الفقهاء أولياءَ الله فليس لله ولي".
أيها الإخوة، ينبغي علينا تجاه علمائنا عدة أمور:
أولها: أن نحفظ لهم مكانتهم وفاعليتهم في قيادة الأمة وأن نتأدّب معهم.
ثانيًا: أن نعلمَ أنه لا معصومَ إلا من عصمه الله، وعلى هذا فيجب علينا أن ندركَ أن العالم معرّض للخطأ فنعذره حين يجتهد فيخطئ، ولا نذهبُ نتلمّس أخطاءهم ونحصيها عليهم. قال سفيان الثوري: "ليس يكاد يثبت من الغلط أحد".
الأمر الثالث: أن ندرك أنّ الخلاف موجود منذ عهد الصحابة وإلى أن تقوم الساعة، فيجب أن تتّسع صدورنا له، فكل عالم له فهمه واطلاعه على الأدلة، ولكل منهم نظرته في ملابسات الأمور، فمن الطبيعي أن يختلفوا.
رابعًا: أن نحمِل أقوالهم على أحسن المحامل، وأن لا نسيء الظن فيهم وإن لم نأخذ بأقوالهم، فنحن لسنا ملزَمين بالأخذ بكل أقوال العالم إذا خالف الدليل باجتهاد منه، لكن ثمة فرق كبير بين عدم الأخذ بقول عالم وبين الجرح فيه واستباحة عرضه.
خامسها: أن ننشغل بعيوبنا وأخطائنا عن عيوب الناس وأخطائهم وخصوصًا العلماء.
اقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله سابغ النعم والخيرات، أحمده سبحانه وأشكره وأسأله التوفيق للباقيات الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله البريات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعرفوا لأهل العلم قدرَهم وشأنهم، وأنزلوهم منزلتهم التي أنزلهم الله. والعلماء لا شك أنهم بشر من البشر يقع لهم الخطأ كما يقع لغيرهم، فلا يفهم مما سبق أنهم لا يخطئون، ولكن ثمة سبيل يمكن من خلالها بيان الحق وتوضيحه دون الوقوع في العلماء وذلك من خلال الأمور التالية:
أولاً: التثبّت من صحّة ما ينسب إلى العالم، فقد يشاع عن العلماء أقوال لأغراض لا تخفى، فيجب التأكّد مما ينقل عن العلماء، فقد يكون غير صحيح.
الثاني: سؤاله أو سؤال غيره من أهل العلم عن وجه استدلاله على قوله، فقد يكون قوله صوابًا ولكنه يخفى على بعض الناس.
وكم عائب قولاً صحيحًا وآفته من الفهم السقيم
الثالث: إن ثبت خطؤه فيما قال فينبغي الإنصاف والعدل، فيثنى على العالم بما هو أهله، ويبيَّن الخطأ الذي وقع فيه دون التجاوز في تتبّع عثراته واسقصاءِ أخطائه والاستطالة في عرضه، ويقوم بذلك أهل العلم لا أن يتصدى له أنصاف المتعلمين وأرباعهم فضلاً عن عوام الناس وجهالهم.
الأمر الرابع والأخير: أن نعلم أن خطأ العالم على نوعين: خطأ في الفروع، وخطأ في الأصول، فمسائل الفروع مسائل اجتهادية يسوغ فيها الخلاف، فإذا أخطأ فيها العالم فإنه يبيّن خطؤه دون التعرض لشخصه، وأما مسائل الأصول في العقيدة فإنه يبيَّن فيها القول الصحيح ويحذَّر من أهل البدع في الجملة وينبَّه إلى خطورة الداعي إلى بدعتِه دون إفراط ولا تفريط.
اللّهمّ احفظ علماءنا، واحفظ الأمة بحفظهم. اللهم اعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا أرحم الراحمين...
(1/3446)
سورة الحجرات (3)
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آفات اللسان, الإعلام, القرآن والتفسير, قضايا المجتمع
خالد بن محمد بابطين
جدة
3/11/1424
مسجد الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مع النداء الثالث: الأمر بالتبين في الأخبار. 2- سبب نزول الآية. 3- المنهج الشرعي في تلقي الأخبار. 4- خطورة الأراجيف والشائعات. 5- الموقف الشرعي من الشائعات. 6- التحذير من القيل والقال. 7- الحرب النفسية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله حقّ التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها الإخوة المؤمنون، ها نحن اليوم نتدبّر نداء ربنا الثالث في سورة الحجرات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6].
جاء في سبب نزول هذه الآية ما رواه الإمام أحمد بسنده عن الحارث بن أبي ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه وأقررت به، فدعاني إلى الزكاة، فأقررت بها وقلت: يا رسول الله، أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته فيرسل إليّ رسول الله رسولاً لإبَّان كذا وكذا ـ أي: وقت كذا وكذا ـ ليأتيك ما جمعت من الزكاة، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبّان الذي أراد رسول الله أن يبعث إليه احتبس عليه الرسول فلم يأته، فظنّ الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله عز وجل ورسوله، فدعا بسروات قومه فقال لهم: إن رسول الله كان وقّت لي وقتًا يرسل إليّ رسولَه ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله الخُلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت، فانطلقوا فنأتي رسول الله ، وبعث رسول الله الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فَرَقَ فرجع فأتى رسول الله وقال: يا رسول الله، إن الحارث منعَني الزكاة وأراد قتلي، فضرب رسول الله البعث إلى الحارث، فأقبل الحارث بأصحابه إذ استقبل البعث وفصل من المدينة لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث! فلما غشيهم قال لهم: إلى من بُعثتم؟ قالوا: إليك، قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله كان بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعتَه الزكاة وأردتَ قتله، قال: لا والذي بعث محمدًا بالحق، ما رأيتُه بتّة ولا أتاني، فلما دخل الحارث على رسول الله قال له: ((منعتَ الزكاة وأردت قتل رسولي؟)) قال: لا والذي بعثك بالحق، ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسولك؛ خشيتُ أن تكون كانت سخطة من الله عز وجل ورسوله، قال فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ إلى قوله: فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:8].
أيها الإخوة المؤمنون، هذه الآية الكريمة ترسِم لنا منهجًا عظيمًا في شأن تلقّي الأخبار، وبالأخص في هذا العصر الذي نرى فيه السباق المحموم لنقل الأخبار والأحداث ساعةً بساعة، بل لحظة بلحظة، في عالم قد اتّصل شرقه بغربه وتقارب أقصاه من أدناه، تملأ سماءه فضائيات وقنوات وتغصّ أرضه بصحف ومجلات، ناهيك عن عجيبة هذا العصر شبكة المعلومات العالمية المسماة بالإنترنت.
في هذه الأجواءِ المكفهرَّة ومع التقدّم المتعاظِم في وسائلِ الاتّصال فإنه يجِب الحذَر ثم الحذرُ ممّا يشيعه المرجفون وتتناوله آلاتُ الإعلام وتتناقله وسائِل الاتّصال من شائعاتٍ وأراجيف في عصرِ السّماء المفتوحة التي تُمطِر أخبارًا وتلقِي أحاديثَ وتعليقات لا تقف عند حدّ، بل أصبحت تشكّل عقول الناس وتبني تصوّراتهم وتوجّه أفكارهم، فلا بدّ حينئذٍ من التّمييز بين الغَثّ والسّمين.
أيّها الإخوة، إنَّ الأراجيفَ والشّائعات التي تنطلِق من مصادرَ شتّى ومنافذَ متعدّدة إنّما تستهدِف التآلفَ والتكاتُف، وتسعَى إلى إثَارة النّعَرات والأحقاد ونشر الظنون السيّئة وترويج السّلبيات وتضخِيم الأخطاء. والإشاعاتُ والأراجيف سلاحٌ بيَد المغرِضين وأصحابِ الأهواء والأعداء والعمَلاء، يسلكُه أصحابُه لزلزعةِ الثوابِت وخلخلَة الصّفوف وإضعاف تماسُكها، وغالبًا لا تصدُر الشائِعة إلا من مكروه أو مَنبوذ فردًا أو جَماعة، قد امتلأ بالحِقد قلبُه، وفاض بالكراهية صدره، وضاقت بالغيظ نفسُه، فيطلِق الشائعةَ لينفّس من غيظِه وينفثَ الحقدَ والكراهية من صدره. الإرجافُ لا يصدر إلا مِن عدوّ حاقدٍ أو عميل مندَسّ أو غِرٍّ جاهل.
معاشرَ الأحبّة، وليس الخطاب هنا مع العدوّ الحاقِد ولا مع العميل المأجور، ولكنّه خطابٌ مع هذا المسلمِ الغافِل حسَنِ الطويّة صالحِ النيّة المخلِص لأمّتِه ودياره الذي لا يدرك ما وراء الشائعة ولا يسبُر الأبعادَ التي ترمي إليها تلك الأراجيف. إن على هؤلاء أن يتّصِفوا بالوعي الشّديد والحصافة في الفهمِ وسلوك مسالك المؤمنين الخُلَّص في اتّخاذ الموقف الحقّ من الشائعات، الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:173-175].
وعليهم أن يتأمّلوا هذه التّوجيهاتِ الدّقيقة والخطوات المرتّبة في الموقف من الشائعات والأراجيف التي رسمها القرآن الكريم وبيّنها أوضحَ بيان.
التوجيه الأول: حسنُ الظنّ بالمسلِمين أفرادًا وجماعات ممّن تتناولهم الشّائعات: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [النور:2].
وتأمّلوا هذا التطبيقَ العمليّ لهذا التّوجيه الكريم: هذا أبو أيّوب الأنصاريّ وزوجُه وقد خاض النّاس في حديث الإفك، فماذا كان شأنهما في تلك الشائعة؟ قالت أم أيوب: يا أبا أيوب، أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟! قال: نعم، وذلك الكذب أكنتَ فاعلةً ذلك يا أمّ أيوب؟ قالت: لا والله، ما كنت لأفعله، قال: فعائشة ـ والله ـ خير منك وأطيب، إنما هذا كذب وإفك باطل.
إنّه إحسانُ الظنّ بالمسلمين، وهو الطريق الصّحيح الأقربُ والأيسر والأسلَم والأصدَق.
التوجيه الثاني: الموقفُ الحاسِم والجازم والحازِم في ضرورة إثباتِ هذه الشائعة: لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:13]، وذلك يقتضي مِن المجتمع أن لا يستَمع إلى شيء أو يقبَله من غير بيّنة ظاهرة، فإذا لم تُوجد بيّنة ضُمّت هذه الشائعة لطائِفة الكذِب والكذّابين: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ [النور:13].
التّوجيه الثالث: الموقفُ الصارم من المجتمع في رفضِ الإشاعةِ وعدم السّماح برواجِها والتكلّم بها: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16].
أيّها المسلمون، إن الذي يتعيَّن هو اعتمادُ أخبار الثقات العدول والبعدُ عن السّماع مِن الفسّاق والمجاهيل والمتسرّعين ومَن عُرِف بكثرةِ نقل الأخبارِ من غيرِ تثبّت ومَن عُرف كذلك بالمبالغَة في التفسيرات والتحلِيلات والفهوم البعيدة، كما ينبغِي صونُ اللسان في أوقاتِ الفتَن والأجواء التي تروج فيها الشائعاتُ والأراجيف، بل إنَّ العقل والإيمانَ ليدعُوان صاحبَهما إلى الموازنة بين مصلحةِ الكلام ومصلحةِ الصّمت، فليس الكلامُ خيرًا دائمًا، وليس الصمت بِرًّا دائمًا، وفي الحديث الصحيح قال : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمُت))، فليس ثَمَّ ـ يا عبد الله ـ إلا طريقان: إما خيرٌ تقوله، أوصمت تلتزِمه.
أقول قولي هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع))، وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة قال: نهى رسول الله عن قيل وقال، و"قيل وقال" أي: كثرة الحديث وكثرة الكلام دون رويّة ولا تدبر ولا تثبت ولا تبيّن. وفي سنن أبي داود أن النبي قال: ((بئس مطية الرجل: زعموا))، وهذه هي التي سماها بعض أهل العلم من المعاصرين: "وكالة يقولون"، فترى كثيرًا من الناس يتناقلون الأحاديث والشائعات والأخبار دون رويّة ولا تثبّت، وقد يسهمون بذلك بفتّ عضد المسلمين وضعضعة معنوياتهم وبثّ الرعب في قلوبهم، فيخدمون من حيث لا يشعرون أهدافَ العدو، فيضعفون المعنويات ويلقون الرعب في القلوب.
أيها الإخوة، إن الحرب النفسية الآن لا تقلّ شراسة عن الحرب العسكرية، وهي حرب محتدمة بين الأطراف كلّها كما هو الشأن في الحرب العسكرية، فعلى كل مسلم أن يتحاشى نقل شيء من الأخبار والشائعات أو التوقعات أو التحليلات إذا كانت مما يضعِف معنويات المسلمين ويبثّ الرعب في قلوبهم، وعلينا أن نتثبّتَ من الأخبار؛ فإن من يتتبّع وسائل الإعلام العالمية يتحيّر ويتخبّط في حيرته مما يرى من تناقض الأخبار والتحليلات والتوقعات، وربما وقع فريسةً لبعض الجهات المغرّضة الحاقدة، والمنافقون لا يفوّتون مثل هذه الفرص، فيحرصون على اغتنامها للتشويش على المسلمين وإلحاق الضرر بهم، قال تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83].
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واحذروا من كيد الأعداء ومكرهم، وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم:46]. والزموا وصية الله التي أوصى بها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
(1/3447)
سورة الحجرات (4)
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آفات اللسان, القرآن والتفسير, الكبائر والمعاصي
خالد بن محمد بابطين
جدة
10/11/1424
مسجد الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مع النداء الرابع: النهي عن السخرية واللمز والنبز. 2- مقصد حفظ الأعراض. 3- معنى اللمز والنبز. 4- ذم اللمز والنبز. 5- خطورة الكلام والتحذير من زلات اللسان. 6- خوف السلف من آفات اللسان. 7- الاعتبار والاتعاظ بما وقع من الزلازل.
_________
الخطبة الأولى
_________
ما زلنا ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ نتفيأ ظلالَ سورة الحجرات، هذه السورة الكريمة التي رسمت منهجًا للمسلم في حياته الذي به صلاحه، ومن ثم صلاح المجتمع بأسره، وما أحوجنا في هذا الزمن زمن الماديات الذي نعيشه إلى أن ننظر في رصيدنا الأخلاقي والسلوكي، وأن نُعنَى بزيادته ونودعَ فيه ما ينمّيه أم أنّ الدنيا قد أشغلتنا وألهتنا عمّا فيه صلاحنا وفلاحنا ونجاتنا في الدنيا والآخرة.
اسمع هذا النداء الرباني في هذه السورة المباركة وعِش معه بقلبك وقالبك وانظر أين أنت منه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].
ثلاث نواهٍ تضمّنتها الآية: أوّلها النهي السخرية، ثانيها النهي عن اللمز، أما الثالث فهو النهي عن التنابز بالألقاب، يكفينا في ذلك حديث أبي هريرة في صحيح مسلم قال : ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ ، بحسب امرئٍ من الشر ـ أي: يكفيه شرًا ويكفيه إثمًا ـ أن يحقر أخاه المسلم، كلّ المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)).
والعِرض هو محلّ الذم أو المدح من الإنسان، فإذا اغتبتَ إنسانًا فقد نِلت من عِرضه، وإذا نممت على إنسان فقد جرحتَ عرضه، وإذا سخرت منه فقد انتقصتَ من عرضه، ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)).
وفي خطبة حَجة الوداع لم يغفل رسول الله عن هذه القضية المهمة في بناء المجتمع المسلم، فلقد كانت ركنًا ركينًا، وقف يوم الحج الأكبر يسألهم: ((أيّ يوم هذا؟ أيّ شهر هذا؟ أيّ بلد هذا؟)) ثم قال: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا))، ولم يكتف بذلك بل قال أخيرًا: ((ألا هل بلغت؟)) قالوا: نعم، قال: ((اللهم فاشهد)).
أيّها الإخوة المؤمنون، وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11]، اللمز والهمز ذكِر في كتاب الله كثيرًا، واللمز هو المعيبة باللسان، والهمز بغير اللسان كالإشارة باليد أو العين أو غير ذلك، وقيل: اللمز في الوجه، والهمز في الغَيبة، قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة:1]، وقال سبحانه: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ [القلم:10-13].
وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11] تعبير ربّاني لا يقدر عليه البشر؛ لأنك عندما تلمِز أخاك وتعيبه إنما تعيب نفسَك؛ لأن المؤمن للمؤمن كالبنيان، وفي الحديث: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
وتتبّع عورات المسلمين باللمز والهمز علامة على النفاق وليست علامة الإيمان، ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذي))، وفي البخاري عن بلال بن الحارث قال: قال رسول الله : ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عز وجل، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم القيامة. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سَخط الله عز وجل، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل بها عليه سخطه إلى يوم القيامة)).
يُلقي الرجل الكلمةَ لا يُلقي لها بالاً وهو يحتسي القهوة والشاي، يريد أن يملأ فراغه ويضحِك خلاّنه أو يسرّ الذين يسامرونه، فيسخر من أخيه المسلم أو يقع في عرضه همزًا أو لمزًا، هذه الكلمة قد يكتب الله بها عليه سخطه إلى يوم القيامة، قال علقمة: "كم من كلام منَعَنيه حديث بلال بن الحارث أن أقوله".
قالت عائشة رضي الله عنها يومًا: يا رسول الله، حسبك من صفيّة كذا وكذا، تعني أنها قصيرة، فقال : ((لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته))، لو اختلطت بماء البحر لأنتَن البحر كلّه، هذه الكلمة ـ إنها قصيرة وهي تُرى قصيرة ـ أنتنت ماء البحر لو مزجت به، فكيف بكثير مما نقوله صباح مساء؟!
أيها الإخوة، ثلاث نواه السخرية واللمز والتنابز بالألقاب، ونتيجة أي واحدة من الثلاث وجزاؤها شيئان عند الله: تأخذ من الله اسمين وتفقد اسمًا عظيمًا، كان اسمك عند الله مؤمنا فأعطاك الله بدله اسم الفاسق، وإذا لم تتب مسرعًا فيعطيك لقبًا آخر وهو الظلم، بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11]، هل اشتريت باسم المؤمن عند الله اسم الفاسق؟! بعت اسم المؤمن واشتريت اسم الفاسق والظالم معا، بماذا؟! بهمزات لسان وومضات شفاه أو لحظات عين، تعس من تخلى عن اسم مؤمن ونال من ربه تعالى الذي لا معقب لكلماته ولا راد لقوله ولا معقب على حكمه اسمين اثنين: اسم الفسق واسم الظلم، أيُّ لعنة هذه البيعة التي بعت بها إيمانًا واشتريت بها فسقًا وظلما؟!
إن حرمة عرض المسلم أعظم من حرمة الزنا والربا، في حديث ابن مسعود عند الحاكم قال : ((الربا اثنان وسبعون بابًا، أدناها مثلُ إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه)).
أيها المؤمنون، لقد حفلت نصوص الشرع بالتحذير من زلات اللسان وبيان خطورته وما يجره على صاحبه من ويلات ومهالك، قال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وقال سبحانه: سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا [آل عمران:181]، وقال عز شأنه: وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، وحث على حفظ اللسان وصيانة المنطق ومجانبة الفحش والبَذاء فقال جل وعلا: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53]، وقال النبي لمعاذ: ((أمسك عليك هذا)) وأشار إلى لسانه، فقال معاذ: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!)) وحصائد الألسن جزاء الكلام المحرّم وعقوباته. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي أنه قال: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفِّر اللسان تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا))، قال النووي رحمه الله: ((تكفر اللسان)) أي: تذل له وتخضع".
ولقد كان خوف السلف الصالح من آفات اللسان عظيمًا، فهذا أبو بكر كان يخرج لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني شر الموارد)، وكان ابن عباس يأخذ بلسانه ويقول: (ويحك، قل خيرا تغنم، أو اسكت عن سوء تسلم، وإلا فإنك ستندم)، فقيل له: يا ابن عباس، لم تقول هذا؟ قال: (إنه بلغني أن الإنسان ليس على شيء من جسده أشد حَنَقًا أو غيظًا منه على لسانه إلا من قال به خيرًا أو أملى به خيرًا)، وكان ابن مسعود يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان، وقال الحسن: "اللسان أمير البدن، فإذا جنى على الأعضاء شيئا جنت، وإذا عفّ عفت"، وقال عمر : (من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به)، وكان طاووس رحمه الله يعتذر من طول السكوت ويقول: "إني جربت لساني فوجدته لئيما وضيعا"، وقال أحد السلف: "إن ترك فضول الكلام والطعن في الناس أشق على النفس من قيام الليل"، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "كان بعض أصحابنا يحفظ كلامه من الجمعة إلى الجمعة".
أيها المؤمنون، حفظ المرء للسانه وقلّة كلامه عنوان أدبه وزكاء نفسه ورجحان عقله، كما قيل في مأثور الحكم: "إذا تم العقل نقص الكلام"، وقال بعض الحكماء: "كلام المرء بيان فضله وترجمان عقله، فاقصره على الجميل، واقتصر منه على القليل".
إذا شئت أن تحيا سليما من الأذى وحظك موفورٌ وعرضك صيّن
لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ فكلّك عوراتٌ وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايبا يومًا فقل يا عين للناس أعين
فصاحب بمعروفٍ وسامح من اعتدى وفارق ولكن بالتي هي أحسن
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه العظمى وآلائه التي تترى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الأعلى، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله النبي المصطفى والخليل المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أئمة الهدى وبدور الدجى، ومن سار على هديهم واقتفى، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: حوالي 50 ألف قتيل وأكثر من 100 ألف مشرّد بلا مأوى، عشرات الآلاف من الجرحى حصيلة زلزال استغرق 3 ثوان فقط. الأرض تهتزّ والناس فوقها يترنحون ويتأرجَحون، الأرض من تحتهم تهتزّ وتمور، البيوت تتساقط، والناس يُهرعون إلى الطرقات بعد أن كانوا يحتمون بالبيوتات. هزّة في طبقة القشرة الأرضية درجة محدودة لقوّة الزلزال على مقياس رصد الزلازل، إنّ ذلك يذكّرنا بزلزال يوم القيام الأكبر، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2]، إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [سورة الزلزلة].
آيات وسور ما أكثر ما نسمعها ونقرؤها في صلاتنا، وما أقل ما نتدبرها. ذلكم هو الزلزال الحقيقي العظيم تُخرج الأرض ما فيها، يسأل الإنسان: ما الذي حدث؟ فتحدّث بأن الله أوحى لها أمرها، أليس هو الذي خلقها؟! فإذا أمرها أطاعت مباشرة، يخرج الناس أفواجًا وجماعات ليأخذوا صحائف أعمالهم، إما باليمين وإما بالشمال، يرى الواحد الجليلَ والحقير من عمله حتى مثقال الذرة، وفي هذا ذكرى للقلب الذي يرتعِش لمثقال ذرة من خير أو شر، وثمة قلوب لا تتحرّك للجبل من الذنوب والمعاصي والجرائم، قلوب لا تتأثّر وهي تسحق رواسي من الخير دونها رواسي الجبال، إنها قلوب تعلقت في الأرض مسحوقةً تحت أثقالها تلك في يوم الحساب.
قال بعض السلف لما زلزلت الأرض: "إن ربكم يستعتبكم"، وقال عمر بن الخطاب وقد زلزت المدينة فخطبهم ووعظهم وقال: (لئن عادت لا أساكنكم فيها).
عباد الله، لقد كثرت الزلازل المروِّعة التي دمرت الإنسان والعمران، وقد تتابع وقوع ذلك في سنين متقاربة، ولا شك أن هذه عقوبات على ما يرتكبه العباد من الكفر والفساد، وفيها لمن حولهم عبر وعظات لا يدركها إلا أولو الألباب، وهي تظهر قدرة الله الباهرة حيث يأذن لهذه الأرض أن تتحرّك لبضع ثوان فينتج عن ذلك هذا الدمار وهذا الهلاك والرعب.
لقد أكّدت الآثار بأن ذلك يكثر في آخر الزمان حتى لا يكاد يمرّ الشهر والشهران حتى تسمع بزلزال في موضع من الأرض، جاء في الحديث الذي رواه أحمد والبخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى يُقبض العلم ويتقارب الزمان وتكثر الزلازل وتظهر الفتن ويكثر الهرج))، قيل: ما الهرج؟ قال: ((القتل))، ولقد شهد الواقع لما أشار إليه هذا الحديث.
عباد الله، وإنّ مما يَحُزُّ في النفس أن يتردّد في أوساط الناس أن هذه ظواهر طَبَعِيَّة لا أثر للذنوب فيها، ويرجعون كثرة القتل الذي حدث في الزلازل لضعف المباني، فلو كانت المباني على طريقةٍ جيدة لما حصلت هذه الخسائر! فواعجبًا ما أشدّ غفلة الإنسان، وما أكفره بقدرة ربه جل وعلا. ألم تهلك أمم بأكملها ومساكنهم قد نُحتت من الجبال، فأبقاها الله شاهدة عليهم؟!
إنها إرادة الله تعالى، إنها بسبب الغفلة عن مكر الله، لقد جاءهم الزلزال بعد هجوع الناس، جاءهم بياتًا وهم لا يشعرون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
إن حال من ينكر أن هذه الحوادث بسبب الذنوب كحال من ذكّرهم الله في كتابه العزيز، فإذا أصابهم الكرب والضر قالوا: قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ [الأعراف:95]، فهذا أمر طَبَعِيّ لا علاقة له بذنوب العباد، فيواصلون في إعراضهم وفجورهم ويقولون: إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ [الشعراء:137]، ولقد قال الله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].
ولنتذكر قول الله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام:65-67].
فاتقوا الله تعالى، وتوبوا إليه من ذنوبكم، وخذوا على أيدي سفهائكم قبل أن يحلّ بنا ما حلّ بمن حولنا، ولنعلم جميعًا أن الذي جعل غيرنا عبرة لنا قادر على أن يجعلنا عبرة لغيرنا، ولنعلم أن ما وقع إنما هو من كسب الناس، قال الله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
فهل نعتبر عباد الله؟! ما أكثر ما نسمع ونقرأ ونشاهد من حوادث مروعة وعقوبات مفزعة ومع ذلك لا يزال الكثير مصرًا على طغيانه وفجوره، مِنْ هجر المساجد وفعل المنكرات، حتى أصبح كثير من البيوت والمتنزهات أوكارًا للفسقة والعصاة والتاركين للصلاة، قلّ المنكرون، تبلّدت الأحاسيس حتى ألِفنا المنكرات، فإن أنكر الناصح أُنكِر عليه، وإن وعظ الواعظ شدِّد عليه.
إننا والله لنخشى من العقوبة، أليس الله يقول: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79]؟! وجاء في الحديث عنه : ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)).
فاتقوا الله في أنفسكم وأهليكم، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا...
(1/3448)
سورة الحجرات (5)
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آفات اللسان, القرآن والتفسير
خالد بن محمد بابطين
جدة
17/11/1424
مسجد الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مع النداء الخامس: النهي عن الظن السيئ والتجسس والغيبة. 2- الظن في القرآن الكريم. 3- التحذير من إساءة الظن بالمسلم. 4- مفاسد سوء الظن. 5- التمييز بين الظنون. 6- علاج سوء الظن. 7- تحريم الغيبة. 8- تعريف الغيب وبيان صورها الخفية. 9- فضل الذب عن عرض المسلم. 10- أسباب تبيح الغيبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثلاثة آداب أخرى في سورة الأخلاق والآداب، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12].
أيها المؤمنون، لقد ذكِر الظن في القرآن الكريم في ستٍّ وخمسين موضعًا، منها تسعة وأربعون جاء في سياق الذم، وسبعة مواضع في سياق المدح، وأما الموضع السادس والخمسون فجاء في وصف حال المحتضَر عند موته في قوله تعالى: وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:28-30]، فلم يذكَر فيه ذمّ ولا ثناء، إنما هو وصفُ حال.
ولعل هذا الحصر لهذه الكلمة وتَكرارها في القرآن على هذا النحو يشير إلى أن أغلب الظن مما يذمّ ولا يمدح. حدَّث أبو هريرة أن رسول الله قال: ((إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث)) رواه البخاري، وعن عبد الله بن عمر قال: رأيت النبي يطوف بالبيت ويقول: ((ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك. والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمةً منك؛ دمه وماله وأن لا يظنَّ به إلا خيرًا))، وقد ثبت عنه أن قال: ((إذا ظننتم فلا تحقِّقوا)).
أيها المؤمنون، كثيرًا ما يطرق سمعك في مجالس المسلمين العامة والخاصة أن فلانًا يقصد كذا وفلانًا نوى كذا وفلان أراد من فعله أو قوله كذا، سوءُ ظنٍّ مَقيت يؤجِّج مشاعر الحقد والكراهية، يهدم الروابط الاجتماعية، يزلزل أواصر الأخوة، يقطع حبال الأقربين ويزرع الشوك بين أفراد المجتمع.
إذا تسرّب سوء الظن إلى النفوس أدّى بها إلى الاتّهام المتعجّل وتتبّع العورات وتسقّط الهفوات والتجسّس الدنيء؛ ولذا ترى من يسيء الظنَّ يقول: سأحاوِل أن أتحقّق، فيتجسّس وقد يغتاب وقد يذكر أخاه بسوء، فيرتكب ذنوبًا مترادِفة ومعاصيَ قاصِمة.
الظنّ ـ عبادَ الله ـ مبنيّ على التخمين بسبب كلمةٍ أو عمل محتمل، والظنّ يجعل تصرّف صاحبه خاضعًا لما في نفسه من تهمة لأخيه المسلم حتى تجده يحمل أطنانًا من التّهم بناها خياله وكلّستها أوهامه نتيجةَ سوء ظنّه بأخيه، بل إنّ تحيّة الإسلام إن كانت محفوفةً بسوء الظنّ كانت شتيمةً منكرة، وإن الابتسامة إن كانت مقرونة بسوء الظنّ فُسّرت استهانة واستهزاءً، والعطاء والمدح يُفسّران على وجهٍ قد يقود إلى المعارك والاصطدام.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ، دل سياق الآية على الأمر بصون عِرض المسلم غايةَ الصيانة لتقدُّم النهي عن الخوض فيه بالظن، فإن قال الظان: أبحث لأتحقّق، قيل له: وَلا تَجَسَّسُوا ، فإن قال: تحققتُ من غير تجسّس، قيل له: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
وما أروع الحياة في مجتمع بريء من الظنون، قال بعض العلماء: الذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها أنَّ كلّ ما لم تعرف له أمارةٌ صحيحة وسببٌ ظاهر كان حرامًا واجب الاجتناب"، وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح وأُونست منه الأمانة في الظاهر، فظنُّ الفساد والخيانة به محرّم، بخلاف من اشتهر عند الناس بتعاطي الريَب والمجاهرة بالخبائث، ولذا قال أهل العلم: إن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، ولا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبح.
قال سعيد بن المسيب رحمه الله: كتب إليّ بعض إخواني من أصحاب رسول الله أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرًا وأنت تجد لها في الخير محملاً.
وهذا المنهج يتأكد مع أهل الفضل والخير، وهذا من فقه المقاصد والنيات الذي قد يفوت إدراكه على بعض الناس حين يحكمون على أخطاء الآخرين دون اعتبار حال الشخص ونيته ومقصده، فربما تكون زلّةَ لسان ولا يقصد المعنى الخبيث، قال ابن القيم رحمه الله: "والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عنه"؛ ولهذا لم يُحكم بالكفر على الذي أخطأ من شدة الفرح فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، كما في حديث التوبة المعروف، وذلك لأنه لم يقصد تأليه نفسه.
أيها الإخوة، ليس من منهج السلف الصالح تأويل الألفاظ وليّ المعاني والفرح بالعثرات ومعاملة المسلمين بسوء الظن، ورحم الله القلاعي إذ يقول: "فقد يوحش اللفظ وكلّه ودّ، ويُكره الشيء وليس من فعله بدّ، هذه العرب تقول: لا أبا لك في الأمر إذا همّ، وقاتله الله ولا يريدون الذم، وويل أمِّه للأمر إذا تمّ، ومن الدعاء تربت يمينك، ولذوي الألباب أن ينظروا في القول إلى قائله، فإن كان وليًا فهو الولاء وإن خَشُن، وإن كان عدوًا فهو البلاء وإن حَسُن" انتهى كلامه رحمه الله.
أيها الإخوة، إذا تقرر لدينا أن سوء الظن آفة مهلكة فلا بد من العمل على العلاج لئلا يستشري الداء ويهلك الحرث والنسل. ومن العلاج إحسان الظن بالناس، تجنّب سوء الظن بهم، فكّر طويلاً قبل أن تحكم أو تتهم، ولأن تخطئ بحسن الظن أفضل من أن تخطئ بالتسرع بسوء الظن، قال عمر : (ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا وأنت تجد لها في الخير محملاً).
يقول عز وجل في محكم تنزيله: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ. وتأمل هذه الآية العظيمة جيدًا، لقد شبه الله جل جلاله المغتاب بالذي يأكل لحم أخيه المسلم، ومتى؟ بعد أن مات، قال القرطبي رحمه الله: "مثل الله الغيبة بأكل الميتة لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي إذا اغتيب لا يعلم بغيبة من اغتابه". ما أبشع ذلك المنظر، وما أسوأ تلك الصورة. إنها صورة المسلم المنهمك في أكل لحم أخيه المسلم الذي فارق الحياة.
إنها الغِيبة يا عباد الله، إنها ذكر العيب بظهر الغيب، ذكرك أخاك بما يكره، سواء أكان فيه ما تقول أم لم يكن، هكذا بينها رسولنا محمدٌ.
الغيبة ذات أسماء ثلاثة في كتاب الله تعالى وجل: الغيبة والإفك والبهتان، فإذا كان في أخيك ما تقول فهي الغيبة، وإذا قلت فيه ما بلغك عنه فهو الإفك، وإذا قلت فيه ما ليس فيه فهو البهتان.
والغيبة تشمل كل ما يفهم منه مقصود الذم سواء أكان بكلام أم بغمزٍ أم إشارة أم كتابة، وإن القلم لأحَد اللسانين.
وهذا هو نبيكم محمد ينادي هؤلاء المبتلَين بهذا الداء المهلك: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبّع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)) رواه أحمد وأبو داود. والحسن رحمه الله يقول: "والله، للغيبة أسرع في دين الرجل من الآكلة في الجسد".
أيها الإخوة، يقول بعض السلف: أدركنا السلف الصالح وهم لا يرون العبادة في الصوم والصلاة، ولكن في الكف عن أعراض الناس.
وقد يلبس الشيطان على بعض الناس أمرَ الغيبة فيقعون فيها من حيث يشعرون أو لا يشعرون. ذكر بعض أهل العلم ممن تكلم في دقائق الأخلاق والسلوك عن هذا الصنف من الناس فقالوا رحمهم الله: قد يقول القائل ساءني ما وقع لصديقنا من كذا وكذا فنسأل الله أن يثبته، وهو يقصد ذمَّه بذلك لا الدعاء له بالثبات. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومنهم من يقول: ليس لي عادة أن أذكر أحدًا إلا بخير ولا أحب الغيبة ولا الكذب وإنما أخبركم بأحواله". وكثير من الناس تسمعهم يقولون: والله لا نريد أن نغتابه لكن فيه كذا.. إذًا فقد اغتبته.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "يقول ذلك الرجل: ولا أحب الغيبة ولا الكذب وإنما أخبركم بأحواله ويقول: والله إنه مسكين أو رجل جيد لكن فيه كيت وكيت"، وربما يقول: دعونا منه الله يغفر لنا وله. ومنهم من يظهر الاغتمام فيقول: مسكين فلان غمّني ما جرى له وما تم له، فيظن من يسمعه أنه يغتمّ له ويتأسّف، لكنّ قلبه منطو على التشفي به، ولو قَدِر أن يزيد على ما به لفعل.
يا عبد الله، إن لكل الناس عورات ومعايب وزلات ومثالب، فلا تظن أنك علمت ما لم يعلم غيرك، أو أنك أدركت ما عجز عنه غيرك، فاشتغل بعيبك عن عيوب الناس، واسلك مسلك النصيحة، واعدل عن الفضيحة، واعلم أن من تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق، احفظ حق أخيك، وصن عرضه، وفي الحديث عنه : ((من ذبّ عن عرض أخيه بالغيبة كان حقًا على الله أن يعتقه من النار)) رواه أحمد، وفي حديث آخر قال : ((من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال وليس بخارج)) رواه أبو داود وأحمد، وردغة الخبال هي عصارة أهل النار عياذًا بالله، وعن أنس قال: قال رسول الله : ((لما عُرج بي إلى السماء مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يَخْمِشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)) ، ولذلك كان ميمون بن سياه إذا اغتاب أحد عنده نهاه، فإن انتهى وإلا قام من المجلس.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عَظُمَ شأنه ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره عمّ امتنانه وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، تتميمًا لموضوعنا هذا نقول: لقد ذكر العلماء أسبابًا تبيح الغيبة ومنها:
أولها: التظلّم بأن يذكر للوالي أو القاضي أو من يستطيع رفعَ الظلم عنه، فيذكر ظلم أخيه له أو خيانته أو أكله للرشوة، قال تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ [النساء:148].
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، فيذكره لمن يغيره بقصد ردّ العاصي إلى الصواب، فإن لم يكن قصده التوصّل إلى إزالة المنكر كان ذلك حرامًا.
الثالث: الاستفتاء وذكر الحال للمفتي طلبًا للفتوى، فيذكر الحال الحاصل، والأفضل أن لا يذكر اسم الشخص المستفتى عنه، بل يقول: ما تقول في رجل أو شخص أو زوج كان من أمره كذا وكذا؟ فيُعَرِّضُ باسمه ولا يصرح به إلا إذا استلزم الأمر تسمية الشخص.
رابعًا: تحذير المسلمين من الشرّ ونصيحتهم، ومنه جرح المجروحين من الرّواة للأحاديث النبوية، وكذلك أداء الشهادة، ومنها أيضًا الاستشارة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو إيداعه أو معاملته أو إسناد عمل له أو غير ذلك، ويجب على المستشار أن لا يخفيَ الحال، بل يذكره بنية النصيحة.
خامسًا: المجاهِر بفسقه مثل المجاهر بشرب الخمر أو أخذ الرشوة أو المجاهر بالبدعة وغير ذلك من الأمور الدينية.
سادسًا: التعريف بالشخص باللقب إذا كان لا يعرف إلا به، ولا يكون ذلك على سبيل التنقص والاحتقار، فإن عرف بغير ذلك اللقب أو الوصف كان هو المتعيّن، مثل الأعرج أو الأصم أو الأعمى أو الطويل أو القصير ونحو ذلك.
أخيرًا حذار حذار ـ أيها المؤمن ـ من حصائد اللسان وعواقبه، وتذكر ـ أيها المؤمن ـ أنك ستقف يوم القيامة بين يدي الله تعالى فردًا لا مال ولا جاه ولا ولد، ليس معك إلا ما قدمتَ، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرضٍ أو مالٍ فليتحلّله اليوم قبل أن يؤخذ منه يومَ لا دينار ولا درهم، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له عمل صالح أخذ من سيئات صاحبه فجعلت عليه)).
(1/3449)
سورة الحجرات (6)
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, محاسن الشريعة
خالد بن محمد بابطين
جدة
24/11/1424
مسجد الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شرف هذه الأمة. 2- فضل القرآن الكريم. 3- هجر القرآن. 4- مع النداء السادس: الكرم بالتقوى. 5- الميزان الشرعي للتفاضل بين الناس. 6- من خصال الجاهلية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى الذي أكرمكم بإنزال القرآن وخصّكم بشرفِ أعظم كتبه، قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:44]، أي: شرف لك ولقومك. وقال تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:15، 16].
إنه العصمة الواقية والنعمة الباقية والحجة البالغة والدلالة الدامغة، الشفاء لما في الصدور والحكم العدل عند مشتبهات الأمور، الكلام الجزْل الفصل الذي ليس بالهزل، سراج لا يخبو ضياؤه، شهاب لا يخمد سناؤه، بحر لا يُدرك غوره، بهرت بلاغتُه العقول، وظهرت فصاحته على كلّ مقول، فسبحان من سلكه ينابيع في القلوب، وصرفه بأبدع معنى وأبلغ أسلوب، لا يَسْتَقْصِي معانيه فهمُ الخلق، ولا يحيط بوصفه ذو اللسان الطّلق، فالسعيد من صرف همّته إليه ووقف فكره وعزمه عليه، والموفّق من وفّقه الله لتدبره واصطفاه للتذكير به وتذكّره، فهو يرتع منه في رياض ويكرع منه في حياض.
أيها الإخوة المؤمنون، ما أحوجنا أن نعيش مع القرآن ونحيا به لتحيا به قلوبنا وتنشرح صدورنا وتطمئن نفوسنا. الحياة مع القرآن وبالقرآن هي أن يكون منهج حياتنا ومهذِّب نفوسنا ومزكّيها ومقوّم أخلاقنا ومعليها، هي أن نجعله إمامنا ليقودَنا إن اتبعناه إلى سعادةِ الدارين وينجينا من شقاوة الحياتين، فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:123، 124].
عباد الله، كم من المسلمين من يقرأ القرآن أو يحفظه، كم من المصاحف تطبَع وتباع أو توزّع هنا أو هناك، كم من الكتب ألِّفت وتؤلَّف حول تفسير القرآن وأحكامه، كم نسمع فيه من الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، ولكن كم هو رصيد العمل من بين هذا الكمّ الهائل من العلم؟!
أيها الإخوة المؤمنون، إنه لممّا يؤسَف له أن حال كثير من الناس مع القرآن كحال من قال الله فيهم: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5].
الهدى بين أيدينا لكنّا نتعامى عنه، والرشاد أمام أعيننا غير أنا نتغافل عنه، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146].
كم لكثير من المسلمين من نصيب في هذه الآية وإن كانت جاءت في شأن بني إسرائيل، كم تشقى المجتمعات والأفراد وتشتكي مما بها وبلسَمُ الشفاء بين ظهرانيهم، وصدق من قال:
كالعيس في البيداء يقتلها الظـ ـما والماء فوق ظهورها محمول
وها أنت تراهم يسعَون في طلب السعادة عند أهل الشقاء، ويبتغون العزة عند من أذلّهم الله، قال تعالى: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:139]. بل أعجب من ذلك أنهم يطلبون الرحمة من أشدّ الأعداء.
أيها المؤمنون، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57].
وها نحن اليوم نأتي على النداء الرباني الأخير في سورة الحجرات: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
ذلكم هو الميزان الشرعي للتفاضل بين الناس، تضافرت نصوص الشرع من القرآن والسنة في تقريره والتأكيد عليه، ففي سنن الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله خطب الناس يوم فتح مكة فقال: ((يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: بَرٌ تقيٌّ كريمٌ على الله، وفاجر شقي هَيِّنٌ على الله، والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب، قال الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )) رواه أبو داود والترمذي. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: "الْعُبِّيَّة الْكِبْر وَالنَّخْوَة".
وقال لأبي ذر : ((انظر، فإنك لست بخير من أحمر ولا أسودَ إلا أن تفضله بتقوى)) رواه الإمام أحمد، وعن سهل بن سعد قال: مر رجل على النبيّ فقال لرجل عنده جالس: ((ما رأيك في هذا؟)) فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حريّ إن خَطَبَ أن يُنْكَحَ، وإن شَفَعَ أن يُشَفَّعَ، فسكت رسول الله ، ثم مر رجل آخر فقال له رسول الله : ((ما رأيك في هذا؟)) فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريّ إن خَطَبَ أن لا يُنْكَحَ، وإن شَفَّعَ أن لا يُشَّفع، وإن قال أن لا يُسْمَعَ لقوله، فقال رسول الله : ((هذا خير من ملءِ الأرض مثل هذا)) متفق عليه، وفي مسند الإمام أحمد عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله : (( إنّ أنسابكم هذه ليست بمسبّةٍ على أحدٍ، كلّكم بنو آدم طفّ الصاعُ لم تملؤوه، ليس لأحدٍ على أحدٍ فضلٌ إلا بدينٍ أو تقوى))، قال ابن الأَثير: "المعنى كلُّكم في الانتِساب إلى أَبٍ واحد بمنزلة واحدة في النقْص والتقاصُر عن غايةِ التَّمامِ، وشَبَّههم في نُقْصانهم بالكيل الذي لم يبلُغ أَن يملأَ المِكيالَ".
أيها المؤمنون، إن خصالا من خصال الجاهلية تظلّ موجودة في طوائف من الناس، فعن أبي مالك الأشعري أن النبي قال: (( أربع في أمتي من الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)) رواه مسلم، وعن المعرور قال: رأيت أبا ذر الغفاري وعليه حلّة وعلى غلامه حلة مثله، فسألناه عن ذلك فقال: إني ساببت رجلا فقلت له: يا ابن السوداء، فشكاني إلى النبي فقال لي: ((أعيرته بأمه؟!)) ثم قال: ((إنك امرؤ فيك جاهلية، إن إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليُلْبِسْهُ مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم)) رواه البخاري.
أيها الإخوة، وتأمّلوا كيف طبّق الصحابة هذا الميزان الشرعي في التفاضل: لقي نافع بن عبد الحارث عمر بعُسْفَان، وكان عمر يستعمله على مكة فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزَى، قال: ومَن ابنُ أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفتَ عليهم مولى؟! قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض، فقال عمر: أما إن نبيكم قد قال: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين)) رواه مسلم.
وقال الحسن البصري رحمه الله: حضر أناسٌ بابَ عمر وفيهم سهيل بن عمرو وأبو سفيان بن حرب والشيوخ من قريش، فخرج آذِنُه فجعل يأذَن لأهل بدر كصهيب وبلال وعمار ، فقال أبو سفيان: والله، ما رأيت كاليوم قط! يأذن لهذه العبيد ونحن جلوسٌ لا يَلْتَفِتُ إلينا، فقال سهيل بن عمرو: أيها القوم، إني والله لأرى ما في وجوهكم، فإن كنتم غضابًا فاغضبوا على أنفسكم، دعي القوم ودُعيتم، فأسرعوا وأبطأتم، أما والله لَمَا سبقوكم به من الفضل فيما يرونَ أشدّ عليكم فوتًا من بابكم هذا الذي تنافسون عليه. قال الحسن: صدق والله، لا يجعل الله عبدًا أسرع إليه كعبد أبطأ عنه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3450)
قراءة في ثلاث أوراق تاريخية
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
محمد بوهو
آزرو إقليم إفران
27/1/1424
مسجد الراحة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم)). 2- قراءة في واقع الأمة المؤلم من خلال ثلاث أوراق تاريخية: مسير القرامطة إلى مكة، الحملات الصليبية وأفاعيل الصهاينة، الغزو المغولي التتري المدمّر. 3- حضارة العولمة وتاريخها الحافل بالإجرام. 4- نتائج حب الدنيا وكراهية الموت. 5- سبيل النجاة من الوهن. 6- أركان المجاهدة كما علمها لنا رسول الله. 7- صناعة الرجال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوا الله حق التقوى، فتقوى الله نورٌ في القلب وذخرٌ في المنقلَب، وهي خير شيء نلقى به الله تعالى يوم لا ينفع مال وبنون إلا من أتى الله بقلب سليم، واعملوا جاهدين لنيل رضاه، وتذكروا أنكم بين يديه موقوفون، وسوف تحاسبون، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، واتقوا يوما ترجون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يُظلمون، فكل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
عباد الله، أيها المسلمون، عن أبي عبد الله ثوبان بن مجدد رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا)) فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ يا رسول الله؟ قَال: ((بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ)) فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: ((حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)).
أيها المسلمون، إن هذا الحديث النبوي الشريف هو من دلائل نبوة محمد عليه الصلاة السلام، وهو مما نطق به المصطفى الأمين مند ما يزيد عن أربعة عشر قرنا، وهو لا ينطق عن الهوى بل هو الوحي الرباني الذي يوحى. كشف الحقّ تبارك وتعالى حجابَ الغيب لنبيه الكريم في مسألة نعيش تداعياتها في هذه الأيام العصيبة التي تمر بها الأمة الإسلامية.
نعم ـ أيها المسلمون ـ إن الأمم الكافرة قد تداعت وتكالبت على الأمة، فقوله : ((يوشك الأمم)) أي: يقرب فِرق الكفر وأمَم الضلالة ((أن تداعى عليكم))، تتداعى بأن يدعو بعضهم بعضا إلى الاجتماع لمقاتلتكم وكسر شوكتكم وسلب ما ملكتموه من الديار والأموال، ((كما تداعى الأكلة)) وهو جمع آكل، أي: أن الفئة الآكلة أيضا يتداعى بعضهم بعضا, ((إلى قصعتها)) الضمير للأكلة أي: التي يتناولون منها بلا مانع ولا منازع، فيأكلونها عفوا وصفوا، وكذلك يأخذون ما في أيديكم بلا تعبٍ ينالهم أو ضرَر يلحقهم أو بأس يمنعهم. الله أكبر، صدقتَ يا رسول الله، فإن ما عليه الأمة الإسلامية الآن ينطبق عليها كلامك الشريف.
عباد الله، أليس هذا الذي نعيشه في هذه الأيام، أليس هذا هو واقع أمة الإسلام في السنين الأخيرة؟! أين الخيرية التي وُصفت بها الأمة؟! أين عزة الإيمان التي كان على الأمة أن تتصف بها في كل آن وحين؟! أين وأين؟!
قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، وقال عز وجل: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8].
إنّ النبيّ الكريم أشار في الحديث إلى نوعَين من المتكالبين على الأمة، النوع الأول من المعتدين على الأمة بالقوة والتفوق في السلاح والإمكانيات المادية، والنوع الثاني من الذين يتكالبون على الأمة ليس من باب الاعتداء العسكري والهجوم العدواني، بل من باب استنزاف خيراتها بالحِيَل والطّرق الملتوية وأخذ ما حباها الله به من ثروات من شتى الأصناف والأنواع، وخاصة تلك التي يسيل لها لعاب المعسكر الغربي الأمريكي والمتمثّل في النفط، هذه الورقة التي لم تستطع الأمة إلى حدّ الآن أن تحسن استعمالها واستغلالها. وقد يجتمع الوصفان المذكوران في جهة واحدة كما هو الحال بالنسبة لأمريكا وبريطانيا وأذنابهما التي تسخّر كلّ ما وصلت إليه الآلة العسكرية لديها، وفي نفس الوقت تسعى للسّيطرة على آبار البترول المتواجدة في أفغانستان والعراق غيرهما.
عباد الله، ما السبب في وصول الأمة إلى هذا المنحدر الخطير؟ هذا ما سأله الصحابة للرسول : ومِن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ أي: هل ذلك التداعي لأجل قلّةٍ نحن عليها يومئذ، فيجيب الرسول الأكرم : ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل)) أي: ما يحمله السيل من زبد ووسخ، شبهنا به لقلّة شجاعتنا ودناءة قدرنا ودنو همتنا، ((ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن)) أي: ليُخرجن الله تعالى المهابة منكم، لا يصبح هناك للأمة هيبة، ولا يبقى منكم خوف أو هيبة لدى العدو، ويقذف الوهن في القلوب وهو الضعف، وكأنه أراد بالوهن ما يوجِبه، ولذلك فسره بحبّ الدنيا وكراهة الموت، قيل: وما الوهن؟ أي: ما يوجبه وما سببه؟ قال الطيبي رحمه الله: "سؤال عن نوع الوهن، أو كأنه أراد من أي وجه يكون ذلك الوهن قال: ((حبّ الدنيا وكراهية الموت)) ، وهما متلازمان فكأنهما شيء واحد يدعوهم إلى إعطاء الدنية في الدين من العدو المبين".
أيها المسلمون، إن ما نراه اليومَ من استباحة الأقطار الإسلامية هو من أفظع المنكرات وأشدها. وفي هذه الخطبة نعرض لثلاثة أوراق تاريخية من صفحات معاناة الأمة الإسلامية، ولا نريد بعرض هذه الأوراق المأساوية من تاريخنا أن نقدم إضافات لصوَر المآسي والمعاناة التي نعيشها وألوانا كئيبة من الإحباط اليأس التي تلحق بنا على أكثر من مستوى، والتي أصبحت تملأ علينا حياتنا وترافق طعامنا وشرابنا ويقظتنا ومنامنا وحيثما تلفتنا، ليس هذا هو المقصود، ولو كان هذا هو المقصود لاكتفينا بالصور المأساوية القائمة التي نعيشها صباح مساء، تحملها إلينا أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة عن فظائع يهود وأفاعيلهم في فلسطين وبيت المقدس، وبما يجري على أرض أفغانستان وما يقع في هذه اللحظات على أرض العراق المسلمة، ولاكتفينا باليد المشلولة للأمة إزاءَ هذه المعاناة، ولاكتفينا بالصمت المطبق للأنظمة على ما يجري.
ليس هذا هو المقصود بعرض هذه الأوراق، إنما المقصود هو أن نقول: إن الأمة الإسلامية عانت في تاريخها الطويل من صوَر المآسي والنكبات ما تكفي الواحدة منها لإزالتها من الوجود ومحوها من خريطة العالم، ولكن الأمة المسلمة تاريخيا تحقَّق لها من عوامل الصمود الاستمرار وعدم الذوبان والاضمحلال في أيام الغلبة والانكسار قد يقلّ عن عوامل القوة في أيام الفتح والانتصار. والله تعالى يقول في محكم كتابه العزيز: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]. إن هذه الأوراق التاريخية ليست لمزيد من اليأس، وإنما معالجة لليأس والسقوط والقنوط.
الورقة الأولى: كانت عن مسير القرامطة إلى مكة، وما فعلوه سنة 317هـ، فقد حج بالناس في هذه السنة منصور الدّيلمي، وسار بهم من بغداد إلى مكة، فسلموا في الطريق، فوفاهم أبو طاهر القرمطي بمكة يوم التروية، فنهب أموالهم واستباح قتالهم، فقتل في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقًا كثيرا، وجلس أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة، والرجال تصرح حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في الشهر الحرام يوم التروية الذي هو من أشرف الأيام، وهو يقول: "أنا الله وبالله، أنا أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا"، فكان الناس يفرّون منهم، فيتعلّقون بأستار الكعبة، فلا يجدي عنهم شيئا، بل يقتلون وهم كذلك، ويطوفون فيقتَلون في الطواف، وقد كان بعضهم أهل الحديث يومئذ يطوف، فلما قضى طوافه أخذته السيوف.
فلما قضى القرمطي لعنه الله أمره وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم، ودفن كثير منهم في أماكن من الحرم وفي المسجد الحرام، لم يغسّلوا ولم يكفّنوا ولم يصلَّ عليهم لأنهم محرِمون. وهدم قبّة زمزم، وأمر بقلع باب الكعبة ونزع كسوتها عنها وشقها بين أصحابه، وأمر رجلا أن يصعد إلى ميزاب الكعبة فيقتلعه فسقط على أم رأسه فمات إلى النار، ثم أمر بأن يقتلع الحجر الأسود، فجاء رجل فضربه بثقل في يده، وقال: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ وأخذوا الحجر الأسود معهم حين راحوا إلى بلادهم، فمكث عندهم ثنتين وعشرين سنة [1]. وإنما حمل هؤلاء على هذا الصنيع أنهم كفار زنادقة، فماذا كانت النتيجة؟ لقد احترقت الورقة القرمطية وعاد المسلمون إلى الاعتزاز بإسلامهم، وكانت المشروعية العليا في حياتهم للكتاب السنة.
الورقة الثانية: الصليبيون في بيت المقدس، ملكوها ضَحوة نهار يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان من سنة 492هـ، وركب الناس السيف، ولبث الفرنج في البلدة أسبوعا يقتلون فيه المسلمين، وقتل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا، منهم جماعة كبيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم، وأَخذوا من عند الصخرة نيفا وأربعين قنديلا من الفضة، وأخذوا تنورا من فضة، وأخذوا القناديل الصغار مائة وخمسين قنديلا، ومن الذهب نيفا وعشرين قنديلا، وغنموا ما لا يقع عليه الإحصاء [2].
ويقول أحد الصليبيين حكاية عن قومه: "كان قومنا يجوبون كاللبوات ـ جمع لبؤة ـ التي خُطفت صغارها الشوارعَ والميادين وسطوح البيوت ليرووا غليلهم من التقتيل، فكانوا يذبحون الأولاد والشبان والشيوخ ويقطعونهم إربا إربا، وكانوا يستبقون إنسانا، وكانوا يشنقون أناسا كثيرين بحبل واحد بغية السرعة.. وكان قومنا يقبضون على كل شيء يجدونه، فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعة ذهبية، وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث.. ثم أحضر بوهيموند جميع الذين اعتقلهم في برج القصر، فأمر بضرب رقاب عجائزهم وشيوخهم وضعافهم، وبسَوق فتياتهم وكهولهم إلى أنطاكية ليبغوا فيها.. لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في هيكل سليمان، فكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهنالك، وكانت الأيدي والأذرع المبتورة تسبح كأنها تريد أن تصل بجثث غريبة عنها، فإذا ما اتصلت ذراع بجسم لم يعرف أصلها، وكان الجنود الذين أحدثوا تلك الملحمة لا يطيقون رائحة البخار المنبعثة من ذلك إلا بمشقة.. وأراد الصليبيون أن يستريحوا من عناء تذبيح أهالي القدس قاطبة، فانهمكوا في كل ما يستقذره الإنسان من ضروب السكر والعربدة" [3].
ويقول آخر: "حدثت ببيت المقدس مذبحة رهيبة، وكان دم المقهورين يجري في الشوارع، حتى لقد كان الفرسان يصيبهم رشاش الدم وهم راكبون، وعندما أرخى الليل سدوله جاء الصليبيون وهم يبكون من شدة الفرح، وخاضوا الدماء التي كانت تسيل كالخمور في معصرة العنب، واتجهوا إلى الناووس، ورفعوا أيديهم المضرجة بالدماء لله شكرا".
هذا صنيع الصليبيين آنذاك.، فماذا كان بعد ذلك؟ لقد قيض الله لهذه الأمة من حقق لها النصر المبين والعزة الموعودة، وعاد بيت المقدس إلى حصن الأمة وتحت لوائها، ورجع المعتدون أدراجهم خائبين.
الورقة الثالثة: هولاكو في بغداد، وصل بغداد هولاكو خان بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأطاحوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، هم بقية الجيش، كلهم قد صرفوا، وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي.. لهذا كان أول من برز إلى التتار هو، فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه، فاجتمع بالسلطان هولاكو خان لعنه الله، ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج والمثول بين يديه لتقع المصالحة، فخرج الخليفة في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، وأُحضر الخليفة بين يدي هولاكو، فسأله عن أشياء كثيرة، فيقال: إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت، ثم عاد إلى بغداد وفي صحبته المولى نصير الطوسي الوزير العلقمي، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة، وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لا يصالح الخليفة، وحسَّنوا قتل الخليفة، فلما عاد الخليفة إلى هولاكو أمر بقتله، ويقال: إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي والمولى نصير الطوسي، وكان الطوسي عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الألموت، ليكون في خدمته كالوزير المشير. وقتل الخليفة، فباؤوا بإثمه وإثم من كان معه من السادات والعلماء والقضاة والأكابر والرؤساء والأمراء، ومالوا إلى البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول الشبان [4].
واستولى المغول على بغداد سنة 656هـ فخربوها، وخنقوا الخليفة العباسي الأخير المستعصم بالله، ونهبوا ما في بغداد من الأموال، وحرقوا كتبها التي جمعها محبو العلم، وألقوها إلى نهر دجلة، فتألف منها جسرٌ كان يُمكِّن الناس أن يمروا عليه رجالا وركبانا، وأصبح ماؤه أسود من مدادها، كما روى قطب الدين الحنفي [5].
وماذا بعد هذه الصور؟ لقد عادت هذه الوحوش الضارية التي أشعلت النار في المباني، وعاد هؤلاء المعتدون الذين حرقوا الكتب وخربوا كل شيء نالته أيديهم، عادوا وخضعوا لسلطان حضارة المسلمين في نهاية الأمر، حتى إن هولاكو نفسه الذي أمر بهدم بغداد وبجر جثة آخر العباسيين تحت أسوارها بهرته عجائب حضارة الإسلام، ففي المدرسة العربية والإسلامية تمدن المغول، فاعتنق منهم الكثير دين الإسلام.
عباد الله، من خلال الصور المأساوية التي عرضناها والتي تضمنتها الأوراق الثلاث السابقة هل استطاعت هذه المحن تدمير الأمة المسلمة وإنهاءها إلى غير رجعة؟ هل قطعت فيها قوة النهوض من جديد أم أن الأمة استطاعت أن تتجاوز المحن وتجدد شبابها في كل مرحلة؟
أيها المسلمون، نحن على يقين بأن الله سوف يهيئ لدينه من يحمله ويدافع عنه، وأن أسلحة الغزو الفكري والاجتياح العسكري سوف تسقط في يد أصحابه، فقد عجز الغزو الفكري كما فشل الغزو العسكري تاريخيا في تحطيم أفكار الأمة المسلمة وإلغاء شخصيتها الحضارية، وكان القرآن الكريم ـ دستور هذه الأمة وروحها والمحجة البيضاء التي تنير طريقها ـ هو القوة الفاعلة والحصن الثقافي الذي حفظ الأمة من الذوبان والقوة التي تعين على الثبات والمقاومة في حالات الغلبة الاضطهاد.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وأجارني الله وإياكم من عذابه المهين، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] انظر: البداية النهاية (11/160-161).
[2] انظر: الكامل لابن الأثير ( 10/283 وما بعدها)، والبداية والنهاية لابن كثير (12/156 وما بعدها).
[3] انظر: حضارة العرب لمؤلفه "غوستاف ل وبون" (ص400 وما بعدها).
[4] البداية والنهاية (13/200 وما بعدها).
[5] حضارة العرب (ص223).
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله ربّ العالمين حمدَ عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلاة وسلامًا عليه دائمين إلى يوم الدين.
أيها المسلمون، ما أشبه اليوم بالبارحة، انظروا ماذا يجري في ديار الإسلام من نهب وتخريب، لقد عاد أحفاد القرمطي والصليبيون وهولاكو لكي يجدّدوا ما فعله أجدادهم بالمسلمين، ها هي اليوم أمريكا وأذنابها تعيث في أرض الإسلام فسادا. إن أمريكا هذه التي تتبجح بالتقدم والحرية تاريخها أسود دموي منذ نشأتها، وكتب التاريخ الحديث حافلة بالممارسات الإجرامية التي قامت بها الحكومات الأمريكية المتعاقبة ضد الهنود الحمر السكان الأصليين في أمريكا، فقد سبق للحكومات الأمريكية أن عقدت مائة وعشرين اتفاقًا لمسالمة الهنود الحمر ولمصالحتهم، ولكنها نقضت هذه الاتفاقات كلها الواحدة تلو الأخرى، فهذه الاتفاقات أشبه بمسلسل للغدر والخداع، وانتهى الأمر بإبادة وقتل أغلبية الهنود الحمر، وما تبقى منهم اليوم فهم أقلية، وهم معزولون الآن عن المجتمع الأمريكي.
أيها المسلمون، يا من تنخدعون بما يسمّى بالحضارة الأمريكية، لم تأبه أمريكا وحليفتها بإبادة وقتل مئات الآلاف من اليابانيين في نهاية الحرب العالمية الثانية، فقد جرّبت تأثير القنبلة الذرية على الشعب الياباني، وبالرغم من أن الحكومة اليابانية قد أبدت رغبتها في الاستسلام وقتئذ إلا أن أمريكا قد أصرّت على معاقبة الشعب الياباني، فألقت قنبلتين ذريتين إحداهما على مدينة هيروشيما في شمال اليابان، والأخرى على مدينة ناكازاكي في جنوبها، وكان ذلك في شهر غشت من عام 1945م، ولا تزال الآثار السلبية تظهر على أطفال الشعب الياباني من التشوهات الخلقية والأمراض المستعصية بتأثير إشعاعات القنبلتين الذرتين، ولا زالت هذه الصورة تعرض أمام الأمريكان خاصة في هذه الأيام تذكيرا لهم بالماضي المخزي والأيدي الملطخة بالمذابح والدمار لشعوب العالم. وكذلك الأمر بالنسبة لشعوب الأفغان والفيتنام وكمبوديا والشعب العراقي، حيث استعملت أمريكا في حروبها ضدهم أسلحة الدمار الشامل بما فيها قنابل اليورانيوم، وهذا ما نخشاه اليوم على الشعب العراقي المسلم.
إن الظرفَ العصيب الذي تمر به الأمة الإسلامية في هذه الأيام يدعونا جميعا للاعتبار من التاريخ واستخلاص الدروس والعبر من حديث المصطفى.
عباد الله، إن من نتائج الخطر الأكبر الذي ذكره الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام حب الدنيا وكراهية الموت والدنيا ليست هي فقط الدرهم والدينار وإنما هي كذلك الجاه والمكانة والزعامة والكبر والركون إلى النعيم. وتأمل معي ـ أخي المسلم أختي المسلمة ـ قول الرسول : ((فَوَ اللَّهِ لا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ)). من نتائج تعلق القلب بالدنيا ووضعها في أعلى من المرتبة الحقيقية التي تستحقها ما يلي:
أولاً: صناعة المعاذير والتهرب من التكاليف وجعل حول النفس ضبابا وستارا يتستر به من فضيحة ما هو فيه من الذلة والمهانة والهوان، وهذا ما وقع على عهد الرسول الكريم حين جاءه من يعتذر له عن جهاد الروم مدّعيا الخوف من الفتنة: لو خرج إلى جهاد الروم أن يرى من حوله نساء بني الأصفر، فأنزل الله تعالى فيه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49]. وكذلك شأن من جاء يتنطّع إلى رسول الله وهو يقول: ((إن بيوتنا في المدينة عورة مكشوفة للعدو، وليس فيها إلا الصبية والنساء))، وهذا نوع من أنواع الانفلات من الجهاد والمشاركة في حفر الخندق، فأنزل الله تعالى قوله: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا [الأحزاب:13]. كيف يحقق الله النصر للإسلام بمثل هؤلاء؟! ألسنتهم في واد من الدعاوى، ونفوسهم تائهة في واد آخر من التنافس والتسابق إلى أهواء الدنيا وملذاتها. هؤلاء لا يتفقون فيما بينهم، وهم لا يثقون ببعضهم ولا يتحابون ولا يتوادون عن صدق، وهم لا يتعاونون من أجل ذلك كله إلا بمقدار. هؤلاء لا ينصرون لأن من بيده المعونة والنصر ناظر إليهم وعالمٌ بحقيقتهم المختفية.
ثانيًا: أن فعل الخير الذي قد يقوم به مثل هؤلاء ومهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي قد يقومون بها على مضض تصبح شكلية منزوعة البركة والتوفيق.
ثالثًا: من نتائج حب الدنيا وكراهية الموت العصبية والطائفية والتشيع للرأي والاختلاف المذموم، وتأمل قول الرسول الكريم : ((بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ الْعَوَامَّ؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ)) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟! قَالَ: ((بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ)).
هذه أبرز النتائج التي يخلِّفها حب الدنيا وكراهية الموت في الأفراد، والذي يغنم من هذا الواقع هو العدو المترصِّد لضعف الأمة وهوانها، وهذا هو الداعي إلى خسارة الأمة وفداحة ما وصلت إليه.
عباد الله، ما هي سبل العلاج في هذه المسألة؟
إن الأمة رغم ما يمر بها من فتن وأهوال يمكن أن تستعيد عافيتها، وتعود إلى شبابها؛ لأن الله تعالى وضّح لها سبل ذلك، وأكرمها بالدواء الشافي إن هي رغبت في استعماله والاستفادة من خيراته.
سبيل العلاج ـ عباد الله ـ هو في المجاهدة، قال تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ [الحج:78]، وقال جل وعلا: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
والمجاهدة يجب أن تكون كما علّمنا إياها رسول الله ، فهي تتلخّص في النقط التالية:
1. تفكّر الإنسان في ذاته ومحاسبتها، والاستحياء من الله حق الحياء، والتفكر في مصيره المحتوم من الموت إلى القبر وما به من بِلى، إلى يوم الوقوف بين يدي الله جل وعلا، قال رسول الله : ((اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ))، قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ! قَال: ((لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ)). والواجب أن يحصل ذلك في لحظات المناجاة لله رب العالمين وفي ساعة الخلوات.
2. التزام ورد دائم ومنتظم من قراءة كتاب الله تعالى مع الذكر الاستغفار، قال رسول الله : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اذْكُرُوا اللَّهَ، اذْكُرُوا اللَّهَ، جَاءَتْ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ)).
3. قيام الليل، وهذا لبّ المجاهدة، ففيه العدة للرجال وفيه الخير كلّه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً [ المزمل:1-7].
4. الصيام، وقد كان الرسول يصوم الاثنين الخميس، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ)). ففي الصيام التربية الروحية والجهادية المثلى.
5. كثرة الدعاء والابتهال والتضرع لله عز وجل، قال تعالى: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:14]، وقال سبحانه: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]، وقال تعالى في حقّ زكرياء عليه السلام: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].
هذا سبيل النجاة عبادَ الله، وهذه هي المجاهدة الحقّة، تلك التي تصنع الرجال وتزكو بها النفوس، فنحن على يقين أن الشدائد والمحن تصنع الرجال وتبصِّر الأمة بأعدائها الحقيقيين، وأن اشتداد التحدّي يصقل الرجال ويقيم الحضارات ويقضي على الخلايا الشائخة في الأمة وينهي دور الجيل الرخو، وأن صلاح الدين الأيوبي ولد في ظلّ الاحتلال الصّليبي الجاثم على البلاد منذ زمن، وهو الذي كان استنقاذ القدس على يديه، وأن نبي الله موسى عليه السلام تربَّى في قصر فرعون، وكتب الله على يديه تدميرَ الطاغية فرعون وإنهاء الظلم، قال تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [القصص:8]، وأن في تاريخنا من المحن والبلايا ما يكفي للدلالة على قدرة هذه الأمة على تجاوز المحن والشدائد، فهل نعي الدروس ونستفيد من العِبَر، والعاقل من يعتبر بغيره، والأحمق من يكون عبرة لغيره.
اللهمّ أبرم لهذه الأمّة أمر رشد يُعزّ فيه أهل الطاعة، ويُذلّ فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر. اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب، اهزم اليهود وأذنابهم وانصرنا عليهم يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك المجاهدين في سبيلك في كل مكان، وطهر بيت المقدس وجميع بلاد المسلمين من اليهود والنصارى والمشركين.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]. اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
(1/3451)
رمضان وحال الأمّة
فقه
الصوم
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
8/9/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قدوم الضيف الكريم. 2- رمضان شهر العزّ والمجد. 3- حقيقة رمضان. 4- الغافلون في رمضان. 5- رمضان شهر القرآن. 6- تطول اليهود على شعائر المسلمين. 7- رمضان شهر الجود والكرم. 8- ضرورة تذكّر المسلمين المضطهدين. 9- مفسدات الصيام. 10- فريضة الزكاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسي بتقوى الله جلّ وعلا، فإنّ التقوى مِرقاة النجاة ومِشكاة الهُداة وأزكى بضاعةٍ مرتجَاة في هذه الحياة، وها قد تدانَت لكم دواعيها، فيا فوزَ واعيها، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيّها المؤمنون، منذ أيّامٍ قلائل قدّر البارِي جلّ وعلا المنازِل، فحبانا بشهرٍ كريم ذي خيرٍ عميم وضيفٍ أثير مبجَّل، هفَت له الأشواق، وتلقَّته بالعَبرات الأحدَاق، شهرٍ أرسَل أنوارَه على الأفئدة المؤمِنة الرضيَّة، فغشِي أقطارها بالتّقوى والحبور، وأفاض عليها من نفحاته فجلَّلها بالرَّشَد الطَّهور، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
في رمضانَ نورُ الإيمان يُشِعّ ويضيء، ونفحَات الوحي المباركات تمضي وتجِيء، فالأوقاتُ بالطاعات والقرُبات مَعمورة، والأرواح بالطّمأنينة والسكينة بَهِجَةٌ مغمورة، الأجسادُ عن شهواتها وملذّاتها تخلَّت، والأرواح بحُلَى القُربات توشّت وتحلَّت، وللخير العميمِ شمَّرت وتجلّت.
معاشرَ المسلمين، إنّ شهرَ رمضان بمقاصده وخصائصِه وعَبَق ذكرياتِه هو مبعَث عِزِّنا ومناطُ فخرِنا ومَرفأ جَدِّنا ومجدِنا، تضمّن البطولاتِ والفتوحات وتنزُّلَ الآيات البيّنات، فيه عُلوُّ الأمجادِ والظّهور على قوى الشرِّ والإلحاد مهما أجلَبوا بالخيل والعتاد. وفي الجملة ـ يا رعاكم الله ـ هو موسمٌ لتجارةٍ مع الله رابحةٍ، وفرصةٌ لرفع الدرجات وتكفير السيِّئات مواتِيَة سانِحة، من ضيَّعها فقد أدنى بخسَه وأشقَى المحرومُ نفسَه. أما كان بيننا أحِبَّةٌ وأتراب، أُسِلموا للثَّرى والتراب؟! كانوا كالشّموس بيننا والأقمار، قد طواهم البوار إلى دار القرار. فيا ليت شِعري، أين فرسان الكلام وحُذّاق النِّثار والنِّظامِ يصفون لياليَه الزّهر الباهرة وآلاء أيّامه المتظاهرة، بل ما لا يكاد يُحصَى فيه من صنوفِ الخير ودُروب الهدى، ولا تسَل عن غُرَّة جبينِه ليلةِ القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر.
إخوةَ الإيمان، ذلكم هو شهر رمضان، وذلكم فحواه ومبناه، وإن الغيورَ ليتساءل في لهفٍ لهيف: هل استطاعت أمّتنا الإسلاميّة أن تعيَ حقيقةَ الصوم بكلِّ ملامحِها ودلائلها من نهَلٍ للنَّقل وجلاءٍ للعَقل وصفاءٍ في القلب وأُنسٍ للروح ووعيٍ مقتَرنٍ بالتقوى وعِلمٍ متّصل بمخافة المولى جلّ وعلا؟! هل أدركنا أنّ لشَهر رمضانَ نورًا يجدر أن تستضيء به النفوس والقلوب، فتثبتُ الأمّة أقدامَها على طريق التغيير بوعيٍ لا تشوبه رغبات، وبثبات لا يعكِّره ارتجال وثَبات؟! أم أنّ حظّنا من رمضانَ هو الاسم المعروف والزّمن المألوف وصِلة المناسبة المنبَثّة عن الواقِع والحال حين تشرِق الشمس أو يُطلّ الهلال. ويالله، كم نسعد ونغتبِط بشهر رمضان حين نجعَل منه دورةً زمنيّة قويَّة خيِّرة، تقودنا إلى تحقيقِ الذات والنصرة على المعتدين بيقين وثبات، وما أعظمَه حين ذاك خيرًا يُصنَع ودرجةً مؤثّلَةً تُنال.
أمّةَ الصيام والقيام، ومما يؤسَى له في شهرِ الغفران والعِتق من النيران أنّ كثيرًا من المسلمين هداهم الله طاشت أفهامُهم عن كثيرٍ من حقائق الصّوم ومضامينه ومراميه، فحبسوا الجوفَ عن الطعام والشّراب فحسب، وراحوا يُطلِقون في المحرّمات البصر، ولم يصونوه عن فضول النّظَر، وتقحَّموا حُمَّى اللّسان، ولم يرعوُوا عن النميمة والغيبةِ والبهتان واللغوِ وهُجر القولِ والهذَيان، ومن توافى على هذا الشأن عِياذًا بالله كان كمن أشاد قصرًا وهدم مِصرًا. خرَّج البخاريّ في صحيحه أنّ رسول الله قال: ((من لم يدَع قولَ الزور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدَع طعامَه وشرابه)) [1].
ويُطوَّح بك الشّجَن والشَّجَى حين تسمَع عن فئامٍ من المسلمين قد غدَوا أحلاسَ اللّذّة، يكرَعون من صَرَى بعضِ الفضائيات المسِفّة في قَرَمٍ وسُهوم، ويرمّدون أبصارَهم في نَهَمٍ بقِتَامِها الأَدفَر عياذًا بالله. ألم يعلم هؤلاء أنّ هذه الفضائيّات الحواطِم شِراع يدفع بسفينتِنا لما فيه حتفُ شبابنا وفتياتِنا، وجرثومة خطيرة تصدِّع وادي فضائلنا وعفّتِنا؟!
ألا فليتّق الله في شهرِ التنزيل والترتيل الذين نصَبوا أنفسهم حُداةً للغرائِز والشهوات في بيداءِ الدنيا وهذه الحياة، يُلهبونها إذا سكَنت، ويُضرِمونها إن خمدت. يا وَيحهم، لا العَبرَة أراقوا، ولا على زواجِر القرآن أفاقوا. ألا فلنعُد جميعًا إلى رِباطِ الفضائل والطُّهر والعَفاف، فنحزم به أمورَنا ونوثّق به روابطَنا قبل أن يبلُغَ الحزامُ الطُّبيَين، وقد قال الله عزّ وجلّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].
أمّةَ القرآن، ومن خصائصِ هذا الشهرِ المبارك تنزيلُ القرآن الكريم، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]. نعم، نزلت الآيات البيّنات، فأنارَت الدنيا وكانت غارقةً في لُجَّة الظلمات، غيّرتِ الجهلَ والهمجيّة إلى قمّة الحياةِ الإنسانية، في عدلٍ شامل وعلمٍ نافع ووعي متكامَل، وأروَى هذا الكتاب المبينُ العالم بمائِه، وما ماؤه إلا الخير المحضُ للإنسانيّة والصلاح والنفعُ والسعادة للبشرية والمضيُّ بها في طريق الهدَى والنور. أعجزت كلماتُه البلغاء، وكاعَ دون نظمِها الفُصحاء، ألفاظه ومعانيه إليها المنتهَى، وبلاغتُه حيّرت أولي الألباب والنُّهى، كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]. فهل تعي الأمّة دورَها تجاهَ كتابِ ربها في أفضل شهورِها؟! لا سيّما في هذا المنعطَف الخطير وهذه الحقبة التأريخية التي تمرّ بها وفي هذه الآونة التي ظهرت فيها شِرذمَةٌ من شُذّاذ الآفاقِ مَباءةِ كلِّ خِسَّةٍ ولُؤم، رمَى بهمِ حقدُهم الأسوَد اللامحدود وكيدُهم الأحمر المتفاقِم لمعارضةِ القرآن الكريم والتطاول على الذاتِ الإلهية والأحكام القدسيّة والجِناب المحمَّدي، في هرطَقاتٍ يزعمون أنّها الفُرقان الحقّ، وما هي إلا الفِرقان الخَلِق، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5]، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة:79]. وليس بِدعًا أن يُؤلِّف القومُ ما ألَّفوا وأن يرتكِبوا من الافتراءات والخزَعبَلات ما ارتكبوا، فهم الذين اتَّخذوا آياتِ الله هزوًا، وكتموا ما أنزل الله، وقتلوا أنبياءَ الله، وحرفوا التوراةَ وبدّلوها، كيف وقد فضَح الله خلائقهم ونيّاتهم، ولم يغادِر القرآن الكريمُ صغيرةً ولا كبيرةً مما تنطوِي عليه نفوسُهم عن الخبثِ والمكر إلاّ أوضحَها وجلاّها، وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة:64].
وإنّ ما أتوه من أباطيلَ وما افتروه من تضليلٍ لأنزلُ رُتبةً من أن يُتناوَل بردٍّ أو نِقاش في هذا المكان المقدّس، فليبلُغَنَّ هذا الدينُ ما بلغ الليل والنهار، ولكن علينا أن ندرِك أنهم يريدون إصابتَنا ـ وما هم ببالغين ـ في مقدَّساتنا وثوابتِنا وكتابنا الذي أيقَنوا أنه حياتُنا ونجاتُنا، وأنّا به صِرنا خيرَ أمّةٍ أُخرجت للناس، وأنه النورُ والضياء للعالمين. ولعلّ هذه الصواعقَ والرّعود نَجني منها بإذنِ الله يانع الثّمرَ والورود، فتوقِظ فينا الاستمساكَ بهذا القرآن الخالد والاعتصامَ بأحكامه وأوامِره، وأن نتواصَى على العمل به في شؤوننا كافّة، كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17].
معاشر الصائمين، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، وإنّ من كمال هديِه في رمضان البذلَ والإنفاق، قال الإمام الماوردي رحمه الله: "مُنِح من السّخاء والجود حتى جادَ بكلّ موجود"، قال تعالى: وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16]، وما الإنفاق والإحسان في هذا الشهر المبارك الميمون للمعوِزين والمعسرين والمدينِين إلاّ دليلُ حبٍّ شفيف وإيمان مُزهرٍ رَفيف يحمل النفسَ على المشاعرِ الرقيقة الحانية، فتسري في الأمّة المسلمة كالريح الرُّخاء، فتبذل في نداوةٍ ورَخاء، فمدُّوا أيديكم ـ رحمكم الله ـ لإخوانكم بالعطاء، تحوزوا مرضاة ربِّ الأرض والسماء.
وإنّا ـ أيّها الأحبة ـ إذ نقرَعُ معكم باب الوُدّ والعطفِ ونشرع دونَكم قناةَ الحُبّ واللّطف لنقول: شاهَت وجوه الشانِئين على الأعمال الخيريّة والإغاثية التي يفوح شذاها في هذه الديار المباركة، ولستم ـ يا بغاةَ الخير والمعروف ـ الذين تفلُّ في هِمَمكم وعزائمكم الأراجيفُ والافتراءات والأكاذيب والمثبِّطات، ولا ينافي هذا ضبطَ الموارد والمصارِف وترشيدَها، وإنّنا لنحمد الله عز وجل أن الهيئاتِ الموثوقةَ في بلادنا كثيرةٌ والمؤسّسات الأمنية عديدة، فلا تُمسِك ـ يا محبُّ ـ الكَفّ، لعلَّك عن النار تُذادُ وتُكفّ، بمنِّ الله وكرمه.
أمّةَ الإسلام، وإنكم إذ تعيشونَ شرَفَ الزمان والمكان وتنعَمون بطيب المقام ووارفِ الأمان في هذه الأجواء العَبِقةِ الأريجة والجِواء المنشَّرة البهيجة لا مَعدَ لنا عن تذكُّر إخوانِنا المكلومين بحسرةٍ تكوِي أكبادَ الغيورين، وتُدمي أفئدةَ الملتاعين، في أولى القبلتين ومسرَى سيِّد الثقلين، أقرّ الله الأعيُن بفكِّ أسرِه وقربِ تحريره، حيث يسومهم جلاوِزة البغي والطّغيان دونَ حسيبٍ أو رقيبٍ القهرَ والتدمير والقصف والتفجير وما لا يخطر ببال من التعذيبِ والتنكيل، فهل تحرِّك الأشلاءُ والدّماء وبُكاء اليتامى وصرخات الأيامى تحت أنقاض البيوت ولوعةُ الأرامِلِ في الظّلُمات وحزنُ الملتاعين في المخيّمات دعاةَ السّلام ومحاربي الإرهابِ والمدافعين عن حقوق الإنسان؟! وإنّ ذلك الهولَ ـ وبعضَه يكفي ـ على يدِ هؤلاء الآثمين المحتلِّين الغاصبين المجرمين مدبّرٌ في تحدٍّ جهير للقرارات الدَّولية واستطالةٍ رعناء على مواثيق الشّرَف العالمية ونقضٍ غير مبرَّر للعهود والمبادرات الإنسانية.
لكنها خلّة قد سيط من دمها فجَعٌ وولعٌ وإخلافٌ وتبديل [2]
إنّنا نناشد باسم المسلمين الصائِمين القائمين المنظّماتِ العالميةَ والهيئات الدّولية والجمعيات الإسلاميةَ والإنسانية للتّحرّك العاجلِ الفورِيّ لوقف العدوانِ الوحشيّ المتغطرس الأرعَن في أرض فلسطين والأقصى، والالتزام بمواثيق شَرفٍ دوليَّة تمنَع الظلمَ والعدوان، وتعمل على حماية العُزل الأبرياء الصائمين من إرهاب المعتدِين وعدوان الظالمين، مع تحقيق فحوَى القرارات والعهود الذي ضمِنت سلامتَهم ووحدة أراضيهم ومنع الظلمِ والاعتداء على مقدّسات المسلمين، بل والأقليّات المضطهدة في كلّ مكان.
أمّة الإسلام، إننا في مواجهةِ هذه المآسي اللاّفحة لنتطلّع بلهفٍ إلى صلاحِ الأحوال واستتباب الأمن وفُشوّ الرخاءِ والاستقرار في بلاد الرّافدين الجريحة حيث الدّمار يلتهِم العجزَة والأطفال والنساء والرّجال، والأمَلُ أن تتولىّ أطيافُ البِلاد دفّةَ الأمورِ وانتظامَها سيادةً واستقلالاً في تجافٍ للقِوى الظالمة والتدخّلات الغاشمة، فهل تنزع الأمّة الإسلامية وذلك وَشَلٌ من جِراحِها الثاعِبة زمامَ التغيير لتنقِذَ نفسَها وتستعيدَ عزّتها ومجدَها وتجنِّبَ الأجيالَ القادمة ذلَّ الدنيا وجحيمَ الآخرة.
هذا هو الرجاءُ والأمَل، وعلينا الصِّدق والعمل، وكان الله في عونِ العاملين المخلِصين لصلاحِ مجتمَعهم وعِزّ أمتهم.
اللهمّ اسلُك بنا سبيلَ المتقين الأبرار، واجعلنا من صَفوةِ عبادك الأخيار، ومُنَّ علينا جميعًا بالعِتقِ من النار، برحمتك يا عزيز يا غفّار.
أقول قولي هذا، وأستغفِر اللهَ العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1903) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] من لامية كعب بن زهير في مدح الرسول.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وليِّ التوفيق والفَلاح، باسطِ النّعماء للشاكرين بالغدوّ والرّواح، تزكّت له القلوب فسعِدت بالطمأنينة والانشراح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له شهادةً نستبين بها الحرامَ من المباح، وأشهد أنّ نبيّنا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله إمام الجودِ والبذل والسماح، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبِه أولي التُّقى والصّلاح، المسارعين في الخير كسواني الرّياح، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، واعلموا أنّ التقوى خيرُ زاد في العواقِب، وكافيتُكم بإذن الله من شرّ كلّ غاسقٍ وواقب، فاعمُروا بها أوقاتَكم قبل ذهابِ الفُرَص ودنوّ الآجال والغُصَص.
إخوةَ الإيمان، إنّ مما يجدُر بالصائم العنايةُ به والاهتمام فقهَ الصيام، فلنعطِف بكم ـ يا رعاكم الله ـ على طائفةٍ من فقهِ الصيام، فمن ذلك معرفةُ المفطّرات التي تفسدُ الصومَ وتبطله.
ومنها مطلق الأكل والشرب عن طريقِ الفم أو الأنف لقول الله عز وجل: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، والسَّعوطُ في الأنف بمنزلةِ الأكل والشّرب لقوله : ((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا)) خرجه أبو داود والترمذي [1].
الثاني من المفطِّرات: ما كان بمعنى الأكلِ والشرب، كالإبَر المغذِّية التي تنوب عن الشرابِ والطعام، فإذا تناولها الصائم أفطر، وأما التي لا تغذِّي فلا تفطِّر إن شاء الله، سواءً تناولها عن طريق العروق أم العضَلات، ومثلُها القطرةُ في العين والأذُن فلا تفطِّر على الصحيح من قولي العلماء، والأحوَط أن يستعملَها ليلاً.
المفطِّر الثالث: الجماعُ في نهارِ رمضان، وإثمه عظيم، وفعلُه شنيع، ومن أتى ذلك لزِمَه مع القضاءِ الكفارة المغلَّظة، وهي عِتق رقبةٍ مؤمنة، فإن لم يجِد فصيام شهرين متتابعين.
المفطِّر الرابع: إنزال المنيّ برغبةٍ واختيار، كمن عمد إلى التقبيل واللَّمس ونحو ذلك فأنزَلَ، وإذا كان الإنزالُ عن احتلامٍ فإنه لا يُفطِّر، وكذا مجرَّدُ التفكير لقوله : ((إن الله تعالى تجاوز لأمتي عمّا حدّثت به أنفسَها ما لم تتكلّم به أو تعمَل به)) خرّجه البيهقي بسند صحيح [2].
المفطّر الخامس: التقيّؤ عَمدًا لقولِه عليه الصلاة والسلام: ((مَن ذرَعه القَيءُ فليس عَليه قضاء، ومن استقاءَ عمدًا فليقضِ)) أخرجه أبو داود والترمذي [3]. ومعنى: ((ذرعه)) أي: غلَبه.
المفطِّر السادِس: إخراجُ الدّم بالحِجامة؛ لقوله : ((أفطرَ الحاجِم والمحجوم)) خرّجه أحمد وأهل السنن [4]. أمّا خروج يسيرِ الدّم لتحليلٍ أو لجرحٍ ورُعافٍ فلا يفطِّر.
سابعًا: نزول دمِ الحيض أو النفاس، فإنه يفطِّر ولو قبلَ الغروب بلَحَظات.
تلكم ـ رحمكم الله ـ أصولُ المفطِّرات، فصونوا ـ عباد الله ـ صومَكم عن النّقصان والبُطلان.
ثم اعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أنكم تستقبِلون العشرَ الأواسط من رمضان، عشرَ المغفِرة، فخذوا بأسبابِ الغفران من حُسن الصيام والقيام والمداومة على الأعمال الصالحة وتلاوةِ القرآن وملازمة التوبةِ والذِّكر والاستغفار والإلحاح بالدعاء، فإن الله سبحانه يحبّ الملحِّين في الدعاء.
ويجدُر التذكير في هذا الشهرِ الكريم بفريضةِ الزكاة، فهي قرينَةُ الصلاة في كتاب الله، فأدّوها طيّبةً بها نفوسكم.
رمضان ـ يا إخوةَ الإسلام ـ فرصةٌ لوحدَةِ الأمة على الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمّة، وتربية الشباب والأجيال على مَنهج الوسطية والاعتدال، وتربية المرأة على الحِجاب والعفاف والاحتشام والبُعد عن الاختلاطِ بالرجال، وإعزاز شعيرةِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحفاظ على أمنِ الأمة ورعاية مصالحها، فهل نحن مستفيدون من مدرستِه وناهلون من مَعين خيراته وبركاته؟! هذا هو المؤمَّل، وعلى الله وحدَه المعوَّل، وهو سبحانه المستعان.
تقبّل الله منّا ومنكم الصيامَ والقيام، وأدام علينا الخيراتِ في مستقبل الأيّام، إنه جواد كريم.
ألا وصلوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على النبيّ المصطفى والرسول المجتبى والحبيب المرتضى كما أمركم بذلك ربّكم جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلِّم وبارك على سيّد الأوّلين والآخرين وخاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين...
[1] سنن أبي داود: كتاب الطهارة (142)، سنن الترمذي: كتاب الصوم (788) عن لقيط بن صبرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (4/33)، والنسائي في الطهارة (87)، وابن ماجه في الطهارة (407)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (80)، وابن خزيمة (150، 168)، وابن حبان (1054، 1078، 4510)، والحاكم (7094)، والنووي في شرح صحيح مسلم (3/105)، وابن حجر في الإصابة (5/685)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (328).
[2] أخرجه البخاري في الطلاق (5269)، ومسلم في الإيمان (127) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] سنن أبي داود: كتاب الصوم (2380)، سنن الترمذي: كتاب الصوم (720) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (2/498)، والنسائي في الكبرى (3130)، وابن ماجه في الصيام (1676)، وصححه ابن الجارود (385)، وابن خزيمة (1960، 1961)، وابن حبان (3518)، والحاكم (1/426)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الإرواء (923).
[4] أخرجه أحمد (3/465)، والترمذي في الصوم (774)، والطبراني في الكبير (4/242) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (1964)، وابن حبان (3535)، والحاكم (1/428)، وقال الترمذي: "وفي الباب عن علي وسعد وشداد بن أوس وثوبان وأسامة بن زيد وعائشة ومعقل بن سنان ـ ويقال: ابن يسار ـ وأبي هريرة وابن عباس وأبي موسى وبلال... وذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج"، وهو في صحيح سنن الترمذي (621).
(1/3452)
الحجاب
الأسرة والمجتمع
المرأة
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
30/4/1425
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تنكّر دعاة التغريب للشريعة الإسلامية. 2- محاولة دعاة التغريب الالتصاقَ بالعلماء. 3- الفروق بين دعاة التغريب ومن يجيز من العلماء كشف الوجه. 4- من مواضع الاتفاق في قضية الحجاب. 5- نقطة بداية السفور والتبرج والاختلاط. 6- الأدلة على وجوب ستر الوجه. 7- تغطي الوجه هو السائد بين المسلمين من عصور. 8- مقاصد الحجاب. 9- شروط الحجاب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، لقد كان دعاة التغريب طرفًا من الزمن يتنكرون للشريعة والدين، لكنَّ هذه الطريقة ارتدت بفشل كبير، فليس من السهولة مصادمةُ المسلمين في دينهم وعرضهم بهذه الوقاحة والصراحة، فلم يكن بدّ من تغيير أسلوب التغريب وطريقته، فكانت الوسيلة الجديدة هي تغريب المجتمع من خلال أحكام الشريعة نفسها بالأسلوب ذاته الذي يتّبعه من في قلبه مرض من تتبُّع المتشابه من الآيات بقصد تحريفها عما نزلت له لصرف الناس عن اتباع أمر الله تعالى، وقد اغترّ بقولهم بعض الفضلاء حتى صار يردّد نفسَ ما يقولون، وهنا الخطر؛ فإن مثل هذه الدعاوى إن أتت من أهل التغريب فلا يزال الناس في شك منها، لكنها إن أتت من فاضل منتسب إلى العلم والدعوة كانت لكثير من الناس فتنة لمحلِّهم من القبول والثقة، وكم يفرح أهل التغريب أن يجدوا أمثال هؤلاء وقد كفوهم مؤنة الاستدلال والاحتجاج على جواز الكشف والاختلاط.
إخوة الإسلام، ولأجل هذه الحملة في تلبيس الحقّ بالباطل كان لزامًا على أهل الإصلاح أن يتصدّوا لهذه المقولات الباطلة ويزيلوا الاشتباه فيها، وذلك في مقامين: المقام الأول: إزالة الاشتباه في مسألة كشف الوجه، وسيكون موضوعَ حديثنا في هذه الخطبة بإذن الله، والمقام الثاني: في مسألة الاختلاط، وسيكون في الجمعة القادمة بمشيئة الله.
معاشر المسلمين، هناك فرق كبير بين العلماء المجيزين لكشف الوجه وبين دعاة السفور، لربما خلط بعض الناس بينهما، فظنَّ ما يُطلق من أحكام في حق فريق هو بالضرورة يشمل الآخر، وليس الأمر كذلك؛ ولأجل إيضاح هذه الحقيقة المهمة حتى لا ينخدع عامة الناس، ولكي نقطع الطريق على المتسلّقين على ظهور الآخرين نقول: إن المعركة القائمة اليوم في مسألة كشف الوجه هي معركة بين دعاة الفضيلة والحجاب ودعاة الرذيلة والسفور، ودعاةُ الفضيلة يمثّلهم العلماء القائلون بوجوب تغطية الوجه، وكذلك العلماء القائلون باستحباب تغطية الوجه دون وجوب، ودعاة الرذيلة والسفور يمثلهم المستغربون الذين ترتفع أصواتهم في وسائل الإعلام منافحين ومدافعين عن التبرج والسفور والحسور بحجة الخلاف في كشف الوجه، وبناء على ذلك فإن كافة العلماء ـ مَنْ يقول بوجوب التغطية ومن يقول باستحباب التغطية مع جواز الكشف ـ يقفون في خندق واحد أمام دعاة السفور، لا نقول هذا تهوينًا في كشف الوجه ولكنْ لأن المستغربين دعاةَ السفور يسعون جاهدين للالتصاق والانتساب إلى العلماء القائلين بكشف الوجه، ليوهموا الناس أنهم منهم، وما هم منهم، وغرضهم من ذلك حماية أنفسهم من اكتشاف حقيقة دعوتهم في نشر الرذيلة ونزع الحجاب وهتك ستر المرأة، وأيضا من أجل السلامة من سخط الناس ونبذهم. إنّ الذين أجازوا كشف الوجه من العلماء ليسوا هم دعاةَ سفور، ولا العكس، وهاكم الفروقات بين الفريقين في المنهجية فقط، أما في التطبيق فلدعاة التغريب مذهب لم يسبقوا إليه، وسنأتي عليه. من الفروقات المنهجية:
أولاً: من أجاز الكشف أجازه مستندا إلى الدليل الشرعي بغضّ النظر عن صواب قوله أو خطئه، أما دعاة السفور فإنما يتّبعون أهواءهم وشهواتهم، فمصدر التلقي عند الفريقين مختلف اختلافًا جذريًا وكلّيًا، هذا يتلقى من الكتاب والسنة، وذاك يتلقى عن الهوى والفكر الغربي.
ثانيًا: من أجاز الكشف يرى أن التغطيةَ أفضل، وأنها مستحبة، ولا يجادل في هذا أحد، بينما دعاة السفور يرون أن الحجاب تخلّف، وأن الكاشفةَ هي المتحضّرة، وليس كشف الوجه فحسب، بل يريدون من المرأة أن تكشف شعرها وتزين وجهها وتخالط الرجال، وهذا أمر تفرّدوا به ولم يجزه أحد من أهل العلم.
ثالثًا: من أجاز الكشف يرى وجوبَ التغطية في حال الفتنة، وهذا أمر يحاول دعاة التغريب إخفاءه وعدمَ ذكره في كلامهم، فالعلماء يبتعدون عن الفتنة، وأما دعاة التغريب فإنهم يرومون الفتنة، ويبحثون عنها، نقول هذا ـ أيها المسلمون ـ لأنّ المستغربين دعاةَ السفور يسعَون جاهدين إلى التلبيس والإفساد عن طريق الالتصاق بالعلماء، والعلماء منهم براءٌ كبراءة الذئب من دمِ يوسف.
إخوةَ الإسلام، لا خلافَ بين أهل العلم أنّ الحجاب يجب إذا كان ثمّة فتنةٌ بتركه، والفتنة المعتبرة عندهم أن تكون المرأة شابةً أو جميلةً أو أن يكثر الفساق والمتهاونون بالأعراض، ونصّ على ذلك الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وأورد أقوالهم الشيخ محمد بن إسماعيل المقدّم في كتابه الجيد المعنون بـ"عودة الحجاب". ونحن نقول لأهل التغريب: ألا ترونَ قَدر الفتنة التي تكون اليوم جرّاء خروج الفتاة من بيتها؟! الخروج لوحده يستفزّ السفهاء ليحوموا حول الحِمى، فما بالكم حينما تكشف عن وجهها؟! وعلى هذا فكل العلماء يجمعون أنه في زمانٍ كهذا يجب التغطية حتى من أجاز، والحكمة والعقل يأمران بالحجاب والتغطية وأن ندعو إلى هذه الفضيلة درءًا لهذه الفتنة العمياء.
معاشر المسلمين، اتّفق الفقهاء أيضًا على أنّ الحجاب الكامل على الرأس والوجه فضيلة وأنه مستحبٌ، فِعلُه أفضل من تركِه، واختلفوا في الوجوب، لكنهم يتّفقون على أنه فضيلة وأنّه مستحب وأن فعلَه أفضل، فالذين يحاربون الحجابَ الآن هم في واقعهم يحارِبون الفضيلة ويدعون إلى الرذيلة، وهل يوجد في الدنيا أحد يدّعي الإصلاح وهو يحارب الفضيلة؟! ولذلك لم نجد أحدًا من العلماء القائلين بجواز الكشف من يفعل هذا؛ لأن المصلح الخيِّر لا يحارب الفضائل، وهذا يُبيّن أن دعاة التغريب لم يتحاكموا إلى الشرع، ولم يرفعوا به رأسًا، ولم يستندوا إلى الخلاف الفقهي بكمال وإنصاف، وإنما المسألة في حقيقتها مبنيّة على انتقاء ما يحلو لهم من أقوال العلماء وتوظيفه في معركتهم ضدّ المرأة في الوقت الذي يطَّرحون فيه أقوال العلماء الأخرى، والتي تُقيّد بعدم الفتنة، وتُفضّل التغطية على الكشف.
إن ما يفعله هؤلاء المستغربون من الدعوة بإلحاح وعلى كافة المستويات مع التلفيق والتلاعب بأقوال العلماء ليس له إلا تفسير واحد هو أنهم قد كرهوا هذا الحجاب، كرهوا ما أنزل الله، كرهوا استتار المرأة وعفتها، وضاقت صدورهم ببعدها عن الرجال، فلجؤوا إلى محاربته من خلال الدعوة إلى كشف الوجه بدعوى أن المسألة خلافية، والذي يدلّ على صدق هذا الكلام هو ما نجده في تطبيقات التغريبيين للقول بجواز كشف الوجه، فمن المعلوم أن الخلاف العلمي بين العلماء إنما هو في كشف الوجه فقط، أما إخراج الشعر فهو محرم باتفاق، ونجدهم يخرجون الشعر ويقولون فيه خلاف، وكذلك إخراج الوجه مع تزيينة بالأصباغ المبيّضة والمحمرة والمكحِّلة ونحوها هو محرم أيضًا باتفاق، ونجد من النساء من تخرج وجهها متجمِّلة وتقول: فيه خلاف، ونجد وسائل الإعلام تثني على المرأة المتبرجة المتعطرة المتجملة والمختلطة بالرجال ويصفونها بالانفتاح والفاعلية، ويتمسحون بأقوال أهل العلم قائلين: فيه خلاف، ولدينا مثال قريب في منتدى جدة الاقتصادي، فهذه جريدة عكاظ في تاريخ 27/11/1424هـ تنشر صورة لعشرين فتاة سعودية كاشفات الوجوه سادلات الشعور وبكامل الزينة في الصفحة الأولى تحت عنوان: (سيّدات المجتمع يساهمن بقوّة في المنتدى الاقتصادي)، ويُهَاجم من ينكر على هؤلاء النسوةِ وهذه الصحفِ بأنه أحادي النظرة ولا يتقبل الآخر، وكأنهم يستندون إلى أدلة أو رؤية علمية، وهم لا يستندون إلا إلى الهوى المتّبع الذي يتحكّم فيهم والعياذ بالله.
معاشر المسلمين، إن تغطية وجه المرأة عبادةٌ لله وشريعةٌ ماضية، وليست سنةً حادثةً قائمة على التقاليد، فكلُّ ما دلت عليه النصوص الشرعية هو من دين الله جل وعلا، وليس تقليدًا ولا عادة، وإن ترسُّخَه في المجتمع وعملَ الناس به لا يخرجه عن كونه دينًا، وهذا يدعونا إلى بيان ما جاء من الأدلة التي أخذ منها وجوب الحجاب:
1. قال تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]، وهذا نص صريح في وجوب الحجاب، ولما كان ذلك كذلك ادّعى المخالفون أنه خاصّ بأمهات المؤمنين، وهو زعم لا دليل عليه، بل هو دليل من الأدلة على وجوب التغطية، فكيف يؤمر الطاهرات المطهّرات أمهات المؤمنين بتغطية الوجه ثم يؤذن لسواهن؟! بل القياس يقول: إذا كان أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن قد أمرن بالحجاب مع براءتهن وانتفاء الرّيب عنهن فسواهن من باب أولى. هذا وقد علّل هذا الحكم بقوله: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ، ولا يزعم أحد أنّ سائر النساء لسن في حاجة إلى طهارة القلب.
2. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59]، وقد فسر ابن عباس رضي الله عنه الآية بقوله: (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطّين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة)، ومثله عن عبيدة السلماني.
3. وقال: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، قال ابن مسعود في تفسير قوله: إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا : (الثياب)، أي: العباءة أو الجلباب، فلا يمكن ستره، فمعفو عنه، وكذا إذا ما حرّكت الريح العباءة فظهر منها شيء دون قصد.
4. وقال تعالى : وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60]، قال الجصاص: "أباح لها كشف وجهها ويدها لأنها لا تشتهى"، أما غير القواعد فمحرّم، وهذه الآية من الأدلة المحرجة لدعاة التغريب.
5. وقال : ((إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان)) رواه الترمذي، وهذا نص صريح في وجوب ستر سائر البدن من غير استثناء.
6. قالت عائشة رضي الله عنها: (يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31] شققن مروطهن فاختمرن بها) أخرجه البخاري، قال ابن حجر: " قوله: (فاختمرن) أي: غطّين وجوههن"، ويقال: خمر الإناء إذا غطى وجهه.
وغيرها من الأدلة، وهي تدل بمجموعها على أن الشريعة تؤصل لتغطية وجه المرأة حماية لها ودرءًا للفتنة، فإذا جاءت أدلة أخرى ظاهرها معارضة هذا الأصل فإنها تحمَل على ما يوافقه، ولا يوجد دليل يظهر منه تسويغ كشف الوجه إلا وفيه من الاحتمالات ما يُضعفه عن نقض هذا الأصل الثابت في الشريعة.
معاشر المسلمين، ولقد كان الحجاب المغطي لوجه المرأة هو السائد في عصور المسلمين، وعليه مضى الناس قرنا بعد قرن، قال أبو حامد الغزالي وقد عاش في القرن الخامس: "لم يزل الرجال على ممرّ الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات"، وحكى الإمام النووي في روضة الطالبين وقد عاش في القرن السابع اتفاقَ المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات، وقال ابن حجر وقد عاش في القرن التاسع: "العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقّبات لئلا يراهُنّ الرجال"، وعلى ذلك كان النساء ثلاثة عشر قرنًا حتى بدايات القرن الرابع عشر الهجري، حيث بدأت دول الغرب تتكالب على دولة الخلافة حتى إذا سقطت تقاسمتها، وكان أولُ شيء قامت به تعطيلَ الشريعة ونزعَ الحجاب ابتداء بغطاء الوجه، فغطاء الوجه هو بداية نزع الحجاب الكامل. فليتنبه لمثل هذا، فلم تعد القضية فقهية تبحث في كتب الفقه فحسب، بل القضية أكبر من ذلك، إنها قضية مصير لأمّة محافظة على حجابها، يراد هتك حجابها، وكشف الوجه هو البداية، قد اتخذ من اختلاف العلماء فيه وسيلة لتدنيس طهارة الأمة.
نسأل الله أن يحفظ نساء المسلمين من كل سوء ومكروه في الدين والدنيا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى.
إن الشريعة الإسلامية المحكمة لم تفرض الحجابَ على نساء المؤمنين بعيدًا عن المقاصد النبيلة والمصالح العظيمة، إن هذا الحجاب لم يشرع إلا لحكمة، هذه الحكمة قد يغفل عنها بعض نساء المؤمنين، ويتغافل عنها بعض الأولياء، حتى يتحوّل الحجابُ عن هدفه الحقيقي وهو منع الفتنة إلى وسيلة للفتنة، إلى وسيلة للزينة واستثارة الرجال.
إن الحجاب فرض على نساء المؤمنين من أجل منع الفتنة، ابتداءً من مجرد الاستحسان والتلذّذ بالنظر الذي هو زنا العين، وانتهاء بالفاحشة الكبرى والعياذ بالله، فإذا تحوّل الحجاب من مقصده الشرعي ليكون زينة في ذاته فقد فرغ من هدفه ومحتواه، ولذا لا بدّ أن يتعرّف الرجال والنساء على شروط الحجاب الإسلامي؛ لأن كثيرًا من النساء اليوم قد عصفت بهم حمّى العباءات المخصَّرة والمزركشة وغيرها، إن كثيرًا من النساء اليوم يلبسن عباءات هي في واقعها فساتين سوداء ويخرجن فيها، وهي لا تمتّ للحجاب الإسلامي بصِلَة.
معاشر المسلمين، يشترط للحجاب الإسلامي ثمانية شروط:
الشرط الأول: أن يستوعب جميعَ البدن حتى الوجه على القول الصحيح.
الشرط الثاني: أن لا يكون زينة في نفسه.
الشرط الثالث: أن يكون صفيقًا لا يشفّ عما تحته.
الشرط الرابع: أن يكون فضفاضًا غير ضيق ولا مجسّد للبدن.
الشرط الخامس: أن لا يكون مطيّبًا ولا مبخّرًا.
الشرط السادس: أن لا يشبه لباس الرجل.
الشرط السابع: أن لا يشبه لباس الكافرات.
الشرط الثامن: أن لا يكون لباس شهرة.
إذا عرفنا شروط الحجاب الإسلامي ودخلنا أسواق المسلمين تبيَّن لنا مدى الاختراق الذي تعرّضت له كثير من فتيات المسلمين، نسأل الله لهن الهداية.
إخوة الإسلام، ومن باب التحدّث بالنعمة وشكرها نقول: إن موازين القوى في قضية المرأة قد تغيرت كثيرًا بحمد الله، وخاصة بعد الحوار الوطني المخصّص لشؤون المرأة، لقد كان دعاة التغريب ردحًا من الزمن يتحدّثون في الصحف بطريقة الأطفال دون علم ولا حلم ولا دليل ولا تعليل، ولا يمكن أن يردّ عليهم لأن الصحف مثلهم، ولكن لما جاء الجدّ وطولبوا بالحوار الحقيقي والمستند إلى الشرع والبحوث العلمية أصابهم انخناس عظيم، وظهر ما رأينا أثناء الأسبوع المنصرم من الحملات الإعلامية الجائرة، والتي تشبه انتفاضة الغريق قبل موته، وبكاء وعويل وتكذيب للحقائق وتهويل، ووالله لن تضرّ الحق شيئًا، بل المجتمع اليوم هو أكثر قناعة بالحلّ الإسلامي وأكثر اطلاعًا على حقائق المفسدين، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلاً: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81].
نسأل الله أن يهديهم للحقّ والصواب، وأن يكفي المسلمين شرّهم.
وصلوا وسلموا على من أمِرتم بالصلاة والسلام عليه في قوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد...
(1/3453)
وقفات مع حديث: ((يا عبادي)) (1)
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, قضايا المجتمع
خالد بن محمد بابطين
جدة
28/5/1425
مسجد الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نص حديث أبي ذر. 2- وصف العبودية. 3- وجوب الحكم والتحاكم إلى شرع الله. 4- خطورة العبث بالنصوص الشرعية. 5- معنى الظلم وأنواعه. 6- ظاهرة ظلم الأولاد والزوجات.
_________
الخطبة الأولى
_________
عن أبي ذر عن النبيّ فيما يرويه عن ربّه عز وجل أنه قال: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا. يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أَكْسُكُمْ. يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضُري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيَطُ إذا أدخل البحر. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)).
أيها المؤمنون، هذا الحديث القدسي العظيم الجليل خرَّجه مسلم من رواية سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر، وفي آخره قال سعيد بن عبد العزيز: "كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه"، ولذلك يحسن بنا في هذا المقام أن نقف مع هذا الحديث وقفات عل الله أن ينفعنا بها.
الوقفة الأولى: قوله تعالى: ((يا عبادي)) نداء تكرر في ثنايا هذا الحديث، نداء بوصف عظيم ونعت جليل، نداء بوصف العبودية لمستحقها الذي كلما ازددتَ في عبادته ذلاً وانكسارًا ازددتَ عنده وعند خلقه رفعة ومكانة، إنه وصف العبودية الذي هو أسمى الأوصاف وأشرفُها، وَصَفَ اللهُ به صفوةَ خلقه وخيرتهم وهم أنبياؤه وملائكته، فقال في شأن داود: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17]، وقال عن سليمان: وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:30]، وقال عن أيوب: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، وقال في المسيح الذي ادُّعيت فيه الإلهية والبنوة: إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [الزخرف:59]، وأولُ ما نطق به عيسى في المهد أن قال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم:30]، وفي شأن محمد فلقد وصِف في أشرف الأحوال وأعلى المقامات بهذا الوصف، اسمع إلى قوله تعالى عنه في مقام الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً [الإسراء:1]، وفي مقام الإيحاء قال: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1]، وقال: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10]، وقال عنه في مقام الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19]، وفي مقام التحدي قال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23]، وأما الملائكة فقال في شأنهم: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:26، 27].
وحينئذٍ ـ أيها الإخوة ـ فلا غروَ أن يقول الفضيل بن عياض:
ومما زادني شرفًا وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيَّرت أحمدَ لي نبيًّا
أيها الإخوة، إن من مقتضى هذا الوصف العظيم أن يحتكِم العبد في أمره كلّه إلى الله ورسوله، وأن لا يتردّد في ذلك ولا يتباطأ فيه، بل ما هو أعلى من ذلك وهو التسليم المطلق لله ولرسوله ، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، قال ابن كثير رحمه الله: "يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكّم الرسول في جميع أموره، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له ظاهرًا وباطنًا"اهـ.
وقال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، قال ابن القيم رحمه الله: "فدلّ هذا على أنه إذا ثبت لله ورسوله في كل مسألة من المسائل حكم طلبي أو خبري فإنه ليس لأحد أن يتخير لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب إليه، وأن ذلك ليس لمؤمن ولا مؤمنة أصلاً، وقد حكى الشافعي إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أن من استبانت له سنة رسول الله لم يكن له أن يدعها لقول أحد، ولم يسترب أحد من أئمة الإسلام فيما قاله الشافعي"اهـ.
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1]، قال ابن القيم: "فإذا كان الله سبحانه قد نهى عن التقديم بين يديه فأيّ تقديم أبلغ من تقديم الإنسان عقله على ما جاء به.. ثم قال: ومعلوم قطعًا أن من قدم عقله أو عقل غيره على ما جاء به النبي فهو مِن أعصى الناس له وأشّدهم تقدمًا بين يديه، وإذا كان الله سبحانه قد نهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2] فكيف بمن يرفع معقولاتهم فوق كلامه وما جاء به؟!"اهـ.
ومن هنا نعلم ـ أيها الإخوة ـ خطورة التلاعب والعبَث بالنصوص والمسلَّمات والثوابت الشرعية كما هو حاصل كثيرًا عبر ما يُقرَأ أو يشاهد أو يسمع أو تلكوه الألسن في بعض المجالس العامة من أنصاف المتعلمين وأرباعهم، ناهيك أهل الجهل والهوى، وثالثة الأثافي ذلكم العبث الموجود في مواقع الإنترنت، حتى أصبح أولئك يتصدّرون للحسم والقطع في مسائل وقضايا لو عرِضت على عمر لجمع لها أهل بدر، فنسأل الله العفو والعافية.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عَظُمَ شأنه ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره عمّ امتنانه وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، الوقفة الثانية مع هذا الحديث: مع قوله تعالى: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا)).
الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وهو نوعان: أولهما ظلم النفس وأعظمه الشرك كما قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فإن المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق فَعَبَدَهُ وتألّهه، ثم يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر، فالعبد حين يوبق نفسَه بالمعاصي فيوردها موارد العطب والهلاك يكون من أعظم الظالمين، زيّن له الشيطان سوء عمله فرآه حسنًا، فَدَأَبَ على المعاصي والآثام حتى صدق فيه قول الشاعر:
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبتَ جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
وأما النوع الثاني من الظلم فهو ظلم الغير ومنهم الأولاد، فكم يقع من كثير من الآباء ظلم لهم، فهذا مشغول بتجارته، وذاك غارق في عقاراته وعماراته، وآخر مستهلك بوظيفته صباح مساء، ورابع لا يكاد يضع عصا الترحال عن عاتقه، وآخر يقطع ليله مع أصدقائه ونهاره في عمله، وسادس مشغول بزوجه الجديدة التي ملكت عقلَه وقلبه ووقته، حتى أضحى كثير من الأولاد أيتامًا وآباؤهم على قيد الحياة.
ليس اليتيم من انتهى أبواه من همّ الحياة وخلّفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له أمًّا تخلّت أو أبًا مشغولا
وليست المشكلة فحسب أنّ هؤلاء الأولاد لم يجِدوا من يربّيهم، بل المشكلة أيضًا أن هناك وسائلَ بديلة قامت بتربيتهم، فالإعلام بوسائله المتنوعة المؤثّرة يستلم الطفل أو الشابّ أو الزوجة منذ دخوله المنزل إلى أن ينام بكلّ برامجه وصوَره ومُسَلْسَلاته، حتى أصبح الإنسان يستطيع أن يشاهد مئات القنوات التي تصور له أوضاع الشعوب الأخرى وكيف يعيشون وما هي أنماط أخلاقهم وسلوكهم في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
إننا نتساءل بكلّ ألم وحسرة: أين الأب الذي يسأل ولده كلّ يوم عن أمر صلاته وهل أداها في وقتها وحافظ عليها حيث ينادى بها؟! أين هو عنه حين يعكف ويشاهد ما يعرض عبر القنوات الإباحية أو يتداول مع أقرانه الصورَ الفاضحة، بل يرتادون أماكن لا يدري عنها الأب كمقاهي الإنترنت ويتنقلون بين المواقع السيئة؟! وكم ليلة أمضاها ونهارٍ قطعه خارج البيت مع أصحابه وأصدقائه وأنت بعيد عنه لا تدري متى ذهب أو جاء؟!
عباد الله، وثمة نوع آخر من ظلم الغير وهو الظلم بين الأزواج في إضاعة الحقوق والتفريط في الواجبات، حتى أضحت بعض البيوت جحيمًا لا يطاق، فكثرت المشكلات والخلافات، مما يؤدي إلى الطلاق وتفرق الأسرة وتشتّت الأولاد.
أين الزوج الذي يرعى الذمَم؟! أين صاحب الأخلاق والشيم؟! كم من الأزواج من يأخذ زوجته من بيت أبيها عزيزةً كريمةً ضاحِكة مسرورة ثم يردّها بعد أيام قليلة حزينة باكية ذليلة.
لقد كثر الطلاق اليوم حينما استخفّ الأزواج بالحقوق والواجبات وضيّعوا الأمانات والمسئوليات، سهرٌ إلى ساعات متأخّرةٍ، يُضحِك البعيد ويبكي القريب، يؤنس الغريب ويوحش الحبيب. كثر الطلاق اليوم حينما قلّ من الأزواج من يغفِر الزلّة ويستر العورة والهنّة، حينما قلّ من يخاف الله ويتقيه ويرعى حدوده. كثر الطلاق اليوم حين قلّت الصالحات القانتات الحافظات للغيب بما حفظ الله. كثر الطلاق حينما أصبحت المرأة طليقة اللسان طليقة العِنان، تخرج متى شاءت وتدخل متى أرادت. كثر الطلاق اليوم حينما تدخّل الآباء والأمهات في شؤون الأزواج والزوجات في كلّ صغير وكبير وجليل وحقير، حتى ينتهي الأمر إلى الطلاق والفراق.
أيها الإخوة، بقي في الحديث وقفات أخر، نسأل الله أن يمدّ في الأعمار لنتحدّث عنها في الجمعة القادمة إن شاء الله.
(1/3454)
وقفات مع حديث: ((يا عبادي)) (2)
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, التوبة, الدعاء والذكر
خالد بن محمد بابطين
جدة
6/6/1425
مسجد الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نص حديث أبي ذر. 2- نعمة الهداية. 3- سؤال الله تعالى الهداية. 4- أهمية الدعاء وفضله. 5- من آداب الدعاء. 6- فضل الاستغفار. 7- الافتقار إلى الله الغني.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون، في الأسبوع الماضي كانت لنا وقفتان مع الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي عن النبي فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا. يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أَكْسُكُمْ. يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضُري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيَطُ إذا أدخل البحر. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)).
أيها الإخوة، نستكمل الوقفات في هذه الخطبة فنقول:
الوقفة الثالثة: مع قوله تعالى: ((يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم)).
إن أعظمَ نعمة ينالهُا العبد هي نعمةُ الهداية، لذلك جاء ذكرها في الحديث في مقدّمة النعم التي امتنّ الله بها على عباده، فذُكِرَتْ قبل نعمة الطعام الكساء، وجاء في سورة الشعراء ذكر مقالة إبراهيم عليه السلام: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:78-80]، فاتفقت الآية والحديث على هذا المعنى، ولا غرو فهما من مشكاة واحدة.
عباد الله، ما أحوج العبد إلى طلب الهداية ابتداء، بل واستدامتها طوال حياته، وفي أم الكتاب والسبع المثاني قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، تتكرّر كل يوم سبع عشرة مرة دون النوافل، فهي تذكير وأيّ تذكير بالحاجة الملحّة إلى طلب الهداية واستدامتها. وحدّثت أم سلمة أن رسول الله كان يكثر في دعائه يقول: ((اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك))، قالت: فقلت: يا رسول الله، أَوَإنّ القلوبَ لتَقَلَّب؟! قال: ((نعم، ما خلق الله بشرًا من بني آدم إلا إن قلبه بين أصبعين من أصابع الله عَزَّ وَجَلَّ، فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدنا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب)) ، قالت: فقلت: يا رسول الله، ألا تعلّمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: ((بلى، قولي: اللهم ربَّ النبي محمدٍ، اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني)) رواه الإمام أحمد.
ولذلك ـ أيها الإخوة ـ فإنّ المأسوفَ عليه حقًا والمغبونَ أشد الغبن لَمَن حرم هذه النعمة وحيل بينه وبين التلذّذ بمناجاة الله تعالى والقرب منه، قال بعض السلف: مساكينُ أهل الدنيا؛ خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله تعالى ومعرفته وذكره. ومرَّ عمر بن الخطاب ذات يوم بدير راهب فناداه فأشرف، فجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فقيل له: يا أمير المؤمنين ما يبكيك من هذا؟! قال: ذكرت قولَ الله عزَّ وجلَّ في كتابه: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:3، 4].
عبد الله، تأمل كم من الناس من ضلَّ عن هذا الخير وهديتَ أنت إليه، فهل استشعرتَ عِظَمَ هذه النعمةِ وجلال هذه المنة؟! وهل تذكّرت أن ذلك محضُ فضل وامتنان من الكريم المنان، لم تنله عن حقّ واستحقاق على ربك سبحانه؟!
ما للعباد حق عليه واجب كلا ولا سعي لديه ضائع
إن نعِّموا فبفضله أو عذبوا فبعدله فهو الكريم الواسع
عباد الله، نعمة الهداية ذاق طعمها إبراهيم بن أدهمَ فقال: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليه بالسيوف". نعمة الهداية تلذّذ بها شيخ الإسلام بن تيمية ولله درّه حين يقول: "والله، إنه لتمرّ بالقلب ساعات يرقص فيها طربًا فأقول: لو أن أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش رغيد".
الوقفة الرابعة: الدعاء، وما أعظم شأنه في هذا الحديث الذي تكرّر في ثناياه مرارًا: ((فاستهدوني)) ((فاستطعموني)) ((فاستكسوني)) ((فاستغفروني)) ، ولا غرابة في ذلك فإن حاجة العبد إلى ربه دائمة، فهو سبحانه الرزاق ذو القوة المتين، وما يصيب العباد من النعماء والخير فبفضله، ولا يمسهم شيء من الأذى والعنت إلا بعلمه وحكمته، ولا يُرفع عنهم ذلك إلا بإذنه، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53]، ولا غنى للمسلم عن الضراعة واللجوء إلى خالقه في كلّ حال وفي كلّ زمان، أما في أزمان الفتن وضيق الحال وتقلّب الأمور فإن الحاجة تزيد، فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:43]، ولو لم يكن في فضله إلا هذه الآية لكفى: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ [الفرقان:77]، قال : ((أفضل العبادة الدعاء))، فالدعاء تذلّل وخضوع وإخبات وانطراح على سدّة الكريم، قال : ((الدعاء هو العبادة))، قال الخطابي: "معناه أنه معظم العبادة أو أفضل العبادة"، وصح عنه أنه قال: ((ليس شيء أكرم على الله عز وجل من الدعاء))، وفي سنن البيهقي عنه : ((أعجز الناس من عجز عن الدعاء))، فأضعف الناس رأيًا وأدناهم همّة وأعماهم بصيرة من عجز عن الدعاء.
عباد الله، ومن الآداب المهمة في الدعاء الجزم فيه واليقين على الله بالإجابة لقوله : ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه))، قال يحيى بن معاذ: "من جمع الله قلبه في الدعاء لم يردّه"، قال ابن القيم في شأن الدعاء: "إذا اجتمع عليه قلبه وصدقت ضرورته وفاقته وقوِي رجاؤه فلا يكاد يردّ دعاؤه". وصدق رحمه الله، أليس أرحم الراحمين يقول: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]، فادعه ـ يا عبد الله ـ دعاء المضطر المنقطِع من كل أسباب الدنيا، وتيقّن الإجابة حينئذٍ.
الوقفة الخامسة: الاستغفار، ((يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم)). لقد علم اللطيف الخبير ما في الخلق من ضعف وما هم عليه من قصور ونقص، ففتح لهم باب الأمل والرجاء في العفو والمغفرة، وأمرهم أن يلجؤوا إلى ساحات كرمه وخزائن فضله، فهو سبحانه رحيم بمن رجاه قريب ممن دعاه، والخطأ والتقصير مما جبِل عليه البشر، والسلامة من ذلك مما لا مطمعَ فيه لأحد.
قال : ((والذي نفسي بيده، لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم الله عز وجل لغفر لكم. والذي نفسي بيده، لو لم تخطئوا لجاء الله بقوم يخطئون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم))، وقال : ((قال إبليس: وعزّتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني)). وقد قال الله تعالى لأتقى الخلق: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19].
ولذا كان ملازمًا للاستغفار آناء الليل وأطراف النهار حتى قال عن نفسه: ((والله، إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) رواه البخاري، بل قال : ((ما أصبحت غداة قطّ إلا استغفرت الله فيها مائة مرة))، وقال ابن عمر كنا نعد لرسول الله في المجلس الواحد مائة مرة يقول: ((ربِّ اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم)).
أيها المؤمنون، هكذا شأن أرباب العزائم وأهل الإيمان الخلّص، يلجؤون إلى الله على الدوام، ويكثرون التوبة والاستغفار، قد ملأت خشية الله قلوبهم، ورسخت في مقام الإحسان أقدامهم، فهم بين مراقبة ربهم وشهود أعمالهم، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:16، 17].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عَظُمَ شأنه ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره عمّ امتنانه وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، الوقفة الأخيرة مع هذا الحديث: مع قوله تعالى: ((يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضُري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيَطُ إذا أدخل البحر)). غِنَى الخالق وفَقر المخلوق، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17].
إن العبد العارف بالله تعالى ونِعَمه وآلائه عليه ليدرِك حقيقة فَقره إلى الله وغِنى الله عنه، قال ابن القيم: "ولقد شاهدت من شيخ الإسلام قدّس الله روحه من ذلك ـ يعني إظهارَ الافتقار إلى الله تعالى ـ أمرًا لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيرًا: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا فيّ شيء، وكان كثيرًا ما يتمثّل هذا البيت:
أنا المُكَدِّي وابن المكدي وهكذا كان أبي وجدي
ومعنى المُكَدِّي أي: قليل الخير. وكان إذا أثنِيَ عليه في وجهه يقول: "والله، إني إلى الآن أجدّد إسلامي كلّ وقت، وما أسلمت إسلامًا جيّدًا"، ثم قال ابن القيم: وكتب إليَّ في آخر عمرِه قاعدة في التفسير بخطّه وعلى ظهرِها أبيات بخطّه من نظمِه:
أنا الفقير إلى ربّ البريّات أنا المُسكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي والخير إن يأتنا من عنده يأتي
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة ولا عن النفس لي دفع المضرات
وليس لي من دونه مولى يدبرني ولا شفيع إذا حاطت خطيئاتي
إلا بإذن من الرحمن خالقنا إلى الشفيع كما جاء في الآيات
ولست أملك شيئًا دونه أبدًا ولا شريك أنا في بعض ذرات
ولا ظهير له كي يستعين به كما يكون لأرباب الولايات
والفقر لي وصف ذات لازم أبدًا كما الغنى وصف له ذاتي
وهذه الحال حال الخلق أجمعهم وكلهم عنده عبدٌ له آتي
فمن بغى مطلبًا من غير خالقه فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي
والحمد لله ملء الكون أجمعه ما كان منه وما من بعد قد ياتي
(1/3455)
شهر الخيرات
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
8/9/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة مرور الأيّام والسّنين. 2- مواسِم الخيرات. 3- فضائل الصوم. 4- ضرورة الاستفادةِ من مدرسة رمضان. 5- دعوة للتّوبة النصوح. 6- نفحات رمضان. 7- رمضان شهر القرآن. 8- الحث على الصدقة والإحسان. 9- فضل الذكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
الأيّام تمرُّ مرَّ السّحاب، وتمضي السّنون سريعًا، ونغفل حينًا عن التدبّر والتذكّر، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:62].
المسلِمُ في عمرِه المحدود وأيّامه القصيرةِ في الحياة قد عوَّضه الله تعالى بمواسِمِ الخير وأعطاه من شرَف الزمان والمكان ما يجعَله يسدُّ الخلَلَ ويقوِّم المعوَجَّ في حياته، ومن تلك المواسمِ شهرُ رمضان المبارك، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
مِن عوامِلِ سرورِ النّفس وبهجتِها ومن بواعثِ فرحتِها وغِبطتها عودةُ أيام السرور عليها وبزوغُ شمسِ الهناء على ربوعها وأنّ الله قد امتنَّ على العبادِ بشهرٍ كلُّه الخير والإفضال. ها هي أيّام الشهرِ تمضي سريعًا، وكلّ يومٍ ينادي: يا باغيَ الخير أقبِل. الشياطين مصفَّدَة، وأبواب النيران مغلَقَة، وأبواب المغفِرة والرحمة مُشرَعَة.
في رمضانَ تخفّ وطأةُ الشهوات على النفس المؤمِنة، وترفَع أكُفّ الضراعة بالليل والنهار، فواحِدٌ يسأل العفوَ عن زلّته، وآخَر يسأل التوفيقَ لطاعته، وثالث يستعيذ به من عقوبَتِه، ورابع يرجو منه جميلَ مثوبته، وخامِس شغلَه ذكرُه وعن مسألته، فسبحان من وفَّقَهم وغيرُهم محروم.
ثمارُ الصومِ ـ عبادَ الله ـ ونتائجُه مدَد من الفضائل، لا يحصيها العدّ، ولا تقَع في حساب الكسول اللاهي الذي يضيِّعُ شهرَه في الاستغراقِ في النّوم نهارًا وذَرعِ الأسواق ليلاً وقتلِ الوَقت لهوًا.
الصّيام جُنّة من النار كما روى أحمد عن جابر رضي الله عنه أنّ النبيَّ قال: ((إنّما الصيام جنّة يستجِنّ بها العبدُ من النار)) [1]. والصوم جنّة من الشهوات، فقد جاء من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ النبيّ قال: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءةَ فليتزوّج، ومن لم يستطِع فعليه بالصوم فإنّه له وجاء)) [2]. الصوم سبيلٌ إلى الجنة، فقد روى النسائيّ عن أبي أمامة رضي الله عنه أنّه قال: يا رسول الله، مُرني بأمرٍ ينفعني الله به، قال: ((عليك بالصيام فإنه لا مِثلَ له)) أخرجه النسائي [3]. وفي الجنّة بابٌ لا يدخل منه إلاَّ الصائمون، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أنّ النبيَّ قال: ((إنَّ في الجنة بابًا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يومَ القيامة، لا يدخل منه أحد غيرُهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخُل منه أحدٌ غيرهم، فإذا دخلوا أغلِقَ فلم يدخل منه أحد)) أخرجه البخاري [4]. الصيام يشفَع لصاحبه، فقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنّ النبيَّ قال: ((الصيامُ والقرآن يشفعان للعبد يومَ القيامة، يقول الصيام: أي ربِّ، منعتُه الطعامَ والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعتَه النومَ بالليل فشفِّعني فيه قال: فيشفَّعَان)) [5]. الصّومُ كفّارة ومغفِرةٌ للذّنوب، فإنّ الحسنات تكفِّر السيئاتِ، فقد قال من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه: ((من صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبه)) [6]. الصّوم سبب السعادة في الدّارين، فقد قال من حديث أبي هريرةَ: ((للصائم فرحتان: فرحةٌ عند فطره، وفرحة عند لقاءِ ربّه، ولخلوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله من ريحِ المسك)) أخرجه مسلم [7].
إذا كان في مدرسةِ رمضان هذه الخيراتُ فحريٌّ بالمسلم أن يبادرَ لينهَلَ من معينِها ويستَقِيَ من فضائلها ويجِدَّ ويجتهد؛ ليكون حظُّه في النجاح أوفر، ونصيبُه في الفوزِ بمغفرةِ الذنوب أكبَر، وأهلِيّته للعتقِ من النار أوكَد، ولا عذرَ لأحدٍ في التقصير، نسأل الله الهدايةَ والتوفيق والقَبول.
أيّها العامل، هذا أوان ازدِيادِك واستِمتاعك. أيّها الغافل، هذا أوان تيقُّظِك وإقلاعِك. ما ألذَّ المناجاة للهِ عند الأسحار، وما أسرَعَ إجابةَ الدعواتِ فيها عندَ الإفطار، وما أحسَنَ أوقاتها من صيامٍ وقيام وتضرُّع واستغفار. هؤلاء الذين تشقَّقت أشداقُهم جوعًا في الدّنيا وقَلَصت شِفاههم عن الأشربةِ ظمأً يُقال لهم يومَ القيامة: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، قال مجاهد وغيره: "نزلت في الصائمين".
أخي الصّائم، اغتنِم نَفحاتِ العطايا بالتّوبة النّصوحِ، والتّوبةُ ليست مختصَّةً بهذا الشهر، بل فيه وفي غيرهِ من الشهور، لكنّها في هذا الشهر متأكِّدة، وما يدريك فقد يكونُ ميلادك الجديدُ في شهرِ الخير والبركة، وقد يولَد الإنسان مرَّتين: يومَ يخرُج من ظلمَةِ رَحِم أمّه إلى نور الدنيا، ويومَ يخرج من ظلماتِ المعصية إلى نورِ الطاعة. ويَا لها مِن فرصةٍ يفرَح القلب بها ويسعَد حينما يرجِع إلى ربِّه نادمًا ويلحَق بِرَكب الصالحين.
اجعَل ـ أخي المسلم ـ من صَومِك محطَّةَ توبَةٍ وإنابة للقَلب وأوبة، فقد قال الله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]. قال الحسنُ البصريّ رحمه الله: "إنّ الله جعل شهرَ رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه بطاعتِه إلى مرضاتِه، فسبَق قومٌ ففازوا، وتخلَّف آخرون فخابوا. فالعَجَب مِنَ اللاّعب الضّاحك في اليومِ الذي يفوز فيه المحسِنون ويخسَر فيه المبطِلون" [8].
رمضانُ فرصَة لإحياءِ القلب وإيقاظِه من غفلتِه ورَقدته وتغذَيةِ التّقوى والخوفِ من الله، فتقوَى الله عز وجل هو مقصودُ العبادات. رمَضان مناسبةٌ لتقوية الصِّلة بالله وقطعِ العَلائقِ بالدنيا، وقِيام الليل من الوسائلِ المهمَّة في إحياء القلب، يقول : ((عليكم بقِيام اللّيل؛ فإنّه دأبُ الصالحين قبلَكم، وهو قُربة إلى ربّكم ومكفرَة للسيّئات ومنهاةٌ للإثم)) أخرجه الترمذي [9].
إنَّ التعرّضَ لنفحات الليل واقتسام الغنيمة مع المتهجِّدين لمن أعظمِ وسائل غرسِ الإيمان في القلب؛ لأن الإنسانَ إذا خلا بربِّه واتّصل قلبه به في جُنح الليل طهر القَلب ونزلت عليه الفوائدُ، قال بعضُ الصالحين: "ليس في الدنيا وقتٌ يشبِه نعيمَ أهل الجنة إلاَّ ما يجِده أهلُ الليل في قلوبهم من حلاوةِ المناجاة" [10].
رمضانُ شهر القرآن، وهو وسيلة عظيمة لشفاء القلوب وهدايتِها وتنويرِها، نزَلَ القرآن لنتدبَّره قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29]. علينا أن نسأل أنفسَنا: هل تدبَّرنا القرآنَ؟! هل تدبّرنا آياتِ الله؟! ماذا غيَّر فينا؟! أين أثرُه في سلوكنا أو أخلاقِنا وأُسَرنا وبيوتنا؟! قال عليّ رضي الله عنه: (لا خيرَ في قراءةٍ ليس فيها تدبّر) [11] ، وقال الحسن: "كيف يرِقُّ قلبُك وإنَّما همُّك آخر السّورة" [12] ، لا شيءَ أنفع للقلب من قراءةِ القرآن بالتدبّر والتفكّر.
وتلاوةُ القرآن حقَّ تلاوته هو أن يشتركَ فيه اللسان والعقلُ والقلب، فحَظّ اللسان تصحيحُ الحروف بالتّرتيل، وحظّ العقلِ تفسير المعاني، وحظّ القلب الاتّعاظ والتأثّر، فاللسان يرتِّل، والعقل يترجِم، والقلب يتّعظ.
ولقد كان رَسولُ الله أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان، قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]. المستفيدُ الأوّل من الصّدقة هو صاحبها؛ لأنها تخلِّصه من الشحّ وتطهِّره من الذّنوب، فبدايةُ انطلاقِ النّفس وتخلّصُها من جواذِب الأرض هو تطهُّرها منَ الشّحِّ المجبولةِ عليه بدوامِ الإنفاق في سبيل الله حتى يصيرَ سجيّةً من سجاياها، فتزهدَ في المال ويخرُجَ حبُّه من القلب.
وللصدّقةِ فضلٌ عظيم في الدنيا والآخرة، فهِيَ تداوي المرضَى وتدفَع البلاء وتيسِّر الأمورَ وتجلِب الرزقَ وتقي مصارِعَ السوء وتطفِئ غضَبَ الربّ وتزيل أثرَ الذنوب، وهي ظِلّ لصاحبها يومَ القيامة، تحجبه عن النار وتدفَع عنه العذاب. وللصّدَقة علاقة وثيقةٌ بالسّير إلى الله، قال تعالى: فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ [الروم:38]. ولكي تؤدِّيَ الصدقة ثمارَها المرجوَّة لا بدّ من تتابعها، قال تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيهِ من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ لي ولكم فاستغفِروه، إنّه هو الغفورُ الرّحيم.
[1] مسند أحمد (3/396)، وأخرجه أيضا البيهقي في الشعب (3/294)، وحسنه المنذري في الترغيب (2/50)، والهيثمي في المجمع (3/180)، والألباني في صحيح الترغيب (981).
[2] أخرجه البخاري في النكاح (5065)، ومسلم في النكاح (1400).
[3] سنن النسائي: كتب الصيام، باب: فضل الصيام (2221)، وأخرجه أيضا أحمد (5/248، 249، 255، 257، 264)، والروياني (1175)، والطبراني في الكبير (8/91)، وأبو نعيم في الحلية (5/175، 7/165)، والبيهقي في الكبرى (4/301)، وصححه ابن خزيمة (1893)، وابن حبان (3425، 3426)، والحاكم (1533)، وقال ابن حجر في الفتح (4/126): "إسناده صحيح"، وهو في صحيح سنن النسائي (2100).
[4] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1896)، وأخرجه أيضا مسلم في الصيام (1152).
[5] مسند أحمد (2/174)، وصححه الحاكم (2036)، وقال المنذري في الترغيب (2/84): "رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله محتج بهم في الصحيح، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع وغيره بإسناد حسن"، وقال الهيثمي في المجمع (10/381): "رواه أحمد وإسناده حسن على ضعف في ابن لهيعة وقد وثق"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (984، 1429).
[6] أخرجه البخاري في الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين (760).
[7] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1151)، وأخرجه أيضا البخاري في الصوم (1904).
[8] انظر: إحياء علوم الدين (1/236).
[9] سنن الترمذي في الدعوات، باب: في دعاء النبي (3549) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه معلقا، ووصله الطبراني في الكبير (8/92)، وصححه ابن خزيمة (2/176)، والحاكم (1/354)، وقال الهيثمي في المجمع (2/251): "فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، قال عبد الملك بن شعيب بن الليث: ثقة مأمون، وضعفه جماعة من الأئمة"، ولكن له شاهد من حديث سلمان عند الطبراني في الكبير، وبه حسنه الألباني في صحيح الترغيب (624).
[10] انظر: إحياء علوم الدين (1/358).
[11] رواه الدارمي في السنن (298)، وأبو نعيم في الحلية (1/77).
[12] رواه أحمد في الزهد (ص259).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يتوَلَّى الصالحين، أحمده سبحانه وأشكره وليّ المتّقين، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحده لا شريكَ له إِلهُ الأوّلين والآخرين، وأشهد أنّ سيّدنا ونبينا محمّدًا عبده ورسوله أرسَله ربّه رحمةً للعالمين وأسوة للسالكين، صلّى الله عليه وعلى آلهِ وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسِي بتقوى الله.
ذكرُ اللهِ ـ عبادَ الله عزّ وجلّ ـ هو قُوتُ القلوبِ ومادّة حياتها، قال : ((مثَل الذي يذكُر ربَّه والذي لا يذكر ربَّه كمَثَل الحيّ والميّت)) [1]. يقول ابن تيميةَ رحمه الله: "الذّكرُ للقلب مِثل الماء للسّمك، فكيف يكون حال السّمَك إذا فارق الماء؟!" [2].
ولكَي يستفيدَ المسلم منَ الذّكر ويواطِئَ لسانُه قلبَه فيحدِث فيه الأثرَ المطلوبَ لا بدَّ مِن ربطِه بعبادة التفكّر كما قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190، 191]. يقول الحسنُ البصريّ رحمه الله: "إنَّ أهلَ العقلِ لم يزالوا يعودون بالذّكر على الفِكر وبالفكر على الذّكر حتى استنطَقوا القلوب فنطقَت بالحكمة" [3] ، قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
ألا وصلّوا ـ عباد الله ـ على رسولِ الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الدعوات (6407)، ومسلم في صلاة المسافرين (779) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[2] انظر: الوابل الصيب (ص63).
[3] رواه أبو نعيم في الحلية (10/19).
(1/3456)
شهر الخيرات
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
8/9/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة مرور الأيّام والسّنين. 2- مواسِم الخيرات. 3- فضائل الصوم. 4- ضرورة الاستفادةِ من مدرسة رمضان. 5- دعوة للتّوبة النصوح. 6- نفحات رمضان. 7- رمضان شهر القرآن. 8- الحث على الصدقة والإحسان. 9- فضل الذكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
الأيّام تمرُّ مرَّ السّحاب، وتمضي السّنون سريعًا، ونغفل حينًا عن التدبّر والتذكّر، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:62].
المسلِمُ في عمرِه المحدود وأيّامه القصيرةِ في الحياة قد عوَّضه الله تعالى بمواسِمِ الخير وأعطاه من شرَف الزمان والمكان ما يجعَله يسدُّ الخلَلَ ويقوِّم المعوَجَّ في حياته، ومن تلك المواسمِ شهرُ رمضان المبارك، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
مِن عوامِلِ سرورِ النّفس وبهجتِها ومن بواعثِ فرحتِها وغِبطتها عودةُ أيام السرور عليها وبزوغُ شمسِ الهناء على ربوعها وأنّ الله قد امتنَّ على العبادِ بشهرٍ كلُّه الخير والإفضال. ها هي أيّام الشهرِ تمضي سريعًا، وكلّ يومٍ ينادي: يا باغيَ الخير أقبِل. الشياطين مصفَّدَة، وأبواب النيران مغلَقَة، وأبواب المغفِرة والرحمة مُشرَعَة.
في رمضانَ تخفّ وطأةُ الشهوات على النفس المؤمِنة، وترفَع أكُفّ الضراعة بالليل والنهار، فواحِدٌ يسأل العفوَ عن زلّته، وآخَر يسأل التوفيقَ لطاعته، وثالث يستعيذ به من عقوبَتِه، ورابع يرجو منه جميلَ مثوبته، وخامِس شغلَه ذكرُه وعن مسألته، فسبحان من وفَّقَهم وغيرُهم محروم.
ثمارُ الصومِ ـ عبادَ الله ـ ونتائجُه مدَد من الفضائل، لا يحصيها العدّ، ولا تقَع في حساب الكسول اللاهي الذي يضيِّعُ شهرَه في الاستغراقِ في النّوم نهارًا وذَرعِ الأسواق ليلاً وقتلِ الوَقت لهوًا.
الصّيام جُنّة من النار كما روى أحمد عن جابر رضي الله عنه أنّ النبيَّ قال: ((إنّما الصيام جنّة يستجِنّ بها العبدُ من النار)) [1]. والصوم جنّة من الشهوات، فقد جاء من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ النبيّ قال: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءةَ فليتزوّج، ومن لم يستطِع فعليه بالصوم فإنّه له وجاء)) [2]. الصوم سبيلٌ إلى الجنة، فقد روى النسائيّ عن أبي أمامة رضي الله عنه أنّه قال: يا رسول الله، مُرني بأمرٍ ينفعني الله به، قال: ((عليك بالصيام فإنه لا مِثلَ له)) أخرجه النسائي [3]. وفي الجنّة بابٌ لا يدخل منه إلاَّ الصائمون، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أنّ النبيَّ قال: ((إنَّ في الجنة بابًا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يومَ القيامة، لا يدخل منه أحد غيرُهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخُل منه أحدٌ غيرهم، فإذا دخلوا أغلِقَ فلم يدخل منه أحد)) أخرجه البخاري [4]. الصيام يشفَع لصاحبه، فقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنّ النبيَّ قال: ((الصيامُ والقرآن يشفعان للعبد يومَ القيامة، يقول الصيام: أي ربِّ، منعتُه الطعامَ والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعتَه النومَ بالليل فشفِّعني فيه قال: فيشفَّعَان)) [5]. الصّومُ كفّارة ومغفِرةٌ للذّنوب، فإنّ الحسنات تكفِّر السيئاتِ، فقد قال من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه: ((من صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبه)) [6]. الصّوم سبب السعادة في الدّارين، فقد قال من حديث أبي هريرةَ: ((للصائم فرحتان: فرحةٌ عند فطره، وفرحة عند لقاءِ ربّه، ولخلوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله من ريحِ المسك)) أخرجه مسلم [7].
إذا كان في مدرسةِ رمضان هذه الخيراتُ فحريٌّ بالمسلم أن يبادرَ لينهَلَ من معينِها ويستَقِيَ من فضائلها ويجِدَّ ويجتهد؛ ليكون حظُّه في النجاح أوفر، ونصيبُه في الفوزِ بمغفرةِ الذنوب أكبَر، وأهلِيّته للعتقِ من النار أوكَد، ولا عذرَ لأحدٍ في التقصير، نسأل الله الهدايةَ والتوفيق والقَبول.
أيّها العامل، هذا أوان ازدِيادِك واستِمتاعك. أيّها الغافل، هذا أوان تيقُّظِك وإقلاعِك. ما ألذَّ المناجاة للهِ عند الأسحار، وما أسرَعَ إجابةَ الدعواتِ فيها عندَ الإفطار، وما أحسَنَ أوقاتها من صيامٍ وقيام وتضرُّع واستغفار. هؤلاء الذين تشقَّقت أشداقُهم جوعًا في الدّنيا وقَلَصت شِفاههم عن الأشربةِ ظمأً يُقال لهم يومَ القيامة: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، قال مجاهد وغيره: "نزلت في الصائمين".
أخي الصّائم، اغتنِم نَفحاتِ العطايا بالتّوبة النّصوحِ، والتّوبةُ ليست مختصَّةً بهذا الشهر، بل فيه وفي غيرهِ من الشهور، لكنّها في هذا الشهر متأكِّدة، وما يدريك فقد يكونُ ميلادك الجديدُ في شهرِ الخير والبركة، وقد يولَد الإنسان مرَّتين: يومَ يخرُج من ظلمَةِ رَحِم أمّه إلى نور الدنيا، ويومَ يخرج من ظلماتِ المعصية إلى نورِ الطاعة. ويَا لها مِن فرصةٍ يفرَح القلب بها ويسعَد حينما يرجِع إلى ربِّه نادمًا ويلحَق بِرَكب الصالحين.
اجعَل ـ أخي المسلم ـ من صَومِك محطَّةَ توبَةٍ وإنابة للقَلب وأوبة، فقد قال الله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]. قال الحسنُ البصريّ رحمه الله: "إنّ الله جعل شهرَ رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه بطاعتِه إلى مرضاتِه، فسبَق قومٌ ففازوا، وتخلَّف آخرون فخابوا. فالعَجَب مِنَ اللاّعب الضّاحك في اليومِ الذي يفوز فيه المحسِنون ويخسَر فيه المبطِلون" [8].
رمضانُ فرصَة لإحياءِ القلب وإيقاظِه من غفلتِه ورَقدته وتغذَيةِ التّقوى والخوفِ من الله، فتقوَى الله عز وجل هو مقصودُ العبادات. رمَضان مناسبةٌ لتقوية الصِّلة بالله وقطعِ العَلائقِ بالدنيا، وقِيام الليل من الوسائلِ المهمَّة في إحياء القلب، يقول : ((عليكم بقِيام اللّيل؛ فإنّه دأبُ الصالحين قبلَكم، وهو قُربة إلى ربّكم ومكفرَة للسيّئات ومنهاةٌ للإثم)) أخرجه الترمذي [9].
إنَّ التعرّضَ لنفحات الليل واقتسام الغنيمة مع المتهجِّدين لمن أعظمِ وسائل غرسِ الإيمان في القلب؛ لأن الإنسانَ إذا خلا بربِّه واتّصل قلبه به في جُنح الليل طهر القَلب ونزلت عليه الفوائدُ، قال بعضُ الصالحين: "ليس في الدنيا وقتٌ يشبِه نعيمَ أهل الجنة إلاَّ ما يجِده أهلُ الليل في قلوبهم من حلاوةِ المناجاة" [10].
رمضانُ شهر القرآن، وهو وسيلة عظيمة لشفاء القلوب وهدايتِها وتنويرِها، نزَلَ القرآن لنتدبَّره قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29]. علينا أن نسأل أنفسَنا: هل تدبَّرنا القرآنَ؟! هل تدبّرنا آياتِ الله؟! ماذا غيَّر فينا؟! أين أثرُه في سلوكنا أو أخلاقِنا وأُسَرنا وبيوتنا؟! قال عليّ رضي الله عنه: (لا خيرَ في قراءةٍ ليس فيها تدبّر) [11] ، وقال الحسن: "كيف يرِقُّ قلبُك وإنَّما همُّك آخر السّورة" [12] ، لا شيءَ أنفع للقلب من قراءةِ القرآن بالتدبّر والتفكّر.
وتلاوةُ القرآن حقَّ تلاوته هو أن يشتركَ فيه اللسان والعقلُ والقلب، فحَظّ اللسان تصحيحُ الحروف بالتّرتيل، وحظّ العقلِ تفسير المعاني، وحظّ القلب الاتّعاظ والتأثّر، فاللسان يرتِّل، والعقل يترجِم، والقلب يتّعظ.
ولقد كان رَسولُ الله أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان، قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]. المستفيدُ الأوّل من الصّدقة هو صاحبها؛ لأنها تخلِّصه من الشحّ وتطهِّره من الذّنوب، فبدايةُ انطلاقِ النّفس وتخلّصُها من جواذِب الأرض هو تطهُّرها منَ الشّحِّ المجبولةِ عليه بدوامِ الإنفاق في سبيل الله حتى يصيرَ سجيّةً من سجاياها، فتزهدَ في المال ويخرُجَ حبُّه من القلب.
وللصدّقةِ فضلٌ عظيم في الدنيا والآخرة، فهِيَ تداوي المرضَى وتدفَع البلاء وتيسِّر الأمورَ وتجلِب الرزقَ وتقي مصارِعَ السوء وتطفِئ غضَبَ الربّ وتزيل أثرَ الذنوب، وهي ظِلّ لصاحبها يومَ القيامة، تحجبه عن النار وتدفَع عنه العذاب. وللصّدَقة علاقة وثيقةٌ بالسّير إلى الله، قال تعالى: فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ [الروم:38]. ولكي تؤدِّيَ الصدقة ثمارَها المرجوَّة لا بدّ من تتابعها، قال تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيهِ من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ لي ولكم فاستغفِروه، إنّه هو الغفورُ الرّحيم.
[1] مسند أحمد (3/396)، وأخرجه أيضا البيهقي في الشعب (3/294)، وحسنه المنذري في الترغيب (2/50)، والهيثمي في المجمع (3/180)، والألباني في صحيح الترغيب (981).
[2] أخرجه البخاري في النكاح (5065)، ومسلم في النكاح (1400).
[3] سنن النسائي: كتب الصيام، باب: فضل الصيام (2221)، وأخرجه أيضا أحمد (5/248، 249، 255، 257، 264)، والروياني (1175)، والطبراني في الكبير (8/91)، وأبو نعيم في الحلية (5/175، 7/165)، والبيهقي في الكبرى (4/301)، وصححه ابن خزيمة (1893)، وابن حبان (3425، 3426)، والحاكم (1533)، وقال ابن حجر في الفتح (4/126): "إسناده صحيح"، وهو في صحيح سنن النسائي (2100).
[4] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1896)، وأخرجه أيضا مسلم في الصيام (1152).
[5] مسند أحمد (2/174)، وصححه الحاكم (2036)، وقال المنذري في الترغيب (2/84): "رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله محتج بهم في الصحيح، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع وغيره بإسناد حسن"، وقال الهيثمي في المجمع (10/381): "رواه أحمد وإسناده حسن على ضعف في ابن لهيعة وقد وثق"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (984، 1429).
[6] أخرجه البخاري في الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين (760).
[7] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1151)، وأخرجه أيضا البخاري في الصوم (1904).
[8] انظر: إحياء علوم الدين (1/236).
[9] سنن الترمذي في الدعوات، باب: في دعاء النبي (3549) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه معلقا، ووصله الطبراني في الكبير (8/92)، وصححه ابن خزيمة (2/176)، والحاكم (1/354)، وقال الهيثمي في المجمع (2/251): "فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، قال عبد الملك بن شعيب بن الليث: ثقة مأمون، وضعفه جماعة من الأئمة"، ولكن له شاهد من حديث سلمان عند الطبراني في الكبير، وبه حسنه الألباني في صحيح الترغيب (624).
[10] انظر: إحياء علوم الدين (1/358).
[11] رواه الدارمي في السنن (298)، وأبو نعيم في الحلية (1/77).
[12] رواه أحمد في الزهد (ص259).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يتوَلَّى الصالحين، أحمده سبحانه وأشكره وليّ المتّقين، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحده لا شريكَ له إِلهُ الأوّلين والآخرين، وأشهد أنّ سيّدنا ونبينا محمّدًا عبده ورسوله أرسَله ربّه رحمةً للعالمين وأسوة للسالكين، صلّى الله عليه وعلى آلهِ وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسِي بتقوى الله.
ذكرُ اللهِ ـ عبادَ الله عزّ وجلّ ـ هو قُوتُ القلوبِ ومادّة حياتها، قال : ((مثَل الذي يذكُر ربَّه والذي لا يذكر ربَّه كمَثَل الحيّ والميّت)) [1]. يقول ابن تيميةَ رحمه الله: "الذّكرُ للقلب مِثل الماء للسّمك، فكيف يكون حال السّمَك إذا فارق الماء؟!" [2].
ولكَي يستفيدَ المسلم منَ الذّكر ويواطِئَ لسانُه قلبَه فيحدِث فيه الأثرَ المطلوبَ لا بدَّ مِن ربطِه بعبادة التفكّر كما قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190، 191]. يقول الحسنُ البصريّ رحمه الله: "إنَّ أهلَ العقلِ لم يزالوا يعودون بالذّكر على الفِكر وبالفكر على الذّكر حتى استنطَقوا القلوب فنطقَت بالحكمة" [3] ، قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
ألا وصلّوا ـ عباد الله ـ على رسولِ الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الدعوات (6407)، ومسلم في صلاة المسافرين (779) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[2] انظر: الوابل الصيب (ص63).
[3] رواه أبو نعيم في الحلية (10/19).
(1/3457)
رمضان الذي نريد
فقه
الصوم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
8/9/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نفحات الخير. 2- موسم رمضان. 3- المقصد من الصيام. 4- حالنا في هذا الشهر الكريم. 5- جريمة الإفطار في نهار رمضان من غير عذر. 6- حتى تستفيد من رمضان. 7- بين الخوف والرجاء. 8- فضيحة السكوت عن العدوان الإسرائيلي والأمريكي على ديار الإسلام. 9- المخرج من الهوان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن لربنا في دهرنا نفحات، تُذكرنا كلما نسينا، وتنبهنا كلما غفلنا، وتقوينا على عزائم الخير كلما ضعفنا.
ومن أعظم مواسم الخير هذا الشهر الكريم الذي فضله الله تعالى بنزول القرآن فيه، موسم المتقين، ومتجر الصالحين، والظروف طيبة، الجنة مفتحة أبوابها، والنار مغلقة أبوابها، والشياطين مقيدة، دلالة على أن أسباب الخير كثيرة متوافرة، وأسباب الشر قليلة محدودة. فيا سعادة من انتفع بهذه الفرصة.
فيا أيها المسلم، توجه إلى الله بفعل الخيرات وحسن الصيام والقيام والإكثار من الطاعات، طهر نفسك من الموبقات، من نفسك ومن لسانك وأذنيك وعينيك ويديك ورجليك، لا تمسّ حرامًا، ولا تقع في مكروه.
عباد الله، الصيام أخف العبادات، وهو عبارة عن أيام معدودات لا تزيد على تسعة وعشرين يومًا أو ثلاثين، عبادة سنوية لا تتكرر في العام إلا مرة، وفي نفس الوقت لا تكلف مالاً ولا سفرًا، بل إن الله جل جلاله أباح الفطر للمسافر شرعًا.
عباد الله، الصيام شرعه الله لنا لنرقى إلى أفق الملائكة، ليرتقي فينا الجانب الرباني السماوي على الجاني الأرضي الطيني.
الإنسان ليس جسمًا فقط، الإنسان جسم وروح، بل الروح هو الحقيقة، والجسم هو الغلاف، فلا يجوز له أن يعيش لجسمه وبدنه، ويغفل نفسه وروحه التي بين جنبيه.
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتطلب الربح مما فيه خسران
أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
عباد الله، كيف أصبح حالنا في رمضان؟! أصبح حالنا في رمضان أفلامًا ومسرحيات ولهوًا وطربًا ولعبًا، كأن الله أنزل رمضان وسماه "شهر الفن"، ولم يسمه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن.
عباد الله، هل يليق بنا في رمضان أن نسمع هذا التخنث في القول والخضوع في الأداء عندما ينطلق صوت المذياع بعد أن نتناول طعام الإفطار، بدلاً من أن يعلمونا ماذا نقول لله؟! وكيف نقضي الليل مع الله؟! تسمع صوت التلفاز وكأنه يذيع بلاغًا عسكريًا بتحرك القوات إلى المسجد الأقصى، تراه ينادي بالرقص والغناء، ما هذا التقدم؟! ما هذه التكنولوجيا الحديثة؟! أهكذا يكون رمضان يا أمة الإسلام؟! أهكذا تتسلط أجهزة الإعلام وعلى رأسها "المفسديون" العربي؟! تهدم البيوت من أصولها. لا إله إلا الله.
عباد الله، أنقضي أيامنا، أيام العبادات والتراويح، أيام القرآن الكريم، أيام الرحمن، في اللهو واللعب والطرب والسهر في الفساد؟!
عباد الله، علينا أن نتيح الفرصة لأولادنا ولزوجاتنا للذهاب إلى المساجد لحضور صلوات الفجر والعشاء والتراويح بالذات، حتى يعمّ الأجر والثواب، وحضور دروس العلم إن أمكن.
ومن هنا أتوجه إليكم ـ يا أبناء بيت المقدس ومن حولها ـ أن تعمروا المسجد الأقصى وتأتوا إليه مجتمعين ما أمكن، أي: كل مجموعة من الأصدقاء والأقرباء والجيران يأتون في سيارة واحدة نظرًا لضيق المواقف هنا، وأن تُخلى الأماكن القريبة من الإمام لأهل العلم وقراءة القرآن، وبخاصة الحفظة منهم، ونحرص كل الحرص على التعاون فيما بيننا ونواسي بعضنا بعضا، فشهر رمضان شهر التعاون والصبر، والصبر ثوابه الجنة.
عباد الله، نساء كثيرات يشكون من أزواج أو من أبناء يفطرون في نهار رمضان ومن غير سبب شرعي معتبر، أليست هذه مصيبة؟! يوجد أناس يفطرون في نهار رمضان، وصبيان المسلمين يصومون!! كم من صبيان في سن السابعة أو الثامنة يصومون رمضان، وترى الرجل الطويل العريض يفطر، تنهاه زوجته وينهاه ابنه الصغير وهو لا يزدجر ولا يعتبر، أليست هذه مصيبة؟! والواجب على المسلمين أن يقاطعوا أمثال هؤلاء، وأن نحاصرهم حصارًا أدبيًا، يجب أن يشعر الناس أن هؤلاء قد خرجوا عن صف المسلمين. وبنفس الوقت نرى العمال الذين يعملون في البناء والأعمال الشاقة يتحمّلون حر الشمس، ويظلّون صائمين، إنها عزائم المسلمين.
عباد الله، ما جزاء من تعمد إفطار يوم من رمضان بغير عذر؟ اسمعوا الجواب جيدًا، وبعد سماعه اسمحوا لأعينِكم أن تدمع، ولقلوبكم أن تخشع، لما صار إليه حال المسلمين المفطرين بغير عذر وبغير رخصة ، لا هم مرضى، ولا هم مسافرون، ولا هم عاجزون، ولا هم حوامل ولا مراضع، وإنما أفطروا لأنهم يكرهون الله، ويكرهون رسول الله.
قال رسول الله : ((من أفطر يومًا واحدًا من أيام رمضان بغير عذر ولا رخصة رخصها الله لا يجزيه صيام الدهر، ولو صام الدهر كله، ولو صام الدهر كله)).
اسمعوا أقوال أهل العلم: أجمع علماء المسلمين على أن من أفطر رمضان عمدًا كان شرًا عند الله من الزاني وشارب الخمر. يقول الإمام ابن حزم رحمه الله: "ذنبان لم أجد أعظم منهما بعد الشرك بالله: رجل أخر الصلاة حتى خرج وقتها، ورجل أفطر يومًا عامدًا في رمضان".
هذه أحكام الله، وأحكام الإسلام في الذين يفطرون عامدين متعمدين، فكيف صار حالنا في هذه الأيام؟!
أيها المسلم، إذا أردت أن تخرج من هذا الشهر مغفورًا لك فعليك أن تحسن الصيام وتحسن القيام، أن تصوم صوم المؤمنين المحتسبين، وتقوم قيام المؤمنين الصادقين. ليس المقصود ركعات يؤديها المسلم دون خشوع ولا اطمئنان. نريد أن يعيش المسلم مع كتاب الله تعالى، فرمضان شهر القرآن، يعيش معه قارئًا، فله بكل حرف عشر حسنات، ويعيش معه مستمعًا، وما أحلى صلاة التراويح يقضيها المسلم مع القرآن ومحبة المسلمين. نريد الصلاة الخاشعة المطمئنة، نريد أن يكون رمضان شهرًا لله تبارك وتعالى، أن يخرج المسلم من هذا الشهر وحظه كبير من المغفرة والرحمة والعتق من النار، ولله في كل ليلة عتقاء من النار.
عباد الله، الثبات الثبات على طاعة الله، كان من دعاء الرسول عليه السلام: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)) ، ومن دعاء الراسخين في العلم: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].
أخي المسلم، اجعل لك حظًا دائمًا مع الله تعالى، ومع القرآن، مع المسجد الأقصى، مع عمل الخيرات، مع التواصل مع إخوانك ورحِمك.
تزود للذي لا بد منه فإن الموت ميقات العباد
أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زاد وأنت بغير زاد
أيها الغافل عن فضيلة هذا الشهر، اعرف زمانك. يا كثير الحديث فيما يؤذي، احفظ لسانك. يا مسؤولاً عن أعماله، اعقل شأنك. يا متلوثًا بالزلل، اغسل بالتوبة ما شانك. يا مكتوبا عليه كل قبيح، تصفح ديوانك.
عباد الله، ذهب بعض الصالحين لزيارة شيخ لهم وهو مريض مرض الموت، فوجدوه يبكي، فقالوا له: لم تبكي وقد وفقك الله للصالحات؟! كم صليت، كم صمت، وكم تصدقت، وكم حججت، وكم اعتمرت، فقال لهم: وما يدريني أن شيئًا من هذا قد قُبِل والله تبارك وتعالى يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]؟! وما يدريني أني منهم؟!
ولهذا عليك أن تفرح إذا وفّقت للطاعة، ولا تعجب بنفسك، كن خائفًا، كن على حذر من مكر الله، كما قال خليفة المسلمين أبو بكر الصديق: (والله، لا آمن مكر الله ولو كانت إحدى رجليّ في الجنة).
فالمؤمن دائمًا يحذر الآخرة، ويرجو رحمة ربه، ويخشى عذابه، هو دائمًا بين الخوف والرجاء مهما قدم من عمل، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16].
عباد الله، نحن الآن في زمان تكاثرت فيه المصائب من كل جانب، وتداعت الأمم علينا كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، يختلف أولئك فيما بينهم، ويتفقون علينا نحن المسلمين. ألم تسمع قول الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:73]؟!
لا ينجينا ـ أيها المسلمون ـ مما نحن فيه إلا رجعة صادقة إلى الله تبارك وتعالى، إلا أن نقرع باب الله قرع التائبين المنيبين الراجعين الخائفين، وهذا أوان الرجعة، هذا هو موسم التوبة والإنابة، فلنقل جميعًا في أنفسنا ما قاله أبونا آدم عليه السلام وأُمنا حواء عليها السلام: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].
ما أحوجنا أن نعود إلى الله، وتذكّروا ـ يا عباد الله ـ أن للصائم دعوة لا ترد عند فطره، فقد ورد في الحديث الشريف: ((ثلاثة لا ترد دعوتهم، الصائم حتى يفطر ـ وفي رواية: حين يفطر ـ ، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي وجلالي، لأنصرنك ولو بعد حين)).
ما أحوجنا ـ أيها المؤمنون ـ إذا ما أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس وتهيأنا للإفطار أن نمد أيدينا إلى الله داعين لأنفسنا وأهلينا والمسلمين في كل مكان بالمغفرة والرحمة، وللمضطهدين والمعذبين والمجاهدين بالفتح والنصر والنجاة.
تقول: ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: يا ابن آدم، الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له.
أيها المسلم، صل ركعتين في جوف الليل لظلمة القبور، وصم يوم حرٍّ لحر يوم النشور، وحج حجة لعظائم الأمور، ووحد الله الرحيم الغفور.
أيها المسلمون، ماذا يحدث في فلسطين؟ ماذا يحدث في العراق؟ ماذا يحدث في السودان؟ ماذا يحدث في أفغانستان؟ شعوب إسلامية مضطهدة، قتل ودمار وتشريد وتخريب، وفتن داخلية تقودها الدول الصليبية الحاقدة على الإسلام والمسلمين. إنها الحرب الجديدة، تتم وفق تنسيق مع الصهيونية لضرب الإسلام.
أيها المسلمون، أين نحن من وحدة العقيدة؟! أين نحن من نخوة المعتصم؟! أين نحن من غيرة سعد بن عبادة؟! أين نحن من هِمّة صلاح الدين؟! لماذا انتصر المسلمون الأوائل وينهزم مسلمو اليوم؟! لماذا كانت أمة الإسلام عبر العصور الغابرة عزيزة الجانب كريمة الحياة قوية الإرادة؟!
والجواب: إنه الإسلام العظيم، إنها مدرسة الرسول ، لقد ربى صحابته على مبادئ الإسلام، وأهمها التوحيد لله ونصر دعوة الإسلام، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله)). ولم يقل حتى أحافظ على كرسي الحكم وعلى المنصب الرفيع أو المركز المرموق. ربى الصحابة على عزة الإسلام، ولم يربهم على مناوأة المجاهدين أو التبرؤ من الجهاد، لم يربهم من أجل الارتماء في أحضان الغرب.
عباد الله، إن ما يجري حاليا في عالمنا الإسلامي هو حرب معلنة ضد الإسلام والمسلمين. ها هو العدوان الإسرائيلي على شعبنا المسلم، قواتهم تسرح وتمرح، تقتل الأبرياء وتهدم المنازل وتجرف الأراضي وتقتلع الأشجار أمام مرأى ومسمع العالم.
أمريكا عدوة المسلمين في كل مكان، تستخدم حق الفيتو ضد العدوان على شعبنا في غزة، وبمعنى أدق تعطي الضوء الأخضر لإسرائيل لضرب الفلسطينيين وتشريدهم، وأمتنا تغط في سبات عميق.
قادة وزعماء عالمنا الإسلامي يتسابقون بالمناشدة لإطلاق سراح المختطفين في العراق، دون أن يتسابقوا لحماية شعبنا الذي قدم الشهداء والجرحى.
نفس المشهد يتكرر في العراق، قتل وسفك دماء، غارات وقصف جوي، المفتشون الأمريكيون عن أسلحة الدمار الشامل أكدوا أن العراق لم يكن به أسلحة دمار شامل، كذب وخداع ودجل ونفاق وبطلان للادعاءات الأمريكية كمبرر لضرب شعب العراق وسلب خيراته.
لا أحد في عالمنا العربي يستغل المواقف ويطالب أمريكا بالانسحاب، بل إن بعضهم طالب ببقائها لمواجهة ما يسمى"الإرهاب". ومن المضحك المبكي أن أمريكا طلبت من سوريا الانسحاب من لبنان حفاظا على حريته واستقراره، ودول عربية أيدت هذا المطلب.
الله أكبر يا مسلمون، أي تناقض نعيشه اليوم؟! وكيف تقاس الموازين؟! هذه التناقضات هي التي مكنت أعداء الإسلام من البطش والسيطرة والتحكم وإملاء الشروط. هذه الشروط هي التي أخرجت قادة أمتنا عن جادة الصواب والإيمان والصدق، وفي السودان وأفغانستان تمزيق للبلاد وإذكاء لنار الفتنة والحرب الأهلية.
وفي ظل هذا التردي والأجواء المؤلمة يتسابق الدعوة لإجراء الانتخابات العامة في فلسطين والعراق وأفغانستان تزامنت بمحض الصدفة أم أنها خطوات مبرمجة استجابة لمطلب الإدارة الأمريكية من القادة والحكام العرب لإجراء ما أسمته إصلاحات إدارية. وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟! أليس التحرير أجدى من الكراسي؟! أليس المطالبة بانسحاب القوات الغازية الأمريكية من العراق والإسرائيلية من الأراضي المحتلة هما المطلب الأساسي؟!
الحل ـ أيها المسلمون ـ واضح، ألا وهو العمل على إقامة دولة الإسلام، دولة الخلافة، دولة على منهاج النبوة، دولة الحق والعدل والأمانة والمساواة، دولة العزة والمنعة والكرامة والانتصار.
عباد الله، لا تنزع الرحمة إلا من شقي، ومن لا يرحم لا يرحم، والراحمون يرحمهم الرحمن، وأنا أشهد الله وملائكته وأنبياءه وحملة عرشه وجميع خلقه أنه لن يرحمنا من هذا البلاء والوباء والعداء إلا الله إذا اصطلحنا مع الله صلحا لا غشّ فيه ولا رياء.
تذكروا ـ أيها المسلمون ـ أنكم ترزقون بضعفائكم، اسمعوا قوله تعالى في الحديث القدسي الشريف: ((وعزتي وجلالي، لولا أطفال رضع وبهائم رتع وشيوخ ركع لصببت لكم العذاب صبا)) ، وكذلك في الحديث الآخر: ((إني لأهم بأهل الأرض عذابا، فإذا نظرت إلى عمار المساجد والمستغفرين بالأسحار صرفت عنهم العذاب)).
عباد الله، إن الأيام المقبلة ستشهد تصعيدا خطيرا ضد الإسلام والمسلمين، فالواجب على أمتنا توحيد الصفوف والاعتصام بحبل الله والوقوف صفا واحدا أمام أعداء الله.
(1/3458)
ثلاث مهلكات
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, مساوئ الأخلاق
خالد بن محمد بابطين
جدة
22/7/1424
مسجد الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث عظيم من جوامع الخير. 2- ذم الشح والبخل. 3- ذم الهوى وتحذير السلف منه. 4- ذم العجب وبيان مفاسده.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، فالتقوى خير زاد ليوم المعاد.
روى الطبراني في معجمه الأوسط عن ابن عمر أن رسول الله قال: ((ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات. فأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه. وأما المنجيات فالعدل في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى وخشية الله تعالى في السر والعلانية، وأما الكفارات فانتظار الصلاة بعد الصلاة وإسباغ الوضوء في السبرات ونقل الأقدام إلى الجماعات، وأما الدرجات فإطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام)).
أيها الإخوة، ما أجمع هذا الحديث وما أعظمه، ولذا كان حريًّا بكل مسلم أن يتأمله ويتدبره ويسعى جاهدًا للنجاة من تلك المهلكات والظفر بالثلاث المنجيات والمبادرة إلى تلك الكفارات والترقي في تلك الدرجات.
الثلاث المهلكات أولها شح مطاع، وقد حذر النبي من الشح في أحاديث كثيرة، منها حديث عبد الله بن عمرو أن النبي قال: ((إياكم والشح؛ فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا)) الحديث، بل لقد عده النبي من الكبائر المهلكة، ففي حديث أبي هريرة في سنن النسائي أنه قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قيل: يا رسول الله، وما هي؟ قال: ((الشرك والشح وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)) الحديث.
ولسوء هذا الخلق وخبثه فإنه إذا تشبّعت به النفوس فتسوّغ حينئذٍ ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي حديث أبي ثعلبة الخشني : ((حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام)) رواه الترمذي.
وهو من شر الخلال التي يتصف بها رجل، ففي سنن أبي داود وغيره عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: ((شر ما في رجل شح هالع وجبن خالع)). ولذا كان من الأخلاق التي تفشو في آخر الزمان، في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((يتقارب الزمان وينقص العمل ويلقى الشح)) الحديث، ولذلك أيضًا كانت الصدقة أعظم أجرًا في حال الشح لأن الإنسان يغالب شح نفسه، جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: ((أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى)) الحديث. متفق عليه.
قال ابن القيم رحمه الله: "الشح شدة الحرص على الشيء والإحفاء في طلبه والاستقصاء في تحصيله وجشع النفس عليه، والبخل منع إنفاقه بعد حصوله وحبّه وإمساكه، فهو شحيح قبل حصوله، بخيل بعد حصوله، فالبخل ثمرة الشح، والشح يدعو إلى البخل، والشح كامن في النفس، فمن بخل فقد أطاع شحه، ومن لم يبخل فقد عصى شحه ووقي شره، وذلك هو المفلح، قال الله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]".
أيها المؤمنون، ثاني هذه الثلاث المهلكات هوى متبع، وتلك صفة أخرى ذميمة قد تضافرت على ذمها والتحذير منها نصوص الكتاب والسنة، وما ضل من ضل عن سبيل الرشاد والهداية وأوغل في سبيل الضلال والغواية إلا وكان الهوى العامل الأساس في ذلك، وقد جاء ذم الهوى في القرآن الكريم في أربع عشرين موضعًا، منها قوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:119]، وقوله: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ [القصص:50]، وقوله جل شأنه: بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [الروم:29]. وكل من ردَّ الحق ورفضه بغير برهان فإن به شبهًا بأعداء الله اليهود، وبئس المتشبّه به، قال الله حاكيًا حالهم: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87]، وقال تعالى: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [المائدة:70].
بل إن الهوى ليتمادى بصاحبه ويتمكن منه حتى يعسر عليه تركه، جاء في حديث معاوية في ذكر الفرق الضالة في هذه الأمة: ((وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)) خرجه أبو داود. بل أيها الإخوة، قد يصل به الأمر أن يكون عبدًا لهواه من دون الله، قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43]، قال قتادة : "إن الرجل إذا كان كلما هوي شيئًا ركبه وكلما اشتهى شيئًا أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى فقد اتخذ إلهه هواه".
ولذلك كان من أخوف ما كان يخافه النبي على أمته، في مسند الإمام أحمد عن أبي برزة الأسلمي أن رسول الله قال: ((إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى))، ولذلك أيضًا كان يدعو فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء)) رواه الترمذي. قال الشافعي : "لأن يلقى الله العبدُ بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيءٍ من الأهواء".
وقد تضافرت أقوال السلف في التحذير من أهل الأهواء الذين يخدعون الناس بمعسول القول وفصيح الكلام، قال ابن عباس : (لا تجالسوا أهل الأهواء؛ فإن مجالستهم ممرضة للقلوب)، وقال إبراهيم النخعي : "لا تجالسوا أهل الأهواء؛ فإن مجالستهم تذهب بنور الإيمان من القلوب وتسلب محاسن الوجوه وتورث البغضة في قلوب المؤمنين"، قال الحسن البصري : "لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم"، وقال أبو قِلابة : "لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون".
ولذلك ـ أيها المؤمنون ـ فالحذر الحذر من الأهواء التي أصبحت تبثّ في هذه الأيام ويدعى الناس لها عبر كثير من وسائل الإعلام المرئية منها والمقروءة والمسموعة.
قال ابن رجب رحمه الله: "إن جميع المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله، وكذلك البدع تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا يسمى أهلها أهل الأهواء، ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصًا في إيمانه الواجب، فيجب عليه حينئذٍ التوبة من ذلك والرجوع إلى اتباع ما جاء به الرسول من تقديم محبة الله ورسوله وما فيه رضا الله ورسوله على هوى النفس ومراداتها كلِّها" اهـ كلامه رحمه الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عَظُمَ شأنه ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره عم امتنانه وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المؤمنون، ثالث هذه الخصال المهلكة المذكورة في الحديث إعجاب المرء بنفسه، وهو يورث الكبر الباطن الذي يثمر التكبر الظاهر في الأعمال والأقوال والأحوال، وهو يدعو صاحبه إلى نسيان التوبة من الذنوب، ويجعل صاحبه يستعظم العبادات والأعمال ويمن على الله بفعلها، والمعجَب بنفسه ورأيه يأمن مكر الله وعذابَه.
ومن أعظم آفات العجب فتور السعي في الأعمال الصالحة لظن صاحبه أنه قد فاز واستغنى، وهذا هو الهلاك الصريح الذي لا شبهة فيه. والعجب بالنفس يودي بصاحبه إلى الكبر، وفي حديث سلمة بن الأكوع قال : ((ما يزال الرجل يذهب بنفسه ـ أي: يترفع ويعجب بها ـ حتى يكتب في الجبارين، فيصيبُه ما أصابهم)) رواه الترمذي، وقال : ((بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مُرَجِّلٌ جُمَّتَه إذ خسف الله به، فهو يتجلجل ـ أي: يسوخ في الأرض ـ إلى يوم القيامة)) رواه أبو داود والترمذي، قال الأحنف بن قيس: "عجبًا لابن آدم يتكبر وقد خرج من مجرى البول مرتين".
ويكفي في ذمه أنه يشبه في ذلك إبليس لعنه الله الذي قال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، ومن عواقبه وسوء مغبته أن صاحبه لا يوّفق للخير، بل يصرف عنه، قال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146]، وكم حال الكبر بين صاحبه وبين الحق، قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الجاثية:7، 8]، ولذلك كان العجب والكبر سببًا للطرد من الجنة ودخول النار عياذًا بالله، قال تعالى في حق إبليس: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا [الأعراف:13]، وقال تعالى مخاطبًا الكفار: فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [النحل:29]، وفي حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بُولُسَ، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال)) رواه الترمذي وهو حديث حسن.
أيها الإخوة، بقيت في ذلك الحديث العظيم بقية، نسأل الله أن يوفّقنا لاستكمالها في خطب قادمة إن شاء الله تعالى.
نسأل الله تعالى أن يطهر نفوسنا من هذه الخصال المهلكة.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(1/3459)
ثلاث منجيات
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
خالد بن محمد بابطين
جدة
29/7/1424
مسجد الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نص حديث ابن عمر. 2- فضل العدل. 3- فضل التوسط والاقتصاد في الأمور. 4- فضل خشية الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة، كان لنا وقفات في الخطبة الماضية مع الثلاث المهلكات التي ورد ذكرها في حديث ابن عمر: ((ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات. فأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه، وأما المنجيات فالعدل في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى وخشية الله تعالى في السر والعلانية، وأما الكفارات فانتظار الصلاة بعد الصلاة وإسباغ الوضوء في السَبَرات ونقل الأقدام إلى الجماعات، وأما الدرجات فإطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام)). وفي هذه الخطبة نستعين بالله في وقفات مع الثلاث المنجيات.
وأولها العدل في الغضب والرضا، وهو أمر عزيز جدًا في الناس، وذلك أن الغضب يحمل صاحبه على أن يقول غير الحق ويفعل غير العدل، فمن كان لا يقول إلا الحق في الغضب والرضا دلّ ذلك على شدة إيمانه وأنه يملك نفسه، فهو الشديد حقًا، كما قال النبي : ((ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) متفق عليه. وقد حرص السلف على التخلق بهذا الخلق أيما حرص، يقول مورق العجلي: "ما تكلمت بشيء في الغضب ندمت عليه في الرضا"، وقال عطاء: "ما أبكى العلماء آخر العمر إلا غضبة قد أقحمت صاحبها مقحمًا ما استقاله".
أيها الإخوة، لقد أمر الله تعالى بالعدل في القرآن في غير موضع، منها قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى الآية [النحل:90]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء:135]، وفي الآية الأخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ [المائدة:8]، وقال لنبيه : فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ [الشورى:15]، وقال تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152].
والعدل مطلب شرعي في كل حين، ويعظم حين يكون في شأن المال والوصية به، ففي سنن أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول : ((إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته، فيُختمُ له بشر عمله، فيدخلُ النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته، فيُختمُ له بخير عمله، فيدخلُ الجنة))، قال أبو هريرة واقرؤوا إن شئتم: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء:13، 14].
وقد بين النبي عظيم جزاء أهل العدل والقسط فقال: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عزَّ وجلَّ، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا)) رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو ، وفي سنن الترمذي بسند حسن عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : ((إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلسًا إمام عادل، وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه مجلسًا إمام جائر)).
ولعظم شأن العدل ومنزلته في الشرع كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل، ولذلك أيضًا كان من الثلاثة الذين لا ترد دعوتهم الإمام العادل كما جاء في سنن الترمذي من حديث أبي هريرة.
قال عمر بن الخطاب : (إن للعدل أمارات وتباشير، فأما الأمارات فالحياء والسخاء والهَين واللين، وأما التباشير فالرحمة، وقد جعل الله لكل أمر بابًا، ويسر لكل بابٍ مفتاحًا، فباب العدل الاعتبار، ومفتاحه الزهد، والاعتبار وذكر الموت والاستعداد بتقديم الأموال والزهد من كل أحد قِبَلَهُ حقٌّ).
أيها الإخوة، وأما الخصلة الثانية من الأمور المنجية فهي القصد في الفقر والغنى، وهو أمر عزيز أيضًا، وهو حال النبي ، فقد كان مقتصدًا في حال فقره وغناه. والقصد هو التوسط، فإن كان فقيرًا لم يُقتِّر خوفًا من نفاد الرزق، ولم يسرف فيحمل ما لا طاقة له به، كما أدب الله تعالى نبيه بذلك في قوله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [الإسراء:29]، وإن كان غنيًا لم يحمله غناه على السرف والطغيان، بل يكون مقتصدًا أيضًا، قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67].
وذلك هو النهج الذي أراده الله لعباده المؤمنين، ولكنك حين تتأمل واقع كثير من الناس اليوم رجالاً ونساءً فإن عينك لن تخطئ مظاهر كثيرة من الخلل في الالتزام بهذا النهج الإسلامي، فثمة طائفة من الناس يعيشون في هذه الدنيا ليأكلوا، ويغدون ويروحون ولا هم لأحدهم إلا أن يجمع على مائدته ألوان الطعام، فيمعنون في التشبع والامتلاء، ويبتكرون في وسائل الطهي وضروب التلذذ، وفي الحديث: ((فإن أكثرهم شبعًا في الدنيا أطولُهم جوعًا يوم القيامة)) أخرجه الترمذي وغيره وهو حديث صحيح. ومن المعروف طبيًا أن عددًا كبيرًا من الأمراض الشديدة والعلل المنهكة ينشأ عن اكتظاظ المعدة بما لا تطيق هضمه، وفي الحديث: ((ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًا من بطنه)) رواه أحمد وغيره.
ولذلك فملذات الطعام وحطام الدنيا أنزل قدرًا من أن يتفانى الناس فيها على هذا النحو الشائن في عصرنا، هذا وحدّث عما يفعله الناس في رمضان ولا حرج، وحين تنظر إلى آخرين فإنك تراهم يتنافسون في العناية الفائقة بأنواع اللباس، بل ويباهون بها ويختالون فيها، وهذا الداء موجود في الرجال والنساء وإن كان في النساء أظهر، غير أنه أصبح في هذا الزمن بعض الرجال يتفنن في هذا المجال حتى غلب بعضهم فيه النساء. وإنه لمن الحماقة حقًا أن يجعل الشاب من جسمه مَعْرض أزياء يسير بها بين الناس يرتقب نظرات الإعجاب تنهال عليه من هنا وهناك. وثمة فتيانٌ أغرارٌ يقضون الساعات الطوال في صوالين الحلاقة لاستكمال وجاهتهم والاطمئنان على أناقتهم، ولو أنهم كلفوا ببذل هذا الوقت في التزود من علم أو التفقه في دين لنفروا ونكصوا، وقد ندد الإسلام بهذا الطيش ونفر منه، قال : ((من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة وألهب فيه نارًا)) رواه أبو داود وغيره وهو حديث صحيح.
والحق أن المفتونين والمفتونات من الرجال والنساء لما قلت حظوظهم من آداب النفس ظنوا المغالاة في اللباس تستر نقصهم وهيهات، عن بريدة قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فأخرجت إلينا كساء ملبدًا ـ أي: مرقعًا ـ وإزارًا مما يصنع باليمن وأقسمت بالله لقد قبض رسول الله في هذين الثوبين. رواه البخاري. وروى عن جابر قال: (حضرنا عرس علي وفاطمة، فما رأينا عرسًا كان أحسن منه، حَشَوْنَا الفراش ـ يعني من الليف ـ وأتينا بتمر وزبيب فأكلنا، وكان فراشها ليلة عرسها إهاب كبش.
أيها الإخوة، ولا يفهم من هذا أن الإسلام يدعو إلى الإزراء بالنفس في اللباس أو يرحب بالهيئات المستكرهة أو يندب إلى لبس المرقعات كما يفعله من قل نصيبه من الفقه، كلا، سأل رجل عبد الله بن عمر : ما ألبس من الثياب؟ فقال: (ما لا يزدريك فيه السفهاء ولا يعيبك فيه الحكماء)، وجاء رجل إلى رسول الله فرآه سيئ الهيئة فقال له: ((هل لك من شيء؟)) قال: نعم من كل المال قد آتاني الله، فقال : ((إذا كان لك مال فلير عليك)) رواه النسائي بسند صحيح.
فقد جاء الشرع كما رأيت باستحباب التجمل وحسن السمت، وفرق كبير بين إنسان يزخرف ظاهره ويهمل باطنه وينفق خير وقته في رياش يلصقها بجسمه، وآخر يجعل همه الأكبر في صيانة حقيقته واستكمال مروءته ثم لا ينسى في زحمة الواجبات ارتداء ما يجمل به ويلقى الناس فيه.
أيها الإخوة، إن التوسط لب الفضيلة، وهو أن تملك الحياة الدنيا لتسخرها في بلوغ المثل العليا، لا أن تملكك الحياة فتسخرك لدناياها، ولا أن تحرم من الحياة أصلاً فتقعد ملومًا محسورًا، وهذا ما عناه النبي بقوله: ((والله، ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)) رواه البخاري، وقال : ((السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءًا من النبوة)) رواه الترمذي.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: وأما الخصلة الثالثة المنجية فهي خشية الله في السر والعلانية، وهي أن يخشى العبد الله ظاهرًا وباطنًا، في الغيب والشهادة، وكثير من الناس يُرى أنه يخشى الله في العلانية وفي الشهادة، ولكنّ الشأن خشية الله في الغيب، إذا غاب عن أعين الناس، وهؤلاء هم الذين امتدحهم الله بقوله: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنْ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:49]، وقوله تعالى: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:33].
كان بعض السلف يقول: "زهدنا الله وإياكم في الحرام زهادة من قدر عليه في الخلوة فعلم أن الله يراه فتركه"، ومن هذا قول بعضهم: "ليس الخائف من بكى فعصر عينيه، إنما الخائف من ترك ما اشتَهى من الحرام إذا قدر عليه".
ولذا عظم ثواب من أطاع الله سرًا بينه وبينه ومن ترك المحرمات التي يقدر عليها سرًا، يقول تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16، 17]، قال بعض السلف: "أخفوا لله العمل فأخفى لهم الجزاء"، وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين)) متفق عليه، وفي حديث أبي أمامة قال رسول الله : ((ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة من دموع من خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله، وأما الأثران فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله)).
وتأمل حاله في الخشية، في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي، فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها))، وقال عبد الله بن مسعود : (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه فقال به هكذا).
والخشية هي حقيقة العلم، قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وقال ابن مسعود : (ليس العلم من كثرة الحديث، ولكن العلم من الخشية)، وقال أبو الدرداء : (إنما أخاف أن يكون أول ما يسألني عنه ربي أن يقول: قد علمت فما عملت فيما علمت؟)، ووصف الحسن حال السلف فقال: "لقد مضى بين أيديكم أقوام لو أن أحدهم أنفق عدد هذا الحصى لخشي أن لا ينجو من عظم ذلك اليوم"، وقال أيضًا: "عملوا بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن تردّ عليهم، إن المؤمن جمع إيمانًا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنًا".
(1/3460)
ثلاث كفارات
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة, فضائل الأعمال
خالد بن محمد بابطين
جدة
7/8/1424
مسجد الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نص حديث ابن عمر. 2- التقصير من طبيعة البشر. 3- فضل انتظار الصلاة بعد الصلاة. 4- فضل إسباغ الوضوء على المكاره. 5- فضل المشي إلى الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون، ما نزال نتفيّأ ظلال ذلك الحديث النبوي العظيم من رواية ابن عمر عن رسول الله أنه قال: ((ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات. فأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه، وأما المنجيات فالعدل في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى وخشية الله تعالى في السر والعلانية، وأما الكفارات فانتظار الصلاة بعد الصلاة وإسباغ الوضوء في السَبَرات ونقل الأقدام إلى الجماعات، وأما الدرجات فإطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام))، وقد وصل بنا الحديث إلى الثلاث الكفارات، فهلم نتأملها علّ الله تعالى أن يجعلنا ممن تكفّر عنهم ذنوبهم وتحطّ عنهم خطاياهم.
فإن العبد لا يزال في حال من التقصير والتفريط، وفي الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم))، ويقول تعالى عن الإنسان: كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ [عبس:23]، قال مجاهد وقتادة: "لا يقضي أحد ما أمر به"، وكان ابن عباس يقول: ( لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ لم يف بالميثاق الذي أخذ عليه في صُلب آدم). ولذلك فمن فضل الله تعالى ورحمته بعباده أن شرع لهم مثل هذه الكفارات لتكمل النقص وتسدّ الخلل والتقصير الحاصل، وفي الحديث: ((إسباغ الوضوء في المكاره وإعمال الأقدام إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة يغسل الخطايا غسلا)).
أول هذه الكفارات انتظار الصلاة بعد الصلاة، وهو دلالة على تعلق القلب بها وحبه لها، وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((ورجل قلبه معلق بالمساجد)) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
وما أعظم أن يكون المسجد مكان يتوطّنه الإنسان ولا يمل الجلوس فيه، بل تتوق نفسه للرجوع إليه كلما خرج منه، وفي الحديث: ((ما توطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله له كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم)) رواه ابن ماجه في سننه، وفي رواية: ((ما من رجل كان توطن المساجد فشغله أمر أو علة ثم عاد إلى ما كان إلا يتبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذ أقدم)).
والعبد لا يزال في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه كما جاء في البخاري من حديث أبي هريرة وعن عقبة بن عامر عن رسول الله أنه قال: ((القاعد على الصلاة كالقانت ـ أي: منتظر الصلاة كالقائم يصلي ـ ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه)) ، بل إنه ينعم باستغفار الملائكة له وصلاتهم عليه، ففي حديث أبي هريرة : ((إذا صلى أحدكم ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له اللهم ارحمه)).
وذلك الأمر مما يباهي به الله تعالى ملائكته، خرج رسول الله على حلقة من أصحابه فقال: ((ما يجلسكم؟)) قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده لما هدانا للإسلام ومن علينا به، فقال: ((آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟)) قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: ((أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، إنه أتاني جبريل وأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة))، وفي حديث آخر قال عبد الله بن عمرو : صلينا مع رسول الله المغرب فرجع من رجع وعقب من عقب، فجاء رسول الله مسرعا قد حفزه النفس وقد حسر عن ركبتيه فقال: ((أبشروا، هذا ربكم قد فتح بابا من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي، قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى)).
أيها الإخوة الكرام، ثمة باب أجر عظيم في عمل يغفل عنه كثير من الناس، ذلكم هو الجلوس في المسجد عقب صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، فعن أبي أمامة قال: قال رسول الله : ((من صلى صلاة الغداة في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم قام فصلى ركعتين انقلب بأجر حجة وعمرة)) رواه الطبراني بإسناد جيد، وقد كان رسول الله إذا صلى الفجر لم يقم من مجلسه حتى تمكنه الصلاة ـ أي: ترتفع الشمس ويزول وقت النهي ـ وقال: ((من صلى الصبح ثم جلس في مجلسه حتى تمكنه الصلاة كان بمنزلة عمرة وحجة متقبلتين)) رواه الطبراني.
ثاني هذه الكفارات إسباغ الوضوء على السبرات، والمقصود به إكمال الوضوء في مواضعه الشرعية في حال شدة البرد، وقد عبر عنه في بعض الأحاديث بالمكاره؛ لأنه أمر تكرهه النفس ويشقّ عليها، وقال بعضهم: المكاره هي الأحوال التي يثقل على الإنسان فيها الوضوء لبرد أو ألم جسم أو نحوه، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم أن رسول الله قال: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخُطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط)).
أيها الإخوة، إن إسباغ الوضوء من دواعي إجابة الدعاء، ولقد عده النبي شطر الإيمان فقال: ((إسباغ الوضوء شطر الإيمان)) رواه ابن ماجه.
والصلاة تظل ناقصة ما لم يسبغ الإنسان الوضوء، ففي سنن ابن ماجه عن رفاعة بن رافع قال: قال رسول الله : ((إنها لا تتم صلاة لأحد حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى)).
والوضوء أمانة من أعظم الأمانات التي حُمِّلها الإنسان، وفي الحديث: ((القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة))، قال: ((يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتل في سبيل الله فيقال: أدّ أمانتك، فيقول: أي رب، كيف وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فينطلق به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها أبد الآبدين)) ، ثم قال: ((الصلاة أمانة والوضوء أمانة)) الحديث.
وقد جاءت الأحاديث بذكر فضائل عظيمة لإسباغ الوضوء، ومن ذلك قوله : ((ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلى ركعتين يقبل بقلبه وبوجهه عليهما إلا وجبت له الجنة)) ، واسمع هذا الحديث: ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا)) ، وتأمل هذا أيضًا: ((ما من مسلم يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقوم في صلاته فيعلم ما يقول إلا انفتل وهو كيوم ولدته أمه)).
وإذا أردت زيادة في النعيم في الجنة وأن تحلّى من حليها فعليك بإسباغ الوضوء، في صحيح مسلم أن رسول قال: ((تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بعثه بالرحمة والهدى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأصفياء وأصحابه النجباء والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المؤمنون، أما الخصلة الثالثة في هذا الحديث فهي نقل الأقدام إلى الجماعات، ويعظم في ذلك الأجر كلما كثرت خطوات الإنسان إلى المسجد، في حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج عامدًا إلى الصلاة فإنه في صلاة ما كان يعمد إلى الصلاة، وإنه يكتب له بإحدى خطوتيه حسنة ويمحى عنه بالأخرى سيئة، فإذا سمع أحدكم الإقامة فلا يسعَ فإن أعظمكم أجرًا أبعدكم دارًا))، قالوا: لم يا أبا هريرة؟ قال: من أجل كثرة الخطى، بل إن فضل الله في ذلك عظيم حيث يكتب له ذلك الأجر ذاهبًا وراجعًا كما في حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال: ((من راح إلى مسجد الجماعة فخطوة تمحو سيئة وخطوة تكتب له حسنة ذاهبًا وراجعًا))، وعن أبي أمامة أن رسول الله قال: ((من خرج من بيته متطهرًا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر، وصلاة في أثَر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين))، وعن جابر قال: خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سَلِمَة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله فقال لهم: ((بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد))، قالوا: نعم يا رسول، قد أردنا ذلك، فقال: (( بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم)) ، فقالوا: ما يسرنا أنا كنا تحولنا، وفي حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح)).
أيها المؤمنون، وفي ظلمة الليل يعظم أجر من مشى إلى الصلاة، قال : ((بشر المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة))، وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إن الله ليضيء للذين يتخلّلون إلى المساجد بنور ساطع يوم القيامة)).
وفي يوم الجمعة يكون للمشي إلى صلاة الجمعة شأن آخر، ففي حديث أوس بن أوس الثقفي قال سمعت رسول الله يقول: ((من غسّل يوم الجمعة واغتسل ثم بكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها)).
(1/3461)
ثلاث درجات
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
خالد بن محمد بابطين
جدة
14/8/1424
مسجد الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نص حديث ابن عمر. 2- فضل إطعام الطعام. 3- فضل إفشاء السلام. 4- فضل قيام الليل. 5- أحوال السلف مع قيام الليل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون، في هذا اليوم نأتي على الربع الرابع من حديث عبد الله بن عمر عن رسول الله أنه قال: ((ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات. فأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه، وأما المنجيات فالعدل في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى وخشية الله تعالى في السر والعلانية، وأما الكفارات فانتظار الصلاة بعد الصلاة وإسباغ الوضوء في السَبَرات ونقل الأقدام إلى الجماعات، وأما الدرجات فإطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام)) رواه الطبراني في معجمه الأوسط.
وحديثنا هذا اليوم عن الدرجات، وقد ورد في فضلها حديث أبي مالك الأشعري أن النبي قال: ((إن في الجنة غرفًا يُرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام وأفشى السلام وصلى بالليل والناس نيام)) رواه ابن حبان.
أيها الإخوة المؤمنون، فهلمَّ بنا نرتقي أولى درجات هذا الحديث.
إطعام الطعام عمل من أجلّ القربات وأعظم الحسنات، عن عبد الله بن عمر أن رجلاً سأل رسول الله : أي الإسلام خير؟ قال: ((تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)) متفق عليه، وقد قال النبي لصهيب : ((خياركم من أطعم الطعام)) ، وقال عمر : (ذكر لي أن الأعمال تباهى ـ أي: تتفاخر ـ فتقول الصدقة: أنا أفضلكم)) رواه ابن خزيمة.
ومهما قلَّ وصغر ما يطعمه الإنسان غيره فإنه يعظم عند الله تعالى حين تصحبه نية صالحة، وفي الحديث الذي رواه ابن حبان عن عائشة أن رسول الله قال: ((إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله)) أي صغار الخيل والإبل، وفي حديث أبي برزة : ((إن العبد ليتصدق بالكسرة تربو عند الله عز وجل حتى تكون مثل أحد)).
والعبرة ـ أيها الإخوة ـ بصلاح النية ولو مع القليل، وفي حديث أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: ((جهد المقل)) رواه أبو داود، وفي سنن النسائي أن رسول الله قال: ((سبق درهم مائة ألف درهم))، فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول؟! قال: ((رجل كثير المال أخذ من عُرضه مائة ألف درهم تصدق بها، ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به)). لكن لا شك أنه لو اجتمع صلاح النية مع النفقة الكثيرة فهو خير إلى خير، فالله يضاعف له ما أنفقه عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والله واسع عليم.
أيها الأحبة، إن الذاهب من المال هو الباقي والباقي هو الذاهب، عن عائشة أنهم ذبحوا شاة فقال النبي : ((ما بقي منها؟)) قالت: ما بقي منها إلا كتفها، فقال: ((بقي كلها إلا كتفها)) الترمذي.
وهل تريد أن تقي وجهك حر النار؟! اسمع هذا الحديث: قال : ((من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل)) رواه مسلم.
وفي يوم الهول الأكبر والحر الأشد وحين تدنى الشمس من الرؤوس يكون المتصدق في ظل صدقته، عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله يقول: ((كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة)) قال يزيد أحد رواة الحديث: فكان أبو مرثد لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه ولو بكعكة أو بَصلة.
وأفضل الصدقة سقي الماء، فعن سعد بن عبادة قال: قلت: يا رسول الله، إن أمي ماتت فأيّ الصدقة أفضل؟ قال: ((الماء))، فحفر بئرًا وقال: هذه لأم سعد. بل إن هذا النوع من الصدقة مما يستشفى بها بإذن الله، حدَّث علي بن الحسن قال: سمعت ابن المبارك وسأله رجل: يا أبا عبد الرحمن، قرحة خرجت من ركبتي منذ سبع سنين وقد عالجت بأنواع العلاج وسألت الأطباء فلم أنتفع به؟ قال: "اذهب فانظر موضعًا يحتاج الناس للماء فاحفر هناك بئرًا، فإني أرجو أن ينبع هناك عين ويمسك عنك الدم"، ففعل الرجل فشفي.
ونحن ـ أيها الإخوة ـ نستقبل شهر الخير والبركة، فيكون للصدقة فيه وإطعام الطعام شأن وأيّ شأن. عن زيد بن خالد الجهني عن النبي قال: ((من فطّر صائمًا كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء)) رواه الترمذي.
الدرجة الثانية في الحديث إفشاء السلام، قال أهل اللغة: السلام في أصل اللغة السلامة، ومنه قيل للجنة: دار السلام؛ لأنها دار السلامة من الآفات، ففيها بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وصحة بلا سُقْم، والسلام من أسماء الله تعالى، قال ابن حجر: "ومعناه السالم من النقائص، وقيل: المسلّم لعباده، وقيل: المسلم على أوليائه" اهـ.
وإفشاء السلام نشره بين الناس ليحيوا سنّته ، أخرج البخاري في الأدب المفرد: ((إذا سلّمت فأسمع، فإنها تحية من عند الله)). وأقله أن يرفع صوته بحيث يسمعُ المسَلَّم عليه، فإن لم يسمعه لم يكن آتيًا بالسنة، قاله النووي رحمه الله.
أيها الإخوة المؤمنون، جاء ذكر السلام في القرآن في نحو ثلاثين موضعًا بمعانيه المختلفة، وحَفِلت نصوص السنة بذكره في خمس وستين حديثًا، يقول : ((أعجز الناس من عَجَزَ في الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام)) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. فهل رأيت أبخل ممن يحرم نفسه أجر السلام؟! ففي حديث حذيفة أن النبي قال: ((إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه وأخذ بيده فصافحه تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشجر)) رواه الطبراني، وعن عبد الله بن مسعود عن النبي قال: ((السلام اسم من أسماء الله تعالى وضعه، فأفشوه بينكم، فإن الرجل المسلم إذا مرّ بقوم فسلم عليهم فردّوا عليه كان له فضل درجةٍ بتذكيرهم إياهم، فإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم وأطيب)).
وهو بركة تحلّ على أهل البيت، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((يا بنيّ، إذا دخلت على أهلك فسلم يكونُ بركة عليك وعلى أهل بيتك)) رواه الترمذي.
وما أعظم أثر السلام على المجتمع حين يفشو فيه وينتشر، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم)) رواه مسلم.
وقد جاءت النصوص بتحريم الهجران بين المؤمنين والحث على التصافي والتوادّ، فعن أبي أيوب عن النبي أنه قال: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصدُّ هذا ويصدُّ هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) متفق عليه.
الدرجة الثالثة في الحديث قيام الليل، سئل رسول الله عن أفضل الصلاة بعد المكتوبة؟ فقال: ((الصلاة في جوف الليل)) رواه مسلم.
وقد أثنى الله على أهل قيام الليل في خمسة عشر موضعًا من القرآن، منها قوله تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16]، وقال في وصف المتقين: كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17، 18]، قال مطرف بن عبد الله: "قلَّ ليلة أتت عليهم إلا صلوا من أولها أو من وسطها. وقال سبحانه في وصف عباد الرحمن: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان:64].
أيها الإخوة، أولى خطوات تعويد النفس على ذلك أن ينام الإنسان طاهرًا ناويًا القيام، وفي الحديث: ((من بات طاهرًا بات في شعاره ـ وهو ما يلي البدن من الثوب ـ ملك فلا يستيقظ إلا قال الملك: اللهم اغفر لعبدك فلان فإنه بات طاهرًا)) ، وفي سنن أبي داود عن معاذٍ عن النبي أنه قال: ((ما من مسلم يبيت على ذكر طاهرًا فيتعارَّ من الليل فيسألُ الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه)).
بل من كان من أهل قيام الليل فغلبته عينه ليلة فنام كتب له أجره وكان نومه صدقة من ربه عليه، ففي سنن النسائي عن أبي الدرداء يبلغ به النبي قال: ((من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عينه حتى أصبح كتب له ما نوى وكان نومه صدقة عليه من ربه)).
وكم يسعى الشيطان ويجهد ليحول دون العبد وقيام الليل، في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)).
وما أجمل ساعات الليل ودقائقه حين يصفّ العبد قدميه ويقف بين يدي الله، عن جابر قال: سمعت رسول يقول: ((إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة)) رواه مسلم، وعن عمرو بن عبسة أن رسول الله قال: ((أقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن)) رواه الترمذي، وروى الحاكم عن بلال أن رسول الله قال: ((عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى ربكم وتكفير للسيئات ومطردة للداء عن الجسد))، وصدق الهادي البشير ـ بأبي هو وأمي ـ الذي لا ينطق عن الهوى حين قال: ((ومطردة للداء عن الجسد))، فقد أثبت ذلك طائفة من الأطباء المسلمين في بعض البحوث الطبية التي قدّمت لبعض المؤتمرات الإسلامية، ومُفادها أن الجهاز الدوري والتنفسي ومرونة مفاصل العظام وخاصة العمود الفقري أكثر كفاءة عند من يقوم الليل ويحافظ على صلاة التراويح بخلاف غيرهم.
ومن أعظم ما ورد في شأن أهل الليل قول النبي : ((ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم)) وذكر منهم: ((والذي له امرأة حسناء وفراش لين حسن، فيقوم الليل فيقول الله: يذر شهوته ويذكرني، ولو شاء رقد، والذي إذا كان في سفر وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا فقام من السحر في ضراء وسراء)) رواه الطبراني وإسناده حسن.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عَظُمَ شأنه ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره عم امتنانه وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المؤمنون، ليكن لنا شيء من الليل ولو يسيرًا، عن ابن عباس قال: ذكرت قيام الليل فقال بعضهم: إن رسول الله قال: ((نصفه ربعه فواق حلب ناقة)) أي: قدر ما بين رفع اليد عن الضرع وضمها وقت الحلب.
وعن فضالة بن عبيد عن النبي قال: ((من قرأ عشر آيات في ليلة كتب له قنطار من الأجر، والقنطار خير من الدنيا وما فيها، فإذا كان يوم القيامة يقول ربك عز وجل: اقرأ وارق بكل آية درجة حتى تنتهي إلى آخر آية معه، يقول الله عز وجل للعبد: اقبض، فيقول بيده: يا رب، أنت أعلم، يقول: بهذه ـ أي: بيمينك ـ الخلد، وبهذه ـ أي: بشمالك ـ النعيم)) رواه الطبراني.
وحدثت أمُّنا عائشة بأعجب ما رأته من حاله فقالت: أتاني في ليلتي حتى مسّ جلده جلدي ثم قال: ((ذريني أتعبد لربي عز وجل))، قالت: فقلت: والله، إني لأحب قربك وأحب أن تعبد ربك، فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صبَّ الماء، ثم قام يصلي فبكى حتى بلَّ لحيته، ثم سجد فبكى حتى بلَّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتاه بلال يؤذنه بصلاة الصبح قالت: فقال: يا رسول، ما يبكيك وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر؟! فقال: ((ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل علي في هذه الليلة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] )) ثم قال: ((ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها)).
وقد سار على نهجه في ذلك أصحابه رضي الله عنهم، فهذا عمر كان في وجهه خطان أسودان مثل الشراك من البكاء، وكان يمر بالآية من ورده من الليل فيبكي حتى يسقط، ويبقى في البيت حتى يعاد للمرض. وعثمان بن عفان قيل: نزلت فيه: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9]، قال النووي: "وقد روي عنه من وجوه كثيرة أنه صلى بالقرآن العظيم في ركعة واحدة عند الحجر الأسود أيام الحج"، وقد كان هذا دأبَه رضي الله عنه. وكان أبو هريرة وامرأته وخادمه يقتسمون الليل ثلاثًا: يصلي هذا ثم يصلي هذا، بل كان الأشعريون قوم أبي موسى يعرفون بالليل بالقرآن قال : ((إني لأعرف أصوات رُفْقَةِ الأشعريين بالقرآن حين يخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل)) رواه مسلم. وليت شعري بأيّ شيء تعرف بيوت كثير من الناس بالليل في هذه الأيام؟! وإلى المشتكى.
وابن عباس تَرْجُمَان القرآن قام شطر الليل فقرأ: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]، فجعل يرتل ويكثر في ذلكم النشيج. وهو الذي قام الليل وهو ابن عشر سنين مع النبي وأعد له وَضوءه من الليل فدعا له، ولكم يخشع الكلم أمام حبر الأمة وهو يحيي الليل وهو غلام لم يتجاوز العاشرة ويجعل همه حين بات عند خالته ميمونة أن لا ينام حتى ينظر ما يصنع النبي في صلاة الليل، فما أعظم الأدب الذي تأدب به صبية بيت النبوة.
وكان الحسن بن علي يأخذ بنصيبه من القيام في أول الليل، وكان الحسين يأخذه من آخر الليل، ولله درهما، أشبهوا خَلْق جدهما وخُلُقَه، وأخذوا بالحظّ الأوفر والنصيب الأكمل من رعي النجوم والتهجد للملك القيوم. وعبد الله بن الزبير كان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود، وكان يقال: ذلك من خشوعه، لو رأيته وهو يصلي لقلت غصن شجرة يصفقها الريح.
وما أعجب ما ذكر في ترجمة الحسن بن صالح أنه باع جارية، فلما صارت عند الذي اشتراها قامت في جوف الليل فقالت: الصلاة الصلاة، قالوا: طلع الفجر؟! قالت: وليس تصلون إلا المكتوبة؟! قالوا: نعم، فرجعت إلى الحسن وقالت: بعتني إلى قوم سوء ليس يصلون بالليل فردني، فردها. قال أبو العالية: كنا نعد من أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن ثم ينام لا يقرأ منه شيئًا.
أيها الإخوة، ولو ذهبت أسرد لكم ما حكي من أحوال السلف لطال بنا المقام ولم يكفِه مجلدات فضلاً عن وريقات كهذه التي بين يدي، لذلك فاطَّرِحْ ـ عبدَ الله ـ في الدجى على باب الذلّ وقل بقلبك ولسانك: إلهي، كم لك سواي، وما لي سواك، عبيدك سواي كثير، وليس لي سيد سواك، فبفقري إليك وغناك عني، بقوتك وضعفي، بعزتك وذلي إلا رحمتني وعفوتَ عني، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته ورغم لك أنفه وفاضت لك عيناه وذل لك قلبه.
(1/3462)
الإسلام والتقنيات الحديثة
فقه
قضايا فقهية معاصرة
عبد الله بن علي الهزاني
الرياض
27/6/1425
جامع رياض الصالحين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موقف الإسلام من العلم الحديث. 2- حكم الأجهزة الحديثة. 3- صور من الاستخدام السيئ للتقنيات الحديثة. 4- ضرورة الأخذ على أيدي السفهاء. 5- مبدأ الفواحش.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى الذي يراكم حين تقومون، وإياكم والتنافس في الدنيا فتهلكَكم.
أيها المسلمون، يكتنف جوانحي أملٌ عظيم فيمن حضر منكم لفريضةِ ربّه يحدوهم داعي الخير في نفوسهم لسماع الموعظةِ والذكرى أن يكون قد استقرّ في أذهانكم شيءٌ مما ذكر في الخطبة الماضية، حيث تكلّمنا فيما سبق عن ثلاثة محاور: أُولاها: حثّ الإسلام معتنقيه على العلم بأنواعِه وأنه يدعو إلى البحث وزيادة التعلّم: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، والثاني: أنّ التقنية العلمية نِعمة من نعم الله تعالى وآية من آياته الدالة على عظمتِه ورحمته بعباده، والثالث: أنّ هذه التقنية العلمية بآلاتها وأجهزتها المتعددة إذا استُخدمت في الخير كانت خيرًا ونعمة، وإذا استخدِمت عكسَ ذلك كانت شرًّا على مستخدميها.
والأصل في هذه الأجهزة كما قرّرناه سابقًا هو الإباحة، وما أدّى استخدامُه إلى الحرام فهو حرام، وحينئذ يكون درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح، فالحكم يدور مع العلّة وجودًا وعدمًا. وحيث إننا نعيش انفتاحًا فجًّا واستخدامًا للآلاتِ معوجًّا غير مدروس ولا مقنّن لاستخدام هذه التقنية فإني لا أستبعِد ـ والعلم عند الله تعالى ـ تفاقمَ الحالة التي نعيشها، فالتغيّر الاجتماعي وتسهيل سبُل الفسادِ عن طريق القنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية والسفر إلى البلدان التي تنتشِر فيها الإباحية ومصاحبة أصحاب الشهوات، كلّها تضرم الفساد في البر والبحر، وتدفع إلى إشعال الشهوات والشبهات دفعا، وتؤجّج الغرائز المكبوتة في النفوس حتى تنفجِر في لحظة غيابِ الرقيب وضعف الدين وزخرفة أهل الباطل لباطلهم، حتى أضحى هذا العالم الكبير كأنه فندق يقطنه شتى أنواع البشر، يؤثّر بعضهم في بعض، فبقدر ما حقّقته التقنيات الحديثة من خدمة للبشرية سهّلت الحياة وجعلَتها أكثر رفاهيّة ومكّنت بني البشر من التواصل فيما بينهم، إلا أنها في نفس الوقت حرّفت كثيرًا منهم عن الطريق السوي، بسبب سوء التعامل مع هذه النّعم التي هي في واقع الأمر جديدة على المجتمع، وما هذا الهوَس من الصغير والكبير والشباب والشابات لاقتناء هذه التقنية وخاصة فيما يتعلق بأجهزة الهاتف النقال وأجهزة التصوير ومثيلاتها مما يخصّ القنوات ودفع الأموال الطائلة لشراء كلّ جديد تباهيًا وتفاخرًا وتنافسًا في ملذّات الدنيا، فإن هذا دليلٌ على ضعف الوازع الديني واستحكام الفراغ والخواء الفكريّ على العقول، مع توفّر المال في أيدي السفهاء، وتناسي القيَم والمبادئ التي حثّ عليها ديننا الإسلاميّ، ولقد تمثَّل هذا على وجه الخصوص في تصوير العورات وإرسال الرسائل قبيحة اللّفظ سيئة المعنى وسوء الظن ونشر الرذيلة والكذب والبهتان في أوساط المجتمع، وليس هذا فحسب بل إنّه يترتب عليه مفاسد ومنكرات، منها الإخلال بأعراض المسلمين، إذكاء المشكلات الأسرية، إشاعة الفواحش في المجتمع، أذيّة المؤمنين والمؤمنات، سوء عاقبة فاعِله في الدنيا والآخرة، وكل هذه العواقب مما تظاهرت النصوص على تحريمه وتبشيعه.
ولستُ هنا أفشِي سرًّا أو أذيعُ مخبوءًا حين أقول: إنّ ثمة عددًا من الوقائع من هذا القبيل، فاحت رائحتُها ونشرت صورها عن طريق هذه التقنية، حتى ضَجِر منها الأسوياء وأعلنوا النكير الكبير عليها، وهو أيضًا دليلٌ قويٌ على ضحالة وسطحية هذه العقلية التي تتعامَل مع هذا النوع من التقنية التي تحتاج بحقّ إلى دراية بكيفيّة استغلالها استغلالاً ينفَع المرء في نفسه ومجتمعه وأمّته, مع تقوَى الله تعالى في ذلك، وربّما كان هؤلاء ممن حصّل على الثقافة والفهم، ولكنهم يفتقدون الأخلاق الإسلامية، بل وحتى الأخلاقيّات الإنسانية، ولم يراقبوا الله تعالى فيما بين أيديهم منها، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7].
أيها المسلمون، وبعد أن علمنا وتذكّرنا ذلك فيما يتعلّق بشرعية استخدام الآلة وحكم الإسلام فيها، ونظرة بعض من أفراد المجتمع لهذه الآلة وكيفية التعامل معها، فإنه يجدر بنا القول بحتمية الأخذ على أيدي السفهاء من الناس وبقوّة وحزم حتى وإن كانوا كبارًا وذوي جاهٍ ومنصب ومكانه؛ لأنّ كثيرًا من العوائق والمشاكل في المجتمع يكون وراءها في غالب الأحيان أولئك الأصناف من الناس، فإنّ مَن أمِن العقاب أساء الأدب، وإن الله ليزَع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، والله عز وجل أعطى ولاةَ الأمر هذا الحقّ وجعله أمانة في أعناقهم تجاه من ولاّهم الله أمرهم، قَالَ أَبو بَكرٍ : إِنَّا سَمِعْنَا النَّبِيَّ يَقُول: ((إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ)) ، وفي رواية أخرى عَنْه يَقُولُ: ((مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لا يُغَيِّرُوا إِلاَّ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ)) رواه أبو دَاوُد، وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قالت: َقَالَ رَسُولُ اللَّهِ لأسامة: ((أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟!)) ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ. وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)) رواه مسلم.
فاتقوا الله يا عباد الله، ولا تكونوا من المسرفين، فإنّ من تعدى الحدّ في استخدام النعمة انقلبت عليه نقمة وباء بالخسران، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة:87].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي وفق من شاء للهُدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، ولا تغرنكم الحياة الدنيا.
عباد الله، لقد وَجد الباحثون والمحققون من علماء الإسلام أن البدايات الأولى للفواحش هي إبداء ما أمر الله بستره، وما يتعامل به مَن في قلوبهم مرض من تشجيعٍ لانتشار الرذيلة والفساد وكشف العورات وابتزاز النساء بصورهنّ، ومطالبتهنّ بما فيه انتهاك أعراضهن، وهذا حاصل عبر الصور التي يحتالون في الحصول عليها، فالله جلَّ شأنه يأمر بالستر ويرغب فيه ويمنع من هتكه، لكنَّ شياطين الأنس والجن يأبون ذلك ويسعون لكشف العورات وإظهار السوءات كما أخبر الله عنهم في كتابه الكريم، وحذر من متابعة سبيلهم، فقال عزَّ من قائل: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:27]، وقال سبحانه قبل هذا مخبرًا عمَّا ناله إبليسُ من الأبوين الكريمين عليهما السلام: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا [الأعراف:20]، فأين العقلاء من رجال بلدي؟! وأين أهل الغيرة من رجال بلدي؟! أين الناصحون؟! أليس منهم رجل رشيد يأخذ على يد السفيه بل السفهاء الذين كثر سوادهم وظهر نقيقهم وقلّ نفعهم لأنفسهم ومجتمعهم؟!
ألا فاتقوا الله أيها الناس، وكونوا أكثر وعيا وإدراكًا، واحفظوا هذه النعَم من الزوال بالشكر واستعمالها فيما يرضي الله تعالى وفيما ينفع.
هذا وصلوا وسلموا على النبي المختار محمد بن عبد الله...
(1/3463)
الإسلام والعلم الحديث
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
عبد الله بن علي الهزاني
الرياض
20/6/1425
جامع رياض الصالحين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسلام دين حضارة وعلم وتقدّم. 2- تهمة باطلة. 3- الإعجاز العلمي. 4- ضرورة استخدام التقنية الحديثة في الدعوة إلى الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا ربكم الذي خلقكم، ومن نعمه رزقكم، جعلكم في صحة وعافية، وألبسكم لباس الستر تسترون به سوأتكم، فاتقوا الله الذي لا يخفى عليه من أعمالكم ما تسرّون وما تعلنون.
عباد الله، إن الإسلام دين حضارة وعلم وتقدّم، كما هو دين دعوة وعقيدة وشريعة، وما عرفت البشرية ذلك إلا بعد أن علّمها الإسلام وفتح لها آفاقًا واسعة في شتى أنواع العلوم، يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11]، والرسول ندَب أصحابه والأمة من بعدهم إلى التعلم واستخدام كل ما هو مفيد للمسلم في دينه وحياته، وعندما تقهقرت الأمة الإسلامية في عصور الانحطاط وتقاعست وتفرقت دويلات وجماعات متناحرة تولّى زمام القيادة أعداؤها، فاغتنموا الفرصة، وسلبوا إرث الأمة العلمي بعد سقوط الأندلس، وفعلوا فيه الأفاعيل، ومن ثم نسبوه إلى أنفسهم إلى يومنا هذا الذي نعيش فيه تقدّمًا عاليًا في مجال التقنية وعالم الصّناعة الدقيقة والسريعة. والإسلام يشجّع العلم والبحث العلميّ ويرحّب بتقدّم شتى أنواع العلوم المفيدة للبشر؛ لأن فيها آية من آيات الله تعالى، لقوله سبحانه: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]، هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15]، فكل هذه الصناعات هي من فضل الله عز وجل على عباده، وهي آية من آياته الدالة على عظمته وقدرته وأنّ البشر ـ كما قال سبحانه عنهم: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85] ـ عاجزون إلا ما هيّأه الله تعالى لهم، وحيث أنّنا نسمع دعوات مضلّلة يزعم قائلوهًا زورًا وبهتانًا أن المتديّنين يرفضون التقنيةَ والتطوّر والتقدّم العلمي، وأمثال من يطلقون هذه الترّهات من سقط الكلام قد ظلموا أنفسهم، وقبل ذلك ظلموا دينهم الذي يشجّع العلم والتعلّم بشتى أنواعِه المفيدة النافعة للبشر، والمتديّن لازمته هذه الصّفة لأنه ظهر عليه التمسّك والاستقامة على دينه أكثر من غيره، واتبع أوامره ونهى نفسه عما نهاها عنه دينه، فلم يكن متفلّتًا معطِيًا نفسَه العِنان كلّما اشتهت راح ينطلق معها حيثما توجهت.
يقال هذا ـ أيها الإخوة في الله ـ لما نراه وترونَه من العجب العجاب من حال الناس وأفعال الناس مع كل جديد وحديث. نعم، النفس البشرية مولَعة بحبّ كل جديد وحب الاستطلاع عليه، لكن ـ أيها الإخوة ـ أجزم أنّ العقلاء منكم يتّفقون معي أنّ الله تعالى زوّدنا بعقول ندرك بها الضارّ والنافع، ثم هو سبحانه لم يتركنا هملاً لعقولِنا، بل أنزل علينا شريعةً تنظم حياتنا في الصغيرة والكبيرة والخاصة والعامة، مع ربّنا ومع أنفسنا ومع الناسِ ومع الحياة بشكل عام، وهذه الشريعة تتوافق مع العقلِ السليم، قال تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سبأ:6]، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:242]، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد:4]، بل إنّ كثيرًا من علماءِ الغرب دخلوا في دين الله تعالى عندما ظهر لهم أنّ هذا الدين من خلال القرآن الكريم يشجّع العلومَ التطبيقيّة والبحثيّة، وظهرت لهم المسائل العلمية التي تطابقت مع آي القرآن الكريم، والتقنية الحديثة بشتى أنواعها في الغالب أنها تصنّع في دول غير مسلمة، وديننا كما أسلفت لكم لا يمنعنا من الاستفادة منها إذا لم يكن فيها ـ أي: في ذاتها ـ ضررٌ أو مخالفَة شرعية، أو استخدمت لغرضٍ ينافي مقاصدَ الشريعة كتحليل حرام أو تحريم حَلال أو إفساد في الأرض أو إيذاء لمسلم، فهنا ينبغي لنا أن ندرِك خطورةَ ذلك على الفردِ والمجتمَع، وأنها أصبحت محرّمة في هذه الحال، مثال آلاتِ التّصوير وغيرها من سائر الآلات والأجهِزة والأدوات، وهذه الأجهزة الدقيقة والمعدّات والمحرّكات الكبيرة وغيرها نعمة من نِعَم الله تعالى على عبادةِ سخّرها لهم: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان:20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله صاحبِ المنّة والفضل على عباده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلّم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ أيها الناس ـ لعلّكم تفلحون.
أيّها المسلمون، لا شكّ أنّنا في عصرٍ اعتمَد النّاس فيه اعتمادًا كبيرًا على الآلة، وهذه الآلات كما أسلَفنا سلاح ذو حدّين، وهي على حسَب مستخدِمها، فإن كان المستخدِم ممن عرف حقَّ الله تعالى فيها وراقَب الله عز وجل عند استعمَالها صيّرها نعمةً مفيدة بل ووسيلةً نافعة للدّعوة إلى دين الله تعالى ونشر الفضيلة ونصح الأمة، ولنعلم جميعًا أنّنا محاسَبون على هذه النّعَم التي أوجدها العزيز الحكيم بتعليم الإنسان بما أعطاه من العقل، وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:5]، وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31]، والرسول يقول: ((أنتم أعلم بشؤون دنياكم)) فيما يصلحها ولا يخرج عن حدود الشريعة، وربّنا عز وجل أخبرنا أنه سيُرِي خلقه آياته في الآفاق حتى يتبيّن لهم الحقّ من دين الله، فيهتدوا ويعرفوا لله حقّه من التوحيد والعبادة في كل ما أنعم الله به عليهم: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53].
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد...
(1/3464)
سلاح ذو حدّين
فقه
قضايا فقهية معاصرة
عبد الله بن علي الهزاني
الرياض
4/7/1425
جامع رياض الصالحين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تميّز شخصية المسلم. 2- سوءِ استخدام بعض الناس للتقنية الحديثة. 3- ضرورة تطويع التقنية الحديثة لخدمة الإسلام. 4- محاذير الاستخدام السيئ للتقنية الحديثة. 5- تحريم أذية المسلمين. 6- واجبنا تجاه هذا الانحراف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، إن التقوى حصنٌ حصين وملاذ أمين وأمانٌ للخائفين يوم يُجمَع الأولين والآخرين بين يدي رب العالمين، ألا فاتقوا الله تعالى ـ أيها الناس ـ لعلكم ترحمون.
عباد الله، لأهمية الموضوع البالغة ولاعتماد الناس كلّ الناس على استخدامها سبق الحديث معكم في جمعَتين ماضيتين حول هذه التقنية الحديثة بآلاتها وأجهزتها ومخترعاتها المتسارعة، والتي غزَت العالم من كل حدَبٍ وصوب، فمنها المحرّم لذاته، ومنها ما يشمله حكم التحريم تبعًا للعمل المستخدم فيه، والمسلم ليس كغيره من الناس في تميّزه وانتمائه لهذه الشريعة الغراء التي رفعت قدر المسلم، وأعلت مكانته لما يحمله من توحيد لله تعالى وانتظام في صفوف الموحّدين خلف محمد بن عبد الله ، لذا عليه أن يحفظ هذا التميّز وهذه المكانة، ولا يتّبع كل ناعق، ولا يكون إمّعة إن أحسن الناسُ أحسن وإن أساؤوا أساء، ولكن عليك ـ أيها المسلم ـ أن توطِّن نفسك على نور من ربك وهدى نبيك.
أيها المسلمون، ولِما نلحظه من سوءِ تعاملِ شريحة من الناس مع هذه التقنية الحديثة على اختلاف أنواعها كانت هذه التّذكرة على مدى ثلاث جمَع ذِكرى لقوم يعلمون، وإعذارًا إلى الله يومَ الوقوف بين يديه.
أيها الناس، وإن الواجب علينا فيما سبق بيانه حولَ ذلك الاستخدام السيئ لهذه الآلة سواءً كانت مركبة أو مما يستخدِمه الناس في سائر شؤونهم مما ذكر لكم، فإنّه ينبغي لنا ونحن ندين الله تعالى بهذا الدين العظيم ورضينا به دينا نتعبّد الله به ونحتكم إليه أسلَمَةُ هذه التقنية، بمعنى جعلها مسخَّرة لخدمة تعاليم الإسلام والدعوة إلى الإسلام ونشر الفضيلة وتقديم النصيحة للمسلمين وتطويعها فيما ينفع الفردَ والمجتمع، لا أن يحصلَ ما لا يخفى عليكم من أمور منكرَة تنمّ عن عقلية أقرب ما تكون إلى البهيمية والجاهلية العمياء.
أيّها الأحباب في الله، وإنّ مما طغى فعله من فئات عمريّة مختلفة في استخدام هذه التقنيات وجعلها مدخلاً جديدًا من مداخل الشيطان، والتي سوَّل بها لكثيرٍ من ضحايا التربية الإلكترونية والتربية الفضائية الخاطئة أن يسيئوا استخدامها بشكل تكون عاقبته وخيمة على المجتمع عاجلاً وعلى المستخدم آجلاً، وراح شرّها يستشري في المجتمع، فلم تعد تخلو مدارس أو جامعات أو أسواق أو مناسبات من وجود متربّصين عابثين وعابثات، همّهم أذية المسلمين وحبّ نشر الفاحشة بينهم، حيث تضمّنت هذه الأفعال المشينة ثلاثةَ محاذير شرعية وقع فيها من قلّ نصيبه من العقل والفهم والعلم والخشية والتقوى، وهذه المحاذير الثلاثة:
أولها: حب نشر الفاحشة بين المسلمين، والله تعالى قد توعد مَنْ هذه حالُه وصفته فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19]، أي: يُحبون أن تشيعَ وتظهر وتنتشر، يحبون ذلك ويعمَلون له، كما قال قتادة رحمه الله: "أن يظهر الزنا وفعل القبيح"، وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: "أي: الأمور الشنيعة المستقبحة المستعظمة، فيحبّون أن تشتهر الفاحشة فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:19]، أي: موجعٌ للقلب والبدن، وذلك لغشِّه لإخوانه المسلمين ومحبة الشَّرِّ لهم وجراءته على أعراضهم"، فإذا كان هذا الوعيد لمجرّد محبة أن تشيع الفاحشة واستحلاء ذلك بالقلب، فكيف بما هو أعظم من ذلك، وهو تولي نشره ونقله بالفعل والقول؟! وهذا من أبشع الظلم؛ لأنه من إشاعة الفاحشة بين المسلمين فعلاً".
والأمر الثاني: ضدّ الأول، ألا وهو الستر على المسلمين وعدم التعرّض لهم بالأذى الحسّي والمعنوي، فالذي يحبّ الإشاعة تنافى فعله مع حبّ الستر، فعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ؛ لا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) رواه البخاري، وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ عن النبي قال: ((لا يستر عبدٌ عبدًا في الدنيا إلا سترهُ الله يوم القيامة)) رواه مسلم، فالواجب على المسلمين أن يكونوا جسدًا واحدًا وبنية متكاملة، يحنو بعضهم على بعض، ويستر بعضهم بعضا، لا أن يتقصّد بعضهم أذيّة بعض وإلحاق الضرر بأخيه المسلم، والله تعالى ذكره ستّير يحبّ الستر.
أيّها المسلمون، إن هذا الاستخدام السيئ لهذه النعم تضمّن أمرًا خطيرًا على الأمّة والفرد، ألا وهو المجاهرة بالمعصية والتفاخر بها والتباهي بين الناس بفعلها، وهذا هو الأمر الثالث، فعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ: يَا فُلانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ)) متفق عليه. قال ابن بطال: "في الجهر بالمعصية استخفاف بحقّ الله تعالى ورسوله وبصالحي المؤمنين، وفيه ضربٌ من العناد لهم، وفي التستّر بها السلامة من الاستخفاف، لأن المعاصي تُذلّ فاعلها، ومن إقامة الحدّ إن كان فيه حد، ومن التعزير، والذي يجاهر بالعاصي يفوته ذلك"، أرأيتم ـ يا عباد الله ـ كيف أن ربّكم تبارك وتعالى يحب الستر؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي يمهل ولا يهمل وهو الحليم الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه البررة.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس.
أيها المسلمون، هذه الأمور الثلاثة آنفة الذكرِ شملها أمر عظيم، ألا وهو أذية المسلمين المؤمنين، فعن ابن عمرَ قال: صعد رسول الله المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: ((يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يُفْضِ الإيمانُ إلى قلبِه، لا تُؤذُوا المسلمين، ولا تُعيِّروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يَفْضَحْهُ ولو في جوف رحله)) رواه الترمذي وغيره، وقد قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].
أيها المسلمون، هذه الأمور الثلاثة ارتبطت ارتباطًا وثيقًا باستخدام التقنية وأجهزتها المختلِفة في هذا الزمن بين من لا خلاق لهم، بدل أن يستخدموها في نشر الفضيلة والدعوة إلى الله والنصيحة للمسلمين ونشر العلم النافع استخدمها أناس ماتت ضمائرهم وعميت قلوبهم وخربت ذممهم وغرّتهم الأموال التي بين أيديهم والفراغ الذي ملأ أوقاتهم، فلم يعد لأعراض المسلمين وحرماتهم ومشاعرهم قيمة عندهم، قال تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6]، وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:93]، وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه ابْنُِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ : ((نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ)) رواه البخاري، وقال القائل:
إنّ الشبابَ والفراغَ والجِدَه مفسدة للمرءِ أيّ مفسَده
فمن المسؤول ـ يا عباد الله ـ عن هذه المهازل؟! هل هم الآباء والأمهات؟! هل هي الجهات التي أناط بها ولي الأمر الحفاظ على الأمن وأعني بالأمن الأمن الشامل الذي أنيط بعدة جهات حكومية؟! هل هو المجتمع؟! في الحقيقة ـ أيها الإخوة ـ إننا جميعًا مسؤولون أمام الله تعالى حكامًا ومحكومين، ثم أمام ضمائرنا وأخلاقنا.
يا عباد الله، إن القضية خطيرة جدًا، وإن سفينة المجتمع ستغرق إذا لم نقم لله بالحجة، إذا لم يقم كلّ واحد منا بواجبه المعلق في عنقه من النصيحة وإنكار المنكر والأخذ على أيدي السفهاء من البنين والبنات والزوجات، وعدم التساهل معهم فيما من شأنه أن يفضيَ إلى منكر ظاهر أو أذيّة للمسلمين بسبب التعامل السيئ والتصرف الأهوج مع هذه الآلات والأجهزة التي أنعم الله بها علينا، وإلا انقلبت علينا نقمة وشرا.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3465)
أخلاق الصائمين
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, مكارم الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
8/9/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة بلوغ رمضان. 2- المقصد من الصيام. 3- الصوم جنة. 4- لا رفث ولا سخب. 5- فضل الحلم والصفح والعفو. 6- صوم الجوارح. 7- التحذير من القنوات الفضائية الهابطة. 8- ذم الاستهزاء والسخرية بالدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
معشرَ المسلمين، أنتم في أيّامٍ مباركة وليالٍ فاضلة تفضَّل الله بهَا علَيكم، بلَّغكم صيامَ رمضان، وهيَّأ لَكم أسبابَ الخير، ورتَّب على ذلك العطاءَ الجزيلَ والثواب العظيم، فاشكروا الله تعَالى على نِعمَته، وسلوه المزيدَ من فضله وكرمِه.
أيّها المسلِم الصّائم، إنَّ صيامَك لم يَأتِ لامتحانِ قُدرتك على مجرَّد الصّبر عن الطّعامِ والشّرابِ، لم يَأتِ لامتِحانِ صَبرك عن الطّعامِ والشراب فحَسب، وإنما جاء الصّومُ لتهذيبِ أخلاقِك وتطهيرِ قلبِك وتزكيَةِ نفسِك وإعدادِك في المستقبَل لتسيرَ على الطريقِ المستقيم عِلمًا وعملاً، إنَّما جاء الصّومُ إيمانًا بالله وعِبادةً لله وقُربة نتقرَّب بها إلى الله، إنّما جاء الصومُ ليروِّضَ النفوس على أعمال الخيرِ ويعِدّ المسلم في حاضِره ومستقبله لكلِّ عملٍ طيّب، ((الصّلوات الخمس والجمعةُ إلى الجمعة ورمضان إلى رمضانَ مكفِّرات لما بينهن ما اجتُنبت الكبائر)) [1].
أخي الصائم، إنَّ الصومَ تركٌ لمشتهياتِ النفس، ثم أمرٌ ثاني بُعدٌ عن الرذائلِ القوليّة والفِعلية، وما أعظمَ هذا على النفوس، وما أيسرَه على من يسَّره الله عليه.
أخي الصائم، اسمع نبيَّك وهو يقول لك: ((الصومُ جُنّة، فإذا كان يوم صومِ أحدِكم فلا يرفث ولا يسخَب، وإن أحدٌ سابّه أو قاتله فليقل: إني امرؤٌ صائم)) [2].
أخي المسلم، الصوم جُنّة، سِتار ووِقاية يقيك ما حرّم الله عليك، إذًا فاتَّخِذه جُنّة لتبتعِد به عن مخالفةِ الشرع. ((إذا كان يوم صومِ أحدِكم)) ماذا تكون حاله؟ ((لا يرفث لا يسخب)). الرفثُ يكونُ في الأقوالِ، وسواء كان الرفَث فيما بين الرجلِ وامرأته مما قد يدعُوه إلى الوقوعِ في المحذور، أو رَفَث مع أيِّ إنسان كائنًا من كان. فالرَفَث إذا كان مع امرأتِك التي يُخشى أن يكونَ ذلك القول مقرِّبًا إلى انتهاك حرمَةِ الشهر فلأن يكونَ مع امرأةٍ أجنبيّة أشدّ وأعظَم إثمًا وحرمة. والرَّفَث سواء كان في العَلاقاتِ الزّوجية، أو الرَّفَث في الأقوال الساقِطة والألفاظ الهابِطَة التي لا خيرَ فيها. فالمسلم مِن خُلُقه أنه ليس بالسّبّاب ولا باللّعّان ولا بالفاحِشِ البذيء، هكذا يقول : ((ليس المؤمِن بالسّبّابِ ولا باللّعَّان ولا بالفاحِش ولا البذيء)) [3]. إنّه طُهرة للِسانك ليعوِّدَه الخيرَ ويهذِّبَ أقوالَه حتى لا ينطِقَ اللسان إلاَّ بما هوَ خير له في أمرِ دينه ودنياه. ثم أيضًا ((لا يسخب))، بمعنى: أن يتحلَّى بالأخلاقِ الكريمة؛ حِلمٌ وعَفو وصفحٌ وإِعراض عن الجاهلين، يكونُ الصوم يحمِلُك على الحِلمِ والصّفح والعَفو والإعراضِ عن الجاهلين. هكذا الصومُ يكسبك هذا الخلقَ الجمّ؛ بأن لا تكونَ سَخّابًا، بأن لا تكونَ ذا خلُق سيّئ، بأن لا تكونَ ذا طيشٍ وسَفَه ومجازفة في الأمور من غيرِ رويّة وأناءَة.
أخي الصائم، إنّ الإسلامَ يدعو المسلم إلى الحِلم في أموره والرّفق في أحواله، ولذا يقول الله جل وعلا: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34، 35].
أجَل أيّها المسلم، إنّ هذه المواقِفَ مواقفُ عظيمة، ومن المعلومِ أنّ اختلافَ الناسِ قد يؤول أحيانًا إلى نزاعٍ بل إلى قتالٍ والعياذ بالله، وأنّ المواقفَ الحرِجة قد يحسِمها حِلمُ حليم ورِفق رفيق وسماحةُ إنسانٍ وعفوه وخلُقه، فيسمَع من الأقوال السيِّئة لكنّه ذو رجاحةٍ في العقل وطمأنينة، لا تستفزُّه الأمور، ولا تزعِجه الأحداث، بل هو ثابتُ الرأي ثابِتُ الجأش، يجهَل عليه الجاهلُ فيعرِض عنه، ويسفَه السفيه فيعرِض عنه، ويتذكَّر قول الله: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]، ويتذكَّر قوله جلّ وعلا أنهم يقولون: عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ، وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55]. فمَن كان ذا حِلمٍ حسَمَ المواقفَ بحِلمه، وكان حلمه سببًا لانتهاءِ كثيرٍ من المشاكل، وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، وقال: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37]، وقالَ أيضًا: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43]، وهنا يقولُ المصطفى : ((فإن أحَدٌ سابّه أو قاتلَه فليقُل: إني امرؤ صائم))، فما تركتُ الجوابَ وما أعرضتُ عن الجدالِ لعجز، لكني صائمٌ، وصومي يمنَعني أن أخوضَ مع الجاهلين في جهلِهم وأن أطيش مع الطائشين، ولكنني أتقبّل كلَّ الأمور بصَدر رحبٍ وحِلم وأناءة، وكم كلماتٍ بذيئة أوقدَت نارَ عداوةٍ، وكم من حِلم أطفأ تلك الأمورَ كلَّها.
أيّها الصائم، إنَّ صومَنا يجب أن يسيطِر على حواسِنا؛ سمعِنا وأبصارنا وتفكِيرِنا وكلّ جوارحِنا حتى يكون لهذا الصومِ أثرٌ في نفوسنا. يصوِّر ذلك جابر بن عبد الله صاحبُ رسول الله حيث يقول: (إذا صمتَ فليصُم سمعك وبصرُك ولسانُك عن المحارِم، ودَع عنك أذَى الجار، وليكُن عليك سكينةٌ ووقار يومَ صومِك، ولا تجعل يومَ صومك ويومَ فِطرك سواء) [4].
نعم، هذا الصّومُ الكاملُ، صومٌ يشمَل السمعَ، فيصمّ أذنَه عن كلّ قولٍ بذيء، عن نميمةٍ يلقيها نمّامٌ يُريد الإفسادَ والتّفرقَة بين الأصحاب، عن غيبةٍ يُنتَهَك فيها عِرضُ المسلم بغيرِ حقّ، عن بهتٍ وعُدوانٍ يقوله البَعضُ عن البعضِ بغيرِ حقّ، يصمّ سمعَه أن يَسمعَ باطلاً يخالِف الشّرعَ. يصوم البصرُ فلا ينظرُ إلى ما حرّم الله عَليه النظرَ إليه، ولا يتَطلَّع للنّظر في النساء والتّطلُّع إليهنّ وإطلاق البَصَر حيث يشاء. يَصوم اللسان فلا يقولُ فُحشًا وزورًا ولا إثمًا وباطلاً، لا يذكُر الناسَ إلاَّ بخير، فلا يبهَتهم ولا يظلمهم ولا يقَع في أعراضِهم بغير حقّ. (ودَع عنك أذَى الجار)، الجارُ مطلوبٌ إكرامُه، ((ومن كان يؤمِن بالله واليومِ الآخر فليكرِم جارَه)) [5] ، وفي لفظ: ((ومَن كان يؤمِن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره)) [6]. إذًا المطلوبُ من الصائم أن يكونَ الصوم مهذِّبًا لسلوكه وأخلاقِه، مقوِّمًا لما أعوجَّ من أخلاقه، جاعلاً صيامَ المسلم على أحسنِ سيرةٍ وأكمل أخلاق. (ودع عنك أذَى الجار، وليكن عليك سكينة في صومِك، ولا يكن يومُ صومِك ويوم فِطرك سواء). لا بدَّ أن يكونَ للصوم أثرٌ علينا في أعمالِنا، في أقوالنا، في سلوكنا في تعامُلنا؛ لكي يعِدّنا ذلك إلى مستقبَلِنا بتوفيقٍ من الله ورحمة، ولذا كان سلفُكم الصالح يتمنَّونَ رمضانَ ويتطلَّعون له لعلمِهم بفوائدِه الحاضِرة والمستَقبلة.
أيّها الصائم، يقول نبيُّكَ : ((مَن لم يدَع قولَ الزّورِ والعَملَ به والجَهلَ فليسَ لله حَاجةٌ في أن يَدعَ طعامَه وشَرابَه)) [7] ، بمعنى أنّ من كانَ الصّومُ [عنده] مقتصِرًا على تركِ الطّعام والشراب، ولكن هذا الصّائم فلم يمتنِع عن كذبٍ ولا عن نميمةٍ ولا عن شهادةِ زور ولا أقوالٍ بذيئة ولا أخلاقٍ سيّئة، ولم يمتَنع عن غشٍّ ولا كذِب ولا باطل ولا ادِّعاء فقرٍ وهو غنيّ، فإنّ هذا ليس لله في صيامِه حاجَة، ما جاء الصومُ لأجلِ الطعام والشراب، إنما تُرِك الطعام والشراب ليكونَ وسيلةً لما فوقَ ذلك من تهذيبِ النّفس وتزكيةِ الأخلاق والقِيَم.
فلنتَّقِ الله ـ معشرَ الصائمين ـ في صيامِنا، ولنراعِ آدابَ الصيام؛ لنكون من الصائمين حقًّا الذين يأمَلون من الله قبولَ صِيامهم ورفعَ درجاتهم، وأن يحقِّقَ الله لهم ما وعَدَهم على لسانِ نبيِّه حيث يقول: ((كلُّ عمَلِ ابن آدم له مضاعف؛ الحسنَة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضِعف، قال الله: إلا الصوم فإنّه لي، وأنا أجزي به، يدَع طعامه وشرابَه لأجلي)) [8]. فالصومُ أضافه الله إليه تَكريمًا وتفضيلاً، وجَعَل ثوابَه غيرَ مقدَّرٍ بعدَد، بل ثوابٌ لا يعلَم قدرَه إلاَّ الله.
حفِظ الله صيامَنا مِن كلّ سوء، وصانَه من كلّ النقائص، وجعَلَنا وإيّاكم من المتنافِسين في الأعمالِ الصالحة المسابقين إلى الخيرات، إنّه على كلّ شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:133-135].
باركَ الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليهِ، إنّه هو الغفور والرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الطهارة (233) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه ابن أبي شيبة (6/162)، وأحمد (1/ 404)، والبخاري في الأدب المفرد (312)، والترمذي في كتاب البر، باب: ما جاء في اللعنة (1977)، وأبو يعلى (5088)، والبيهقي في الكبرى (10/193) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه نحوه، وقال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه ابن حبان (192)، والحاكم (29)، ورجح الدارقطني في العلل (5/92) وقفه، وهو في السلسلة الصحيحة (320).
[4] أخرجه ابن المبارك في الزهد (1308)، وابن أبي شيبة في المصنف (2/271)، والحاكم في معرفة علوم الحديث (ص20)، وابن حزم في المحلى (6/179)، والبيهقي في الشعب (3/317) من طريق سليمان بن موسى عن جابر، قال الحاكم: "سليمان بن موسى الأشدق لم يسمع من جابر ولم يره، بينهما عطاء بن أبي رباح في أحاديث كثيرة".
[5] أخرجه البخاري في الأدب (6019) عن أبي شريح رضي الله عنه، ومسلم في الإيمان (47) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الأدب (6018، 6136)، ومسلم في الإيمان (47) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في الأدب (6057) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه مسلم في الصيام (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، لنصُن أسماعَنا عن الاستماعِ إلى ما حرّم الله، ليكن الصوم على السّمع حتى لا نسمَعَ باطلاً، وحتى لا نرَى باطلاً، وحتى لا نشهَد مظاهرَ سوءٍ.
أخي المسلم، في هذا الشهرِ المبارَك كم من قنواتٍ تبثّ برامجَ هابطة وتنشُر مسلسلاتٍ ضالّة، فيها عداءٌ للإسلام ولمزٌ لآدابِه وسُخريّة بأخلاقِه وفضائِلِه وأمورٌ وأمور كثيرة، كم تبثّ من قَنوات فضائية ومسلسلاتٍ هابِطة وبرامج ساقطة، عندما يتأمّلها المسلم يرى فيها عيبًا للإسلامِ ولمزًا لأخلاقه وسخريّة بآدابه واستهزاءً بمحرَّماته وسخريّة بأهل الدين والمنتسِبين إليه بأيّ وسيلة كانت. إنّ الاستماعَ لهذا أو مشاهدةَ هذه الأمور لأمورٌ تخدِش في صيام العبد.
فيا أيها المسلم، إنّ الله يقول: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68].
فيا أخِي، إن كنتَ تشاهِد هذه المسلسلاتِ وترى ما فيها من هذه الأمورِ الهابِطة وأنت لا تستطيعُ أن تبدِّلَها أو تغيِّر من مَنهجِها فالأولى لك أن تحفَظ عينَيك من النظرِ وأذنَك من الاستماع؛ ليسلمَ لك دينُك، فإنك ترى في كثيرٍ من هذه القنوات وهذه المسلسلاتِ ما فيه شرٌّ وبلاء، نسأل الله أن يهديَ ضالَّ المسلمين ويثبِّت مطيعَهم.
إنَّ حلَّ المشاكل وإصلاحَ الأوضاع والأخطاء لا تكونُ بهذه الطريقة ولا بهذه الأساليب، ولكن تكون بالتوجيهِ السليمِ والنصيحة القيِّمة الهادفة والتوجيهِ الطيِّب الذي يقصَد به الإصلاحُ، ويُقصد به الإرشادُ والتنبيه عن الأخطاء وإرشاد كلِّ مخطئ وبيان الحقّ له، أما من خلالِ اللّمز والهمزِ بالإسلام وآدابِه فليست هذه حلولاً لهذه المشاكلِ، ولكن هذه القنواتِ العظيمةَ التي تبثّ في هذا الشهرِ مسلسلاتٍ هابِطة تتنافس في بثِّ هذه المسلسلاتِ ونشرِ هذه الأمور إنها لخطأٌ بلا إشكال، وإنَّ المسلم وهو يعلَم هذا ليجِب عليه أن يحفَظَ بصرَه وسمعه أن يرى ما يسيئُه من محاربةٍ للإسلام بأخلاقِه وسيرتِه وفضائله.
إنَّ دينَنا الإسلاميّ الذي شرَّفنا الله به دينُ الحقّ والهدى، يجب على المسلِمِ أن يعظِّمَ أوامرَه ويعظّم نواهيه ويعظِّم من يعظِّم هذا الدينَ، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30]، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]. والمسلمُ يتأدَّب بآدابِ الإسلام، ويعلم أنّ السخريةَ بالإسلام وأهلِه نَقص عظيم وبلاءٌ ووسيلة للنّفاق والعياذ بالله، والله جلّ وعلا قد ذمَّ قومًا وكفَّر قومًا سخِروا بالرسول وأصحابِه ووصَفوهم بأنهم الجُبَناء وبأنهم أهلُ الهلَع والطمَع وبأنهم وبأنهم.. قال الله عنهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65، 66]، قال قائلهم: يا رسولَ الله، إنه حديثُ الرّكبِ نقطَع به عنّا الطريقَ، حينما قالوا: ما رأينَا مثلَ قرائنا هؤلاء؛ أرغَبَنا بطونًا وأَكذَبَنا ألسُنًا وأجبَنَنا عند اللّقاء، قالوا هذا في تَبوك، يتحدَّثون في مجالسهم سخريَّةً وعيبًا بالنبيّ وأصحابه، بأنهم جُبَناء عند اللقاء، وأنهم أهل نهمةٍ في الأكل، وأنهم كذبة في الأقوال، ألسنتهم كاذبةٌ، ومواقفهم جبانة، وأنهم وأنهم.. والله جلّ وعلا كفَّرهم بهذه المقالة؛ لأنّ السخريةَ بالنبيّ وأصحابه والمتمسِّكين بسنّته والعاملين بشريعتِه والثابتين على ذلك إنما هي استهزاءٌ بربِّ العالمين وسخريّة بربِّ العالمين، ولذا قال الله لهم: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ. قال الصحابيّ: فرأيتُه يتبَع ناقةَ النبيّ ويقول: يا رسول الله، ما هو إلا حديثُ الركبِ نقطَع به عنّا الطريقَ، والنبيّ يقول له: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ، ما يزيده على ذلك [1] ، إنها لمواقف خطيرة، وإنّ السخريةَ بأخلاق الإسلام وآدابِ الإسلام لا تصدُر من مسلمٍ يخاف الله ويتّقيه ويرجوه.
إنَّ المسلم حقًّا يعظِّم محمّدًا ، ويعَظّم سنّتَه، ويعظّم أخلاقَه، ويعظِّم أخلاقَ المتّبعين له، ويعلم أنهم حقًّا هم الذين على الطريق المستقيمِ والمنهج القويم الذي ارتضَاه الله جلّ وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21]، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح:29]. هكذا أصحابُ محمّد السّابقون بالخيرِ، إنّ السخريةَ بهم وبأخلاقهم وأعمالهم وبسيرتهم وبما كانوا عليه نَقصٌ في حقّ المسلم.
فليتَّق المسلمون ربَّهم، وليراقبوا الله فيما يأتون وما يذَرون، وليحذر المسلمُ من مشاهدةِ ما يضرّه في دينه ويخدش صيامَه.
أسأل الله أن يحفظَنَا وإيّاكم بالإسلام، وأن يثبِّتنا وإياكم على الصراط المستقيم، وأن يحلقَنا وإياكم بالصالحين من هذه الأمّة من النبيِّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقًا، ذلك الفضلُ من الله وكفى بالله عليمًا.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلّ بِدعة ضَلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنَّ يدَ الله عل الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمَرَكم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائِهِ الرّاشدين...
[1] أخرجه الطبري في تفسيره (14/333) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما نحوه، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر رحمه الله.
(1/3466)
الأسباب المنجية من عذاب القبر
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
27/7/1420
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- همّ المؤمن. 2- أهوال القبر وعذابه ودواعيه. 3- الأسباب المنجية من عذاب القبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أكبر ما يقلق أهل الإيمان، ويفزع أهل الإحسان، هو مصيرهم يوم خروجهم من هذه الدنيا، إلى أين الذهاب؟ إلى رحمة أم عذاب؟ إلى نعيم أم جحيم؟ فلقد رأينا أكثر الناس يجتهدون كل الاجتهاد لاجتناب أسباب المرض وأسباب الفقر، يتخذون جميع الأسباب لئلا يقعوا في آفات الدنيا ومصائبها، فأولى بهم أن يجتهدوا لاجتناب العذاب الذي لا ريب في وقوعه، ونحن نعلم أن أكثر الناس له معرَّضون، والناجون منه قليلون، فظواهر القبور تراب، وبواطنها حسرات وعذاب، تراها بالحجارة المنقوشة مبنيات، وفي باطنها الدواهي والبليات، تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها، قد حيل بينها وبين أمانيها، تالله لقد وعظتْ فما تركت لواعظ من مقال، ونادت: يا عُمّار الدنيا لقد عمرتم دارا موشكة على الزوال، وخربتم داراً هي لكم دار المآل، عمرتم بيوتاً لغيركم سُكناها، وخربتم دارا ليس لكم سواها.
وسنتحدث اليوم عن أسباب النجاة من عذاب القبر، فاعلموا أن الأسباب المنجية من عذاب القبر سبعة:
1- الدعاء والتعوذ بالله منه: فلم يُعبد الله تعالى بمثل الدعاء، فهو العبادة كما قال رسول الله. إنه التذلل والخضوع والافتقار له سبحانه، فأكثروا من أن تقولوا: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، كأنك بدعائك تقول: اللهم إنه لا حول لي ولا قوة، وسأقدم يزما على القبر، فليس لي سوى عفوك ومنِّك وكرمك.
فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظم ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
ولما كان معظم الناس يتهاونون بالدعاء، وينسون التعوذ بالله من عذاب القبر، علمنا رسول الله وأمرنا أن نقول في آخر صلاتنا بعد التحية قبل السلام: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال)) ، حتى إن بعض السلف كان يأمر من لم يقل هذا الدعاء بإعادة الصلاة.
كما علمنا رسول الله أن نقول في جملة أذكار الصباح والمساء: ((ربِّ، أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر)).
إذا رآك الله تعالى وسمعك تتضرع إليه بذلك، تسأله النجاة من أعظم المهالك، فإنه يستحي أن يرد عبده خائباً وهو القائل: ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وهو القائل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعدّ لكل ما يُتوقع
يا من يُرَجَّى في الشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع
2- اجتناب الأسباب الموجبة لعذاب القبر والتوبة إلى الله منها: ومن تلك الأسباب ترك الصلاة حتى يخرج وقتها، والافتراء والكذب على الناس، وأكل الربا، والزنا، وأذى المرأة لزوجها وجيرانها، وإتعاب المرأة زوجها بالنفقة، وإفطار يوم من رمضان لغير عذر، والغلول، والمشي بالنميمة، وترك الاستبراء من البول.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: إن ارتكاب ما هو أعظم من هذا يوجب عذاب القبر من باب أولى، قال: فالذي ينقل الأخبار ليوقع العداوة بين المسلمين وإن كان صادقاً عذِّب في قبره، فما بالك بمن يكذب في ذلك؟! فهو أشد عذاباً، ومن ترك الاستنزاه من البول الذي هو بعض واجبات الصلاة، فالذي يترك الصلاة أعظم منه عذاباً، والذي سرق شملة من المغنم وله فيها حق لأنه قاتل عذِّب في قبره، فما بالك بمن يأخذ ما ليس له فيه حق؟! إذن فليسارع العبد إلى التوبة من ذلك كله.
3- قراءة سورة الملك: أي حفظها والمبادرة إلى فهمها، فقد روى أصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن سورة في القرآن ثلاثون آية شفَعَت لصاحبها حتى غفر له: تَبَارَكَ ?لَّذِى بِيَدِهِ ?لْمُلْكُ )). وصح أن النبي سماها المانعة.
لذلك ثبت عن جمع من السلف أنهم كانوا يعلّمون أهليهم وأولادهم سورة الملك، ولا ينامون حتى يقرؤوها.
4- الشهادة في سبيل الله: فقد روى الترمذي وابن ماجه عن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله : ((للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويُشفَّع في سبعين من أقاربه)).
وروى النسائي أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟! فقال رسول الله : ((كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله مثبت القلوب، غافر الذنوب، ساتر العيوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كاشف الكروب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله وصفيه، إمام الأنبياء وسيد الأتقياء وأشرف المرسلين، اللهم صل عليه وسلم وبارك، وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
أما بعد: فمن أسباب النجاة من عذاب القبر أيضا:
5- الموت مرابطاً في سبيل الله: والرباط هو الإقامة بثغور البلدان الإسلامية وحدودها لحراستها من العدو، وفضل الرباط عظيم، فقد روى مسلم عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمِن الفتّان)).
وفي سنن الترمذي عن فضالة بن عبيد أن النبي قال: ((كل ميت يختم له على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله، فإنه ينمَّى له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتنة القبر)).
وهناك مبشرات للعبد تبشره وتبشر كل من يحبه بأنه ناجٍ إن شاء الله من عذاب القبر، قد عدّها بعض العلماء أسباباً، وفي الحقيقة هي ليست من عمل العبد، لذلك نعدها من المبشرات:
6- الموت بداء البطن: ففي سنن الترمذي والنسائي بسند صحيح عن عبد الله بن يسار قال: كنت جالساً وسليمان بن صُرد وخالد بن عرفطة، فذكروا أن رجلاً توفي مات ببطنه، فإذا هما يشتهيان أن يكونا حضرا جنازته، فقال أحدهما للآخر: ألم يقل رسول الله : ((من قتله بطنه فلن يعذّب في قبره)) ؟! فقال الآخر: بلى.
7- الموت يوم الجمعة: ففي سنن أبي داود والترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو عن النبي قال: ((ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر)).
هذه ـ عباد الله ـ أسباب العذاب وأسباب النجاة من عذاب القبر، ذكرناها لإخواننا المؤمنين، فمن صدرت منه هفوة توجب له العذاب جاءت أسباب النجاة بألف شفيع، ولا أذكركم إلا بأهمها: الدعاء واجتناب أسباب العذاب وإلى الله المرجع والمآب.
فنسأل الله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يجيرنا وإياكم من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال والحمد لله رب العالمين.
(1/3467)
علامات الساعة الصغرى (1)
الإيمان
أشراط الساعة
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
4/8/1420
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اقتراب الساعة باعتبار ما مضى من عمر الكون. 2- قيامة كل إنسان موته. 3- بعض علامات الساعة التي وقعت. 4- بعض علامات الساعة التي نعايشها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: حمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على رسول الله.
فإننا جئنا إلى هذه الحياة بإرادة واهب الحياة ومبدعها، وسنرحل من هذه الحياة بإرادة قابض الحياة وسالبها، أقوام يأتون، وآخرون يرحلون، مثلهم كمثل أمواج البحر المتلاحقة، تنكسر على الساحل فتخلفها أخرى، مثلهم كمثل النهر المتدفق الجاري، وذلك الماء الذي تراه الآن ليس هو الماء الذي تراه بعده وهكذا، ثم ماذا؟
هذا الامتداد سوف ينقطع لا محالة، سيفنى الوجود كله، وسيدمّر الكون كله، يوم يأتي الله عز وجل على الشمس فيكوّرها، وعلى البحار فيسجرها، وعلى الجبال فيسيّرها، وعلى الأرض فيصدّعها.
وهل هذه هي النهاية؟ كلا وألف كلا.
إنها بداية النهاية، إنها الساعة عباد الله، قال تعالى: وَإِنَّ ?لسَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَ?صْفَحِ ?لصَّفْحَ ?لْجَمِيلَ [الحجر:85]، وقال عز وجل: ?للَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ [النساء:87]، وقال: إِنَّ ?لسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا [طه:15]، وقال: وَأَنَّ ?لسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا [الحج:7]، وقال: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ [فاطر:5].
وقد بين الله لنا في كتابه أنها قريبة، قريبة جداً، فقال: أَتَى? أَمْرُ ?للَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1].
ومن نظر حواليه بقلب مبصر وعقل متدبر أيقن قربها واستشعر دنوَّها، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ?للَّهِ قِيلاً [النساء:122].
ولعل قائلاً يقول: كيف يخبرنا الله تعالى بقربها، وقد مضى على هذا الخبر أربعة عشر قرناً؟!
فالجواب ـ عباد الله ـ من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: إنها قريبة في علم الله وتقديره، وتقدير الله غير تقديرنا، وعلمه غير علمنا، لذلك قال تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً [المعارج:6، 7].
الوجه الثاني: يجب التنبيه جيداً على أنّ المراد بقوله تعالى: ?قْتَرَبَتِ ?لسَّاعَةُ [القمر:1] هو أنه لم يبق من الدنيا إلا الشيء اليسير مما مضى منها، مثل ذلك كمثل من أقرضك مالاً وأمهلك ثلاثين سنة، ثم بقي من الأجل خمس سنوات، ألم تكن لتصف الأجل الباقي بأنه قريب؟! لذلك كلّه قال : ((إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس)) رواه البخاري، وقال : ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) وأشار بالوسطى والسبابة. متفق عليه.
الوجه الثالث: اعلموا جيداً أن قيام الساعة أمر هيّن على الله، ما أهونه وما أيسره عليه، فهو تعالى قادر على أن يقلب الأمور كلها في عشية أو ضحاها، لذلك قال تعالى: وَمَا أَمْرُ ?لسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ?لْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل:77].
إذن فقول الله حق، وخبره صدق، فما على الإنسان إلا أن يتدبر.
والساعة نوعان: ساعة خاصة وساعة عامة.
فالخاصة هي التي تخص كل فرد بعينه، وذلك عند موته، لأنه من مات فقد قامت قيامته، لذلك أنصحك ـ يا عبد الله ـ ألا تشغل نفسك بعلامات الساعة، بل أعِدّ العدة لساعتك الخاصة التي لا تدري متى تقوم، جاء أعرابي إلى رسول الله يسأله عن الساعة، فقال له رسول الله : ((وماذا أعددت لها؟)). فتزوّد ـ يا عبد الله ـ من الآن بالطاعات وترك المنكرات، وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? [البقرة:197].
تزوَّد من التقوى فإنك لا تدري إذا جنّ ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكاً وقد نُسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم من عروسٍ زينوها لزوجها وقد قُبضت أرواحهم ليلة القدر
و كم من صغار يُرتجى طول عمرهم وقد أُدخلت أجسادهم ظلمة القبر
و كم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر
فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [لقمان:33].
والساعة العامة هي اليوم الآخر، يوم ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات والأرض إلا ما شاء ربك، يوم يجمع الله الناس في صعيد واحد، فيحاسبون على كل صغيرة وكبيرة، يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ?لأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:19].
والله عز وجل الرؤوف بعباده الرحيم بخلقه لم يتركنا غافلين، بل برحمته التي وسعت كل شيء أراد أن يحذرنا ويذكرنا بذلك كله فقال: فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ?لسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا [محمد:18]، وزادنا من فضله فبين لنا علامات قربها ولم يخفها فقال: إِنَّ ?لسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا [طه:15]، فهو لم يخفها، فذكر لنا سبحانه علاماتها وأشراطها وآياتها، وَمَا نُرْسِلُ بِ?لآيَـ?تِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء:59].
وعلامات الساعة كثيرة وهي صغرى وكبرى، فالصغرى منها ما وقع ولا يتكرر، ومنها ما هو واقع ويتكرر، فهي بمثابة الإنذار والتحذير والدعوة إلى التوبة، فكونوا في الاستماع.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً لا يبيد، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي وعد الشاكرين المزيد، وحذّر الكافرين الوعيد الشديد، والصلاة والسلام على سيد الأحرار والعبيد، محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن من علامات الساعة التي وقعت ولا تتكرر:
بعثة الرسول : ففي صحيح البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال: رأيت رسول الله قال بأصبعيه هكذا ـ الوسطى والتي تلي الإبهام ـ وقال: ((بُعثت أنا والساعة كهاتين)) ، وفي كتب السيرة أن اليهود كانوا يتحدثون عن الرسول أنه يبعث مع الساعة.
ومن العلامات موته : ففي صحيح البخاري عن عوف بن مالك أن رسول الله قال له: ((أعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي...)) الحديث. وهذه أكبر مصيبة أصيب بها المسلمون، ومن أراد أن تهون عليه مصيبته فليذكر وفاة رسول الله.
ومن العلامات نار تخرج من أرض الحجاز: ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز، تضيء أعناق الإبل ببُصرى)) ، وقد وقع ذلك سنة (654هـ) وتكلم عنها الشيخ أبو شامة المقدسي والنووي وابن كثير، وتواتر خبرها، فحين ظهورها وهي نار عظيمة هُرِع الناس إلى المساجد والبيوت يبكون على أنفسهم لأنهم علموا صدق النبوة ووقوعها. وكانت ناراً عجيبة، على عظمها لا حرّ فيها ولا لفح، إنما كانت آية من آيات الله.
ومن العلامات توقّف الخراج والجزية: فإنكم تعلمون أن كفار أهل الكتاب يخيَّرون بين ثلاثة أشياء: إما الإسلام أو الجزية أو القتال، وذلك دليل على عزّة المسلمين وغلبتهم بإذن الله، لكننا نرى اليوم أن ذلك قد اضمحلّ كله، ولم يعد للمسلمين أي شأن يذكر، فبعد أن كانوا متبوعين صاروا تابعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إن لم نكن نحن الذين ندفع الجزية لهم، كل ذلك مصداق ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديَها ودينارها، ومنعت مصر إردبّها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم)).
قال النووي في شرحه للحديث: "الأشهر في معناه أن العجم والرّوم يستولون على البلاد في آخر الزمان، فيمنعون حصول ذلك للمسلمين"، ثم ذكر قول جابر: (يوشك أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم)، قلنا: من أين ذلك؟ قال: (من قِبَل العجم، يمنعون ذلك) رواه مسلم.
هذه علامات وقعت، لا ريب في دلالتها على قرب الساعة، وهناك علامات واقعة لا ينكرها إلا مكابر ولا يجحدها إلا معاند، منها:
كثرة الفتن والقتل: فقد روى أحمد عن أبي موسى الأشعري أنّ النبي قال: ((إنّ بين يدي الساعة الهَرْج)) ، قالوا: وما الهرج؟ قال: ((القتل، إنه ليس بقتلكم المشركين، ولكن قتل بعضكم بعضا حتى يقتل الرجل جاره، ويقتل أخاه، ويقتل عمه، ويقتل ابن عمه)) ، قالوا: ومعنا عقولنا يومئذ؟ قال: ((إنه لتنزع عقول أهل ذلك الزمان، ويخلُف له هباءٌ من الناس، يحسب أكثرهم أنهم على شيء، وليسوا على شيء)).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله قال: ((والذي نفسي بيده، ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قَتل، ولا يدري المقتول على أي شيء قُتل)).
عباد الله، فعليكم بتقوى الله، فإنه حبل الله المتين وصراط الله المستقيم، فإن الفتن تسري في هذه الأمة أكثر من سريان الطاعون، ولا يمكن لأي شخص ـ مهما كان ـ أن يظلّ مستقيماً على دينه حين الفتن إلا من عرف الله في الرخاء، فسيعرفه الله في الشدة.
ومن العلامات فشوّ الزنا وشرب الخمر وكثرة الجهل ورفع العلم بقبض العلماء: فعن أنس قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر)). وهل يشك أحد منكم في هذا الخبر؟!
رفع العلم بقبض العلماء، وانتشار الجهل نشاهده كلَّ ساعة، ولم تعرف الأمة الإسلامية هذه الظاهرة كما عرفتها اليوم، حتى كادت أن تكون الأمور المعلومة من الدين اضطرارا، كادت أن تكون نسياً منسياً، لذلك كان من علامات الساعة أن يسند الأمر إلى غير أهله، وذلك هو تضييع الأمانة، فاليوم لا نرى قيمة للعلماء تذكر، وعلى العكس من ذلك نرى تعظيماً للجهال التافهين، وصدق رسول الله حين قال: ((ستكون سنوات خداعات، يؤتمن فيها الخائن، ويخوّن فيها الأمين، ويصدّق فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، وينطق فيها الرويبضة)) ، قالوا: وما الرويبضة؟ قال: ((الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)).
أما كثرة شرب الخمر وفشو الزنا فحدّث عنه ولا حرج، بل أصبح الأمر أن تُحرَس أماكن الدعارة والخنا والفجور قانونيا، وازداد الأمر انتشاراً أن شوهد ذلك كلُّه على شاشات التلفاز عن طريق لعنة العصر "المقعرات الهوائية"، فصارت الفتنة في بيوت المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن العلامات كذلك تطاول الناس في البينان وأن تلد الأمة ربتها: ومعنى التطاول غير الإطالة، بل هو إطالة فوق إطالة الناس، وهكذا ركن المسلمون إلى الدنيا وحطامها، وأعرضوا عن الآخرة ونعيمها.
ومعنى قوله: ((أن تلد الأمة ربتها)) أنَّ الفتوح تكثر حتى تكثر الإماء، وتنجب من أسيادها من يكون سيدا لها كذلك، وقيل في معناه غير ذلك، وهذا ثبت في صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث جبريل المشهور.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
(1/3468)
علامات الساعة الصغرى (2)
الإيمان
أشراط الساعة
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
11/8/1420
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التسليم على الخاصة دون عامة الناس. 2- فشو التجارة. 3- فشو الكتابة وقلة العلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد رأينا في الخطبة الأخيرة جملة من أشراط الساعة التي ذكرها لنا رسول الله في عدة أحاديث، وقد سردنا على مسامعكم علامات ظهرت ولا تتكرر، وهي بعثة الرسول وموته، وخروج نار من أرض الحجاز، وتوقف الخراج والجزية، كما ذكرنا بعض العلامات التي ظهرت وتبقى متكررةً، منها فشو الزنا، وانتشار شرب الخمر، وتضييع الأمانة، والتطاول في البنيان، وكثرة الفتن، وأن تلد الأمة ربتها، وفشو الجهل، ورفع العلم بقبض العلماء.
وبقيت هناك جملة من أشراط الساعة الصغرى التي ظهرت وهي أمامنا كل لحظة وحين، منها ما رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود أن رسول الله قال: ((إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفشوَّ التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق، وظهور القلم)).
فبين يدي الساعة تسليم الخاصة، وهو أن لا يسلم المسلم إلا على من يعرفه، كما في الحديث الآخر: ((إن من أشراط الساعة إذا كانت التحية على المعرفة)) وهذا أمر مشاهد لا ريب في وقوعه. وهذا خلاف ما أمرنا الله تعالى به، فقد قال عندما سأله رجل: أيُّ الإسلام خير؟ فقال: ((تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف)) متفق عليه. وكان أوّل ما قاله حين دخل المدينة: ((أفشوا السلام)) ، وإفشاء السلام أكثر من إلقائه، أفشوه أي: انشروه بينكم حتى يكثر ولا تستكثروه، فإن رسول الله قال: ((إن السلام اسم من أسماء الله تعالى، وضعه الله في الأرض، فأفشوه بينكم)) ، وتذكروا جيداً الحديث الصحيح: ((ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين)) لماذا؟ ذلكم لأن السلام بمثابة مصنع ضخم لصنع شيء عجيب، أتدرون ما هو؟! الحب في الله، ووالله إني لأحب أناساً وما أعرفهم إلا لأنهم يلقون علي السلام، وهذا مصداق ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، ألا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم)) إذا عرفتم ذلك فالزموه.
وفشوّ التجارة، وهذا أمر لا يجهله أحد، فإن التجارة اليوم انتشرت انتشار الهواء، وانظروا إلى قوله : ((حتى تعين المرأة زوجها على التجارة)) ، وهذا لا يعني ألبتة تحريم التجارة، لا أبدا، ولكن هذا إن دل على شيء فهو يدل على التكالب على الدنيا والسعي الكبير وراء حطامها، غافلين عن التجارة الحقيقية التي تثمر رضوان الله ونعيمه، وإلا فما الذي يجعلك تستيقظ باكراً للعمل، ولا تستيقظ لصلاة الفجر؟! ما الذي يجعل زوجتك تعينك على التجارة ولا تعينك على طاعة الله؟! فاللهم بصرنا بعيوبنا، واقذف الإيمان في قلوبنا، ولا تؤاخذنا بذنوبنا.
وقطع الأرحام، وهذه هي الطامة التي عمتنا جميعاً، فقبل سنوات لم تكن هذه الخصلة الذميمة معروفة لدى المسلمين، فقد كان الأقارب يرى بعضهم بعضاً كل حين، يسأل هذا عن هذا، وذاك عن ذاك جسد واحد، قلب واحد، تسامح، إخاء... أين ذلك الآن؟! فاحذر ـ يا قاطع الرحم ـ من قوله : ((إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك)) متفق عليه، فأظن أنكم أدركتم سبب قلة الرزق والأمن وقلة الرحمة اليوم، ذلكم لأن الله قطعنا. وأبشر ـ يا واصل الرحم ـ بقوله : ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه)).
وظهور القلم، ما معنى ظهور القلم؟ معناه كثرة الكتابة في آخر الزمان حتى تبلغ الذروة، والناظر اليوم في مكتبات العالم الإسلامي ليعجب أشدّ العجب من كثرة الكتب المنتشرة على الساحة الإسلامية وغيرها، فتقام المعارض الكبرى في أنحاء العالم حتى لا يمكنك الاطلاع والإحاطة بما فيها، وتذكروا جيداً ـ عباد الله ـ العلامة التي رأيناها في الخطبة السابقة ألا وهي رفع العلم، سبحان الله! كيف هذا؟ ظهور القلم ورفع العلم في آن واحد؟! هذا ينبئ عن شيء خطير وشر مستطير، ألا وهو أن كثرة انتشار العلم والكتب لا يسمن ولا يغني من جوع، علم بلا عمل.
شعوبك في شرق البلاد وغربها كأصحاب الكهف في عميق سباتِ
بأيماننا ذِكران: نور وسنة فما بالنا في محالك الظلمات؟!
ولا تتعجبوا إن قلنا لكم: إن أكبر دور النشر والتوزيع والطباعة في بيروت مثلاً أصحابها نصارى، يطبعون كتب الحديث والتفسير وغير ذلك طلباً للمال، لأنهم علموا أن هذا العلم المبثوث في الكتب لن يبرح مكانه، سيبقى بين الدفّتين، كلام بلا عمل، ليس له رجال يحملونه إلى أرض الواقع. ورحم الله الإمام عبد الحميد بن باديس عندما سئل: لماذا لم تكثر من تأليف الكتب؟ قال: "شُغلت بتأليف الرّجال عن تأليف الكتب"، ولله درّ الإمام الأوزاعي القائل: "إن الله إذا أراد بقوم سوءاً أورثهم الجدل، وأبطأهم عن العمل".
نريد رجالاً ـ أيها الناس ـ أفذاذاً يحبون الله ويحبهم، يؤثرون الدين على شهواتهم، يضحون فيبذلون الغالي والنفيس من أجل نشر دعوة الإسلام، كلٌ بحسبه؛ الغني بماله، والعالم بعلمه، والعامل بعمله. سئمنا الكلام، فهو سهل، واللسان لا يتعب إذ لا عظم فيه، نريد العلم مع العمل. وها هي خطب الجمعة تقام كل أسبوع بما يعادل اثنتين وخمسين خطبة سنوياً، تقام في آلاف المساجد في البلد الواحد، فأين الثمار؟ أين النتيجة؟ اعلموا أننا أصبنا في ديننا فلم نفهمه.
يا ويح من بات للدّين يحسبه وقتاً يصام وأوقاتاً يصلّيها
وإنما الدين إيمان وتضحية وعزةٌ تنشر الدنيا وتطويها
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله واهب الحياة وسالبها، باعث الأرواح وقابضها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلقنا من تراب وإليه يرجعنا، ومن التراب إذا شاء يبعثنا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أطال الحديث عن الموت وشدته، وعن يوم الحساب وكربته، فنبّه العباد من غفلتهم وخلّصهم من حيرتهم، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأبرار، ومن اتبعهم بإحسان بقلوب معلقة بالآخرة، فكانوا لها عاملين، ولكل غالٍ ونفيس باذلين، حتى لقوا الله رب العالمين.
أما بعد: فمن علامات الساعة تداعي الأمم على هذه الأمة، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن)) ، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) رواه أبو داود.
وقد وقع هذا عبر التاريخ أكثر من مرة، عندما تكالبت الأمم الصليبية على غزو هذه الأمة، وعندما اجتاح التتار العالم الإسلامي فأكثر فيه الفساد والدمار، ولم تظهر هذه العلامة كما ظهرت في القرن الأخير، فقد اجتمع الصليبيون واليهود والملاحدة على هدم الخلافة الإسلامية ثم جزَّؤوا ديارها وأقطارها وتقاسموها فيما بينهم. وأين المسلمون؟ أين المليار والأبعمائة مليون مسلماً؟ إنهم أمام التلفاز، إنهم في المقاهي، إنهم في الملاعب، إنهم في الملاهي، غثاء كغثاء السيل، أكثر ضياعاً من الأيتام على مأدبة اللئام، ولا تزال قوى الشر متداعية إلى اليوم لتدمير هذه الأمة التي لم تغن عنها كثرتها، وما علة كل ذلك يا رسول الله؟ ((حب الدنيا وكراهة الموت)).
أبكي على واقع الإسلام من كمد وأزفر الآه تلو الآه من ألم
واللهِ الذي فرض علينا محبته، لو أحببنا الله حق محبته وقدرناه حق قدره لاتخذنا موقفاً من الآن أن ننبذ الدنيا الفانية وراء ظهورنا، ونشتغل بإصلاح أمر ديننا، وهذا هو العهد الذي قطعناه لربنا يوم قلنا: لا إله إلى الله.
يقولون: مع أي الفريقين تضلع فلم يبق للصبر والإحجام موضع؟
فقلت: أما والله ما في قلوبنا لغير جلال الله والحق موضع
فقد تصبح الدنيا لإبليس شيعةً ونحن لغير الله لا نتشيع
فأين إذن عهدٌ قطعناه لربنا بأننا له دون البرية خضّع؟
بل نحن جند الله بعناه واشترى فلا هو يعفينا ولا نحن نرجع
(1/3469)
علامات الساعة الكبرى (المسيح الدجال)
الإيمان
أشراط الساعة
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
18/8/1420
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير في نسيان العظة والعبرة في غمرة الحديث عن أشراط الساعة. 2- من علامات النبوة ظهور مدعي النبوة. 3- المسيح الدجال وبعض صور فتنته. 4- قرب ظهور المسيح الدجال.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، فلا زلنا نتحدث عن علامات الساعة التي ثبتت عن صاحب الوسيلة والشفاعة، رأينا ما يقارب سبعَ عشرة آية: بعثته وموته ، ونار تخرج من أرض الحجاز، وتوقف الخراج والجزية، ثم فشو الزنا وشرب الخمر، وكثرة الفتن، وانتشار الجهل ورفع العلم، وتطاول الناس في البنيان، وأن تلد الأمة ربَّتها وتضييع الأمانة، ثم تسليم الخاصة وقطع الأرحام، وفشو التجارة وظهور القلم، وتداعي الأمم على هذه الأمة. وهناك علامات أخرى لم نشأ الوقوفَ طويلاً عليها، ككثرة الزلازل ورفع البركة من الزمان وغيرها كثير، إلا أنه أخشى ما أخشاه هو أن تمرَّ علينا هذه الأخبار من غير اتعاظ ولا اعتبار، ومن غير استعداد للقاء الواحد القهار. فيا عبد الله ماذا أعددت للساعة؟ بم ستقابل الله جل وعلا لو ناداك بعد ساعة؟ فإياك ثم إياك أن تغفل عن الاستعداد ليوم المعاد.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث، أضحكني مؤمّل للدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك بملء فيه وهو لا يدري أسخط الله أم أرضاه. وأبكاني ثلاث، أبكاني فوات الأحبة محمدٍ وصحبه، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي الله تعالى)، ذلك يوم التغابن، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ ?للَّهُ نَفْسَهُ وَ?للَّهُ رَءوفُ بِ?لْعِبَادِ [آل عمران:30].
تزود من معاشك للمعاد وقم لله واعمل خير زاد
ولا تجمع من الدنيا كثيرا فإن المال يجمع للنفاد
أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زاد وأنت بغير زاد؟!
فالعلامات التي نذكرها ليست من قبيل قصص ألف ليلة وليلة ولا نوادر كليلة ودمنة، إنما هي آيات، وَمَا نُرْسِلُ بِ?لاْيَـ?تِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء:59].
ونختم حديثنا عن علامات الساعة الصغرى بعلامة خطيرة، ألا وهي ظهور الكذابين والدجالين.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى يُبعث دجالون كذابون، قريبا من ثلاثين، كلّ يزعم أنه نبي)) رواه البخاري ومسلم، وعن ثوبان مرفوعاً: ((وإنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، ولا نبي بعدي)) رواه الترمذي.
وصدق رسول الله ، فقد خرج منهم عدد كثير في الماضي، ولا يزالون يخرجون إلى اليوم.
ففي عهد الصحابة خرج مسيلِمة الكذاب باليمامة، والأسود العَنْسي باليمن، وطُليحة الأسدي بالحجاز، وسجاح الكاهنة بتغلب، جعلهم الله فتنة للعباد، فأضلوا كثيراً عن سبيله. وفي عصر التابعين خرج المختار الثقفي، وفي كل عصر يخرجون، حتى إنه منذ قرن من الزمان ظهر الدجال الحسين بن علي عباس بإيران مدعياً النبوة، ولقِّب ببهاء الله وأتباعه هم المعروفون بالبهائية. وبعده ظهر بالهند الدجال ميرزا غلام أحمد القادياني وادعى النبوة بتحريض من انكلترا فأضل خلقاً كثيراً، ولا يزال أتباعه المعروفون بالقاديانية إلى اليوم أكثر الفرق الكافرة انتشاراً في أوروبا.
وآخر من سمعنا ادعى النبوة هو الدجال الزنديق محمود محمد طه السوداني الذي أضل خلقاً كثيراً كذلك بمقالاته وخطاباته، حتى أعدمته الحكومة السودانية عام 1985م ولله الحمد. وكل ذلك مصداق حديث رسول الله.
إلا أن أكثر الدجالين فتنة وأعظمهم بلاء وأكبرهم تضليلاً على الإطلاق هو الدجال الأكبر: المسيح الدجال.. المسيح الدجال الذي يخرج في آخر الزمان وهو من علامات الساعة الكبرى.
فالمسيح الدجال هو أعظم فتنة تعرفها البشرية على الإطلاق، ويوضّح خطورته أحاديث منها:
ما جاء في صحيح مسلم عن عمران بن حصين أن رسول الله قال: ((ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال)) ، من أجل ذلك نرى جميع الأنبياء من لدن نوح عليه السلام إلى محمد حذّروا أقوامهم من فتنته. ففي صحيح البخاري عن ابن عمر قال: قام رسول الله في الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال فقال: ((إني لأنذركموه، وما من نبي إلا أنذره قومه، ولكني سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه...)) وفي البخاري ومسلم عن أنس مرفوعاً: ((ما بُعث نبي إلا أنذر أمته الأعور الكذاب)) ، وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة مرفوعاً: ((إنه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال، وإن الله لم يبعث نبيا إلا حذر أمته الدجال، وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة)).
فمن المسيح الدجال؟ ولم سمي بذلك؟
يقول ابن الأثير: "سمّي الدجال مسيحاً لأن عينه الواحدة ممسوحة، والمسيح الذي أحد شقي وجهه ممسوح، لا عين له ولا حاجب، فهو فعيل بمعنى مفعول، بخلاف المسيح عيسى فإنه فعيل بمعنى فاعل، سمّي كذلك لأنه كان يمسح المريض فيبرأ بإذن الله. والدجال هو الكذاب، سمي الدجال من الدجل، وهو التغطية لأنه يغطي الحق بباطله".
إذا عرفتم ذلك فما فتنة المسيح الدجال؟
اعلموا أن هذا الكذاب سوف يدّعي الربوبية لا النبوة فقط، فيُظهر الله على يديه خوارق مما يساعده على إظهار باطله، حتى إن الرجل ليكون على يقين أن أمره باطل وأنه لن يخدعه، فبمجرد أن يرى ما عنده من مخاريق يتبعه، ففي سنن أبي داود عن عمران بن حصين مرفوعاً: ((من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه)).
فمن خوارق العادات التي تظهر على يديه:
* سرعة انتقاله في الأرض، ففي صحيح مسلم عن النواس بن سمعان أن النبي سئل عن إسراع الدجال في الأرض فقال: ((كالغيث استدبرته الريح)) فلا يترك بلدا إلا دخله إلا مكة والمدينة تلقاه الملائكة بالسيوف صلتةً، كما في سنن ابن ماجه.
* له جنة ونار، أي: معه نهر من ماء ونهر من نار، والواقع خلاف ذلك، فإن ماءه هو ناره، وناره هي ماؤه كما في صحيح مسلم، قال النبي : ((فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه نارا فإنه ماء عذب طيب)). ومن فتنه كذلك:
* استعانته بالشياطين، لا شك لديكم أن الشياطين لا تعين إلا من كان على غاية الإفك والضلال، والدجال على رأسهم، فعن أبي أمامة قال: قال رسول الله : ((إن من فتنة الدجال أن يقول للرجل: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك، أتشهد أني ربك؟ فيقول نعم. فيتمثل له الشيطان في صورة أبيه وأمه فيقولان له: يا بني اتبعه فإنه ربك)). ومن فتنه العظيمة:
* أنه يقتل شاباً ويحييه، فحين يريد أن يدخل المدينة، يخرج إليه شاب هو يومئذ خير الناس، فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حذرنا منه رسول الله ، فيقول الشاب الدجال: أرأيتم إن قتلته ثم أحييته هل تشكّون في أمري؟ فيقولون: لا. فيقتله ثم يحييه، فيقول الشاب: والله ما ازددت إلا يقينا أنك المسيح الدجال، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلّط عليه. فيقذف به في النار وإنما ألقاه في الجنة. قال رسول الله : ((هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين)) رواه مسلم.
هذه هي فتنة المسيح الدجال.. تصوروا ـ عباد الله ـ لو خرج فينا هذه الأيام، والأحوال تتغير بسرعة، جهل كبير، وحبّ مال كثير، والقلوب ضعيفة، والشبهات خطافة، فهل سنصمد أم نتبعه؟! اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطيبين، وصحابته الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد ذكرنا في أول الخطبة حديث رسول الله حين قال: ((وإنه ما من نبي إلا حذر قومه الدجال، وإني سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه...)) الحديث. فما هذا الذي يريد أن يقوله ؟، ما أرحمه بأمته، فقد بيّن لنا صفات الدجال لنعرفه، وذكر لنا وقت ومكان خروجه.
ففي صحيح البخاري عن ابن عمر مرفوعاً في وصف الدجال: ((رجل جسيم، أحمر، جعد الرأس، أعور العين، كأن عينه عنبة طافية)) أي: ليس فيها ضوء فلا يرى بها. وفي رواية أحمد: ((فإن ألبس عليكم فاعلموا أن ربكم تبارك وتعالى ليس بأعور، وأنكم لن تروا ربكم تبارك وتعالى حتى تموتوا)). ومن صفاته أيضاً، أنه مكتوب بين عينيه كافر، كما في صحيح البخاري وفي رواية لغيره: ((بين عينيه ك ف ر يقرؤه كل مؤمن)) ، ومن صفاته أيضاً أنه لا عقب له فلا ولد له كما في صحيح مسلم.
أمّا زمان خروجه فقد قرُب، واعلموا أنه حيّ منذ قديم الزمان حتى إن رسول الله شك في أحد الغلمان اليهود الذين سكنوا المدينة وهو ابن صياد اسمه صائف، ولا يزال علماء المسلمين إلى اليوم مختلفين فيه، هل هو المسيح أو غيره. واستدل جمهور العلماء على أنه غيره بحديث صحيح عظيم عجيب، تقشعر له الأبدان، وتشيب له الولدان، ألا وهو حديث تميم الداري رضي الله عنه في صحيح مسلم، فاسمعوا جيداً إلى هذا الحديث.
عن فاطمة بنت قيس قالت: سمعت نداء المنادي منادي رسول الله ينادي: الصلاة جامعة، فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله ، فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم، فلما قضى رسول الله صلاته جلس على المنبر وهو يضحك، فقال: ((ليلزم كل إنسان مصلاه)) ، ثم قال: ((أتدرون لم جمعتكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((إني ـ والله ـ ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا فجاء فبايع وأسلم، وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال، حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهرا في البحر، ثم أرفؤوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة، فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر، لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقالوا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة، قالوا: وما الجساسة؟ قالت: أيها القوم، انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق، قال: لما سمت لنا رجلا فرقنا منها أن تكون شيطانة، قال: فانطلقنا سراعا حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا وأشده وثاقا مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري فأخبروني ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية فصادفنا البحر حين اغتلم، فلعب بنا الموج شهرا ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه، فجلسنا في أقربها فدخلنا الجزيرة فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر لا يدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقلنا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة، قلنا: وما الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق، فأقبلنا إليك سراعا وفزعنا منها ولم نأمن أن تكون شيطانة، فقال: أخبروني عن نخل بيسان، قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها هل يثمر؟ قلنا له: نعم، قال: أما إنه يوشك أن لا تثمر، قال: أخبروني عن بحيرة الطبرية، قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء، قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب، قال: أخبروني عن عين زغر، قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها، قال: أخبروني عن نبي الأميين ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب، قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم، قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم، قال: أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه، وإني مخبركم عني، إني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج، فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرمتان علي كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحدا منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتا يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها)) ، قالت: قال رسول الله وطعن بمخصرته في المنبر: ((هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة)) ، يعني المدينة ((ألا هل كنت حدثتكم ذلك؟)) فقال الناس: نعم، ((فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة، ألا إنه في بحر الشأم أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق، ما هو من قبل المشرق، ما هو من قبل المشرق، ما هو)) ، وأومأ بيده إلى المشرق، قالت: فحفظت هذا من رسول الله.
وسنكمل الحديث عن المسيح الدجال، وكيف يقضي عليه المسيح عيسى عليه السلام في خطبة لاحقة، ونسأل الله عز وجل أن يثبتنا على دينه وعلى طاعته.
(1/3470)
علامات الساعة الكبرى (المهدي)
الإيمان
أشراط الساعة
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
25/8/1420
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من المهدي المنتظر؟ 2- المهدي عند الشيعة. 3- وقفة مع منكري المهدي. 4- ادعاء المهدوية. 5- زمن ظهور المهدي. 6- نزول المسيح عليه السلام وقتله الدجال. 7- المخرج من الفتن تقوى الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد رأينا في الخطبة السابقة أعظم فتنة تصيب المسلمين وأكبر بلاء يهدد الدين وشرَّ واقع في حياة الأولين والآخرين، ألا وهو "المسيح الدجال"، ذكرنا جوانب عدة منه، فبينا صفاته وعظم بلائه وفتنته، حتى حذر منه كل نبي قومه، وذكرنا كذلك أنه يوشك أن يؤذن له بالخروج، وكان آخر شيء تلوناه على مسامعكم حديث تميم الداري الطويل، حتى وقفنا عندما أشار النبي بيده إلى المشرق، يشير إلى موضع خروجه. ففي سنن الترمذي أن رسول الله قال: ((الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال: لها خراسان)) وهي من نواحي إيران اليوم. فمتى يخرج عباد الله؟.
اعلموا أن المسيح الدجال لا يخرج حتى يظهر المهدي المنتظر، رجل صالح يبعثه الله عز وجل خليفة حكما عدلا من سلالة النبي يصلحه الله في ليلة. ففي سنن الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: ((لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي)) ، وفي سنن أبي داود عن ابن مسعود أيضاً مرفوعاً: ((لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا مني أو من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا)) ، وروى الإمام أحمد وابن ماجه عن علي مرفوعاً: ((المهدي منا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة)).
هذه هي عقيدة أهل السنة في المهدي، فهو رجل صالح يبعثه الله ليصلح ما أفسد الناس، وهو قرب خروج المسيح الدجال.
أما الشيعة فالمهدي عندهم عبارة عن أسطورة وخيال، يعتقدون أنه آخر أئمتهم، وهو المدعو بمحمد بن الحسن العسكري، دخل سرداب سامراء منذ ألف ومائة عام وكان عمره خمس سنوات، ولم يظهر له أثر بعدها. قالوا: إنه سيخرج ويعيد لآل البيت كرامتهم، وذلك إذا فسد الزمان.
سبحان الله، ما هذه الأباطيل والأساطير؟! ما الذي يجعله يختفي ولا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى الله؟! قالوا: إنه ينتظر فساد الزمان!! بالله عليكم هل ينتظر فساداً أكثر من هذا؟! فكلامهم هذا لا يدل عليه لا كتاب ولا حديث صحيح ولا عقل صريح، إنما هو خيال وضلال. ونحن لو لم تأتِ نصوص صحيحة في المهدي لما أثبتناه.
وفي مقابل الشيعة هناك أناس لقبوا أنفسهم بالمفكرين، أنكروا المهدي بلا دليل، سوى أنهم قالوا: إن إثبات أحاديث المهدي سيؤدي إلى أن يدعي المهدوية كل أحد، كما فعلها كثير.
فيقال لهؤلاء:
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد تورد الإبل
صحيح، إن هناك كثيراً من الناس من لقب نفسه بالمهدي، وادعى بأنه هو، كما فعل الملحد الفاجر عبيد الله بن ميمون القداح الفاطمي زوراً، اليهودي الأصل، انتسب زورا إلى بيت النبوة، وادعى أنه المهدي، وملك واستفحل أمره وعظم شره، حتى استولى على بلاد المغرب ومصر والحجاز والشام، وادعى بعد ذلك الألوهية وانتشر أتباعه القرامطة الباطنية الرافضة، واشتدت بالمسلمين كربتهم وعظمت غربتهم، حتى سخر الله الرجل الصالح صلاح الدين الأيوبي فقضى عليهم.
وممن ادعى المهدوية كذلك مهدي المغرب محمد بن تومرت سنة (524هـ)، والدارسون يعرفون مدى ظلمه وكذبه، حتى أمر أتباعه أن يدخلوا القبور ويخبروا الزائرين بأنه هو المهدي. وبعد ذلك يردم عليهم القبر ليموتوا ولا يفضحوه.
ولا يزال كثير من الناس يدّعي المهدوية، ومن أواخرهم المدعو جهيمان السعودي، الذي قام بأكبر فتنة في الحرم المكي وقتل هناك منذ سنوات.
هذا كله صحيح، لكنه لا يجعلنا ننكر أحاديث صحيحة لأجل ذلك، وإلا ـ حسب منطقهم ـ يجب علينا أن ننكر ربوبية المولى تبارك وتعالى لأجل من ادعى الربوبية، وهذا لا يقال، فهو كلام محال.
نعود إلى المهدي الذي يملأ الدنيا قسطاً وعدلاً، فيكون بين المسلمين والروم هدنة، حتى إنهم يشتركون جميعاً في غزو عدو مشترك لهم، فينصرهم الله، حتى إذا كانوا بمرج ذي تلولٍ وقف رجل من النصارى ورفع الصليب وقال: غلب الصليب. فيغضب رجل من المسلمين فيدق الصليب. هنالك تغدر الروم وتجمع جيوشها للملحمة الكبرى والمعركة العظمى ضد المسلمين. وينصر الله تعالى عباده ويفتحون مدينة كبرى هي "روما" في أصح الأقوال، لأنه في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر؟)) قالوا: نعم يا رسول الله، قال: ((لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفا من بني إسحق، فإذا جاؤوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط أحد جانبيها)). و"روما" كما تعلمون بها عاصمة الكفر "الفاتيكان".
فبينما يكون المسلمون يتقاسمون الغنائم إذ جاءهم الصريخ والخبر الفظيع: إن المسيح الدجال قد خرج. فيتركون كل شيء ويرجعون.
وهذه هي علامات الساعة الكبرى ـ عباد الله ـ تتلاحق كالمطر، لا يكاد يفصل بينها فاصل، فقد قال عن أشراط الساعة: ((الآيات خرزات منظومات في سلك، فإن يقطع السلك يتبع بعضها بعضا)).
المسيح الدجال وفتنته العظمى، يبقى أربعين يوماً، يعثو في الأرض فساداً وتضليلاً، أكثر من يتبعه اليهود والنساء، فقد روى الإمام أحمد عن عثمان بن أبي العاص مرفوعاً: ((وأكثر تبعِه اليهود والنساء)) يتبعه اليهود لأنهم يؤمنون به ويدعونه بالمسيح بن داود، ينتظرونه لأنه يرد إليهم ملكهم كما يزعمون.
يبلغ حينها الضيق بالمسلمين مبلغه، يعدون للقتال، وبينما المهدي ذات يوم يسوّي الصفوف لصلاة الفجر، وتقام الصلاة وهم في كربة شديدة، إذا بالمهدي يلتفت ويلتفت معه المسلمون فيرون رجلاً داخلاً عليهم، رجل مربوع بين الحمرة والبياض، كأن رأسه يقطر ماء وإن لم يصبه بلل. أتدرون من؟ إنه المسيح عيسى ابن مريم رسول الله عليه السلام.. إنه عيسى ينزله الله تعالى إلى الأرض ليخلص المسلمين من المسيح الدجال وفتنته. فيراه المؤمنون فيعرفونه لأنهم يعرفون صفاته، فيرجع المهدي القهقرى ليتقدم عيسى للصلاة، فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول: تقدم فصلّ فإنها لك أقيمت. فيصلي بالمسلمين وبعيسى رجل من أمة المسلمين تكرمة الله لهذه الأمة.
ينزل عيسى عليه السلام بالمنارة البيضاء بباب شرقي بدمشق، ويحكم بشريعة الإسلام، وهذا فخر لهذه الأمة، فقد روى أبو نعيم عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: ((منا الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه)).
ينزل كما وعد الله، فإن الله تعالى ذكر في القرآن أن نزول عيسى من علامات الساعة فقال: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لّلسَّاعَةِ [الزخرف:61]، فيكسر الصليب ويحرم الخنزير ويؤمن به بعض أهل الكتاب من النصارى، قال تعالى: وَإِن مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159]، ويضع الجزية فلا تقبل من النصارى لأن شبهتهم قد زالت.
أول أعماله هي قتل المسيح الدجال، فبمجرد انقضاء صلاة الفجر يتوجه عليه السلام مع المهدي وجيش المسلمين إلى بيت المقدس، حيث يحاصر الدجالُ وأتباعُه اليهود المسلمين هناك. ففي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة مرفوعاً: ((يقول عيسى: افتحوا الباب فيفتحونه ووراءه الدجال ومعه سبعون ألفاً من اليهود، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء وينطلق هارباً، فيدركه عيسى عند باب لُدّ فيقتله)) ، وفي رواية عند مسلم: ((ولو تركه لذاب حتى يهلك، ولكن الله يقتله بيده فيريهم دمه)).
هذا هو الدجال قد انتهى أمره وبطل شره، علامات تدل على قرب نهاية العالم، فماذا بعد ذلك؟ هذا ما سوف نراه في خطب لاحقة إن شاء الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، وجعل أمتنا خير أمة، وبعث فينا رسولاً يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الحكمة، أحمده تعالى على نعمه الجمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تكون لنا فيها العصمة، وأن محمداً عبده ورسوله أرسله للعالمين رحمة، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه صلاة تكون لنا نوراً من الظلمة.
أما بعد: فإني أعتقد أننا إلى الآن رأينا جملة كثيرة من أشراط الساعة، كلها فتن، وجميعها محن، فالدنيا تنادينا بشهواتها، والنفس تميل لرغباتها، وإبليس الرجيم يزين لنا طرق الضلالة، وخلطاء السوء يسحبوننا لغيّهم لا محالة، اشتدت كربتنا وقويت غربتنا، وليس لنا إلا الله وحده هو ربنا.
فتعالوا بنا ـ عباد الله ـ نسمع وصايا الله فإنه تعالى خير موصٍ، تعالوا بنا نفزع إلى ربنا ومولانا وسيدنا ومالك أمورنا ومصرف قلوبنا، نسأله المخرج من الفتنة والنجاة من المحنة، فهو يقول في كتابه الكريم: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131]، تقوى الله هو كما قال ابن عباس وغيره: "هو ترك ما حرم الله عليك وأداء ما افترضه"، سمي بذلك لأنه وقاية تقيك من عذاب الله وسخطه. وهكذا كانت وصية رسول الله ، فعن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون. فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا. فقال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة...)) ، وكان إذا بعث رجلاً في سرية أوصاه بتقوى الله. وسأل أبو سعيد الخدري رسول الله فقال: أوصني، قال: ((أوصيك بتقوى الله، فإنه جماع كل خير)).
وهكذا كان أبو بكر رضي الله عنه يقول في خطبته: (أما بعد: فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله). وعندما حضرته الوفاة قال لعمر: (يا عمر اتق الله).
وها هو عمر يكتب إلى ابنه عبد الله قائلاً: (أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله، فإنه من اتقاه وقاه ومن أقرضه جزاه). وكذلك كان عثمان رضي الله عنه.
واستعمل عليّ رجلاً على سرية فقال له: (أوصيك بتقوى الله الذي لا بدّ أنك ملاقيه وهو يملك الدنيا والآخرة).
وعمر بن عبد العزيز يكتب إلى رجل قائلاً: (أوصيك بتقوى الله التي لا يقبل الله غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير والعاملين بها قليل).
وقال رجل ليونس بن عُبيد: أوصني. فقال: "أوصيك بتقوى الله والإحسان، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون".
وكتب رجل من السلف لأخيه فقال: أوصيك بتقوى الله فهي أعظم ما أسررت، وأزين ما أعلنت، وأفضل ما ادّخرت.
فجملة القول أن التقوى هي وصية الله لجميع خلقه.
قل لمن ضاق عليه رزقه: يقول تعالى: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
قل لمن عسر عليه أمره: يقول تعالى: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4].
قل لمن ضاق به صدره لكثرة ذنوبه، يقول تعالى: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَـ?تِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق:5].
قل لمن يرجو رحمة الله: يقول تعالى: وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف:156].
قل لمن شكا ضيق حاله: يقول تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ [الأعراف:96].
أبشروا أيها المتقون بمعية الله، فإن الله سبحانه كثيراً ما يقول: وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لْمُتَّقِينَ [التوبة:36].
و أبشروا بمحبته فإنه تعالى كثيراً ما يقول: إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُتَّقِينَ [التوبة:4].
وأبشروا بتوليه لكم فإنه سبحانه يقول: وَ?للَّهُ وَلِىُّ ?لْمُتَّقِينَ [الجاثية:19].
أبشروا بقبول أعمالكم فإنه سبحانه يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
أبشروا بما أعده لكم فإنه سبحانه يقول: وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وقال في الحديث القدسي: ((أعددت لعبادي الصالحين ـ أي: المتقين ـ ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)). أيام قليلة ترون فيها تعباً ونصباً وكرباً، ثم يأتي الفوز العظيم، وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ ?للَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَائِزُون [النور:52].
وقد يقول قائل: ومن هذا الذي لا يرغب في التقوى ولا يريد مزاياه ولا يرجو عطاياه؟ ولكن أين السبيل إلى هذا التقوى؟ فنقول له: أبشر يا عبد الله، فإن الله تعالى قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، لمه؟ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، فصوم شهر رمضان من أعظم الأبواب وأفسح الطرق إلى تقوى الله عز وجل.. فرصة لا تعوض، فيمكن للإنسان من خلاله عبادة الله، ومن هناك يدخل في زمرة المتقين، في عباد الله الصالحين، بعد دورة كاملة يروّض فيها نفسه على تقوى الله وخشيته والرهبة منه والرغبة إليه.. إنه شهر الجود والسجود.
إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النيران وصفدت الشياطين ونادى منادٍ: يا باغي الخير أقبل، يا باغي الشر أقصر.
بعد أيام، أنتم مدعوون لمأدبة الله تعالى، والدعوة عامة لا في قاعة الحفلات، إنما إلى ميدان الخير والطاعات، فهل أنتم مجيبون للدعوة؟ فعليكم إذن بالاستعداد من اليوم لهذا الشهر العظيم، لا بتحضير المأكولات، فإنّ هذا الشهر شهر الصيام لا شهر الطعام.
إننا سئمنا هذا الروتين القبيح، هذه العادات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ووالله وألف والله إنه لشهر الصيام لا شهر الطعام.
نسأل الله عز وجل أن يكتب القبول في قلوبكم لهذا الكلام، وإنني على يقين أن فيكم خيراً كثيراً لا يعمله إلا الله، فإن استجبتم لهذا النداء فنحن لكم من الشاكرين، وإن أبيتم إلاّ التمادي على ما ورثناه عن الآباء والأجداد، فاعلموا أنه يأتي النبي وليس معه أحد.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه غفور رحيم جواد كريم.
(1/3471)
علامات الساعة الكبرى (يأجوج ومأجوج)
الإيمان
أشراط الساعة
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
2/9/1420
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المنجيات من فتنة المسيح الدجال. 2- ظهور يأجوج ومأجوج. 3- هلاك يأجوج ومأجوج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد تكلمنا في خطبتين سابقتين عن المسيح الدجال وفتنته الكبرى، وكيف حذر منه كل نبي، حتى خاف منه كل ولي، كما ذكرنا أنه يخرج بعد أن يعز الله المسلمين بالخليفة العادل الذي سمّاه النبي بالمهدي، ومسك الختام هو نزول عيسى عليه السلام، فيقتل الدجال عند باب لدّ بفلسطين.
ألا وإني أريد أن أنبهكم على أمر مهم، وهو أن الله ما ينزل المسيح عيسى عليه السلام روح الله وكلمته ورسولٌ من أولي العزم من الرسل إلا لأن الهول عظيم والخطر جسيم. فما النجاة منه عباد الله؟ ما عسانا أن نفعل إن أدركناه؟ ولعلكم تستبعدون ذلك، وترونه بعيداً فاعلموا أن الله يراه قريباً، وإن الله قدير على أن يغير الكون كله بين عشية وضحاها، وَمَا أَمْرُ ?لسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ?لْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل:77]، فهل من سبيل إلى النجاة من هذه الفتن؟
اعلموا أن أهم الأسباب المنجية من فتنة المسيح الدجال هو الدعاء، ولطالما بينا فضل الدعاء وأهميته، فهو العبادة والافتقار إلى الله عز وجل والتضرع إليه. ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يستعيذ في صلاته من فتنة المسيح الدجال. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال)).
رسول الله، خاتم الأنبياء والمرسلين وسيد ولد آدم أجمعين يستعيذ بالله رب العالمين من فتنة الدجال اللعين، فكيف بنا نحن؟! ما بالنا إذا سمعنا بداء خطير هرعنا إلى الصيادلة والأطباء فزعين خائفين من ألم الأبدان، ولا نهرع فزعين إلى الأذكار النبوية التي تعصمنا من الفتن التي تهدم الأديان؟!
ومن أسباب النجاة من فتنة الدجال تقوى الله عز وجل والعمل الصالح، الإيمان الصادق والجازم، ففي صحيح البخاري عن أنس مرفوعاً: ((ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، ليس له من نقابها نقب إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرج الله كل كافر ومنافق)).
فتقوى الله عز وجل حرز وأمان من الدجال، لذلك كان رسول الله يحث على العمل الصالح تحسباً للدجال، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: ((بادروا بالأعمال ستًّا ـ أي: أسرعوا واعملوا صالحاً قبل ست فتن ـ طلوع الشمس من مغربها أو الدجال أو الدابة أو خاصة أحدكم أو أمر العامة)).
وتذكروا جيداً حديث عمران بن حصين عندما قال رسول الله : ((من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه)) ، فالفتنة عظيمة جداً، حتى قال فيما يرويه مسلم عن أم شريك قال: ((ليفرَّنَّ الناس من الدجال في الجبال)).
فاتقوا الله ما استطعتم، وها هو شهر رمضان شهر التوبة والمغفرة، فرصة لا تعوّض يتدرب الإنسان من خلالها على التقوى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].
ومن أسباب النجاة من الدجال حفظ العشر الأول من سورة الكهف، ففي صحيح مسلم عن أبي الدرداء مرفوعاً: ((من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من الدجال)).
والسبب في تخصيص العشر الأول منها، أن فيها ذكر قصة أولئك الفتية المؤمنين، وكيف ابتلوا بذلكم الجبار الطاغية، فأنجاهم الله منه، وَرَبَطْنَا عَلَى? قُلُوبِهِمْ [الكهف:13]، أيدناهم وعصمناهم، فناسب أن من قرأ هذه الآيات وحاله كحالهم أن ينجيه الله كما أنجاهم، فهي آيات العصمة.
إلى هنا نختم الحدث عن الدجال، فتذكروه جيداً، وتذكروا الأسباب المنجية من فتنته. ثم ماذا؟
يبقى أتباعه اليهود، فيقاتلهم المسلمون فلا يبقى منهم أحد، ففي صحيح مسلم أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)). إلا الغرقد شجر لا يزال اليهود يزرعونه ليقيهم بأس المسلمين، فهم على يقين بأخبار الصادق الأمين، ?لَّذِينَ آتَيْنَـ?هُمُ ?لْكِتَـ?بَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ?لْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146].
وبعد ذلك، يشرع عيسى عليه السلام في مهمة عظمى، ألا وهي إعلاء كلمة الله وتحكيم شريعة الإسلام، فيبقى في الأرض أربعين سنة، حكماً عدلاً مقسطاً، فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية، ويهلك الله في زمانه كل الملل إلا الإسلام، فترفع الشحناء والتباغض وتمتلئ الدنيا سلاماً كما يمتلئ الإناء ماء، وتنزع حمة كل ذات حمة حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا تضره، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، وتكون الكلمة واحدة، فلا يعبد إلا الله، وتضع الحرب أوزارها.
وهم على تلكم الحال، إذا هناك في بقعة من البقاع، تحفر الأرض شيئاً فشيئاً، وكأن هناك شيئاً يحاول الخروج، فيوحي الله عز وجل إلى عيسى كما في صحيح مسلم: ((إني قد أخرجت عباداً لي لا يَدان لأحد بقتالهم، فحرّز عبادي إلى الطّور)) ، فيبعث الله هؤلاء الخلق، إنهم أبشع قوم، وأفظع خلق، إنهم يأجوج ومأجوج.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، وصلى الله وسلم وعلى آله الأطهار الطيبين، وصحابته الغر الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: اعلموا عباد الله أن يأجوج ومأجوج أمتان كثيرتا العدد، وهما من ذرية آدم عليه السلام، فقد جاء في الصحيحين ((يقول الله: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، قال: يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعين، فذاك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد)) ، فاشتد ذلك عليهم فقالوا: يا رسول الله، أينا ذلك الرجل؟ قال: ((أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفا ومنكم رجل) )، ثم قال: ((والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة)) ، قال: فحمدنا الله وكبرنا، ثم قال: ((والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة، إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو الرقمة في ذراع الحمار)). فهذا الحديث يدل علىكثرة عدد هؤلاء القوم يأجوج ومأجوج.
وقد ذكر الله تعالى في سورة الكهف أن ذا القرنين في تطوافه في الأرض بلغ بين السدين، فوجد من دونها قوماً لا يكادون يفقهون قولاً. فاشتكوا له من الضرر الذي يلحقهم من يأجوج ومأجوج، وطلبوا منه أن يقيم بينهم وبينهم سدا يمنع عنهم فسادهم، ففعل. فذلك السد يمنع يأجوج ومأجوج من الخروج، قال تعالى: فَمَا ?سْطَـ?عُواْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا ?سْتَطَـ?عُواْ لَهُ نَقْبًا [الكهف:97]، وذلك مستقر إلى آخر الزمان، حين تقرب الساعة، ويأتي وعد الله فيؤذن لهم بالخروج، عندئذ يُدكّ السد، فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبّى جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقّاً [الكهف:98]، فيخرجون أفواجاً أفواجاً كموج البحر، وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ [الكهف:99]، وفي آية أخرى قال تعالى: حَتَّى? إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [الأنبياء:96]، من كل مرتفع في الأرض يخرجون يسرعون في الإفساد في الأرض.
هذا واعلموا أنه قد فتح من ردم يأجوج ومأجوج في عصره فتحة صغيرة، ففي البخاري عن زينب بنت جحش أن رسول الله دخل عليها يوماً فزعاً يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وحلق بين أصبعيه الإبهام والتي تليها، فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)). وفي سنن الترمذي وابن ماجه واللفظ له عن أبي هريرة مرفوعاً: ((إن يأجوج ومأجوج يحفرون كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فسنحفره غدا. فيعيده الله أشد ما كان، حتى إذا بلغت مدّتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فسنحفره غدا إن شاء الله، واستثنوا، فيعودون إليه وهو كهيئته يوم تركوه، فيحفرون ويخرجون على الناس)).
هنالك، يوحي الله تعالى إلى عيسى أنهم قد خرجوا فحرّز عبادي إلى الطور، ويحصر نبي الله عيسى مع أصحابه في حصونهم لا يستطيعون الخروج، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم.
فيرغب المسلمون: ألا رجل يشري نفسه فينظر ما فعل هذا العدو؟ قال : ((فيتجرد رجل منهم لذلك محتسبا لنفسه قد أظنها على أنه مقتول، فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض، فينادي: يا معشر المسلمين، ألا أبشروا فإن الله قد كفاكم عدوكم، فيخرجون من مدائنهم وحصونهم))، ((فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيرا كأعناق البخت، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس)).
ومما يدل على كثرة عدد يأجوج ومأجوج ما رواه ابن ماجه عن النواس بن سمعان مرفوعاً: ((سيوقد المسلمون من قسيّ يأجوج ومأجوج ونشابهم ـ أي: سهامهم ـ وأترسهم سبع سنين)).
ويبقى الحال على ذلك، وينتشر الإسلام فيعمّ المشرق والمغرب، ويموت عيسى عليه السلام والمهدي، وماذا بعد ذلك؟
هذا ما سنراه في الخطبة القادمة إن شاء الله عز وجل.
(1/3472)
علامات الساعة الكبرى (ما بعد يأجوج ومأجوج)
الإيمان
أشراط الساعة
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
9/9/1420
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اندراس الإسلام في آخر الزمان. 2- طلوع الشمس من مغربها. 3- خروج الدابة. 4- دعوة للمبادرة إلى التوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد كان حديثنا في الخطبة الأخيرة عن الأسباب المنجية من فتنة المسيح الدجال، ثم قتال المسلمين لليهود، ثم خروج يأجوج ومأجوج وإفسادهم في الأرض، وكيف يقضي الله عليهم رحمة بعباده المؤمنين. وبعد ذلك يموت عيسى عليه السلام والمهدي الصالح، وماذا بعد ذلك؟
بعد ذلك الانتشار العظيم للإسلام الذي يعم المشرق والمغرب، يضعف الإسلام مرة أخرى، ويترعرع الشر، فيرفع القرآن ويذهب العلم، وتعود البشرية إلى ما كانت عليه من الضلال والشرك.
فقد روى ابن ماجه عن حذيفة مرفوعاً: ((يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليُسرى على كتاب الله في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: "لا إله إلا الله" فنحن نقولها)).
وروى الحاكم عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: ((لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت)) ، وفي صحيح مسلم عن عائشة مرفوعاً: ((لا نذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى)) ، فقالت عائشة: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله: أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [الصف:9] أن ذلك تام!! قال: ((إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيبة فتوفى كل من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم)) على هؤلاء تقوم الساعة.
وتهدم الكعبة على يد الحبشة فيجعلونها خراباً، ولا يعمر بعده أبداً كما في مسند أحمد.
حين ينتشر الكفر والفسق والفاحشة تحدث أكبر ظاهرة غريبة في تاريخ البشرية، ألا وهي طلوع الشمس من مغربها، تطلع الشمس من مغربها فيراها الناس كلهم، فيؤمنون أجمعون، قال : ((فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً)).
كيف تطلع الشمس من مغربها؟ اعلموا أنه قد جاء في صحيح البخاري أن أبا ذر كان مع النبي : فقال رسول الله حين غربت الشمس: ((أتدري أين تذهب؟)) فقال: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: وَ?لشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ?لْعَزِيزِ ?لْعَلِيمِ [يس:38] )) ، هنالك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، فقد روى مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: ((من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)) ، وروى أحمد عن عمرو بن العاص مرفوعاً: ((لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب، فإذا طلعت طُبع على كل قلب بما فيه، وكفي الناس العمل)).
وبعد ذلك مباشرة تخرج على البشرية جمعاء وقت الضحى دابة عظيمة، لا عهد للبشر بها، فتخاطب الناس وتكلمهم، قال تعالى: وَإِذَا وَقَعَ ?لْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مّنَ ?لأرْضِ تُكَلّمُهُمْ أَنَّ ?لنَّاسَ كَانُوا بِئَايَـ?تِنَا لاَ يُوقِنُونَ [النمل:82].
وروى أحمد عن أبي أمامة مرفوعاً: ((تخرج الدابة فتسم الناسَ على خراطيمهم)) تسمهم أي: تضع على وجوههم علامات تميز المؤمن عن الكافر.
وبعدها تهب ريح طيبة ألين من الحرير من قبل الشام تقبض روح كل مؤمن، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، حتى لو كان أحدكم في كبد جبل لدخلته، فيبقى شرار الخلق لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟! فيقولون: بم تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، كما ثبت في الصحيح.
عندئذ لا يبالي الله بمن بقي من العباد، فتخرج نار من المشرق وتعمّ الدنيا، فتحشر الناس إلى الشام، تتبعهم وهم فارّون منها قاصدين الشام، تصبح معهم وتمسي معهم وتبيت معهم، عندئذ يؤذن للملك إسرافيل بالنفخ في الصور، ذلكم الملك الذي يمسك الصور، لا يرتد إليه طرفه ـ لا يرمش ـ خوفاً من أن يأتي الأمر الإلهي وهو غافل، هنالك ينفخ في الصور وتقوم الساعة على شرار الخلق.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خاتم الأنبياء والمرسلين.
أما بعد: فإننا قد رحلنا معكم منذ شهرين أو أكثر في رحاب آيات الله تعالى وسنة نبيه، رأينا فيها القيامة الخاصة وهي "الموت" والقيامة العامة بدءاً من علاماتها الصغرى إلى الكبرى ثم النفخ في الصور. فما الغاية من كل ذلك؟ وما الثمرة من كل ما سمعناه؟.
إنها الدعوة إلى التوبة، فإن الله يدعونا دائماً إلى التوبة إليه والإقبال عليه، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وما ترك الله باباً من أبواب التذكير والتحذير إلا فتحه أمامنا، داعيه ينادينا كل يوم: حيّ على الصلاة، حي على الفلاح، إلى أين يا عبدي؟ أولك رب غيري؟ إنني أتودد إليك بالنعم ثم أنت تتبغض إلي بالمعاصي، خيري إليك نازل وشرك إلي صاعد، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!
ذكرك بالموت فأنت تشهده كل يوم، ولا تريد التذكر.
ندبك إلى النظر في خلقه وقرب قيامته، وأنت لا تريد التفكر.
فإني أذكركم ـ عباد الله ـ بالتوبة إلى الله ما دام بابها مفتوحاً أمام الجميع، وها هو شهر التوبة نعيش في كنفه، فأبشر يا من ازداد إيمانه ويقينه، وأبشر يا من هداه الله إلى طاعته وتقواه، فتح الله عينيك على هذا النور العظيم، ومتع أذنيك بسماع ذكره الحكيم، والله إن في هذا الشهر أناساً يتوبون إلى الله، لو وُزعت توبتهم على أهل الأرض لوسعتهم.
فأبشروا واستمعوا إلى قصة أخ لنا تاب في شهر رمضان وعاد إلى ربه الرحمن، وحسنت توبته، حتى إنه كان إذا تذكر ذنوبه ومعاصيه بكى بكاءً شديداً، فحسن أمره، وواظب على طاعة مولاه من صلاة وصيام وحسن قيام، حتى جاء يوم قرر أن يحضر فيه مجلساً من مجالس الذكر، وكان اليوم يوم اثنين، وبمجرد أن مشى خطوات صدمته سيارة مسرعة، فألقته ميتاً رحمه الله. هذه هي الخاتمة التي أرادها الله لهذا العبد الصالح، تكون آخر ساعاته أن يعود إلى ربه عز وجل.
فنسأل الله أن يجعله كذلك الرجل الذي أراد أن يسلم في عهد رسول الله ، فأتاه ورسول الله يجهز جيشاً لمعركة كبيرة مع المشركين، فقال: لو أني تبعتك ما لي وما علي؟ قال : ((لك ما للمسلمين عامة، وعليك ما عليهم عامة، فإن غنموا غنمت معهم)) ، قال: لا والله ما لهذا اتبعتك، إنما اتبعتك لأرمى بسهم من ها هنا، وأشار إلى نحره، ويخرج من ها هنا، وأشار إلى قفاه. فقال : ((إن قتلت فأنت في الجنة)) ، فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فأبلى بلاءً حسناً حتى قتل، ثم جيء به إلى النبي وقد رُمي بسهم في نحره فخرج من قفاه، فقال رسول الله : ((صدق الله فصدقه، بخٍ بخٍ عمل قليلاً ونال كثيراً، دخل الجنة وما سجد لله سجدة)).
نسأل الله لنا ولكم حسن الخاتمة. فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون من قبل أن يأتي يوم لا تنفع فيه التوبة:
تفكَّر في مشيبك والمآب ودفنك بعد عزك في التراب
إذا وافيت قبراً أنت فيه تقيم به إلى يوم الحساب
فلولا القبر صار عليك سترا لأنتنت الأباطح والروابي
خلقت من التراب فصرت حيًّا وعلّمت الفصيح من الخطاب
وعدت إلى التراب فصرت فيه كأنَّك ما خرجت من التراب
فطلق هذه الدنيا ثلاثاً وبادر قبل موتك بالمتاب
نصحتك فاستمع قولي ونصحي فمثلك قد يُدلُّ على الصواب
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
(1/3473)
قيام الساعة (1) (اليوم الآخر)
الإيمان
اليوم الآخر
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
16/9/1420
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تذكير الله تعالى ورسوله باليوم الآخر. 2- أسماء اليوم الآخر وسبب تسميته بها. 3- قرب اليوم الآخر. 4- صفات اليوم الآخر وأهواله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، فإننا قد وصلنا في حديثنا معكم إلى الحديث عن اليوم الآخر، يومٌ يُبيد الله الحي القيوم فيه الأحياء والحياة، يوم تبدّل فيه الأرض غير الأرض والسموات، يوم كثيراً ما حذرنا منه الله تعالى في كتابه، وأنذرنا إياه رسوله في مجموع خطابه، فكثيراً ما نسمع أحكام الله تعالى من حلال وحرام ويختمها تعالى بالتذكير بهذا اليوم العصيب، مثل قوله عز وجل: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ?للَّهِ وَ?لرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ [النساء:59]، ويقول تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ [الأحزاب:21]، وقال في شأن المرأة المطلقة: وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ ?للَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ [البقرة:228].
وغيرها من الآيات التي لا تعد ولا تحصى، ومثل ذلك جاء في السنة النبوية: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)) ، لأنه يعلم تعالى أن الذي يؤمن باليوم الآخر وأهواله لا يمكن أن يخالف أوامره ويرتكب مناهيه. فماذا أعددتم لهذا اليوم معشر المسلمين؟ إنّه اليوم الذي سينتهي فيه كل شيء.
ولو أنَّا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شي
سمّاه تعالى باليوم الآخر لأنه آخر يوم في هذه الدنيا.
وسماه تعالى بالقيامة لأن المخلوقات كلها ستقوم فيه من بعد موت.
وسماه تعالى بيوم البعث لأن المخلوقات كلها ستبعث فيه.
وسماه تعالى بالساعة لأن ذلك اليوم يأتي بغتة والناس لا يشعرون، فهو كالساعة أي: اللحظة.
وسماه تعالى بالقارعة لأنه يفزع وتقرع له القلوب لأهواله.
وسماه تعالى بالصاخة لأن القيامة تصخ الآذان، أي: تبالغ في الإسماع حتى تكاد تصخ الآذان أي: تصمها.
وسماه تعالى بالطامة لأنه يطم كل أمر فظيع.
وسماه تعالى بالغاشية لأنه يغشى الناس جميعهم ويعمهم كما يغشاك الثوب.
وسماه تعالى بالحسرة لشدة تحسر العباد في ذلك اليوم وندمهم.
وسماه تعالى بالفصل لأنه يفصل بين المؤمن والكافر والبر والفاجر.
وسماه تعالى بيوم الدين أي: الجزاء لأن كل مخلوق سوف يلقى جزاءه.
وسماه تعالى بيوم الخروج لخروج الناس من مقابرهم.
وسماه تعالى بيوم الوعيد لأنه اليوم الذي أوعد الله به عباده.
وسماه تعالى بيوم الحساب فلا ينجو أحد من محاسبة الله له إلا من رضي عنه.
وسماه تعالى بيوم الجمع فلا يغيب أحد.
وسماه تعالى بيوم التلاق فسوف يلتقي الجميع يومئذ حتى آدم بآخر ابن له.
وسماه تعالى بيوم التنادي لكثرة النداء والصياح والعويل.
وسماه تعالى بيوم التغابن لأن المرء غُبِنَ في حياته فلم يستثمرها في الطاعات.
وسماه تعالى بيوم الخلود إذ لا موت بعده.
وسماه تعالى بالواقعة لأنه متحقق الوقوع.
وسماه تعالى بالآزفة أي: القريبة وكل آت قريب.
وسماه تعالى بالحاقة ففيه يتحقق الوعد والوعيد.
ذلك اليوم لا ريب فيه، ليس بينه وبيننا إلا نفخة واحدة، حين يؤمر إسرافيل بالنفخ في الصور، والصّور قرن ينفخ فيه. وتذكروا جيداً ـ عباد الله ـ ما رواه الحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً: ((إن طرف صاحب الصور منذ وُكل به مستعد ينظر نحو العرش، مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه، كأن عينيه كوكبان دريان)). وفي هذا الزمان أصبح إسرافيل أكثر استعداداً وتهيّؤاً للنفخ في الصور، فقد روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: ((كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنّى جبهته وأصغى سمعه، ينتظر أن يؤمر أن ينفخ فينفخ)) قال الصحابة: فكيف نقول يا رسول الله؟ قال: ((قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، توكلنا على الله ربنا)).
قال عز وجل: مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً و?حِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى? أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس:49، 50].
روى البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً: ((ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته ـ ناقته ـ فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أكلته إلى فِيه فلا يطعمها)).
هنالك قال تعالى: وَنُفِخَ فِى ?لصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَن فِى ?لأرْضِ إِلاَّ مَن شَاء ?للَّهُ [الزمر:68]. إلا من شاء الله مما لا يفنى كالجنة وما فيها من حورٍ وولدانٍ وغير ذلك، والنار والعرش واللوح والقلم.
يَوْمَ تَرْجُفُ ?لرَّاجِفَةُ [النازعات:6]. يوم وصفه الله العظيم بأنه يوم عظيم فقال: أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ ?لنَّاسُ لِرَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [المطففين:4- 6]، ووصفه بأنه ثقيل فقال: إِنَّ هَـ?ؤُلاَء يُحِبُّونَ ?لْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً [الإنسان:27]، ووصفه بأنه عسير فقال: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ [المدثر:9].
ويبلغ الرعب والفزع بالعباد مبلغه، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].
تلك المرضع التي تغدي وليدها بنفسها في هذه الدنيا تذهل عنه في ذلك اليوم، والحامل يسقط حملها، فالرضيع بلا فطام، والجنين بلا تمام، وترى الناس سكارى لا من الشراب، ولكن من شدة العذاب.
هنالك تشخص الأبصار فلا تطرف، ولا يلتفت الناس يميناً ولا شمالاً، وتصبح أفئدتهم خاليةً هواءً، لا تعي ولا تعقل شيئاً، وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ غَـ?فِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ?لظَّـ?لِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ?لأبْصَـ?رُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء [إبراهيم:42]، وترتفع القلوب لشدة الهول فلا تخرج: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ?لآزِفَةِ إِذِ ?لْقُلُوبُ لَدَى ?لْحَنَاجِرِ كَـ?ظِمِينَ [غافر:18] أي: ساكتين.
وحسبك ـ يا عبد الله ـ أن الوليد الذي لم يرتكب جرماً في حياته يشيب شعره لشدة ما يرى من أهوال الساعة، فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ ?لْوِلْد?نَ شِيباً السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً [المزمل:17، 18].
وحسبك أن تعلم أن كل إنسان يومئذ سيقطع علاقته بأقرب وأحبّ الناس إليه، فَإِذَا جَاءتِ ?لصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ?مْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:33-37].
ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ وَ?خْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ [لقمان:33].
هذا بلاغ، هذه نداءات الله لكم فما عساكم تفعلون؟ فاللهم رحمتك يا رحمن، يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3474)
قيام الساعة (2)
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
23/9/1420
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النفخ في الصور. 2- يفنى الإنسان بعد موته إلا عجب الذنب. 3- الحشر وكرباته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله ، فإننا لا نزال نحدثكم عن قيام الساعة وأهوالها، عن صورها وأحوالها، لأنها أكبر شاغل لعباد الله الصالحين، وأعظم هم للعاملين العارفين. كيف لا؟! وسيد الأولين والآخرين يقول: ((كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته، وأصغى سمعه، ينتظر أن يؤمَر أن ينفخ فينفخ)). كيف لا نكثر عنه الحديث وخير ولد آدم يقول: ((إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)).
وقفنا معكم عند النفخة الأولى، وإهلاك الله عز وجل لجميع من في الأرض والسموات، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، ينادي: أين الملوك؟ أين الجبابرة؟ أين المتكبرون؟ فلا تسمع لأحد منهم همسة.
وَنُفِخَ فِى ?لصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَن فِى ?لأرْضِ إِلاَّ مَن شَاء ?للَّهُ [الزمر:68]، ثم ماذا؟
ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى? فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ [الزمر:68]، يَوْمَ تَرْجُفُ ?لرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا ?لرَّادِفَةُ [النازعات:6، 7]، وبين النفختين أربعون سنة، النفخة الثانية ليوم الجمع، ليوم الحشر، ليوم الحساب فيا حسرة على من غفل عن هذا اليوم، ويا لندم من نسي هول المطلع، ويا لفجاعة من لم يتذكر الساعة.
أيها العبد الضعيف، أيها العبد المظلوم، يا من سُن له الصبر على هول ما رأى من مصائب الدنيا وبلائها، يا من صبر على أذى الظالمين وسخرية الساخرين واستهزاء المستهزئين، جاء اليوم الذي كنت تصبر لأجله.
وأنت أيها المغرور بأحوال أهل الكفر والفجور، يا من رأى الكفار يتنعمون مع كفرهم، يفرحون مع فسقهم، يتلذذون مع فجورهم، لا يغرنك ذلك، ولا تحسبن الله غافلاً عنهم، كل ما فعلوه من لدن آدم إلى اليوم سيحاسبون عليه حساباً مفصلاً، ما بينهم وبين الحساب إلا نفخة في الصور، وَ?سْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ?لْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ [ق:41]، يَوْمَ يَدْعُو ?لدَّاعِ إِلَى? شَىْء نُّكُرٍ ، يدعونهم فَإِذَا هُم مّنَ ?لأجْدَاثِ إِلَى? رَبّهِمْ يَنسِلُونَ [يس:51].
قد فني كل شيء في الإنسان إلا عجب الذنب، وهو عظم صغير في صلب الإنسان، فهذا لا يبلى ولا يفنى، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: ((إن في الإنسان عظماً لا تأكله الأرض أبداً، فيه يركب يوم القيامة)) ، قالوا: أي عظم هو يا رسول الله؟ قال: ((عجب الذنب)) ، وروى مالك مرفوعاً: ((كل ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب)).
هناك يأمر الله السماء فتمطر مطراً ينبت منه العباد كما ينبت البقل، فلا يبقى أحد إلا بعثه الله تعالى، وفي القرآن إشارات لطيفة إلى ذلك قال تعالى: وَهُوَ ?لَّذِى يُرْسِلُ ?لرّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَـ?هُ لِبَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ ?لْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلّ ?لثَّمَر?تِ كَذ?لِكَ نُخْرِجُ ?لْموْتَى? لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف:57]، وفي آية أخرى قال سبحانه: كَذَلِكَ ?لنُّشُورُ [فاطر:9].
يخرج الناس ليوم الجمع، ذ?لِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ?لنَّاسُ وَذ?لِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ [هود:103]، وأول من يبعث مِن خلق الله وأول من تنشق عنه الأرض هو محمد بن عبد الله سيد ولد آدم ، فقد روى مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفّع)).
ثم تنشق الأرض عن الأولين والآخرين قال تعالى: قُلْ إِنَّ ?لأَوَّلِينَ وَ?لآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى? مِيقَـ?تِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ [المعارج:49، 50]، وقال عز وجل: أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ?للَّهُ جَمِيعًا إِنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [البقرة:148]، وقال تعالى: إِن كُلُّ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ إِلاَّ اتِى ?لرَّحْمَـ?نِ عَبْداً لَّقَدْ أَحْصَـ?هُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ ءاتِيهِ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَرْداً [مريم:93-95]، وقال: وَحَشَرْنَـ?هُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف:48].
اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويدفع نقمه ويكافئ مزيده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده وأشهد أن محمداً عبده ورسوله لا نبي بعده.
أما بعد: يحشر الناس في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حفاة عراة غُرلاً، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [الأنبياء:104]، قالت عائشة رضي الله عنها عندما سمعت هذا: يا رسول الله، الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: ((يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض)) لِكُلّ ?مْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:37].
ثم يكسى الأنبياء، أولهم إبراهيم، ثم الصالحون، فيقف العباد جميعهم يوم القيامة في أرض أخرى غير هذه الأرض قال : ((يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة نقي)).
أما الكفار، فيا ويلهم ويا حسرتهم في ذلك اليوم، يذهبون إلى المحشر خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة، لا يلتفتون يمنة ولا يسرة يقولون: ي?وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا [يس:52]، فإنهم ـ والله ـ ما كانوا في مرقد، ولكنهم ينسون ما لاقوه من العذاب إذا رأوا أهوال ذلك اليوم.
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ?لرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى? بِهِمُ ?لأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ ?للَّهَ حَدِيثاً [النساء:42]، وَيَقُولُ ?لْكَافِرُ يَـ?لَيْتَنِى كُنتُ تُر?باً [النبا:40]، فلا يجد إلا أن يعض على يديه ندماً، وَيَوْمَ يَعَضُّ ?لظَّـ?لِمُ عَلَى? يَدَيْهِ يَقُولُ ي?لَيْتَنِى ?تَّخَذْتُ مَعَ ?لرَّسُولِ سَبِيلاً ي?وَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ ?لذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِلإِنْسَـ?نِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
فيشتد الكرب، ويعظم الخطب، ويطول الوقوف، يوم مقداره خمسون ألف سنة، فتدنو الشمس من رؤوس الخلائق حتى لا يكون بينها وبينهم إلا مقدار ميل واحد، فقد روى مسلم عن المقداد بن الأسود مرفوعاً: ((تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل)).
قال سليم بن عامر: فوالله ما أدري ما يعني بالميل؟ أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين؟
قال: ((فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً)) ، وأشار بيده إلى فمه.
عباد الله، ما السبيل إلى النجاة من هذا الهول؟ ما السبيل إلى النجاة من هذا الموقف؟
والله لو كتب الله علينا الفناء حينئذ لذاب الناس كما تذوب الشمعة في وهج النار، لا ينفع يومئذ إلا التقوى:
إذا المرء لم يلبس لباساً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسياً
وخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصياً
ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقياً
ولكن الدنيا تفنى ويفنى نعيمها فلا تبقى إلا الذنوب والمعاصيا
نسأل الله عز وجل الكريم البر الرحيم العفو والعافية في الدنيا والآخرة، والحمد لله رب العالمين.
(1/3475)
خطبة عيد الفطر 1420هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
1/10/1420
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأعمار مطيتنا إلى الآخرة. 2- من الناس من يحاسب نفسه ومنهم المفرط الغافل. 3- دعوة لمحاسبة النفس. 4- السلف يحاسبون أنفسهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فحياكم الله أيها الآباء والأمهات الفضلاء، وأيها الإخوة والأخوات النبلاء، طبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله تعالى الذي جمعنا في هذا اليوم المبارك على طاعته أن يجمعنا مع الحبيب المصطفى في دار كرامته.
فهذا عيد جديد، صادفه عام ميلادي جديد، عيد أهلّ علينا، وعام اقترب إلينا، طوينا عاماً قبله مع ذكريات تثير الجراح والأفراح والآلام والآمال في آن واحد، شهر رمضان ودّعناه، وعام بكامله طويناه، عيد جديد أحييناه وشهر كريم دفناه، الأيام تجري، والأشهر تسرع وراءها، وتسحب معها السنين والأعمار، تُطوى حياة جيل بعد جيل، إلى أن نقف كموقفنا هذا بين يدي الجليل، فيسألنا عن الكثير والقليل، مصداقاً لقوله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7، 8]، واستمعوا إلى لقمان الحكيم وهو يعظ ابنه قائلاً: (أي بني، إنك من يوم نزلت إلى الدنيا استدبرت الدنيا واستقبلت الآخرة، فأنت إلى دار تذهب إليها أقرب من دار ترحل عنها).
وها هو العبد الصالح توبة بن الصمة، كان من أشد الناس محاسبة لنفسه، عندما بلغ الستين من عمره عدّ أيامه فوجدها تزيد على واحد وعشرين ألف يوم، ففزع وصرخ صرخة قائلاً: "يا ويلاه يا ويلاه، ألقى الله بواحد وعشرين ألف ذنب، فكيف وفي اليوم الواحد آلاف الذنوب؟!" ـ مرتين ـ.
والناس في هذا العيد ومع إقبال العام الجديد صنفان:
صنف يحاسب نفسه حساب الشريك الشحيح، ويسألها عن سبب فرحتها بهذا العيد، ويذكرها بأن العيد ليس بلبس الجديد وأكل الثريد، وإنما العيد هو لمن قام بطاعة رب العبيد. يحمد الله تعالى أنه انتصر على نفسه، واكتسب الأجر والثواب في شهر هو أعظم شهر عند الله، واغتنم الفرصة فيه فقدم خيرا. وحق له أن يفرح بعبادة ربه الواحد الأحد الذي ينعم عليه ليل نهار وصباح مساء.
وصنف ظفرت به نفسه وانتصرت عليه، فأمرته بالشهوات والنزوات، وألهته عن عبادة رب الأرض والسموات، فما أشد ألمه، وما أكبر ندمه، فلم الفرح وقد ذاق مر الهزيمة؟! ولم السرور وقد فاتته الفرصة العظيمة؟!
عام مضى، فأبعدنا من الدنيا عاماً، وقربنا من الآخرة عاماً، فأحببت أن نقف اليوم وقفة صدق نحاسب فيها أنفسنا قبل أن نحاسب أمام الذي لا تخفى عليه خافية، قال عمر بن الخطاب: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتزينوا للعرض الأكبر، يوم لا تخفى منكم خافية، فإنما يخف الحساب يوم القيامة عمن حاسب نفسه في الدنيا).
حاسبوا أنفسكم اليوم، فإن اليوم عمل، وغدا حساب ولا عمل، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
خاطب نفسك وتحدث معها، وذكرها بالله، فالمؤمن الصادق هو من يحاسب نفسه على كل شيء، إن ارتطم رأسه بالباب سأل نفسه: لماذا؟ لعله ذنب عجل الله عقوبته. وإن رأى أولاده في انحلال وانحراف اتهم نفسه قبل كل شيء.
يا نفس إن العمر هو رأس مالي، فإن فني العمر فني رأس المال.
يا نفس لقد أمهلني الله تعالى إلى هذا اليوم الذي يفرح له الناس، فلو توفيت قبله لتمنيت الرجوع لتعملي صالحاً، فاعملي صالحاً ما دمت على الأرض، قبل أن تدفني تحتها وتصرخين قائلة: رَبّ ?رْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـ?لِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:100]، فيأتيه الجواب كالصفعة: كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون:100]، كلمة لا وزن لها ولا عبرة لها.
ويحك يا نفس إن كنت قد تجرأت على الله، وعصيته وأنت تظنين أنه لا يراك فما أكفرك.
ويحك يا نفس إن كنت قد تجرأت على الله وعصيته وأنت تظنين أنه يراك فما أقل حياءك من الله.
ويحك يا نفس أجعلت الله أهون الناظرين إليك.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستح من نظر الإله وقل لها: إن الذي خلق الظلام يراني
إذا خلوت الدهر يوماً فلا تقل: خلوت ولكن قل: عليّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
لهونا لعمرو الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن لنا في توبة فنتوب
ويحك يا نفس هل وحدت الله المجيد؟ هل أخلصت له التوحيد؟ هل توكلت عليه حق التوكل؟ هل استعنت بالله وحده في كل شيء؟
يا نفس هل حافظت على الصلوات كما أمر رب الأرض والسموات؟
يا نفس هل حافظت على طاعة الرحمن في هذا الشهر شهر رمضان؟
يا نفس هل أديت زكاة مالك؟ هل تتحدثين شوقاً إلى زيارة بيت الله الغفور كما تتحدثين لهفاً عن زيارة بلاد الكفر والفجور؟
يا نفس هل قمت بواجب الوالدين كما أمر ببرّهما رب المشرقين والمغربين؟
ويحك يا نفس هل صدقت الوعد ووفيت العهد؟
ويحك يا نفس هل حزنت على مُصاب إخوانك في بقاع الأرض، وما يجتاحها من دمار على أيدي الملاحدة والكفار؟
ويحك يا نفس هل تلوت كتاب الله وتلذذت به كما يتلذذ أصحاب الغناء بغنائهم؟
ويحك يا نفس كيف يطيب لك سماع مزمار الشيطان وتغفلين عن سماع القرآن؟
النفس تنشط للقبيح وكم تنام عن الحسن
يا نفس ويحك ما الذي يرضيك في دنيا العفن
أولى بنا سكب الدموع وأن نتحلى بالحزن
أولى بنا أن نرعوي أولى بنا لُبس الكفن
أولى بنا قتل الهوى والصبر في هذا الزمن
فأمامنا سفر بعيد بعده يأتي السّكن
إما إلى نار الجحيم أو الجنانٍ جنان عدن
ويحك يا نفس إلى متى تعصين، وعلى الله تتجرئين؟ ويحك يا نفس كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب!! وكأنك لا تعلمين ما عند الله من العذاب!!
أما تخافين من الموت؟! أما تخافين من النار والأغلال والأهوال؟! أما تخافين من أن تحجبي عن النظر إلى الواحد الكبير المتعال؟!
يا نفس قد أزف الرحيل وأظله الخطب الجليل
فتأهبي لله يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل
فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل
قُرِن الفناء بنا جميعاً فلا يبقى العزيز ولا الذليل
حاسبوا أنفسكم ـ عباد الله ـ من الآن، فإنه قد يخطئ المحاسبون في الدنيا، ولكن الله لا يغيب عنه شيء، لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى [طه:52].
وانظروا إلى من هم أفضل منا مرتبة، وأكثر منا عبادة، كيف كانوا يخافون يوم الحساب.
فها هو رسول الله يتلو عليه عبد الله بن مسعود قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى? هَؤُلاء شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ?لرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى? بِهِمُ ?لأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ ?للَّهَ حَدِيثاً [النساء:41، 42]، فبكى رسول الله لهول المطلع يوم البعث.
وها هو الرجل الصالح يزيد الرّقاشي يبكي يوماً قائلاً: "ويحك يا يزيد، من الذي يصلّي عنك بعد الموت؟ من الذي يصوم عنك بعد الموت؟ من يعبد عنك ربك بعد الموت؟ أيها الناس ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم؟! كيف حاله من الموت طالبه، والقبر بيته، والتراب فراشه، والدود أنيسه، وينتظره بعد كل ذلك الفزع الأكبر؟!" ثم غشي عليه.
وها هو الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز يبكي فتبكي زوجته فاطمة لبكائه، ويبكي الخدم لبكائهما، وكأن في البيت جنازة، فقالت فاطمة: يا أمير المؤمنين، بأبي أنت وأمي، ما الذي أبكاك؟ قال: (يا فاطمة ذكرت منصرف القوم بين يدي الله تعالى، فريق في الجنة وفريق في السعير، ولا أدري من أي الفريقين أنا).
وها هو محمد بن المنكدر يصلي ليلاً ويبكي بكاءً شديداً، حتى لا يقوى على الكلام، فخاف عليه أهله، وظنوا أنه هالك لا محالة، فهرعوا إلى صديقه أبي حازم الأعرج لعله يواسيه ويخفف عنه، فلما دخل عليه قال: ما بك يا أخي؟ ما الذي فعل بك هذا؟ فقال: "يا أبا حازم، مرت بي آية في كتاب الله فعلت بي ما ترى"، قال: ما هي؟ قال: "قوله تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ?للَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47]، يظن الإنسان نفسه ناجياً وهو هالك"، فجلس أبو حازم يبكي لبكاء صاحبه.
فحان الوقت ـ عباد الله ـ لأن نعود إلى الله ونجدد حياتنا معه تعالى، ونعاهده على البقاء تحت طاعته ما استطعنا، والله يقبل التوبة عن عباده، ويبدل الله سيئاتهم حسنات.
فقد تصبح الدنيا لإبليس شيعة ونحن لغير الله لا نتشيع
فأين إذًا عهد قطعناه لربنا بأنا له دون البرية خُضَّع؟!
والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3476)
الوقوف في أرض المحشر
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
7/10/1420
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كيفية الحشر يوم القيامة. 2- يحشر المرء على ما مات عليه. 3- الآمنون في الفزع الأكبر. 4- المعذبون يوم القيامة. 5- الشفاعة العظمى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإننا لا نزال معكم في الحديث عن اليوم الآخر، وقد وقفنا عند الحديث عن يوم البعث والنشور، يوم الخروج من القبور، وانطلاق الخلق إلى أرض المحشر ذ?لِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ?لنَّاسُ وَذ?لِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ وَمَا نُؤَخّرُهُ إِلاَّ لأجَلٍ مَّعْدُودٍ [هود:103، 104]، ووالله الذي لا إله إلا هو، لو عدت ـ يا عبد الله ـ إلى بيتك اليوم، ولو عدت ـ يا أمة الله ـ اليوم إلى دارك، لو عدنا جميعاً إلى بيوتنا بعد هذه الصلاة، ووجدنا رسالة تنتظرنا تقول: "مطلوب منك المثول بين يدي قاض من قضاة الدنيا" لما هنئنا بشراب أو طعام، ولما تلذذنا براحة أو منام، ولفزعنا أشد الفزع، ولغشينا أكبر الهلع، لأننا نتصور جيداً هول دار القضاء، والرّعب المخيم عليها، والناس صامتون، إلى شفة القاضي ينظرون، وينتظرون سماع الحكم عليك، فكيف ويوم القيامة ستقف فيه بين يدي ملك الملوك وقاضي القضاة، الله رب الأرض والسماوات؟!
يا غافلاً عما خلقت له انتبه جدَّ الرحيل ولست باليقظان
يوم القيامة لو علمت بهوله لفررت من أهل ومن أوطان
ستخرج من قبرك عرياناً لا ثوب لك، حافياً لا نعل لك، أغرل غير مختون، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَـ?عِلِينَ [الأنبياء:104]، وتصور نفسك عارياً حافياً ذليلاً مهموماً مغموماً، منطلقاً إلى أرض المحشر، ولا تسمع إلا همس الأقدام، وكل الخلائق منطلقة معك عن يمينك وعن شمالك، تقبل وحوش البراري والجبال منكسة رؤوسها بعد توحشها وفظاعتها خانعة، تقبل السباع بعد ضراوتها وشراستها خاضعة، تقبل الشياطين بعد تمردها وعتوها خاشعة، ذَلِكَ يَوْمُ ?لتَّغَابُنِ [التغابن:9]، سبحان من جمع الخلائق على اختلاف طبائعهم وخلقهم، سبحان من جمع خلقه بعد تفرّقهم وتبعثرهم.
أما العباد، فيا حسرة على العباد، قال : ((يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنف مشاة، وصنف ركبان، وصنف على وجوههم)) اللهم سلم سلم. فصنف يمشون على أقدامهم فيبلغهم الجهد بقدر أعمالهم. وصنف يركبون، ماذا يركبون؟ يركبون نجائب إبلاً من الجنة، عليها سرج من ذهب لا يعلم قدرها إلا من أعدها، في أرض المحشر؟! إي وربي، واستمع إلى قوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ ?لْمُتَّقِينَ إِلَى ?لرَّحْمَـ?نِ وَفْداً [مريم:85]، وفد وضيف كريم على رب كريم. وصنف يمشون على وجوههم، قال تعالى: ?لَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى? وُجُوهِهِمْ إِلَى? جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:34]، كيف يمشون على وجوههم؟ إن الذي أمشى الحية على بطنها قادر على أن يُمشي الفاجر على وجهه. وقد روى البخاري ومسلم عن قتادة عن أنس أن رجلاً قال للنبي: يا رسول الله، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟! فقال: ((أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟!)) قال قتادة: بلى وربنا، بلى وعزة ربنا. إلى أين؟ إلى أرض المحشر، يَوْمَ تُبَدَّلُ ?لأرْضُ غَيْرَ ?لأرْضِ [إبراهيم:48]، تراها قاعاً صفصفا لا نرى فيها عوجاً ولا أمتا، والعباد يومئذ بين مفلح وخاسر.
ترى رجلاً ينطلق في أرض المحشر وجرحه يثغب دما، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، إنه الشهيد الذي قتل في سبيل الله.
وترى رجلاً ينطلق إلى أرض المحشر آمنا مطمئنا من الفزع الأكبر، من هذا؟ إنهم أصناف:
إنه الساعي في قضاء حوائج إخوانه، فيقضي حاجة هذا، وينفس كربة هذا، وقد قال : ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) وبالله عليكم، هل تساوي كرب الدنيا جميعاً كربة واحدة من كرب يوم القيامة؟!
وممن يأمن من الفزع الأكبر الذي شاب شيبة في الإسلام، جزاء لطول عمره وحسن عمله.
وممن يأمن من الفزع الأكبر المؤذنون، بشراكم أيها المؤذنون، أطول الناس أعناقاً يوم القيامة، كناية عن علو قدرهم وعظم شأنهم عند ربهم.
وممن يأمن الفزع الأكبر صنف يظلهم الله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله، إنهم:
الإمام العادل الحاكم المقسط الذي اتقى الله في رعيته، وآتاه الله القوة والسلطان فسخرهما لإعلاء كلمة الرحمن.
ثانيهم: شاب نشأ في طاعة الله، أقبلت عليه الدنيا بشهواتها ونزواتها وبهرجها وباطلها، فولاها ظهره وأقبل على ربه، فعاش طاهراً نقيا عفيفاً تقياً.
ثالثهم: رجال يعمرون مساجد الله وتعلقت قلوبهم بها، فيجدون بها حلاوة إيمانهم ويناجون فيها مالك أمورهم، ويودون لو ظلوا بها عاكفين عليها.
رابعهم: المتحابون في الله، جمعتهم رابطة الأخوة في الدين، وغشيتهم كلمة توحيد رب العالمين.
خامسهم: رجل أتته امرأة ذات جمال وجاه تريد أن تلبسه ذل المعصية وصغار الفاحشة، فقال لها: إني أخاف الله رب العالمين.
سادسهم: المنفقون أموالهم بالليل والنهار، سراً وعلانية، في وقت غُلت أيدي الناس إلى أعناقهم، فتراهم ينفقون لوجه الله حتى لا تعلم شمائلهم ما تنفق أيمانهم.
سابعهم: الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه من خشيته تعالى، فوالله إن الذي تدمع عينه لذلك حرّم الله عليها النار.
هؤلاء سبعة ذكرهم النبي في حديث واحد جميعاً، وهناك ثامن ذكره النبي وحده، يظله الله تحت ظل عرشه وهو الذي يُنظر المعسر قال : ((من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله)) متفق عليه.
كل هؤلاء يأمنون الفزع الأكبر، والجزاء من جنس العمل، فمن خاف الله تعالى في الدنيا أمنه يوم القيامة. فتزودوا ـ عباد الله ـ من التقوى، فهو خير زاد لكم في هذا اليوم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله باعث الأرواح وقابضها، واهب الحياة وسالبها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلقنا من التراب وإليه يرجعنا، ثم إذا شاء إليه يصيّرنا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أطال الحديث عن الموت وشدته، وعن الحساب وكربته، فنبه الناس من غفلتهم وخلّصهم من حيرتهم، صلى الله عليه وسلم وعلى آله الأطهار وصحابته الأبرار الذين تعلقت قلوبهم بدار القرار، فكانوا للآخرة عاملين، وللموت ذاكرين، حتى لقوا الله رب العالمين.
أما بعد: فإن حال الفجرة والعصاة غير حال البررة والتقاة، فإن مشهدهم يومئذ تقشعر منه الأبدان وتشيب له الولدان.
ترى رجلاً ينطلق في أرض المحشر، لا يقوى على القيام، ولا يقوى على القعود، بطنه منتفخة، يتخبط يمنة وميسرة، من هذا؟ إنه آكل الربا، ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ ?لرّبَو?اْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ?لَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ?لشَّيْطَـ?نُ مِنَ ?لْمَسّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا ?لْبَيْعُ مِثْلُ ?لرّبَو?اْ وَأَحَلَّ ?للَّهُ ?لْبَيْعَ وَحَرَّمَ ?لرّبَو?اْ [البقرة:275].
وترى رجلاً ينطلق في أرض المحشر وحوله أطفال صغار، يسحبونه ويجرونه جرّا، وهم يتعلقون به، من هذا؟ إنه آكل أموال اليتامى ظلماً، إِنَّ ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْو?لَ ?لْيَتَـ?مَى? ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء:10].
وترى رجلاً ينطلق في أرض المحشر وهو يحمل على كتفيه ما أخذه في هذه الدنيا بغير حق، يحمل على كتفيه ما سرقه، من سرق بيضة، من سرق دجاجة، من سرق نعجة، من سرق بقرة، من سرق ناقة، من سرق أمَّة، وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [آل عمران:161].
وترى رجلاً ينطلق إلى أرض المحشر وهو يحمل كأس الخمر في عنقه، إنه شارب الخمر، يبعث على ما مات عليه، وكل من مات على شيء بعث عليه، فنسأل الله لنا ولكم حسن الخاتمة.
ينقادون وينطلقون جميعاً إلى أرض المحشر، في يوم مقداره خمسون ألف سنة، ينقادون إلى لقاء الملك القهار، الواحد الجبار، مالك يوم الدين، وتصور ازدحام الخلائق واجتماعهم فتكتمل عدة أهل الأرض، واستووا جميعاً في موقف العرض، الإنس والجن والشياطين والسباع والدواب والهوام والطيور والوحوش، والشمس فوق رؤوسهم قدر ميل، وقد توهجت نارها، فاجتمع وهج الشمس وحرّ الأنفاس واحتراق القلوب بنار الخوف والحياء من الفضيحة والخزي، ففاض العرق على صعيد المحشر، حتى يرتفع على أبدانهم بقدر أعمالهم، والسؤال همس، والكلام تخافت، واليوم طويل، واشتد الكرب وعظم الخطب.
ويبحث العباد عن أهل المنازل العالية عند الله ليشفعوا لهم عند الله ليأتي ويخلصهم من كربات الموقف وأهواله، فيأتون آدم عليه السلام فيقولون: أنت أبونا آدم، أنت أبو الخلق، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح، أنت أوّل نبي إلى الأرض، وقد سماك الله عبداً شكوراً، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما بلغنا؟ ألا تشفع لنا؟ فيقول: إن ربي قد غضب، وإنه كان لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا عند ربك، أما ترى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب، وإني كنت كذبت ثلاث كذبات ـ فيذكرها ـ نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله فضلك برسالاته وبكلامه على الناس، اشفع لنا عند ربك. أما ترى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب، إني قد قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى عليه السلام، فيقولون: أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلمت الناس في المهد، اشفع لنا عند ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟. فيقول: إن ربي قد غضب، ولم يذكر ذنباً أو لعله يخشى من عبادة النصارى له، فيقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد. فيأتون محمداً الحبيب المصطفى ـ بأبي هو وأمي ـ الذي ادخر دعوته لهذا اليوم حين استعجل بها كل نبي، فيقولون له: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء قد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر، اشفع لنا عند ربك، أما ترى ما نحن فيه؟
فينطلق الرسول فيأتي تحت العرش، فيقع ساجدا لربه، ويثني عليه بما هو أهله، بثناء لم يفتحه الله على أحد قبله. هذه هي أول شفاعة للرسول ، إنما هي ليخلص الله الخلائق من هول وكرب يوم الموقف، وتكون له أخرى حين يدخل الموحدون العصاة النار.
بعد ذلك، ترى الصمت وقد خيم على الموقف، السؤال همس، والكلام تخافت، فإذا بالمكان يغمره ما كان ينتظره كل أحد، يغمر المكان حينئذ نور الحي القيوم وهو آت في ظلل من الغمام والملائكة صفاً صفا، يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ ?لدَّاعِىَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ ?لأصْوَاتُ لِلرَّحْمَـ?نِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ ?لشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ?لرَّحْمَـ?نُ وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وَعَنَتِ ?لْوُجُوهُ لِلْحَىّ ?لْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً [طه:107-111].
وَجَاء رَبُّكَ وَ?لْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً [الفجر:22]، هناك ترتعد الفرائص، وتضطرب الجوارح وتبهت العقول، ويأمر الله تعالى أن يجاء بالنار، وَجِىء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [الفجر:23]، لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، يا للهول، يا لعظمة النار، التي تكور فيها الشمس على عظمتها كما تكور العمامة.
هنالك يتمنى قوم العود إلى الدنيا ليعملوا صالحاً، وَلَوْ تَرَى? إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ?لنَّارِ فَقَالُواْ ي?لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بِئَايَـ?تِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، فلا تلبث النار أن تزفر زفرة وتشهق شهقة، لا يسمعها ملك مقرب، أو نبي مرسل، حتى يجثو على ركبتيه يقول: نفسي نفسي. والله يا عباد الله..
مثل وقوفك يوم الحشر عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا
والنار تزفر من غيظ ومن حنقٍ على العصاة وتلقى الرب غضبانا
اقرأ كتابك يا عبدي على مهلٍ هل ترى فيه حرفاً غير ما كانا
لما قرأت ولم تنكر قراءته وأقررت إقرار من عرف الشيء عرفانا
نادى الجليل: خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا
المشركون في نار جهنم يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا
ربنا لا تخزنا يوم الحساب ولا تجعل لنارك اليوم علينا سلطانا
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينجينا من نار الجحيم، اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض، أسأله تعالى أن يبارك لنا في القرآن العظيم، وأن ينفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
(1/3477)
الحساب
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
14/10/1420
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حوض النبي. 2- العدل المطلق يوم القيامة. 3- تطاير الصحف. 4- سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب. 5- السؤال يوم القيامة. 6- العرض والحساب. 7- مواقف متباينة للناس يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإننا قد وصلنا معكم في الحديث عن يوم القيامة وأهواله، وعن كربه وأحواله إلى أرض المحشر، إلى لحظة الحساب، ورأينا كيف يشفع الحبيب المصطفى في الناس ليتخلصوا من كربات الموقف حتى يأتي الله تعالى لفصل القضاء.
وشفاعته تلكم هي المقام المحمود الذي وعده الله نبيه بقوله: وَمِنَ ?لَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى? أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا [الإسراء:79]، والله لا يخلف الميعاد، وهناك شفاعة أخرى له يكرمه الله تعالى بها خاصة بأهل النار من عصاة الموحدين.
وها هو رب العزة قد جاء، وَجَاء رَبُّكَ وَ?لْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً [الفجر:22]، ورأينا كيف يأمر الله تعالى أن يجاء بالنار، ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، وَجِىء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [الفجر:23]، فتزفر زفرة لا يسمعها نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا قال: نفسي نفسي، هنالك يأذن الله لأمة محمد بأن ترد الحوض، حوضاً عظيماً يصبّ من نهر الكوثر من الجنة، آنيته عدد النجوم، ماؤه أبيض من اللبن وأحلى من العسل، وريحه أطيب من ريح المسك، يشرب منه المؤمنون والحر قد ملأ المكان، والعطش قد أنهك الأبدان، فيشربون شربة هنيئة مريئة لا يظمؤون بعدها أبدا. نسأل الله العظيم من فضله، ولكن ليس كل من انتسب إلى أمة النبي ينال هذا الفضل العظيم والخير العميم، كلا، فقد روى البخاري ومسلم عن جمع من الصحابة أن النبي قال: ((أنا فرطكم على الحوض ـ أي: سابقكم ـ وليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني ـ أي: أخذوا مني بسرعة ـ فأقول: أي رب أصحابي أصحابي، أمّتي أمتي، يقول: لا تدري ماذا أحدثوا بعدك)) ، فتسحبهم الملائكة وتمنعهم من ورود الحوض، لأنهم ما قدروا الله حق قدره، ولا اتقوه حق تقاته، ومن لم يعرف الله في الرخاء لا يعرفه الله في الشدة. هنالك يقول المصطفى : ((سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي)).
يا زارع الخير تحصد بعده ثمرا يا زارع الشر موقوف على الوهن
يا نفس كفي عن العصيان واكتسبي فعلا جميلاً لعل الله يرحمني
يا نفس ويحك توبي واعملي حسناً عسى تجازين بعد الموت بالحسن
وإني سائلكم عن الوحوش التي حشرت مع الإنس والجن، قال تعالى: وَإِذَا ?لْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير:5]، أين هي الآن؟ ما مصيرها اليوم؟ هل على الوحوش والطير والسباع والهوام والدواب حساب؟ إي وربي، واستمعوا إلى الحبيب وهو يقول يوماً لأبي ذر وقد رأى شاتين تنتطحان: ((أتدري فيم تنتطحان؟)) قال أبو ذر: لا، قال : ((ولكن الله يدري، ولسوف يقضي بينهما يوم القيامة)) ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: ((لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)).
يقتص من الدواب التي لا عقل لها ولا تمييز، ليعلم الإنسان يومئذ أن هذا اليوم هو يوم العدل التام، ليعلم أن حساب المكلفين أعسر وأصعب.
حتى إذا فرغ منهم قال لها: كوني تراباً. قال عبد الله بن عمرو: (عندئذ يقول الكافر: يَـ?لَيْتَنِى كُنتُ تُر?باً [النبأ:40]).
وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت وتهتكت للظالمين ستور
وإذا الجنين بأمه متعلقٌ يخشى القصاص وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المُصر على الذنوب دهور
وبعد ذلك يأتي دور العباد، وقد عرضوا على ربهم صفاً صفا، لا أحد منهم غائب، وقد أحدقت بهم الملائكة من كل جانب. ويأمر الله بالكتب وصحائف الأعمال، فتأتي بها الملائكة ويؤتى كل مخلوق كتابه، وهذا هو العدل التام قال تعالى: وَكُلَّ إِنْسَـ?نٍ أَلْزَمْنَـ?هُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ كِتَابًا يَلْقَـ?هُ مَنْشُوراً ?قْرَأْ كَتَـ?بَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ ?لْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13، 14].
واستمعوا إلى قول لقمان لابنه وهو يعظه: ي?بُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ أَوْ فِى ?لأرْضِ يَأْتِ بِهَا ?للَّهُ إِنَّ ?للَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16].
هنالك تبيض وجوه وتسود وجوه، ترتعد القلوب، وتطير العقول، ويرى المجرمون الكتب فيقرؤونها ويقولون: ي?وَيْلَتَنَا مَا لِهَـ?ذَا ?لْكِتَـ?بِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، الكتاب للحساب، ثم يؤمر فيجاء بالميزان للجزاء، يجاء بالميزان وقد سد ما بين السماء والأرض فتقول الملائكة: أي ربنا من يزن هذا؟ فيقول: من شئت من خلقي، فيقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.
هنالك يأمر الله تعالى بسبعين ألفاً من أمة محمد لتدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب. أولئكم الذين بلغوا القمة في توحيد رب العالمين، هم الذين توكلوا على الله حق توكله فلم يتطيروا ولم يسترقوا ولم يكتووا، ما أعظم فرحتهم وما أكبر سعادتهم، يقال لهم: وَتِلْكَ ?لْجَنَّةُ ?لَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]، نسأل الله العظيم من فضله العظيم.
ويبقى سائر الخلق، وجلال الحي القيوم قد غمر النفوس والمكان بالهيبة والجلال والعظمة.
وتصور نفسك في ذلك الموقف الرهيب واليوم العصيب، ولا تسمع إلا همس الناس: نفسي نفسي، فيا هول ذلك اليوم وأنت تنادي معهم، وترى حولك الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، فتدرك حينها أنك موقوف على خطر عظيم. وفجأة، تسمع منادياً ينادي باسمك: فلان بن فلان، فيتقدم نحوك ملائكة لم يمنعهم اشتباه الأسماء باسمك واسم أبيك بغيره، بل عرفوك وأدركوا أنك المطلوب، هنالك تبلغ القلوب الحناجر، ويتغير لونك وتضطرب جوارحك تقول: إلى أين يا ملائكة الرحمن؟ فيقال لك: هلم إلى العرض الأكبر. فتتخطى بك الصفوف إلى ربك فتقف بين يديه، وقد رفع الخلائق كلهم أبصارهم إليك.
فتصور نفسك ـ يا عبد الله ـ وأنت بين يدي الله الواحد القهار، وبيدك صحيفة مخبرة عن كل أعمالك فاضحة لكل أفعالك، لا تغادر بلية كتمتها ولا صغيرة سترتها، وتقرأ ما فيها بلسان كليل وقلب عليل، كم من سيئة قد كنت أخفيتها قد أظهرها الكتاب وأبداها، وكم من عمل ظننته خالصاً فتجده هباء منثورا، فيا حسرة قلبك على ما فرطت في طاعة ربك، أَحْصَـ?هُ ?للَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6].
دع ما كان عنك في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب
واذكر مناقشة الحساب فإنه لا بد من أن يحصى كل شيء ويكتب
لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب
والنفس فيك وديعةٌ أودعتها ستردّها بالرغم منك وتسلب
أسال الله العظيم أن يبارك لي ولكم في القرآن العظيم، وأن ينفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم واستغفروا الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه وعلى نعمه وجزيل امتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه السائرين على منواله.
أما بعد: فاعلموا ـ عباد الله ـ أن الله تبارك وتعالى قد أقسم في كتابه الكريم أنه سوف يسألنا عن أعمالنا جميعاً فقال: فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الحجر:92، 93]، وقال : ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه)) ، سوف نسأل عن شربة الماء أشكرناها أم كفرناها كما قال تعالى: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ?لنَّعِيمِ [التكاثر:8]، فلا تتصور نفسك تنجو من الحساب وخير خلق الله من الرسل سوف يسألون قال تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ ?لَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ ?لْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6]، يَوْمَ يَجْمَعُ ?للَّهُ ?لرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـ?مُ ?لْغُيُوبِ [المائدة:109].
وتصور عيسى بن مريم من أولي العزم من الرسل واقفاً بين يدي الله تعالى وجلاً خائفاً، ويناديه الله: ي?عِيسَى ?بْنَ مَرْيَمَ أَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ?تَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَـ?هَيْنِ مِن دُونِ ?للَّهِ قَالَ سُبْحَـ?نَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـ?مُ ?لْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى? كُلّ شَىْء شَهِيدٌ إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ [المائدة:106-108]، لذلك كان النبي يتذكر هذا الموقف فيبكي بكاء شديداً، فقد قرأ عليه مرة ابن مسعود رضي الله عنه سورة النساء حتى إذا بلغ قول الله سبحانه: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى? هَؤُلاء شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ?لرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى? بِهِمُ ?لأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ ?للَّهَ حَدِيثاً النساء:41، 42]، فبكى وقال: ((حسبك يا ابن مسعود)).
قال : ((من نوقش الحساب عذب)) ، قالت عائشة: يا رسول الله، أليس الله تعالى يقول: فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً [الانشقاق:7، 8]، فقال: ((يا عائشة، ليس ذلك هو الحساب، إنما ذلك العرض، ومن نوقش الحساب عذب)).
إنما ذلكم العرض، معنى العرض: أن يقف العبد بين يدي الله وبيدك صحيفة أعمالك تقرؤها على مهل، واستمع إلى كيفية العرض في حديث رسول الله حيث يقول: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)) ، فإن كان من المؤمنين الصادقين الذين يحاسبون أنفسهم حساب الشريك الشحيح يخاطبه الله تعالى قائلاً: أي عبدِ، أتذكر وأنت كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول العبد وهو خائف: نعم يا رب أذكر وأعترف، حتى إذا ظن أنه هالك لا محالة يقول تعالى: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، وأبدلها جميعاً حسنات.
أذنبت كل الذنوب لست أنكرها وقد رجوتك يا ذا المن تغفرها
أرجوك تغفرها في الحشر يا سندي كما كنت يا أملي في الدنيا تسترها
فيدنيه الله تعالى منه، ويعطيه كتابه بيمينه، فلا يصدق العبد ما يسمع وما يرى، فيشرق وجهه وينبعث النور من أعضائه ويقول الله له: انطلق وبشر إخوانك ومن هم مثلك أن مصيرهم اليوم إلى الجنة.
ينطلق في أرض المحشر فرحاً مسروراً رافعاً صوته منبسطاً كما يصرخ الطفل الذي نجح في الامتحان يقول: هَاؤُمُ ?قْرَؤُاْ كِتَـ?بيَهْ ِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَـ?قٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُواْ وَ?شْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى ?لأَيَّامِ ?لْخَالِيَةِ [الحاقة:19-24]، نسأل الله من فضله.
وأما الآخر ـ أعاذني الله وإياكم من الخزي والسوء ـ فيقف بين يدي الله خاسئاً ذليلاً، ذلك هو الذي أمره الله فما ائتمر، والذي نهاه فما ازدجر، أمره الله بالتوحيد فأبى إلا الشرك، أمره الله بالتوكل عليه فأبى إلا اللجوء إلى العرافين والكهنة والمنجمين، أمره الله بالصلاة فأبى إلا تركها، وأمره الله بإحسانها فأبى إلا أن ينقرها كما ينقر الغراب، فلا يقيم ركوعاً ولا يتم سجوداً ولا جلوساً، أمره الله ببر الوالدين فأبى إلا العصيان، أمره الله أن بكف اللسان فأبى إلا الغيبة والكذب والسب والشتم، أمره الله بأن يستر بناته فأبى إلا تقليد الكفار والفجار، أمره الله بتربية أولاده فأبى إلا أن يدعهم أمام الفتن ومزالق الهوى، أمره الله بكل خير فما أطاع، يقول الله له: أي فلُ، ـ أي: فلان، ولا يقول له عبدي ـ، أتذكر ذنب كذا في مكان كذا في يوم كذا؟ فيقول: يا رب آمنت بك وبكتبك وبرسلك وصلّيت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع فيقول الله له: إذن نبعث عليك شاهداً عليك. فيتفكر في نفسه: من ذا يشهد عليه؟ هنالك يختم الله على فمه ويقال لفخذه وعظمه ولحمه: انطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، فيقول هنالك: سُحقاً لكُنَّ فعنكن كنت أناضل.
فيؤتيه الله كتابه بشماله، ويقول له: انطلق فبشر كل من هو مثلك أن مصيرهم اليوم إلى النار، فينطلق في أرض المحشر وجهه أسود، حزين، ترهقه قترة، ويتمنى لو يفتدي من عذاب يومئذ بأقرب الناس إليه، ويصرخ صرخة اليائس المخفق: ي?لَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـ?بِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ي?لَيْتَهَا كَانَتِ ?لْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى? عَنّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنّى سُلْطَـ?نِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ ?لْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ [الحاقة:25-32].
وبعد ذلك كله يأتي القصاص والميزان، فإما إلى الجنان وإما إلى النيران.
(1/3478)
النار... والخلود في الدارين
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
28/10/1420
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النار مصير العصاة والمشركين. 2- صور من عذاب النار وطعامها وسلاسلها. 3- خروج من كان في قلبه ذرة إيمان من النار. 4- مجيء الموت على صورة كبش يذبح. 5- حسرات أهل النار حينذاك. 6- رؤية المؤمنين ربهم عز وجل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإننا وقفنا معكم في الخطبة الأخيرة، عندما وضع المؤمنون رحالهم في الجنة بعد سفر بعيد طويل، مليء بالمتاعب شديد، وذكرنا لكم أوصاف الجنة ونعيمها، وفرح أصحابها وسرور أهليها، يناديهم ربهم فيها: ي?عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ?لْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِئَايَـ?تِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ?دْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْو?جُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف:68-70]، وبينما هم على تكلم الحال، وحسن المآل، على سرر متقابلون، والخدم بأطيب المأكل والمشارب عليهم يطوفون، إذ يتذكر أحدهم صاحباً له من المكذبين وما كان يسخر به من أمور يوم الدين، والبعث والحساب، والجنة والعذاب، قال تعالى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى? بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ أي: أصحاب الجنة، قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ أي: صديق، يَقُولُ أَءنَّكَ لَمِنَ ?لْمُصَدّقِينَ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَـ?ماً أَءنَّا لَمَدِينُونَ أي: أنحن محاسبون؟ فينادي منادٍ: قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ فَ?طَّلَعَ فَرَءاهُ فِى سَوَاء ?لْجَحِيمِ [الصافات:50-54]، يفتح لهم ما يروا من خلاله أصحاب النار من أصدقائهم في سواء الجحيم، أي: في وسطه، فيخاطبه الرجل من أهل الجنة: تَ?للَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّى لَكُنتُ مِنَ ?لْمُحْضَرِينَ [الصافات:56، 57].
إنها النار، دار الذل والهوان، دار العذاب والخذلان، دار الشهيق والزفرات، دار الأنين والعبرات، نار حرّها شديد، وقعرها بعيد، ومقامعها وسلاسلها وأغلالها حديد، نار أشعلت ثلاث آلاف سنة، ألفا حتى احمرت، وألفاً حتى ابيضت، وألفاً حتى اسودت فهي سوداء مظلمة.
يلقى المشركون والعصاة في النار أمة بعدة أمة، جنّهم وإنسهم، قَالَ ?دْخُلُواْ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مّن ?لْجِنّ وَ?لإِنْسِ فِى ?لنَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ?دَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولَـ?هُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مّنَ ?لنَّارِ قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ وَلَـ?كِن لاَّ تَعْلَمُونَ [الأعراف:38].
وقال تعالى: وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ ?لضُّعَفَاء لِلَّذِينَ ?سْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ ?للَّهِ مِن شَىْء قَالُواْ لَوْ هَدَانَا ?للَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ [إبراهيم:21].
يتبرأ الأقوياء والمتكبرون من الضعفاء، فيلتفتون إلى الشيطان الرجيم وقد أحاطت به النار من كل جانب لعله يخفف عنهم، فيصرخ قائلاً: إِنَّ ?للَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ?لْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـ?نٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَ?سْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ ?لظَّـ?لِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم:22].
عندئذ، يصاب أهل النار بحسرة شديدة، وَيَوْمَ يَعَضُّ ?لظَّـ?لِمُ عَلَى? يَدَيْهِ يَقُولُ ي?لَيْتَنِى ?تَّخَذْتُ مَعَ ?لرَّسُولِ سَبِيلاً ي?وَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ ?لذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِلإِنْسَـ?نِ خَذُولاً [الفرقان:26-29]. ويزيدهم الله حسرات إلى حسراتهم، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: ((لا يدخل أحد الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، ولا يدخل أحد النار إلا أُري مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة)).
أما حر النار فشديد، ففي الصحيحين: ((ناركم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم)) ، وقال تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ [المدثر:26-28]، أي: تأكل اللحوم والعروق والأعصاب والجلود، ثم تبدّل غير ذلك ليذوقوا العذاب. وقال تعالى: كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى? نَزَّاعَةً لّلشَّوَى? [المعارج:15-16]، أي: تنزع جلدة الرأس بكاملها، وتأكل وتأكل حتى تطلع على الأفئدة، تطلع على القلوب، لا تبقى ولا تذر. وأهون الناس عذاباً فيها هو من يجعل له نعلان من نار يغلي منهما دماغه، يُظن من صراخه ونواحه وعويله أنه أشد الناس عذاباً وهو أخفهم.
وأما قعرها فبعيد بعيد، فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله إذ سمع وجبةً ـ أي: صوت شيء وقع ـ، فقال النبي : ((أتدورن ما هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((هذا حجر رُمي به في النار منذ سبعين خريفاً، فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها)) ، قعرها مسافة سبعين عاماً، لذلك لا تفتأ تقول: هل من مزيد؟
وأما سلاسلها ومقامعها وأغلالها فحديد، وَتَرَى ?لْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى ?لأصْفَادِ أي: مشدودين بعضهم إلى بعض، سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ أي: ثيابهم من قطران لأنه أشد مادةٍ تلتصق فيها النار، فلا تضعف أبداً، ولما كانت الثياب تعمّ الجسد دون الوجه قال تعالى: وَتَغْشَى? وُجُوهَهُمْ ?لنَّارُ [إبراهيم:49، 50]، فهي محيطة بهم من كل جانب مثل قوله تعالى: فَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ أي: فصلّت لهم ثياب على قدر أجسامهم. ورؤوسهم؟ قال بعدها: يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءوسِهِمُ ?لْحَمِيمُ [الحج:19]، وهو الماء المغلي بشدة، ثم ماذا؟ قال تعالى: وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج:21]، سياط من حديد رؤوسها معوجة، لتسحب مع كل ضربة قطعة من اللحم.
أما طعامها فزقوم، لا أبشع منها ولا أقبح، مادتها المُهْلُ وهو ما ذاب من نحاس، روى الترمذي عن ابن عباس مرفوعاً: ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه؟!)) ، يأكلون منها ويأكلون وهي تغلي في البطون، حتى إذا عطشوا سقوا ماء حميماً تغلي منه بطونهم فيقطع أمعاءهم، ويدعَون إلى طعام آخر وهو الغسلين عصارة أهل النار من القيح والدم والصديد، الدم الأحمر، والقيح الأخضر، والصديد الأصفر، يأكلونه رغماً عنهم كما قال: يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ ?لْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:17].
والنار محيطة بهم لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم مهاد من النار.
إنه مشهد ما أفظعه، ومرتقى ما أصعبه، وطريق ما أعسره. اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار. اللهم أجرنا من النار، تعوذوا بالله منها، فإن العبد إذا قال: اللهم أجرني من النار، قالت النار لربها: اللهم أجره مني.
أسأل الله العظيم أن يبارك لي ولكم في القرآن العظيم، وأن ينفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، إنه بكل جميل كفيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، وعلى جزيل نعمه وكبير امتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه وآله والسائرين دربه ومنواله.
أما بعد: فهذه هي النار، وها هي مشاهدها قد سردناها على مسامعكم، فماذا بعد ذلك؟
وهم على تلكم الحال، وفيهم المشركون والكفار والمنافقون والعصاة والموحدون، إذا برسول الله محمد يسجد مرة أخرى تحت العرش، ويحمد الله تعالى بمحامد يلهمه الله إياها حينئذ، فيقول الله تعالى له: يا محمد ارفع رأسك، وقل يُسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفّع، فيقول النبي : يا رب أمتي أمتي. فيقال له: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من شعيرة من إيمان فأخرجه منها. فينطلق الحبيب المصطفى فيفعل. ثم يرجع إلى ربه فيخر له ساجداً ويحمده بتلك المحامد. فيقال له: يا محمد ارفع رأسك...، انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه مها. فينطلق ويفعل.
ويقال لأهل الأعراف: ادخلوا الجنة، وهذه الشفاعة تكون للنبي ثم لسائر إخوانه المرسلين ثم الملائكة والشهداء والعلماء والصالحين، إذ يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويحجون معنا؟ فيقول الله لهم: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار، فيأتون ويجدون بعضهم قد غاب في النار إلى قدميه، وبعضهم إلى أنصاف ساقيه، وبعضهم إلى أكثر من ذلك، فيخرجون من عرفوا، ويعرفونهم بعلامة السجود، فإن النار تأكل كل شيء إلا علامة السجود، فقد حرمها الله على النار.
ثم يعودون فيقال لهم: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقال لهم: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا، فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار حينئذ: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار فيُخرج قوماً قد امتُحِشوا ـ أي: احترقوا ـ فيلقون في نهر في الجنة يقال له: ماء الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ، وبأعناقهم خواتيم ـ أي: علامات ـ فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه.
هذا جزاء من قال: "لا إله إلا الله" مخلصاً من قلبه، ولم يشرك بالله شيئاً، فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وهذا أوان المغفرة لهم، أنجاهم من نار الجحيم، هذا لمن وحد الله تعالى فلم يدع معه غيره، ولم يذبح لغيره، ولم ينذر لغيره، ولم يصدّق كاهناً ولا عرّافاً، ولم يرتكب أي ناقض من نواقض الإيمان.
يدخلون الجنة في آخر أمرهم، ويقال لهم: "الجهنميون". هنا رُّبَمَا يَوَدُّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ [الحجر:2].
بعدما يخرج من النار من كان يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً، ويدخلون الجنة، يأمر الله تعالى أن يؤتي بالموت على صورة كبش أملح، ويجعل بين الجنة والنار، ثم ينادي منادٍ: "يا أهل الجنة" فيفزعون خوفاً من أن يخرجوا منها، وهي آخر فزعة، وينادي: "يا أهل النار" فيفرحون طمعاً في الخروج من النار، فيذبح الموت ويقول المنادي: "يا أهل الجنة خلود فلا موت، يا أهل النار خلود فلا موت"، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم، فَأَمَّا ?لَّذِينَ شَقُواْ فَفِى ?لنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَـ?لِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا ?لَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى ?لْجَنَّةِ خَـ?لِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:106-108].
وترى أهل النار يصرخون وينوحون ويدعون على أنفسهم بالموت فلا يجابون، ينادون الملائكة: "واثبوراه واثبوراه"، فتقول الملائكة: لاَّ تَدْعُواْ ?لْيَوْمَ ثُبُوراً و?حِداً وَ?دْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً [الفرقان:14]، فينادون مالك خازن النار: ي?مَـ?لِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77]، قال ابن عباس: (يمكث ألف سنة لا يجيبهم ربهم ينتظرون، ثم يقول: إِنَّكُمْ مَّـ?كِثُونَ فيدعون الله تبارك وتعالى حينئذ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـ?لِمُونَ قَالَ ?خْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ [المؤمنون:107، 108].
قال النبي : ((إن أهل النار ليبكون حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت، وإنهم ليبكون الدم)) أي: مكان الدمع.
ثم يأتي النعيم الأعظم في الجنة، يأتي الله تبارك وتعالى ويقول لأهل الجنة: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ربنا، ألم تبيض وجوهنا؟! ألم تدخلنا الجنة وتنجّنا من النار؟! قال: فيكشف الحجاب عن وجهه سبحان، فينظر أهل الجنة وهم في صعيد واحد إلى وجه ربهم حقيقة، لا يضامون في رؤيته، ينظرون إلى الرحمن الرحيم، الملك القدوس السلام المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور العزيز الحكيم، ينظرون إلى من ركعوا له وسجدوا له طوال حياتهم، ينظرون إلى من تحملوا كل بلاء لأجله، ينظرون إلى من استعذبوا كل عذاب طمعاً في لقائه، قال : ((فما أُعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل)) وهذا قوله تعالى: لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ?لْحُسْنَى? وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، الحسنى: الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجهه سبحانه، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى? رَبّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23].
ويخلدون خلوداً أبدياً لا يتصوّر، في نعيم مقيم، لمثل هذا فليعمل العاملون، وفي مثل هذا فليتنافس المتنافسون، ولأجل النظر إلى المولى سبحانه فليقم القائمون وليصم الصائمون وليتصدق المتصدقون وليستعفف الذين هم لربهم يرهبون.
وإلى هنا فَرِيقٌ فِى ?لْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى ?لسَّعِيرِ [الشورى:7]، تنتهي رحلتنا معكم إلى الدار الآخرة، من مجيء سكرات الموت، فالقبر فعذابه ونعيمه، ثم علامات الساعة صغراها وكبراها، فالقيامة فالبعث والحشر فالحساب فإما ثواب وإما عقاب. فهل أدركت بعد كل ما سمعته لم كان يقول: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرا)).
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
سبحانك اللهم أنت الواحد كل الوجود على وجودك شاهد
يا حي يا قيوم أنت المرتجى وإلى علاك علا الجبين الساجد
يا من له عنت الوجوه بأمرها رهباً، وكل الكائنات توحد
أنت الإله الواحد الحق الذي كل القلوب له تُقِرّ وتشهد
نسألك ربنا أن تؤتينا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ?لنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنْصَـ?رٍ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَـ?نِ أَنْ ءامِنُواْ بِرَبّكُمْ فَئَامَنَّا رَبَّنَا فَ?غْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَـ?تِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ?لأبْرَارِ [آل عمران:192-193].
(1/3479)
خشية الله والخوف منه
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد الحميد التركستاني
الطائف
22/4/1419
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جرأة الناس على معاصي الله. 2- الخوف من الله صفة المؤمنين ، وتتافوة هذه الصفة بقدر
إيمانهم. 3- مراتب الخوف. 4- أقوال السلف في الخوف. 5- أحوال السلف في الخوف.
6- ضعف جانب الخوف عند آخرين. 7- مم خاف السلف وبكوا؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى وخافوه واخشوه وحده ولا تخشوا أحدا غيره وكما قال الفضيل: "من خاف الله لم يضره أحد، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد"، قال تعالى: فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي [المائدة:44]، فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175].
أيها الإخوة، سوف يكون حديثي في هذه الخطبة عن مقام الخوف من الله عز وجل، وسبب اختياري لهذا الموضوع هو ما أراه وأشاهده من بُعد الناس عن الله وتجرئهم عليه بأنواع المعاصي والذنوب التي ما ارتكبها هؤلاء الناس إلا بسبب ضعف جانب الخوف من الله في قلوبهم، وبسبب غفلتهم عن الله ونسيان الدار الآخرة، فالخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة، وقلّ أن يثبت غير هذا الحاجز أمام دفعات الهوى والشهوة والغفلة، فالخوف هو الذي يهيج في القلب نار الخشية التي تدفع الإنسان المسلم إلى عمل الطاعة والابتعاد عن المعصية.
ولهذا إذا زاد الإيمان في قلب المؤمن لم يعد يستحضر في قلبه إلا الخوف من الله، والناس في خوفهم من الله متفاوتون، ولهذا كان خوف العلماء في أعلى الدرجات، وذلك لأن خوفهم مقرون بمعرفة الله مما جعل خوفهم مقرون بالخشية كما قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، والخشية درجة أعلى وهي أخص من الخوف، فالخوف لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، وعلى قدر العلم والمعرفة تكون الخشية كما قال النبي : ((إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية)) ، وقال: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)) ، قال الإمام أحمد: "هذا يدل على أن كل من كان بالله أعرف كان منه أخوف".
والخوف هو اضطراب القلب ووجله من تذكر عقاب الله وناره ووعيده الشديد لمن عصاه، والخائف دائما يلجأ إلى الهرب مما يخافه إلا من يخاف من الله، فإنه يهرب إليه كما قال أبو حفص: "الخوف سراج في القلب، به يبصر ما فيه من الخير والشر، وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله عز وجل، فإنك إذا خفته هربت إليه"، فالخائف هارب من ربه إلى ربه قال تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50].
قال أبو سليمان الداراني: "ما فارق الخوف قلبا إلا خرب"، وقال إبراهيم بن سفيان: "إذا سكن الخوف القلب أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها"، وقال ذو النون: "الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا الطريق"، وقال أبو حفص: "الخوف سوط الله، يقّوم به الشاردين عن بابه".
والخوف المحمود الصادق ما حال بين صاحبه وبين محارم الله عز وجل، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيميه: "الخوف المحمود هو ما حجزك عن محارم الله، وهذا الخوف من أجل منازل السير إلى الله وأنفعها للقلب، وهو فرض على كل أحد".
ومن كان الخوف منه بهذه المنزلة سوف يحجزه خوفه عن المعاصي والمحرمات، فلا يأكل مالا حراما، ولا يشهد زورا، ولا يحلف كاذبا، ولا يخلف وعدا، ولا يخون عهدا، ولا يغش في المعاملة، ولا يخون شريكه، ولا يمشي بالنميمة، ولا يغتاب الناس، ولا يترك النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يزني، ولا يلوط، ولا يتشبه بالنساء، ولا يتشبه بالكفرة أعداء الدين، ولا يتعاطى محرما، ولا يشرب المسكرات ولا المخدرات ولا الدخان ولا الشيشة، ولا يهجر مساجد الله، ولا يترك الصلاة في الجماعة، ولا يضيع أوقاته في اللهو والغفلة، بل تجده يشمر عن ساعد الجد، يستغل وقته كله في طاعة الله، ولهذا قال : ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل. ألا وإن سلعة الله غالية، ألا وإن سلعة الله هي الجنة)) رواه الترمذي وهو حديث حسن. والمراد بهذا الحديث الجد والتشمير في الطاعة والاجتهاد من بداية العمر؛ لأن الجنة غالية تحتاج إلى ثمن باهظ، ومن سعى لها وعمل صالحا وسار من أول الطريق نال بغيته إن شاء الله.
ولهذا كان السلف الصالح يغلبون جانب الخوف في حال الصحة والقوة حتى يزدادوا من طاعة الله ويكثروا من ذكره ويتقربوا إليه بالنوافل والعمل الصالح.
أيها الإخوة، إن رجحان جانب الخوف من الله في قلب المؤمن هو وحده الذي يرجح الكفة، وهو وحده الذي يعصم من فتنة هذه الدنيا، وبدون الخوف لا يصلح قلب ولا تصلح حياة ولا تستقيم نفس ولا يهذب سلوك، وإلا فما الذي يحجز النفس البشرية عن ارتكاب المحرمات من زنا وبغي وظلم وركون إلى الدنيا غير الخوف من الله؟! وما الذي يهدئ فيها هيجان الرغائب وسعار الشهوات وجنون المطامع؟! وما الذي يثبت النفس في المعركة بين الحق والباطل وبين الخير والشر؟! وما الذي يدفع الإنسان إلى تقوى الله في السر والعلن سوى خوف الله؟! فلا شيء يثبت الإيمان عند العبد رغم الأحداث وتقلبات الأحوال في هذا الخضم الهائج إلا اليقين في الآخرة والإيمان بها والخشية والخوف مما أعده الله من العذاب المقيم لمن خالف أمره وعصاه. فتذكر الآخرة في جميع الأحوال والمناسبات والظروف يجعل عند الإنسان حسا مرهفا يجعله دائم اليقظة جاد العزيمة دائم الفكر فيما يصلحه في معاشِه ومعادِه كثير الوجل والخوف مما سيؤول إليه في الآخرة، ففي كتاب الزهد للإمام أحمد عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قلت ليزيد: ما لي أرى عينيك لا تجفّ؟! قال: يا أخي، إن الله توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار، والله لو توعدني أن يسجنني في الحمام لكان حريا أن لا يجف لي دمع. وروى ضمرة عن حفص بن عمر قال: بكى الحسن البصري فقيل له: ما يبكيك؟! قال: أخاف أن يطرحني في النار غدا ولا يبالي. ولهذا من خاف واشتد وجله من ربه في هذه الدنيا يأمن يوم الفزع الأكبر، فعن أبي هريرة عن النبي فيما يرويه عن ربه جل وعلا أنه قال: ((وعزتي، لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين؛ إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة)) رواه ابن حبان في صحيحه.
أيها الإخوة: لقد عاش المسلمون الذين تلقوا هذا القرآن أول مرة عاشوا مشاهد الآخرة فعلا وواقعا كأنهم يرونها حقيقة، ولم يكن في نفوسهم استبعاد لذلك اليوم، بل كان يقينهم بذلك اليوم واقعا تشهده قلوبهم وتحسّه وتراه وتتأثر وترتعش وتستجيب لمرآه، ومن ثم تحولت نفوسهم ذلك التحول وتكيفت حياتهم على هذه الأرض بطاعة الله، وكأن النار إنما خلقت لهم، قال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما. وحق لهما ـ أيها الإخوة ـ ولكل مؤمن أن يخاف من النار وأن يستعيذ بالله منها لأن الخبر ليس كالمعاينة، يقول : ((لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد)) رواه مسلم، وقال في وصف النار محذرا منها: ((نار الدنيا جزء من سبعين جزءا من نار جهنم)).
ولهذا كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم إذا رأى أحدهم نارا اضطرب وتغير حاله، فهذا عبد الله بن مسعود مر على الذين ينفخون على الكير فسقط مغشيا عليه، وهذا الربيع بن خثيم رحمه الله مر بالحداد فنظر إلى الكير فخر مغشيا عليه، وكان عمر بن الخطاب ربما توقد له نار ثم يدني يديه منها ويقول: يا ابن الخطاب، هل لك صبر على هذا؟! وكان الأحنف رضي الله عنه: يجيء إلى المصباح بالليل فيضع إصبعه فيه ثم يقول: حس حس، ثم يقول: يا حنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا وكذا؟! يحاسب نفسه. وفي الحديث: ((حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم)).
أيها الإخوة، إن أمر القيامة أمر عظيم رهيب، يرجّ القلب ويرعب الحس رعبا، مشاهده ترجف لها القلوب، والله سبحانه أقسم على وقوع هذا الحادث لا محالة فقال في سورة الطور: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ [الطور:7، 8]، فهو واقع حتما، لا يملك دفعه أحد أبدا، والأمر داهم قاصم ليس منه دافع ولا عاصم كما أن دون غد ليلة، فما أعددنا لذلك اليوم؟! وما قدمنا له؟! وهل جلس كل منا يحاسب نفسه: ما عمل بكذا وما أراد بكذا؟! بل الكل ساه لاه، والكل في سكرته يعمهون ويلعبون ويضحكون ويفسقون ويفجرون، وكأن أحدهم بمنأى من العذاب، وكأنهم ليس وراءهم موت ولا نشور ولا جنة ولا نار، أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:4-6]، يقول الحسن البصري رحمه الله: "إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي؟! ما أردت بأكلتي؟! ما أردت بحديثي؟! وإن الفاجر يمضي قدما ما يعاقب نفسه"، فحقيق بالمرء أن يكون له مجالس يخلو فيها يحاسب نفسه ويتذكر ذنوبه ويستغفر منها.
أيها الأحبة، لقد كان المسلمون يعيشون مع القرآن فعلا وواقعا، عاشوا مع الآخرة واقعا محسوسا، لقد كانوا يشعرون بالقرآن ينقل إليهم صوت النار وهي تسري وتحرق، وإنه لصوت تقشعر منه القلوب والأبدان، كما أحس عليه الصلاة والسلام برهبة هذا الأمر وقوته حتى أنه وعظ أصحابه يوما فقال: ((إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطّت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله عز وجل، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)) رواه الترمذي وقال: "حسن غريب"، وفي رواية قال: ((عرضت علي الجنة والنار فلم أرى كاليوم في الخير والشر)) ثم ذكر الحديث، فما أتى على أصحاب رسول الله يوم أشد منه، غطوا رؤوسهم ولهم خنين، والخنين هو البكاء مع غنّة.
عجبا لنا نتمنى على الله الأماني مع استهتارنا بالدين وبالصلاة وبكل شيء، فماذا نرجو في الآخرة؟! وكما قيل:
يا آمنا مع قبيح الفعل يصنعه هل أتاك توقيع أم أنت تملكه؟!
جمعت شيئين: أمنا واتباع هوى هذا وإحداهما في المرء تهلكه
والمحسنون على درب المخاوف قد ساروا وذلك درب لست تسلكه
فرطت في الزرع وقت البذر من سفه فكيف عند حصاد الناس تدركه؟!
هذا وأعجب شيء فيك زهدك في دار البقاء بعيش سوف تتركه
نعم، والله هذا حال الكثير من الناس اليوم، لا يريدون أن يعملوا، ولا يريدون أن يتذكروا، فإذا ذكرت لهم النار قالوا: لا تقنِّط الناس، وهذا والله هو العجب العجاب، يريدون أن يبشروا بالجنة ولا يذكَّروا بالقيامة وأهوالها ولا بالنار وسمومها وعذابها وهم على ما هم فيه من سيئ الأعمال وقبيح الصفات، قال الحسن البصري: "لقد مضى بين أيديكم أقوام لو أن أحدهم أنفق عدد هذا الحصى لخشي أن لا ينجو من عظم ذلك اليوم"، وقد ورد في الترمذي عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها)). والسبب في ذلك ضعف جانب الخوف عند هؤلاء، لقد كان بعض السلف من شدة خوفه ووجله وكثرة تفكيره في أحوال الآخرة لا يستطيع النوم ولا الضحك ولا اللهو حتى يعلم أهو من الناجين أم لا، فهذا شداد بن أوس كان إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم ويقول: (والله، إن النار أذهبت مني النوم) فيقوم يصلي حتى يصبح، وهذا منصور بن المعتمر كان كثير الخوف والوجل كثير البكاء من خشية الله، قال عنه زائدة بن قدامة: إذا رأيته قلت: هذا رجل أصيب بمصيبة، ولقد قالت له أمه: ما هذا الذي تصنع بنفسك تبكى عامة الليل، لا تكاد أن تسكت، لعلك يا بنيّ أصبت نفسا أو قتلت قتيلا؟! فقال: يا أمه، أنا أعلم بما صنعت نفسي، وهذا معاذ بن جبل لما حضرته الوفاة جعل يبكي، فقيل له: أتبكي وأنت صاحب رسول الله وأنت وأنت؟! فقال: ما أبكي جزعًا من الموت أن حلّ بي ولا دنيا تركتها بعدي، ولكن هما القبضتان: قبضة في النار وقبضة في الجنة، فلا أدري في أيّ القبضتين أنا، يقول الحسن بن عرفه: رأيت يزيد بن هارون بواسط وهو من أحسن الناس عينين، ثم رأيته بعد ذلك بعين واحدة، ثم رأيته بعد ذلك وقد ذهبت عيناه، فقلت له: يا أبا خالد، ما فعلت العينان الجميلتان؟! فقال: ذهب بهما بكاء الأسحار.
والبكاء من خشية الله سمة العارفين، قال عبد الله بن عمرو بن العاص : لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف درهم، ولما جاء عقبة بن عامر إلى النبي يسأله: ما النجاة؟ نعم والله ما النجاة؟ كيف ننجو من عذاب الله؟ فقال له: ((أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك))، وفي رواية قال: ((طوبى لمن ملك نفسه ووسعه بيته وبكى على خطيئته)). وقد بين أن من بكى من خشية الله فإن الله يظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله فقال: ((ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)) ، بل حرم الله النار على من بكى من خشيته قال : ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع)) ، وفي رواية قال: ((حرمت النار على عين دمعت أو بكت من خشية الله)) وكلا الحديثين صحيح. وفي الأثر الإلهي: ((ولم يتعبد إلي المتعبدون بمثل البكاء من خشيتي)).
أيها المسلمون، إن سلفنا الصالح كانوا يتوجهون إلى الله في خشية وبكاء ووجل وطمع، الخوف من عذاب الله والرجاء في رحمته والخوف من غضبه والطمع في رضاه والخوف من معصيته والطمع في توفيقه يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16]، والتعبير القرآني يصور هذه المشاعر المرتجفة في الضمير بلمسة واحدة حتى لكأنها مجسّمة ملموسة: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأبياء:90]. إنها الصورة المشرقة المضيئة لسلفنا الصالح رضوان الله عليهم، كانوا يخافون ويرجون، وكانوا يبكون حتى يؤثر فيهم البكاء، فبكاؤهم ثمرة خشيتهم لله، قال تعالى عنهم: وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:109]، وقال أيضا: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ [الرعد:21]، فبالخوف والخشية تحترق الشهوات وتتأدب الجوارح ويحصل في القلب الذبول والخشوع والذلة والاستكانة والتواضع والخضوع، ويفارق الكبر والحسد، بل يصير مستوعب الهم بخوفه والنظر في خطر عاقبته، فلا يتفرغ لغيره، ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والمحافظة على الأوقات واللحظات ومؤاخذة النفس بالخطرات والخطوات والكلمات، ويكون حاله حال من وقع في مخالب سبع ضار لا يدري أنه يغفل عنه فيفلت أو يهجم عليه فيهلك، فيكون ظاهره وباطنه مشغولا بما هو خائف منه، لا متسع فيه لغيره.
هذا حال من غلبه الخوف واستولى عليه، وهكذا كان حال جماعة من الصحابة والتابعين، يقول بلال بن سعد: عباد الرحمن، هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئا من أعمالكم تقبّل منكم أو شيء من خطاياكم غفرت لكم؟! والله، لو عجل لكم الثواب في الدنيا لاستقللتم كلكم ما افترض عليكم من العبادة، وينافسون في جنة أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ [الرعد:35]، يقول أيضا: رب مسرور مغبون، ورب مغبون لا يشعر، فويل لمن بان له الدليل ولا يشعر، يأكل ويشرب ويضحك وقد حقّ عليه في قضاء الله عز وجل أنه من أهل النار، فيا ويلَ لك روحًا، والويل لك جسدا، فلتبك ولتبك عليك البواكي لطول الأبد. فبمثل هذه العبارات كان الرسول وكان السلف يجاهدون أنفسهم ويعظون غيرهم حتى ينتبه الناس من غفلتهم ويصحوا من رقدتهم ويفيقوا من سكرتهم رجاء أن يدركوا من سبقهم إلى الطريق المستقيم، ويكون الخوف دافعا لهم إلى الاستقامة ما كانوا على وجه الأرض أحياء مكلّفين.
وفي الختام أحب أن أذكر نماذج من خوف بعض الصحابة والتابعين:
فهذا أبو بكر أفضل رجل في هذه الأمة بعد رسول الله ، نظر إلى طير وقع على شجرة فقال: ما أنعمك يا طير، تأكل وتشرب وليس عليك حساب وتطير ليتني كنت مثلك، وكان كثير البكاء، وكان يمسك لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد)، وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله.
وهذا عمر الرجل الثاني بعد أبي بكر قال لابنه عبد الله وهو في الموت: (ويحك، ضع خدي على الأرض عساه أن يرحمني) ثم قال: (بل ويل أمي إن لم يغفر لي، ويل أمي إن لم يغفر لي)، وأخذ مرة تبنة من الأرض فقال: (ليتني هذه التبنة، ليتني لم أكن شيئا، ليت أمي لم تلدني، ليتني كنت منسيا)، وكان يمر بالآية من ورده بالليل فتخيفه، فيبقى في البيت أياما يُعاد يحسبونه مريضا، وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء.
وهذا عثمان كان إذا وقف على القبر يبكي حتى يبل لحيته، وقال: (لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رمادا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصيرُ).
وهذا علي كما وصفه ضرار بن ضمرة الكناني لمعاوية يقول: كان والله بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، ويتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة طويل الفكرة، ويقلب كفيه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما خشن، كان والله كأحدنا يدنينا إذا أتيناه ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه يميل في محرابه قابضا على لحيته يضطرب ويتقلب تقلب الملسوع ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه وهو يقول: يا ربنا يا ربنا، يتضرع إليه يقول للدنيا: إلي تعرضت، إلي تشوفتِ، هيهات هيهات، غري غيري، قد طلقتك ثلاثا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق، فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء وهو يقول: هكذا والله كان أبو الحسن.
وهذا ابن عباس كان أسفل عينيه مثل الشّراك البالي من البكاء.
وهذا أبو عبيدة يقول عن نفسه: وددت أني كنت كبشا فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويشربون مرقي.
وهكذا كان حال صحابة رسول الله مع أنهم كانوا مبشرين بالجنة، فهذا علي رضي الله عنه يصفهم ويقول: لقد رأيت أصحاب محمد فلم أر أحدا يشبههم منكم، لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا وقد باتوا سجدا وقياما، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقعون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبتل جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفا من العقاب ورجاء للثواب. وهذا سفيان الثوري رحمه الله يقول: والله لقد خفت من الله خوفا أخاف أن يطير عقلي منه، وإني لا أسأل الله في صلاتي أن يخفف من خوفي منه.
أيها الإخوة، هل من مشمر؟! هل من خائف؟! هل من سائر إلى الله؟! بعد هذا الذي سمعناه أرجو أن نكون مثل سلفنا علما وعملا، خوفا ورجاء ومحبة، فإن فعلنا ذلك كنا صادقين وكنا نحن المشمرين إن شاء الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
ثم أما بعد: أيها الإخوة، لم يكن سلفنا الصالح يخافون ويبكون ويتضرعون نتيجة تقصيرهم أو نتيجة عصيانهم وكثرة ذنوبهم، كلا بل كانوا يخافون أن لا يتقبل الله منهم، ولهذا لما سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله عن قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60] أهو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر؟! قال: ((لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه)) ، قال الحسن: "عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها، وخافوا أن تردّ عليهم، إن المؤمن جمع إحسانا وخشية، وإن المنافق جمع إساءة وأمنا".
وكان خوفهم أيضا من أن يسلب أحدهم الإيمان عند موته، يقول ابن المبارك: "إن البصراء لا يأمنون من أربع خصال: ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع الرب فيه، وعمر قد بقي لا يدري ما فيه من الهلكات، وفضل قد أعطي لعله مكر واستدراج، وضلالة قد زينت له فيراها هدى، ومن زيغ القلب ساعة ساعة أسرع من طرفة عين قد يسلب دينه وهو لا يشعر".
وهذا سفيان الثوري رحمه الله كان يكثر البكاء فقيل له: يا أبا عبد الله، بكاؤك هذا خوفا من الذنو؟! فأخذ سفيان تبنًا وقال: "والله للذنوب أهون على الله من هذا، ولكن أخاف أن أسلب التوحيد"، وهذا أبو هريرة كان يقول في آخر حياته: (اللهم إني أعوذ بك أن أزني أو أعمل كبيرة في الإسلام)، فقال له بعض أصحابه: يا أبا هريرة، ومثلك يقول هذا أو يخافه وقد بلغت من السن ما بلغت وانقطعت عنك الشهوات وقد شافهت النبي وبايعته وأخذت عنه؟! قال: (ويحك، وما يؤمنني وإبليس حي).
وكان بلال بن سعد يقول في دعائه: "اللهم إني أعوذ بك من زيغ القلوب وتبعات الذنوب، ومن مرديات الأعمال ومضلات الفتن"، قال أبو الدرداء : (ما لي لا أرى حلاوة الإيمان تظهر عليكم؟! والله لو أن دب الغابة وجد طعم الإيمان لظهر عليه حلاوته، ما خاف عبد على إيمانه إلا منحه، وما أمن عبد على إيمانه إلا سلبه)، وكان من دعائه : ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ويا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك وطاعة رسولك)) ، ولما احتضر عمر بن قيس الملائي بكى فقال له أصحابه: على ما تبكي من الدنيا، فوالله لقد كنت غضيض العيش أيام حياتك؟! فقال: والله، ما أبكي على الدنيا وإنما أبكي خوفا من أن أحرم الآخرة.
يقول الإمام الغزالي "ولا يسلم من أهوال يوم القيامة إلا من أطال فكره في الدنيا، فإن الله لا يجمع بين خوفين على عبد، فمن خاف هذه الأهوال في الدنيا أمنها في الآخرة، ولست أعني بالخوف رقة كرقة النساء تدمع عينيك ويرق قلبك حال الموعظة ثم تنساه على القرب، وتعود إلى لهوك ولعبك، فما هذا من الخوف في شيء، فمن خاف شيئا هرب منه، ومن رجا شيئا طلبه، فلا ينجيك إلا خوف يمنعك من المعاصي ويحثك على الطاعة، وأبعد من رقة النساء خوف الحمقى إذا سمعوا الأهوال سبق إلى ألسنتهم الاستعاذة فقال أحدهم: استعذت بالله اللهم سلّم سلم، وهم مع ذلك مصرون على المعاصي التي هي سبب هلاكهم، فالشيطان يضحك من استعاذته كما يضحك على من يقصده سبع ضار في صحراء ووراءه حصن فإذا رأى أنياب السبع وصولته من بعد قال بلسانه: أعوذ بهذا الحصن الحصين وأستعين بشدة بنيانه وإحكام أركانه، فيقول ذلك بلسانه وهو قاعد في مكانه، فأنى يغني عنه ذلك من السبع؟! وكذلك أهوال الآخرة ليس لها حصن إلا قول لا إله إلا الله صادقا، ومعنى صدقه أن لا يكون له مقصود سوى الله تعالى ولا معبود غيره".
فالله أسأل أن يجعلنا ممن إذا خافه أطاعه وابتعد عن معاصيه. اللهم إن تكلنا إلى أنفسنا تكلنا إلى ضعف وعورة وذنب وخطيئة، وإنا لا نثق إلا برحمتك، فاغفر لنا ذنوبنا كلها، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3480)
بر الوالدين
الأسرة والمجتمع
الوالدان
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظاهرة عقوق الوالدين. 2- حقوق الوالدين. 3- رضا الوالدين باب من أبواب الجنة. 4- قصص في بر الوالدين. 5- صور في حياتنا من العقوق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فهي وصية الله لنا ولمن قبلنا: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ.
معاشر المسلمين، كانت النية أن تكون الخطبة هذه الجمعة عن العطلة الصيفية وكيفية اغتنامها، ولكن حال دون ذلك كثرة شكاوي الناس وكثرة الأخبار المزعجة التي تفطر القلوب وتدمي الأسماع، وهي نذير شؤم وعلامة خذلان، يجب على الأمة جميعها أن تتصدى لإصلاح هذا الخلل الذي بدأ ينتشر انتشار النار في الهشيم، ألا وهو عقوق الوالدين.
عقوق الوالدين ـ أيها الإخوة ـ من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله، وكيف لا يكون كذلك وقد قرن الله برهما بالتوحيد فقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ، وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. بل هي من المواثيق التي أخذت على أهل الكتاب من قبلنا: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا.
وها نحن نسمع بين الحين والآخر ـ وللأسف ـ من أبناء الإسلام من يزجر أمه وأباه أو يضربهما أو يقتل أمه أو أباه.
أقول أيها الإخوة: إن انتشار مثل هذه الجرائم المستبشعة ليس في الإسلام فحسب بل في عرف جميع بني آدم، أقول: إن انتشارها نذير شؤم وعلامة خذلان للأمة، ومن هنا وجب على جميع قنوات التربية والتوعية والإصلاح تنبيه الناس على خطر هذا الأمر، وإظهار هذه الصورة البشعة لمجتمعاتنا بأنها علامة ضياع وعنوان خسارة.
أيها الإخوة في الله، ما سبب انتشار أمثال هذه الجرائم؟ ولا أقول: وجودها لأنها قد وجدت في قديم الزمان، لكن ما سبب انتشارها إلا انتشار الفساد والأفلام المقيتة بوجهها الكالح، وتشبه طبقة من طبقات المجتمع بصورة الشاب الغربي الذي يعيش وحده وليست له أي صلة تربطه بذي رحم أو قريب، فيتأثر البعض بهذه المناظر، فيحصل ما لا تحمد عقباه من العقوق.
أيها الإخوة المؤمنون، قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد البرّ بهما مع اللطف ولين الجانب، فلا يغلظ لهما في الجواب، لا يحدّ النظر إليهما، ولا يرفع صوته عليهما، بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي السيد تذللاً لهما.
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا الآية، قال الهيثمي عند قوله تعالى: وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا أي: الليِّن اللطيف المشتمِل على العطف والاستمالة وموافقة مرادهما وميلهما ومطلوبهما ما أمكن لا سيما عند الكبر، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ثم أمر تعالى بعد القول الكريم بأن يخفض لهما جناح الذلّ من القول بأن لا يُكلَّما إلا مع الاستكانة والذل والخضوع، وإظهار ذلك لهما، احتمال ما يصدر منهما، ويريهما أنه في غاية التقصير في حقهما وبرهما. ولا يزال على نحو ذلك حتى ينثلج خاطرهما، ويبرد قلبهما عليه، فينعطفا عليه بالرضا والدعاء، ومن ثم طلب منه بعد ذلك أن يدعو لهما: وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَيَّانِي صَغِيرًا.
وكان أبو هريرة إذا أراد أن يخرج من دار أمه وقف على بابها فقال: السلام عليك يا أمتاه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك يا بني ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيرًا، فتقول ورحمك الله كما سررتني كبيرًا. ثم إذا أراد أن يدخل صنع مثل ذلك.
أيها الإخوة المسلون، وحق الوالدين باقٍ، ومصاحبتهما بالمعروف واجبة، حتى وإن كانا كافرين. فلا يختص برهما بكونهما مسلمين، بل يجب برهما وإن كانا كافرين، فعن أسماء رضي الله عنها قالت: قَدِمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم، فاستفتيت النبي فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت عليّ وهي راغبة أفأصِلها؟ قال: ((نعم، صلي أمك)).
ولم يقف حق الوالدين عند هذا الحدّ، بل تبرُّهما وتحسن إليهما حتى ولو أمراك بالكفر بالله وألزماك بالشرك بالله، قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَّفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
فإذا أمر الله تعالى بمصاحبة هذين الوالدين بالمعروف مع هذا القبح العظيم الذي يأمران ولدهما به وهو الإشراك بالله، فما الظن بالوالدين المسلمين سيما إن كانا صالحين؟! تالله إن حقهما لمن أشد الحقوق وآكدها، وإن القيام به على وجهه أصعب الأمور وأعظمها، فالموفق من هدي إليها، والمحروم كل المحروم من صُرف عنها.
وها هو رسول الله يجعل حق الوالدين مقدمًا على الجهاد في سبيل الله، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله : أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) ، قلت ثم أي؟ قال: ((ثم بر الوالدين)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((ثم الجهاد في سبيل الله)) ، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال لرجل استأذنه في الجهاد: ((أحي والداك؟)) قال: نعم، قال: ((ففيهما فجاهد)) رواه البخاري، وعنه أيضًا أن النبي قال: ((رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد)) رواه الترمذي وصححه ابن حبان، وعن معاوية بن جاهمة قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال: ((هل لك أم؟)) قال: نعم، قال: ((فالزمها فإن الجنة تحت رجليها)) رواه النسائي وابن ماجه بإسناد لا بأس به.
وها هو رسول الله يدعو على من أدرك أبويه أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة، فيقول كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة: ((رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه)) ، قيل: من يا رسول الله؟! قال: ((من أدرك أبويه عنده الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة)).
وبر الوالدين من أعظم القربات وأجل الطاعات، وببرهما تتنزل الرحمات وتكشف الكربات، وما قصة الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار فلم يستطيعوا الخروج منه، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة، فادعوا الله بها لعله يفرجها، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار، كنت أرعى عليهم فإذا رجعت عليهم فحلبت بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي، وإنه قد نأى بي الشجر ـ أي: بعد علي المرعى ـ فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغَون عند قدمي ـ أي: يبكون ـ، فلم يزل ذلك دَأْبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا، ففرّج الله لهم حتى يرون السماء.
وهل أتاك نبأ أويس بن عامر القرني؟! ذاك رجل أنبأ النبي بظهوره وكشف عن سناء منزلته عند الله ورسوله وأمر البررة الأخيار من آله وصحابته بالتماس دعوته وابتغاء القربى إلى الله بها، وما كانت آيته إلا بره بأمه، وذلك في الحديث الذي أخرجه مسلم: كان عمر إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس بن عامر فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال مِن مراد؟ قال: نعم، قال: كان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن، كان به أثر برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ هو بارٌ بها، لو أقسم على الله لأبرّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)). فاستغفر لي، فاستغفر له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إليّ. وعن أصبغ بن زيد، قال: إنما منع أويسًا أن يَقدم على النبي برّه بأمه.
ولما علم سلفنا الصالح بعظم حق الوالدين قاموا به حق قيام، فهذا محمد بن سيرين إذا كلم أمه كأنه يتضرع، وقال ابن عوف: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه، فقال: ما شأن محمد؟! أيشتكي شيئًا؟! قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه. وهذا أبو الحسن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنهم كان من سادات التابعين، وكان كثير البر بأمه حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة، فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها. وهذا حيوة بن شريح وهو أحد أئمة المسلمين والعلماء المشهورين، يقعد في حلقته يعلّم الناس ويأتيه الطلاب من كل مكان ليسمعوا عنه، فتقول له أمه وهو بين طلابه: قم ـ يا حيوة ـ فاعلف الدجاج، فيقوم ويترك التعليم.
هذه بعض نماذج بر السلف لآبائهم وأمهاتهم، فما بال شبابنا اليوم يقصرون في بر آبائهم وأمهاتهم، وربما عق أحدهم والديه من أجل إرضاء صديق له، أو أبكى والديه وأغضبهما ـ وهذا من أشد العقوق ـ من أجل سفر هنا أو هناك أو متعة هنا أو هناك.
أوصيكم ـ يا معشر الأبناء ـ جميعًا ونفسي ببر الوالدين، وأن نسعى لإرضائهما وإسعادهما في هذه الدنيا. أسألك بالله يا أخي: ماذا يريد منك أبوك إلا أن تقف معه حين يحتاجك، وأن تسانده حين يحتاجك؟! بل ماذا تريد منك الأم إلا كلمة حانية وعبارة صافية تحمل في طياتها الحب والإجلال؟!
والله يا إخوان، لا أظن أن أي أم أو أب يعلمان من ولديهما صدقًا في المحبة ولينًا في الخطاب ويدًا حانية وكلمة طيبة ثم يكرهانه أو يؤذيانه في نفسه أو ولده.
اللهم إنا نسألك أن تعيننا جميعًا على بر والدينا، اللهم قد قصرنا في ذلك وأخطأنا في حقهما، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسرفنا وما أعلنا واملأ قلبيهما بمحبتنا وألسنتهما بالدعاء لنا يا ذا الجلال والإكرام.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه الذي اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
أيها الإخوة المؤمنون، لا أظن أنه تخفى علينا النصوص الواردة من الكتاب والسنة في فضل بر الوالدين وحرمة عقوقهما وأن عقوق الوالدين من كبائر الذنوب، ولكن ينقصنا العمل بما نعلم، ونغفل أحيانًا كثيرة عن مواضع البر مع زحمة الأعمال الدنيوية، كزيارة الوالدين وتفقد أخبارهما والسؤال عن أحوالهما وسؤالهما عن حاجتهما.
وكم نجد ونسمع من يلتمس رضا زوجه ويقدمه على رضا والديه، فربما لو غضبت الزوجة لأصبح طوال يومين حزينًا كئيبًا لا يفرح بابتسامة ولا يسّر بخبر حتى ترضى زوجه الميمون، وربما لو غضب عليه والداه ولا كأن شيئًا قد حصل.
ذكر أحد بائعي الجواهر قصة غريبة وصورة من صور العقوق، يقول: دخل علي رجل ومعه زوجته ومعهم عجوز تحمل ابنهم الصغير، أخذ الزوج يضاحك زوجته ويعرض عليها أفخر أنواع المجوهرات تشتري ما تشتهي، فلما راق لها نوع من المجوهرات دفع الزوج المبلغ فقال له البائع: بقي ثمانون ريالاً وكانت الأم الرحيمة التي تحمل طفلهما قد رأت خاتم فأعجبها لكي تلبسه في هذا العيد، فقال: ولماذا الثمانون ريال؟ قال: لهذه المرأة قد أخذت خاتمًا، فصرخ بأعلى صوته وقال: العجوز لا تحتاج إلى الذهب، فألقت الأم الخاتم وانطلقت إلى السيارة تبكي من عقوق ولدها، فعاتبته الزوجة قائلة، لماذا أغضبت أمك؟ فمن يحمل ولدنا بعد اليوم؟! ذهب الابن إلى أمه وعرض عليها الخاتم فقالت: والله، ما ألبس الذهب حتى أموت، ولك يا بني مثله، ولك يا بني مثله.
هذه صورة من صور العقوق، يدخل الزوج وهو يعيش مع والديه أو هما يعيشان عنده، يدخل البيت عبوسَ الوجه مكفهّر الجبين، فإذا دخل غرفة نومه سمعت الأم الضحكات تتعالى من وراء باب الحجرة، أو يدخل ومعه هدية لزوجه فيعطي زوجته ويدع أمه. هذا نوع من العقوق.
ويا أخي المسلم، من أحق بالبر: المرأة التي هي سبب وجودك والتي حملتك في بطنها تسعة أشهر وتألمت من حملك وكابدت آلام وضعك، بل وغذتك من لبنها وسهرت ونمت، وتألمت لألمك وسهرت لراحتك وحملت أذاك وهي غير كارهة، وتحملت أذاك وهي راضية، فإذا عقلت ورجت منك البر عققتها وبررت امرأة لم تعرفها إلا سنةً أو سنتين أو شهرًا أو شهرين.
وهذه قصة حصلت في إحدى دول الخليج وقد تناقلتها الأخبار، قال راوي القصة: خرجت لنزهة مع أهلي على شاطئ البحر، ومنذ أن جئنا هناك وامرأة عجوز جالسة على باسط صغير كأنها تنتظر أحدًا، قال: فمكثنا طويلاً حتى إذا أردنا الرجوع إلى دارنا وفي ساعة متأخرة من الليل سألت العجوز فقلت لها: ما أجلسك هنا يا خالة؟! فقالت: إن ولدي تركني هنا وسوف ينهي عملاً له وسوف يأتي، فقلت لها: لكن يا خالة الساعة متأخرة ولن يأتي ولدك بعد هذه الساعة، قالت: دعني وشأني وسأنتظر ولدي إلى أن يأتي، وبينما هي ترفض الذهاب إذا بها تحرك ورقة في يدها، قال: فقلت لها: يا خالة، هل تسمحين لي بهذه الورقة؟ يقول في نفسه: علِّي أجد رقم الهاتف أو عنوان المنزل، اسمعوا ـ يا إخوان ـ ما وجد فيها، إذا هو مكتوب: إلى من يعثر على هذه العجوز نرجو تسليمَها لدار العجزة عاجلاً.
نعم أيها الإخوة، هكذا فليكن العقوق، الأم التي سهرت وتعبت وتألمت وأرضعت هذا جزاؤها!! من يعثر على هذه العجوز فليسلمها إلى دار العجزة عاجلاً. هذا جزاء الأم التي تحمل في جنباتها قلبًا يشع بالرحمة والشفقة على أبنائها، وقد صدق الشاعر حين وصف حنان قلب الأم بمقطوعة شعرية فقال:
أغرى امرؤ يومًا غلامًا جاهلاً بنقوده كيما يحيق به الضرر
قال: ائتني بفؤاد أمك يا فتى ولك الجواهر والدراهم والدرر
فأتى فأغرز خنجرًا في قلبها والقلب أخرجه وعاد على الأثر
ولكنه من فرط سرعة هوَى فتدحرج القلب المعفر بالأثر
ناداه قلب الأم وهو معفّر: ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر
إني أدعوكم جميعًا ـ أيها الإخوان ـ أن لا تخرجوا من هذا المسجد المبارك إلا وقد عاهدتم الله أنه من كان بينه وبين والديه شنآن أو خلاف أن يصلح ما بينه وبينهم، ومن كان مقصرًا في بر والديه فعاهدوا الله من هذا المكان أن تبذلوا وسعكم في بر والديكم، ومن كان برًا بهما فليحافظ على ذلك، وإذا كانا ميتين فيتصدق لهما ويبرهما بدعوة صالحة أو عمل صالح يهدي ثوابه لهما.
وأما أنت أيها العاق، فاعلم أنك مجزي بعملك في الدنيا والآخرة، يقول العلماء: كل معصية تؤخر عقوبتها بمشيئة الله إلى يوم القيامة إلا العقوق فإنه يعجل له في الدنيا، وكما تدين تدان.
ذكر العلماء أن رجلاً حمل أباه الطاعن في السن وذهب به إلى خربة فقال الأب: إلى أين تذهب بي يا ولدي؟ فقال: لأذبحك، فقال: لا تفعل يا ولدي، فأقسم الولد ليذبحنّ أباه، فقال الأب: فإن كنت ولا بد فاعلاً فاذبحني هنا عند هذه الحجرة فإني قد ذبحت أبي هنا، وكما تدين تدان.
اللهمّ أعنا على برّ والدينا، اللهم وفق الأحياء منهما واعمر قلوبهما بطاعتك، ولسانهما بذكرك، واجعلهم راضين عنا، اللهم من أفضى منهم إلى ما قدم فنور قبره، واغفر خطأه ومعصيته، اللهم اجزهما عنا خيرًا، اللهم اجزهما عنا خيرًا، اللهم اجمعنا وإياهم في جنتك ودار كرامتك، اللهم اجعلنا وإياهم على سرر متقابلين، يسقون فيها من رحيق مختوم ختامه مسك.
(1/3481)
استثمار فرص الأعمار
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
15/9/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فرصة الأزمنة الفاضلة. 2- غفلة بعض الناس عن شهر الخيرات. 3- اجتماع نوعي العبادة في رمضان. 4- حاجة الأمة إلى الدعاء بنوعيه. 5- موانع إجابة الدعاء. 6- فضل العشر الأواخر وليلة القدر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بَعد: فاتَّقوا الله ـ أيّها المسلمون ـ حقَّ تقاته، واعلَموا أنّ ما بكم مِن نعمةٍ فمن الله، فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت:17].
أيّها المسلِمون، إنّه ما مِن اجتماعٍ في هذه الدّنيا إلاّ وسيصِير إلى افتراقٍ، والدَّهر يكون تارةً ذا فتح وتارةً أخرى ذا إغلاق، وما من تمامٍ إلا وسيحول إلى زوال، والزمن في دورانِه يُعدّ فرصة كبرى لإيقاظِ ذوي الفطنة في استثمارِ فُرَص الخير والنَّهل من مواردها والمدَدِ بالسبب إليها مع حذَر الانقطاع، ولقد كنّا بالأمس القريبِ في حالة من الترقُّب والوَلَه لبلوغ هذا الشهر المبارك، وها نحن بهذا اليومِ نقطع شطرَه بسجلاّتٍ مطويَّة لا يدرَى من الرابِح فيها فيُهنَّا، ولا من الخاسِر فيها فيُعزَّى، إنها قافلة العمَل الصالح التي لا تتوقَّف رحالها، بل هي ماضيةٌ دون التفات ولسان حالها يقول: يا باغيَ الخير، الحق بركابنا أو لتكوننَّ من القاعدين.
عبادَ الله، إنَّ من تأمَّل حالات فئامٍ من الناس ليست بالقليلةِ ليأخذَنَّ العجب بلُبِّه كلَّ مأخَذ، وإنه ليتساءَل في دهشةٍ وذهول: أين هذه الفئامُ من استِدراكِ خَصائِص الشهر المبارك؟ ألم يسمَعوا حديثَ النبي الذي رواه البخاريّ ومسلم: ((إِذا دخل شهرُ رمضان فتِّحت أبوابُ الجنة وغُلِّقت أبواب النيران وصفِّدت الشياطين)) [1] ؟! أين هؤلاء من استثمارِ فرصة التصفيدِ هذه، والتي لا تخلُص الشياطين بسبَبِها إلى ما تخلُص في غيره؟!
ألا إنَّ مِن أمكَر حِيَل الشّيطان أن يركِّبَ في أفهام الناس لوثةَ القناعة بعدَم وجودِه في واقعهم، بحيث تكون تصرّفاتهم وتوجُّهاتهم في منأى شاسِع عن قولِ النبيّ فيما رواه الشيخان: ((إنَّ الشيطانَ يجري من ابنِ آدمَ مجرى الدم)) [2]. وإنه بمثلِ هذه اللوثةِ يكوِّن ضعافُ النفوس لدَى ذوَاتهم هالةً من العِصمة والحماية من ألاعيب الشيطان ومكرِه، فيقنِعون أنفسَهم بالاطمِئنان على أحوالهم وأوضاعِهم الرتيبة، وأنّه ليسَ تمَّةَ ما يستدعي التصحيحَ والإصلاحَ لهم ولمجتَمَعهم، أو على أقلِّ تقديرٍ الاستجابة للنّصح المنطلقِ من القلب المشفِق والنذيرِ العريان. في حينِ إنَّ الواجِبَ على الجميع في هذا الشهر أن يجعَلوا منه فرصةً للمرَان على منازلةِ الشيطان ومراغَمته أشدَّ المراغمة؛ لأنّ من قوِيَ إيمانه بربِّه فلا جرَمَ سيغلِب الشيطان لأنّ كيدَ الشيطان كان ضعيفًا، وما أسرعَ ما يفِرّ أمام القويِّ وصاحبِ العزيمة؛ لأنّ التواصل في طاعة الله وذكرِه الدائم كفيلٌ بالتخفيفِ من سَوْرَة الشيطان، ومن ثَمَّ تشخصُ أحداق المؤمِن المتَّقي تعجُّبًا لما يرَى من ضعفِ الشيطان أمامه، فلا يلبَث أن يوقنَ أنّه إنما كان مستسمِنًا ذا ورَم، ولا أدلَّ على ذلك من قولِ النبيّ للفاروق رضي الله عنه في الحديث المشهور: ((والذي نفسي بيده، ما لقِيَك الشيطان سالكًا فجًّا إلاّ سلك فجًّا غيرَ فجِّك)) [3] ، والذي عليه إجماعُ الأمّة قاطبةً أنّ عمرَ رضي الله عنه لم يكن على شريعةٍ غيرِ شريعة محمّد ، ولم يكن نبيًّا مرسلاً ولا ملَكًا مقرَّبًا، ولكنه كان ذا إيمانٍ ويقين بالله وقوّة في الحقّ ودَحر للباطل، والله الهادي إلى سواء الصّراط.
أيّها المسلمون، لقد أكرَم الله هذه الأمّةَ في هذا الشهرِ المبارَك باجتماع نوعَي العبادة فيه بمُكاثرةٍ لا تظهَر في غيره، وذلك من خِلال الإكثارِ مِن دعاء العبادةِ ودعاء المسألة؛ إذ يتمثَّل دعاءُ العبادة في الإكثار من الصّلاة والصوم وقراءةِ القرآن والصّدقة والذكر، وهذه الطاعاتُ كلُّها تتكاثَر في رَمضانَ، وهي في الحقيقةِ دعاءٌ من المرءِ بلسان الحال أن يغفِرَ الله له ويتقبَّل منه ويجيرَه مِن عذابه. ويتمثَّل دعاءُ المسألَةِ في الدعاءِ المشهور في القنوت وعندَ الفطر وبين الآذانِ والإقامة وسائر الدعاء في سائر الأوقات، وهذا كلُّه فضلٌ من الله ونعمَة. فهنيئًا لمن رزَقه الله الاغتنامَ والتّمام، وخَيبةً لمن سبقَه المؤمنون وتجاوزَه المخلصون وهو لا يزال أسيرَ هواه طريحَ وِسادته.
إنَّ الأمة أحوج ما تكون إلى الدّعاء بنوعَيه في هذا الشهر؛ لأنَّ واقعها يمرّ بأعاصيرَ وزوابع تقذِف بها ذاتَ اليمين وذات الشمال. إنّها تتلقَّى الضرباتِ تلوَ الضربات، ويأتيها الموتُ من كلِّ مكان وما هي بميّتة، وإنَّ واقعَها ليُزري بها في حالٍ ليس لها من دونِ الله كاشفة، وهنا مكمَن السرّ في اللجوء إلى الله وارتقاب لُطفِه ورفعِ أكفِّ الضراعة إلى العزيز الغفار أن يصلِحَ أحوالَ المسلمين ويلمَّ شعثهم.
ولقد كان لنا في رسولِ الله أسوةٌ حسنة حينما شقَّ عليه ما رآه من طغيانِ صناديد قريش وإعلانها العداءَ لله ولرسوله ، فتوجَّه إلى الله يومَ بدرٍ في رمضانَ وأحيى ليلَه، فكان يلظّ بالحيِّ القيّوم قائلاً: ((اللهم إني أنشدكَ عهدَك ووعدك، اللهم إن تهلِك هذه العصابة لا تُعبَد بعدها في الأرض)) ، ويرفع يدَيه إلى السّماء حتى سقط الرِّداء عن منكبيه بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه [4] ، فلم يُرجِع رسولُ الله يدَيه بعد الدعاء بصدقٍ وإخلاص ويقين بالإجابة إلاّ والملائكة تنزِل مددًا تقاتِل في صفوف المسلمين، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال: 9]. والمسلمون في مشارِقِ الأرض ومغارِبها يفرَحون بهذا النّصرِ الجميل ويرفعون أيديَهم إلى السماء كما فعل رسول الله ضارعِين إلى المولى عزّ وجلّ أن ينصرَهم على أعدائهم، قائلين في حُرقةٍ وألمٍ مما يصيبهم: اللهمّ إننا ننشدك عهدَك ووعدك الذي وعدتنا.
إنّ على المسلمين بعامّة في هذا الشهر المبارَك أن يوطّدوا أنفسَهم على تحقيق الصّلةِ بالله وإحسان اللجوء إليه، فهو الذي يقضِي ولا يُقضى عليه، وهو الذي يكرِم عبادَه بالتنزّل في ثلثِ الليل الآخر إلى سماءِ الدنيا فيقول: هل من سائلٍ فأعطيَه؟ هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفِر فأغفر له؟ بيدَ أنَّ كثيرًا من المسلمِين مع هذهِ الفُرَص لفي حالةٍ من اليأس والقنوطِ بسبَب استبطاءِ الإجابة والنظَر بالعينِ البَاصِرة بأنّ واقعَ الأمة يزداد سوءًا يومًا بعد يوم ويترامَى شررًا كالقَصر، غيرَ أنّ الأمرَ الذي ينبغِي أن نؤكِّدِه هو أن لاستجابةِ الدعاء موانعَ ينبغي أن تقلِعَ عنها أمّةُ الإسلام حتى يتحقَّق لها ما تصبو إليه.
فمن تلك الموانعِ تركُ الأمر بالمعروفِ والنّهي عن المنكَر أو إهمالُهما أو الاستحياءُ فيهما؛ لما روَى الترمذيّ وأبو داود وابن ماجه أنّ النبيّ قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهوُنّ عن المنكر أو ليوشِكَنّ الله أن يبعَث عليكم عذابًا مِنه ثم تدعونَه فلا يستجيب لكم)) [5].
ومِن تلك الموانعِ ـ عبادَ الله ـ المطعَم الحرامُ لقول النبي عن الذي يمدُّ يدَيه في السفر أشعثَ أغبر: يا ربّ يا ربّ، ومطعمُه حرام، ومشرَبه حرام، وملبَسه حرام، وغذِّيَ بالحرام: ((فأنى يستجاب لذلك)) رواه مسلم [6].
ومِنَ الموانع أيضًا استعجالُ الإجابة لقولِه : ((يُستجاب لأحدِكم ما لم يعجل، يقول: دعوتُ فلم يُستجَب لي)) رواه البخاري ومسلم [7].
ولربّما لم يُستَجَب الدعاء لكونِهِ منبَثِقًا من شِفاه الداعين غيرَ مقتَرِن بالقلب واقترانَ الماء والهواءِ بالروح؛ لأنَّ اللسان ترجمان القلب وبريدُه، فالدعاءُ باللسان والقلبُ غافل لاهٍ إنما هو قليل الجدوى أو عديمُها، فرسولُ الله يقول: ((إنّ الله لا يقبَلُ الدعاءَ من قلبٍ لاهٍ)) رواه الحاكم والترمذيّ وحسنه [8].
دخلَ أهلُ البصرة على إبراهيم بن أدهم وقالوا له: ما لنا منذُ دهرٍ ندعو فلا يستجاب لنا؟! فقال: يا أهل البصرةِ، ماتت قلوبُكم في عشرةِ أشياء فكيف يستجاب لكم؟! عرفتُم اللهَ فلم تؤدّوا حقَّه، وقرأتم القرآنَ فلم تعمَلوا به، وادَّعيتم عداوةَ الشيطان وأطعتموه ووافقتموه، وتقولون: إنكم أمّة محمّد ولم تعمَلوا بسنّته، وادّعيتم دخولَ الجنة ولم تعملوا لها، وادّعيتم النجاةَ من النار ورمَيتم أنفسكم فيها، وقلتم: إن الموتَ حقّ ولم تستعدّوا له، وانشغَلتم بعيوبِ الناس وتركتم عيوبَكم، وأظلَّتكم نعمةُ الله ولم تشكروه، ودفَنتم موتاكم ولم تتَّعِظوا [9].
ألا فاتَّقوا الله معاشرَ المسلمين، وأكثِروا من اللجوء إلى الله والتضرّع إليه بقلبٍ صادق ورغبةٍ جامحة، فهو الذي بيدِه ملكوتُ كل شيءٍ وهو يجير ولا يُجار عليه، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل: 62].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العَظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيهِما من الآياتِ والذّكرِ الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمِنَ الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفِر الله إنّه كانَ غفّارًا.
[1] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1899)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1079) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الاعتكاف (2038، 2039)، صحيح مسلم: كتاب السلام (2175) عن صفية رضي الله عنها.
[3] أخرجه البخاري في كتاب المناقب (3683)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة (2397) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في كتاب الجهاد (1763) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[5] سنن الترمذي: كتاب الفتن (2169) من حديث حذيفة رضي الله عنه وقال: "هذا حديث حسن"، وأخرجه أيضا أحمد (5/388، 391)، والبيهقي في الشعب (7558)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (1762).
[6] صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1015) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] صحيح البخاري: كتاب الدعوات (6340)، صحيح مسلم: كتاب الذكر (2735) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3479) من حديث أبي هريرة بنحوه وقال: "غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وقال الحاكم (1/493): "حديث مستقيم الإسناد تفرد به صالح المري وهو أحد زهاد أهل البصرة"، وتعقبه الذهبي بأن صالحًا هذا متروك، لكن للحديث شاهد، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (594).
[9] انظر: تفسير القرطبي (2/312)، وفيض القدير (3/542).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعدَه.
وبعد: فاتَّقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أنه قد أظلَّتكم عشرٌ مباركات، عشرٌ فيها منَ الخير والبركة ما ليس في غيرها، فيها ليلةٌ هي خير من ألفِ شهر، من حُرِم خيرَها فقد حُرِم، إنها ليلةٌ مباركة، فيها يفرَق كلّ أمرٍ حكيم، إنها ليلةٌ العمَلُ فيها خيرٌ من عملٍ ثلاثةً وثمانين عامًا، إنها ليلة من قامَها إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبه. بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [سورة القدر]. إنّه ليكثُر تنزّل الملائكة في هذه الليلةِ لكثرةِ بركتِها، وأمّا قِيام الروح فيها فقيل: إنه جبريل عليه السلام، وقيل: هم ضربٌ من الملائكةِ. وهذه الليلةُ ـ عبادَ الله ـ ينبغِي الاجتهاد في موافَقَتها في العشر الأواخر والإكثارُ فيها من الطاعة والذّكر والدعاء، ويُسَنّ أن يقول المرءُ فيها: اللهمّ إنّك عفوٌّ تحبّ العفوَ فاعفُ عنّي، لما روى الإمام أحمد وأصحابُ السنن عن عائشة رضي الله عنها [1].
ثم اعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أنّ الاجتهادَ في هذه العشرِ ينبغي أن يعمَر بالصّدقِ والإخلاصِ ومتابعةِ النبيّ ، وكذلك الاعتكاف فيها لكونِ النبيّ كان يفعل ذلك في العشرِ الأواخر حتى مات كما في الصحيحين وغيرهما [2].
ثم إنَّ هذا الاجتهادَ ينبغي أن لا ينغَّص بالتّكلُّف والتنطّع في محاولةِ معرفة هذه الليلة من خِلال تتبُّع ما يُروَى من الآثار في أمَراتها، أو ما يُروَّج كلَّ عامٍ من قِبَل بعض المعبِّرين أو الرّائين لها في المنامات، والتي لا ينبَني عليها حكمٌ شرعي كما ذكر ذلك النوويّ والشاطبي وشيخ الإسلام وابن القيم وغيرهم، بل إنَّ النبيَّ قد رآها في المنامِ وأُنسِيَها، ولا ينبغِي الالتفاتُ إلى ما يحتجّ به بعضُ المعبِّرين بأنَّ النبيَّ قد قال لأصحابه: ((أرى رؤياكم قد تواطَأت)) [3] ؛ لأنّ تعبيرَ النبيّ حقّ وما يقوله حقّ مؤيَّدٌ بالوحي دون غيره.
ثمّ إنَّ تداوُلَ الرّؤَى بين الناسِ عن ليلةِ القدر يُعَدّ من إضاعة الوقتِ ومِن مَداخِلِ الشيطان ليفسِدَ عليهم هِمَمَهم، فتتقاصَر عن قيامِ بقيّةِ الليالي، والصحيح المقرَّر عند أهل العلم أنه لا يمكِن لأحدٍ أن يحدِّدَ ليلةَ القدر قبل وقوعِها، بل إنها رُفعَت إلى يوم القيامة، فلا يستطيع أحدٌ أن يعيّنَها كائنًا مَن كان لا معبِّرًا ولا وليًّا ولا صالحًا ولا عَالمًا، فقد أخرَج البخاريّ في صحيحه عن عُبادة بن الصّامت رضي الله عنه قال: خرَج رسول الله ليخبرَنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: ((خرجتُ لأخبِرَكم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرُفِعَت وعسى أن يكونَ خيرًا لكم، فالتَمِسوها في التاسعةِ والسابعةِ والخامسة)) [4]. وهنا مَكمَن الحِكمة ـ عبادَ الله ـ في إخفائِها ليجتهدَ طلاّبها في ابتغائِهَا في جميع العشر، ولهذا كان رسولُ الله يعتَكِف العشرَ الأواخِرَ لعلَّه يوافقها.
ثمّ لتعلَموا أنّ أصحَّ ما ورد في أمارةِ تلكَ الليلة بعد انتهائِهَا ما رواه مسلم في صحيحِه أنَّ أُبيّ بن كعب ذكر أنّ أمارتها أن تطلعَ الشمس في صبيحتِها بيضاءَ لا شعاعَ لها [5]. وهذا يحتمِل أن يكونَ اجتهادًا منه رضي الله عنه، ويحتمِل أن يكونَ خاصًا بليلةِ القدر التي وافقوها في ذلك الزمن، والعِلم عندَ الله تعالى.
ألا فاتّقوا الله معاشرَ المسلمين، وبادروا بالأعمال قبل فواتها، وسارعوا إلى جنّة عرضها السموات والأرض أعدت للمتّقين.
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشرية محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحبِ الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] مسند أحمد (6/173)، سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3513) ، سنن ابن ماجه: كتاب الدعاء (3850)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (1/530)، وأقره الذهبي، وصححه النووي في الأذكار (ص248)، وهو في صحيح الترغيب (3391).
[2] صحيح البخاري: كتاب الاعتكاف (2025، 2026، 2027)، صحيح مسلم: كتاب الاعتكاف (1171، 1172، 1167) عن ابن عمر وعن عائشة وعن أبي سعيد رضي الله عنهم.
[3] أخرجه البخاري في كتاب صلاة التراويح (2015)، ومسلم في كتاب الصيام (1165) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[4] صحيح البخاري: كتاب صلاة التراويح (2023).
[5] صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين (762).
(1/3482)
الإحسان في شهر القرآن
فقه
الزكاة والصدقة, الصوم
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
15/9/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة انقضاء الليالي والأيّام. 2- انتصاف الشهر. 3- من فقه مقاصد الصوم. 4- رمضانُ مدرسةٌ للأمّة الإسلامية. 5- لا نجاةَ إلاّ برجعة صادقة إلى الله تعالى. 6- شهر رمضان شهر الجود والكرم. 7- الحث على الإنفاق والصدقة والإحسان. 8- حاجة الجمعيات الخيرية للدعم. 9- فريضةُ الزّكاة. 10- من أحكام الزكاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيّها المسلمون، ما أسرعَ ما تنقضِي الليالي والأيّام، وما أعجلَ ما تنصرِم الشهور والأعوام، وهذه سُنّة الحيَاة. أيّامٌ تمرّ وأعوَام تكرّ، وفي تقلّب الدّهر عِبر، وفي تغيُّر الأحوال مدّكَر.
إخوةَ الإيمان، شهرُ رَمضانَ تقوَّضَت خِيامه، وتصرَّمت لياليه وأيّامُه، قرُب رَحيلُه، وأزِف تحويلُه، انتصَب مودِّعا، وسَار مسارعا، ولله الحمد على ما قضَى وأبرَم، وله الشّكر على ما أعطى وأنعم.
فاستدركوا ـ رحمكم الله ـ بقيّتَه بالمسارعة إلى المكارم والخيرات واغتنامِ الفضائل والقرُبات، ومن أحسن فعليه بالتمام، ومن فرَّط فليختم بالحسنى فالعمل بالخِتام.
أيّها المسلمون، تشريعاتُ الإسلام تتضمَّن أسرارًا لا تتناهى ومقاصِدَ عاليةً لا تُجَارى، وإنَّ مِن فقهِ مقاصدِ الصوم كونَه وَسيلةً عُظمى لبناءِ صفة التقوى في وجدَان المسلم، التقوى بأوسع معانيها وأدقِّ صوَرِها لتكون صفةً لعبد في حياته كلّها، فالواجب المتحتِّم علينا أن نأخذ من رمضان مدرسةً نستلهِم مِنها شِدَّة العزمِ وقوَّةَ الإرادة على كلِّ خير؛ تنظيمًا للسّلوك، وتقويمًا للنّفوس، وتعدِيلاً للغرائِز، وتهذيبًا للبواطن والظّواهر، وصَفاءً ونقاءً للأعمَال والضّمائر، تمسّكًا بالخيراتِ والفضائِل، وتحلِّيًا بالمحاسِنِ والمكارم. وحينئذٍ نخرج من رمضانَ بصفحةٍ مشرِقة بيضاء ناصعةٍ، حياتُنا ملِئت بفضائِلِ الأعمال ومحاسنِ الأفعال ومكارِم الخِصال. غدا الصومُ لأنفسنا حمًى أمينًا وحِصنًا حَصينًا من الذّنوب والآثام، حينئذٍ تصفو أرواحنا وترقّ قلوبنا وتصلح أنفسنا وتتهذَّب أخلاقنا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
معاشر المسلمين، أنّ الأمةَ في أيّام مِحَنها وشدائدها وأزمانِ ضعفها وذلّها بحاجةٍ ماسّة إلى وقفاتٍ عندما تمرّ بها مُناسبةٌ كرَمضان، لتستلهِم العبَرَ والعظاتِ. ورمضانُ مدرسةٌ للأمّة الإسلامية، يجب أن لا تخرجَ منها إلا بإصلاحٍ للأوضاع ومراجعةٍ لمواطنِ الخلَل في جميع أمورها دينيًّا ودنيويًّا. جديرٌ بأمّة محمّد في عصر تقاذفت فيه أمواج المحن، وتشابكت فيه حلقات الفتن، وغلبت فيه الأهواء واستحكمت لمزاعم والآراء، وواجهت الأمة فيه ألوانا من التصدّي السافر والتعدّي الماكر والتآمر الرهيب، جدير بالأمّة الإسلامية أن تتَّخِذ من هذا الشهر مَرحلةَ تغيُّرٍ جادٍّ إلى موافقةِ المنهج الحقّ في جميع شؤونها على ضوءِ كتابِ ربِّها وسنّة نبيِّها محمد عليه أفضل الصلاة والسّلام. حريٌّ بالأمّة أن لا يمرَّ بها هذا الشهرُ دون استلهامٍ لحِكَمه وأسراره، والإفادة من معطَياته، والنهلِ من ثمراتِه وخيراته، والنّهل من فضائِله النيِّرة وآثاره الخيِّرة؛ ليتمثَّلَ الإسلام الحقُّ في حَياتها واقِعًا ملموسًا وعملاً مشَاهدًا محسوسًا، وما ذلك على الله بِعَزيز، فربُّنا جل وعلا يقول: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].
ألا فلتعلمِ الأمة اليومَ وهي تعيش مصائبَ شتّى ونكباتٍ لا تُحصى، لتعلمْ علمًا يقينيًّا أنه لا نجاةَ لها مما هي فيه إلاّ برجعة صادقة إلى الله جل وعلا، وبالتزام حقيقيٍّ بمنهج رسول الله ، فذلكم هو قاعدة الإصلاح وأصلُ العزِّ والفلاح وأساس النصر والنجاح، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلها.
إخوةَ الإيمان، شهر رمضان شهر الجود والكرم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبيّ أجودَ النّاس بالخير، وكانَ أجودَ ما يكونُ في رمضانَ حين يلقاه جبريلُ، وكان جبريل يلقاه كلَّ ليلةٍ في رمضان يعرضُ عليه القرآن، فإذا لقِيَه جِبريل كان أجودَ بالخير من الريح المرسلَة. متفق عليه [1].
والجودُ ـ عبادَ الله ـ أنواع متعدِّدة وأشكالٌ مختلِفة، ألا وإنَّ مِن أبرزِ خِصال الكرَم وأنبلِ أنواعِ الجودِ الإحسانَ إلى العِبادِ وإيصالَ النّفع إليهم بكلِّ طريق؛ من إطعام جائعٍ وقضاءِ حاجة وإعانة محتاج، قال : ((مَن فطّر صائمًا كان له مثلُ أجره، من غير أن ينقصَ من أجر الصائم شيئًا)) رواه الترمذيّ وابن ماجه [2].
اشتهى بعض الصالحين طعامًا وكانَ صائِمًا، فوُضِعَ بينَ يدَيه عندَ فطورِه، فسمِعَ سائلاً يقول: مَن يقرِض الملِيّ الوفيَّ الغنيَّ؟ فقال: عبدُه المعدم مِنَ الحسنات، فقام فأخَذَ الصَّحفةَ فخرَج بها إليه، وباتَ طاوِيًا من الجوع، فربّنا جلّ وعلا يقول: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى? أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُّوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
أيّها المؤمِنون، في عالَمِ المسلمين فقراءُ لا مَورِدَ لهم، ومشرَّدون لا أوطانَ لهم، يعيشُ كثيرون منهم أيّامًا قاسِية، ويذوق آخَرون مراراتٍ متنوِّعة، ولا حولَ ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.
فيا أمّةَ محمّد نبيِّ الرحمةِ والإحسان، نبيِّ العَطفِ والجودِ والحَنانِ، اللهَ اللهَ في إخوانِكم، تذكَّروا أحوالهم، وابذلُوا ما تستطِيعون في مساعدتهم من مالٍ وغِذاء وكساء ودواءٍ، وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ?لرَّازِقِينَ [سبأ:39].
تذكَّروا وأنتم في رمضانَ، تذكَّروا إخوانَكم المستضعَفِين في كلِّ مكان، خُصّوهم بصالحِ الدعاء وخالِص التضرُّع إلى المولى جلّ وعلا، فنبيّناقال يقول: ((ثلاثة لا ترَدّ دعوتهم)) وذكر منهم: ((الصائم حين يفطِر)) حديث حسن [3].
إخوةَ العقيدة، إنّ بلادَ الحرمين ـ وبحمد الله ـ تعيش نعَمًا عظمى في ظلِّ تحكيم شَريعةِ الإسلامِ ومبادئِه الخالِدَة، وإنّ مما تعايِشُه وتعيشه قاعِدةَ التآلُف بين أبنائها ومبادِئ المحبّة والمودّة التي يسعَى الحاكم والمحكومُ إلى تحقيقها، وإنَّ من ذلك ما ينتشِر في أرجائها ويكثر في بلادها من جمعيّاتٍ خيريّة ومؤسَّسات خيِّرة، وهي بحاجةٍ إلى دعمِكم ومساعدَتِكم، وفي تطلُّعٍ إلى بذلِ المزيد من عونِكم وإمدادكم، خاصّةً في هذا الشهر شهرِ الجودِ والعطاء، فنبيّنا يقول: ((ما نقَصَت صدقةٌ من مال)) رواه مسلم [4] ، ويقول: ((اتَّقوا النارَ ولو بشقِّ تمرة)) [5]. وهكذا الحالُ يجب أن يكونَ عليه المسلمونَ في كلِّ بلدٍ من بلدانهم.
معاشرَ المسلمين، فريضةُ الزّكاة فريضةٌ في الإسلام معلومَة من الدّينِ بالضّرورة، سَببٌ للنّجاة مِن كلّ مرهوب، وطريقٌ للفَوز بكلّ مَرغوب. خطب النبيّ في حجّة الوَداعِ فقال: ((اتَّقوا الله ربَّكم، وَصلّوا خمسَكم، وصُوموا شهرَكم، وأدّوا زكاةَ أموَالكم، وأطيعوا ذا أمرِكم، تدخلُوا جنّةَ ربّكم)) رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح" وصحّحه الحاكم ووافقه الذهبيّ [6].
معاشر المسلمين، لقد وجّه القرآن الكريم وَعيدَه الشديدَ لمانِعي الزّكاة والمتهاوِنين فيها: وَ?لَّذِينَ يَكْنِزُونَ ?لذَّهَبَ وَ?لْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ?للَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى? عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى? بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـ?ذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35]. ونبيّنا وحبيبُنا حَذّر أمّتَه من التهاونِ في الزّكاةِ أو التساهل في إخراجِها بأساليبَ شتّى وتوجيهاتٍ لا تُحصَى، فقد أنذَر مانعي الزكاةِ بالعَذابِ الغَليظِ في الآخرَةِ، لينبّهَ القلوبَ الغافِلة ويحرّكَ النّفوس الشّحيحةَ إلى الحِرصِ عليها والاهتمامِ بشأنها، فقد روى البخارِيّ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قال رسول الله : ((مَن آتاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاتَه مُثِّل له يومَ القيامة شُجاعًا أقرع ـ كناية عن أخبثِ الحيّات ـ له زبيبتَان، يطوَّقُه يومَ القيامة، ثمّ يأخُذ بلهزمَتَيه ـ يعني بشدقيه ـ ثمّ يقول: أنا مالُك، أنا كنزك)) ، ثم تلاَ النبيّ قولَ اللهِ جلّ وعلا: وَلاَ يَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [آل عمران:180] الحديث رواه مسلم [7]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما مِن صاحِبِ ذهَبٍ ولا فِضّة لا يؤدّي منها حقَّها إلاّ إذا كان يوم القيامَةِ صُفِّحت له صفائِح من نار، فأُحمِي عليهَا في نارِ جهنّم، فيُكوَى بها جنبُه وجَبينه وظهره، كلّما بَردَت أعيدَت له في يومٍ كان مِقداره خمسين ألفَ سَنَة، حتى يُقضَى بينَ العِباد، فيُرَى سبيلُه إمّا إلى الجنّة وإما إلى النّار)) الحديث رواه الشيخان [8].
فيا مَن أنعَمَ الله عليهِم بالنِّعَم المتوافِرة وفَضّلهم بالأموَالِ المتكاثِرة، تذكّروا مَن يعيشونَ تحتَ وَطأةِ البؤس ويُقاسُون همومَ الحاجة، تذكّروا أنّه مَتى فَشا تركُ الزّكاة في قومٍ نُزعَت من أرضهم البركات ووقعَت بهم البلايا والآفاتُ، ((ما منَع قومٌ الزّكاةَ إلاّ ابتلاهم الله بِالسّنين)) [9] ، وفي حديث آخر: ((مَن أدّى زكاةَ مالِه فقد ذهَب عَنه شرُّه)) [10] ، ونبيّنا يقول أيضا: ((ولم يمنَعوا زَكاةَ أموالهم إلاّ مُنِعوا القطرَ من السّمَاء، ولولا البهائمُ لم يُمطَروا)) [11].
فاتّقوا اللهَ عبادَ الله، وأدّوا زَكاةَ أَموالِكم طَيّبةً بها نفوسُكم، تحصَّنوا بالزّكاةِ مِن شرور أموالِكم، وطهِّروا بها دنياكم وأخراكم، خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ [التوبة:103].
يا مَن أضعَفَته نفسُه عَن إِخراجِ ما أوجَبَ الله، ألا تخشَى من سَخطِ الله؟! ألا تخشَى أن يعتَريَك ما يصيبك في مالِك ويصيبُك في بدنك، فيحرمك حينئذٍ من لذّة الانتفاعِ به؟! فنبيّنا يقول: ((تعِس عَبد الدِّرهم، تعِسَ عَبدُ الدّينارِ، تعِسَ عبدُ الخميلَة، تعِس عبدُ الخميصة، إن أُعطِيَ رضِي، وإن لم يُعطَ سخِط، تَعِس وانتكس، وإذا شِيكَ فلا انتُقِش)) رواه البخاري [12] ، وفي الحديث: ((ينادي في كلّ صباح ومساءٍ ملَكان: اللّهمّ أعطِ كلَّ منفِقٍ خلفًا وكلَّ ممسِكٍ تلفًا)) رواه البخاري [13].
بارَك الله لي ولَكم في القرآنِ، ونَفَعنا بما فيه من البيان، أقول هذا القولَ، وأستغفِر الله لي ولَكم ولسائِرِ المسلِمين من كلِّ ذنب، فاستغفِروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الصوم، باب: أجود ما كان النبي (1902) واللفظ له، صحيح مسلم: كتاب الفضائل، باب: كان النبي أجود الناس (2308).
[2] رواه أحمد (16585)، والترمذي في الصوم، باب: ما جاء في فضل من فطر صائمًا (807)، وابن ماجه في الصيام، باب: في ثواب من فطر صائمًا (1746)، من حديث زيد بن خالد الجهني، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (2064)، وابن حبان (3429)، وأورده الألباني في صحيح الترغيب (1078).
[3] رواه الإمام أحمد (7983)، والترمذي في الدعوات، باب: في العفو والعافية (3598)، وابن ماجه في الصيام، باب: في الصائم لا ترد دعوته (1752) من حديث أبي هريرة، قال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه ابن خزيمة (1901)، وابن حبان (2407)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1358).
[4] صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب: استحباب العفو والتواضع (2588)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] رواه البخاري في الزكاة، باب: اتقوا النار ولو بشق تمرة، والقليل من الصدقة (1417)، ومسلم في الزكاة باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة (1016) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
[6] سنن الترمذي: كتاب الجمعة (616) عن أبي أمامة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (5/251، 262)، والطبراني في الكبير (8/115، 136، 138، 154، 161، 174)، وصححه ابن حبان (4563)، والحاكم (19، 1436، 1741)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (867).
[7] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1403).
[8] صحيح مسلم: كتاب الزكاة (987) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] رواه الطبراني في المعجم الأوسط (4577، 6788) عن بريدة رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب (1/309) والهيثمي في المجمع (3/66): "رجاله ثقات"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (763).
[10] رواه الطبراني في المعجم الأوسط (1579) عن جابر رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (2258)، وقال الهيثمي في المجمع (3/63): "إسناده حسن وإن كان في بعض رجاله كلام"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (743).
[11] أخرجه ابن ماجه في الفتن، باب: العقوبات (4019)، والطبراني في الكبير (12/446) والأوسط (5/62)، والبيهقي في الشعب (3/197) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (5/318): "رجاله ثقات"، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[12] صحيح البخاري: كتاب الجهاد (2887) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[13] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (2887) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو عند مسلم أيضا في الزكاة (1010).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عَلَى إحسانِه، والشّكرُ لَه على توفِيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لاَ إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشَأنه، وأشهد أنَّ سيّدَنا ونبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله عليه أفضل الصلاة والسلام.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله جلّ وعلا، فهي وصيّةُ الله للأوَّلين والآخِرين.
أيّها المسلِمون، الزّكاةُ حَقٌّ مَعلوم، قَدَّر الشارِع أنصِبتَها ومقاديرَها وحدودَها وشروطَها ووقتَ أدائها وطريقة أدائها، حتى يكونَ المسلِم على بيّنة من أمرِه ومعرفةٍ بما يجِب عليه وكَم يجِب عليه ومتى يجِب.
فعَلَى كلّ مسلِمٍ أن يكونَ على بيّنَةٍ من تلك الأحكامِ وعلَى درايةٍ بتلكَ التعاليم عن طريقِ سؤالِ أهلِ العلمِ والاستيضاح من ذوي أهل العرفان، فَ?سْأَلُواْ أَهْلَ ?لذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43].
فالزّكاة تجِب في الأثمانِ وهما الذّهبُ والفضّة بأنواعِهِما، ويلحَق بها الأوراقُ الماليّة التي جعَلها الناسُ لمعاشهم أقيامًا، كما تجِب في الخارجِ من الأرضِ مِن كلِّ حَبٍّ وثَمَر يُكال ويدَّخَر، وتجِب أيضًا في بهيمةِ الأنعَام وعروضِ التّجارة وهي كلّ مَا أُعِدّ للبَيعِ والاكتساب أيًّا كان نوعُها، سواء كانَت من العقاراتِ كالأراضِي والدّورِ أو كانت من غَيرها، فإذا حال الحولُ على هَذِه العروض قوِّمَت قيمةَ السُّوق وأخرَج مالِكُها زكاتَها من مِقدار قيمتِها رُبعَ العشر، أمّا مَن أعدّ عَقارًا أو غيرَه للإيجارِ لا للبَيعِ ولا للاتّجار فالزّكاةُ في أُجرتِه إذا حَالَ عليها الحول.
ثمّ إنّ الله جلّ وعَلا أمَرَنا بِأمرٍ عظيم تَزكو به أنفُسُنا وتطيبُ به أوقاتُنا، ألا وهو الصّلاة والسّلام على النبيّ الكريم.
اللهمّ صلّ وسلّم وبارِك على سيدنا وحبيبنا نبينا محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاءِِ الرّاشدين...
(1/3483)
معركة بدر ومجزرة الحرم الإبراهيمي
سيرة وتاريخ
معارك وأحداث
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
15/9/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إكرام الله تعالى للأمة بشهر رمضان. 2- في ذكرى معركة بدر الكبرى. 3- صناعة النصر. 4- تضرع النبي ودعاؤه وثقته بنصر الله. 5- المسلمون بين الخوف والرجاء. 6- منزلة المسجد الأقصى في قلوب المسلمين. 7- العداء الكافر على بلاد المسلمين. 8- مجزرة الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل 9- الحث على الصدقة والإحسان.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ [آل عمران:123-127].
لقد أكرم الله سبحانه وتعالى الأمة الإسلامية بشهر مبارك عظيم، بشهر رمضان، شهر القرآن الكريم، شهر النفحات الربانية وتهاطل الرحمات وفيض الخير والبركات، شهر الانتصارات والبطولات والفتوحات، شهر الذكريات، فإنّ فيه أجمل ذكريات الأمة الإسلامية، نصر الله فيه نبيه ورسوله محمدًا ، وفيه أيد دينه.
فالأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها تتطلع لمثل ذلك النصر على أعدائها، وما فتئت تعيش سعيدة في دنيا ذكرياتها، يحدوها الأمل بعز الإسلام وإشراق نوره وتبديد الظلام وإن طال زمانه.
في مثل هذ الشهر المبارك، يوم الجمعة في السابع عشر منه، في السنة الثانية من الهجرة النبوية وقعت غزوة بدر الكبرى، حيث ندب رسول الله أصحابه للخروج، ولم يعزم عليهم أن يخرجوا معه؛ لاعتراض قافلة تجارية لقريش، يقودها أبو سفيان، ويحرسها رجال لا يزيدون عن أربعين فارسًا، فخرج مع رسول الله من المهاجرين والأنصار ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً بلا عدّة ولا استعداد، وإذا بهم يقفون وجهًا لوجه أمام ما يقرب من ألف رجل من صناديد قريش، مدجّجين بالسلاح، متدرّعين في الحديد، محاطين بكل وسائل الرفاهية والخيلاء، وتحفّ بهم النساء، وتعزف لهم القيان، وتقرع أمامهم الطبول والدفوف، وتقدم لهم أشهر أنواع الأطعمة وأصناف الشراب. أما القافلة فقد راغ بها أبو سفيان عن الطريق، ومال بها عن أن تقع غنيمة في أيدي المسلمين. نجت القافلة، وأقبل عوضًا عنها النفير، وما أدراكم ما النفير، وكانت المعركة الفاصلة التي خلدها الله تعالى في كتابه الخالد، وتركها آيات تتلى أبد الدهر.
لقد كانت غزوة بدر الكبرى أولى المعارك الفاصلة في الإسلام بين قوة الحق وقوة الباطل، بين الإيمان والكفر، بين حاملي الفضيلة والخير وحاملي الرذيلة والشر، ولست بصدد الدخول في سرد تفاصيل أحداثها ومجرياتها، وإنما بصدد الإشارة على بعض القضايا المهمة:
إن معركة بدر قضت على كبرياء قريش وخيلائها وعزها، ومحت من الأذهان والعقول أسطورة القوة المادية الغاشمة وكثرة العدد وتراكم السلاح، وأفسحت المجال لظاهرة الإمداد الغيبي.
وهكذا كانت معركة بدر ـ رغم تخاذل المتخاذلين وتخذيل المخذلين ـ منطلقًا لقوة الإيمان الذي أبرز البطولات المعجزة والتضحيات بلا حدود، وكان لذلك النصر المؤزر أثره الحاسم في كل ما جاء بعد تلك المعركة من غزوات وحروب. وما أشبه ذلك اليوم بالبارحة، والحال هو الحال، والمخذّلون والمتخاذلون كثر، وأول الطريق خطوة، ثم يأتي المدد، ويكون النصر بإذن الله تعالى.
أيها المؤمنون، الكفر ملة واحدة، والكافرون قديمًا وحديثًا هم الكافرون، وهم في صراع مع الإسلام والحق، وإنما يسيرون إلى مصارعهم بأيديهم، وستهلكهم مكائدهم وخططهم، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
ولن يكون نصيبهم اليوم وغدًا إلا ما كان بالأمس، إنه الهزيمة المحتومة في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة، وهم كانوا وما زالوا يمضون إلى قدرهم المؤكد، قال تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:51، 52]. وهكذا فإن للنصر أبدًا صانعيه، الذين ارتفعوا عن المادة، وجبلت طينتهم من شعلة الإيمان، وشع في قلوبهم نور اليقين، وظهرت في سواعدهم عزائم الصدق، وما النصر إلا من عند الله، يخطه على أيدي أوليائه.
إنها قوة الإيمان وصدق اليقين ومضاء العزيمة ورسوخ العزم والإرادة، ولن يكون النصر أبدًا بكثرة العدد، ولا بوفرة السلاح، ولا بأكداس الأموال فحسب، يقول تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [التوبة:25، 26].
أيها المؤمنون، ومن القضايا الهامة في هذه المعركة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام، فقد خرج عليه الصلاة والسلام في قلة من أصحابه وضآلة في عدته يقابل جموع قريش في صولتها وكثرة عددها ووفرة عدتها، وهو موقن أن له الغلبة عليها، مؤمن أن الله وحده هو حسبه ونعم الوكيل.
وقد شق عليه ما رأى من طغيانها وإعلانها العداء لله ولرسوله، فتوجه إلى الله بدعائه قائلاً: (( اللهم أنشدك عهدك ووعدك)) ، ولم يرجع يديه إلا والملائكة تأتي وتنزل مددًا، تقاتل في صفوف المسلمين، ويمتن الله عليهم بهذا النصر قائلاً: وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123] إلى أن قال: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126].
أيّها المرابِطون، والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يذكرون في هذه الأيام من هذا الشهر المبارك ذكرى غزوة بدر الكبرى، ويرفعون أيديهم إلى السماء كما فعل رسول الله ضارعين إلى المولى أن ينصرهم على أعدائهم، قائلين في حرقة وألم مما يصيبهم من أعداء الإسلام: اللهم ننشدك عهدك ووعدك الذي وعدتنا، لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم، حسبنا الله ونعم الوكيل، يا قديم الإحسان، يا من إحسانه فوقَ كل إحسان، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا من لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه، انصرنا على أعدائنا، وأظهرنا عليهم في عافية وسلامة.
أيها المؤمنون، فالمسلمون بذكرى غزوة بدر فرحون ومغتبطون، وهم في هذه الذكرى أيضًا راجون وخائفون: راجون رحمة الله ونصره كما رحم ونصر أسلافهم، وخائفون من بوادر بدرت وفتن كقطع الليل المظلم عليهم أقبلت، فدولة الإسلام غائبة، والخليفة العادل غير قائم، والتنكر لشرع الله ومنهجه شعار الكثيرين، بدلاً عن تحكيم الشرع فيما يجري بيننا من خلاف، والمجاهرة بالمعاصي والآثام أضحت أمرًا مألوفًا، والعبادات أضحت مجرد شعائر وطقوس، فالصلوات المكتوبة لا تؤدى على وجهها الصحيح، والزكاة لا يخرجها إلا القليل من الناس، والكثير غير ملتزم بأدب الصيام والحج، والأخلاق الرفيعة هوت إلى الحضيض، فمن فتنة الكاسيات العاريات اللواتي لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، إلى شغف بالرذيلة في كل صورها، في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وبخاصة الفضائيات، إلى غير ذلك مما يضيق المجال بذكره. فهم من أجل ذلك خائفون، وهم من كل ذلك تائبون ونادمون، في شهر أبرز مظاهره التوبة والندم والاستغفار، إذ تقال فيه العثرات، ويتجاوز الله فيه عن الآثام والهفوات والزلات.
جاء في الحديث الشريف أنه قال عن رمضان: ((من تطوع فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه)).
وإنه ـ أيها المسلمون ـ موسم للعبادة، فاغتنموا فرصته، وخصصوا أيامه ولياليه للعبادة، أكثروا فيه من ذكر الله وقراءة القرآن، وقوموا من ليله ما تيسر، واتقوا الله في الصوم، وابتعدوا عن كل ما يقدح فيه أو يقلل من أجره، كالكذب وقول الزور والغيبة والنميمة والسب والشتم واللعن، فقد صح قول رسول الله : ((إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها الصائمون، يا من جئتم إلى المسجد الأقصى المبارك أفرادًا وجماعات بالرغم من كل العوائق والمضايقات والحواجز والجدران، جئتم لتعلنوها صريحة واضحة أن المسجد الأقصى في القلوب والأرواح؛ لأنه أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال، رمز عقيدة المسلمين وتاج عزهم ومنبع كرامتهم، أمَّه الأنبياء، وعاش في كنفه العلماء والأولياء، وأسرى إليه الحبيب المصطفى، ومنه عرج به إلى السموات العلى، حيث سدرة المنتهى.
جئتم لتعلنوها أن المسجد الأقصى درة مدينة القدس، وستبقى هكذا إلى يوم الدين، بالرغم من كل ما يحدث عليها من تغيرات جغرافية وعمرانية وسكانية، بالرغم من تقاعس العرب والمسلمين عن نصرتهم والعمل على تحريرها، فحكم الله ماض، ووعده صادق، ولن يخلف الله وعده.
أيها المسلمون، إن ما يجري ويحدث في بلاد المسلمين عامة وفي فلسطين والعراق خاصة من اضطهاد وقتل وتشريد وهدم البيوت وتجريف للأرض واستيلاء عليها وتحويل حياة هذه الشعوب إلى جحيم لا يطاق بتدمير البنية التحتية لها يوضح لنا صورة العداء والعدوان المستحكمة في نفوس المحتلين، وصورة الاضطهاد لهذه الشعوب تحت رعاية المؤسسات الدولية، والتي يفترض أن تكون إلى جانب المظلومين والمضطهدين.
إن ما نشاهده في العراق وفلسطين شيء تقشعر منه الأبدان، ويشيب من هوله الأطفال، إنه يذكرنا بالمجازر التي ارتكبت في حق شعبنا منذ الاستيلاء على فلسطين وإلى يومنا هذا. ومن أبرزها مجزرة الحرم الإبراهيمي في مدينة خليل الرحمن قبل عشرة أعوام، والتي حدثت في مثل هذا اليوم أثناء صلاة الفجر على يد السفاح باروخ غولد شتاين. إنها مجزرة رهيبة خطط لها ونفذت بدقة متناهية، سقط على أثرها عشرات الشهداء وجرح المئات من أبناء المدينة، فمن الصعب أن تخرج هذه المجزرة من الذاكرة الفلسطينية وعلى الأقل من ذاكرة الذين عاشوا أحداثها، ومما يساعد على ذلك تجمع آلاف المستوطنين كل عام حول قبر القاتل باروخ للاحتفال به وتأدية الصلاة عند قبره واعتباره قديسًا، وبذلك يحاولون إضفاء الصفة القانونية على هذه المجزرة التي قام بها عام أربعة وتسعين.
أيها المسلمون، أنتم اليوم في شهر الجود والإحسان والإنفاق وفي موسم التجارة الرابحة، وكان أجود من الريح المرسلة، وأجود ما يكون في شهر رمضان، فسارعوا إلى إخراج زكاة أموالكم وصدقات فطركم والمساهمة في مشاريع الخير اقتداء بالرسول الكريم وتحقيقًا لمبدأ التكافل الاجتماعي بين أبناء هذه الأمة. امسحوا دمعة اليتيم، وفرجوا كربة المحتاجين، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [الأنفال:60].
(1/3484)
الشهادات الرمضانية
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
22/9/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة انقضاء الليالي والأيام. 2- الحكمة من مواسم الخيرات. 3- مناسبة المحاسبة. 4- دعوة للتأمل في دعاء رمضاني. 5- رمضان شاهد عدل. 6- رمضان ميدان التنافس والتفاوت. 7- الغافلون في رمضان. 8- أضرار كثرة الخلطة. 9- الحاجة إلى التغيير والتصحيح. 10- منهج الإصلاح ودلائله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكُم ـ أيّها النّاس ـ ونفسِي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فاتقوا اللهَ رحمكم الله، واغتنِموا مواسمَ الأرباحِ فقد فُتِحت أسواقها، وداوموا قرعَ أبواب التوبة قبل أن يحينَ إغلاقها. الغَفلةُ تمنَعُ الرِّبحَ، والمعصيةُ تقودُ إلى الخُسران. الواقفُ بغير بابِ الله عظيمٌ هوانُه، والمؤمِّل غيرَ فضلِ الله خائبةٌ آماله، والعامِل لغير الله ضائعةٌ أعمالُه. الأسباب كلُّها منقطِعة إلا أسبابه، والأبوابُ كلّها مغلَقة إلا أبوابُه. النّعيمُ في التلذُّذ بمناجَاةِ الله، والرّاحة في التّعَب في خدمةِ الله، والغِنى في تصحيحِ الافتقارِ إلى الله.
أيّها المسلمون، الأيّام تمرُّ عجلَى، والسّنون تنقضِي سِراعًا، وكثيرٌ من الناسِ في غَمرةٍ ساهون وعن التّذكِرة معرِضون، وفي التنزيل العزيز: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:62].
ولما كان العُمر ـ يا عبادَ الله ـ محدودًا وأيّامُ العَبدِ في هذه الدّنيا معدودَة فقد امتنَّ الله على عبادِه بمواسمِ الخيرات ومِنَح النّفَحات، وأكرَمَ بأيّامٍ وليالٍ خصَّها بمزيدٍ منَ الشَّرَف والفَضلِ وعَظيمِ الثّوابِ ومُضَاعَفة الأجرِ، وجعَل فيها بمنِّه وكرَمِه ما يُعوِّض فيهِ الموفَّق قِصَرَ حياتِه وتقصيرَ أعماله. وإنّ أيّامَكم هذه من أفضلِ الأيّام، وهذه العَشرُ الأخيرةُ هي الأفضَلُ والأكرَم.
أيّها المسلمون، ما أحوجَ العبدَ إلى موقفِ المحاسبة في هذه الأيّام الفاضلة، إنها مناسَبَة مناسِبَة من أجل التّغيير والتصحيح والإصلاحِ في حياة الفرد وفي حياةِ الأمة، يقول رسول الله صلّى الله عليه وعلى آلِه وصحبه وسلّم: ((إذا دخل رمضانُ فتِّحت أبواب الجنّة وغُلِّقت أبوابُ النار وسُلسِلت الشياطين)) أخرجه الترمذي، وفي روايةٍ أخرى: ((إذا كانَ أوّل ليلة من رمضانَ صُفِّدت الشياطين ومردَةُ الجنّ، وفُتِّحت أبواب الجنة فلم يغلَق منها باب، وغلِّقت أبواب النار فلم يُفتَح منها باب، وينادي منادٍ: يا باغيَ الخير أقبل، ويا باغيَ الشرِّ أقصر، ولله عتقاءُ من النّار، وذلك كلَّ ليلة)). إنها فرصة للمحاسبة وفرصةٌ للإصلاح وفرصة للتغيير، ((يا باغيَ الخير أقبِل، ويا باغيَ الشرّ أقصر)).
معاشرَ المسلمين، ومن أجلِ مزيدٍ منَ التأمُّل واستشعارٍ جادٍّ للمحاسَبَة وإدراكٍ عميق لهذه الفرصَة السانحة هل تأمَّلتم في دعاءٍ يردِّده المسلمون في هذا الشهرِ الكريم، وبخاصّةٍ في مثل هذه الأيام حين تبدأ أيّام الشهر في الانقضاءِ وهِلاله بالأفول، ويستشعرون فِراقَه ويعيشون ساعاتِ الوداع ومشاعِر الفِراق، دعاءٌ يصاحبه دفقٌ شعوريّ مؤثِّر من القلوبِ الحيَّة والنفوسِ المحلَِّقةِ نحوَ السموّ بشعورٍ إيمانيّ فيّاض، يرفَعون أيديَهم مُناشدين ربَّهم ومولاهم: "اللهمَّ اجعله شاهدًا لنا، لا شاهدًا علينا". هل تأمَّلتم هذا الدعاءَ؟! وهل فحَصتم مضامينَه وعواقبَه وحقيقتَه ونتيجتَه؟!
أيّها الصائمون، إنّ شهادةَ شهرِ رمضان غيرُ مجروحةٍ، إنّه موسم يتكرّر كلَّ عامٍ، يشهد على الأفرادِ، ويشهَد على الأمة، إنّه يشهَد حالَكم، فهل سيشهَد لنا أو يشهَد علينا؟! يرقب حالَنا؛ هل سوف يزدرِينا أو سوفَ يغبِطنا؟! ماذا في استقبالنا له؟! وماذا في تفريطنا فيه، بل في كلّ أيّام العام والعُمر؟ هل نجتهد فيه ثم نضيِّع في سائرِ أيّام العام؟!
عبادَ الله، الأيّام تشهَد، والجوارِح تشهد، والزّمان يشهد، والمكان يشهَد، إنّ تأمُّلَنا في شهادة هذا الشهر الكريم لنا أو علينا فرصَة عظيمةٌ صادقة جادّة في المحاسبة ومناسبةٌ حقيقيّة نحو التغيير والتعويض، ((يا باغيَ الخير أقبل، ويا باغيَ الشرّ أقصر)). وقد يكون لشهادةِ رمضان المعظَّم نوعٌ من التميُّز ولونٌ من الخصوصيّة، لماذا؟ لأنَّ شهرَ رمضانَ هو شهر الصّبر، شهر مقاومة الهوى وضبطِ الإرادة ومقاومَة نزوات النفس ونوازعها.
شهر رمضان ـ معاشرَ الصائمين ـ ميدانُ التفاوت بين النفوسِ الكبيرة والنفوسِ الصغيرة، بين الهِمَم العالية والهِمَم الضعيفة. هذا الشهرُ الشاهد فرصةٌ حقيقيّة لاختبار الوازِع الداخليّ عند المسلم، الوازع والضمير هو مِحوَر التربية الناجحة.
ومن أجل مزيد من التأمُّل والنظَر والفحص في هذه الشهادةِ الرمضانية فلتنظُروا في بعض خصائصِ الصّيام وأحوال الصائمين. الصّوم سرٌّ بين العبدِ وبين ربِّه، وقد اختصَّه الله لنفسِه في قوله سبحانَه في الحديث القدسي: ((الصّوم لي وأنا أجزِي به، يدَع طعامَه وشرابه وشهوتَه من أجلي)).
أيّها الإخوة في الله، الصومُ عن المفطّرات الظاهِرَة يسيرٌ غير عسير لكثيرٍ من الناس، يقول ابن القيم رحمه الله: "والعبادُ قد يطَّلعون من الصائمِ على تركِ المفطرات الظاهرةِ، وأما كونه ترك طعامَه وشرابه وشهوتَه من أجل معبودِه فهو أمر لا يطّلع عليه بشَر، وتلك حقيقة الصوم".
واقرِنوا ذلك ـ رحمكم الله ـ بقوله : ((من صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه، ومن قام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه، ومن قام ليلة القدرِ إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه)). مَن ـ تُرى ـ يحقِّق الإيمانَ والاحتساب على وجهه يا عباد الله؟! ((يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر)).
تأمّلوا أحوالَ بعض الصائمين مع الطعامِ وفضول الطعام، يسرِفون على أنفسِهم في مطاعمهم ومشاربهم ونفقاتهم، يتجاوَزون حدَّ الاعتدال والوسَط، ساعدهم في ذلك إعلامٌ هَزيل قد جعَل مساحاتٍ هائلةً للأكل والموائد مع ممارساتٍ غير سويّة من التجارِ والمستهلكين.
وتأمّلوا ـ حفظكم الله ـ وأنتم في رحابِ هذا الشهرِ الشّاهد، تأمّلوا أحوالَ بعض الغافِلين الذين يضيِّعون هذه الأوقاتَ الفاضلةَ والليالي الشريفة مع اللهوِ والبطّالين فيما لا ينفَع، بل إنّ بعضها فيما يضرّ ويُهلك ويفسِد الدّينَ من الغيبة والنميمةِ والمسالك المحرَّمة، انقلبت عليهم حياتهم ليجعَلوا نهارَهم نومًا وليلَهم نهارًا في غير طاعةٍ ولا فائدة، لا لأنفسِهم ولا لأمّتهم، تجمّعاتٌ ليليَّة، إمّا تضييع للواجباتِ والمسؤوليات، وإمّا وقوع في المنهيّات والمهلكات، يعينهم في ذلك قنواتٌ وفضائيّات في مسلسلاتٍ هابطة وبرامجَ للتسلية هزيلة.
بل إنَّ التأمّلَ في فضول الكلام ـ أيّها الصائمون ـ لا ينقضي منه العجَب، حتى في أحوالِ بعض الصالحين والمتعبِّدين ممن ينتسِب للعلم والدّين والدعوة، فلا يكاد الغافِل منهم يُفكِّر في فضولِ الكلام فضلاً عن أن يفكِّر في تجنُّبِه، ولكثرةِ كلامهم فقَدوا السَّمتَ وقلَّت عندهم الحِكمة وخلَطوا الجدَّ بالهزل، ناهيكم في الوقوعِ في داء الغيبةِ والنميمة والكذِب والرياء والسمعة.
ومن المعلوم أنَّ كثرةَ الخُلطةِ وبخاصّة في أوقات التعبُّد تدعو إلى فضولِ الكلام وتضييعِ الأوقات وكثرةِ الانشغالات وتقعِد عن المناجاة، ولاحظوا ذلك في أحوالِ بعض المعتكِفين هداهم الله وأصلَح بالَهم، يعتكِفون جماعاتٍ، فينفتِح بينهم الحديث وتتّسِع أبوابه، بل قد يكون المعتكَف مجلبَةً للزائرِين ومكانًا للتّجَمّع مما يُبعِد عن هدي الاعتكافِ وحِكمته، يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله: "كلُّ هذا تحصيل لمقصودِ الاعتكاف وروحِة عكسَ ما يفعَله الجهّال من اتِّخاذ المعتكَف موضعَ عشرَةٍ ومَجلَبَة للزائرين وأخذهم بأطراف الحديث بينهم، فهذا لونٌ والاعتكاف النبويّ لونٌ آخَر". وفي هذا يقول بعض الحكمَاء: "إذا أردتَ أن يعتزلَك الناس فدَع الحديثَ معَهم، فإنّ أكثرَ مُواصلةِ الناس بينهم بالكلام، فمن سَكَت عنهم اعتزلوه".
معاشرَ المسلمين، هذه إشاراتٌ ووقَفَات لما قد تكون عليه هذه الشهادات في أحوالِ بعض الصائمين والمتعبِّدين، ((يا باغيَ الخير أقبل، ويا باغيَ الشر أقصر)).
أيّها المسلمون، هل ندرِك ونحن نتأمَّل هذه الشهاداتِ الرمضانية أننا أصبَحنا في أمسِّ الحاجة إلى التغيير وأننا لا نزال يملؤُنا التفاؤُل بغدٍ أفضَل وواقع أمثَل. إنَّ وسائلَ العلاج وأدواتِ النجاح ليست عنّا ببعيد، فنحن أمّةُ القرآن وأمّة محمّد ، أمّة هذا الشهر الكريم الشاهدِ، ونحن الأمّةُ الشاهدة.
منهجُ التغيير والإصلاحِ يتمثَّل في هذه الآيَة الكريمة الجامعة: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، وفي النداء الرمضانيّ الصادح: ((يا باغيَ الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر)).
ليس الإصلاحُ بالاكتفاء بالنقد والتلاوُم وتحويل المسؤولية على الأعداءِ والخصوم، إنّ على المسلم الصادِقِ الجادّ المحبِّ الخيرَ لنفسه وصادقِ الغيرة على أمّته أن يتَّقيَ الله ربَّه ويدركَ الغاية من هذه الحياة والوظيفةَ في هذه الدنيا، فيحفظ وقتَه ويستغلّ شريف أيّامِه وفاضلَ أوقاته وينطلِق نحو التغيير والإصلاح، فيعيش حياةً جادّة حازِمة متوازنَة، فلا يغرَق في المباحاتِ على حساب الفرائض والواجبات، كما يجب ترويضُ النفس وتدريبها على ملازَمَة الأعمال الصّالحة وتحَرِّي السنّة وصِدق المتابعة لهديِ المصطفى.
أيّها الإخوة المسلمون، إنّ هذه العشرَ الأخيرة فرصةٌ حقيقيّة لاختبارِ النفس في التّغيير نحوَ الأفضل والأحسن. ليس من الصعبِ بتوفيقِ الله وعونه تغييرُ النفس وقطعُها عمّا اعتادته لمن أخلصَ نيّته وصدقَ في عزيمته، يقول المنذِر بن عبيد: تولى عمر بن عبد العزيز رحمه الله بعد صلاة الجمعَةِ فأنكرتُ حالَه في العصر.
وإنّ من الدلائلِ على التغييرِ ومَظاهر الهِمّة وقوّة العزيمة وضَبط الإرادة في هذا الشهرِ شهرِ الصبر الاجتهاد في العمَل والإحسان في هذه الأيّام العشر تأسِّيًا بالقدوةِ والأسوة نبيّنا محمّد ، فقد جعل رمضانَ كلَّه فرصةً للاجتهاد، كما خصّ العشرَ باجتهاد، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يجتهِد في رمضان ما لا يجتهد في غيرِه، وكان يجتهِد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها.
وتسمُو الهمّة ويتجلّى التوجّه نحوَ التغيير حينما يجتهِد العبدُ ليفوزَ بإدراك ليلة القدر، فيعمَل ويتحرَّى، فتسمو النّفس وتعلو الرغائِب للوصول إلى أسمى المراتِب وأعلى المطالِب؛ توبةٌ وإقلاع وعزمٌ على الإصلاحِ والإحسان، وتأمّلوا هذا الحديثَ العظيم وما فيه من الحثِّ ووقفاتِ المحاسبة: ((رغِم أنفُ رجلٍ دخَل عليه رمضانُ ثم انسلَخَ فلم يُغفر له)).
معاشرَ الأحبَّة، أَروا الله من أنفسِكم خيرًا؛ صيامُ نهارٍ وقيامُ ليلٍ واعتكاف وقراءةُ قرآن وذِكرٌ وصدَقات ودُعاء ومحاسبة ومراجعة وندمٌ وتوبَة وعزمٌ على فعلِ الخيرات، ((يا باغيَ الخير أقبِل، ويا باغيَ الشرّ أقصِر)).
وبعد: أيّها الصائمون، فلِحكمةٍ عظيمة جاءت آيةُ الدعاء في ثنايا آياتِ الصيام: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، ولحكمةٍ عظيمة وسِرّ بليغ خُتِمت آيات الصّيام بهذه الآية الواعظة: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآنِ العظيم وبهديِ محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، أرشَدَ النفوس إلى هُداها، وحذَّرها من رداها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9، 10]، أحمده سبحانه وأشكره على نِعمٍ لا تُحصَى وآلاء لا تتناهَى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له رضينا به ربًّا وإلهًا، وأشهد أنّ سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله أعلى الخلقِ منزلة وأعظمُهم عند الله جاهًا، صلى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ما طلعت شمس بضحاها، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، والحديثُ عن الشهادةِ الرمضانية وفُرصِ التغيير والإصلاح، فإنّ شهرَ رمضان موسِم عظيمٌ من مواسم الخير وزمَنٌ شريف من أزمِنَة النفحات، يغتَنِمه الأتقياء الصالحون للاستزَادَة من صالح العمل، ويُلقي بظلِّه الظليل على العصاةِ الغافلين والمقصّرين فيتذكّرون ويندَمون ويتوبون، فالسعيدُ السعيد من كان شهرُه مجدِّدًا للعزم والطاعةِ وحافزًا للتمسّك بحبل الله وفرصةً للتزوّد بزاد التقوى، حاديه في ذلك وسائقُه همّةٌ عالية ونفسٌ أبيّة لا ترضى بالدّون من العزمِ والعمَل، يقول ابن القيم رحمه الله: "إذا طلع غَيمُ الهمّة في ليل البَطالة وأردَفه نور العزيمةِ أشرقت أرضُ القلب بنور ربها".
على أنّه ينبغي ـ أيّها المسلمون ـ لذوي الهِمَم العالية وطلاّب الكمالاتِ أن يعرفوا الطبيعةَ البشرية والضَعفَ الإنساني، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:27، 28]، وفي مثل هذا يقول بعض أهلِ العلم والحكمة: إنّ مِنَ الخطأ والخَطَل أن ينزعَ الرجل إلى خصلَةٍ شريفةٍ من الخير، حتى إذا شعَر بالعجز عن بلوغِ غايتِها انصرَف عنها والتحَق بالطائفة الكسولةِ التي ليس لها همّة في هذه الخَصلة ولا نصيبٌ، ولكن الطريقَ الصحيح ونهجَ الحكمة ومنهجَ السعادة أن يذهبَ في همته إلى الغاياتِ البعيدة ثم يسعَى لها سعيَها ولا يقِف دونَ النهاية إلا حيث ينفَد جهده ويستفرِغ وسعَه.
ألا فاتقوا الله رحِمكم الله، واعلموا أنّ إدراكَ هذا الشهر والإحسان فيه نعمةٌ عظيمة وفضلٌ من الله كبير، لا يحظى به ولا يوفَّق إلا مَن منَّ الله عليه بجودِه وإحسانه وفتَحَ عليه أبوابَ الخيرات، فتنافسوا ـ رحمكم الله ـ في الطاعاتِ، وازدادوا من الصالحات، وجِدّوا وتحرَّوا ليلةَ القدر، وتعرَّضوا لنفحاتِ ربِّكم.
تقبّل الله منا ومنكم الصيامَ والقيام وسائرَ الطاعات، إنه سميع مجيب.
هذا، وصلّوا وسلّموا على المبعوث رحمةً للعالمين سيِّد الأوّلين والآخرين، فقد أمركم بذلك ربكم في محكم التنزيل فقال عزّ قائلاً عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلّم وبارك على عبدِك ورسولك نبيّنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين...
(1/3485)
العشر الأواخر
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
22/9/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفضُّل الله تعالى بمواسم الخيرات. 2- فضل العشر الأواخر وليلة القدر. 3- رمضان شهر القرآن. 4- فضل الصلاة وقيام الليل. 5- الحث على الاعتكاف. 6- فضل النفقة والإحسان وبذل المعروف. 7- دعوة لاغتنام ما تبقى من الشهر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا اللهَ ـ عبادَ الله ـ حَقَّ التّقوى، فتقوَى الله سَبيلُ الهدَى، والإعراضُ عنها طريقُ الشّقا.
أيّها المسلمون، يتفضَّل ربُّنا على عبادِه بنفحَاتِ الخيراتِ ومواسِمِ الطاعات، فيغتنِم الصّالحون نفائِسَها، ويتدارَك الأوّابونَ أواخِرَها. لَيالٍ مبارَكة أوشَكَت على الرّحيلِ، ليالي شهرٍ كَريم، أبوابُ الجنانِ فيه مفتَّحة، وأبوابُ النّار فيه مُغلَقَة، والشّياطين فيه مصَفَّدَة، العشرُ الأخيرةُ منه تاجُ اللّيالي، كان نبيّنَا إذا دَخلَت أحيَى ليلَه وأيقَظَ أهلَه وشدَّ مِئزَرَه، تقول عائشةُ رضي الله عنها كانَ رَسول الله يجتَهِد في رَمَضانَ ما لاَ يجتهِد في غيرِه، وفي العَشرِ الأواخِرِ منه ما لا يجتَهِد في غَيره. رواه مسلم.
في العَشرِ ليلةٌ هِيَ أمّ الليالي، كثيرةُ البرَكات، عزِيزَة السّاعات، القليلُ منَ العمَلِ فيها كَثير، والكثيرُ منه مضَاعَف، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3]، خَلقٌ عَظيم ينزِل من السماءِ لشُهودِ تلك اللّيلة، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [القدر:4]، لَيلةُ سلامٍ وبَرَكاتٍ على هذِهِ الأمّة، قال ابنُ كثير رحمه الله: "يكثُر نزولُ الملائِكَة في هذه الليلةِ لكَثرةِ برَكَتها"، والملائكةُ يَنزلون معَ تنزُّل البَرَكةِ والرّحمة كما ينزلون عندَ تلاوةِ القرآن ويحيطيون بحِلَقِ الذّكر ويضَعون أجنِحَتَهم لطالبِ العِلمِ بصدقٍ تعظيمًا له.
وفي شَهرِ الصّيام نزَل كتابُ ربِّنَا العظيم، الثّوابُ على تلاوتِهِ جَزيل، من قرَأَه فله بكلِّ حرفٍ منهُ حسَنَة، وهو شافِع لصاحِبِه، يقال لقارِئِه يومَ القيامَة: اقرَأ وارقَ، فإنّ منزِلَتَك في الجنّةِ عند آخِرِ آيَةٍ كنتَ ترتِّلها. فاجعَل لتلاوةِ كتابِ الله على لسانِك في العشرِ الباقيةِ طراوة، ولصوتِك مِنه ندَاوة؛ لتظفرَ بشفيعَين في الآخرةِ: القرآنِ والصيام.
والصّلاةُ قرّة عُيونِ الصّالحين ورَاحةُ أفئدةِ الخاشِعين، وأفضَلُ الصّلاةِ بعد الفريضةِ صلاةُ الليل، حثَّ النبيّ أصحَابَه على قيامِ اللّيل، يقول النبيّ لابن عمَر رضيَ الله عنه: ((نِعمَ الرّجلُ عبدُ الله لو كان يصلِّي من الليل)) متفق عليه، فما تَركَ القيامَ بعد ذلك رضي الله عنه، والعَبدُ مذمومٌ على تركِ قيام اللّيل، يقول عليه الصلاةُ والسلام لعبدِ الله بن عمرو بن العاص: ((يا عبدَ الله، لا تَكُن مثلَ فلانٍ كان يقومُ اللّيلَ فتركَ قيامَ اللّيل)) متفق عليه.
قِيامُ الليل من أفضَلِ الأعمالِ ومن أسبابِ دخولِ الجنان، ((يا أيّها الناس، أفشُوا السّلامَ، وأطعِموا الطّعامَ، وصَلّوا بالليل والناسُ نِيام، تدخُلُوا الجنّةَ بسَلامٍ)) رواه الترمذيّ. وليالي رمضانَ مبشَّرٌ من قامَها بغُفرانِ الذّنوبِ، قال : ((من قامَ رَمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفِر لَه ما تقدَّم مِن ذَنبِه)) متّفق عليه.
وفي كلِّ لَيلةٍ ساعةُ إجابَةِ، الأبوابُ فيها تفتَح، والكريم فيها يمنَح، فسَل فيها ما شئتَ فالمعطِي عظيم، وأيقِن بالإجابةِ فالرّبّ كريم، وبُثَّ إليهِ شَكواك فإنّه الرّحمنُ الرّحيم، وارفَع إليه لأواكَ فهوَ السّميع البصير، يقول عليه الصلاةُ والسلام: ((إنّ في اللّيلِ لساعةً لا يُوافقها رجلٌ مُسلم يسأل اللهَ خيرًا مِن أمرِ الدّنيا والآخرة إلاّ أعطاه إيّاه، وذلك كلَّ ليلة)) رواه مسلم.
ونسَماتُ آخرِ الليلِ مظِنّة إِجابةِ الدّعوات، قيلَ للنبيِّ : أيّ الدعاءِ أسمَع؟ قال: ((جوفُ اللّيل الآخِر ودُبر الصّلواتِ المكتوباتِ)) رواه الترمذيّ.
والعَبدُ مفتقِرٌ إلى محوِ أدرانِ خطاياه، والانكسارُ بين يدَيِ الله والافتقارُ إليه في هذه العشرِ المباركَات بالاعتكافِ في بيتٍ من بيوت الله أحرى بمَغفرَة دنَسِ الخطايا وأرجَى لِقَبول العبدِ عِند الله ورِضاه عنه، وقد كان نبيُّنا يعتَكِف العشرَ الأواخِرَ من رَمَضانَ حتى توفّاه الله. فارغَب إلى ربِّك بالاعتكافِ، وداوِم على ذكرِ الله فيه، وأكثِر من الدّعاءِ في ساعاتِ الإجابَةِ، فتلك لحظاتٌ تُغتَنَم، يقول القرطبيّ رحمَه الله: "فضيلةُ الزّمانِ إنما تكون بكثرةِ مَا يقَع فيه مِنَ الفضائلِ"، وإذا قرُب العبدُ من ربِّه لطَف اللهُ بِه، وساق إليه الإحسانَ من حيث لا يشعُر، وعصَمَه من الشّرّ من حيث لا يحتَسِب، ورفعَه إلى أعلى المراتِبِ بأسبابٍ لا تكون من العَبدِ على بالٍ.
أيّها المسلِم، المالُ وَديعَة في يدِك، ليس لك منه إلاّ ما أكلتَ فأفنَيتَ أو لبِستَ فأبلَيت أو تصدَّقتَ فأمضَيتَ، فتواضَع بقلبِكَ للمِسكين، وابذُل له كفَّ النّدى، وادنُ منه، واحنُ عليه، ولا تحتقِر فَقيرًا، ((فإنَّ أكثرَ أهلِ الجنّة هم الفُقراء)) متفق عليه. وباليَسيرِ منَ النّفَقَة مع الإخلاَصِ تنجو من النّار، يقول النبيّ : ((اتَّقوا النارَ ولو بِشِقِّ تمرَة)) ، وقِ نفسَك شُحَّها، وأيقِن بالغِنَى من الكريم فالمنفَق مخلَف، يقول عليه الصلاة والسلام: ((قال الله تعالى: أنفِق ـ يا ابنَ آدم ـ يُنفَق عليك)) متّفق عليه، ويقول : ((ما نقَصَت صدقةٌ من مال)) رواه مسلم. والشّيطانُ يُوَسوِس لك ويأمرك بالإمساك ويزيّنه لك خديعةً ومَكرًا، قال جل وعلا: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً [البقرة:268]، فلا تقهَر يتيمًا، ولا تنهَر سائلاً، وأنفِق بسخاوةِ نَفس يبارَك لك في المالِ والولد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77].
بارَك الله لي وَلكُم في القرآنِ العَظيم، ونفعني الله وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذّكر الحَكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفِر اللهَ لي ولَكم ولجميعِ المسلِمين من كلّ ذنب فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله علَى إحسانِه، والشّكرُ له علَى توفيقه وامتِنانِه، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وَحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشَأنه، وأشهَد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبدُه ورَسوله، صلّى الله عليه وعلى آلِه وأصحَابه.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، الشهرُ أوشَكَ على الرحيلِ بما أودَعَ فيه العبادُ من أفعالٍ، واللّبيبُ من ختَم شهرَه بتوبةٍ صادِقَة بالبُعد عن المعاصِي والآثام، والمفلِسُ من أغرَقَ نفسَه في السيّئاتِ ولقِيَ ربَّه وهو عَلَى العِصيَان، والتوبَةُ ليسَت نَقصًا، بل هِي من أفضلِ الكَمَالاتِ ومِن أحَبِّ الحسَناتِ إلى الله، وهوَ الأصلُ الذي تصلُح عليه الأمور، فأكثِر من الاستغفارِ في خِتام شهرِك يكن تاجًا على حسناتِك وماحيًا لقبيحِ زلاّتِك، وتذكَّر أنّ اللهَ يبسُط يَدَه بالليل ليتوبَ مسِيء النّهار، ويبسُط يدَه بالنّهار ليتوبَ مُسيء اللّيل حتّى تطلعَ الشمس من مغرِبها، وإيّاك والتّسويفَ بالتّوبة؛ فإنّ الموتَ يأتي بغتَة.
ثمّ اعلموا أنّ الله أمرَكم بالصلاة والسلام على نبيِّه، فقالَ في محكمِ التّنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم على نبيّنا محمد، وارضَ اللّهمَّ عن خلفائهِ الراشدين...
(1/3486)
فضل العشر الأواخر
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد أحمد حسين
القدس
22/9/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اجتماع الفضائل في هذه العشر الأواخر. 2- تمسك الشعب الفلسطيني بقضيتهم. 3- مدلولات صلاة المسلمين في المسجد الأقصى. 4- ضرورة تعزيز الوحدة الوطنية. 5- فضل العشر الأواخر من رمضان. 6- هدي النبي في العشر الأواخر. 7- من شروط الاعتكاف. 8- دعاء ليلة القدر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الصائمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، يا أحباب رسول الله، وقد شددتم رحالكم منذ بواكير الصباح إلى هذا المسجد الطاهر المبارك لتشهدوا صلاة الجمعة الرابعة من شهر رمضان الفضيل، وقد اجتمع لكم الفضل من جميع أطرافه بفضيلة الزمان والمكان والانتساب.
فيوم الجمعة هو سيد الأيام، فيه ساعة ما وافقها عبد يدعو الله إلا استجاب له، وشهر رمضان هو سيد الشهور، وهو شهر شرف الله بنزول القرآن فيه، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
وأما المكان فهو المسجد الأقصى الذي بارك الله فيه وبارك حوله، أول القبلتين وثاني المسجدين وثالث مسجد تشد إليه الرحال بعد المسجد النبوي الشريف والبيت الحرام، يضاعف الله فيه ثواب الأعمال، فالصلاة فيه بخمسمائة صلاة فيما سواه كما ورد عن حبيبنا وقائدنا ونبينا المصطفى.
وأما فضيلة الانتساب فحسبكم شرفا وفضلا أنكم مرابطون في هذه الديار المقدسة، وقد أجازكم نبينا عليه الصلاة والسلام بذلك فيما رواه الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((يا معاذ، إن الله سيفتح عليكم الشام من بعدي من العريش إلى الفرات، رجالهم ونساؤهم مرابطون إلى يوم القيامة، فمن اجتاز منكم ساحلا من سواحل الشام أو بيت المقدس فهو جهاد وإلى يوم القيامة)).
أيها المسلمون، أيها الصائمون، إن زحفكم الميمون إلى المسجد الأقصى في هذا اليوم المبارك العظيم ليؤكد للقاصي وللعدو والصديق التفافكم حول مسجدكم وتمسّككم بمقدّساتكم وعقيدتكم، كما يؤكد الوجه الإسلامي لمدينة القدس زهرة مدائن الدنيا وبوابة الأرض إلى السماء وموئل الأنبياء والصالحين والعلماء.
هذه المدينة المقدسة التي ما فتئت معاول الاحتلال تطمس حضارتها في حملة محمومة لتهويدها عن محيطها الفلسطيني والعربي والإسلامي من خلال بناء المستوطنات وتسريب عقاراتها إلى أيدي المستوطنين وعزل أحيائها عن بعضها البعض بجدار الفصل العنصري.
أيها الصائمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، إن جمعكم المبارك وحشدكم الكريم ليؤكد حقيقة جوهرها إيمانكم الذي لا يتزعزع بأن الله ناصر عباده الصادقين مهما اشتدت الخطوب وتوالت الكروب وتكالبت الأمم، كما يبرهن احتشادكم في هذه الرحاب الطاهرة أن الحواجز والعوائق التي يقيمها الاحتلال لن تحول دون وصولكم إلى المسجد الأقصى مع أن هذه الممارسات الظالمة تمنع عشرات الألوف من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة من الوصول إلى المسجد الأقصى لأداء الصلاة والعبادة في هذه الأيام الفضيلة من شهر الصيام، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114].
أيها الصائمون، أيها المرابطون في بيت المقدس، إن جمعكم هذا لهو الردّ العملي على إشاعات الإعلام الإسرائيلي وما يصدر من تصريحات على ألسنة الجهات الأمنية التي حذرت وما زالت تحذر من احتمال عدوان يرتكبه المتطرفون اليهود ضد المسجد الأقصى وضد المصلين فيه، وقد جاءت هذه التحذيرات بعد الضجة المفتعلة باحتمال انهيار جدران المصلى المرواني خاصة في شهر رمضان جراء ازدحام وتدافع المصلين فيه.
إن المسجد الأقصى بكل أجزائه وجميع مصاطبه ومحاربه وساحاته وأرضه وفضائه سيبقى بحول الله وقوته عامرا بالإسلام والمسلمين، ولن يتخلى هذا الشعب المسلم المرابط عن واجبه في رعايته وحمايته وشد الرحال إليه، ولن يفت في عضده تصريح المسؤول الإسرائيلي أو تهديد من قبل المستوطنين والمتطرفين اليهود الحالمين بهيكل مزعوم على أنقاضه لا سمح الله.
فلا زالت ذرية المرابطين تفد إليه وتروح بالمهج والأرواح وتدفع عنه خطط الاحتلال وغوائل الزمان إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
في هذه الظروف العصيبة التي يعيشها شعبنا الفلسطيني في غياب القيادة والتي أدعو الله لها بالشفاء العاجل تتطلّب من كافة فئات شعبنا الفلسطيني تعزيز الوحدة الوطنية والتضامن والوعي واليقظة وتفويت الفرص على الحاقدين المتربصين بشعبنا الفلسطيني وقضيته العادلة.
أيها الصائمون، نحن في العشر الأواخر من شهر رمضان الفضيل، وهي أيام العتق من النار كما ورد عن النبي في وصفه لأيام رمضان حيث قال: ((وهو شهر أوله رحمه، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار)) , نسأل الله تعالى أن يعتق رقابنا ورقاب المسلمين من النار، إنه العزيز الغفار.
ومن هدي النبي في العشر الأواخر من رمضان الاجتهاد في العبادة، فقد روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيى الليل وأيقظ أهله وجدّ وشدّ المئزر. وفي حديث آخر: كان رسول الله يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيره. وكان يعتكف في المسجد في العشر الأواخر في رمضان، ويحثّ أصحابه على الاعتكاف، وفي ذلك تفرّغ للعبادة والذكر وتحصيل مزيد من الثواب.
ومن شروط الاعتكاف أن يكون المرء صائما، وأن يعتكف في مسجد الجمعة والجماعة، ولا يخرج من المسجد إلا لضرورة كالطهارة أو التداوي أو إحضار الطعام أو حضور صلاة الجمعة.
أيها الصائمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وفي العشر الأواخر من رمضان تلتمَس ليلة القدر، وهي ليلة عظيمة القدر والأجر، أنزل الله فيها كتابه الكريم إلى سماء الدنيا فقال بحقها: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [سورة القدر].
والعبادة في هذه الليلة المباركة خير من عبادة ألف شهر، وليلة القدر من خصائص هذه الأمة الكريمة، فقد أخرج الإمام مالك في الموطأ أن رسول الله أرِي أعمار الناس قبله، فكأنه تقاصر أعمار أمته ـ أي: رآها قصيرة ـ أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغه غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر.
وقد أخفى الله تعالى هذه الليلة على الأمة ليجتهدوا في العبادة طيلة ليالي شهر رمضان طمعا في إدراكها، وفي فضيلتها ورد عن رسول الله: ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) ، وقد أمر رسولنا الأكرم بتحريها فقال: ((تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان)).
وقد علمنا رسول الله الدعاء في ليلة القدر حينما سألته عائشة رضي الله عنها قال: ((قولي: اللهم إنك عفوّ تحبّ العفو فاعف عني)) ، اللهم إنك عفو تحبّ العفو فاعف عنا يا كريم، وتقبل منا الصيام والقيام، وأدخلنا جنّتك دار السلام من باب الريان.
فاحرص ـ أخي المسلم ـ على الصيام والقيام، وصن نفسك عن الخطايا والآثام حتى تفوز بالتقوى وهي خير زاد، ولله در القائل:
ترحل عن الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيام وهي قلائل
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3487)
قراءة في السياسة الأمريكية
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
29/9/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أبرز حدثين معاصرين. 2- دلالات تجديد الرئاسة للرئيس بوش. 3- ضرورة التنبه لمخاطر السياسة الأمريكية. 4- القضية الفلسطينية. 5- توديع رمضان. 6- من سنن العيد. 6- وفاة رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، حدثان بارزان استقطبا اهتمام العالم هذه الأيام، أولهما: فوز الرئيس الأمريكي، والثاني: القضية الفلسطينية في أعقاب مرض ووفاة الرئيس الفلسطيني، ونتناول الموضوعين أو الحدثين من منطلق مفهومنا الإسلامي لتطوّر الأحداث والتي لا يمكن أن نغفل عن تداعياتهما على القضايا الإسلامية بصفة عامة والقضية الفلسطينية المركزية بصفة خاصة.
إن فوز الرئيس الأمريكي الحالي بفترة رئاسة ثانية لمدة أربع سنوات أخرى من حكمه الملطّخ بدماء المسلمين له تداعيات وانعكاسات على القضايا الإسلامية، نبينها هنا لتدرك الأمة الإسلامية أبعاد ومخاطر السياسة الأمريكية الراهنة.
إن نجاح الرئيس الأمريكي يبين مدى تأثير اللوبي الصهيوني والمسيطر على الدوائر الرسمية الحاكمة في الولايات المتحدة سيما في وزارتي المالية والدفاع، فقد جاء فوز الرئيس الأمريكي نتيجة لأصوات اليهود والمؤيدين لسياسته المنحازة والمؤيدة بلا تحفظ لإسرائيل، سواء بالنسبة للفلسطينيين أو لسائر الدول العربية والإسلامية.
تغير المفاهيم داخل المجتمع الأمريكي وتحوله إلى مجتمع عنصري حاقد تجاه من يخالف سياسة التوسع والهيمنة الأمريكية.
إعطاء الضوء الأخضر لمواصلة حملات القمع وملاحقة دعاة الإسلام في أفغانستان واستمرار سياسة العدوان المسلح الواسع والوحشي ضد الشعب العراقي تحت ذريعة مساعدة الحكومة العراقية لاستعادة الأمن وإرساء قواعد الحرية والديمقراطية.
استمرار التهديدات المبطنة والعلنية لكل من سوريا وإيران بهدف الضغط على حزب الله المناوئ لسياسة إسرائيل التوسعية.
استمرار الضغط على حكومة السودان للقبول بتعدد الأديان للدستور السوداني وعدم اعتماد الإسلام كدستور واحد للدولة.
إن على أمتنا الإسلامية التنبه لمخاطر السياسة الأمريكية والتي جلبت الدمار والويلات للشعوب الإسلامية خلال السنوات الأربع الماضية. إن على أمتنا الإسلامية عدم إعطاء الفرصة للإدارة الأمريكية الجديدة لتطويع الحكومات والشعوب الإسلامية لسياسة الانفتاح والتطبيع مع الكيان الصهيوني أعداء الإسلام.
أيها المسلمون، افتحوا آذانكم جيدا لما أقول، إن فلسطين كانت على مر الأزمنة والعصور محط أنظار الغزاة بحكم قداستها وموقعها الإستراتيجي، إن إسلامية فلسطين مرتبط ارتباطا وثيقا بقدسية ومكانة المسجد الأقصى المبارك، هذا المسجد الذي تشهدون فيه صلاة الجمعة الأخيرة من رمضان، هذا المسجد الذي تشد إليه الرحال، هذا المسجد الذي شرفه الله بشرف إسراء ومعراج نبينا ورسولنا وقائدنا وقدوتنا محمد عبد الله ورسوله، هذا المسجد الذي يحاول الغزاة السيطرة عليه وتغيير معالمه وطمس هويته الإسلامية، لكن أنى لهم ذلك، خسئوا برباطكم، خسئوا بالتفافكم حوله.
فالقضية الفلسطينية لم ولن ترتبط بزعيم أو قائد لأن الأساس الذي نحكم به على القيادات أيا كانت هي الإيمان الصادق والجهاد الفعلي لتحرير هذه البقاع، لقد قيض الله لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب فتح بيت المقدس في السنة الخامسة عشرة للهجرة، ونجح القائد المسلم قطز والظاهر بيبرس بدحر الغزاة التتار وهزيمتهم في عين جالوت في فلسطين في القرن الثالث عشر الميلادي، وجاء الغزو الصليبي الحاقد والذي تتجدد معالمه هذه الأيام، غير أن الله قيض لهذه الأمة ولهذه البلاد القائد صلاح الدين الأيوبي لتحريرها من قبضة الغزاة.
نعم أيها المسلمون، التاريخ يسجل في صفحات من نور عطاء وتضحيات وجهاد الأيدي المتوضئة والقلوب الطاهرة، ففلسطين لن تتحرر بالشعارات والهتافات، إن شعبنا اليوم مطالب بتوحيد الصفوف وجمع الشمل ورفض حلول الاستسلام، لا نريد من فلسطين أن تتحول إلى صومال ثانية ولا إلى السودان، هذا هو الرهان رهان الأعداء على إحداث صراع فلسطيني فلسطيني ليتسنى لهم إملاء شروط الاستسلام.
إن عزتنا تكمن في إسلامنا، وقوتنا تكمن بوحدتنا، وتحرير بلادنا لن يكون إلا بإقامة دولة الإسلام، فلتتحد السواعد ولتتحد القلوب في كل بقاع المسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، جاء شهر رمضان فالتفتنا جميعا إلى عبادة الله، وعشنا أياما مباركة تتنزل علينا الرحمة وتعمنا السكينة وتغشانا المغفرة وتحفنا الملائكة ويذكرنا الله فيمن عنده، حتى انجلت بصائرنا وذهب ما ران على قلوبنا، وتعلمنا لذة الخضوع لله رب العالمين، وأخرجنا الصدقات للفقراء والمساكين، واليوم نودع رمضان، وأذكركم بإخراج صدقات الفطر، وكما أفتى أهل العلم أن قيمتها ثمانية شواقل، ومن أراد مصلحة الفقير والمحتاج وأحب الزيادة فله من الله الأجر والثواب.
عباد الله، رمضان في أوقاته الأخيرة، أراه الآن يجهز نفسه ليصعد إلى الله، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر. السلام عليك يا شهر رمضان، السلام عليك في الأولين والآخرين، السلام عليك في الملأ الأعلى إلى يوم الدين، سلام عليك يوم وصلت أرحامنا، سلام عليك يوم طهرت نفوسنا، سلام عليك يوم جمعت شملنا، سلام عليك وعلى التراويح، سلام عليك وعلى ليلة القدر. وبعدك يا رمضان تحزن المساجد وتطفأ المصابيح وتنفطع صلاة التراويح، ونعود إلى العادة وتقل العبادة.
عباد الله، شهر رمضان شهر القرآن، وكما تعملون أن البيت الذي يقرأ فيه القرآن يتسع لأهله ويكثر خيره وتحضره الملائكة وتطرد منه الشياطين، وقد ورد في الحديث القدسي: ((إني لأهم بالقوم عذابا فأستمع إلى أصوات طفل يقرأ القرآن فأدفع عنهم العذاب)).
عباد الله، باع قوم جارية قبيل رمضان، فلما وصلت عند المشتري قال لها: هيئي لنا ما يصلح للصوم، فقالت: لقد كنت قبلكم لقوم كل زمانهم رمضان.
فتذكروا ـ أيها المؤمنون ـ أن الله رب لجميع الشهور، رمضان وشوال وغيرهما، وتذكروا صيام الأيام الستة من شوال، قال فيهما رسولنا : ((من صام رمضان وأتبعه بست من صيام شوال فكأنما صام الدهر كله)).
فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من التهليل والتكبير، ولا تنسوا صلة أرحامكم ومساعدة الأسر المحتاجة والفقيرة، وإياكم والمعاصي وارتكاب الذنوب بعد شهر رمضان، وقوموا بعمارة مساجدكم في كل الأوقات.
ونوجه عناية المسلمين إلى أن صلاة العيد ستقام بإذن الله تعالى في هذا المسجد المبارك في تمام الساعة السادسة والأربعين دقيقة صباحا.
فاخرجوا من بيوتكم رافعين أصواتكم بالتكبير والتهليل، ارفعوها إلى عنان السماء، هزوا بها أرجاء الفضاء، فلا كبير ولا عظيم إلا الله، والبسوا أحسن ثيابكم، وقبل أن تأتوا إلى المسجد تناولوا شيئا من التمر أو الماء أو اللبن كما فعل رسولنا الأكرم، واستحضروا عظمة الله في قلوبكم، وعليكم بالسكينة والوقار، والله معكم ولن يتركم أعمالكم.
عباد الله، وقف عمر بن العزيز رضي الله عنه بعد الصلاة يوم العيد فقال: اللهم إنك قلت وقولك الحق: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]، فإن كنت من المحسنين فارحمني، وإن لم أكن من المحسنين قلت: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43] فارحمني، وإن لم أكن من المؤمنين فأنت أهل التقوى وأهل المغفرة فاغفر لي، وإن لم أكن مستحقا لشيء من ذلك فأنا صاحب مصيبة وقد قلت: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:156، 157].
أيها المؤمنون، يقول الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].
يوم أمس فارق الدنيا رجل من رجال فلسطين مودعا هذه الدنيا بما فيها من آلام وويلات حلت بأبناء شعبنا المسلم، عزيز على الناس أن يفارقهم قادتهم دون أن يحققوا آمالهم، ولكن أقدار الله العظيم ضمن مشيئته سبحانه وتعالى أتت بالأجل قبل نيل الأمل، لذا فإن شعبنا الفلسطيني الصامد الصابر ينعى القائد ياسر عرفات لجميع من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد كما قال رسول الله : ((كفى بالموت واعظا)) ، وقال: ((اذكروا هادم اللذات ومفرق الجماعات)). إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
(1/3488)
غزوة الأحزاب
سيرة وتاريخ
غزوات
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
7/10/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة المسلمين إلى مراجعة أحوالهم. 2- سنة التثبيت. 3- مجريات غزوة الأحزاب وما ظهر فيها من معجزات. 4- أهمية الصبر والمصابرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فوصيّةُ الله للأوّلين والآخرين تقواه: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء: 131]، ألا وإنّ خيرَ الزاد التقوى، وإنّ الدنيا ممرّ، وإن الآخرة هي دار المستقرّ، فتزوَّدوا لمقرِّكم من ممرِّكم، ومن خاف أدلج، ومن أدلجَ بلغَ المنزِل، ألا إن سلعةَ الله غالية، ألا إنّ سلعة الله الجنة، فحاسبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا وتأهَّبوا للعَرض الأكبر على الله، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة: 18].
وبعد: أيّها المسلمون، في زمنِ الضّعف والانكسار وحينما يشتدّ على الأمّة الحصار، حين تدلهمّ الخطوب وتشتدّ الكروب قد تتضعضع القلوب حتى يقول المؤمنون: متى نصر الله؟ وإنّ هذه الحالَ الشديدة أقربُ ما تكون انطباقًا على حال المسلمين اليَومَ وقد عصفت بهم المحَن وأحاطت بهم الفِتن، في هذه الأوقات ما أحوجَ المسلمين إلى مراجعةِ أحوالهم والترتيب لحسنِ مآلهم، ما أحوجَنا إلى أسبابِ الثبات وما يُمسِّكنا بدينِنا حتى الممات، فتلك سنّة الله مع رسولِه والصحبِ الكرام، حين تشتدّ بالنبي وصحبِه الكربات يثبِّته ربُّ الأرض والسموات بما شاء من أسباب الثّبات، ومن ذلك سِيَر الأنبياء والمرسَلين وقَصَص الأوّلين والآخرين وخَبر العواقِبِ الحسنى للمتقين، وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود: 120].
أيّها المسلمون، واقتداءً بهذا السَّنن الإلهيّ نعرض اليومَ إلى ذكر واقعةٍ شديدةٍ على المسلمين وأيّامٍ عصيبة مرّت بالنبيّ والمؤمنين، كانت عاقبتها نصرًا وتمكينًا بعد أن امتحَن الله القلوبَ وميّز المؤمنين من المنافقين، إنها غزوةُ الخندق التي سمّاها الله تعالى بالأحزاب وأنزل فيها سورةً تُتَلى إلى يومِ الدين والمآب.
لقد وقعَت في مثل هذا الشّهر في شوال سنة خمسٍ للهجرة، وذلك أنّ نفرًا من يهودِ بني النضير سعَوا كما هي عادَة اليهود، فخرجوا لمكّةَ واجتمعوا بأشرافِ قريش، وألَّبوهم على حربِ النبي ، ووعدوهم بالنّصر والإعانة، فأجابوهم لذلك، ثمّ خرجوا إلى غطفان فدعوهم وأَغرَوهم، فاستجابوا لهم أيضًا، وخرَجت قريش في أحابِيشِها ومن تابَعها من أهلِ تِهامة وغيرهم، وكذا غطفان، والجميع يفوقون عشرةَ آلاف، وحاصَروا المسلمين مِن نواحي المدينة، واستشار النبيّ أصحابَه، فأشار سلمان الفارسيّ رضي الله عنه بحفرِ الخندَق، فقبِل النبيّ مشورَتَه، وقرَّر المسلمون التحصُّنَ في المدينةِ والدفاعَ عنها، وأمَر النبيّ بحفرِ الخندق في السّهل الواقع شمالَ غربِ المدينة، وهو الجانِب المكشوف، وقسَم النبيّ الخندقَ بين أصحابه لكلّ عشرةٍ منهم أربعون ذراعًا، وطوله قريبٌ من خمسةِ آلاف ذِراع، وعمل النبيّ مع أصحابِه في حفرِ الخندق، ودأب فيه ودأبوا في بردٍ شديد وجوعٍ عتيد، يقول أبو طلحة رضي الله عنه: شكَونا إلى رسول الله الجوعَ ورفعنا عن بطونِنا عن حجرٍ حَجر، فرفع رسول الله عن بطنِه حجَرين [1] ، ومع ذلك كانوا صابرين ثابتين يحمَدون الله ويذكرونه ويرتجزون، عن أنس رضي الله عنه قال: خرج رسول الله إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصارُ يحفرون في غداةٍ باردة، فلمّا رأى ما بهم من النصب والجوع قال:
((اللهمّ إنّ العيش عيشُ الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة))
فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمّدًا على الجهادِ ما بقينا أبدًا
رواه البخاري ومسلم [2]. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان النبيّ ينقل الترابَ يومَ الخندق حتى اغبرَّ بطنه. متفق عليه [3]. وفي الصحيحين عنه رضي الله عنه أنّ النبيَّ كان يرتجِز بكلماتِ ابنِ رواحة وهو ينقل الترابَ يقول:
((والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صلّينا
فأنزِلَن سكينةً علينا وثبِّت الأقدامَ إن لاقَينا
إنّ الأُلى قد بَغَوا علينا إذا أرادوا فتنةً أبَينا))
يمدّ صوته بآخرها [4].
وقد ظهرَت المعجِزات في حفرِ الخندق، منها ما جاءَ في الصحيحين أن جابرَ بنَ عبد الله رضي الله عنه لما رأى ما بالنّبيّ من الجوعِ والخَمصِ الشّديد صنع طعامًا يكفِي لبضعةِ نفر ودعا النبيَّ إليه، عند ذلك نادَى النبيّ أهلَ الخندق: ((ألا إنّ جابرًا قد صنع سورًا)) ، وقال: ((ادخلوا ولا تضاغَطوا)) [5] ، فأكَلوا كلُّهم حتى شبِعوا والطعامُ على حاله ولم ينقص، جاء في بعض الروايات في غير الصّحيحين أنهم كانوا قريبًا من ألفِ رجل [6].
وعرضت للمسلين صَخرة عظيمةٌ شديدة لا تأخذ فيها المعَاوِل، فأتى إليها النبيّ وسمّى الله وضربها ثلاث ضربات، فعادت كثيبًا أهيَل وقال: ((الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيحَ الشام، كأني أنظر إلى قصورها الحمراء. الله أكبر، أُعطيت مفاتيحَ فارس، والله إني لأبصِر قصرَ المدائن الأبيض. الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيحَ اليمن، والله إني لأبصِر أبوابَ صنعاء من مكاني الساعةَ)) [7]. هذا والمسلمون في شكٍّ من حياتهم، قد عضَّهم الجوع وآذاهم البَرد وأحاط بهم العدوّ ونجم النِّفاقُ حتى قال بعض المنافقين: ألا ترونَ إلى محمّد يدّعِي أنه يُعطَى ملكَ فارس والروم وأحدُنا لا يأمَن على نفسه أن يذهبَ إلى الغائط، وذلك حين يقول الله عز وجل: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا [الأحزاب: 12].
وجاء المشركون، فنزلوا شرقيَّ المدينة قريبًا من أحُد، ونزلت طائفةٌ منهم في أعالي أرضِ المدينة كما قال تعالى: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأحزاب: 10]: من أعلى الوادي من المشرِق، ومن بَطن الوادي من قِبَل المغرب، وخرج رسول الله ومن معَه من المسلمين فأسنَدوا ظهورَهم على سَلع ووجوهَهم نحو العدوّ، بينهم الخندَق، وجعل النساءَ والذراري في آطامِ المدينة، وكانت بنو قريظَة ـ وهم طائفةٌ من اليهود ـ لهم حِصن شرقيّ المدينة، وبينهم وبين النبيّ عهدٌ وذمّة، وهم قريبٌ من ثمانمائَة مقاتل، وقد أمِنهم النبيّ في جانِب المدينة، فسعى إليهم حُييّ بن أخطب اليهوديّ، فلم يزل بهم حتى نقَضوا العهدَ، ومالؤوا الأحزابَ على حربِ النبي وصحبِه واستئصال شأفتِهم، فعظُم الخطب، واشتدَّ الكرب، وضاق الحال بالمسلمين، وزاد الخوف على الأنفس وعلى النساءِ والذراري في المدينة، إذ يصوّر الله تعالى موقفَهم بقوله: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزاب: 10، 11].
واستمرَّ الحال قريبًا من الشّهر، واستأذَن المنافقون وخذَّلوا وتسلَّلوا هربًا من هذه الحال، وثبّت الله المؤمنين بعدَ أن ابتلاهم وعلِمَ صدقَ إيمانهم، وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: 22] أي: إيمانًا بالله واستسلامًا وانقيادًا لأمرِه وطاعةً لرسوله، وهذا هو حال المؤمنين الصادقين الموعودِين بالنصر، لا تزيدهم الشدائدُ إلاّ إيمانًا وازديادًا في الطّاعات وتمسُّكًا بأمرِ الله وحُكمِه وتشبُّثًا بدينهِ حتى يلقَوا ربَّهم، فليس النّصر هو السلامةُ والدَّعَة والمتاع بزُخرُف الدّنيا ولو في حمأةِ المهانة، بل النّصر هو الثباتُ على المبادِئ وعجزُ العدوّ عن سَلبِ المؤمِنِ دينَه وإن آذاه في بدنه أو ماله.
لقد عظُم البلاء بالمسلِمين حتى همَّ النبيّ أن يُصالحَ غطفانَ على ثلث ثمارِ المدينة ويرجعوا شَفقةً بحال المسلمين، واستشارَ في ذلك السيِّدَين سعدَ بنَ معاذ وسعد بنَ عُبادة رضي الله عنهما، فقالا: يا رسولَ الله، قد كنّا نحن وهؤلاء على الشّرك وعبادةِ الأوثان، لا نعبدُ الله ولا نعرِفه، وهم لا يطعَمون منها ثَمَرةً إلا بيعًا أو قِرى، أفحِين أكرَمنا الله بالإسلام وهدانا إليه وأعزَّنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟! والله ما لنا بهذا من حاجةٍ، والله لا نعطِيهم إلا السيفَ حتى يحكمَ الله بيننا وبينهم، ففرِح النبيّ بذلك لما رأى من الثباتِ والاستقامة والصمود والإباء [8].
أيّها المسلمون، وفي خِضَمّ هذه الابتلاءات وفي قلبِ الحِصارات جاءَ نصر الله من فوقِ سبع سموات، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا [الأحزاب: 25]، وقد جاء نُعيم بن مسعود الغطفاني رضي الله عنه إلى النبيِّ مسلمًا، ثم رجَع بين الأحزاب مخذِّلاً لهم [9] ، وقد نفع الله به نفعًا عظيمًا وهو حديثُ عهدٍ بالإسلام، ولكن المؤمِن يعمل لله في كلِّ حال بما يستطيع ولو كان وحيدًا، ثم بعث الله تعالى ريحًا شديدة في ليلةٍ شاتية باردة مظلِمة، فجعلت تقلِب القدورَ وتطرح الأبنيةَ وتقلب عليهم الحِجارة، ورسول الله قائمٌ يصلّي، يقول حذيفة رضي الله عنه كما عند الحاكم والبيهقي: لقد رأيتُنا ليلةَ الأحزاب وأبو سفيان والأحزاب فوقَنا وقريظةُ اليهود أسفَل منّا، نخافهم على ذرارِينا، وما أتَت علينا قطّ ليلةٌ أشدّ منها ظلمةً ولا أشدّ ريحًا، في أصواتِ ريحها أمثالُ الصواعق، وهي ظلمةٌ ما يرى أحدُنا أصبعَه ـ إلى أن قال: ـ فسمعتُ المشركينَ يقولون: الرحيلَ الرحيلَ لا مُقام لكم، وإذا الريحُ في عسكرهم، فوالله إني لأسمع صوتَ الحجارة في رحالهم وفُرشِهم، والرّيح تضربهم بها [10] ، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا [الأحزاب: 9].
وتفرّق الأحزاب، وعادَت قريش كما عادَت غطفان لم ينالوا خيرًا، كما انقلَب اليهودُ بخيانَتِهم وخَيبتهم، وقال النبيّ : ((لن تغزوَكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنّكم تغزونهم)) رواه أحمد بإسناد صحيح [11] ، ولفظ البخاريّ: ((الآن نغزوهم ولا يغزونا)) [12] ، وهكذا كان حتى فتَح الله مكّةَ.
وفي الصحيحين أنّ النبيّ كان يدعو ويقول: ((اللهمّ منزِلَ الكتابِ سريع الحساب اهزِم الأحزابَ، اللهمّ اهزِمهم وزلزلهم)) [13] ، وفي الصحيحين أيضًا أنّ النبيَّ كان يقول فيما بعد: ((لا إله إلا الله وحدَه، صدق وعدَه، ونصر عبدَه، وأعزَّ جندَه، وهزم الأحزابَ وحدَه، فلا شيء بعدَه)) [14].
ولما رجع النبيّ إلى المدينة ووضَع السلاحَ ليغتسل مِن وعثاءِ تلك المرابطة جاءه جبريل عليه السلام وقال: إنّ الملائكةَ لم تضع أسلحَتَها، وأمرَه بالمسير إلى بني قُريظة، فسار إليهم وحاصَرهم، ثم أنزلهم على حُكمِ سيِّد الأوس سعدِ بن معاذ رضي الله عنه، فلم تأخذه في الله لومَةُ لائم، وحكم فيهم بحكم الله بقتلِ مقاتِلَتِهم وسبي ذراريهم [15] ، فضُربت أعناقُ الخَوَنة، وانتصَرَ الله لدينه وأوليائِه، وذلك حين يقول المولى عز وجل: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ أي: من حصونهم وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [الأحزاب: 26، 26]، وهذا مآل المتّقين الصابرين الذين لا تثنِيهم الشّدائد عن دينهم، ولا تزعزِعُهم الفِتَن عن اليقين بربهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214].
بارك الله لي ولكم في الكتابِ والسنّة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه كان غفارًا.
[1] رواه الترمذي في الزهد (2371)، والبيهقي في الشعب (7/314)، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1907).
[2] صحيح البخاري: كتاب الجهاد (2834)، صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1805).
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي (4104)، صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1803).
[4] صحيح البخاري: كتاب المغازي (4106)، صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1803).
[5] صحيح البخاري: كتاب المغازي (4101، 4102)، صحيح مسلم: كتاب الأشربة (2039) عن جابر رضي الله عنه.
[6] هي في الصحيحين في المواضع السابقة.
[7] رواه أحمد (4/303)، وابن أبي شيبة (7/378)، والنسائي في الكبرى (8858)، وأبو يعلى (1685)، والروياني (410) من طريق ميمون عن البراء بن عازب رضي الله عنه، صححه عبد الحق الإشبيلي كما في تفسير القرطبي (14/131)، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (7/397)، وتابعه الألباني في تخريج أحاديث قه السيرة (ص321)، وقال الهيثمي في المجمع (3/194-195): "فيه ميمون أبو عبد الله، وثقه ابن حبان وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات".
[8] رواه عبد الرزاق (5/367-368)، وانظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/181)، وتاريخ الطبري (2/94).
[9] رواه عبد الرزاق في المصنف (5/368)، وانظر: السيرة النبوية (4/188)، وتاريخ الطبري (2/96)، وفتح الباري (7/393، 402).
[10] دلائل النبوة للبيهقي (3/451-453)، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (12/282-283).
[11] عزاه ابن حجر في الفتح (7/405) للبزار من حديث جابر وحسن إسناده، وانظر: السيرة النبوية (4/216).
[12] صحيح البخاري: كتاب المغازي (4109، 4110) عن سليمان بن صرد رضي الله عنه.
[13] صحيح البخاري: كتاب الجهاد (2933)، صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1742) عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه.
[14] صحيح البخاري: كتاب المغازي (4114)، صحيح مسلم: كتاب الذكر (2724) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وليس فيه: ((صدق وعده)).
[15] أخرجه البخاري في المغازي (4121)، ومسلم في الجهاد (1768) عن أبي سعيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله مُسبِغ النّعَم، دافع النّقَم، أجاب عبدَه إذ ناداه في الظُّلَم، ووعدَ بالنصر من التزم صراطَه الأقوَم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة وأدّى الأمانة وتركَنا على المحجّة البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغُ عنها إلا هالِك، صلّى الله عليه وعلى آله وأزواجِه وذريّته وصحابته ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، لقد كان في غزوةِ الأحزاب وأيّامِ الخندَق حِكَم وعِبر، ينبغي للمسلمين أن يعوها ويحتذوها، وقد قال الله تعالى في ثنايا ذكرِ أحداثها: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21].
وسنّة الله جاريةٌ قديمًا وحديثًا، وغربة الدين وضَعف المسلمين لا ينبغي بحالٍ أن تقودَ إلى الإحباط وخَور النّفوس، بل يجب أن يكونَ دافعًا للصبر والبذل والثّبات حتى يأذَنَ الله تعالى بالفَرَج.
ومِن مقامَاتِ العبودية التي يجب أن تُذكَى الصبرُ والمصابرة والمرابَطَة والثبات واليقينُ والدعاء والاحتساب والقِيام بأمر الله والإيمانُ بالقضاء وإدراك سنّة الابتلاء وصيانة الدين، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].
هذا وصلّوا وسلِّموا على خير البريّة وأزكى البشريّة رسولِ الله محمد بنِ عبد الله الهاشمي القرشيّ.
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/3489)