أضغان المنافقين على أهل الدعوة والدين
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية, نواقض الإيمان
عبد الله بن حمد السكاكر
بريدة
جامع الذربان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مسؤولية الكلمة. 2- خطورة اللسان. 3- جرأة بعض حملة الأقلام على الدين وأهله. 4- افتضاح المنافقين. 5- واجب نصرة الدين وسبيل ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، اتقوه وراقبوه، راقبوه عند خطرات القلب ولحظات العين وعثرات اللسان، واعلموا أن الله عز وجل قد وكّل بكم من ليس يغفل أو ينام، يحصي الأعمال ويكتب الحسنات والسيئات، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12].
احذروا ـ عباد الله ـ غدرات دوِّنت وسيّئات حفظت، فلئن نسيتموها فإنّ الدواوين لا تنسى، أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6]، وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
عباد الله، إنّ الكلمة من أعظم الأمانات وأثقل المسؤوليات، تكون في قلب الرجل فلا يُسأل عنها ولا يحاسب عليها، ثم تخرج إلى لسانه فيتكلم بها فتورده الموارد أو ترفعه المنازل، تهوي به في الدركات أو تعلو به في الدرجات.
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم)) ، وعن بلال بن الحارث رضي الله عنه قال: إن رسول الله قال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتبُ الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه)) رواه مالك في الموطأ والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".
عباد الله، لم يكن اللسان بهذه المنزلة إلا لما له من الفعل الشديد والأثر الأكيد، يتكلم المؤمن بالحق والعدل فيتجلى للناظرين ويروق للسالكين، ويلحنُ الفاجرُ بالباطل فيعمي الحق على الناس ويزوّقُ لهم الباطل ويصدهم عن الصراط ويُلبسُ عليهم دينهم، فيضلُ الخلق ويضيعُ الحق.
ولهذا لما بين رسول الله لمعاذ رضي الله عنه أسباب دخول الجنة والبعدِ عن النار ودلّه على أبواب الخير ثم أخبره برأس الأمر وعمودِه وذروة سنامه قال له: ((ألا أخبرك بملاك ذلك كلِّه؟)) فلما قال: بلى، أخذ بلسانه وقال: ((كفَّ عليك هذا)) ، فقال معاذ رضي الله عنه: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: ((ثكلتك أمك، وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".
عباد الله، إن اللسان هو أخطرُ الجوارح؛ ذلك أنه أخفُّها حركة وأشدُّها أثرًا حتى إن رسول الله شبه أثر اللسان في قلب الحقائق وتلبيس الحق بالباطل بالسحر فقال: ((إن من البيان لسحرا)).
إخوة الإيمان، إن رجالاً يطلقون لألسنتهم العنان ولأقلامهم الزّمام، إنما يتقحمون بذلك نار جهنم، فعن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: سألت رسول الله : ما أخوفُ ما تخافُ عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: ((هذا)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"، وسأل عقبة بن عامر رضي الله عنه رسول الله : ما النجاة؟ قال: ((أمسك عليك لسانك، وليسعكُ بيتك، وابكِ على خطيئتك)) رواه الترمذي وحسنه، وكان أبو بكر رضي الله عنه يمسك بلسانه ويقول: ((هذا الذي أوردني الموارد)) ، بل إن رسول الله تكفّل لمن حفظ لسانه الذي بين لحييه وفرجه الذي بين رجليه بالجنة. متفق عليه.
عباد الله، هل أدرك هذا الأمرَ من يحمل قلمًا يكتب به في الصحف والمجلات أو الساحات والشبكات؟! هل أدرك هؤلاء أنهم يحملون في أيديهم سلاحًا أمضى من كل سلاح، سلاحًا يصلح ويفسد ويجمع ويفرق؟!
إن شئت أصلحتَ به ذات البين، وإن شئتَ فرقت به بين الحميمين، إن شئت جليتَ به الحقّ وعرّيت به الباطل فكنت هاديًا مهديًا، وإن شئتَ لبست به الحق ونصرتَ به الباطل فكنت شيطانًا على سبيل من سبل جهنم.
إن عددًا من مرضى القلوب ممن يحملون ألسنة حدادا وأقلامًا سلِطة وجرأة على الدين قد اتخذوا من الأحداث الآثمة التي تمرّ بها بلادنا ذريعة وسلَّمًا لنيل مآربهم وتحصيل مقاصدهم وتصفية حساباتهم، فباسم مقاومة الإرهاب سبّوا الدين وتكلّموا في الثوابت واجترؤوا على العقيدة ونالوا من رجالات الإسلام ودعاة الخير. فمرّةً على فهم السلف لملة إبراهيم، وأخرى لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وثالثة لعقيدة الولاء والبراء، ورابعة لشيخ الإسلام ابن تيمية، وخامسة لمناهج التعليم، وسادسة لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسابعة لحِلق تحفيظ القرآن الكريم، وثامنة للجمعيات الخيرية، والمحصّلَة حرب الإسلام باسم حربِ الإرهاب، فإذا أنكِر على أحدهم أو خوِّف بالله أقسم الأيمان المغلظة أنه ما قصد إلا الإصلاح ولا أراد إلا الحسنى، وصدق الله العظيم: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة:107]، ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا [النساء:62، 63]، لقد زعم كثير من هؤلاء الكتاب أنهم يحاربون الإرهاب، وكذبوا والله، إنهم يصنعون الإرهاب.
إن الرجل ليرخص نفسه ويبذلُ مهجته إذا انتهِك عرض، ولا شك أن دين الإنسان أغلى وأنفسُ من عرضه، فمن يسب الدين بسبِّ رجالاته ورموزه وأجهزته وهيئاته ومناهجه وعقائده يستعدي شعبًا بأكمله، بل أمة بأكملها، يسبّ دينها وثوابتها.
لقد رأى هؤلاء المفتونون أنّ الدولة ـ وفقها الله ـ تدافع عن الإسلام، وتدعَم هيئاته ومؤسّساته، فشرقوا بذلك، وأرادوا استعداءها على أهل الدين.
يتظاهرون بحرب الإرهاب وهم يطلبون الفتنة ويغرون بالعداوة، وصدق الله العظيم: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ لَقَدْ ابْتَغَوْا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:47، 48].
إخوة الإيمان، تهدأُ الأمور فيتخفّى المنافقون ويلبسون مسوحَ الإصلاح، حتى إذا كادوا أن يشتبهوا بأهل الحقّ رحم اللهُ الأمة ففتنَ أهل النفاق وأخرج أضغانهن وكشفَ دخائلهم، فيتبيّنهم المؤمنون، لا يضامّون في معرفتهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ [محمد:29، 30].
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك البر الرحيم، وأشهد أنّ محمدًا النبيّ الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ثم أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أنه لا بد للمؤمن من العلم ومعرفة الحق، ولا بد بعد العلم من العمل.
إخوة الإيمان، إنه لا يكفي أن يعرف المؤمن الحقّ من الباطل ولا المؤمنَ الصادق من المنافق الكاذب، بل لا بد بعد العلم من العمل.
إنّ دين المسلم هو أغلى شيء يملكه في الحياة، كيف لا وهو سرّ سعادة المرء في الدنيا والآخرة.
إخوة الإيمان، كان الرجلُ من صحابة رسول الله ما إن يدخلُ في هذا الدين ويخالط شغاف قلبه إلا وينذر نفسه لنصرتِه والدفاعِ عنه وموالاة أهله ومعاداة أعدائه. فبهذا انتصر هذا الدين وعلا شأنه وارتفعت رايته وعز أهله. وإن دَور كلّ مسلم يرى هذه الحربَ الضروس على دينه أن ينصر دين الله، ويقارع أعداء الله.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن دين الله منصور وأمره ظاهر، ولكن الإنسان يرتفع بنصرة هذا الدين، ويحقق النجاة لنفسه، إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
ثم اعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أن كلاًّ على ثغر، وأنّ كل أحد يطيق أن ينصر هذا الدين، فالوسائل كثيرة، والمجالات متعددة، ولكن ينبغي أن تكون نصرة هذا الدين بالحكمة والموعظة الحسنة، بالكلمة الهادئة والموعظة اللينة، بعيدًا عن التكفير والتفسيق أو التبديع والسبّ، فلعل صاحب شبهة أو مغررًا به يُغْلَظُ عليه ويُستعدى فيكون من أعداء الدين.
لقد كان رسول الله يعلم أعيانَ المنافقين ومع ذلك لم يكن يواجههم بذلك.
إن الكلام اللينَ والدعوات الصادقة تفتح القلوب وتشرح الصدور وأنتم دعاة إلى الله سبحانه. وأما من ظهر فسقه واستشرى شره وعظمت فتنته فمنهج السلف الصالح تحذيرُ الناس من بدعته وتعريفُهُم شرَّه وخطَرَه.
(1/3302)
التهاون في صلاة الفجر
فقه
الصلاة
حسين بن غنام الفريدي
حائل
17/4/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بالمحافظة على الصلوات في أوقاتهن. 2- كثرة التخلف عن صلاة الفجر. 3- فضل صلاة الفجر في المساجد. 4- فوائد المحافظة على صلاة الفجر. 5- أسباب التخلف عن صلاة الفجر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فإنها وصيته للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]. اتقوا الله بفعل ما أمركم به، واتقوه باجتناب ما نهاكم عنه، واعلموا أنّ من أعظم ما أمركم به الصلاة، فهي عمود الدين وركن الملة، من حافظ عليها نجا وأفلح، ومن غفل عنها هلك وخسر، هي المعين الصافي، بها يزداد الإيمان، ويجتنب العبد الفاحشة والعصيان، لا سيما أداؤها جماعة مع المسلمين، فهو حتم واجب، فبذلك يتميّز أهل الإيمان، ومداومة التخلف عنها علامة النفاق والفسق وقلة الديانة.
معاشر الأحبة، إننا في عصر أوثِرت فيه الدنيا على الدين، وقدِّمت حظوظ النفس على طاعة رب العالمين، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ الآية [مريم:59، 60].
فما عذر من يتخلف عن أداء الصلاة جماعة؟! يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحطّ عنه بها سيئة... ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادَى بين الرجلين حتى يقامَ في الصف) أخرجه مسلم والنسائي.
الصلاة ـ يا عباد الله ـ هي وصية المصطفى ساعة الاحتضار، أخذ يردّدها حتى ما يفصح بها لسانه، من ضيعها فهو لما سواها أضيع.
يا من اعتدتَ التخلفَ عن صلاة الجماعة وأنت الآن تحضر معنا الجمعة استمع إلى قول الرسول : ((من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر)) أخرجه ابن ماجه وأحمد والحاكم وصححه عبد الحق الإشبيلي والألباني.
عباد الله، إن هذا النداء نوجهه إلى كل مؤمن ممن لا يزال في قلبه خوف من الله ويعلن صباح مساء أنه من أهل الدعوة إلى الله وأنه في زمرة الصالحين ويحافظ على كثير من الصلوات، لكنه يتخلف عن صلاة الفجر. وإن هذا التخلف ظاهرة سيئة وبادرة خطيرة تنذر بالعقوبة وتبعث على الخوف وتستدعي النصح والإرشاد وتوجب بذل الأسباب المعينة لتلافيه وتعاطي العلاج قبل أن يستفحلَ المرض ويعظم الداء ويعز الدواء.
إن الفجر رمز ولادة كل خير وعلامة الحياة والحركة، وهو دليل الحق والعدالة، وقت الفجر من أهدأ الأوقات، فيه لحظات الصفاء، وفيه توزيع الأرزاق، صلاة الفجر دليل قوة الإيمان والبراءة من النفاق، لعظمته أقسم به المولى فقال: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا)) متفق عليه، وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه يقول: قال رسول الله : ((من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم)) أخرجه مسلم، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ذكر عند النبي رجل نام ليلة حتى أصبح قال: ((ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه)) متفق عليه، والبول حقيقي كما قال الإمام القرطبي رحمه الله، فالشيطان يبول وينكح بكيفية لا يعلمها إلا الله.
وإن أردت أن تتحقق من ذلك فانظر في وجوه الذين يأتون لأعمالهم صباحًا ممن لم يشهدوا صلاة الفجر، إنها وجوه كالحة تعلوها ظلمة تنطق بالهمّ، يقول الرسول : ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)) رواه مالك في الموطأ وهو عند البخاري ومسلم في الصحيحين.
تلك عباد الله من آثار التخلف، فهو يثمر تكدّر النفس وانقباضها وضيق الصدر وفوات كثير من المنافع الدينية والدنيوية، فإن وقت الفجر وما يعقبه خير وبركة.
كان من هدي النبي الحرص على اغتنامه وشغله بالذكر، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال : ((من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة)) أخرجه الترمذي وهو حسن بشواهده. وقد دعا بالبركة لأهل البكور: ((اللهم بارك لأمتي في بكورها)) من حديث صخر بن وداعة، وقد كان صخر تاجرًا، فكان يبعث تجارته أول النهار فأثرى وكثر ماله. رواه الترمذي وأبو داود والدارمي وقال عنه المحققون: إسناده جيد. اسألوا إن شئتم أهل الأسواق يخبرونكم الخبر اليقين.
ثم لنعلم ـ يا عباد الله ـ أن لصلاة الفجر فوائد صحية، وهو أن ما يسمّى بغاز الأوزون وهو معروف عند الفلكيين تكون أعلى نسبة له في الجو عند الفجر، وتقلّ تدريجيًا حتى تضمحلّ عند طلوع الشمس، ولهذا الغاز تأثير مفيد للجهاز العصبي ومنشّط للعمل الفكري والعضلي، فعندما يستنشق نسيم الفجر المسمى بريح الصبا تجد لذة ونشوة وراحة لا شبيه لها في أيّ ساعة من ساعات النهار أو الليل.
عباد الله، إن صلاة الفجر ميزان ومقياس لمعرفة أهل الإيمان، من حافظ عليها شُهِد له بالإيمان، ومن تخلف عنها دلّ ذلك على خلل في إيمانه وقسوة في قلبه واستسلام لنفسه وهواه، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن).
من شهد الفجر شهدنا له بالإيمان لأنه حقّق أعظم انتصار، وهو انتصاره على نفسه وتغلبه على لذة النوم والفراش.
كيف يهنأ ـ يا عباد الله ـ بالنوم والناس في المساجد مع قرآن الفجر يعيشون وإلى لذيذ خطاب الإله يستمعون وفي ربيع جنانه يتقلبون؟! إن من آثر لذة الوسادة على العبادة حريّ بالخسارة ومحروم من سلوك طريق السعادة.
فيا ترى، هل تهز هذه الكلمات المتخلفين عن صلاة الفجر وتجعلهم ينافسون الآخرين باستنشاق ريح الصبا ويكونون هم الأوائل الذين سيذكرون في قوائم المتعاقبين من الملائكة أمام الرب تبارك وتعالى ويكونون من رجال الفجر؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله وحده والعمل لما عنده والتنجّز لوعده والخوف من وعيده، فإنه لا يسلم إلا من اتقاه ورجاه وعمل له وأرضاه.
قال : ((يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم الله وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)) رواه البخاري ومسلم.
فما أسعد أولئك الرجال، جاهدوا أنفسهم وزهدوا في لذة الفراش ليحصلوا على البراءة من النفاق وليكونوا أهلاً لبشارة النبي بدخول الجنة ولينالوا شرف شهود الملائكة وسؤال الله عنهم.
عباد الله، إن للتخلف أسبابًا لا تخفى على ذي لب، فالسهر الطويل والعكوف على أجهزة اللهو والاجتماعات الليلية في كثير من الاستراحات من أعظم أسباب النوم عن هذه الصلاة العظيمة.
فاحرصوا ـ عباد الله ـ على النوم المبكر كما كان هديه ، فإنه لا يسهر بعد العشاء إلا لما ترجحت مصلحته. والسهر بعد العشاء إن كان سببًا في النوم عن صلاة الفجر فهو محرم، فما أوصل إلى الحرام فهو حرام، ولتحرصوا على آداب النوم والأدعية المأثورة قبل النوم وبعده، واستعينوا بعد الاستعانة بالله بالمنبهات والأهل والجيران، وبادروا بالاستيقاظ إذا أوقظتم، واعمروا قلبكم بالإيمان، وأكثروا من صالح الأعمال، فمتى حيي القلب دفع صاحبه إلى كلّ خير، ومتى خبا نور الإيمان في القلب كسل صاحبه من الطاعات وارتكب المحذورات، فالذنوب تقسي القلوب، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي، وتجنبوا فضول الكلام والطعام والشراب والنظر والسماع فإنها من أهم أسباب قسوة القلب. والمعاصي داء قتال، ما تخلف المتخلفون عن الصلاة إلا بسبب الذنوب، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.
وليكن مع ذلك وقبل ذلك همة عالية وحرص وتأمل فيما تقدَّمَ ذكره من الآثار الطيبة المترتبة على المحافظة على صلاة الفجر والآثار السيئة المترتبة على التخلف، فإن ذلك دافع للعبد إلى أن يحرص على ما ينفعه.
فاتقوا الله عباد الله، وحاسبوا أنفسكم على التقصير، وبادروا آجالكم بالصالح من أعمالكم، واستعدوا للموت فقد أظلكم، واعلموا أن الأجل مستور والأمل خادع والشيطان موكل بكم يزيّن لكم المعصية لتردوها، ويمنيكم بالتوبة لتسوّفوها، حتى تهجم على الواحد منا منيته أغفلَ ما يكون عنها، فيا لها من حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه وبالا أو تؤديه أيامه إلى شقوة.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة، ولا تقصر به عن طاعته غفلة، ولا تحل به بعد الموت فزعة، إنه سميع الدعاء.
هذا وصلوا وسلموا على النبي المصطفى والرسول المجتبى...
(1/3303)
الحرب المعلنة على المرأة
الأسرة والمجتمع
المرأة
حسين بن غنام الفريدي
حائل
22/4/1419
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمر الله بجهاد المنافقين والأصل فيه. 2- تركيز المنافقين وأعداء الإسلام على المرأة. 3- حال المرأة في المجتمع الجاهلي. 4- رفع الإسلام لمكانة المرأة وإقامة الشرائع لحفظها وصونها. 5- الدعوات الآثمة لتحرير المرأة وإخراجها من بيتها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله عز وجل يصل العبد إلى منازل الأبرار، وبتقوى الله ينجو من المهالك والأخطار، ويبتعد عن مسالك الشر والأشرار.
عباد الله، لقد أرشدنا المولى تبارك وتعالى إلى تتبع المجرمين والنظر في أفعالهم وطرقهم في هدم الدين فقال: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55]، وأمر عز وجل نبيه أن يجاهد المنافقين فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73]، فجهاد الكفار بالسيف والسنان، وجهاد المنافقين وأضرابهم من العلمانيين والمستغربين يكون بالحجة والبيان، لأنّ ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكيد لأهل الإيمان.
أولئك هم المروّجون لتغريب المرأة المسلمة المحتشمة، وهم الذين يباركون ما يخطّطه أعداء الإسلام، فينشرون الأفكار ويسعَون إلى التنفيذ، يعلنون للناس أنهم دعاة إصلاح، حالهم حال أسلافهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
يخدعون المؤمنين بحلو الكلام، ويخفون ما تنطوي عليهم قلوبهم من الإجرام، وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14].
يلبسون أفكارهم لباس الإصلاح والحرص على المصلحة، فانخدع بهم ضعاف الإيمان وناقصو العقول، فاستجابوا لدعوتهم، فجلبوا لبيوتهم الشرور والمفاسد، فقد تزعزعت العقيدة وتداخلت الشكوك وضعفت عند ذلك المناعة وغزتهم الأمراض.
عباد الله، كيد أعداء الإسلام عظيم وخطرهم جسيم، فمن ذلك ما يقومون به بين الفينة والأخرى من عقد المؤتمرات التي تتحدّث عن المرأة، مستهدفين بذلك المسلمات العفيفات حقدًا وحسدًا من عند أنفسهم، وما ذاك إلا لأنهم فطنوا لمكانة المرأة الأساسية ودورها في صنع الأمة وتأثيرها على المجتمع، فأيقنوا أنهم متى ما أفسدوها ونجحوا في تغريبها وتضليلها فعند ذلك تهون عليهم حصون الإسلام، بل يدخلونها وهي مستسلمة بدون أدنى مقاومة، لم يكفهم ما نعيشه هذه الأيام من ذل ومهانة، بل إنهم يريدون أكثر من ذلك، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
يقول شياطين اليهود عليهم لعنات الله المتتابعة: علينا أن نكسبَ المرأة، ففي أيّ يوم مدّت إلينا يدها ربحنا القضية. ولذلك نجح اليهود في توجيه الرأي العام الغربي حينما ملكوا المرأة عن طريق الإعلام وعن طريق المال، فأصبح الغرب بين أيديهم. ويقول أحدهم: كأسٌ وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوها في حب المادة والشهوات.
عباد الله، لقد كانت المرأة في الجاهلية مهانة في الأسرة والمجتمع طفلةً وشابة، استعبدها الرجال في ذلة وامتهان، إن سأَلت لا تجاب، وإن احتيج إليها فللسّعي والاحتطاب، لا وزن لها إلا بمقدار ما تطلبه نزوة الرجل ورغبته، ويومُ خروجها إلى الدنيا يومٌ تسود فيه الوجوه، وبشرى البشير بها سخَطٌ وعقاب، وبشراها دفنها في التراب، عقول فارقها رشدُها لبعدها عن نور الوحي من السماء وهدي الأنبياء، رجال رضعوا الوثنية وتربّوا على الكهانة، فنالت الجاهلية من المرأة أقسى منال، فحرمتها الحياة، فسبِيت المرأة وبيعت ووئدت ووُرِثت كما يورث المتاع، لا شأن لها ولا كرامة، فبينما المجتمع الجاهلي يتخبّط في دروب الحياة خبطَ عشواء في ظلمة ظلماء وهمجية رعناء ينبعث من بين ذلك الظلام فجر الإسلام ويشعّ نور الهداية، فتسمع الدنيا لأول مرة: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، ويسمع قوله: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، ويسمع قوله : ((استوصوا بالنساء خيرًا)) ، وبذلك يضع الإسلام الأسُس الكبرى لكيان المرأة الجديد، والذي ما لبث أن آتى ثمارَه في ظل المدرسة النبوية، فإذا المرأة إمام يستفتى في مسائل العلم، وإذا هي مُصلِحة وداعية إلى الله تعالى، بل زاد الإسلام المرأة كرامة على كرامة، فجعل الأم أحقّ بالإكرام من الأب، وحثّ على إكرام البنت والأخت، ورتّب الأجر العظيم على رعايتها والقيام بشؤونها والصبر عليها.
عباد الله، لقد وضع الإسلام للمرأة سياجًا قويًا مانعًا من الضياع، إذا هي أخذت به نجت، وإن هي أضاعته ضلت وهلكت، ذلكم هو سياج الحِشمة والعفاف الذي يكون من مقتضاه الحجاب الشرعي والقرار في البيوت والبعد عن مخالطة الرجال والبعد عن غشيان الأماكن العامة التي أقيمت بدعوى الترفيه وفيها ما فيها من إعطاء جرعات قوية في التفلّت من سياج الحشمة كما هو معلوم لديكم، ولا يخفى ذلكم عن ذي عقل مفكر وقلب واع.
وإن سياج الحشمة يجعل المرأة جوهرة في صدفة لا يعرفها إلا الخواص، فالإسلام يرى في الاختلاط خطرًا محقّقًا، فهو يباعد بينهما إلا بالزواج، وأعداء الإسلام يدركون قيمة هذا الحجاب وأثر قرار المرأة في بيتها في حماية نفسها وصيانة عفتها وطهارتها، لذلك تراهم يشنون حربًا على الحجاب فيصفونه بالظلم والجور وأنه دخيل على حياة المسلمين وأنه يحول دون تقدّم المجتمع ويؤدي إلى تدهور الاقتصاد.
وهم بذلك يزيّنون للمرأة الخروج من بيتها، حتى إنهم أغروها تارات وتارات بقيادة السيارة في هذا البلد الآمن المحافظ، وما بهم والله عطف على المرأة المسلمة ولا رحمة بها، وما بهم غيرة على الإسلام ولا حب بالمسلمين، وإنما هو الحقد الدفين والكيد المضمر والكراهية المكنونة في نفوسهم، هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ [آل عمران:119]، ولا أدل على ذلك من عقد المؤتمرات وتعالي الصيحات هنا وهناك لأجل تغريب المرأة وخاصة المسلمة.
إنه الحقد والكيد والحسد ملبّسًا بلباس الحرص على المصالح، لقد جرّبوا ذلك الضياع فعرفوه وحصلت لهم منه الويلات، تقول إحدى الإنجليزيات: "ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين، فيها الحشمة والعفاف والطهارة، نعم إنه لعار على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بمخالطة الرجال، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت وترك أعمال الرجال للرجال لسلامة شرفها" اهـ.
إن مَن عقَل مِن نسائهم ـ يا عباد الله ـ يقُلن بملء أفواههن: "يا نساء العالم، لا تصدّقن هذه الأكاذيب، ولا تغترِرن بهذه الكلمات المنمّقة التي يطلقها ذئاب البشر، فليس ما نحن فيه إلا واقع الخيبة والضياع، لا نشعر بسعادة حقيقية، ولا نحس بوجود حقيقي، فلا استقرار ولا أمن ولا طمأنينة، إنما هو القلق والحسرة والضيق النفسي والتبرم من كل شيء والانتقال من حضن رجل إلى حضن رجل آخر، نحن محرومات من الأمومة، محرومات من عشّ الزوجية الهانئ السعيد، محرومات من الاحترام الحقيقي النابع من قلب الإنسان وضميره، محرومات من أبسط حقوق الإنسان، لقد اضطرتنا حضارة الغرب المدمّرة بعد أن أخرجتنا من بيوتنا الزوجية وهدمتها فوق رؤوسنا إلى أن نعمل في المصانع والمتاجر والحقول والمناجم، فنرهق أبداننا بما لا نتحمله وبما لم نخلق له، بينما أهملت وظيفتنا الحقيقية ومهمتنا الطبيعية وهي إنجاب الأجيال وتربيتها، فأعطيت للمحاضن وأعطينا ما ليس لنا أصلاً، فأصبحنا نشقى لنأكل، ثم نضطر لإرضاء صاحب العمل ولو كان ذلك على حساب كرامتنا وشرفنا وعفتنا، فنقدّم أجسادنا قرابين له لكسب رضاه ولضمان استمرارنا في عمله".
عباد الله، هذا هو واقع تلك البلاد، أفَبَعد هذا كله يأتي من يقول: إن الإسلام ظلَم المرأة أو إن المرأة المسلمة سجينة مهانة لا شأن لها ولا كيان.
عباد الله،
أرى خلل الرماد وميض جمر وأخشى أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب مبدؤها الكلام
فإن لم يطفها عقلاء قومي يكون وقودها جثث وهام
عباد الله، إن بناتنا من أفضل ثمارنا وخير زروعنا، إنهن الرياحين الناظرة في حياتنا، إنهن فلذات الأكباد ومهج القلوب، وإن هذه الزروع يوشك أن تعصف بها ريح الإثم والجريمة، ريح التبرج والسفور، تنقلها إليهن وسائل الإعلام المختلفة والتي تنشد من المرأة وأد عفّتها وهي حية لا في التراب وإنما في براثن الرذيلة.
وإن المرأة بلا عفة ولا حشمة باطن الأرض خير لها من ظاهرها، إنها إذا وصلت إلى تلك الحال تكون سبة الدهر وعارًا لا تغسله مياه البحار.
فيا أيها الأولياء، ويا أيها الآباء، ويا أيها الغيورون، قولوا للمرأة: يا فتاة الإسلام، لا تسمعي كلام أعداء الدين، أولئك الذين يزينون لك حياة الاختلاط باسم الحرية والمدنية والتقدمية، فإن هؤلاء لا يهمهم منك إلا اللذة العارضة والشهوة العارمة والعشاء العامّ.
عجبت ـ يا عباد الله ـ لغيورٍ يذهب بنسائه وبناته إلى خارج هذه البلاد متبرّجات سافرات! هل هو معدوم الغيرة؟! هل أصابه جنون؟! لقد نقِل لي أن أحدهم أخذ بيد زوجته ليراقصها أمام الناس متبرّجة سافرة، أهذا فعل من نشأ في بلاد الحرمين؟! أهذا نهج من ولِد في مهبط الوحي ومنبع الرسالات؟! ألا نتقي الله؟! ألا نستحي من عباد الله؟! إن العالم الإسلامي ينظر إلينا بعين القدوة، ينظر إلينا أننا أحفاد الصحابة، فلماذا هذه الأفعال؟! لماذا لا نتناصح فيما بيننا؟! لماذا نخلي أنفسنا من مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟!
لقد سمعنا بانطلاقة الكثير في هذا الصيف إلى كثير من البلدان، زعموا جمال الطبيعة، زعموا رخص الأسعار، فوا عجبًا لمن يؤثر المال على الأعراض، وماذا يفيدك جمال الطبيعة إذا ذهب جمال الأخلاق؟!
عباد الله، لقد تحدّثت في خطبةٍ قبل ثلاثة أشهر عن خطر التبرّج والسفور، وذكرت كلامًا لا يسع المقام لإعادته، فخذوا من الإشارة ما يغني عن العبارة، وانصحوا لأنفسكم وأهليكم، واعلموا أنّ أعداء الإسلام لكم بالمرصاد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ [البقرة:109].
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، والشكر له وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأصلي وأسلم على سيد البشر الشافع المشفع في المحشر ما امتدّت عين بنظر وما سمعت أذن بخبر، وعلى آله وأصحابه السادة الغرر.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واحذروا كيد أعداء الله، إياكم أن تكونوا معاولَ هدم بأيدي عشاق الإباحية، واعلموا أنه لا سبيل لأعدائكم إليكم إلا حين تتخلون عن تعاليم دينكم.
ثم احذروا ـ يا عباد الله ـ من عقوبة تأخذ الصالح والطالح، وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، فلعلكم تسمعون ما حدث من هذه الفيضانات المدمّرة في عدد من دول العالم أودت بحياة عشرات الآلاف من الناس، واعلموا أنه لا نجاة لنا من غضب الله وسخطه إلا بالتوبة النصوح، وتفقُّد من أولانا الله أمرهم من هؤلاء النساء وحِفظهن والبعد بهن عن كل مسبب للفساد.
عباد الله، ولعلي لا أنسى في غمرة الحديث عن المثالب والأخطاء أن أدعو لتلك الأسرة المحافظة وتلك الأخوات الصالحات الداعيات لكلّ خير، يأمرن بالمعروف وينهين عن المنكر ويناصحن نساء المسلمين ويربين أولادهن على الصلاح والاستقامة والمحافظة على الصلاة مع جماعة المسلمين، فندعو الله لهن بالتوفيق والسداد وأن يكثر الله في المجتمع أمثالهن وأن يكنّ لأخواتهن الغافلات رائدات إصلاح ومشاعل هداية، فبأمثالهن تحرس الفضيلة، وبصبرهن يقضى على الرذيلة، ومن أرحامهن تخرج الأجيال المؤمنة، وبتربيتهن لهم تنتصر العقيدة فتتحقق بذلك سعادة الدارين ويحصل الفوز بالحسنيين.
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق
الأم روض إن تعهّده الحبا بالري أورق أيما إيراق
الأم أستاذ الأساتذة الأولى شغلت مآثرهم مدى الآفاق
فنسأل الله لنا ولهن الثبات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
(1/3304)
مداخل الشيطان
الإيمان
الجن والشياطين
حسين بن غنام الفريدي
حائل
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سياسة الشيطان في إغواء بني آدم. 2- مداخل الشيطان إلى ابن آدم. 3- الخروج عن المنهج الوسط. 4- وساوس الشيطان. 5- الكمال الزائف والتواضع الكاذب. 6- حرص الشيطان على إغواء بني آدم. 7- سبل الوقاية من الشيطان الرجيم. 8- تبرؤ الشيطان من أتباعه يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إننا لا نخشى على النفوس الكافرة من الشيطان؛ فتلكم نفوسٌ مظلمة قد ضرب الشيطان أطنابه فيها ورتع، فزين لها سوء أعمالها حتى تولته وألفته، ولكن الخوف كل الخوف على أنفس مؤمنة لم تحسب للشيطان حسابًا في واقعها، فباتت غافلة عنه غير آبهة بمكره وألاعيبه.
عباد الله، إن الشيطان حقيقة راسخة، له ذرية وأتباع يسعون في غواية البشر مع كل واحد منا قرين منهم كما في الحديث الذي رواه ابن مسعود: ((ما منكم من أحد إلا وقد وكِّل قرينه من الجِنة وقرينه من الملائكة)) ، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: ((وإياي، ولكن الله عز وجل أعانني عليه فلا يأمرني إلا بحق)) رواه مسلم.
عباد الله، مداخل الشيطان تأتي من قبل صفات الإنسان، فلئن كان الشيطان أخرِج من الجنة بالحسد والكبر فإنّ آدم أخرِج منها بالحرص والطمع.
الشيطان له سياسة في إغواء البشرية، تتمّ على مراحل وخطوات حذّرنا الله منها فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:168، 169].
وتترقّى خطوات الشيطان التي يستدرج بها ابن آدم حتى يتّخذه معبودًا له من دون الله، فيضله ويهديه إلى عذاب السعير، ويأتي قبل الكفر مسالك أخرى من خطواتِ البدع والأهواء والشبهات والشهوات.
وله في ذلك انتصارات ونشوات، يوقع المرء بالكبائر تارة، ويهوّن عليه الصغائر تارة أخرى، فإن لم يفلح في هذا ولا ذاك شغله بالمباحات وحثّه على التزوّد منها، حتى يؤثر بذلك على كثير من الواجبات، ومن ثم يشغله بالمفضول من الأعمال حتى لا يقوم بالفاضل. وقلّ من الناس من يتنبه لهذا فإن الشيطان قد يأمر بألف باب من الخير ليتوصّل إلى باب واحد من الشرّ، فليتنَبَّه لذلك الصالحون.
إخوة الإيمان، إن الشيطان حريص في دعوته، يتدرج في المضمون، يأخذ الإنسان خطوة خطوة ويتدرّج به إلى أن يصل إلى هدفه، وهو يدخل على كل نوعية من الناس بالطريقة التي تناسبها، يدخل على الزاهد بطريقة الزهد، وعلى العالم من باب العلم، وعلى الجاهل من باب الجهل، وعلى المحتسب من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومداخل الشيطان على العباد كثيرة يصعب حصرها، ولكن له أبواب أساسية يدخل منها على الإنسان، فالغضب والشهوة والرغبة والرهبة من أوسع أبواب مداخل الشيطان على الإنسان.
يقول سفيان الثوري: "ليس للشيطان سلاح للإنسان مثل خوف الفقر، فإذا وقع في قلب الإنسان منَعَ الحقَّ وتكلّم بالهوى وظنّ بربه ظنَّ السوء". الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ أي: البخل، وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].
والغضب تمرّد شيطاني على العقل وحالةٌ من الخروج عن جادة ذوي الرجاحة والأسوياء، روي عن بعض الأنبياء أنه قال لإبليس: بم غلبتَ ابن آدم؟ قال: عند الغضب وعند الهوى.
أما الأماني فذلكم هو السلاح الشيطاني المضاء: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [النساء:120]، ويدخل في ذلك التسويف والتأجيل وطول الأمل، فيقول واحد: إذا أنهيت دراستي أتوب وأدعو إلى الله، فإذا انتهى من ذلك قال: أؤجّل ذلك حتى أستلمَ الوظيفة، فإذا استلم الوظيفة قال: أنا مشغول بكسب اللقمة، وهكذا يؤجّل ويسوّف حتى تأتيه منيته وهو على ذلك، وهذا والله من المداخل الخطيرة على الصالحين، يقول ابن الجوزي: "وكم من عازم على الجدّ سوّفه ـ أي: الشيطان ـ فلربما عزم الفقيه على إعداد درسه فقال: استرح ساعة، وما زال الشيطان يحبّب الكسل ويسوّف العمل، ولربما دخل الشيطان على العابد يريد الصلاة في الليل فيقول له: ما زال وقت الليل طويلاً حتى يأتي الصباح وهو ما صلى".
وهكذا ـ يا عباد الله ـ تنقضي أعمارنا ونحن في بحر الأماني نسبح وفي سبيل الغواية نخوض، نوعد بالباطل ونُمَنّى بالمحال، والنفس الضعيفة المهينة تغتذي بوعده وتتلذذ بأباطيله وتفرح كما يفرح الصبيان والمعتوهون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولنعلم ـ أيها الإخوة الفضلاء ـ أن الخروج عن الوسط ومجاوزة حدّ الاعتدال مسلك شيطاني وأسلوب ماكر، يقول بعض السلف: "ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط وتقصير وإما إلى مجاوزة وغلوّ، ولا يبالي إبليس بأيهما ظفر".
وإن حبائل الشيطان بين هذين الواديين تحبك وتحاك، فقد غلا قوم في الأنبياء وأتباعهم حتى عبدوهم، وقصّر آخرون بذلك حتى قتلوهم، وطوائف غلوا في الشيوخ وأهل الصلاح، وآخرون اجتنبوهم وأعرضوا عنهم، بل وشتموهم وسعوا بهم وحسدوهم.
وإذا نظرتَ في فروع الأحكام فإنك سترى أناسًا قصّروا بواجبات الطهارة وتجاوز آخرون إلى الوسواس. وفئام من الناس جعلوا تحصيل العلم غايتهم وأهملوا عملَ القلوب والجوارح، فتخبطوا في مطالب الهوى، فزين لهم الشيطان سوء أعمالهم، وآخرون تركوا فروض الأعيان المتعيّنة فلم يتعلموها.
إن أسوأ ما يصنعه القرين من الشيطان أن يصدَّ قرينه عن سبيل الحق، ثم لا يدعه يفيق ولا يستبين، بل يوهمه أنّه سائر على الطريق المستقيم حتى يفاجأ بالمصير الأليم، إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:30].
معاشر الصالحين، لتعلموا أن الشيطان لا يوقّر أحدًا، وما من أحد معفى من وساوسه، فهو يجري من ابن آدم مجرى الدم، فإياكم أن يفوز بالاستحواذ عليكم ولو زخرف لكم القول ولو أظهر لكم النصح.
وجاهد النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النصح فاتهِمِ
إن من الأساليب الماكرة التي نجح بها الشيطان مع بعض الصالحين الكمال الزائف، فيشعر الإنسان بأنه كامل خاصةً عندما يقارن بين حاله وحال أهل الفسق حتى يصابَ بما يسميه البعض بغرور التديّن، خاصة عندما يكون له مريدون أو قد تميّز على بعض أقرانه ببعض المواهب، فيهتمّ بعمل الجوارح الظاهرة ويغفل عن عمل القلوب، وفي ذلك مزلّة أقدام، وما أتي المنتكسون إلا من هذا الباب.
فعليك ـ يا أخي ـ أن تخشى على نفسك وأن تكون ممن قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61].
فلربما كان هذا الفاسق خير منك عند الله، لربما كان في قلبك من العجب والغرور ما يحبط عملك وعنده من الانكسار والخوف والندم ما يوفّق بسببه إلى التوبة النصوح، وأعوذ بالله أن أقرّ بذلك الفسقَ وأهله، ولكن أدعو بذلك إلى التريّث وطلب الخير للغير والبعد عن العجب والغرور.
ومن الأساليب أيضًا إنكار الذات وادّعاء التواضع هربًا من القيام بأعباء الدعوة والنصح للخلق.
ومن مداخله تشكيك العابد المجتهد العامل بصحّة مساره حينما يرى كثرة المخالفات الشرعية وتهافت الناس على الشهوات المحرمة فيقول له: هل الناس كلهم على خطأ وأنت الذي على الحق؟! فحذار ـ يا أخي ـ أن تنطلي عليك هذه الخديعة، يقول الله تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].
وحذرنا رسولنا الكريم أن يكون أحدنا كالإمعة، إن أحسن أحسن وإن أساؤوا أساء، بل أمرنا أن نوطّن أنفسنا؛ إن أحسن الناس أحسنّا، وإن أساؤوا اجتنبنا إساءتهم. ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك).
وقد يدخل الشيطان على العبد بتشكيكه في نيته، فإذا عمل طاعة قال له: أنتَ مراء، فالجاهل يترك العمل خوفَ الرياء، وكم وقع للشيطان من ضحايا من قِبَل هذه الشبهة حتى تخلّف البعض عن صلاة الجماعة خوف الرياء زعموا. يقول الحارث بن قيس رضي الله عنه: (إذا أتاك الشيطان وأنت تصلّي فقال: أنت مرائي فزدها طولاً)، ولا يعني ذلك أن يهملَ العبد هذا الجانب، بل عليه أن يتعاهد نيته ويخشى على نفسه من الرياء، ولكن ليس بترك الطاعات والتفريط بالواجبات.
يقول ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي كلهم لا يأمن على نفسه من النفاق. والمقصود بذلك النفاق العملي، فالنفاق لا يأمنه إلا منافق ولا يخاف منه إلا مؤمن.
عباد الله، لقد أخذ هذا اللعين الميثاق على نفسه ليقعدنّ لابن آدم على كل طريق: لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16، 17].
لئن كان هدّد بذلك وتوعّد فإن كيده ضعيف ومكره يبور إذا تسلح العبد بسلاح الإيمان والعقيدة النقية: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]. ولكن الذي ساعده على تحقيق مآربه وأهدافه الجهل بمداخله، فالعالم أشدّ على الشيطان من ألف عابد، وكذلك الهوى وضعف الإخلاص والغفلة وعدم التنبه لأساليبه وطرقه، كل ذلك جعل كيده شديدًا على العبد، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ [الحجر:42]، وقال تعالى: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:100].
وعلى الرغم من وضوح ذلك وجلائه فقد يزلّ المؤمن ويخطئ، لكن سرعان ما يلوذ بربه ويلجأ إلى ذكره ويتوب إليه من قريب فيخنس شيطانه، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، صلتُهم بالله وثيقة تعصمهم من الانسياق مع عدو الله، وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200].
أعوذ بوجه الله الكريم وكلمات الله التامات اللاتي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء وشر ما يعرج فيها وشر ما ذرأ في الأرض وشر ما يخرج منها ومن فتن الليل والنهار ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:5، 6].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، ولوذوا بجنابه، واعتصموا بذكره، يحمِكم من كيد الشيطان ومكره. فالإيمان بالله والتوكل عليه وحده يحمي الإنسان من الشيطان، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:99]، والتحصن بالعلم الشرعي من مصادره الصحيحة والإخلاص لله وتعاهد ذلك كل حين ووقت، فإن المخلصين لا سبيل للشيطان إليهم، فقد استثناهم فقال: إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ [ص:83]، كما ذكر الله عنه.
وذكرُ الله والاستعاذة من همزات الشياطين وقراءة المعوذتين، فقد ورد أنهما تمنعان من الشيطان، وكذلك قراءة آية الكرسي، فمن قرأها فلا يزال عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان، وذلك قبل النوم، وكذلك في أدبار الصلوات، وقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" مائة مرة فهي حرز من الشيطان سائر اليوم لمن حافظ عليها كما في رواية عند الإمام مسلم.
يا عبد الله، إذا جاءك الشيطان من قبل الشك والريب فاغلبه باليقين، وإذا جاءك من قبل الكسل فاغلبه بذكر القبر والقيامة، وإذا جاءك من قبل الرغبة والرهبة فأخبره أن الدنيا مفارقة متروكة. فوالله الذي لا إله غيره، ما أيقن عبد بالجنة والنار حقّ يقينهما إلا خشع واستقام واقتصد حتى يأتيه الموت.
عباد الله، لكم هو محزن ومؤلم أن يطاع الشيطان ويتّبَع ثم بعد ذلك يتبرأ من أتباعه حينما ينتهي الأمر ويأتي الجزاء، قال تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم:22].
لتتصوروا ـ يا عباد الله ـ تلكم الحسرات والزفرات من أهل الجحيم الذين عصوا الله في الدنيا وماتوا على ذلك، لقد ذهبت عنهم الملذات وفارقوا الشهوات وكتبت عليهم السيئات، فلم يبق لهم إلا البكاء والآهات والأنين والعبرات. هذا هو الذي كان يعدهم ويمنيهم يتبرأ منهم، فكيف يرضى عاقل لنفسه هذا المصير؟! أم كيف يغفل المؤمن عن هذا الموقف الخطير؟!
فاتقوا الله عباد الله، وأخلصوا العبادة لربكم، والزموا الجماعة، والتزموا بالكتاب والسنة، واستعينوا بالله على الشيطان، وأكثروا من الطاعات ومن الاستعاذة بالله من وساوس الشياطين، ليتحقق لكم بذلك الفلاح والفوز برضا الله تبارك وتعالى.
اللهم إن إبليس عبد من عبيدك ناصيته بيدك يرانا من حيث لا نراه وأنت تراه من حيث لا يراك، اللهم إن أرادنا بكيد فاردده، وإن أرادنا بسوء فاصرفه، ندرأ بك اللهم في نحره، ونعوذ بك اللهم من شره.
اللهم أصلح فساد قلوبنا، وردنا إليك ردًا جميلاً، اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا ونحن نعلمه، ونعوذ بك مما لا نعلمه...
(1/3305)
قل هو من عند أنفسكم
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
حسين بن غنام الفريدي
حائل
11/5/1421
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القرآن كتاب إصلاح وهداية. 2- كثير مما يصيبنا إنما هو بسبب ذنوبنا ومعاصينا. 3- ضرورة إصلاح القلب. 4- ظاهرة إصلاح الظاهر وإهمال الباطن. 5- ذم الحسد والحقد والدعوة إلى سلامة الصدر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فالموصى بها كثير، والعامل بها قليل.
عباد الله، القرآن كتاب الله تستقى منه المعارف الحقّة، ويضبط المسلم في مسيرته. يحفظ نقاء فطرته وسلامة سريرته. ولقد حمل بين دفتيه الشهود التاريخية بما قصّ من أخبار الماضين والشهود الحضارية بما تجسّدته سيرة سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام.
فواجب على كل مسلم وكلّ عالم وكل رجلِ دعوة أن يعلم أنّ أي محاولة للإصلاح تتجاوز القرآن فهي محاولة خاسرة. فيه خبر من قبلنا ونبأ من بعدنا وحكم ما بيننا، ولكن بعضنا كأهل الكتاب لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون.
فيا أهل القرآن، ومن أجل مزيد من الاعتبار فهذه وقفة تأمّل وتدبر مع آية من كتاب الله تحمل بين طياتها العبر والدروس، وتؤكد على تصحيح المسار وتجنّب الأخطار، تضرب المثل بقوم هم من خير القرون، مؤكّدة أن سنن الله ماضية وحكمه نافذ، جاءت إجابة شافية لتساؤل الصحابة عما أصابهم يوم أحد، مبيّنة سبب ذلك. البلاء الشديد، قال الله تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165].
فأنفسكم هي التي تخلخلت وفشلت وتنازعت في الأمر، أخلت بشرط الله ورسوله ، وأنفسكم هي التي خالجها الهواجس والأطماع، فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم وتقولون: كيف هذا؟! هو من عند أنفسكم بانطباق سنن الله عز وجل عليكم حين عرّضتم أنفسكم لها.
وما ذاك ـ يا عباد الله ـ إلا درس وتمحيص من شأنه أن يرد أخطاءهم وتقصيرهم خيرًا وبركة في النهاية، بعد استيفاء ما يترتب عليها من التضحية والألم والفرح.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:53].
عباد الله، ومن مفهوم هذه الآيات يتبين لنا خطورة العوائق الداخلية في أنفسنا، والتي لها دور كبير فيما وصل إليه حالنا من فشو بعض المنكرات وكثرة المخالفات، فما ذاك إلا بسبب ما انطوت عليه القلوب من منكرات أعظم وما تلبست به من هفوات أخطر.
إننا كثيرًا ما نلقي أسباب ذلك على المؤثرات الخارجية من غزوٍ فكريّ وكيد صهيوني ومخطّط علماني، ولا شكّ في خطورة ذلك، لكن ما كانت هذه الأخطار لتؤدي دورها لو صدقنا مع الله، أليس الله يقول: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]؟! لو أقمنا ديننا في قلوبنا لقام على أرضنا.
واسمحوا لي أن أخصّ بالحديث من انبرى للدعوة إلى الله ومن يهمّه أن تزول هذه المنكرات ويقضّ مضجعه كثرة الموبقات حديثَ مصارحة ودعوة للمحاسبة، فإننا ـ معشر الدعاة ـ كثيرًا ما ننسى أنفسنا ونحن ندعو غيرنا، نهتم بالآخرين ونفتّش في معايبهم وننسى في غمرة الموضوع نفوسنا وما فيها من أمراض ومخالفات قد تفتك بنا يومًا من الأيام، وإن نسيان النفس لأمر خطير، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19].
إننا بحاجة ماسة للعزيمة الصادقة والوقفة الشجاعة مع هذه النفوس لنفتش وننقّب في أعمالنا الظاهرة والباطنة، وسيتبيّن لنا عند ذلك أمور وأمور، فوالله لولا ستر الله عز وجل ورحمته لما قبل الناس منا كلمة واحدة، وإنما زيّننا في عيون بعضنا جميل ستر الله علينا.
لا أقول ذلك لأفضح المستورَ وأهتك الحجب ليتشفّى من ذلك الآخرون المفسدون، وإنما هي دعوة لنفسي وإخوتي لتصحيح المسار، فهذا ربنا يعاتب رسوله على مسمع من الناس، ويعاتب الصحابة الكرام بقرآن يتلى إلى يوم القيامة، فليس في الأمر غضاضة.
إنه تنبيه للغافل وتذكير للناسي لإصلاح فساد القلوب، ولا ينفع العلاج ما لم يعرَض المرض، وإن الاعتراف بوجود المرض مصيبة، ولكن أشد من ذلك وأعظم أن يكون المرض موجودًا فلا يعترف به صاحبه، فيؤوِّل لنفسه ما هو واقع فيه.
إن هذه الأمراض الظاهرة والباطنة لهي أعظم سبب في عدم القدرة على التأثير في الناس والقضاء على المنكرات، فكم من شخص قد أعجِب الناس بحديثه وكبر في عيونهم قد أحسن الوعظَ والتذكير والتدريس والخطابة وأظهر الحرقة على الدين وفي قلبه من المرض ما الله به عليم.
عباد الله، هذا القلب هو ملِك الأعضاء، إذا صلح صلحت وإذا فسد فسدت، لا ينفع عند الله إلا القلب السليم، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
من عرف قلبه عرف ربه، وكم من جاهل بقلبه ونفسه والله يحول بين المرء وقلبه.
القلب هو الأصل، فالإيمان قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح، ومع عظم شأنه تتشاغل بغيره من الأعمال الظاهرة، ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله وألا وهي القلب)) متفق عليه.
بصلاح القلب تصلح النيات والمقاصد، وتصلح العين فلا تنظر إلى حرام، وتصلح الأذن فلا تسمع إلا حلال، ويصلح اللسان فلا ينطق إلا بمباح، وتصلح اليد والرجل، بل كل كيان الإنسان مرهون بصلاح القلب. ولكن دأب الكثير من الناس على الغفلة عن ذلك، فقد نجد من أصيب بأمراض القلوب ودسائسها قد حافظ على الأعمال الظاهرة وتورّع عن بعض الصغائر والمشتبهات.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: "رأيت كثيرًا من الناس يتحرزون من رشاش النجاسة ولا يتحرجون من غيبة، ويكثرون من الصدقة ولا يبالون بمعاملات الربا، ويتهجدون بالليل ويؤخرون الفريضة عن الوقت، في أشياء يطول عددها من حفظ فروع وتضييع أصول، فبحثت عن سبب ذلك فوجدته في شيئين: أحدهما العادة، والثاني غلبة هوى في تحصيل المطلوب، فإنه لا يترك سمعًا ولا بصرًا".
قال شيخ الإسلام كلامًا نفسيًا في هذا يقول: "وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، ومن لم يفهم ذلك فقد يدع واجبات ويفعل محرمات ويرى ذلك من الورع".
عباد الله، إن الأمر من الخطورة بمكان، فكم من إنسان يصلح أعماله الظاهرة قد يكون في قلبه دسيسة من شبهة أو شهوة لا يعلمها الناس، ولكن يعلمها علام الغيوب، فيؤدي ذلك به إلى خاتمة السوء، كما جاء في الحديث: ((إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة)) رواه البخاري ومسلم. فلا يعجب أحد بطاعة، ولا يتقاعس مذنب عن التوبة.
وإن من أعظم أمراض القلوب الحسد، قليل من هو سالم منه، ولكن بين مقل ومكثر، وهو تمني زوال النعمة عن صاحبها أو هو كراهية نعمة الله على الغير ولو لم يتمنَّ زوالها. وإن الغل والحقد والشحناء والبغضاء كل أولئك ثمرة من ثمار الحسد ومعارضة لعلم الله عز وجل وحكمته وقدرته.
عباد الله، ما أسرع ما يتسرب الإيمان من القلب الغشوش، وعند ذلك لا يكون في أداء العبادة لذة ولا تستفيد منها النفس تقوى ولا عصمة. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((خير الناس ذو القلب المخموم واللسان الصادق)) ، قيل: ما القلب المخموم؟ قال: ((هو التقي النقي الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة)) ، قيل: فمن على أثره؟ قال: ((مؤمن في خلق حسن)) رواه ابن ماجه وصححه الألباني. وقال : ((لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا)) رواه البخاري.
فيا معاشر الدعاة، أصلحوا ذات بينكم، وأزيلوا الشحناء من بيوتكم، واعلموا أن نعم الله عز وجل ورحمته لا ينزلان على قلوب متنافرة ومتباغضة، طهروا قلوبكم من الغل، أحبوا لإخوانكم ما تحبونه لأنفسكم.
إلام الخلف بينكم إلاما وهذي الضجة الكبرى علاما
وفيمَ يكيد بعضكم لبعض وتبدون العداوة والخصاما
وإن هناك رذائل كثيرة حذر منها الإسلام تختلف في مظاهرها، لكنها تعود إلى علة الحسد والحقد، وهي الكذب والافتراء على الأبرياء وقول الزور والغيبة والنميمة، كلها رذائل ذات مصدر واحد، فمن أراد أن يتخلص منها فليصلح قلبه وليطهره من الحسد، بذلك تصلح شؤوننا كلها، ويكون لدعوتنا أثر على الناس، وتجتمع كلمتنا على إنكار المنكر، فلا يضرنا كيد الكائدين ولا تدبير العلمانيين، وإلا فما قيمتنا عند الله وعند الناس حين ندعو الناس ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونحن متلبسون بأعظم مما عندهم من الحسد والغش والشحناء ولم نصلح بمعالجة نفوسنا.
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
عباد الله، جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير)) ، فهي سليمة نقية خالية من الذنب سالمة من العيب، يحرصون على النصح والإخلاص والمتابعة والإحسان، همتهم في تصحيح العمل أكبر منها في كثرة العمل، لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، أوقفهم القرآن فوقفوا، واستبانت لهم النسة فالتزموا، يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]. رجال مؤمنون ونساء مؤمنات بواطنهم كظواهرهم بل أجلى، وسرائرهم كعلانيتهم بل أحلى، وهممهم عند الثريا بل أعلى، إن عرِفوا تنكّروا، تحبهم بقاع الأرض وتفرح بهم ملائكة السماء.
عباد الله، لنسعَ أن نكون من أصحاب القلوب الحية، صائمين قائمين خاشعين قانتين، شاكرين على النعماء، صابرين في البأساء، لا تنبعث جوارحنا إلا بموافقة ما في قلوبنا، متجردين من الأثرة والغش والهوى، يجمع بين حسن المعرفة مع صدق الأدب وسخاء النفس مع حصافة العقل. لتكن أيدينا بريئة وصدورنا طاهرة، نتحاب في جلال الله، نغضب إذا انتهكت محارم الله، أمناء إذا ائتمنا، عادلون إذا حكمنا، منجزون إذا وعدنا، موفون إذا عاهدنا، جادون إذا عزمنا، نسعى في مصالح الخلق، نضيق بآلامهم، سالمون من الغل، نحسن الظن بالخلق، نحمل الناس على أحسن المحامل، لا نسعى لأهوائنا ولا بخصوص أنفسنا إن خالفت شرع الله، بذلك نعالج أنفسنا ونحقق أملنا في حياة قلوبنا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها الناس، من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آت قريب، وأيما شغل عن الله فهو شؤم. التوفيق خير قائد، والإيمان هو النور، والعقل خير صاحب، وحسن الخلق خير قرين.
يقول بعض الصالحين: يا عجبًا من الناس يبكون على من مات جسده ولا يبكون على من مات قلبه، شتان بين من طغى وآثر الحياة الدنيا وبين من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.
تمرض القلوب وتموت إذا انحرفت عن الحق وقارفت الحرام، إذا ملئت بالحسد وعمرت بالشهوة الخفية، إذا سعت إلى الهوى وتركت الحق، إذا حلمت الأطماع وسعت إلى التصدر، فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5].
تمرض القلوب وتموت إذا فتنت بآلات اللهو وخليع الصور، نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67]، أولئك هم الفاسقون.
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
وما أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
يقول الحسن رحمه الله: "ابن آدم، هل لك بمحاربة الله من طاقة؟! فإن من عصى الله فقد حاربه، وكلما كان الذنب أقبح كان في محاربة الله أشد، ولهذا سمى الله أكلة الربا وقطاع الطريق محاربين لله ورسوله لعظم ظلمهم وسعيهم بالفساد في أرض الله". قال: "وكذلك معاداة أوليائه، فإنه تعالى يتولى نصرة أوليائه ويحبهم ويؤيدهم، فمن عاداهم فقد عادى الله وحاربه".
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وتوبوا إلى ربكم، وأصلحوا فساد قلوبكم.
(1/3306)
مشاهد من حياة الصديق
سيرة وتاريخ
تراجم
حسين بن غنام الفريدي
حائل
21/5/1414
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معرفة سير الصالحين كفيل بالنهوض من الواقع المر. 2- شيء من أخبار الصديق في الجاهلية. 3- بذل الصديق وتضحيته في سبيل نصرة الدين. 4- أبو بكر يدعو إلى الإسلام. 5- مواقف للصديق في البذل للإسلام. 6- بعض ما جاء في فضل الصديق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله حق تقاته، وقفوا عند عجائب صنعه وآياته، وسيروا سيرة سلفكم تبلغوا مرضاته.
أيها الجمع الكريم، اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن آخر هذه الأمة لن يصلح إلا بما صلح به أولها، وإن أصحاب الرسول هم خير الخلق بعد الرسل والأنبياء، وإن معرفة أحوالهم لتضيء الطريق أمام المؤمن، فمن هنا كان لزامًا علينا معرفة أخبارهم ونشر سيرهم ليعلم المسلمون أن هؤلاء هم نقلة الإسلام، والمحافظة على الإسلام تستوجب العناية بتاريخهم، لئلا يجد أعداء الإسلام ممن تسمّوا به ظلمًا وزورًا سبيلاً للطعن في الإسلام عن طريق نقلته، فدعت الحاجة إلى بيان فضلهم ردعًا لهؤلاء الأعداء الذين كفّروا الصحابة وأسقطوا عدالتهم كي يهدموا الإسلام من قواعده.
فإلى رجل من أولئك الأفذاذ، رجل عظيم القدر رفيع المنزلة، عبَدَ الله متأسيًا برسول الله ، وجاهد في الله وأنفق لله وانتصر لله، نصر الرسول إذ خذله الناس، وآمن به إذ كفر به الناس، وصدقه إذ كذبه الناس. جهل قدره الكثير من أبناء المسلمين وبخسوه حقه وهضموه منزلته.
إن بعض أجيالنا يعرف عن مغنّية أو ممثّل أو لاعب أو تافه رخيص أو ساقط أو ساقطة أكثر مما يعرفه عن هذا العلَم، تجاهله حتى الخطباء والوعاظ والكتاب، ربما لأنه عظيم بجوار من هو أعظم، فغطت عظمة صاحبه عليه، إنه أول من آمن من الرجال على الصحيح، إنه الورِع الحيِي الحازم الرحيم التاجر الكريم، صاحب الفطرة السليمة من أدران الضلال، لم يؤثر عنه أنه شرب خمرًا قط، ولا سجد لصنم قط، ولم يأكل ربًا قط، ولم يكذب قط لا في الجاهلية ولا في الإسلام، شبيهًا بالمصطفى وأنعِم به من شبه.
إنه من لا يخفى عليكم، إنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ولعن الله من أبغضه وعاداه. إنه الذي دعي إلى الإسلام فما كبا ولا نبا ولا تردد، وإنما بادر للتصديق بالمصطفى ، كيف لا يصدقه وهو صاحب الفطرة السليمة والإسلام هو دين الفطرة؟! كيف يكذب رسول الله وهو يعلم من صفاته وصدقه وأمانته؟!
فتعالوا لنستعرض مشاهد من حياة الصديق نحن أحوج ما نكون إليها ونحن على هذه الحال التي في الغالب قد تسر العدو وتحزن الصديق، كل هذا ليعلم أن ما نحن فيه بسبب بعدنا عن منهج أبي بكر وغيره من صحابة رسول الله ، وكل ذلك بما كسبت أيدينا ويعفو الله عن كثير، لنعلم أنه يوم توارى أمثال هذا الرجل ظهر الفساد وتطاولت الأقزام ونطق الرويبضة.
وجدير إذا الليوث تولت أن يلي ساحها جموع الثعالب
عباد الله، فإلى المشهد الأول من حياة الصديق: ذكر ابن كثير في سيرته عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أجمع أصحاب النبي ألح أبو بكر على رسول الله بالظهور وعدم الاختفاء فقال : ((يا أبا بكر، إنا قليل)) ، فلم يزل أبو بكر يلح على إظهار النور حتى وافقه على ذلك، وظهر رسول الله والمسلمون وتفرقوا في نواحي المسجد، وقام أبو بكر خطيبًا في الناس وثار عليه المشركون فضربوه ضربًا شديدًا حتى إن عتبة دنا منه فجعل يضرب وجهه بنعلين مخصوفتين، ثم نبذوه على بطنه حتى ما يعرف وجه أبي بكر من أنفه رضي الله عنه، وجاء بنو تميم قوم أبي بكر وأجلوا عنه المشركين وقالوا: لئن مات لنقتلن عتبة ثأرًا لأبي بكر. أما أبو بكر فمغمى عليه لا يتكلم بكلمة، فرجع إليه قومه ليكلموه فما تكلم إلا آخر النهار. ترى بم تكلم؟ قال: ما فعل رسول الله ؟ فسبه قومه وعذلوه؛ إذ هم كفار ثم تركوه. أما أمه فقامت تلح عليه أن يطعم شيئًا وهو يقول: ما فعل رسول الله ؟ فلما علم أن الرسول بخير قال: أين هو؟ قالوا له: في دار ابن الأرقم، قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعامًا ولا شرابًا حتى آتي رسول الله ، وانتظروا حتى هدأت الرجل وسكن الناس ثم خرج يتوكأ على أمه وأم جميل فاطمة بنت الخطاب، حتى أدخلتاه على رسول الله ، فلما رآه الرسول قبله وأكب عليه المسلمون ورق له رسول الله رقة شديدة لما يرى منه، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي ليس بي بأس إلا ما نال الناس من وجهي، ثم قال: يا رسول الله، هذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادع الله لها وادعها إلى الله أن يستنقذها من النار، قال: فدعاها ودعا لها الرسول فأسلمت.
همه رضي الله عنه أن يستنقذ الناس من النار، والأقربون أولى بالمعروف، والله لموقف أبي بكر هذا مع المصطفى في سبيل الله ساعة أفضل من عبادة أحدنا عمره كله.
يقول بكر بن عبد الله المزني بإسناد صحيح: "إن أبا بكر لم يفضل الناس بكثرة صلاة ولا صيام وإنما فضلهم بإيمان وقر في قلبه".
المشهد الثاني: ما إن شهد أبو بكر شهادة الحق حتى انطلق داعيًا إلى الله؛ لأن الدعوة من مقتضيات "لا إله إلا الله"، وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3]. فلم يرجع إلا ومعه ستة من العشرة المبشرين بالجنة.
خرج رضي الله عنه وعمره في الإسلام لا يتجاوز بضعة أيام ويعود بأول كتيبة من كتائب الإسلام، ويسلم على يديه عثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن وأبو عبيدة رضي الله عنهم أجمعين.
أرأيت عطاء للإسلام كهذا العطاء؟! قد يعيش بعضنا ستين أو سبعين عامًا ويحفظ القرآن كاملاً ويحفظ كثيرًا من الأحاديث ولا تكاد تجد في صحيفة أعماله رجلاً واحدا اهتدى على يديه، وهذا أبو بكر لم يحفظ إلا بضع آيات وفي أيام قلائل يرجع بهذا العطاء العظيم، إنه درس لنا جميع فلنتدبر ولنعمل. ما السبب يا ترى في ذلك؟ إنه نقص الصدق والإخلاص لضعف الإيمان في القلوب.
حصان إخلاصنا لا زال يسمعنا صهيله غير أننا ما امتطيناه
فهلا صدقنا الله وأخلصنا النوايا، لتنقاد القلوب لنا كما انقادت لأبي بكر، نرجو الله أن يمن علينا بذلك.
المشهد الثالث: تلفت أبو بكر وقد جعل هويته ورسالته للإسلام، تلفت فإذا ميدان قد صح، وإذا المستضعفون من المؤمنين قد صب عليهم العذاب، عطّشوهم جوّعوهم عذّبوهم، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد.
ويا أيها الأحبة في الله، إن الضّلال والظلم والجور والكفر والنفاق في كل زمان، فهو لا يملك الإقناع والحجة وإنما يملك القوة والبطش، ولكن أنّى لقلوب آمنت بالله أن تخضع؟! رأى أبو بكر نفوسًا مؤمنة صلت صنوف العذاب، جُرّوا في الرمضاء، ضرِبوا بالسياط، ألبِسوا أدرع الحديد، صهِروا بالشمس، كووا بالنار. هكذا فالابتلاء سنة من سنن الله في هذا الكون لا تتوقف؛ ليميز الله الخبيث من الطيب، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2، 3].
فلما رأى تلك المناظر جمع أمواله وصفّى تجارته ثم انطلق يشتري الأرقّاء ويعتقهم لوجه الله، لا يريد منهم جزاء ولا شكورًا، أنفق من أمواله أربعين ألف دينار في سبيل الله ليحقّق الشعور بالجسد الواحد، وكان ممن أعتق بلالاً وعمارًا وأم خميس وزنيرة والنهدية وابنتها وغيرهم كثير.
ويتكلم بعد ذلك المنافقون في نفقات أبي بكر، وأنه أعتق بلالاً ليد كانت لبلال على أبي بكر، فلم يرد عليهم، وتولى الرد عليهم رب العالمين من فوق سبع سموات كما ذكر ذلك غير واحد من المفسرين، يقول الله تعالى: وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:19-21]. فلا الدنيا ولامتاعها زخرفها ولذائذها وزينتها، بل بحذافيرها لا تساوي عنده شيئا، وَلَسَوْفَ يَرْضَى ، من الذي وعده بالرضا؟ إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين وديان يوم الدين.
المشهد الرابع: ويسرى برسول الله إلى بيت المقدس، ويعرج به إلى السماء في ليلة، ويعود في الصباح ليخبر الخبر وهو الصادق المصدوق ، ويطير الخبر في مكة ويكذَّب المصطفى ويضطرِب بعض المسلمين لهذا الخبر، ثم يذهبون لأبي بكر يريدون زعزعة إيمانه، فما موقفه؟ لقد قال لهم: (إن كان قال فقد صدق) فاستحق أن يلقَّب بالصديق.
إن أبا بكر في ذلك يعلمنا كيفية التعامل مع ما يأتي عن الله وعن رسوله ، فلا مجال للرأي بعد ثبوت النقل ولا جدال.
المشهد الخامس: لما أذن رسول الله للصحابة بالهجرة إلى المدينة تجهز أبو بكر يريد أن يكون الأول في كل شيء يسابق إلى الخيرات، فلما استأذن الرسول قال له: ((لا تعجل، لعل الله أن يجعل لك صاحبًا)) يدخره الرسول لحدث ومنزلة لا تتكرر عبر تاريخ الحياة كلها، فقام بإعداد الرواحل استعدادًا للهجرة، قالت عائشة: وبينما نحن جلوس يومًا في حرّ الظهيرة وإذ برسول الله متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها أبدًا، فيقول أبو بكر: فداء له أبي وأمي ما جاء إلا لأمر، فدخل رسول الله فجلس على سرير أبي بكر وقال: ((أخرج من عندك يا أبا بكر)) ، قال: إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: ((فإن الله قد أذن لي في الهجرة)) ، قال أبو بكر وهو يبكي من الفرح: الصحبة يا رسول الله، قال: ((الصحبة يا أبا بكر)). قالت عائشة: فوالله، ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبي يومئذ يبكي من الفرح. أخرجه البخاري.
يا الله، هل يبكي فرحًا بمنصب؟! هل يبكي فرحًا بمال، بجاه، بوظيفة؟! لا والله الذي لا إله إلا هو، إنه ليعلم أن السيوف تنتظره، وأن القلوب الحاقدة تتلهف للقبض عليه، وأن الجوائز العظيمة تعلن للقبض عليه وعلى صاحبه، لكن فما لجرح إذا أرضاكم ألم.
أولئك حزب الله آساد دينه بهم عُصَبُ الطاغوت تشقى وتعطب
أولئك أنصار النبي ورهطه لهم يتناهى كل فخر وينسب
جزى الله خيرًا شيخ تيم وجنده فراياته في الخير والبر تضرب
وينطلق رسول الله مع أبي بكر إلى غار ثور وقد استنفر جميع أفراد أسرته لخدمة الرسالة والرسول ، ويرى رسول الله من أبي بكر عجبًا؛ يسير أمامه مرة وخلفه مرة وعن يمينه مرة وعن شماله مرة، فيسأله النبي : لم هذا الفعل؟ فيقول: يا رسول الله، أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأتذكر الرصد فأمشي أمامك، وعن يمينك وعن شمالك، لا آمن عليك، فيقول النبي : ((يا أبا بكر، لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني؟)) قال: نعم والذي بعثك بالحق، إن قتلتُ أنا فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة كلها.
ثم ينزل الصديق الغار قبل رسول الله يستبرئه، إن كان به أذى كان به دون المصطفى ، فتجنّد أبو بكر وجميع أسرته لرسول الله ، من عائشة ذات الثمان سنوات إلى أسماء إلى عبد الله إلى راعي أبي بكر عامر، لقد اجتمع لآل أبي بكر مفاخر وتضحيات، لذا كانت لهم منزلة أنزلهم إياها صدقُهم وتقواهم، روي عن أبو الدرداء بإسناد حسن أن رسول الله رآه يمشي أمام أبي بكر، فقال : ((يا أبا الدرداء، أتمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة؟! ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين خير من أبي بكر)).
المشهد السادس: أخرج البخاري عن أبي الدرداء قال: كنت جالسًا عند رسول الله إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى ركبته، فلما رآه قال: ((أما صاحبكم فقد غامر)) يعني وقع في خطر، أقبل حتى سلم على رسول الله ثم قال: يا رسول الله، إنه كان بيني وبين عمر شيء فأسرعت إليه يعني أخطأت، ثم إني ندمت على ما كان مني فسألته أن يغفرَ لي فأبى عليّ، فتبعته البقيع كله حتى تحرّز بداره مني، وأقبلت إليك يا رسول الله، فيقول : ((يغفر الله لك يا أبا بكر)) ، ثم قدم عمر حين سأله أن يغفر له فلم يفعل، فخرج يبحث عنه فعلم أنه عند الرسول ، فأقبل إليه حتى سلم عليه فجعل وجه النبي يتمعر حتى أشفق أبو بكر أن يكون من رسول الله إلى عمر ما يكره، فجثا أبو بكر على ركبتيه وهو يقول: يا رسول الله، كنت أظلم، مرتين، فيقول مبينًا مكانة أبي بكر وفضل أبي بكر: ((إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟!)) فما أوذي الصديق بعدها أبدًا.
وعن ربيعة الأسلمي بسند صحيح قال: كنت أخدم رسول الله فأعطاني أرضًا وأعطى أبا بكر أرضًا، وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة فقلت: هي في نصيبي، وقال أبو بكر: هي في نصيبي، فكان بيني وبينه كلام، فقال أبو بكر كلمة كرهها وندم عليها ثم قال: يا ربيعة، رد عليّ مثلها حتى يكون ذلك قصاصًا، قلت: ما أنا بفاعل، قال أبو بكر: لتردّنها أو لأستعدينّ عليك رسول الله ، فقلت: ما أنا بفاعل، فانطلق أبو بكر إلى النبي ، يقول ربيعة: وانطلقت أتلوه، فجاء أناس من قومي فقالوا: رحم الله أبا بكر أيّ شيء يستعدي عليك رسول الله وهو الذي قال ما قال؟! فيقول ربيعة وقد عرف منزلة الصديق عند الرسول ، يقول: اسكتوا هذا ثاني اثنين في الغار، هذا ذو شيبة المسلمين، لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب فيأتي رسول الله فيغضب لغضبه فيغضب الله لغضبهما فيهلك ربيعة، وانطلق أبو بكر وتبعته حتى أتى رسول الله ، فحدثه الحديث، فرفع رسول الله رأسه وقال: ((يا ربيعة ما لك وللصديق؟)) قلت: قال كلمة كرهها وطلب أن أقتص فأبيت، فقال : ((أجل، فلا تردّها على أبي بكر، ولكن قل: غفر الله لك يا أبكر)) ، قال: فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر. قال الحسن: فولى أبو بكر يبكي.
أيها الأحبة، قفوا وتأملوا، كلمة ليست من فاحش القول تزلزل كيان أبي بكر ويأبى إلا القصاص منه، فبالله ماذا يقول الفاحشون؟! ماذا يقول اللعانون؟! ماذا يقول الطعانون؟! ماذا يقول المغتابون؟! ماذا يقول النمامون؟! ماذا يقول الوالغون في أعراض المسلمين عامة؟! ماذا يقول من لم يلغوا في أعراض المسلمين عامة لكنهم ولغوا في أعراض خواصّ المسلمين وهم العلماء والدعاة وطلبة العلم، ثم يدعون أنهم على منهج أبي بكر وسلف المؤمنين؟!
وكلّ يدعي وصلا ليلى وليلى لا تقر لهم بذاك
رفقًا على علمائنا، رفقًا بورثة الأنبياء، حسنَ ظنّ بهم، معرفةً لحقهم، احترامًا وتقديرًا.
أقِلّوا عليهم لا أبا لأبيكمُ من اللوم أو سُدّوا المكانَ الذي سَدوا
اللهمّ ارض عن الصديق، اللهم اجمعنا به في دار كرامتك، اللهم إنا نسألك بحبِّنا إياه الذي نتقرّب به إليك أن تجمعنا به في جناتك جنات النعيم يا رب العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ [الزمر:33].
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ هذه مشاهد قليلة من تضحيات ومن أخلاق أبي بكر الصديق، ولولا ضيق الوقت لأوقفناكم على أكثر من هذه الصور المعبرة. إن كل واحد من تلك المشاهد درس بذاته لا أظنه يحتاج إلى تعليق وتعقيب.
تكفي اللبيب إشارة مرموزة وسواه يدعى بالنداء العالي
يا أحفاد أبي بكر، ويا أحفاد عمر وعثمان وعلي،
سيروا كما ساروا لتجنوا ما جنَوا لا يحصد الحبّ سوى الزراع
وتيقّظوا فالسيل قد بلغ الزّبا يا أيها القوم على الأنطاع
واسترجعوا ما فات من أمجادكم ما دمتم في مهلة استرجاع
يا خاطب العلياء إنّ صداقها صعب المنال على قصر الباع
يا ترى هل سيعود مثل هذا التاريخ المشرق؟ ولماذا لا يكون؟!
إنه ينبغي أن لا نيأس، فلنربِّ أولادنا على مثل هذه السير العطرة ولنقل لهم:
تشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
ولنقرأ التاريخ ولنفتش فيه ولنجعل ذلك التاريخ واقعًا ملموسًا في حياتنا. إنه لا ينبغي أن يشغلنا عن رسالتنا لا لهو ولا لعب.
قد هيّئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
هذا وصلوا وسلموا على النعمة المسداة والرحمة المهداة...
(1/3307)
مشروعية تعدد الزوجات
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا الأسرة
حسين بن غنام الفريدي
حائل
21/3/1418
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحريم بعض الدول الإسلامية تعدد الزوجات وإباحتها تعدد العشيقات. 2- مشروعية تعدد الزوجات. 3- دور الإعلام في تبشيع هذه المسألة. 4- الحكمة من مشروعية التعدد. 5- شروط جواز التعدد. 6- سبب تعديد الصحابة. 7- نصائح تحلّ خلافات التعدد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واشكروه إذ هداكم للإسلام وعلمكم الحكمة والقرآن، وتمسكوا بهذا الدين فإنه عصمة أمركم، وإياكم وتحريف الغالين وشُبه المبطلين وانتحال المغرضين، وكونوا على بصيرة مما يخططه لكم أعداء الدين لتعرفوا بذلك خير الخيرين وشرّ الشرين.
عباد الله، تحدّثتُ أمامكم في خطبة مضَت عن تأخير الزواج وخطورة ذلك على الفتيان والفتيات، وإنني اليوم أتحدث عن موضوع يُسهم في معالجة تلك القضية ويقدّم حلاً لمن بلي بهذه البلية.
إن الحديث عن موضوعٍ هو تشريع شرعه الله وسنة سنها رسول الله وسار عليها أصحابه الكرام من بعده، ولقد كان مألوفًا في سلف هذه الأمة. ولكننا في هذا الزمان وحينما انتكست فطرُ بعض الناس وأصبح الزنا خُلقًا وسجية عند بعض الشعوب وواقعةً لا يعاقب عليها القانون في كثير من الحالات. في هذا الزمان أصبح موضوع خطبتنا جريمة لا تغتفَر وهمجية ورجعية يستَحيَا منها أمام الشعوب المتحضرة المتقدمة زعموا.
إن موضوعنا إذا أمعنّا فيه النظر دليل كمال هذا الدين وصلاحيته لكل زمان ومكان، ودليل على شموليته وسعة أحكامه. إن موضوعنا رغم أنه شرع وسنة فقد أصبح في بعض الدول المنتسبة للإسلام جريمة نكراء وداهية دهياء.
إن قوانين تلك الدول لا تمانع أن يتزوّج الرجل بزوجة واحدة ويتّخذ ما شاء غيرها من العشيقات والأخدان، ولكن الويل كلّ الويل لمن يكتَشف وفي عصمته أكثر من زوجة. إن ما شرعه الله وسنة رسول الله جريمة منكرة في قانون القوم!!
عباد الله، موضوع خطبتنا هو تعدّد الزوجات، تلكم السنة التي نفر منها كثير من الناس تقليدًا وتشبّهًا بأعداء الله. وهي قضية محسومة لا جدال فيها ولا مماراة، نصّت عليها الأدلة في هذه الشريعة الغراء، يقول الله تبارك وتعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النّساء:3].
ولقد عدَّد رسول الله مِن الزوجاتِ وفَعله الصحابة رضي الله عنهم، واستمرَّ عملُ النّاسِ على هذا في كل عصرٍ ومصر.
يحسِن الرجل إلى المرأة حين يضمّها إليه مع زوجته الأولى؛ لأن بقاءها بدون زوج خطرٌ عليها من كل جانب.
ولم يُعرف عن سلف هذه الأمة ظاهرةُ تأذِّي الزوجة بزواج الرجل من أخرى، وإنما ظهرت هذه البوادر في عصرنا الحاضر بعد أن ضَعُفت العقيدة في النفوس وجهِل الكثير من الناس أحكام الإسلام، بل وتأثروا بمن انحرف عن جادة الصواب.
وظهرت آثار المسلسلات الهابطة والكتابات الماجنة والصيحات الخادعة والنداءات المزوّقة واستمرت تنخر في أدمغة الناس حتى نجح الأعداء في هدّ كثير من المسلمين عن هذا التشريع العادل.
عباد الله، ألسنا مسلمين؟! ألا نؤمن بعلم الله وحكمته وعدله ورحمته؟! سبحانه وتعالى لا يشرع إلا لحكمة، ولا يُرغّب إلا بما هو في صالح العباد، علِموا ذلك أو جهلوا، وديننا دين الفطرة السليمة ينأى بنا عن الرذائل ويوجّهنا نحو الفضائل.
عباد الله، لو أردنا في هذه العجالة أن نستقصي الحكمة من شرعية تعدد الزوجات لطال بنا المقام، ولكن إليكم بعضها على سبيل الإيجاز:
معاشر الأحبة، إن تعدد الزوجات ضرورة اجتماعية ورحمة بالمرأة ورعاية لها قبل أن يكون مغنمًا وكسبًا للرجل، وهذه حقيقة مشاهدة مدركة في العيان، يشاهدها كلّ ذي بصر وبصيرة، فإن نسبة النساء في أي مجتمع تفوق نسبة الرجال، فغير خافٍ عليكم كثرة ولادة الإناث وتعرّض الرجال للموت والفناء أكثر من النساء، لأنهم يتعرضون للحوادث المختلفة وللحروب الطاحنة وكدح الحياة في الأعمال الشاقة. إذا كان الحال ما ذكر فإن اقتصار الرجل على امرأة واحدة سبب في إهمال العدد لكثير من النساء، فيصبحن نهبًا للضياع وأكثر تعرضًا للفتن.
ثم إن مرض أو عقم الزوجة أو توقفها عن الإنجاب والرجل محتاج إلى الذرية بحكم فطرته، فإن ذلك يدعوه إلى الزواج بامرأة أخرى، وعمله هذا خير من طلاقه للأولى وتشرّدها.
ثم إن ما يتمتع به الرجل من قوة جنسية قد لا تسدّ المرأة الواحدة حاجته مع ملاحظة ما يطرأ عليها من حيض وحمل ونفاس مانع من التمتع بها.
وفي شرعية التعدّد تحقيق لمصلحتهم وسلوكهم طريق الاستقامة والعفة.
وهو كذلك حفاظ على شرف المرأة وتحقيق لرغبتها خاصة لمن فاتهنّ قطار الزواج بسبب الدراسة أو التدريس، فكونها عند زوج يرعاها ويلبي غريزتها ويتحقّق لها معه السكن والمودة، حتى وإن كانت ثانية أو ثالثة خير لها من أن تبقى عانسًا بدون زواج، فتصبح فريسة للهموم والأفكار، خاصة في زمان تنوعت فيه سبل الإغراء وراجت فيه أسواق الفساد.
أما مصلحة المجتمع من هذا التشريع فظاهرة في تقوية لحمته وترابطها وتماسك بنيانه وقوته، ويوم أن يكثر سواد الأمة وتتقوى الروابط بين أفرادها فإنه يتحقق لها الشيء الكثير، فلا شك أن العنصر البشري عامل مهم في بناء الحياة في مختلف مناحيها، ولا يخفى ما تحدثه الحروب من أضرار جسيمة، وهي إنما ترفع بعد قدرة الله بسواعد فتية وكثرة كاثرة، وإن هذا التشريع كفيل بإذن الله في زيادة وكثرة العنصر البشري.
وهو كذلك أمن بعد رحمة الله من كثير من الجرائم الأخلاقية، فسبحان من عَلِم فحكم.
عباد الله، لقد ثبت عند البخاري وغيره أن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: هل تزوجت؟ قلت: لا، قال: فتزوّج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء.
إن في ذلك ترغيب وأيّ ترغيب في اتباع سنة رسول الله لمن قدر عليه، وهو سنة في حقه، والتعدد ـ يا عباد الله ـ هو الأصل، فإن تخلّف العدل صار إلى واحدة.
ولكن ليُعلم ـ يا عباد الله ـ أنه ليس كلّ إنسانٍ مؤهّلا لذلك، فإن إقدام بعض الناس على التعدد مع عدم توافر الشروط سبب في كثير من المشكلات التي لم تكن في الحسبان. فلا بد من معرفة شروط التعدد قبل العزم عليه، وهي أربعة شروط:
الأول: العدد، فلا يجوز بأيّ حال الزيادة على أربع نسوة كما هو ثابت بنص الكتاب والسنة.
الثاني: القدرة المالية والجنسية، وهذا شامل للوطء وللطعام والشراب والكسوة والمسكن أو ما يلزم من أثاث يناسب المرأة، وهذا متروك للعرف والعادة. ولقد دلت آية التعدد على اشتراط ذلك حيث قال تعالى: ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا [النساء:3]، قال الشافعي: " أَلاَّ تَعُولُوا أي: أن لا تكثر عيالكم".
الشرط الثالث: العدل بين الزوجات، وقد صرحت به الآية، والعدل المطلوب هو ما كان مستطاعًا عليه مقدورًا على تحقيقه، وهو العدلُ بينهن في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والبيت والمعاملة، أما ما لا يستطاع كالميل القلبي وما يتبعه من الوطء فلا يلزم العدل فيه لقوله : ((اللهمّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذ فيما تملك ولا أملك)) رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان والحاكم.
ومن فرّط في هذا الشرط فإنه على خطر عظيم وعقوبة بشعة تنتظره يوم القيامة، روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل)) رواه أحمد والترمذي.
فليحذر الذين لا يعدلون بين نسائهم ممن هجروا هجرًا متواصلاً وجعلوها كالمعلقة، فضيعها ولم ينفق عليها، وأهمل أولاده منها لسنوات وسنوات. إن هذا لظلم كبير وأمر لا يقره الشرع المطهر، وربما كان أمثال هؤلاء سبب لنفرة الناس من التعدد.
أما الشرط الرابع: أن لا يجمع بين من يحرم الجمعُ بينهن، فلا يجمع بين الأختين ولا بين المرأة وعمتها أو خالتها لا من النسب ولا من الرضاعة.
وقال العلماء: وقاعدة ذلك: "أنه لا يجوز الجمع بين امرأتين لو قدِّر أن إحداهما ذكر لم يحلّ له أن يتزوج بالأخرى".
عباد الله، إن التعدد شريعة محسومة لا نملك أمامها إلا التسليم وإن خالفت هوى أنفسنا، فالله تبارك وتعالى يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].
وتعدد الزوجات رغم ما فيه من إثارة لغَيرة المرأة من ضرّتها فهو يعالج شرًا عظيمًا وخطرًا مستطيرًا، فعلى المرأة أن تضحّي من أجل بنات جِنسها وأن تحبّ لأخواتها ما تحبه لنفسها لترضِي بذلك ربها وتساهم في القضاء على الفساد في أمتها.
وعلى الرجل أن يتحمّل ذلك ليشارك في بناء المجتمع، فإننا ندرك المبرّرات الكثيرة للتعدّد والضروريات الاجتماعية التي تلجئ إليه، مع إيماننا بأن المسلم عليه أن يطبق حكم الله سواء ظهرت له الحكمة والمصلحة أم لم تظهر.
معاشر الأولياء، معاشر الأزواج، معاشر من يصلهن حديثنا من الزوجات، لنعلم جميعًا أن المشكلات التي تناط بالتعدد سببها إما غَيرة المرأة المفرطة وإما حماقة بعض الأزواج في سياسته لزوجاته وأولاده، ولو انضبط هذان الأمران غيرة المرأة وسياسة الرجل للبيت لانعدمت تلك المشكلات أو خفّت كثيرًا وأصبحت السعادة ترفرف على كثير من البيوت.
ثم لنعلم ـ يا عباد الله ـ أن حلّ هذه المشكلات ليس بمنع التعدّد أو تقييده أو الحيلولة دونه أو النيل منه، بل إنّ الحلّ يكمن في إصلاح النفوس وتهذيبها وتقويم سلوكها والأخذ بأيدي الناس ليكون التعامل بينهم على أساس من العدلِ المطلوب، سواء كان بين الزوج وزوجاته أو حتى بين الأب وأولاده من زوجاته.
ثم إنني أسأل الله العلي العظيم أن يوفق الجميع لإقامة السنةِ ودَحر البدعة، وأسأله تبارك وتعالى أن يعيننا على أمور ديننا ودنيانا، وأن يرزقنا القناعة بأحكام ديننا وتشريعاته، وأن يصرفَ عنا كيد المفسدين وسموم أعداء الدين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا [النساء:3].
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن تعدّد الزوجات وسيلة فعالة للقضاء على مشكلة فئتين كبيرتين من النساء وهنّ الأرامل والمطلقات، وهنّ كثيرات.
ولقد بلغ من وفاء السلف بعضهم لبعض أن كان الواحد منهم يبادر بالزواج من زوجةِ أخيه إذا استُشهد في سبيل الله، فقد حدث هذا من أبي بكر رضي الله عنه، فقد تزوّج من أسماء بنت عميس بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم تزوجها علي بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه، والدافع لذلك هو الوفاء.
فمن يقول: إن أسماء لم تكن وفيةً لجعفر حينما تزوّجت من بعده، إن هؤلاء هم خير من وطئ على الثرى بعد الأنبياء، واقتفاء أثرهم فيه الهدى والنور.
وإن مما يثلج الصدر أن سمعنا بمن فعل ذلك في زماننا هذا، فشكر الله صنيعهم وأجزل لهم المثوبة.
ثم ليعلم ـ يا عباد الله ـ أن للتعامل مع الزوجات إذا تعدّدت أدبا قلَّ من الناس من يحسنه، ولكي يستطيع الزوج إقامة العدل بين زوجاته فعليه بعد مراقبته الله أن يراعي ما يلي:
أولاً: المساواة التامة بين الزوجات فيما يستطيعه.
ثانيًا: عدم الإفصاح عما يحدث بينه وبين إحدى زوجاته للأخريات.
ثالثًا: أن لا يسمح لإحدى زوجاته أن تنال من غيرها مهما كانت الأسباب.
رابعًا: أن لا يتحدث عن إحدى زوجاته عند الأخريات لا بمدح ولا بذم.
خامسًا: أن لا يعاقب زوجته على خطأ ارتكبته أمام ضرتها، لا بتوبيخ ولا بضرب ونحوها.
سادسًا: معالجة الأخطاء بالحكمة والموعظة الحسنة والروية، وعدم الاستعجال وتصعيد الأمور. والرائد في ذلك سنة المصطفى في معاملته لزوجاته.
سابعًا: التأكيد على أولاده باحترام زوجته الثانية وغرس ذلك في قلوبهم وإشعارهم أنها بمنزلة أمهم.
ولا شك أن تقوى الرجل وحزمه واختيار ذات الدين من النساء مما يهوّن أمر هذه المشكلات المتوقّعَة ويجعل التعدّد يحقّق الحِكم المنشودَة منه، والله خير مسؤول أن يسترَ الجميع بجميل ستره، وأن يؤلّف بين قلوبهم على ما يحبه ويرضاه.
هذا وصلوا على أفضل من عدّد وأعدل من حكَم وأحسن من عاشر وألطف من ولي وأكرم زوج لزوجه، صلوا على خير خلق الله محمد، فقد أمركم بذلك ربكم...
(1/3308)
المخرج من فِتنتَي التغريب والتخريب
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, قضايا دعوية
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
6/6/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غيابُ الرؤيةِ الشرعيّة وفِقه السنَن الكونية. 2- أهمية المرجعية الموحّدة. 3- متغيّرات العصر المتسارعة. 4- الحرب المقبلة. 5- ضرورة استبانة سبيل المفسدين. 6- المخرج من الفتن. 7- حاجة الأمة إلى فقه السياسة الشرعية. 8- نداء للتغريبيين والتكفيريين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فهي سبيل أهلِ الرشاد، وخير زادٍ يبلِّغ لرضا ربِّ العِباد، فتزوّدوا منها ليومِ المعاد، واغتنِموا أيامَ العُمر قبل النفاد، وشمِّروا في تحقيقها عن ساعِد الجدِّ والاجتهاد، واحذَروا مسالكَ أهل الغيِّ والفسادِ وطرُقَ أهل الباطل والضلال والعِناد، تدخلوا جنَّةً لا يخفى نعيمُها على كلِّ رائحٍ وغاد.
أيّها المسلمون، في زَحمةِ الأحداثِ وتسارُع المتغيِّرات وفي خِضمّ تداعياتِ النوازلِ والمستجِدّات وكثرة الأطروحات والتحليلات يَلحظُ المتأمِّلُ الغيورُ غيابًا أو تغييبًا للرؤية الشرعيّة والنظر في فقه السّنَنِ الكونية والاستقراء التّام للأحوال التأريخية والحضارية، حتّى حصل من جرَّاءِ ذلك زللُ أقدام وخَطَلُ أقلام وضلالُ أفهام وتشويشٌ وحيرة عند كثيرٍ من أهل الإسلام وخلطٌ في الأوراق لدى كثير من أرباب الفِكر والثقافة ووسائل الإعلام، ممّا يؤكِّد أهمّيّة المرجعيّة الموحَّدة للأمّة الواحدة، ترتكز في تحقيق أهدافها على الخيّرة صحَّة المعتقد وسلامةِ المنهَج والعناية بمصالح الأمة الكبرى ومقاصِد الشريعة العُظمى، باعتدالٍ في الرؤى وتوازُنٍ في النظر وأسلوبٍ عالٍ في الطرح والحوار، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83].
معاشرَ المسلمين، الكلُّ يدركُ ما تواجهُه أمّتُنا الإسلامية اليومَ من متغيِّراتٍ متسارعة، تضاعفت من خلالِها نُذُر الأخطارِ المتصاعدة، متغيّراتٍ وجدت فيها الأمةُ نفسَها أمامَ نظامٍ عالميّ جديد دون أن تعلمَ موقعَها فيه ومكانَها في خارطته، متغيِّراتٍ أصبحَت فيه نداءاتُ مقدَّسات المسلمين وصَرخات الأرض المباركة وأنّاتُ فلسطين واستغاثاتُ الأقصى مهدّدةً بالضياع في دهاليز التيهِ وأنفاق الظُّلمَ، وغدت حسراتُ أرض الفرات تتحشرجُ في الحلوقِ بين انعدامِ الأمن وضياع الحقوق وتطاوُلِ إرهاب الصّهاينة المعتدين لتنفيذ مؤامراتهم ضِدَّ أولَى القبلتين ومسرَى سَيّدِ الثقلين، في قفزاتٍ متسارعةٍ لتحقيق أحلامهم في إقامةِ دولتهم الكبرى بزعمهم وإقامةِ جدار الفصل العُنصُري، في إذكاءٍ لثقافةِ الصراع والعنصريّة ولغةِ الحِقد والكراهية بين الشعوب، وبدت ملامحُ التحرُّش الشَّرِس على مقدَّرات الأمّةِ وقِيَمها.
حتى بلاد الجزيرة لم تسلَم من أعمال الاستفزاز والاستهداف، فغُرِّرَ ببعض أبنائها، وأصبحوا أدواتٍ تُنفَّذ من خلالِها أعمالُ العُنف والإرهاب والتخريب والإرعاب وسلوك مسالكِ الغلوّ والتكفير والتفجير والتدمير، وآخرين يعيشون حياةَ التفريط والجفاءِ بين مطرقةِ التغريب وسِندان العولمة، في وضعٍ يمثِّل صورةً صارخةً لمقدار التبعيَّة الفكرية والانهزامية الثقافية لدَيهم، مع جرأةٍ عجيبة في المزايدةِ على الشريعة وتزييف الفِكر والوعي الذي يستمدُّ جذورَه من التنكُّر لعقيدة الأمّة ورسالتها التأريخية والسقوط في مباءات التقليدِ ومتاهات التبعيّة واجترار فكرِ الغير بانهزاميةٍ مُفرِطة، يتبعها سعيٌ حثيث لمسخ هويّة المجتمع وتغيير بنيتِه الفكرية ومنظومته الاجتماعية والطّعن في مناهجه الشرعية وأعماله الخيريّة والإغاثيّة والاحتسابيّة والتلاعُب بقضايا المرأة والحجاب، فكأنّ لهم الوصايةَ عليها والمحاماةَ عنها وهم داؤها لا دواؤها، وجعلِها شمّاعةً يعلِّقون من خلالها ما يرومون من انسلاخٍ عقديّ وفكريٍّ للأمّة وحلٍّ للنسيج الاجتماعيّ المتميِّز فيها، في مشروعَاتِ التغيير وأُطروحات التنوير والتطوير التي يُقصَد بها النيلُ من ثوابتِ الأمة وتغييبُ ثقافتها الشرعية، وهذا الأمرُ ليس بدعًا من الظواهر المعاصرة، فلم يزل أحفادُ عبد الله بن أُبيّ عليهم من الله ما يستحقّون يظهرون ويَتَجدّدون في كلّ زمان، ويلبسون لكلِّ عصر لبوسَه، تختلفُ قوالبُهم، وتتَّحِد قلوبُهم في شرخِ عقيدة الأمّة وإغراق سفينتها، وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ [محمد:30].
أمّةَ الإسلام، وإنّ أخشى ما يُخشى أن تشهدَ المرحلة القادمةُ حَربًا ضروسًا على القِيَم الدينيّة والثوابت الشرعية، وسيسقُط القناع ويُماط اللِّثام عن حقيقة ثقافةِ هؤلاء وجذور أولئك، كما يُخشَى أن يكون كلٌّ من تيّار الغلوّ والغلو المضادّ أداةً طيِّعة للأعداءِ المتربِّصين في اختراق سفينة الأمّة وتسويق مشروعاتهم الفكرية والاجتماعية وبسطِ نفوذهم على مراكز الرأي والتأثير في الأمّة تحت مسمِّياتٍ برّاقة وشِعاراتٍ خلاَّبة تجعل التدمير والتفجير شهادةً وجهادًا، كما تجعل الفسادَ إصلاحًا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
ولهذا فإنّ استبانةَ سبيل هؤلاء وأولئك ورصدَ توجُّهاتهم عن طريقِ دراساتٍ واستراتيجيّات تزيل الشُّبَه عن الأجيال اللاحقة يُعَدُّ حفاظًا على الفكر الوسطيّ المعتدِل أمام معاوِل الهدم والتخريب التي تحاول إسقاطَه؛ إما بالتفريط والجفاء أو الإفراط والغلوّ، ممّا يؤكِّد ضرورةَ حماية الأمنِ الفكريّ في الأمّة بتحقيق التعاون بين الجهات العِلميّة والبحثيّة والشرعيّة والأمنيّة والإعلاميّة والتربويّة لصدِّ العدوان الشَّرِس الذي يستهدف بلادَنا في عقيدتها وأمنها وفكرها واقتصادها، لا بدّ من تجفيف منابعِ الإرهاب بنوعَيه والغلوّ والتطرّف بشِقَّيه، وذلك ليس مجرَّدَ ترَفٍ علميٍّ وإعلاميّ، بل هو من الضرورات المهمّة والأولويات الأكيدة التي تحافظ على سفينة الأمّة لتمخر عُبابَها أمام أمواجِ المِحَن وتلاطُم الفِتن؛ لتصلَ إلى برّ الأمان وشاطئ السلامة والاطمئنان، وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55].
إخوةَ الإيمان، والسؤالُ المطروح بإلحاح إزاءَ هذه الأوضاع المزرِية هو: كيف نتجاوز سلبياتِ هذه المرحلة ونُعاودُ البناءَ والإعمار؟ أوَلسنا خيرَ أمّةٍ أُخرِجت للناس؟! أوَلسنا أمّةَ الشهادةِ على العالمين؟! أوَلسنا الموعودين بالنصر والتمكين؟! ألم يئن الأوان لتحويل هذه السُّنن الشرعيّة إلى واقعٍ حضاريٍّ فعّال؟! فنحن أمّةٌ لا تعرف التلاشيَ والسُّقوط، ولا يتطرّق إليها اليأسُ والقنوط، فسرعانَ ما تكبو تنهض وتعلو.
إنّه مِن خِلال الوعي بهذه الحقيقةِ بتجديد الثقةِ بالله وقرب نصرِه، ثم إعادة الثقةِ بالنفس وبثِّ أخلاقيات الأمل والتفاؤل والتحصُّن بالرّشد والاعتدال المطلوب للخروج من مرحلة الضّياع التي تكاد تعصِف بالأمَّة خارجَ دائرة العالم الحضاريّة، وبذلك يجتمع الشّتات ويُلَمّ الشّعث وتُسوَّى الصفوف لتصوغَ الأمةَ في كيان واحدٍ كبير وإن تعدَّدت منه الأطياف، لتُكرَّس للتعاوُن والتكاتُف والتكامل، لا للخصام والجفاء والتقاتُل، في توظيفٍ للطاقات وتنميةٍ للقدرات في عصرِ القوى الكبرى والتكتُّلات العُظمى، لتستوعب طاقاتِ الأمّة عامّة والشباب خاصّة وتصفّ نظامَها وتضبطَ عطاءها وتستثمرَ جهودَها على أحسن وجوهِ الانتفاع للبلاد والعباد.
وإنّ أحدًا لا يرضى أن تبقى الأمةُ مفرّقةً لا جامعَ له، تتخبّط في مواطنِ الفتن وتخوض في مواضع المِحَن وتسبح في بحرٍ متلاطِم بلا رُبّانٍ مَهَرة، بل أحيانًا بلا سفينةٍ صالحة، فكيف يكون هذا حالَ أمّةٍ أمرها الله بالتوحيد والوحدة؟! وما الذي يمنع الصفوفَ من التراسّ والمواقف من الاجتماع ونحن أمّةُ الأخوّة والوئام والتكاتُف والتعاون والالتئام والتلاحُم والاعتصام؟! إنّنا نريد أن نتجاوزَ مرحلةَ التأطير والتنظير إلى محطّةٍ من التحرُّك والإيجابية والتفعيل، انطلاقًا من رؤًى شرعية لا تروم المستحيلَ ولا تجافي الواقع، ولكنها تهدف إلى معالجة الأمور على ضوء المقاصدِ الشرعية والضوابط المرعيّة.
إنّ مرجعيَّةً تُعنَى بالقواعدِ والأصول وإن اختلفتِ الفروع وتهتمّ بالكليات وإن تنوّعت الجزئيات وتُعنى بالثوابت والنتائج والمحكَمات وإن تباينتِ الوسائل والمقدّمات والاجتهادات لهي الفريضةُ الأمَل والمخرجُ الصائب والبلسمُ الناجع والتِّرياق المصَفَّى الذي يقضي على الآراءِ الآحاديّة والفتاوى الفرديّة والنظريّات أحاديّة الجانب، ويجتثّ آراءَ الرويبضةِ ممّن يتكلّمون في أمور الشريعة ويخوضون في أمورِ الحلال والحرام وهم ليسوا منها في وِردٍ ولا صَدَر، عبرَ إثاراتٍ صحفية وتلاسُنٍ إعلاميّ فضائيّ مُسطَّح، جرَّ الأمةَ إلى هوّةٍ سحيقةٍ من الفرقة والشتات في الرأي والعَجز والوهَن في المواقف.
إنّه لا اعتصامَ للأمة ولا اجتماعَ ولا امتناع إلا إذا احتمَت بسياج المرجعيّة المعتبرة من الولاية المسلمة والعلماء الربّانيين، فلا بدّ من هبَّةٍ للدين وقومةٍ لله مَثنى وفُرادى، ثم تفكُّرٍ في أساليب وطرائق الصلاح والإصلاح، في صرحٍ من التلاحُم في القلوب قبل القوالب، لا تُميِّلها الرياح، ولا تزعزِعها الأعاصير، ولا تنال منها المعاوِل، بل تضربُ بجذورها وتقوم على أصولها وتُؤتي أكُلُها كلَّ حينٍ بإذن ربِّها.
فيا كلَّ مسلمٍ غيور، ويا كلَّ عبدٍ موحِّدٍ، ويا أيّها القادة المسلمون والعلماء المخلصون والدعاةُ الصادقون والشباب الصالحون، لنبادِر جميعًا بوضع البنية التحتيّة وحجَر الزاوية الأرضيّة في سبيل نُصرة دين الله، معتصمين بشرعه، مدركين أنه لا حولَ لنا ولا قوّةَ إلا به، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولن ندركَ غاياتنا إلا بهدايتِه، ولن نُحقِّق أهدافنا إلا بتوفيقه ومعونتِه، ولن نخرجَ من المحَنِ والبلايا والنوازل والرزايَا إلا بإعزازِ دينِه والغَيرةِ على محارمِه وتحكيم شريعتِه والوقوف في صفِّ دعاته، فلا موضعَ بعدَ اليوم للتحيُّز والانفِصام، فضلاً عن المناطحة والصِّدام. وإنّ مخالفةَ الجماعةِ والانطلاقَ من رؤًى ضيّقةٍ من التحيُّز والتحزُّب والإعجاب بالرأي وتسفيه الآخر مؤدّاهُ لا مَحالةَ إلى الفشلِ الذَّريع. وإنَّ حقًّا على جميعِ شرائِح الأمّة وأطيافِ المجتمع أن تتحلَّى بالصّدق في الانتماء لدِينها وعقيدتها وغَيرتها على أمنِ بلادها ووطنها، فلم يعُد الأمرُ محتمِلاً للتَّمحُّلات والأساليب الإعلامية المستهلَكة، كما لم يعُد مجالٌ للسكوت والتغاضي والتصنُّع والمجامَلة أمام كلِّ فِكرٍ دخيل ومنهَج وافدٍ هزيل.
إنّنا مُطالبون جميعًا كلٌّ في ثغرِه ودائرةِ اختصاصه ـ في المسجدِ والأسرة والبيتِ والمدرسة ووسائل الإعلام وقنواتِ التربية والتوجيه ـ بتحرِّي الصدقِ مع الله في خدمةِ عقيدتنا والدّفاع عن بلادنا، بعيدًا عن المصالح الحزبيّة الضيّقة والمكاسِب الدِّعائية المحدودة، وأن ننَزِّه مقاصِدَنا وألسنتَنا وأقلامنا عن تلك الأساليب الممجوجة التي تعُجّ بها بعض الدواوين والصحُف والقنوات الفضائية والشبكات المعلوماتية والأروقة الانتهازيّة والنفعية، فإنه لم يعُد ثَمَّ مجالٌ لغير الصدق مع الله أوّلاً، ثم مع الرعاةِ ثانيًا، والرعيّة ثالثًا، وأمّتِنا الإسلامية رابعًا، وخامسًا المجتمعات الإنسانية والعالمية التي ترقُب حضارتَنا وتتطلَّع إلى محاسِن ديننا وصلاحِ شريعتنا ونُبل قيَمنا، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من الهدَى والبيان، ورزقنا التمسّك بسنّة المصطفى من ولدِ عدنان. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله المرجوِّ عفوُه وثوابه، والمخوفُ مكرُه وعقابُه، أحمده تعالى وأشكره، غمَر قلوبَ أوليائه برَوح رجائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، منّ على عباده بجزيلِ نعمائه وفَيضِ آلائه، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله سيّد أنبيائه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه وأصفيائه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
واعلموا أنّ أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمّد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وعليكم بالجماعة فإنّ يدَ الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
أيّها الإخوة الأحبّة في الله، ها قد انقشعَت بفضلِ الله ومَنِّه سحائبُ الفتنةِ التي مرّت على بلادنا حرسها الله، وتساقطت رموزُ الفتنةِ بحمد الله كما يتساقُط ورقُ الخريف، فهلاّ شكرنا المنعِمَ المتفضِّل سبحانه عند تجدُّد النّعَم وتبدُّدِ النِّقَم؟! هلا تفقّهنا في النصوص ووقفنا بحزمٍ مع النفوس في مراجعاتٍ صادِقة ومحاسباتٍ دقيقة، في تجاوزٍ لمرحلة التشفّي والشَّجب والاستنكار إلى وضعِ الخُطَط والبرامجِ للعمَل والحوار حتى لا يُلدَغَ المؤمِن مِن جحرٍ مرتين؟!
ألا ما أَحوجَ الأمّةَ إلى فِقهِ السّياسة الشّرعيّة على وفق فهمِ الصّحابة الأبرار والسّلَفِ الأخيار، لا على وفق المشاعِر والانفعالات، مع التأكيد على وجوبِ الأخذ بالنصوص متكاملةً وضبط المصطلحاتِ الشرعية على وَفق السّلف رحمهم الله، وأن لا نسنحَ للحماس المتدفّق والعواطِف المشبوبَة أن تجرَّنا إلى شطَطٍ في الفهم وهوًى في الرأي واتخاذ المواقف.
وإلى الذين تشبَّعوا في الفِكر التغريبيّ والفكر التكفيريّ، إلى هؤلاء وأولئك أن يراجعوا أنفسَهم، وأن يصدروا عن علمائهم، فذلك خيرٌ وأجدَى من أن يظلَّ الإنسان أسيرَ فكرةٍ محدودةٍ أو رأيٍ مجرَّد، وليعلموا أنّ المراجعاتِ سنّةٌ محمودةٌ وطريقة مشهودةٌ، سلكها أهل العلم والفضل والبصيرة منذ صَدر التاريخ، فكيف بمن هو دونهم؟! فهلا اعتبرنا بجماعاتٍ اتّخذت ثقافةَ العُنفِ والتغريبِ مسلكًا، فدخَلت نفقًا مظلِمًا، وكان عاقبة أمرها خسرًا، ثمّ أعلنت بعدَ ذلك تراجُعَها وأسَفَها لذلك الخلَلِ الفكريّ والانحراف المنهجيّ، فهل نستنبِتُ بعدهم في بلادٍ اختصَّها الله بخصائصَ ليست لغيرها مآسيَ وفواجع قد أثمرت ثمارَها المرّة عند غيرنا؟! أوَليس السعيد من وُعِط بغيره؟!
إنّنا نذكِّر من هذا المنبر العالميّ المبارَك الذين لا زالوا يهُمّون أو حتى يتعاطفون أو يسكتون أمام هذه الأفكار الضالة إفراطًا أو تفريطًا أن يعلَموا أيَّ جنايةٍ يجنونها في حقِّ دينهم وأمّتهم وبلادهم، ولذا فإنّ المراجعات واتهامَ الرأي في هذه القضايا العامّة والخطيرة ضرورة قُصوى، فوالله لأن يرجعَ المسلم إلى حقّ ترَكه مهما وصفه الواصفون خيرٌ له من أن يلقَى الله غدًا وقد تلطّخت صفحتُه بدمٍ حَرام سفكَه في غير حِلِّه أو سار على ما لم يَسِر عليه سلفنا الصالح.
لقد تكرّم ولاةُ الأمر بفرصةٍ كافيَة للعفو والمراجعة، وتلك مكرُمة ومنقبةٌ للعُظماء عبرَ التاريخ، فما ملك الأحرارَ كالعفوِ عنهم، فاستجاب من استجاب، وحقُّه علينا الإشَادةُ والتأييد وشفاعةُ الأمةِ أن يجدَ العفو والأمان والصفحَ والغُفران، أمّا من كابر وأصرَّ على ضلالِه فإنما يجني على نفسِه وأُسرته ومجتمعه، وسيجد مغبّةَ استكبارِه عن الحقّ ونتيجةَ إصرارِه على الباطل، فيُندمُ حيثُ لاتَ ساعةَ مندَم، اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].
وإنَّ الأملَ في شبابنا وأبنائنا وَهم ولله الحمد والمنّة محلُّ فخارِنا واعتزازنا أن يتبيَّنوا قُدّامَهم محلَّ وقع أقدامِهم، وأن يحذروا من وسائل الإثارة والاستفزاز مهما كان مروِّجوها، ولتهنأ بلادُ الحرمين الشريفين حرسَها الله دائمًا بالأمن والأمان والخير والسلامة والاطمئنان، في بُعدٍ عن أسباب الفِتَن وبواعث المِحَن، وما ذلك على الله بعزيز.
ألا وصلِّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وهادي البشرية كما أمركم بذلك ربّكم جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيّد الأوّلين والآخرين وخاتم الأنبياء وأشرف المرسلين نبيّنا محمد بن عبد الله وعلى آله الطيّبين الطّاهرين...
(1/3309)
نعمة الأمن
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
6/6/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رعاية الله تعالى لمصالح العباد. 2- فضل الأمن وأهميته. 3- حفظ الإسلام للضروريات الخمس. 4- النهي عن منغِّصات الأمن. 5- نتائج الأمن. 6- عواقب انفلات الأمن. 7- وجوب شكر نعمة الأمن. 8- أسباب حصول الأمن وأسباب زواله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، فمن اتَّقى ربَّه رشَد، ومن أعرضَ عن مولاه عاش في كمَد.
أيّها المسلمون، فرَض الله الفرائضَ وحرَّم المحرَّماتِ وأوجب الحقوقَ رِعايةً لمصالحِ العباد، وجعل الشريعةَ غِذاءً لحِفظ حياتِهم ودواءً لدَفع أدوائهم، وجاءت دعوةُ الرّسل بإخلاصِ العبادةِ لله وحدَه بخضوع وخشوعٍ وطمأنينة، ومَقَتت ما يصرِف القلوبَ عن خالقِها، فكانت أوَّل تضرُّعات الخليل عليه السلام لربّه جل وعلا أن يبسُطَ الأمنَ على مهوى أفئِدَة المسلمين فقال: ربِّ اجعل هذا البلدَ أمنًا، فاستجاب الله دعاءَه فقال سبحانه: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97].
وفضَّل الله البيتَ الحرام بما أحلَّ فيه من الأمنِ والاستقرار، وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125]. وامتنَّ الله على ثمودَ قومِ صالح نحتَهم بيوتَهم من غير خوفٍ ولا فزع، فقال عنهم: وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ [الحجر:82]. وأنعمَ اللهُ على سبَأ وأغدَق عليهم الآلاء المتتابعةَ وأسكنهمُ الدّيار الآمنة، فقال جل وعلا: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ [سبأ:18]. ويوسفُ عليه السلام يخاطبُ والدَيه وأهلَه ممتنًّا بنعمة الله عليهم بدخولهم بلدًا آمنًا مستقرًّا تطمئنّ فيه نفوسهم وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [يوسف:99]. وحَبَس الله عن مكةَ الفيلَ وجعل كيدَ أصحابِ الفيل في تضليل لتبقَى كعبةُ الله صرحًا آمنًا عبر التاريخ.
والعربُ قبلَ الإسلام كانت تعيش حالةً من التمزُّق والفوضى والضّياع، تدور بينهم حروبٌ طاحنة ومعاركُ ضارية، وعلَت مكانةُ قريش من بينهم لاحتضانها بلدًا آمنا، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]، بل وأقسم الله بذلك البلدِ المستقرِّ الآمن: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1-3]، ووعد الله نبيَّه محمَّدًا وأصحابه بأداء النُّسُك على صفةٍ تتشوَّف لها نفوسهم وهي الأمنُ والاطمئنان، قال جلّ وعلا: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ [الفتحة:27].
وممّا اختصَّت به مدينةُ المصطفى أمنُها حين فَزَع القرى من المسيح الدجال، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخُل المدينةَ رعْبُ المسيح الدجال، لها يومئِذ سبعةُ أبواب، على كلِّ باب ملكان)) رواه البخاري [1].
ومن نعيمِ أهل الجنة في الجنّة أمنُ المكان، فلا خوفَ ولا فزعَ ولا تحوُّل، ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر:46]، وقال سبحانه: وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37]، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ [الدخان:51].
أيّها المسلمون، لقد جمعت شريعةُ الإسلام المحاسنَ كلّها، فصانت الدينَ وحفِظت العقول وطهَّرتِ الأموال وصانت الأعراض وأمَّنت النفوس، أمرتِ المسلمَ بإلقاء كلمة السلام والأمن والرحمةِ والاطمئنان على أخيه المسلم إشارةً منها لنشرِ الأمن بين الناس، وأوجبت حفظَ النفس حتى في مظِنَّة أمنها في أحبِّ البقاع إلى الله، قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا مَرَّ أحدُكم في مسجدِنا أو في سوقنا ومعه نَبلٌ فليمسِك على نِصالها ـ أو قال: ـ فليقبِض بكفِّه أن يصيبَ أحدًا من المسلمين منها بشيء)) متفق عليه [2].
وحذَّرت من إظهارِ أسباب الرَّوع بين صفوفِ المسلمين، قال : ((لا يُشِر أحدُكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعلَّ الشيطانَ ينزِع في يده، فيقعُ في حفرةٍ من النار)) متفق عليه [3].
وحرَّمت على المسلم الإشارةَ على أخيه المسلم بالسّلاح ولو مازحًا، قال النبيّ : ((من أشار إلى أخيه بحديدةٍ فإنّ الملائكة تلعنُه حتى يدعَها، وإن كان أخاه لأبيه وأمه)) رواه المسلم [4] ، قال النوويّ رحمه الله: "هذا مبالغة في إيضاح عُموم النهي في كلِّ أحدٍ، سواء من يُتَّهم فيه ومن لا يتَّهم، وسواء كان هذا هزلاً ولعبًا أم لا؛ لأن ترويعَ المسلم حرامٌ بكلِّ حال" [5].
ودعا الإسلامُ إلى كلِّ عمل يبعَث على الأمن والاطمِئنان بين صفوفِ أفراده، وأمر بإخفاء أسباب الفزَع في المجتمع، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يحلُّ لمسلمٍ أن يروِّع مسلِمًا)) رواه أحمد [6].
ولمَّا دخل النبيّ مكَّة عامَ الفتح، منح أهلَ مكَّة أعظمَ ما تتوُق إليه نفوسهم، فأعطى الأمانَ لهم وقال: ((من دخَل دارَ أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقَى السّلاحَ فهو آمن، ومن دخل المسجدَ فهو آمن)) رواه مسلم [7].
وما شُرعت الحدود العادِلة الحازمة في الإسلام على تنوُّعها إلاَّ لتحقيقِ الأمن في المجتمعات.
أيها المسلمون، بالأمن والإيمان تتوحَّد النفوسُ، وتزدهِر الحياة، وتغدَق الأرزاق، ويتعارف الناس، وتُتَلقَّى العلومُ من منابعها الصافية، ويزدادُ الحبلُ الوثيق بين الأمة وعلمائها، وتتوثَّق الروابطُ بين أفراد المجتمع، وتتوحَّد الكلمةُ، ويأنس الجميعُ، ويتبادل الناسُ المنافع، وتُقام الشعائر بطمأنينة، وتقُام حدود الله في أرض الله على عباد الله.
وإذا اختلَّ الأمنُ تبدَّل الحالُ، ولم يهنأ أحدٌ براحةِ بال، فيلحقُ الناسَ الفزعُ في عبادتهم، فتُهجَر المساجد ويمنَع المسلم من إظهارِ شعائر دينه، قال سبحانه: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ [يونس:83]، وتُعاق سُبُلُ الدعوة، وينضَب وُصول الخير إلى الآخرين، وينقطع تحصيلُ العلم وملازمة العلماء، ولا توصَل الأرحام، ويئنُّ المريض فلا دواءَ ولا طبيب، وتختلُّ المعايش، وتهجَر الديار، وتفارَق الأوطان، وتتفرَّق الأسَر، وتنقَضُ عهودٌ ومواثيق، وتبور التجارة، ويتعسَّر طلبُ الرزق، وتتبدَّل طباعُ الخَلق، فيظهرُ الكَذِب ويُلقَى الشحّ ويبادَر إلى تصديق الحَبَر المخوف وتكذيب خبر الأمن.
باختلال الأمن تُقتَل نفوسٌ بريئة، وترمَّل نساء، ويُيتَّم أطفال. إذا سُلِبت نعمةُ الأمن فشا الجهلُ وشاع الظلم وسلبتِ الممتلكات، وإذا حلَّ الخوفُ أُذيق المجتمعُ لباسَ الفقر والجوع، قال سبحانه: فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112]، قال القرطبي رحمه الله: "سمَّى الله الجوعَ والخوفَ لباسًا لأنه يظهِر عليهم من الهُزال وشحوبةِ اللون وسوءِ الحال ما هو كاللباس" [8].
الخوفُ يجلِب الغمَّ، وهو قرين الحزن، قال جل وعلا: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، يقول معاوية رضي الله عنه: (إيّاكم والفتنةَ، فلا تهمّوا بها، فإنها تفسِد المعيشةَ، وتكدِّر النِّعمة، وتورثُ الاستئصال) [9].
ولو قلَّبتَ البصرَ في الآفاقِ لوجدتَ الأمنَ ضرورةً في كلّ شأن، ولن تصلَ إلى غايةِ كمالِ أمرٍ إلا بالأمن، بل لن تجدَ مجتمعًا ناهضًا وحبالُ الخوف تهزّ كيانَه.
أيّها المسلمون، نعمةُ الأمن من نعَم الله حقًّا، حقيقٌ بأن تُذكَر ويذكَّر بها وأن يُحافَظ عليها، قال سبحانه: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ [الأنفال:26].
ونعمةُ الأمن تُقابَل بالذكر والشكر، فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:239]. وأمَر الله قريشًا بشكر نعمةِ الأمن والرخَاء بالإكثار من طاعته، قالَ جل جلاله: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3، 4].
والمعاصي والأمنُ لا يجتمِعان، فالذنوب مُزيلةٌ للنِّعم، وبها تحُلّ النقم، قال سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال:53]، وما نزل بلاءٌ إلاَّ بذنب، ولا رُفِع إلا بتوبة. والطاعةُ هي حِصن الله الأعظمُ الذي من دخله كان من الآمنين.
وبالخوف منَ الله ومراقبتِه يتحقّق الأمن والأمان، فهابيل امتَنع من قتلِ قابيل لخوفِه من ربِّه جل وعلا، مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [المائدة:28].
والعنايةُ بالعلم والتمسُّك بالكتابِ والسنة شريعةً وقِيَمًا وأصولاً اجتماعية عصمةٌ من الفتن، وللتعليم الشرعيِّ أساسٌ في رسوخ الأمن والاطمئنان، قال ابن القيّم رحمه الله: "وإذا ظهر العلمُ في بلدٍ أو محلّة قلّ الشر في أهلها، وإذا خفي العلمُ هناك ظهَر الشرّ والفساد" [10].
والعلماءُ الربانيّون هم ورثةُ الأنبياء، وفي ملازمتِهم وزيارتهم وسؤالهم والاستنارةِ بآرائهم سدادٌ في الرأي وتوفيقٌ للصواب ودرءٌ للمفاسد. وببركةِ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر تُمنَع الشرور والآفات عن المجتمعات. وحِفظُ العبد نفسَه من شهواتِ النفس وشبهاتِ القلبِ أصلٌ في صيانةِ المجتمع من المخاوف والمكاره. وتأويلُ نصوص الشريعة على غير وجهِها سببُ انحرافِ الفهوم، ومنها ينطلق الأعداءُ لتلويث عقولِ الناشئة، ويزداد أثره حينَ يضعُف التحصُّن بعلوم الدين.
وبعد: أيها المسلمون، فحِفظُ الأمن في بلاد الحرمين ألزمُ، فعلى ثراها تنزَّل الوحي، ومِن بين لابتَي طابةَ شعَّ النور في الآفاق، فيها بيتُ الله قائم، وفيها مسجدُ رسول الله عامر.
ويجب أن ينهلَ الجميعُ من منبع الكتاب والسنّة من غير تحريفٍ أو تأويل لنصوصِهما، ومعرفة ضوابط الولاءِ والبراء من غير إفراطٍ فيها أو مجافاة عنها, وبالتمسك بالشريعة يسعَدُ الجميعُ بالأمن والرخاء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب فضائل المدينة (1879) عن أبي بكرة رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7075) صحيح مسلم: كتاب البر (2615) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
[3] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7072) ، صحيح مسلم: كتاب البر (2617) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] صحيح مسلم: كتاب البر (2616) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] شرح صحيح مسلم (16/170).
[6] مسند أحمد (5/362) من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بعض أصحاب رسول الله ، وأخرجه أيضا أبو دواد في كتاب الأدب (5004)، والقضاعي في مسند الشهاب (878)، والبيهقي في الكبرى (10/249)، وصححه الألباني في غاية المرام (447).
[7] صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1780) عن أبي هريرة عن أبي سفيان رضي الله عنهما، وليس فيه: ((ومن دخل المسجد فهو آمن)).
[8] الجامع لأحكام القرآن (10/194).
[9] انظر: سير أعلام النبلاء (3/148-149).
[10] إعلام الموقعين (2/257).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، الأمنُ مطلَبٌ في الحياة لا يستغني عنه الخلقُ لقضاءِ مصالحهم الدينية والدنيوية، وما مِن عبد إلاَّ ويبحثُ لنفسه عن أسبابِ أمنِها، ويتوقَّى جَهدَ طاقته أسبابَ الخوف التي قد تُحدق به في طريق حياته، ومهما أُوتي الإنسان من سلامةِ بَدن ووَفرة رزق فإنّه لا يشعُر بقيمتِها إلاَّ بالأمن والاستقرار.
والخوفُ منَ الله ومراقبته مفتاحُ الأمن للمسلم في دنياه وفي أخراه، وعَقد القلب على أركان الإيمان وتوفيرُ مقتضياته في عمل الجوارح هو المصدر الحقيقيّ لحصول الأمن في الدنيا والآخرة. والأمن التامّ هو في طاعة الله ولزوم ذكره، قال سبحانه: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
وإذا استقام الفردُ في نفسه وألزمَ مَن تحت يدِه من زوجةٍ وأبناء على السّير وَفقَ كتاب الله وسنّة رسوله حَقَّق الأمنَ لنفسه، وانتظَمَ الأمنُ في المجتمع.
ثمّ اعلموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيّه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وزد وبارك على نبيّنا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين...
(1/3310)
الوسطيّة
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
13/6/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من الخلق وتنزيل الشرائع. 2- الشريعة الخاتمة. 3- مِن سمات شريعة الإسلام. 4- سبب الحديث عن الوسطية. 5- مفهوم الوسطية. 6- الوسطية هي الإسلام. 7- واجب المصلحين والإعلاميين والتربويّين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسِي بتقوى الله عزّ وجلّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ أي: اجعَلوا بينكم وبين عذابِه وقايةً لكم بفعلِ أوامِره واجتنابِ نواهيه، وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ مستسلمون لله في أمرِه ونهيه، راضون بشرعِه وحُكمه، فمَن التَزَم الإسلامَ بالتّقوى فاز في الدّنيا والأُخْرَى، ومن قلَّ تقواه زَلَّ في وَحلِ الشهوات، ومن لم يستسلِم لله ضلَّ في تيهِ الشبُهات.
وبعد: أيّها المؤمنون، خلق الله البشرَ ليعبدوه، وأورَثهم الأرضَ ليوحِّدوه، وأرسلَ إليهم رسُلاً، وشرع لهم شرائعَ تناسِب ما هم عليه، كلُّ أمّةٍ بحَسَب حالها، كما قصَّ الله تعالى عن اليهود: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [الأنعام:146]، قال ابنُ كثير رحمه الله: "أي: هذا التضييقُ إنما فعَلناه بهم وألزمناهم به مجازاةً على بغيِهم ومخالفتِهم أوامِرَنا، كما قال الله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا [النساء:160]، وَإِنَّا لَصَادِقُونَ أي: عادِلون فيما جازَيناهم به" انتهى كلامه رحمه الله [1]. ثمّ إنّ الله تعالى ختم الشرائعَ بشريعةِ الإسلام التي جاء بها نبيُّنا محمّد ، فنسخت ما كان قبلَها، وجعلها الله خاتمةَ الأديان، فجاءت على أكملِ نظامٍ وأحسن إتقان، في جمالٍ وجلالٍ وصَلاحٍ لكلِّ البشريّة والأجيال، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
ومِن أبرز سِمات هذهِ الشريعة المحمَّديّة الخاتمةِ الوسطيّةُ والاعتدال، وبُنِيت على جَلب المصالحِ ودرء المفاسد والتيسير ودَفع المشقّة، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة:185]. وفي وَصفِ من شملته رحمةُ الله من أهل الكتاب: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157] أي: أنه جاء بالتيسير والسماحةِ والرِّفق ورفعِ الحرَج أو الحنيفيّة السَّمحة، كما قال النبيّ لأميرَيه معاذٍ وأبي موسى الأشعريّ رضي الله عنهما لمّا بعثهما إلى اليمَن: ((يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعَا ولا تختلِفا)) رواه البخاري ومسلم [2] ، وقال صاحبُه أبو برزةَ الأسلميّ رضي الله عنه: إنّي صحبتُ رسولَ الله وشهدتُ تيسيره [3].
وقد كانتِ الأممُ الذين من قبلِنا في شرائعِهم ضيقٌ عليهم، فوسَّع الله على هذه الأمّة أمورها وسهَّلها لهم.
مِن هذه المبادِئ وغيرها صارت هذه الأمّةُ وسطًا كما قال الله عز وجل: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، قال القرطبي رحمه الله وغيره: "أي: عدولاً خِيارا، والوسَطُ هو الخِيار والأجوَد، كما يقال: قريشٌ أوسطُ العَرب نَسَبًا ودارًا، أي: خيرُها وأفضلها، وكان رسول الله وسَطًا في قومه، أي: أشرفَهم نسبًا" [4].
عبادَ الله، ولما جعَل الله هذه الأمّةَ وسطًا خصَّها بأكملِ الشرائع وأقوم المناهج وأوضحِ المذاهب كما قال تعالى: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [الحج:78].
أيّها المسلمون، لماذا الحديثُ عن الوسطية والسماحةِ في الدين والتشريع؟ لقد مرَّت فِتَن أُشرِبتها قلوبٌ وزلّت فيها أقدام ولاكَتها ألسُنٌ وخطَّتها أقلام ووافقت هوًى عند فِئام، فكانت تبِعاتُها لَديهم اختلالاً في الرُّؤَى واضطرابًا في التفكير، ولا غَروَ فإنّ الظلامَ ينتشر حين يخبو النور، لذا كان لزامًا على أهلِ العلم أن يبيِّنوا ويرشِدوا، وأن يَفهَمَ المسلمون ويُفهَمُوا المعانيَ والمقاصدَ الشرعيّة كما أرادها الله لا كما تفسِّرها أهواءُ البشر، مع أنّنا لا نعاني مِن أزمةِ إقناع بقدرِ ما نعاني من أصحابِ الهوى والأغراضِ ومَن امتلأت قلوبهم بالأمراض، يجرُّون الأمّةَ إلى التّغريب، ويدفعونها عن دينِها دفعًا؛ عن طريق الطّعن في الأسُس والثّوابت، بل تجرَّأ من لا علمَ عندَه على الدين ذاتِه ليفسّرُوه كيفَ شاؤوا، وليكيِّفوه على أهوائهم، حتى تجاوَزوا المرجِئةَ في انتقاصِ فرائضِ الدين والجُرأةِ على حدودِ ربِّ العالمين، كما بُليتِ الأمّة بمن يجتزئ الآياتِ ويختزل النصوصَ ويُعمِل فهمَه الخاصّ، فسُفِكت دماءٌ، وأُتلِفَت ممتلكات، وروِّع آمنون، وقُتل مؤمِنون ومستأمنون، ممّا جرَّ على الدينِ وأهله ويلاتٍ ونكَبات، يقول ابنُ القيم رحمه الله: "فما أمرَ الله بأمرٍ إلاَّ وللشّيطان فيه نزغتان؛ إمّا إلى تفريط وإضاعة، وإمّا إلى إفراطٍ وغلوّ، ودينُ الله وسَطٌ بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبَلين والهدَى بين ضلالتين والوسطِ بين طرفين ذميمين" انتهى كلامه رحمه الله [5].
فهديُ الإسلام بعيدٌ عن الغلوّ والتنطُّع وإن حمَلَ عليه رغبةٌ في الخير ومحبَّةٌ في الدين، إلاَّ أنه عملٌ غيرُ رشيد ومنهج غير سديد لمخالفتِه الكتابَ والسنة، وهما الميزان لصحَّة المنهج وسلامة المعتَقَد وصوابِ العمل.
وعلى هذا يُقاس إرادةُ الإصلاح، فكم من مصوِّتٍ: "إنما نحن مصلحون" وهم في حقيقتهم مفسِدون مخرِّبون، في طرفَي النقيضِ يعمَهون، قد اتَّخذت كلُّ طائفةٍ الأخرَى وسيلةً لتبريرِ مواقفها وتمريرِ مخطَّطاتها، والله أعلمُ بما يوعون، طرفٌ يكفِّر المسلمين وطرفٌ يريد من المسلمين أن يكفُروا، أهلُ هَوى، لا يقتَفون أثرَ نبيّ، ولا يؤمِنون بغيث، ولا يعفون عن عَيب، يأخذون بالشّبهات، ويسيرون في الشّهوات، المعروفُ عندَهم ما عرَفوا، والمنكَر ما أنكروا، مفزَعُهم في المعضِلات إلى أنفسِهم، وتعويلُهم في المهمَّات على آرائهم، كأنَّ كلَّ امرِئ منهم إمامُ نفسه، قد أخذ منهم فيما يرى بِعُرًى ثقات وأسبابٍ محكمات، ألا فلتَجِب صيانةُ الدين من عَبث العابثين وإحاطةُ الشريعةِ بسياجٍ يمنَع عنها اللاعبين.
أيّها المسلمون، مقاصدُ الشريعة وحدودُها لم توضَع على مقتضَى تشهِّي العبادِ وأغراضهم، بل هو حُكمُ العليم الخبيرِ الذي هو أعلمُ بمن خلَق وهو اللّطيف الخبير. فالواجبُ المرَدُّ إلى شريعتِه سبحانه، لا إلى أهواء العِباد، ولا إلى ما تُمليه أذهانُ البَشَر أو معارضة الوحيِ بالاستحسانِ والنظر، وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون:71].
وكما أنَّ الوسَطَ يعني العَدلَ والخيارَ فالوسطيّة لا تعني التوسُّط بين الحقِّ والباطل والإيمانِ والفِسق، الوسطيّةُ لا تَعني التخلِّي عن ثوابتِ الإسلام ومقتضياتِه لأجل الاقترابِ من غيره، الوسطيّةُ لا تعني خَلطَ الأديان أو جمعَ الفضيلةِ مع الرذيلة، كما أنَّ الوسطيةَ لا تعني اطِّراحَ الحقِّ المستمَدِّ من الوحيَين حينَ لا يتَّفق مع الشهواتِ.
إنَّ مفهومَ الوسطية الحقيقيّ هو التمسُّكِ بجميع تعاليم الشريعة السّمحة بذاتها؛ لأنّ الإسلامَ بتعاليمه وشريعته يمثِّل الوسطيّةَ الحقيقيّة في العقيدة والعبادة والسلوك والمعاملة.
فالوسطيةُ في العقيدةِ أن يُعبَد الله وحدَه لا شريكَ له، وأن تصرَفَ جميع أنواعِ العبادة له من غير شركٍ ولا كهَنوت ولا وسائطَ أو بِدَع، وقد قال الله تعالى لنبيّه : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64].
والوسطيّةُ في ذاتِ العبادةِ أن لا يُعبَد الله إلاّ بما شرعَه من طريقِ رسوله محمّد ، فالتقصيرُ فيها جفاءٌ وفِسق، والزيادةُ عليها بدعةٌ وغلوّ.
والوسطيّةُ في الولاء والبراء لا تحتاج إلى مزايدةٍ أو تحكُّم، فقد حَكَمها الله تعالى بقوله: لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الممتحنة:8، 9]. وكذا الآياتُ المحكَمة والسُّنَن المفصّلة لطريقةِ التعامل مع غير المسلمين من حربيّين وذمّيّين ومعاهَدين ومستأمَنين ومن لم تبلُغه الدعوة أصلاً.
أمّا في الرجال والنساء فقد قال الله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، وفي العلاقةِ بين الزوجين: إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]. وكذا في السلوك فإنَّ الذي قال: فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [لقمان:33] هو الذي قال سبحانه: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ [الأعراف:32].
فهذا هو الصّراط المستقيم الذي جاءت به الشريعةُ من الحملِ على الوسَط من غيرِ إفراط ولا تفريط، فمن خرَج عنه فقد خرجَ عن قَصد الشارع.
وقد كان النبيُّ يحثُّ على القصدِ في الأمورِ فقال لمعاذٍ رضي الله عنه لما أطالَ بالناس في الصلاة: ((أفتَّان أنت يا معاذ؟!)) رواه النسائي وأحمد [6] ، وقال: ((سدِّدوا وقارِبوا، واغدُوا وروحوا، وشيء من الدُّلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا)) رواه البخاري [7] ، وردَّ على من أراد التبتُّلَ وهجرَ النساء والانقطاعَ للعبادة بقوله: ((من رغِب عن سنّتي فليس منّي)) رواه مسلم [8]. وقال الشاطبيّ رحمه الله: "فإنّ الخروجَ إلى الأطرافِ خارجٌ عن العدل، ولا تقومُ به مصلحةُ الخَلق، فإنّ طرفَ التشديد وطرفَ الانحلال كلاهما مَهلَكة" [9].
أيّها المسلمون، إنّ شريعةَ الإسلام بذاتها وبكلِّ تفاصيلها هي الوسطُ، فليست بحاجةٍ إلى تخفيفٍ أو تنقيص، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]. وعليه فإنّ الواجبَ على المسلمين أن يعُوا هذه الحقيقةَ لئلاّ يُنتَقصَ عليهم دينُهم بحجَّة الوسطيّة، فالله تعالى قد حكَم فجعل شريعتَه هي الوسَط، فمن نقص أو زادَ فعن الوسطيّة قد حاد، وشريعةُ الله كامِلة شاملةٌ لا تحتاج إلى تعديلٍ أو توجيه، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]. ولكن يبقَى الفقهُ والعِلم الذي به يُعرَف الموقف الشرعيّ الصحيح من كلِّ واقِعة، وهذا هو دورُ العلماء الربانيِّين الراسخين في العلم بما استُحفِظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء، يعرِفون مرادَ الله من شرعِه، ويتّبعون الدليلَ وليس الهوى أو الفكرَ المجرَّد، فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:43، 44].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعنا بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] تفسير القرآن العظيم (2/186).
[2] صحيح البخاري: كتاب الجهاد (3038)، صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1733) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في كتاب العمل في الصلاة (1211) وفي كتاب الأدب (6127).
[4] انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/191).
[5] مدارج السالكين (2/496).
[6] أخرجه البخاري في الأذان (700، 701، 705، 711)، ومسلم في (465) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[7] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6464) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] صحيح مسلم: كتاب النكاح (1401) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو أيضا عند البخاري في النكاح (5063).
[9] الموافقات (5/276-278).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ العالمين، الرّحمن الرّحيم، مالك يوم الدين، منه نستمدُّ الهدايةَ للطريق القويم والصراط المستقيم، ونسأله أن يجنِّبَنا طُرُقَ الضّلالة، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له الملك الحقّ المبين، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله الأمين، صلّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، إنَّ الوسطيّةَ التي تلتزمُها الأمّةُ أو طائفةٌ منها هي التي تنجِيها بإذنِ الله من الأزماتِ وتُعينها على البقاء والثّبات، فقد كُسِر الخوارج كما دُحِرتِ المرجئة وإن كانوا في كلِّ عصرٍ ينبتُون، لكن سرعانَ ما يُهزَمون، إلاّ أنّ الأمّةَ الوسط باقيةٌ بمبادئها وثَباتها، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17].
وإنَّ المسلمَ المتمَسِّكَ بكتابِ ربِّه السائرَ على منهاجِ رسوله القاصدَ النجاةَ في الدّنيا والآخرة لا تصدُّه الفتَن عن دينه، فلا يتنازلُ عمّا لديه من حقٍّ لأنّ بعضَ من انتسبَ إليه أخطأَ في توظيفِه أو رجاءَ التقارُب مع أهلِ الهوى والضلال، فدينُ الله كامِل، وانتقاصُ جُزءٍ منه خشيةَ الفهمِ الخاطِئ تغييبٌ للوعي وسببٌ لخَلط المفاهيم، يُنتِج جيلاً مفرِطًا أو مفرِّطًا، يأخذ جانبًا من الدّين ويجعلُه هو الدّين.
وعليه فإنَّ الواجبَ على المربِّين والمصلِحين والإعلاميّين والقائمين على مناهجِ التعليم مراعاةُ ذلك وتبصير الناس بأمور دينهم وما يجبُ عليهم بالتبصير النافي للخَلط، لا أن تُوارَى النصوص أو تحوَّر، فإنَّ العلمَ الشّرعيَّ الصافي ضمانةٌ بإذنِ الله تعالى ضِدَّ الانحراف الفكريّ أيًّا كان اتِّجاهُه، وهذا هو التوازُن الذي اتَّسمَت به هذه الشريعة. وكما يحرُم التطبُّب ممَّن لا يُحسِنه والفتوى ممَّن لا يعلَمها فكذا يحرُم الخَوضُ في دينِ الله بلا علمٍ، واللهُ من وراءِ القصد.
هذا، وصلّوا وسلِّموا على مَن أمركم الله بالصّلاة والسّلام عليه في قوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وأصحابه الغُرِّ الميامين...
(1/3311)
التذكير بالموت وما بعده
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
13/6/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الدنيا. 2- شدّة قرب الموت. 3- التذكير بالموت. 4- نداء لأهل المعاصي وأرباب الغفلة. 5- شدّة القبر. 6- أهوال الصراط. 7- دعوة للتوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله تعالى فإنّ تقواه أقوى ظهير وأوفى نصير، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة:28].
أيّها المسلمون، إنكم في دارٍ ليست للبقاء وإن تراخى العمر وامتدَّ المدى. أيّامُها مراحل، وساعاتها قلائل، والمرءُ لا شكَّ عنها راحِل. شبابُها هرَم، وراحتُها سَقَم، ولذّاتُها نَدَم. الدنيا قنطرةٌ لمن عَبَر وعبرةٌ لمن استبصَر واعتبر، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].
فاستبقوا الخيرات، وبادِروا قبل أن تتمنّوا المهلةَ وهيهاتَ هيهات، ولا تغترّوا بحياةٍ تقود إلى الممَات، لا يُرى في حُشودِها إلاّ الشتات، ولا يُسمَع في ربوعِها إلا "فلان مرِض" و"فلان مات".
أيّها المسلمون، الدنيا قد آذنت بالفِراق، فراق ليس يشبهُه فراق، قد انقَطع الرجاءُ عنِ التلاق، وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:29، 30]. فطوبى لمن فرَّ من مَواطِن الرِّيَب ومواقِع المقتِ والغضَب، مستمسِكًا بدينه، عاقدًا عليه بكِلتا يدَيه، قد اتَّخذه من الشّرور ملاذًا ومن الفِتنِ مَعاذًا. ويا خسارَ من اقتَحَم حِمى المعاصي والآثام، وأَرتعَ في الموبقاتِ العِظام، وأحكَم عَقدَ الإصرارِ على الذنوبِ والأوزار. هلك المصِرّ الذي لا يُقلِع، وندِم المستمرُّ الذي لا يَرجِع، وخابَ المسترسِلُ الذي لا ينزِع، وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].
وما أقبحَ التفريطَ في زمن الصِّبا فكيف به والشيبُ نازل؟!
ترحّل عن الدنيا بزادٍ من التُّقى فعُمرك أيّام تُعَدّ قلائل [1]
أيها المسلمون، الموتُ في كلّ حين ينشُر الكفنا، ونحن في غفلةٍ عمّا يُراد بِنا. سهوٌ وشرود، وإعراضٌ وصدود، إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات:6].
كم شيّعنا من الأقران، كم دفنّا من الإخوان، كم أضجعنا من الجيران، كم فقدنَا من الخِلاّن. فيا مَن يُقصدُ بالموت ويُنحَى، يا من أسمعته المواعظُ إرشادًا ونُصحًا، هلاّ انتهيتَ وارعَوَيت، وندمتَ وبكَيت، وفتحتَ للخير عينَيك، وقُمتَ للهُدى مَشيًا على قدمَيك، لتحصُل على غايةِ المراد، وتسعَد كلَّ الإسعاد، فإن عصيتَ وأبيت وأعرضتَ وتولّيت حتى فاجأك الأجل وقيل: "ميْت" فستعلم يومَ الحساب مَن عصَيت، وستبكي دمًا على قُبح ما جَنيتَ، يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:23، 24]، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
أيّها المسلمون، أين مَن بلَغوا الآمال؟! أين من جمَعوا الكنوز والأموال؟! فاجأهم الموتُ في وقتٍ لم يحتسبوه، وجاءهم هولٌ لم يرتقِبوه، تفرّقت في القبورِ أجزاؤُهم، وترمّل من بعدهم نساؤهم، وتيتّم خلفَهم أولادُهم، واقتُسِم طريفُهم وتِلادهم، وكلُّ عبدٍ ميّت ومبعوث، وكلُّ ما جمَّع متروك وموروث.
يا مَن سينأى عن بَنيه كما نأى عنه أبوه، مثِّل لنفسِك قولَهم: جاءَ اليقينُ فوجِّهوه وتحلَّلُوا من ظلمه قبل الممات وحلِّلوه، مثّل لنفسك قولَهم: جاء الأجلُ فأغمضوه وغسِّلوه وكفِّنوه وحنِّطوه واحملوه على أكتافكم وادفنوه، يقول رسول الهدى : ((إذا وُضِعت الجنازةُ فاحتمَلها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحةً قالت: قدّموني قدّموني، وإن كانت غيرَ صالحة قالت: يا ويلَها أين تذهبون بها؟! يسمَع صوتَها كلُّ شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق)) أخرجه البخاري [2].
يا هاتِكَ الحرمات لا تفعَل، يا واقعًا في الفواحشِ أما تستحي وتخجَل؟! يا مبارزًا مولاكَ بالخطايا تمهَّل، فالكلام مكتوب، والقولُ محسوب، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]، إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ [يونس:21]، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80].
يا مطلِقًا نفسَه فيما يشتهي ويريد، الملِكُ يرى والملَك شهيد، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
يا مشغولاً قلبُه بلُبنى وسُعدَى، يا مستلِذَّ الرُّقادِ وهذه الركائبُ تُحدى، أعَلى قلبك حجابٌ أم غَشَى أم في عينك كَمَه أم عَشى؟! أنسيتَ الموتَ وسكرته وصعوبتَه ومرارتَه؟! أنسيتَ القبر وضمَّتَه ووحشته وظلمتَه والحساب وشدّتَه؟! سَلُوا القبور عن أهلِها، واستخبروا اللحودَ عن رهائنِها، لقد أصبحوا عظامًا رميمًا ورُفاتًا هشيمًا، سكنوا تحت التراب، وظعنوا فليس لهم إياب، الأصواتُ هامِدة، والأجساد بالية، والآثار عافِية، قد ارتُهِنوا في أفظعِ مضجَع، وضمّهم أبعدُ مستودَع، لا يجِدون لما هم فيه دفعًا، ولا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا، ينتظرون يومًا الأممُ فيه إلى ربِّها تُدعَى والخلائق تحشَر إلى الموقِف وتَسعَى، يقول رسول الهدى : ((ما رأيتُ منظرًا قطّ إلاّ والقبر أفظعُ منه)) [3] ، وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه إذا وقَف على قبرٍ يبكي حتى يبلّ لحيتَه، فقيل: تذكر الجنّةَ والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا! قال: إنّ رسولَ الله قال: ((إنّ القبرَ أوّل منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعدَه أيسرُ منه، وإن لم ينجُ منه فما بعدَه أشدُّ منه)) [4] ، ويقول رسول الهدى : ((إنّ أحدَكم إذا مات عُرِض عليه مقعدُه بالغداةِ والعشيّ، إن كان مِن أهل الجنّة فمِن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدُك حتى يبعثَك الله يومَ القيامة)) [5]. أرواحٌ في أعلى علِّيِّين، وأرواح في أسفلِ سافلين، أرواح في حواصِل طيرٍ خُضرٍ تسرح في الجنّة حيث شاءت، وأرواحٌ في تنُّور الزّناة والزواني، وأرواحٌ في نهرِ الدم تُلقَم الحجارةَ وهم أكلةُ الربا، وآخرون تُثلَم رؤوسهم بالحجارة وهم الذين يأخذون القرآن فيرفضونه وينامون عن الصلاة المكتوبة.
ومرّ رسولُ الله على قبرين فقال: ((أما إنّهما ليعذَّبان، وما يُعذَّبان في كبير، أمّا أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتِر من بوله)) [6]. فيا خجَلَ العاصين، ويا حَسرةَ المفرّطين، ويا أسفَ المقصِّرين.
يا مَن سارت بالمعاصي أخبارُهم، يا مَن قد قبُح إعلانهم وإسرارْهم، يا مَن قد ساءت أفعالهم وأقوالهم، تذكَّروا القبرَ المحفور، تذكَّروا النفخَ في الصور، تذكَّروا البعثَ والنشور، تذكَّروا الكتابَ المسطور، تذكَّروا السماءَ يومَ تتغيَّر وتمور، والنجومَ يومَ تنكدِر وتغور، والصراطَ يوم يُمَدّ للعبور، فهذا ناجٍ وهذا مأسور، وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:71، 72].
أيّها الجمع، أصخِ السمعَ لقول رسولِ الهدى : ((يمرُّ أوّلكم كالبرق، ثم كمرّ الرّيح، ثم كمرّ الطير وشَدّ الرجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيُّكم قائمٌ على الصراط يقول: ربّ سلِّم سلِّم، حتى تعجز أعمالُ العباد، حتى يجيء الرجلُ فلا يستطيع السيرَ إلا زَحفًا، وفي حافتَي الصراط كلاليبُ معلَّقة مأمورةٌ [بأخذ] من أُمِرت به، فمخدوش ناجٍ ومكدوس في النار)) ، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (والذي نفسُ أبي هريرة بيده، إن قَعر جهنّم لسبعين خريفًا) أخرجه مسلم [7].
فأينَ الباكي على ما جَنى؟! أين المستغفِر قبل الفَنا؟! أين التائب ممّا مضى؟! فالتَّوبُ مقبول، وعفو الله مأمول، وفضله مبْذول، فكم ضمِن من التّبِعات، وكم بدّل من السيئاتِ بالحسنات. ((إنّ الله عز وجل يبسط يدَه بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل، حتى تطلعَ الشمس من مغربها)) [8].
فيا فوزَ من تاب، ويا سعادةَ من آب، وربّه يقول: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ [طه:82].
فيا مَن يسمعُ الخطابَ، تنبّه قبلَ أن تُناخ للرحيل الرّكاب، وإياكَ إياك أن تدركَك الصَّرعةُ وتؤخَذ عند الغِرَّة، فلا تُقال العَثرَة، ولا تمكَّن من الرجعة، وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11].
فإن تك بالأمسِ اقترفتَ إساءةً فثَنِّ بإحسانٍ وأنتَ حميدُ
ولا تُرجِ فعلَ الخير منك إلى غدٍ لعلّ غدًا يأتي وأنت فقيدُ [9]
أيّها المسلمون، احذَروا المعاطِبَ التي توجِب في الشقاء الخلودَ، وتستدعي شَوهَ الوجوه ونُضجَ الجلود، واعلموا أنّ الدنيا سُمُّ الأفاعي، وأهلُها ما بين مَنعيٍّ وناعي، دُجُنّةٌ ينسَخُها الصباح، وصَفقةٌ يتعاقبها الخسارُ أو الرباح، ما هي إلا بقاءُ سَفرٍ في قَفرٍ أو إعراسٌ في ليلةِ نَفر، كأنّكم بها مُطّرحةٌ تعبُر فيها المواشي وتنبو العيون عن خبرها المتلاشي، فلا تعترُّوا فيها بقوّة أو فُتُوَّة، فما الصحّةُ إلا مركبُ الألم، وما الفُتُوّة إلا مِطيّة الهرَم، وما بعد المقيلِ إلا الرّحيل إلى منزلٍ كريم أو منزلٍ وَبيل، فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37-39].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنّة، ونفعني وإيّاكم بما فيهما من البيّنات والحِكمة، أقول ما تسمَعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] هاذان البيتان منسوبان لعبد الله بن المعتز، انظر: المستطرف في كل فن مستظرف (2/377-378).
[2] صحيح البخاري: كتاب الجنائز (1316، 1380) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[3] هو تابع للحديث الآتي بعده.
[4] أخرجه الترمذي في الزهد (2308)، وابن ماجه في الزهد (4267)، وعبد الله في زوائد المسند (1/63)، والبزار (444)، والبيهقي في الشعب (397) عن عثمان رضي الله عنه، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم (7942)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (3442).
[5] أخرجه البخاري في الجنائز (1379)، ومسلم في كتاب الجنة (2866) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[6] أخرجه البخاري في الوضوء (216، 218)، ومسلم في كتاب الطهارة (292) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[7] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (195) عن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما.
[8] أخرجه مسلم في التوبة (2759) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[9] هاذان البيتان لمحمود بن الحسن الوراق، رواهما البيهقي في الزهد الكبير (620)، وانظر: جامع اللوم والحكم (ص386). وفي الجامع لأحكام القرآن (15/353) نسبهما القرطبي لمحمد بن بشير.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيها المسلمون، اتّقوا الله في أوامره ونواهيه وأداءِ فرائضه واجتناب معاصيه، لا تكونوا أشباهًا لمن نسِي المصير، لا تكونوا أتباعًا لأهل التفريطِ والتقصير، تمسَّكوا بخلالِ الإيمان وشرائع الإسلام، وإيّاكم وكلَّ أمرٍ فيه تذرُّعٌ إلى نقضِ عُراه أو هدمِ قاعدته ومَبناه، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. ومَن كان عليه فريضةٌ فليقضِها، ومن كان عليه كفّارة فليؤدِّها، و((من كان له مظلمةٌ لأخيه من عِرضه أو شيء فلْيتحلَّله منه اليومَ قبلَ أن لا يكونَ دينار ولا درهم، إن كان له عملٌ صالح أُخِذ منه بقدر مظلَمَته، وإن لم يكن له حسناتٌ أُخِذ من سيّئات صاحبه فحُمِل عليه)) [1] ، و((ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يوصِي به يبيتُ ليلتين إلاّ ووصيّتُه مكتوبةٌ عنده)) [2] ، و((من أحبَّ أن يُزحزَح عن النّار ويُدخل الجنّةَ فلتأتِه منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يُحبُّ أن يؤتَى إليه)) [3].
أيّها المسلمون، إنّ ثمرةَ الاستماع الاتّباع، فكونوا من الذينَ يستمعون القولَ فيتّبعون أحسنَه.
واعلموا أنّ الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبّحة بقدسه، وأيَّه بكم أيّها المؤمنون من جنِّه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم على نبيّنا محمد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في المظالم (2449) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الوصايا (2738)، ومسلم في الوصية (1627) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[3] أخرجه مسلم في الإمارة (1844) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(1/3312)
من نِعَم الله تعالى
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
7/5/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب شكر الله تعالى على نعمه. 2- نعمة الإسلام ومبعث النبي. 3- نعمة الأمن والاستقرار. 4- نعمة العقل. 5- ضلال من حكّم العقل المطلق. 6- كيد الأعداء الإسلام والمسلمين. 7- أهل التغريب وأهل التخريب. 8- خطورة الفتن. 9- دعوة لاغتنام فرصة العفو.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، اشكُرُوا الله على نِعَمه العظيمة وآلائه الجسيمة، فإنه تعالى أنعمَ عليكم بنعَمهِ، وأحبَّ منكم أن تشكُروه على نِعَمه، بل أمركم بذلك ورتَّب على شكركم لنِعَمه المزيدَ من فضله وكرمه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، والكفرُ بالنعمة سببٌ للعقوبة، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]. وكلّما تأمَّل المسلمُ نِعَم الله عليه حقيقةً دعاه ذلك إلى شكرِها، فاللهُ الذي أنعمَ وتفضَّل يرضى منَّا أن نحمدَه ونثنيَ عليه، وأن تقومَ بحقيقةِ هذه النعمةِ وشكرها، في الحديث عنه : ((إنَّ اللهَ يرضى عن العبد يأكُل الأَكلةَ فيحمده عليها، ويشربُ الشَّربةَ فيحمده عليها)) [1]. فالحمدُ لله على عُموم نِعَمه وعظيم آلائه، له الحمد حتى يرضى، وله الحمدُ إذا رضي، ولا حولَ ولا قوَّة إلا بالله.
أنعم الله علينا بالإسلام، ونعمةُ الإسلام ـ يا إخواني ـ أجلُّ النِّعم وأكبرُها، لا نعمةَ تُماثلها. مَن رزقَه الله نعمةَ الإسلام فعرف ربَّه ووحَّده وعرفَ نبيَّه فاتّبعه وعرفَ دينَ الإسلام فاستقام عليه فتلك النعمةُ العُظمى والمنَّة الكبرى، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
أنعمَ الله علينا بمبعَث محمّدٍ ، فإنَّ بعثتَه مِنّة من الله علينا، ونعمةٌ من الله أنعم بها علينا، وقد ذكَّر الله عبادَه المؤمنين هذه المِنّةَ وتلك النعمةَ ليعرفوا قدرَها ويقوموا بحقِّها: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]. وبعثتُه رحمةٌ من الله رحِم بها الخليقة أجمع، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. فمن عرف هذه النعمةَ أحبَّ هذا النبيَّ الكريم واتّبع سنتَه واقتفى أثره وسأل الله الثباتَ على ذلك.
أنعم الله علينا بالأمنِ والاستقرار، ونعمةُ الأمن ورغَد العَيش من النِعَم العظيمة التي يذكرها المسلم فيشكُر الله عليها، أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص:57]. أجل، نحن بِجوارِ حَرمِ الله، ونتمتَّع بهذه النّعَم، وننظر إلى هذهِ النّعَم، النعم المتعدِّدة التي نعجز عن عدِّها وإحصائها، وصدق الله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].
أخي المسلم، إنَّ من نِعَم الله عليك نعمةَ العقل، فالعقلُ نعمةٌ من الله على العبد، أنعَم به عليه ليميِّزَ بين الحسَن والقبيح، وبين الخير والشر، وبين النافع والضارّ. العقلُ نعمةٌ كرَّم الله بها بني الإنسان وفضَّله بها على سائر المخلوقات، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70]. فالعقلُ من النِّعم التي فضُل بها الإنسان على سائر الحيوان.
أيها المسلم، هذا العقلُ فُرض عليك المحافظةُ عليه، وحَرُم عليك التعدِّي والجناية عليه؛ لأنّ في الجناية عليه إضعافًا لمساره وتكديرًا لإدراكه.
أخي المسلم، هذا العقلُ نعمةٌ من الله عليك، متى كمُل واستقام على الحقيقةِ قاد العبدَ إلى الخير والهدى، وإنما يُؤتى العبدُ من ضَعف الإدراك وقِلَّةِ التصوّر، والله يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء.
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]. فاسأل الله أن يثبِّت قلبَك على الحقّ، وأن يجعلك تدرك الحقّ وتعرفه، ثم تعمل به لتكون من المتّقين.
أخي المسلم، كان الناسُ قبلَ مبعَث محمّد في غايةٍ من الضلال والبُعد عن الهُدى، الجهلُ ضاربٌ بأطنابه عند العرب وغيرهم، وكان عندهم من الانحراف في العقيدةِ والسُّلوك ما اللهُ به عليم. عقولُهم لم يسخِّروها في إدراكِ النافع، بل عطّلوها وساروا على ما اعتادوه من الضَّلالات والجهالات والانخداعِ بمذهب الأسلاف والآباء، إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزّخرف:22]. إذًا فعقولهم مُعَطّلة، لم تُدرك الحقّ، ولم تفهَم المرادَ إلا النزرَ اليسير، فبعث الله محمّدًا بالهدى ودين الحقّ، فمنّ اللهُ على من شاء، فحكَّم عقلَه، وأدرك الحقيقة، وعلِم أنّ ما جاء به محمّد هو الحقّ والبرهان الصادق، فالتزم الإسلامَ واقتنع به وصار من أهل الإيمان، وأضلّ الله قلوبَ آخرين، فانغلقت عن قَبول الحقّ، وانحرفت عن الهدى، وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [فصلت:5]. عقولٌ لم تهدِ أربابَها إذ عبَدوا غيرَ الله، وتعلَّقوا بغيرِ الله، واستمرّوا على جاهليَّتهم وضلالاتهم، قال ابن عباس: (من أراد أن يعلمَ جهلَ العرَب فليقرأ قوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [الأنعام:140]) [2].
أيّها المسلم، وهناك مِن خَلقِ الله من حكَّم العقلَ المطلَق دون أن يربِطه بشرع، بل جعل حُكمَه إلى ما يميله عقلُه وفِكره دون أن يتربطَ بشرع ودين، وهناك يَضلُّ مَن يضلّ؛ لأنّ كلَّ عقل لا يرتبط بالحقّ والهدى فلن ينفعَ صاحبه، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44]، وقال: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]. فمَوادُّ الإدراك إذا ارتبَطَت بالشرعُ وُفِّق العبدُ للخير، وإن اعتمَد على فِكره ورأيِه من غير التفاتٍ للشرع ضلّ ضلالاً مبينا. واللهُ جلّ وعلا جعل العقولَ مَقاسَ التكليف في أصول الدين وفروعه، رُفع القلمُ عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبيِّ حتى يبلغ. وخاطب اللهُ بالآيات أهلَ العقول: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد:4]، وجعل العقلَ السليم يميِّز صاحبَه من أرباب الجهل: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، وحُذِّرنا من الجناية على هذا العقل، سواء [كانت] تلك الجناية حِسّيّة كالمسكِرات والمخدِّرات التي تضرّ بالعقل وتضعِف إدراكه، أو أشياء معنويّة كالانخداع بالبدع وأنواع الضّلالات والأخطاء المخالفة للحقّ.
أيها المسلم، فعليك أن تسأَل الله أن يثبِّت قلبَك على الحقّ، وأن يبصِّرك بالهدى، وكان نبيُّكم يُكثر أن يقول: ((لا ومقلِّب القلوب)) ، فسئل فقال: ((إنَّ قلوبَ العبادِ بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلِّبها كيف يشاء، إذا أراد أن يقلِب قلبَ عبدٍ قلبه)) [3]. فعياذًا بالله من زَيغ القلوب ومن تتابُع الذنوب ومن مُضلاَّت الفتن.
أيها المسلم، إنّ أعداءَ هذا الدينِ نصَبوا له العداءَ من القِدم، منذ أن بعثَ الله محمّدًا وأعداؤه من العرب أو غيرهم نصبوا له العداء، ولشريعته العداء، ولولا حِفظُ الله لهذه الشريعة وأنَّ اللهَ تكفَّل بحفظها إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومن عليها وهو خير الوارثين، لولا ذلك لانطفأت آثارُ الشريعة وانقضت آثارها؛ لأنَّ العداء لها صارخٌ، عِداءٌ قوي، عداء منَظَّم، عِداء يقوم على إعدادِه أخبثُ الخَلقِ وأشرّ الخلق، ولكنّ الله يقول: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8]، وأنَّ هذا الدينَ يبلغ ما بلغ الليلُ والنهار بعزِّ عزيز وذلِّ ذليل، وأنّ هذه الأمةَ لا يزال دينُها باقيًا إلى أن يرثَ الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، وفي الحديث: ((ولا تزالُ طائفةٌ من أمّتي ظاهرين على الحقّ، لا يضرُّهم من خذلهم ولا من خالفهم)) [4]. كم عودِيَ هذا الكتاب العزيزُ وحاوَل من حاول، ولكن باءت كلُّ المحاولاتِ بالفشل، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وأخبرهم تعالى أنَّ الثقلين الجنَّ والإنس لو اجتمعوا أن يأتوا بمِثل هذا القرآن ما استطاعوا: قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88].
عُودِيَت السنة فهيَّأ الله لها من محَّصها وأزال عنها أكاذيبَ الكاذبين وانتحالَ المبطلين، عُوديت هذه الشريعةُ وعُودي المسلمون، ولكن الحقّ واضحٌ والله يقول: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
حاربوا الأمّةَ المسلمة بكلِّ ما أوتوا من قوّة ليقضوا على هذا الدين، فلم يفلِحوا ولم يستطيعوا، حاربوهم اقتصاديًّا فلم يفلحوا، لكنَّ المصيبةَ والمكيدة كلّ المكيدة أن حاربوا الإسلام ببعضِ أبناءِ المسلمين، وأن جَعَلوا بعضَ أبناء المسلمين حَربًا على الإسلام وأهله، وتلك المصيبةُ العُظمى والبليّة الكبرى.
تربَّى بعضُ أبناء المسلمين على أفكارِ أعداءِ الإسلام، وعلى آرائهم الضالّة وأفكارهم المُنحرِفة، فانخدع بهم وأحسنَ الظنَّ بهم وظنَّ أنهم على حقٍّ وهم على باطل. انتصب بعضُ أبناءِ المسلمين حربًا على الإسلام وأهله، حربًا على العقيدةِ، حربًا على القيَم والفضائل، حربًا على الآداب الشرعيَّة والسلوك المرضيَّ، حاول عزلَ الدين عن الدنيا والفصلَ بين هذا الدينِ وحياة الناس وجَعل هذا الدين تراثًا قديمًا لا يستطيع أن يواكبَ العصَر ولا أن يسايرَ الحياة، وكلُّ هذا من التجنِّي على الإسلام وأهله.
وفئةٌ أخرى من بعضِ أبناء المسلمين فهِموا الإسلامَ على غير فهمِه، وتصوّروه على غير حقيقتِه، فحصل عندهم من الانغلاقِ وسوء الفهم وقِلَّة التصوّر ما الله به عليم. خرج بهم عدوُّ الله إبليس إلى دَور الغلوّ والتشدُّد المذموم والغلوّ الباطل حتى نصبوا العداءَ للإسلام وأهله، فكفّروا الأمَّة، واستباحوا دماءَها وأموالها، ولم يرعَوا لذي عهدٍ عهدًا ولا لذي ذمّةٍ ذمّة، وكلُّ هذا من خطواتِ الشيطان ووساوسه وأباطيله، وشرعُ الله وسَطٌ بين من غلا وبين من جَفا، وسطٌ بين من غلا فخرج عن المنهج القويم بغلُوِّه، وبين من جفا فشطَّ عن الحقِّ وابتعدَ عن سبيل الهدى، قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
فلنتَّق الله في أنفسنا، ولنلزَم الطريقَ السويّ الذي يقودنا إلى الخير، ولنتعاوَنْ فيما بيننا على البرّ والتقوى، وليوصي بعضُنا بعضًا بالحقّ والثباتِ عليه. أسأل الله للجميع التوفيقَ لما يحبّه ويرضاه إنه على كلّ شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الذكر (2734) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في المناقب (3524).
[3] أخرجه أحمد (3/112، 257)، والترمذي في القدر (2140)، وابن ماجه في الدعاء (3834)، وأبو يعلى (3687، 3688) عن أنس رضي الله عنه، وحسنه الترمذي، وأورده الألباني في صحيح سنن الترمذي (1739).
[4] أخرجه البخاري في المناقب (3641)، ومسلم في الإمارة (1037) عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. وأخرجه مسلم في الإمارة (1920) عن ثوبان رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، من رحمةِ الله بالأمّة أن تُساسَ بشريعةِ الله، وأن يحكَّم فيها شرعُ الله، وأن تعالجَ قضاياها ونوازلُها على وفق شرع الله، فالأمّةُ إذا حكَّمت شرعَ الله وتحاكمَت إليه وتعامَلت مع كلِّ القضايا بما يُوافِق شرعَ الله فذاك الخير والفلاحُ والسعادة.
ومِن توفيقِ الله أن يوفِّق الله قادةَ الأمّة بالسّعي فيما يُصلح الأمةَ ويدفعُ عنها البلاء ويحقِّق لها الخيرَ ويأخذ بناصيتها لما فيه صَلاحُ الدين والدنيا.
إخوتي، نعلم ما جرى من أحداثٍ وما تتابَع من أمور، وكلُّ ذلك بقضاء الله وقدره، مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:23]، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70]. فما يجري في كون الله فكلُّه بقدرٍ سابق، فالمؤمنُ يؤمِن بقدر الله وأنَّ ما شاء الله كان وأنَّ ما لم يشأ الله لم يكن، ثمّ المؤمنُ يعلم أنه لا مصيبةَ في الإنسان في نفسه ولا في أمته إلاَّ والمصائبُ سببُها الذنوبُ والمعاصي، قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقال: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا [الروم:41] أي: لا كلّه، وقال: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45]، فلا شكَّ أن ما يجرِي فبِذنوب العِباد، ولا يرفَع البلاءَ إلاَّ التوبةُ إلى الله والندمُ والاستغفار واللجوءُ إلى الله، والله يقبل توبةَ التائبين، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:25].
أبنائي، إخواني، إنَّ كلَّ مسلم حقًّا يسعَى فيما يُصلح دينَه ودنياه، ويبحَث عن الحقِّ أين هو فيسلكُه، والباطلِ فيبتعد عنه، ولا ينخدع ويغترّ، ولا يلجّ في باطله ويستمرّ في أخطائه، فإنّ المسلمَ كلَّما استبان له طريق الرّشد سعَى إليه، كلّما تبيَّن الهدى اتَّبعه، وقد ذمَّ الله قومًا إذا رأَوا الحقّ عدَلوا عنه، قال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146]، فعِياذًا بالله من زَيغ القلب.
أبنائي المسلمين، إنَّ الفِتَنَ ضرُرها عظيم وشرُّها مستطير، فهي تُغيِّر قلوبَ العِباد، فيتصوَّروا الباطلَ حقًّا والحقَّ باطلاً والحسنَ قبيحًا والقبيحَ حسنًا، وعدوُّ الله إبليس يجلِب عليه بخيله ورجله، فيحسِّن الباطل حتى يقتنع به وهو على غير هدى، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104].
أيّها المسلم الكريم، إنَّ طُرقَ الغواية وطرقَ الضلالةِ أمرُها واضح، لا يحلُّ لك أن تسلكَها وقد استبان لك الحقّ وعرفتَ الخطأ وتبصَّرت في الأمر، فيجبُ أن تتوبَ إلى الله، وأن تتركَ ما أنت عليه من سبيل الغواية.
يا أخي المسلم، هذه الفِتَنُ اقتنعَ بها بعضُهم، يقولون: نحن نجاهِد في سبيل الله. أُخبِرك ـ أخي ـ أنَّ هذا الفعلَ قتلَ الأبرياء وتدميرَ الأموال ليس واللهِ جهادًا في سبيل الله، وأُشهِد الله أنه ليس جهادًا في سبيل الله، ولكنه في سبيلِ الشيطان، ليس جهادَ حقٍّ، ولكنه باطلٌ وفِتَن لُبِّس على من لُبِّس عليه، يزعُم أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، والأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر له طُرُقه المعروفة، فليس يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر إلا من يعلَم أنَّ أمرَه بالمعروف مَقبول، ونهيه عن المنكر ممكِن، ويوضِّح الحقَّ، أما أن ينهى عن منكر فيقع في منكر أعظمَ منه وفي بلاء أعظمَ منه فيا ليتَه لم يأمر ولم ينهَ.
يا أخي، تبيَّنَ الحقُّ لك، واستبان الأمرُ لك، فما عليكَ إلاَّ أن تتوبَ إلى ربّك، وتعود إلى رشدك، وتسلكَ طريقَ الجماعة، وتحمدَ الله على النعمة والعافية.
يا أخي، وإذ عُرِض العفوُ والأمان على كلِّ من لم يجنِ وأُعطيَ أمانَ الله على نفسِه إن هو عاوَدَ رُشدَه وتاب من خطئه وأصلحَ وضعَه، فتلك نعمةٌ ومِنَّة من الله عليك ليس هذا من ضَعفٍ، ولكنه رحمةٌ بالخلق وسياسةٌ يُساسون بها على وفقِ شرع الله، فالمهمّ الإصلاح، والمهمّ التوجيه، والمهمّ معالجةُ الأفكار الخاطئة، والمهمُّ أن يقفَ الإنسان على خَطئه ويعلم الخطأ الذي وقع فيه، فيتدارك نفسَه، ويحمد الله على العافية.
إذ عُرض الأمان وقيل: مَن أتى فهو آمنٌ بأمانِ الله على نفسه، فهذا ميثاقٌ وعَهد قطعَه إمامُ الأمة، فلذا يجبُ الإصْغاء والسمعُ والطاعة وحمدُ الله على هذه النعمة والسعيُ في لَمِّ الشعث ووحدة الصف وجمع الكلمة؛ لأننا أمةٌ مسلمة يجب أن نتحاكمَ لشرعِ الله، وأن يكونَ الفيصَلُ بيننا كتابَ الله وسنَّة محمّد، وعلى الجميع أن يتعاونوا على ذلك، وعلى الجميع أن يُرشِدوا أبناءَهم وإخوانهم ومن زلَّت به القدَم أن يغتنِم هذه الفرصة، ويحمدَ الله على هذه النعمة، ولا يستمرّ على إجرامه، فإنَّ من لقيَ الله وليس في قَلبه بيعةٌ لإمامِه لقي اللهَ ولا حجَّةَ له وميتَتُه ميتةٌ جاهلية. إذًا فاغتنامُ نِعمةِ الأمان التي عَرَضها إمامُ الأمّة ووليُّ عهده تُعتبر نعمةً سابغة وخيرًا وفضلاً عظيمًا وحِرصًا على توحيدِ الأمة والسعي في الإصلاح وتَنبيه أهلِ الأخطاء؛ ليعودوا إلى رشدهم، ويتوبوا من ذنبهم، ويحمَدوا الله أن هيَّأ لهم من يرعَى مصالحهم ويأخذ بأيديهم لما فيه الخير والصلاح للأمة في حاضرها ومستقبلها.
أسأل اللهَ أن يوفِّق للجميعَ للخير، وأن يطفئ عن المسلمين الفتن، ويجمعَ قلوبنا على طاعته.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبدِ الله ورسوله محمّد كما أمَركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
(1/3313)
الأمانة
الأسرة والمجتمع, الإيمان
خصال الإيمان, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
6/6/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكريم الله تعالى لبني آدم. 2- أصناف الناس تجاه الأمانة. 3- عموم معنى الأمانة. 4- الأمر برعاية الأمانة. 5- الأمانة الواجبة على العبد تجاه ربه. 6- الأمانة الواجبة على العبد تجاه غيره. 7- الأمانة الواجبة على العبد تجاه نفسه. 8- مسؤولية أمن الأمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ الله جلّ جلاله كرَّم بني آدمَ وفضَّلهم علَى كثيرٍ ممَّن خَلقَ تفضِيلاً، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
إنَّ مِن تكريمِ اللهِ لابنِ آدمَ أن جعَله مؤهَّلاً لحَمل تِلكمُ الأمانةِ العظمى التي أبَت عن حملِها عظيمُ المخلوقاتِ السمواتُ السّبع والأرض والجِبال، إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72]. لم تمتنِع تلك المخلوقاتُ معصيةً لله، ولكن خوفًا مِن أن لا يقُمنَ بواجب تِلكم الأمانة. حَمَلها الإنسان على ظُلمِه وجهلِه وضَعفِه وعجزِه، ولكن تنوَّع بنو آدمَ في حملِ تلكمُ الأمانة، فالمؤمِنون حمَلوا الأمانةَ ظاهِرًا وباطِنًا، آمنَت قلوبهم وصَدّقت ألسِنتُهم وعمِلت جوارِحهم، والمنافِقون تظاهَروا بحملِها، لكن يعلَم الله أنّ المنافقين لكاذِبون. حملوها ظاهِرًا وهم منكِرون لها في باطِنِ الأمر، وغيرُهم من سائرِ الكَفَرة لم يَقوموا بحقِّ هذِه الأمانة لا ظاهِرًا ولا باطنًا، لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:73].
أيّها المسلِم، إنّ مَعنى الأمانَةِ في شريعةِ الإسلام معنًى عَامّ يتضمَّن التكاليفَ الشرعيّة والواجباتِ الإسلاميّة، فالأمانة جزءٌ من إيمانِك، فلا إيمانَ لمن لا أمانةَ له. هذهِ الأمانةُ تكون معَ المسلمِ في معاملَتِه معَ ربِّه، وفي تعامُله مع نفسه، وفي سائرِ التّعامُل مع عبادِ الله.
إنّ اللهَ جلّ وعلا ائتمَنَه على هذا الدّينِ الذي فطَره عليه، وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172]، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:60، 61]. تلكمُ الفِطرةُ التي فطَر الله الخَلقَ عليها، ((مَا مِن مولودٍ إلاَّ يولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه)) [1]. إنَّ توحيدَ الله أمِرَ به العبادُ كلُّهم: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].
أيّها المسلم، الأمانةُ تحمِلُها إن كنتَ مؤمنًا صادقًا، فكلّما قُمتَ بِواجبِ هذهِ الأمانةِ دلَّ على صفاءِ قلبِك وتمكُّنِ الإيمانِ مِنك، وكلّما ضعُف أداؤك للأمانةِ دلّ على ضَعفِ الإيمان في القلبِ. يقول أنسٌ رضي الله عنه: إنَّ النبيَّ كثيرًا ما يَقول: ((لا إيمانَ لمن لا أَمانةَ له، ولا عَهدَ لمن لا دِينَ له)) [2] ، فلا أمانةَ لمن لا إيمانَ له، فاقدُ الإيمان لا يمكِن أن يؤدِّيَ أمانة، فاقدُ الدّين لا يلتزِم عهدًا ولا يفِي بميثاق.
أيّها المسلم، أُمِرنا برعايةِ الأمانةِ وجُعَل المحافظةُ عليها من أخلاق المؤمنين: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون:8]، ونبيُّنا يجعَل مِن صفاتِ المنافقِ خيانتَه للأمانةِ فيقول: ((آيةُ المنافقين إذا حدّث كذب، وإذا وعَد أخلف، وإذا ائتُمِن خان)) [3].
أيّها المسلِم، هذه الأمانةُ مسؤوليّة كلِّ فردٍ منَّا نحوَ نفِسه وتعامُله مع ربِّه وتعامُله مع عِبادِ الله. أمانةُ الفَرد مع الفردِ، أمانةُ الفردِ مع المجتمَع، أمانة ملقاةٌ على المجتمَع عمومًا؛ لأنّ هذا الدّينَ أمانةٌ في أعناقِ الأمّة، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
أيّها المسلِم، فأمانتُك فيمَا بينَك وبينَ اللهِ إخلاصُك التَّوحيدَ للهِ، إفرادُك اللهَ بالعبادةِ، قَصدُك التقرُّبَ إلى الله، عِلمُك الحقّ أنه لا ينفعُك عمَل إلاّ إذا ابتغيتَ به وجهَ الله والدارَ الآخرة، فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]. أمانةٌ بينَك وبينَ اللهِ فيما أمَرك به مِن الأوامِر وفيما نهاك عنه مِنَ النواهي، فترعَى لتلكم الأمانةِ حقَّها.
الصلوات الخمس ائتمِنتَ على طهارتها، كما ائتمِنتَ على أدائها، فطهارتها أمانةٌ في عنقك، إن أخللتَ بشيءٍ منها كنتَ خائنًا لشيءٍ من أمانتِك. رأَى النبيّ بَعضَ أَصحابه تَلوح أعقابهم لم يصِبها الماء فنادى: ((ويلٌ للأعقاب من النار)) [4].
أنتَ مؤتمَنٌ على صلواتِك الخمس مِن حيث الوقتُ، فتؤدّيها في الوقتِ الذي شَرعَ الله فيه أداءها، ولا تؤخّرها تكاسُلاً وتهاوُنًا فتكونَ من الخاسرين، مؤتمَنٌ على أركانها وواجباتها وجميعِ متطلَّباتها لتكونَ ممن أدّى الصلاةَ على الحقيقة.
زكاةُ مالك أمانةٌ في عنُقك، واللهُ سائلك عن ذلكِ يومَ لِقاه، فإن أَحصيتَ المالَ وعَرفتَ قدرَ الزّكاة وراقبتَ الله في ذلكَ فأخرجتَ زكاةَ أموالكَ كاملةً تامّة ثمّ أوصَلتها إلى مستحقّيها دِيانةً وأمانةً كنتَ ممن أدّى أمانةَ هذه الزكاة.
صومُك لرمضانَ أمانة وسرٌّ بينك وبين ربّك، لا يطَّلع عليه إلاّ الله، فالسّعيد من حفِظَ صومَه في سِرِّه وعلانيته، ولذا عظُم فضلُ الصيام وقال الله فيه: ((كلُّ عمَل ابن آدم له؛ الحسنةُ بعشر أمثالها، إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به)) [5].
أمانةُ الحجِّ بأن تؤدّيَ شعائرَه كما أمَرك ربّك، وكما شرَع لك نبيّك.
أيّها المسلم، الأبَوان أمانةٌ في أعناقِ الأبناء والبنات، لا سيّما بعد كِبَر سنّهما وضَعف قوّتهما وعجزهما عن القيام بشؤونهما، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]. فإن أدّيتَ الأمانةَ ورعيتَ البرَّ والإحسانَ كنتَ من المؤمنين، وإن خُنتَ تلك الأمانة وأعرضتَ عن الأبوين أو أهملتهما أو ضيَّعتهما أو عهِدتَ بهما إلى غيرك تخلُّصًا منهما وزُهدًا فيهما لم تؤدِّ تلك الأمانة الصّادقة.
رحمُك أمانةٌ في عنُقك، في الصّلةِ التي أمرك الله بها وحذّرك من قطيعةِ رحمك. جارُك أمانة عندك و((لا إيمان لمن لم يأمَن جاره بوائقَه)) [6].
أخي المسلم، الأبناءُ والبَناتُ أمانةٌ في أعناقِ الآباء من حيث التربيةُ ومن حيثُ النفَقَة ومن حيث الرعايةُ ومن حيث القيام بالواجب وحِفظُ إيمانهما وكرامتِهما، فالأبناء والبناتُ أمانة في أعناقِ الآباء والأمّهات، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]. فمن ضيَّع الأبناء والبناتِ فقد خان أمانتَه، إن فضَّل بعضهم على بعض، إن أهمل التربيةَ، إن لم يقبلِ الكفء للفتيات، إن ردَّ الأكفاء ولم يقبلها أو زوَّج من لا كفاءةَ له كان من الخائنِين في تلكم الأمانة.
أيّها المسلم، نفسُك بين جنبَيك أنت مؤتمَن عليها، قد حذّرك الله من قتلِ نفسك: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29]، وفي الحديث: ((من قتَل نفسَه بشيءٍ عذِّب به يومَ القيامة)) [7].
أنت مؤتمَن في تعامُلك مع عبادِ الله، أمانة تتعلَّق بالبيع والشّراء، فأربابُ البَيعِ وتجّارُ السِّلَع أمَناء على ما يعرِضونه من سِلَع، فإن كانوا أهلَ أمانةٍ صَدَقوا فيما يقولون وصدَقوا فيما يعرِضون، وإن كانوا أهلَ خِيانة غَشّوا ودلَّسوا وافترَوا الأباطيلَ والأكاذيبَ، وكلّ هذه من الخيانةِ، ((ومن غشنا فليس منَّا)) [8].
أيّها المسلم، أنت مؤتمن على ما عُهِد إليك من مسؤوليّة وما ائتُمنتَ عليه من واجباتِ، لتؤدّيَ واجبَ المسؤولية أداءً صادِقًا بِصِدقٍ وأمانة وبُعد عن التفريطِ والخيانة.
أنت مؤتمَنٌ على ما ائتُمنتَ عليه من أسرارٍ وأمور لا بدَّ من إخفائها، فإن أفشيتَ شيئًا منها كنتَ من الخائنين.
وأعظمُ الخيانة الكذبُ على الله الكذبُ على رسول الله في تحليلِ الحرام أو تحريم حلال أو الفُتيا بغير وجهٍ شرعي، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
المحقِّقون في القضايا على اختلافِها هم أمناءُ فيما يحقِّقون وفيما يرفَعون من تقاريرَ، فإن كانوا أهلَ صِدق وأمانة كانت تقاريرُهم وكتاباتهم واضحةَ المعالم اتّقَوا الله فيما يقولون، وإن كانوا أهلَ خيانة مالت بهمُ الأهواء وافتروُا الكذبَ وأخفَوا الحقائق.
كلّ مسلم على عمَل وعلى مسؤولية فالله سائِله عما استرعَاه، ((ما مِن عبدٍ يسترعيه الله رعيّةً فيموت وهو غاشٌّ لرعيّته إلاَّ حرّم الله عليه الجنّة)) [9].
إنّ أداءَ الأمانةِ مسؤوليّة كبيرةٌ تقوم بها النفوس الطيّبة النفوسُ الأبيّة النفوسُ التي تخاف اللهَ وتتّقيه، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].
الحقوقُ في ذمّتك أنت مؤتَمَن عليها ولو خفِيَت على أهلِ الحقوق والله يقول: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [البقرة:283]. وإنّ الأمّةَ إذا أدّتِ الأمانةَ حقًّا وقامتِ بواجِبِها حقًّا دلَّ على صَلاحِ الأمّة وسموّ أخلاقها وعلوّ كرامَتها.
نسأل الله أن يجعلنا وإيّاكم منَ المحافظين على الأمانة ِالمؤدِّين لها كمَا يرضَى الربّ عنّا جلّ وعلا.
أقول قولي هذا، وأستغفِر اللهَ العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفورُ الرّحيم.
[1] أخرجه البخاري في الجنائز (1359، 1385)، ومسلم في القدر (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (3/135)، وأبو يعلى (2863)، والطبراني في الأوسط (2606)، وصححه ابن حبان (194)، وقال الهيثمي في المجمع (1/96): "فيه أبو هلال، وثقه ابن معين وغيره، وضعفه النسائي وغيره"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3004).
[3] أخرجه البخاري في الإيمان (33)، ومسلم في الإيمان (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في العلم (60، 96)، ومسلم في الطهارة (241) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[5] أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[6] أخرجه البخاري في الأدب (6016) من حديث أبي شريح بلفظ: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، الذي لا يأمن جاره بوائقه)) ، وأخرج مسلم في الإيمان (46) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)).
[7] أخرجه البخاري في الأدب (6047)، ومسلم في الإيمان (110) من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه.
[8] أخرجه مسلم في الإيمان (101) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في الأحكام (7150)، ومسلم في الإيمان (142) من حديث معقل بن يسار المزني رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدّين.
أمّا بعدُ: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله حقَّ التقوى.
عبادَ الله، المجتمَعُ المسلم مسؤوليّتُه ومسؤوليّة أمنِه ومسؤوليّة استقرارِه وطمأنينتِه مسؤوليّةٌ مُناطَة بكلّ فردٍ منَّا على قدر مكانِه ومسؤوليّته، لكنها مسؤوليّة الكلّ وإن تفاوت حملُ هذه المسؤولية من شخصٍ أو جهةٍ أخرى، لكنها في الجملة مسؤوليّة المجتمَع المسلم بأَسره. فأمنُ الأمة وسلامتُها وطمأنينتُها واستقرارها واستمرارُ خيراتها أمرٌ مُناط بكلّ فرد منَّا، من ضيّع شيئا مِن هذا الواجبِ أو أخلَّ بشيءٍ من هذا الواجب كان له نصيبٌ من خيانةِ أمانته. فالخيانةُ العظمى إذا ضيّعتَ الدينَ وخنتَ الأمة في أعظمِ مقوِّمات حياتها، خنتَها في أمنِها، خنتها في اطمئنانها وخيراتها، خنتهَا بأن تكونَ آلةَ تنفيذٍ يسخِّرك الأعداء ويدبِّرك الأعداء الألدّاء لتفعلَ ما يريدون وما يهوَون دونَ أن يكون عندك بصيرة وانتباه لما يُراد منك.
أيّها المسلم، إنّ المسلمَ أمين على هذهِ الأمة على قدرِ حاله، كلٌّ مسؤول، ((وكلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيته)) [1].
يا أيّها المسلم، هل مِنَ الإيمانِ أن نسعَى في إِضعافِ الأمة؟! وهل منَ الإيمان أن نكيدَ للأمةِ المكائِد؟! وهل من الإيمانِ أن نكونَ رَصدًا لأعداءِ ديننا؟! وهل مِن الإيمانِ أن نسعى في إضعافِ كيانِ أمّتنا؟! وهل من الإيمانِ أن نرضَى بأن نكون جنودًا لأعدائِنا؛ نقاوِم أهلَ ديننا ونقتُل المسلمين منّا ونسعى في إرعابِ الأمة وإخافتها؟! من المستفيدُ من هذه الجرائم؟! مَنِ المستفيد؟! المستفيدُ واللهِ الأعداءُ الذين يتربَّصون بنا الدَّوائرَ ويفرَحون أن يكونَ منَّا مَن هو يخدِم أهدافَهم ويحقِّق مقاصِدَهم ويسعَى في جلبِه للأمّة وإذلالِ الأمّة أمامَهم، لكن العقولُ التي سيطر عليها الهوَى واستحوَذ عليها الشيطان تعمَل أعمالاً هي لا تَدرِي نتائجَها ولا يدري أولئك ماذا يعملون، قد يخدعهم خادِع ويغرِّر بهم مغرِّر ويغشّهم غاشّ بأنّ هذا دين، أو أنّ هذا غَيرة على المحارم، أو أنّ هذا وسيلة إصلاح، أو أن هذا طرُق إصلاح، كلا وربِّي ليس هذا إصلاحًا وليس هذا دينًا، وليس هذا عملاً صالحًا، إنما هذا ضَلال وفسادُ تصوّر وانعكاسُ فِطَر، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر:8].
فيا أيّها المسلم، اتَّق الله، وترفع عن هذه الدنايا والجرائم، وإن كنتَ تريد الإصلاح ودعوةَ الخير فإنّ طرقَ الإصلاح واضِحة ووسائل الدعوة إلى الله جليّة، أمّا سفكُ الدماء ونهبُ الأموال وتهديد الآمِنين فوربِّي إنها ليست إصلاحًا، ولكنه الفساد بعينِه، واحذَر أن تكونَ ممن قال الله فيهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12]، ويقول جل وعلا: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204-206].
فيا من ضلَّ سعيه، ويا من ساءَت سبيلُه، اتَّق الله، وراجِع نفسك، وحاسِب نفسَك، قِف مع نفسك قليلاً، هذه الجرائمُ التي ترتكِبها ما هي غايتك منها وهدفك منها؟! أأمرًا من تلقاءِ نفسك أم أمرًا غشَّك به من غشَّك وغرَّك به من غرَّك وتخلّى عنك لأنه يريد السوءَ بك وبأمّتك؟!
فلنكن ـ إخوتي ـ على حذرٍ من هذا الباطل، ولتكن يدُنا واحدةً في سبيل المحافظة على دينِنا وأمنِنا واستقرارنا، ولنرتقِ بأنفسِنا إلى معالي الأمورِ، ولنبتعِد عن تلك الرّدايا والرّزايا والأمورِ المشينة، ولنتّجِه جميعًا يدًا واحدة لحِفظ أمنِ هذا البلدِ الذي يحسِده الكثير على دينِه، ويحسدونه على أمنِه، ويحسدونه على قيادتِه، ويحسدونه على ما حباه الله من الخيرِ الكثير والنِّعمة العظيمة.
أسأل الله أن يهديَ ضالّ المسلمين ويردَّ ضالَّهم إلى الهدى ويبصِّر من غَوى ويرزقهم جميعًا العودةَ إلى الحقّ والصواب، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبدِ الله ورسوله محمّد كما أمَركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في العتق (2554، 2558)، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(1/3314)
خطبة عيد الفطر 1422هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
1/10/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأعياد في الإسلام. 2- الفرح بالعيد. 3- يوم الجوائز. 4- فرح المسلم عند الموت وفي قبره ويوم الفزع الأكبر وحين الوقوف بين يدي الله وإذا دُعي إلى الجنة. 5- ما يشرع يوم العيد. 6- فضل هذه الأمة. 7- الحث على المحافظة على الصلاة. 8- المحافظة على نعمة الأمن. 9- التحذير من الإعلام الكافر. 10- كمال شريعة الإسلام. 11- التحذير من أعداء الإسلام. 12- المداومة على الطاعة. 13- نصائح عامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، اشكروا الله على عموم نعمه، فقد تأذَّن بالزيادة للشاكرين، ودوام النعمة، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
هذا يوم عيد، هذا اليوم يوم العيد، أعني عيد الفطر، يوم سعيد وعيد مجيد، هذا اليوم أحد اليومين اللذين جعلهما الله عيدًا لأمة محمد ، فللأمة الإسلامية في عامها عيدان: عيد الفطر وعيد الأضحى، عيد الفطر من صيامنا، وعيد أكلنا من نُسُكنا. قدم النبي المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما: عيد الفطر وعيد الأضحى)) [1]. أجل، أبدل الله الأمة يومي اللهو واللعب والباطل بيومي الذكر والشكر لله.
هذا يوم عيد الفطر، يوم عيد لكم أيها المسلمون، هذا يوم عيد لكم، أنكم صمتم رمضان، واستكملتم صيامه، فاليوم عيدٌ لكم، فرحُكم واستبشاركم أنكم وافقتم أمر الله فصمتم، ووافقتم أمر الله فأفطرتم، وفي الحديث: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)) [2].
هذا يوم فرح وسرور، فرحُ المؤمن بهذا العيد كما سبق، فرحُه بموافقته أمر ربه في صومه وفطره، وهو يوم فرحٍ له يرتقب الثواب من رب العالمين، وفي الحديث في خصائص رمضان: ((ويغفر لهم في آخر ليلة)) ، قيل: أليلة القدر؟ قال: ((لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله)) [3].
وهذا اليوم يسمَّى يوم الجوائز، يرجع أناسٌ من مصلاهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، يروى أن ملائكة الرحمن تقف عند أفواه الطرق، تنادي: ((يا أمة محمد، اخرجوا إلى رب عظيم، يعطي الجزيل، ويعفو عن الذنب العظيم، فإذا برزوا لمصلاهم قال الله لملائكته: يا ملائكتي، ما جزاء العامل إذا أدى عمله؟ قالوا: وعزتك أن توفّي أجره، قال: أشهدكم أني قد جعلتُ حظهم من صيامهم وقيامهم مغفرتي ورضائي عنهم، انصرفوا مغفورًا لكم)) [4] ، وفي الحديث: ((للصائم فرحتان: فرحة يوم فطره، وفرحة يوم لقاء ربه)) [5] ، ففرحه بفطره بموافقة أمر الله له، ثم بهذا اليوم الذي يتناول فيه المباح، والذي حرَّم الله علينا صيامه، وفرحةٌ للمسلم يوم لقاء ربه، يوم يجد عمله مدّخرًا له أوفر ما يكون، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا [آل عمران:30].
إن للمسلم فرحةً عند موته، عندما يرى نتائج أعماله الصالحة، وتزفّ إليه ملائكة الرحمن البشرى بالمغفرة والجنة، فلا يخاف على ما فات ولا يحزن على ما هو آت، إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ [فصلت:30، 31].
وفرحةٌ في قبره يوم يسأل عن ربه ودينه ونبيه، فيجيب أحسن جواب، فيُفسح له في قبره، ويُفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها وريحها، ويُفسح له في قبره مدَّ بصره.
وإن له لفرحة أخرى يوم الفزع الأكبر، حينما يفزع الناس، وهو من الآمنين، لاَ يَحْزُنُهُمُ ?لْفَزَعُ ?لأكْبَرُ وَتَتَلَقَّـ?هُمُ ?لْمَلَئِكَةُ هَـ?ذَا يَوْمُكُمُ ?لَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103].
وفرحةٌ أخرى يوم الوقوف بين يدي الله، ويوم يُعطى صحيفة عمله، فيجد فيها صيامه.
وفرحةٌ أخرى يوم يدعون من باب في الجنة يقال له: باب الريان، يدخل منه الصائمون، فإذا دخلوا أُغلق ذلك الباب.
أمة الإسلام، إن الله شرع لنا في هذا اليوم صلاة العيد، وشرع لنا التكبير تعظيمًا له جل وعلا، وثناءً عليه على عظيم آلائه، وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الله أكبر هدانا للإسلام، وشرح صدورنا للإسلام، وقد أضل عنه الأكثرين، أَفَمَن شَرَحَ ?للَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ فَهُوَ عَلَى? نُورٍ مّن رَّبّهِ ، وقال: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ?لْجِنّ وَ?لإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَ?لأنْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179]، فمن هداه الله للإسلام فليعلم أنها نعمة عظيمة تفضل الله بها عليه.
الله أكبر، هدانا لمعرفته ومحبته وعبادته.
الله أكبر، الله أكبر، هدانا فوحّدناه في أفعاله، معتقدين حقًا أنه ربنا وخالقنا ورازقنا والمحيي المميت، والمتصرف فينا كيف يشاء بكمال حكمته وعدله.
الله أكبر، هدانا فوحَّدناه في أفعالنا، وعلمنا حقًا أن العبادة بكل أنواعها حق لربنا، فهو المعبود بحق ذَلِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ?لْبَـ?طِلُ [لقمان:30].
الله أكبر، هدانا فآمنا بأسمائه وصفاته، سميناه كما سمى نفسه، ووصفناه بما وصف نفسه، أو وصفه به محمدٌ ، على حدِّ ما قال أئمة الإسلام: آمنا بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنا برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله.
الله أكبر، هدانا فاختار لنا سيد الأولين والآخرين نبيًا رسولاً محمد بن عبد الله، اختار لنا محمدًا نبيا، نعرف حسبه ونسبه، وشرفه وفضله، وعفته ونزاهته، وأنه الصادق الأمين قبل أن يوحى إليه، والصادق المصدوق الأمين بعد الوحي.
الله أكبر، هدانا فجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110].
الله أكبر، هدانا لهذا الإسلام الذي أكمله ورضيه وأتم به علينا النعمة، ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3].
أمة الإسلام، إن الله يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَ?لْكِتَـ?بِ ?لَّذِى نَزَّلَ عَلَى? رَسُولِهِ وَ?لْكِتَـ?بِ ?لَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ [النساء:136]، يدعونا ربنا بأن نحقق إيماننا، ونكمِّل إيماننا ونستقيم على هذا الإيمان الذي حقيقته اعتقاد القلب، ونطق اللسان، وعمل الجوارح، فلا بد للإيمان من هذا، وَ?لْعَصْرِ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ [العصر:1-3].
هذا الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، أسباب زيادته أداء فرائض الإسلام، يقول الله في الحديث القدسي: ((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه)) [6].
فأخلصوا لله توحيدكم، الصلاة، الصلاة، حافظوا عليها واحفظوها، فهي الركن الثاني من أركان الإسلام، فهي عمود الإسلام، وهي الركن العملي الأول من أركان الإسلام، فحافظوا عليها ـ رحمكم الله ـ جماعةً، وأدوها في وقتها في المسجد، واعتنوا بها، ولتكن من أهمّ أموركم، فإن علامة حب الإسلام العناية بهذه الصلوات والاهتمام بها، أدوا زكاة أموالكم، وصوموا رمضان وحجوا البيت.
كن ـ أخي المسلم ـ داعيًا إلى الله على علم وبصيرة، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، على حكمة وعلم، صابرًا على ما أصابك.
أحسن إلى الوالدين، أحسن صحبتهما، وأحسن برَّهما، فإن ذلك من واجبات الإسلام، وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا [النساء:36].
صِلِ الرحم واحذر قطيعتها، فإن صلتها من الإيمان، والرحم معلقة بالعرش يقول الله: ((ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟! قالت: نعم، قال: فذلك لك)) [7].
أكرم الجار، وكفّ الأذى عنه، وفي الحديث: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاه)) [8] ، و((لا إيمان لمن لا يأمن جاره بوائقه)) [9].
احفظ حقوق الناس، وإياك والتهاون بها، وأن تلقى الله بمظالم العباد، أدِّ الحقوق الواجبة، ابتعد عن الغيبة والنميمة والكذب والغش والخداع.
أيها المسلمون، إن من أعظم نعم الله بعد نعمة الإسلام نعمة الأمن في الأوطان، نعمة الأمن والاستقرار في الأوطان، نعمةٌ أشاد الله بها في كتابه العزيز، فبين تعالى أن إبراهيم الخليل لما دعا لأهل مكة، دعا لهم بالأمن قبل كل شيء، رَبِّ ?جْعَلْ هَـ?ذَا بَلَدًا آمِنًا وَ?رْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ?لثَّمَر?تِ [البقرة:126]، وفي الحديث: ((من أصبح آمنا في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه وليلته، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)) [10] ، بالأمن يأمن المسلم على دينه وعلى ماله وعلى عِرضه، ويتفرغ لعبادة الله، ويسعى في إصلاح دينه ودنياه، وبالخوف – والعياذ بالله – نكدُ العيش، وقلة الاطمئنان والاستقرار.
أمة الإسلام، نعمة الأمن لا تحققها قوى مادية، ولا قوى عسكرية، ولكن يحققها تحكيم شريعة الله، فالأمن مرتبط بالإيمان، وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا [النور:55]، الأمن مسؤولية كل فرد منا، فتلك نعمة نتفيَّأ جميعًا ظلالها، فهي مسؤولية كل فرد، أن نكون يدًا واحدةً لتحقيق هذه النعمة واستقرارها واستمرارها بتوفيق من الله، وأن لا يسعى أي منا فيما يقوّض هذه النعمة أو يضعف شأنها.
أمة الإسلام، إياكم والاغترار بالإعلام الكافر الكاذب، الذي يحاول أصحابه من خلاله زعزعة الأمة عن دينها، زعزعتها عن عقيدتها، يحاولون من خلاله تشكيك الأمة في ثوابتها، وفي نعمة الله عليها، إعلام جائرٌ ظالم كاذب، إعلام يقلب الحقائق، إعلامٌ قائم على الزور والكذب والبهتان، إعلامٌ إجرامي، إن بلادنا وما تتمتع به من هذه النعمة التي منّ الله بها علينا، وهيأ لها الرجال الصادقين، الذين جعلهم الله سببًا لاستمرار هذه النعمة وبقائها، يجب أن نكون يدًا واحدة معهم، يجب أن نشد أزرهم، وأن نعينهم، وأن نكون يدًا واحدة معهم، نصيحة ورأيًا سديدًا، وتعاونًا على البر والتقوى، لأن اجتماع الكلمة ووحدة الصف قوة للأمة، فمتى كانت الأمة على قلب رجل واحد، يسعى كل فرد منها، فيما يحفظ على الأمة كيانها وأمنها، وفيما يغلق على الأعداء كل الطرق حتى لا يجدوا ملجأ يلجؤون إليه، لأن استقامة الأمة وانتظامها وراء قيادتها، وشدّها أزر قيادتها، تلك من النعم العظيمة التي يعيش المجتمع فيها أمنًا واطمئنانًا، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَأُوْلِى ?لأمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103].
أمة الإسلام، دين الإسلام كامل في عقيدته، كامل في نُظُمه ومبادئه، جاء ليحقق السعادة للبشرية في الدنيا والآخرة، دين الوسطية فلا غلو ولا جفاء، لا إفراط ولا تفريط، دين حفظ للمجتمع كيانه وقوته إنِ الأمة تمسكت به، واعتصمت به، حفظ للأفراد حقوقهم إنْ هم حكّموه وتحاكموا إليه، دين العدل والوفاء، واحترام الحقوق والمواثيق والقيام بذلك.
أمة الإسلام، أعداء الإسلام بالأمس هم أعداؤه باليوم، وعداوتهم قديمة ليست وليدة اليوم، وقد حذّرنا الله من مكائد أعدائنا الساعين في التفريق بيننا، وتشتيت شملنا، حذرنا الله من مكائدهم: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]، إنهم يحاربون هذا الدين، ويحاربون قيمه وفضائله تحت مظلة مكافحة الإرهاب أحيانًا، وتحت مظلة حقوق الإنسان أحيانا، وكذبوا والله، ما قصدهم إلا الشر والبلاء، إن الإرهاب الإسلام بريء منه، والإسلام بريء من الإرهاب والظلم والجور، فمبادئه العدل في كل الأحوال، وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? [المائدة:2].
إن الإرهاب لا يمكن أن يُنسب إلى الشريعة، فالشريعة بريئة من الإرهاب بكل صوره، لأنها شريعة الرحمة والعدل، وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]، وحينما نسمع: مكافحة الإرهاب نجد الإرهاب بصوره يتمثّل في ظلم بعض فئات المسلمين، فها هم إخواننا في فلسطين، ها هم يسامون سوء العذاب، يُقتل من يقتل، ويؤسر من يؤسر، تهدم البيوت، وتُزال كل المصالح بمرأى ومسمع من أعداء الإسلام.
إنه الإرهاب في غاية صوره وبشاعته، وها هي الحروب الطاحنة ضد الأمة المسلمة، وها هو القتل الذريع، وها هو التسلط السيئ، ثم يقال: مكافحة الإرهاب، إن الإسلام بريء من الإرهاب، والإسلام دين عدل وإخاء، ولا يمكن أن ينسب إليه الباطل، فهو دين الحق والعدل كما أراده الله.
أمة الإسلام، تمسّكوا بدينكم، واعتصموا به لعلكم تفلحون، فهو خير أمان لكم في الدنيا والآخرة، ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
[1] أخرجه أحمد (12006)، وأبو داود في كتاب الصلاة (1134)، والنسائي في كتاب العيدين (1556)، والضياء في المختارة (1911) من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه الحافظ في الفتح (2/442).
[2] أخرجه البخاري في الصوم (1900، 1909)، ومسلم في الصيام (1080، 1081) من حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما.
[3] أخرجه أحمد (2/292)، والبزار (1/458- كشف الأستار)، وابن نصر في قيام رمضان (ص112)، والبيهقي في الشعب (3602) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال البزار: "لا نعلمه عن أبي هريرة مرفوعًا إلا بهذا الإسناد، وهشام بصري يقال له: هشام بن زياد أبو المقدام، حدث عنه جماعة من أهل العلم، وليس هو بالقوي في الحديث"، وقال الهيثمي في المجمع (3/140): "رواه أحمد والبزار، وفيه هشام بن زياد أبو المقدام وهو ضعيف". وقال الألباني في ضعيف الترغيب (1/294): "ضعيف جدًا".
[4] رواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/533، 534) من طريق عباد بن عبد الصمد عن أنس رضي الله عنه بنحوه، وقال: "هذا حديث لا يصح عن رسول الله "، وأخرجه الطبراني في الكبير (617، 618) بمعناه من حديث أوس الأنصاري رضي الله عنه، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (670).
[5] أخرجه البخاري في التوحيد (7492)، ومسلم في الصيام (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الرقاق (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في التفسير (4832)، ومسلم في البر (2554) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه البخاري في الأدب (6019) واللفظ له، ومسلم في الإيمان (48) من حديث أبي شريح العدوي، وأخرجه البخاري أيضًا في الأدب (6018)، ومسلم في الإيمان (47) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في الأدب (6016) من حديث أبي شريح بلفظ: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، الذي لا يأمن جاره بواثقه))، وأخرج مسلم في الإيمان (46) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)).
[10] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (300)، والترمذي في الزهد (2268)، وابن ماجه في الزهد (4131) من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه لشواهده الألباني في الصحيحة (2318).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
صمتم رمضان فأعقبوه بأعمال الخير والصلاح، أتبعوا الصالح من العمل بصالح العمل، وأعقبوا رمضان بالأعمال الصالحة فهي سبب قبول أعمالكم بتوفيق الله.
أيها المسلم، احذر الدعاوى الكيدية الباطلة التي لا أصل لها، ففي الحديث: ((من خاصم في باطل لم يزل في سخط الله حتى ينزع)) [1] ، احذر أن تحامي عن المجرمين هَـ?أَنْتُمْ هَؤُلاء جَـ?دَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا فَمَن يُجَـ?دِلُ ?للَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً [النساء:109]، احذر شهادة الزور، ولا تشهد إلا بالحق، إِلاَّ مَن شَهِدَ بِ?لْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86]، احذر ـ أخي ـ الأيمان الفاجرة، فـ ((من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان)) [2].
أيها المسلم، احذر السحرة والمشعوذين، واحذر أن تقصدهم وتأتيهم فما وراءهم إلا البلاء و((من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) [3] ، تعاملوا بالصدق والوفاء، واحذروا الغش والخداع والخيانة، وفي الحديث: ((من غشنا فليس منا)) [4].
أيها المسلم، اتق الله، وتعامل مع أهلك بالمعاملة الشرعية التي أرادها الله لك، وتذكر قول الله: وَلَهُنَّ مِثْلُ ?لَّذِى عَلَيْهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ [البقرة:228].
احذر ـ أيها المسلم ـ التسرع في الطلاق، والتهاون بأمر ذلك، ففي الحديث: ((ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة)) [5].
فاحذر ذلك أيها المسلم، وتعامل بالصبر، وسعة الصدر.
أيتها المرأة المسلمة، اتقي الله في نفسك، وتخلقي بأخلاق الإسلام، واحذري التبرج والسفور، وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لأولَى? [الأحزاب:33]، احذري أخلاق أعداء الإسلام، تمسكي بما كنت عليه من عفة وحشمة وكرامة، ومحافظةٍ على هذه الأخلاق الكريمة.
أيها المسلمون، ربّوا أبناءكم التربية الإسلامية، فهم أمانة في أعناقكم، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6].
سهّلوا أمر الزواج، وأعينوا على إفشائه، فإن ذلك من علامة الخير، تعاونوا على البر والتقوى.
أيها المسلم، هذا يوم عيد فصيره عيدًا لإخوانك، ضمِّد جراح المجروحين، وامسح دمعة اليتيم، وفرّج كرب المكروبين، ويسِّر على المعسرين، وعُد المريض، وصل الأرحام، واستبيحوا ما بينكم من الشحناء والعداوة، فذاك واجب المسلمين.
أسأل الله أن يجعله عيد خير وبركة، وأن يعيد أمثاله علينا وعليكم أعوامًا عديدة وأزمنة مديدة، في عز للإسلام والمسلمين، وسلامةٍ وأمنٍ وطمأنينة، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
[1] أخرجه أحمد (5385)، وأبو داود في الأقضية (3197)، والبيهقي (6/82) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (2/27)، ووافقه الذهبي، وجوّد إسناده المنذري في الترغيب، وصححه الألباني، صحيح الترغيب (2248).
[2] أخرجه البخاري في التوحيد (7445)، ومسلم في الإيمان (138) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بنحوه.
[3] عزاه الهيثمي في المجمع (5/167) للبزار من حديث جابر رضي الله عنهما، وقال المنذري في الترغيب: "رواه البزار بإسناد جيد قوي"، وصححه الألباني في غاية المرام (285)، وله شواهد منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه أحمد (9290، 9536)، وأبو داود في الطب (3904)، والترمذي في الطهارة (135)، والنسائي في الكبرى (9017)، وابن ماجه في الطهارة (639)، والدارمي (1136)، وابن الجارود (107) وقال الترمذي: "ضعف محمد – يعني البخاري – هذا الحديث من قبل إسناده". وقال الذهبي في الكبائر: "ليس إسناده بالقائم".
[4] أخرجه مسلم في الإيمان (102) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه أبو داود في الطلاق (2194)، والترمذي في الطلاق (1184)، وابن ماجه في الطلاق (2039) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في الإرواء (1826).
(1/3315)
أسباب صلاح الأمّة
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
قضايا المجتمع, قضايا دعوية
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
13/6/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صلاح الأمة ببعثة النبي. 2- النهي عن الإفساد بعد الإصلاح. 3- صلاح الأمة بتحكيم شرع الله تعالى. 4- صلاح الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 5- صلاح الأمة بإقامة الحدود الشرعية. 6- صلاح الأمة بالعناية بالتعليم والتربية. 7- صلاح الأمة بصلاح إعلامها. 8- ضوابط الصراع الفكري. 9- حقيقة حبّ وطن الإسلام. 10- الموقف الشرعي من أموات المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، بَعَث الله نبيَّه ورسولَه محمّدًا بالهدَى ودِينِ الحقِّ، بَعثَه على حِينِ فترةٍ منَ الرّسل واندِراسٍ من العلمِ والهدَى، وقد طَبقَ الأرضَ جهلٌ عظيم وضَلال مبين، واندَرست المِلّة الحنيفيّة، فأصبحَتِ الخليقةُ في فوضى في كلِّ أحوالها عَقيدةً وسُلوكًا ومنهَجًا وعلاقاتٍ فرديّة واجتماعيّة، فبعث الله محمّدًا رحمةً للعالمين، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. أجَل، إنّه رحمة للعالمين كلِّهم، ورسالتُه رسالةٌ عالميّة، تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]. رحِم الله بِه الخلقَ كلَّهم مؤمنَهم وكافرَهم، مَن آمن به واتَّبعه عاشَ في خيرٍ في دنياه وآخرته، ومَن لم يؤمِن به عاش تحتَ ظِلّ عدالةِ الإسلام آمِنًا مطمئنًّا. لقد كان الصِّراع بين الملَل قبل الإسلام عظيمًا، كلُّ ملّة تقهَر أختَها دومًا ويُدالُ عليها يومًا آخر، فجاء الإسلامُ فرحِم الله به أهلَ الأرض وبسَط عدالتَه على الناس كلِّهم، فعاشوا في ظلِّ عدالة هذا الدين القويم.
أيّها المسلم، بعَث الله محمّدًا بالهدَى ودين الحقِّ ليظهرَه على الدّين كلّه. دعَا إلى الله بمكّة واهتمّ بالعقيدة وتثبيتِها في النفوس واستئصالِ داءِ الشرك من القلوب، وهاجر إلى المدينةِ ففُرضت الفرائضُ وحُدَّت الحدود وشرِعت الأحكام، فما توفيَّ إلاَّ وقد أكملَ الله به الدينَ وأتمَّ به النعمةَ وتركنا على المحجَّة البيضاء ليلُها كنهارِها لا يزيغ عنها بعدَه إلاَّ هالك.
أخي المسلم، إنَّ الله ذكَّرنا هذه النعمةَ فقال لنا في كتابِهِ العزيزِ: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56].
قِف معي ـ يا أخي المؤمن ـ قليلاً لنتدبّر هذه الآية: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا. حقًَا إنّ الله أصلَح بمحمّد البلادَ، وأصلح به العبادَ، أصلَح بهِ الأرضَ وساكنيها، وقطع دابِرَ الفسادِ فسادِ الأرض وفسادِ ساكنيها بما جاءَ به من الخيرِ والنور والهدَى، فصلوات الله وسلامُه عليه أبدًا دائمًا إلى يومِ الدين، يقول لنا : ((ما بَعَث الله من نبيّ إلاَّ كان حقًّا عليه أن يدلَّ أمّتَه على خيرِ ما يعلمه لهم، وينهاهُم عن شرِّ ما يعلمه لهم)) [1] ، وإنّه ـ بأبي [هو] وأمّي ـ قد دلّنا على كلّ خيرٍ ينفعنا في دينِنا ودنيانا، فقد حذَّرنا من كلّ بلاءٍ يضرّنا في ديننا ودنيانا، فصلّى الله وملائكتُه والصالحون من عِباده على هذا النبيّ الكريم كما دعَا إلى الله وعرَّف بالله وهدانا إلى كلِّ خير ونعمة، والحمد لله رب العالمين.
أخي المسلم، الصلاح والفسادُ أمران متناقِضان، أحدُهما مضادّ للآخر، وإذا وجِد أحدهما حقًّا انتفى الآخر أو ضعُف. إذًا فلعلّ سؤالاً يرِد: ما معنى صلاحِ الأرض؟ وكيف تصلُح الأرض؟ وكيف تفسُد؟ وكيف صلاح ساكنِيها وفسادُهم؟
نعم أيّها المسلم، إنَّ صَلاحَ البلاد والعباد هو بشرع الله القويم، وإنّ الفسادَ في الأرض وفسادَ العباد عندما تتخلّى الخليقة عن شرعِ الله، فشرعُ الله هو المصلِح للأرضِ معنويًّا وحسِّيًّا وتركُ الدين هو المفسِد للأرض حسًّا ومعنًى.
أخي المسلم، فما هي أسبابُ الصلاحِ إذًا؟ نعم أخِي، إنَّ صلاحَ البلاد والعباد عندما يتأمَّل المسلم شرعَ الله حقَّ التأمُّل يجد أمورًا:
فأوّل ذلك: تحكيمُ شرعِ الله كتابِ الله وسنّة رسوله ، فهما من أعظمِ وسائل الإصلاحِ إذِ الكتاب والسنة أحكامُهما هي الأحكامُ العادلة على الإطلاقِ، لماذا؟ لأنها أحكامٌ صادِرة من ربِّنا جل وعلا، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58]، فأحكامُ شرعِ الله هي الأحكامُ العادِلة، وسواها أحكامٌ ظالمة جائِرة، مهما أراد أربابُ القوانين الوضعيّة ومهما بذَلوا قصارَى جهدِهم أن يوجِدوا للخليقةِ أحكامًا تعدِل بينهم فلن يستطِيعوا لذلك سبيلاً، أحكامٌ متناقِضة، ونظُم متبايِنة، وليسَ أعدَلَ من حكمِ الله الذي أنزله على عبده ورسوله محمّد.
إنَّ الله أنزل كتابَه العزيز ليكونَ نِبراسًا للأمة ودستورًا ترجِع إليه ومنهجَ حياةٍ تستقي منه نظُمها ومنهجَها لتكونَ على طريقةٍ مستقيمة، ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية:18، 19]. فأحكامُ الله أحكامٌ عادِلة، كما صلَح بها الرعيل الأوّل يصلُح بها الخلقُ إلى يوم القيامة، وصدق إمامُ دار الهجرة مالكُ بن أنس رحمه الله حيث يقول: "لن يُصلِح آخرَ هذه الأمّة إلاَّ ما صلُح به أوّلها" [2]. نعم إنّه حقٌّ، فلن تصلُح آخرُ هذه الأمّة إلاَّ بما أصلَح الله به أوّلَها.
ثانيًا: الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر مِن أعظمِ وسائلِ إصلاحِ الأرضِ والبِلاد، إذِ الأمر بالمعروفِ والنّهي عنِ المنكر خلُق هذه الأمة، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ [آل عمران:110]، وهو صمامُ أمانٍ لهم، بِهِ تحقَن الدّماء وتُصان الأعراض وتحفَظ الأموال وتثبَّت دعائِم الأمن ويعيشُ الناس في خيرٍ. وبالأمرِ بالمعروفِ والنّهي عن المنكر يحصُل التّمكينُ في الأرض ويستمرّ العطاء وتمتدُّ قوّة الأمّة وصِلَتها بربها جلّ وعلا، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:40، 41]. وبالأمرِ بالمعروفِ والنّهي عن المنكَر تجتمِع القلوب وتتآلَف النّفوس، وبتركِهِ فُرقةُ الأمّةِ وضعفُها، وفي الحديث: ((لتأمُرنّ بالمعروفِ ولتنهوُنَّ عن المنكر ولتأخُذُنَّ على يدِ السفيهِ ولتأطرنّه على الحقِّ أطرًا، أو ليوشِكَنّ الله أن يضربَ قلوبَ بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعَنَهم)) [3].
حُدود الله وتنفيذُها من أعظمِ وسائل إصلاحِ البلاد والعباد، فهي الحدود الشرعية التي جعلَها الله حاجزًا بين المجرِمِين وإجرامِهم، كلّما تذكَّر المجرِم ذلك الحدَّ ردَعه عن إقدامه وحالَ بينه وبين فسادِه لأنّه يعلَم المَصير المحتومَ، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:179]، إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ [المائدة:33]، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النور:2]، وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9]، في الحديث: ((لحَدٌّ يُقام في الأرضِ خيرٌ مِن أن تمطَروا أربعينَ خريفًا)) [4]. نعم حدٌّ يُقام يصلِح البلادَ والعباد خير من مَطرٍ أربعينَ عامًا؛ لأنّ المطرَ منفعتُه محدودة وحدودُ الشّرع مصلحةٌ عامّة للفرد والمجتمع في الحاضِرِ والمستقبل.
أخي المسلم، إنّ من أسبابِ صَلاح الأمة واستقامةِ حالها العنايةَ كلَّ العنايةِ بالتعليم والتربيةِ على الوجهِ الشرعيّ، فأمّة الإسلام بأمسِّ حاجةٍ إلى مناهجَ مؤصّلةٍ تأصيلاً صحيحًا مبنيّة على قواعدِ الشرع حتى تكونَ مناهج نافعَةً ومناهجَ مثمِرَة ومناهجَ مؤثِّرة تقضي على أسبابِ الفرقةِ والاختِلاف، وتبعِد التطرّفَ بكلّ نوعَيه مِن [غلوّ] وجَفاء. مناهج تربط حاضرَنا بماضِينا، وتصِل حاضرَنا بماضينا، وتعلِم حاضرَنا بسيرةِ ماضينا وسلفِنا الماضي وأمجادِه الماضية. مناهج يعلَم بها كلُّ متعلِّم حالَ الماضين وسيرتهم الفاضلة وأعمالَهم الجليلة، يعرِف بها الرعيلَ الأوّل من هذه الأمّة؛ بأيّ شيء سادوا، وبأيّ أسلوبٍ سادوا وقادوا، وما أسبابُ بروزِهم ونفوذِهم وسيطَرَتهم على أرجاءِ المعمورة وإزالتهم الظلمَ عن العباد، رعاء الشاء والبعير بأيّ قوّة سيطَروا وبأيّ قوّة تمكّنوا؟ إنها العقيدة السليمة والتربية الصالحة والمنهج القويم والسلوك الحسن والإخلاص لله في القول والعمل والتفاني في أداء الواجب، حتى رفعوا أعلام الإسلام على أرجاء المعمورة، وتردّدت "لا إلهَ إلا الله" في أرجاء المعمورة، وعلا صوتُ الحقّ: "حيّ على الصّلاة، حيّ على الفلاح".
إنّ الأمة بحاجةٍ إلى مناهجَ أصيلةٍ تؤصِّل العقيدةَ في النفوس، ثم تمتدّ لتربِّيَ الأجيالَ المستقبلة على كلّ خُلُق عظيمٍ، وتربِط حضارتها ورُقِيَّها برِباط الشّرع، فدين الإسلام ليس عَقَبةً أمام أيِّ تقدم للأمة ورقِيٍّ لها، وليس حاجزًا أمامَ الأمّة أن تبلغَ الشأوَ البعيد صِناعيًّا وماديًّا، لكنّه يربِط كلَّ ذلك بالمنهجِ الإسلاميّ الصحيح لتنطلقَ الأمّة في كلّ تصرّفاتها من منهَج إسلامِها العظيم الذي يهيِّئها لكلّ خير ويأمرُها بالأخذِ بالأسباب والارتقاءِ بالأمّة وقوّة العلم والمعرفة واتِّساع الآفاق والمدارك في كلّ علومِ الحياة، لكن شريطةَ أن تكونَ العقيدة مسيطِرةً على الجميع لتكونَ أعمالنا منطلِقة من عقيدتِنا الخالصة الصّافية.
أمّةَ الإسلام، مِن أسبابِ صلاحِ الأمّة أن يكونَ الإعلام الإسلاميّ إعلامًا واقعيًّا وإعلامًا متجرِّدًا وإعلامًا يحمِل على عاتقه همومَ الأمّة ومشاكلَها؛ ليعالج قضاياها ويعالجَ مشاكلَها ويخاطبَ فتياتِها وشبابها بخطابٍ يمكِن من خلاله تأصيلُ القِيَم والفضائل ومكافحةُ الشرور ومحاربة الدِّعايات المضلِّلة والقنوات الخليعة والقنواتِ المنحرفة عن الهدَى. إنَّ إعلامَ الأمة متى قوِيَ بثُّه وقويَت برامِجُه وأخَذ على عاتِقه همومَ الأمة يعالج مشاكلَها ويدافِع عن قضاياها ويزيلُ عنها كلَّ غشاوة وشبهاتٍ ضالة تعلَّق بها المنحرفون فذاك هو واجبُها ليكونَ إعلامًا نافعًا ومِنبرَ توجيهٍ وإصلاح.
أخي المسلم، عندما تحمِل القلمَ لتخُطَّ به كلماتٍ تنشرُها فقِف مع نفسك هنَيهَة؛ هذه الكلمات التي تريد أن تكتبَها هل هي تخدِم هذا الدين؟ هل هي تخدِم قضايا الأمّة؟ هل هي تزيد الأمّةَ قوّةً وثباتًا، أم هي تفتَح ثغرةً على الأمّة ونزاعًا واختلافًا؟
إنّ الصراعَ الفكريَّ يجب أن يقفَ عند حدِّه، ولا يجاوز حدّه. إنّ لنا ثوابتَ ومسلَّماتٍ يجب أن تكونَ بعيدةً عن نقاشٍ صحفيّ أو إعلامي، يجب أن تكونَ النقاشاتُ الإعلاميّة في قضايا الأمّة وفي طرح أيِّ مصلحة للأمّة تخدم دينَها وأخلاقها، أمّا الثوابت والمسلَّماتُ للأمة فيجِب أن تكون بعيدةً عن أيِّ نقاش.
إنَّ الأمَّة اليومَ بحاجةٍ إلى وحدة الصفّ، وبحاجةٍ إلى الالتحام في هذا الزمنِ الذي تضاعفَت فيه التّكتُّلات السياسيّة والاقتصاديّة، وأُريدَ بالأمة ما أريدَ بها، ولكن يأبى الله ذلك، وله الفضل والمنّة، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
إنَّ مسلَّمات الأمّةِ وثوابتَها يجب أن تبقَى بعيدةً عن كلّ نِقاش. النّقاشُ والاختلاف يجِب أن تكونَ الأطروحات في سبيل كلِّ خيرٍ تصِل الأمّة إليه، ويراد بِهِ الصّعودُ بها إلى الكمال.
إنَّ البلادَ الإسلاميّةَ إذا أرادت لنفسِها القوّةَ والثباتَ فلا بدَّ أن تعودَ إلى شرعِ الله لتجدَ فيه الأمنَ والاستقرارَ والطُّمأنينة.
أخي المسلم، حبُّ المسلم لوطَنِ الإسلام أمرٌ مطلوب، لكن كيفَ يكون المسلم محِبًّا لوطنه؟ وكيف يكون مدافِعًا عن وطنه؟ وكيف يكون مصلِحًا لوطنه؟
إنَّ حبَّ الوطنِ حقًّا يتمثَّل في حبّ الخير للأمة والسعيِ فيما يصلِحها وإبعادِ شَبَح أيِّ خلافٍ ونزاع يُرَاد بهِ تفريقُ كلمتِها. إنّ الأمّةَ بأمسِّ حاجةٍ إلى التحامٍ واجتماع وتآلفٍ وقوّة وانتظامٍ حتى لا يجدَ العدوُّ ثَغرًا يلِج من خلالِه. إنّ الصِّراعَ الفكريَّ يجب أن يكونَ له حدٌّ، وأن لا يمتدَّ إلى ما لا خيرَ فيه.
إنَّ كثيرًا ممن يقول أو يكتب قد يكتُب ما لا يدرِي عن أبعادِ ما يكتب، ولا عن نتائجِ ما يكتب، فليتَّق المسلمون ربَّهم في أمورهم كلِّها، وليكونوا يدًا واحدة على الخير والتقوى. إنَّ الجهود يجب أن تتضَافر من كُتّابِنا من خطبائنا مِن أئمّة مساجدنا من كلّ فردٍ في هذه الأمّة فيما يصلِح الأمة ويثبِّت دعائمَ أمنها ويخلِّصها من كلّ الأفكار الدّخيلة عليها، ومن كلّ الآراء الشاطّة التي لا تخدِم هدفًا ولا تحقِّق غرضًا، وإنما يجب علينا أن تكونَ أطروحاتُنا في سبيل ما نمدُّ به هذه الأمة في قوّةٍ وثباتٍ واستقامة.
أسأل الله للجميع التوفيق لما يحبه ويرضاه، إنّه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه منَ الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولَكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإمارة (1844) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في حديث طويل بنحوه.
[2] أخذ مالك رحمه الله هذه الكلمة عن شيخه وهب بن كيسان كما روى ذلك ابن عبد البر في التمهيد (23/10)، ثم اشتهرت عن مالك لشهرته وإمامته.
[3] أخرجه أحمد (1/391)، وأبو داود في الملاحم (4336)، والترمذي في التفسير (3047)، وابن ماجه في الفتن (4006) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وقد اختلف في إرساله ووصله، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1105).
[4] أخرجه أحمد (2/362، 402)، والنسائي في قطع السارق (4904)، وابن ماجه في الحدود (2538) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه، وصححه ابن الجارود (801)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (231).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، وصف الله عباده المؤمنين ومدحهم فذكَر من خِصالهم الحميدَة قوله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
هكذا حالُ المسلِم، يترحَّم على من مضَى منَ المؤمنين، ويستغفِر لهم، ويَكفّ عن مساوئهم، ويبعُد عن البحثِ عن عيوبهم، فقد مضى الأموات بما مَضَوا عليه، فيسأل الله لهم الرحمة والمغفرة. وهو في نفسِ الوقت ليس في قلبِه غلٌّ على أهل الإيمان، ولا حِقد على أهل الإيمان، لماذا؟ هوَ مؤمنٌ يحِبّ الخيرَ لهم كما يحبّ لنفسه، هو مؤمن يكرَه الشرَّ لهم كما يكرَه لنفسه، هو مؤمن يسعَى في إيصال الخير لهم كما يسعَى في إيصال الخير لنفسه، هو مؤمِن يكتب بقلمِه خيرًا ويخطب بخير ويقول خيرًا ويوصي بخير، هو مؤمِن يهمّه أمرُ أمّته قبلَ كلّ شيء، هو مؤمن يأمَنه الناس على دمائهم وأموالهم، يأمنونَه على أعراضهم، يأمنونه فلا يقول شرًّا ولا يحدِث شرًّا ولا يبرِم شرًّا، ولكنّه المؤمن الصادِق الذي تراه في كلّ ميدان من ميادينِ الأمّة، يسعى جهدَه في الخير، وليحقّق قول الله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71].
فاحذَر ـ أخي المسلم ـ من أن تكونَ عدوًّا لدينك أو عدوًا لأمّتِك، احذَر أن تكونَ عدوًّا لهم من حيث لا تشعر، كن محِبًّا للخير ساعيًا فيه داعيًا إليه مؤلِفًّا للقلوب جامِعًا للكلمة ساعيًا بما يصلِح الأمةَ في الحاضر والمستقبل بنيّةٍ صادقة ونفسٍ طيّبة.
أسأل الله أن يحفظ الجميع بحفظه، وأن يعيذَنا وإيّاكم من نزغاتِ الشيطان.
اعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخيرَ الهديِ هدي محمّدٍ ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وعَلَيكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجَمَاعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وَصَلّوا ـ رحمكم الله ـ عَلَى عبد الله ورسولِهِ محمّد كما أمركم بذلِكَ ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صَلِّ وسَلِّم وَبَارك عَلَى عبدِك ورسولِكَ محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
(1/3316)
شرح حديث: ((من عادى لي وليًا))
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
8/4/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نص حديث: ((من عادى لي وليًّا)). 2- المولاة في الله، والمعاداة في الله. 3- من هو ولي الله؟ 4- حقيقة معاداة أولياء الله. 5- موقف المنافقين من المؤمنين. 6- الاستهزاء بالمؤمنين. 7- التقرب إلى الله بالفرائض. 8- التقرب إلى الله بالنوافل. 9- من ثمار محبة الله تعالى إجابة الدعاء. 10- كراهية المؤمن للموت. 11- جبن المنافقين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((قال الله تعالى: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت من شيء أنا فاعله ترددي من قبض نفس عبدي المؤمن؛ يكره الموت وأكره إساءته، ولا بد له منه)) [1].
أيها المسلمون، المؤمن حقًا يحب الله، ويحب رسوله، ويحب أولياء الله، المحبين لله ورسوله، يحبهم لكونهم محبين لله، يحبهم لكونهم قائمين بشرع الله، يحبهم لأنهم منفذون أوامر الله، مجتنبون لنواهي الله، فلمحبتهم لله وقيامهم بحق الله هو يحبهم لأجل ذلك وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71].
فمن أحب الله ورسوله أحبه المؤمن، ومن أبغض الله ورسوله، وعادى الله ورسوله أبغضه المؤمن، فهو محبته لله ولأجل الله، لا لسوى ذلك.
وفي الحديث: ((أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله، وتبغض في الله، وتوالي في الله، وتعادي في الله)) [2] ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (وقد صارت مؤخاة الناس اليوم على أمر الدنيا وذاك لا يجزي على أهله شيئًا) [3].
أيها المسلم، فقوله جل جلاله فيما رواه عنه نبيه : ((من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب)).
أولاً: من هو الولي لله؟ الولي لله هو المتقي لله، لا تُنال ولاية الله بمجرد الدعوى، ولكنها حقيقة الأعمال الصالحة يقول جل وعلا: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ ?لْبُشْرَى? فِي ?لْحَيو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ?للَّهِ ذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [يونس:62-64] ، فما نالوا ولاية الله بالدعوى المجردة، وإنما نالوها بتقواهم لله وقيامهم بما أوجب الله عليهم، ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ.
إذًا فكيف العداوة لأولياء الله؟ يقول الله: ((من عادى لي وليًا)) ، كيف يعادي ولي الله؟ هل هذه العداوة لأمور الدنيا؟ وما بين الناس من أحوال وخصام ونزاع وتنافس في الدنيا؟ لا, هذا أمر ممكن مع كل أحد، فلا يخلو المؤمن من أن يكون بينه وبين أخيه شيء من الخصومة والنزاع، وقد يكرهه لشيء ما، لكنها كراهة لا تؤدي إلى العداوة، إنما قوله تعالى: ((من عادى لي وليًا)) معاداة أولياء الله، معاداتهم بغضهم وكراهيتهم لأجل اتباعهم لشرع الله، يعادي أولياء الله معاداة منطلقة من قلب ممتلئ كفرًا ونفاقًا وعداء لله ورسوله، فهو يعادي أولياء الله لكونهم يحكمون شرع الله، يعادي أولياء الله لكونهم يطبقون أوامر الله ويجتنبون نواهي الله، يعادي أولياء الله لكونهم يقدمون أمر الله على هوى النفوس ومشتهياتها، هذه العداوة تصدر من قلب مليء كفرًا ونفاقًا، تتفوه ألسنتهم بما انطوت عليه قلوبهم من الخبث والبلاء.
قال تعالى مبينًا حال أعداء الرسل مع الرسل، وأن العداوة لأولياء الله قديمة جدًا منذ بعث الله الرسل:
فقوم نوح يقولون لنوح عليه السلام: مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ ?تَّبَعَكَ إِلاَّ ?لَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ ?لرَّأْى وَمَا نَرَى? لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَـ?ذِبِينَ [هود:27]، وقال الله عنهم أنهم سخروا منه عند صنع السفينة قال الله: إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود:38]، وقال الله عنهم: قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَ?تَّبَعَكَ ?لأَرْذَلُونَ [الشعراء:111].
وقوم موسى يقولون لموسى: أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ?لْكِبْرِيَاء فِى ?لأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ [يونس:78].
وإبراهيم يقول له أبوه: لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَ?هْجُرْنِى مَلِيًّا [مريم:46].
وقوم محمد كم قالوا له ما قالوا، قال الله عنهم: وَقَالَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ هكذا يستهزئون.
إن العداء لأولياء الله عداء المنافق والكافر يتفوه لسانه بما انطوى عليه قلبه من عداء لهذه الشريعة وعداء للمتمسكين بها، والعاملين عليها، والمنفذين لأحكامها، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ ?للَّهُ يُزَكّى مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَى? بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ ?لْكِتَـ?بِ يُؤْمِنُونَ بِ?لْجِبْتِ وَ?لطَّـ?غُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى? مِنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ سَبِيلاً [النساء:49-51]، يقول الكافرون: هَؤُلاء أَهْدَى? مِنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ سَبِيلاً ، ففضلوا طريقة اليهود والنصارى على شريعة الله ورسوله، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ?لطَّـ?غُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَـ?لاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى? مَا أَنزَلَ ?للَّهُ وَإِلَى ?لرَّسُولِ رَأَيْتَ ?لْمُنَـ?فِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا [النساء:60، 61]، فهؤلاء المعادون لأولياء الله، المستهزئون بهم، الساخرون بدينهم، المنتقصون من شريعتهم، العائبون لأخلاقهم وآدابهم، هؤلاء شابهوا إخوانهم المنافقين والكافرين السابقين، شابهوهم في هذه الآراء الباطلة، والتصورات الخاطئة، يقول الله جل وعلا عن المنافقين: إِذْ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ [الأنفال:49]، لما رأوا أصحاب رسول الله وجهادهم وتضحيتهم في سبيل الله لإيمانهم بالله واليوم الآخر، قالوا عنهم ما قالوا: إِذْ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ يقولون: هؤلاء صدَّقوا بالآخرة، وصدَّقوا بالجنة والنار، غرَّهم دينهم، أي بمعنى أن كل شيء لا حقيقة له، هكذا يقول المنافقون.
فيا أخي المسلم، احذر أن تكون عدوًا لله من حيث لا تشعر، احذر أن تكون عدوًا لدين الله، عدوًا لكتاب الله، عدوًا لسنة رسول الله، قف عند أي كلمة تقولها، وأي مقالة تنشرها، وأي قضية تحاول حلَّها، فكر قليلاً وتدبر، هل أنت تقصد بقلمك وتخط بقلمك ما فيه نصرة للإسلام وأهله، أو ما فيه عداء للإسلام وأهله؟
((من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب)) ، ومن يقوى على حرب الله إنه المخذول الذليل، فاتق الله ـ أيها المسلم ـ في دينك، اتق الله فيما تقول، فكم كلمات يطلقها الإنسان ولا يدري أنها أوقعته في عذاب الله.
أناس في عهد النبي استهزؤوا بالمسلمين فقالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغبنا بطونًا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء، فأنزل الله تكذيبهم، وبيان ضلالهم: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ [التوبة:65، 66] [4].
قال الله عنهم: ?لَّذِينَ يَلْمِزُونَ ?لْمُطَّوّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَـ?تِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ ?للَّهُ مِنْهُمْ [التوبة:79]، وقال: إِنَّ ?لَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ [المطففين:29] أي في الدنيا، وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا ?نقَلَبُواْ إِلَى? أَهْلِهِمْ ?نقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ [المطففين:30-32]، هكذا يقول الكافرون في المؤمنين، يضحكون، ويتغامزون، ويقولون: هؤلاء ضالون، وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَـ?فِظِينَ ثم العاقبة: فَ?لْيَوْمَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنَ ?لْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى ?لأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [المطففين:34، 35]، ينظرون إلى وجه الله يوم القيامة، ويضحكون من هؤلاء الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
فاتق الله ـ أيها المسلم ـ واحذر أن تكون عدوًا لله، إن سخريتك بالمسلم، سخريتك بدينه، واستهزاءك بإسلامه، وسخريتك بأحكام الشريعة، وطعنك في الشريعة وحملتها، وسخريتك بالآمرين بالمعروف والناهيين عن المنكر، وبغضك لهم، ورميك إياهم بالتهم والأباطيل، كل ذلك من عدائك لله ورسوله، إذ لو كنت مؤمنًا حقًا لأحببت أهل الخير والدين، وناصرتهم وأيدتهم، وإن رأيت خطأ أصلحته، إن رأيت خطأ أصلحته وأعنتهم على الخير، وأما السخرية بالإسلام وأهله، وبالدعاة إليه، وبالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وبالمحكمين لشرع الله، والمتمسكين بسنة رسوله، فإن الاستهزاء بهم والسخرية بهم ضربٌ من عداوتك لله ورسوله.
ثم يقول الله جل وعلا: ((وما تقرّب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه)) ، أعظم ما تقرّب به إلى الله أداء الفرائض من صلاة وصيام وزكاة وحج وبر وصلة وصدق وأمانة ونصح وقيام بالواجب، الفرائض التي افترضها الله عليك أعظم ما تَقَرّب به إلى الله بآدائها، لأنك إذا أديت الفرائض فقد سلمت ذمتك، وبرئت ذمتك من العهدة.
وأعظم الفرائض توحيد الله ثم الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج، النفقة الواجبة، صلة الرحم الواجبة، البر بالوالدين، الإحسان إلى المساكين، كف الأذى عن الجار، الصدق في البيع والشراء، والبعد عن الكذب والغش والخيانة، والقيام بما أوجب الله عليك، فكل هذه الفرائض تقرّب إلى الله بها، تتقرب إلى الله بأن تصلي الصلوات الخمس، وتتقرب إلى الله بأن تؤدي الزكاة المفروضة، وتتقرب إلى الله بأن تصوم شهر رمضان، وتتقرب إلى الله بأن تحج بيت الله الحرام، وتتقرب إلى الله بأن تبر بالأبوين، وتتقرب إلى الله بأن تصل الرحم، وتتقرب إلى الله بالصدق في البيع والشراء، وتتقرب إلى الله بالبعد عن الخيانة والغش والخداع، وتتقرب إلى الله بالإنفاق على الزوجة والأولاد، وتتقرب إلى الله بتربية الأولاد وحملهم على الخير.
كل هذه فرائض الله سائلك عنها، فأنت راع ومسؤول عما استرعاك الله عليه، فيما بينك وبينه، وفيما بينك وبين عباده.
ثم إذا تقربت إلى الله بالفرائض، فلا بد أن تنفع نفسك، وتبرها بالخير، فتتقرب إلى الله بنوافل الطاعات، فللصلاة نوافل، وللزكاة نوافل، وللصيام نوافل، وللحج نوافل، ولأنواع البر نوافل، فمن تقرب إلى الله بالنوافل بعد أداء الفرائض نال هذا الثواب العظيم، وهو محبة الله لك، وما أعظمها من نعمة، أن يحبك الله، ويجعلك ممن يحبه، وتكون محبًا لله.
((ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه)) والنوافل تكمل نقص الفرائض، وتجبر ما فيها من خلل، فإذا أحبك الله وفقك للأعمال الصالحة، فانطلقت جل الجوارح فيما يقرب إلى الله، فتبطش في سبيل الله، وتمشي في سبيل الله، وتتحرك كل الجوارح فيما يقرب إلى الله جل وعلا، فأنت عبد لله، مطيع لله، سمعك فيما يرضي الله، وبصرك فيما يرضي الله، وخطاك فيما يرضي الله، وبطشك فيما يرضي الله، كل هذا من فضل الله عليك لما تقربت لله بأداء النوافل بعد استكمال الفرائض.
أما إذا عطلت الفرائض فلا مجال للنوافل ولا اعتبار لها.
ثم أخبر تعالى أنه أيضًا إذا أحب عبده فإنه يمنحه كل خير، فلئن سأل الله أعطاه سؤله، ولهذا يقول الله: ((فلئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني ـ وفي لفظ: ولئن استعانني ـ لأعيذنه ـ وفي لفظ: لأعيننه ـ)) فالله جل وعلا يحقق له الخير لكونه عبدًا لله مطيعًا لله، وأعظم ذلك أن يدخر له الثواب في دار كرامته.
ثم أخبر تعالى أن هناك شيئًا دار بين قضاء الله النافذ، وبين كراهية المؤمن، والله يحب عبده المؤمن، ويكره إساءته، لكن قضى وقدّر أن الخلق كلهم لا بد لهم من الفناء، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى? وَجْهُ رَبّكَ ذُو ?لْجَلْـ?لِ وَ?لإكْرَامِ [الرحمن:26، 27] ، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، وَلَن يُؤَخّرَ ?للَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَ?للَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11]، فالمسلم والمؤمن يكره الموت، طبيعة بني آدم، يكره الموت، لأن في الموت مفارقة للدنيا والأهل والمال، والله يكره أن يسيء عبده المؤمن، لكن قضاؤه وقدره النافذ أن الموت حتمٌ على كل فرد، فيكره العبد المؤمن [الموت]، والله يكره مساءته لكن قضاء الله أن الموت آت على كل أحد كائنًا من كان.
وما ضمن الله لأحد في الدنيا الخلد، وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ ?لْخُلْدَ أَفَإِيْن مّتَّ فَهُمُ ?لْخَـ?لِدُونَ [الأنبياء:34]، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، لكن المؤمن مع كراهيته للموت عندما يدنو أجله، ومفارقة روحه لجسده وتأتيه ملائكة الرحمن تَزفُّ له البشرى والوعد بالخير ينسى الدنيا بأسرها، ويتمنى لقاء الله، قال الله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت:30]، فعندما تُزف له تلك البشارة يحب الموت ويرضى به، ويستأنس به ويعلم أنه ينتقل من دار الضيق والضنك إلى دار السعة والخير والفضل.
جعلنا الله وإياكم ممن بشر بالخير، وآل إلى الخير، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في كتاب الرقاق (6502).
[2] أخرجه الطيالسي (783)، وابن أبي شيبة (7/ 80)، وأحمد (4/ 286) وغيرهم من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (1/90): "فيه ليث بن أبي سليم ضعفه الأكثر". وأخرجه الطبراني في الكبير (11/215) من طريق حنش، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال الألباني: "هذا سند ضعيف جدًا، حنش متروك". وأخرجه الطيالسي (376)، وابن أبي شيبة (10492)، والطبراني في الكبير (10531) وغيرهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/ 480)، وتعقبه الذهبي بأن فيه عقيلا الجعدي قال عنه البخاري: "منكر الحديث"، وقال أبو حاتم في العلل (1977): "ونفس الحديث منكر، لا يشبه حديث أبي إسحاق، ويشبه أن يكون عقيل هذا أعرابيًا". وأخرجه الطبراني في الكبير (10357) من طريق القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده ابن مسعود. فالحديث بمجموع هذه الطرق ثابت، وانظر: السلسلة الصحيحة (998، 1728).
[3] أخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (396) من طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد عنه، وليث ضعيف. وله علة أخرى وهي الاختلاف في سنده، فقد أخرجه الطبراني في الكبير (12/417) من طريق ليث عن مجاهد عن ابن عمر من كلامه.
[4] أخرجه الطبري في تفسيره (14/ 333) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن الله أخبرنا أن أهل النفاق المنغمسين في النفاق قلوبهم ممتلئة حقدًا على الإسلام وأهله، ولكنهم أحيانًا قد لا يجترئون أن يقولوا كل ما عندهم، قد لا يجترئون أن يتفوّهوا بكل ما يتصورون ويعتقدون؛ لأنهم يراعون أحيانًا شعور المسلمين، ويخافون أن ينكشف أمرهم ويفتضحون، فهم يكتمون كفرهم وغيظهم، ولكن إذا سنحت الفرصة لواحد منهم تفوّه بلسانه ما يبين به ما في قلبه، قال تعالى: وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَـ?كَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَـ?هُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ ?لْقَوْلِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَـ?لَكُمْ [محمد:30]، فلحن القول، لحن الكلام تسمع من واحد منهم ينقد الإسلام ويعيب الإسلام، ويدعي أنه مسلم!! وتراه يومًا يسخر بأحكام الله، ويستهزئ بشريعة الله، ويسخر من آداب الإسلام، فعندما تحدثه عن حجاب المرأة المسلمة يومًا سخر منه، وقال: الحجاب عادة قديمة، ورجعية زال وقتها، ولا تزالون في العهود الماضية، أكل الدهر وشرب على تلك الأخلاق والأعمال، إذا حدثته يومًا أن شريعة الإسلام شريعة شرعها الله إلى أن يرث الأرض ومن عليها، منذ بعث بها محمدًا ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، سخر منك وقال: الناس اليوم في القرن الحادي والعشرين، وهذه الشريعة أخرت الناس، وقهقرت الناس، صعد الناس الفضاء وعملوا وعملوا، وأنتم لا تزالون بين صلاة وصيام وحج وشرع إلى آخر ذلك، إذا حدثت هذا المريض القلب حدثته أن الإسلام حرم الربا، وأن الإسلام توعد المرابين، وأن الإسلام شدد في أمر الربا، وأنزل فيه ما أنزل قال: يا مسكين، لا تزال عند هذه الرجعيات والمتخلفات، الاقتصاد العالمي ضرورة من ضروريات الربا، ولا يمكن أن نحيا بلا ربا، ولا أن نعيش بلا ربا، كل ذلك مما في قلبه من ضعف اليقين بالله وبرسوله، كلما حدثته عن آداب إسلامية، وأخلاق كريمة قابلك بالسخرية بهذا الدين، وكراهيته والسآمة منه، والملل منه والعياذ بالله.
كل أولئك في قلوبهم مرض، لكنهم لا يحاولون الكشف عن حقائق أنفسهم إلا عندما يخلو الجو لهم، أو يثقون بمن يتحدثون معه، يقولون بألسنتهم ما تكنه ضمائرهم من البغض والعداء للإسلام وأهله.
فيا أيها المسلم، اتق الله، اتق الله في دينك، واحذر أن تكون عدوًا لله، احذر أن تكون عدوًا لله من حيث لا تشعر، استقم على هذا الدين، واقبل هذا الإسلام، واعلم أنه خير كله، وصلاح كله، اعلم أنه خير كله، وأنه صلاح كله، وأنه المصلح للأمة في حاضرها ومستقبلها، وصدق الإمام مالك رحمه الله بقوله: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها) [1].
فلن تصلح هذه الأمة إلا بشيء صلح به أولها، وهو دين الإسلام، وتحكيمه، والعمل به، وتلقي آدابه وأخلاقه بالسمع والطاعة والاستجابة لله، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ?لْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى ?للَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [النور:51].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد...
[1] أخذ مالك رحمه الله هذه الكلمة عن شيخه وهب بن كيسان كما روى ذلك ابن عبد البر في التمهيد (23/10)، ثم اشتهرت عن مالك لشهرته وإمامته.
(1/3317)
بدعة الاحتفال بالمولد النبوي
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
8/3/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة إرسال الرسل. 2- فضائل آخر الرسل. 3- من خصائص المصطفى. 4- المقصد من بعثته. 5- أداؤه للأمانة. 6- مقتضى شهادة أن محمّدًا رسول الله. 7- ميزان الأعمال الظاهرة والباطنة. 8- الدليل الواضح على بدعية الاحتفال بالمولد النبوي. 9- حقيقة محبة النبي. 10- التذكير بحرمة دماء المسلمين وأموالهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، إنّ من أعظم نِعم الله على خلقه إرسالَ الرسل، رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ?للَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ?لرُّسُلِ [النساء:165]. أرسلهم لينيروا الطريق ويُوضحوا السبيل، قُلْنَا ?هْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَـ?تِنَا أُولَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [البقرة:38، 39]. تابع الله الرسلَ على العباد، ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى [المؤمنون:44]، كلُّ رسول أرسله الله بلسان قومه ليكونَ ذلك أقومَ للسان وأفصحَ في البيان وأعظمَ في البرهان، قال جلَّ وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4].
آخرُ الرسل والأنبياء محمد ، مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَـ?كِن رَّسُولَ ?للَّهِ وَخَاتَمَ ?لنَّبِيّينَ [الأحزاب:40]. هو سيِّد ولد آدم، هو أفضل الأنبياء وأكملهم وسيِّدهم وإمامهم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا، يقول : ((أنا سيِّد ولد آدم ولا فخر)) [1] ، أفصحُهم بيانًا وأعظمهم حجّة، آتاه الله جوامعَ الكلم، واختصر له الكلامَ اختصارًا، يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: كان محمّد أحسنَ الخَلق وجهًا وخُلُقًا [2] ، وفي صفتِه في التوراة: "أنت عبدِي ورسولي، سمّيتك المتوكِّل، ليس بالفظِّ ولا بالغليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجازي بالسيئةِ السيّئة، بل يعفو ويغفِر، لن أقبضَه حتى يقيمَ الملّة العوجاء، أن يشهدوا أن لا إلهَ إلاّ الله، أفتحُ به قلوبًا عُميًا وآذانًا صمًّا وقلوبًا غُلفا" [3] ، فصلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
خصَّه الله بخصائصَ من بين سائر الأنبياء والمرسلين، هو صاحبُ اللّواء المعقود والمقام المحمود الذي يغبِطه فيه الأوّلون والآخرون، وصاحبُ الحوض المورود، يقول : ((أعطِيتُ خمسًا لم يعطَها أحدٌ من الأنبياء قبلي: نُصِرت بالرّعب مسيرةَ شهر، وجُعِلت ليَ الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيّما رجلٍ من أمّتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأحِلَّت ليَ الغنائم، وكان النبيّ يُبعَث إلى قومه خاصّة، وبُعثتُ إلى النّاس عامّة، وأعطِيتُ الشفاعة)) [4].
بعثه الله ليبيِّن الحقَّ للناس، ويُعلِمهم بما أوجب الله عليهم. أدَّى الأمانة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حقَّ جهاده. أعلمنا أنَّ طريقة محبَّتنا لله لا تكون إلا بموافقةِ شريعة محمّد : قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ [آل عمران:31]. أعلمنا أنَّ أصل محبّته أصل الإيمان، وأنّ كمالها كمالُ الإيمان، يقول : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه وولده ووالده والنّاس أجمعين)) [5] ، ويقول أيضًا : ((ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوةَ الإيمان: أن يكونَ الله ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبُّه إلا لله، وأن يكرهَ أن يعودَ في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكرَه أن يقذَف في النار)) [6]. أعلمَنا أنّ محبَّته تقتضي طاعةَ أمرِه، بأن نطيعه فيما أمرَنا به ونجتنب ما نهى عنه: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الحشر:7]. أعلمنا أنه لا إيمان إلا بتصديقِ أخباره، بأن نصدِّقه في كلّ ما أخبرنا به، فهو لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى: وَ?لَّذِى جَاء بِ?لصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُتَّقُونَ [الزمر:33]. أعلمنا أنَّ مِن كمال الإيمان به أن نقتدي به ونتأسَّى به، ونستنَّ بسنّته على وفق ما شرع، لا بأهوائنا ولا باستحساننا، بل نوافق شرعَه ونتَّبع سنته: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، قال تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، وقال: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَ?عْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ?تَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [القصص:50].
إنّ محمدًا نعمة من الله أنعَم بها علينا، وفضلٌ تفضَّل به علينا، فهو الرحمة المهداة والنعمة المسداة، لَقَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164]. زكَّى نفوسَ المؤمنين، وطهّر قلوبَهم، فهو رحمةٌ للعالمين وحجّةٌ على الخلائق أجمعين، صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
أخبرنا أنَّ الله ما بعث من نبيّ إلا كان حقًا عليه أن يُدلَّ أمّته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شرّ ما يعلمه لهم [7] ، وحقًّا إنّ محمّدًا دلَّنا على كلّ سبيل يقرِّبنا إلى الله، بيَّنه لنا، وأمرنا بسلوكه، وحذّرنا من كلّ طريق يُبعدنا عن الله، وبيَّنه لنا، ونهانا عن ذلك. إنّه بلّغ رسالات ربّه كما أمره الله: يَـ?أَيُّهَا ?لرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ [المائدة:67]، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما: من حدّثكم أنّ رسول الله كتَم شيئًا ممّا أنزل الله فقد افترى على الله الكذب [8] ، وقد زكَّاه الله بقوله: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]، فلا خيرَ من أمر الدّنيا والآخرة إلا بيّنه لنا بيانًا واضحًا، ولا شرَّ إلا حذّرنا منه، فصلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
فالموفَّق من عرض أقواله وأعمالَه على سنّة محمّد ، فما وافقها عمِل به، وما خالفها كان بعيدًا عنه. هكذا الإيمان الصادق والشهادة الصادقة بأنّ محمّدا عبد الله ورسوله. هكذا الإيمان الصادق الاتباعُ والاقتداء وعدم الابتداع وعدمُ الخروج عن منهجه القويم، صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (3/2)، والترمذي في المناقب (3615)، وابن ماجه في الزهد (4308) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3477). وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه مسلم في الفضائل (2278) وليس فيه: ((ولا فخر)).
[2] أخرجه البخاري في المناقب (3549)، ومسلم في الفضائل (2337) بنحوه.
[3] أخرج البخاري في البيوع (2125) عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة، قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن... وذكره.
[4] أخرجه البخاري في التيمم (335)، ومسلم في المساجد (521) من حديث جابر رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الإيمان (15)، ومسلم في الإيمان (44) من حديث أنس رضي الله عنه، وليس فيه: ((من نفسه)).
[6] أخرجه البخاري في الإيمان (16، 21)، ومسلم في الإيمان (43) من حديث أنس رضي الله عنه.
[7] أخرجه مسلم في الإمارة (1844) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في حديث طويل بنحوه.
[8] أخرجه البخاري في التفسير (4612)، ومسلم في الإيمان (177) بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيّها المسلم، شهادتُك أنّ محمدًا رسول الله تُلزمك التصديقَ بكلّ ما قاله النبيّ وكلِّ ما أخبر عن الله وبلّغك من كتاب الله، فلقد قال الله لنا فيما أنزله على عبده ورسوله محمّد: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ?لرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ?نقَلَبْتُمْ عَلَى? أَعْقَـ?بِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى? عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ?للَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِى ?للَّهُ ?لشَّـ?كِرِينَ [آل عمران:144]. فمحمد أتاه ما أتى سائرَ البشر من الموت الذي سنّه الله على العباد أجمعين، تقول عائشة رضي الله عنها: مات رسول الله بين سَحْري ونحري [1] ، وتقول رضي الله عنها: كان يرفع أصبعه في آخر حياته ويقول: ((اللهم في الرفيق الأعلى)) ثلاثًا [2] ، قال الله له: إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر:30، 31]. مات محمد وقد أدَّى الرسالة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حقَّ الجهاد. مات رسول الله وقد أكمل الله به الدين، وأتمَّ به النعمة، ومات وقد تركنا على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك.
أيّها المسلم، إنّ من تعظيمك لرسول الله أن تنظرَ في كلِّ أمرٍ تريد الإقدامَ فيه أو الإحجام عنه، أن تعرضَه على سنّة محمّد ، فما رأيتَه موافقًا لسنّته فاعلم أنّه حقّ مقبول، وما رأيتَه مخالفًا لسنّته فاعلم أنّه الباطل المردود، فإنّ الحقّ فيما شرعه.
أخي المسلم، إنّ هناك حديثين هما ميزان الأعمال الظاهرة والباطنة، يقول : ((إنّما الأعمال بالنيات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى)) [3] ، هذا ميزان للأعمال الباطنة، فلا يقبل الله عملَ عاملٍ إلا أن يكون مخلِصًا في عمله، وهناك الميزان الظاهر للأعمال، يقول : ((من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ)) [4] ، وفي بعض الألفاظ: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ)) [5].
أخي المسلم، لِيكن لك نظرٌ دقيق وتجرّد لله جلّ وعلا، تعلم أنّ محمدًا عاش بعدما بعثه الله ثلاثًا وعشرين سنة نبيًا رسولاً، خلفاؤه الرّاشدون بعده والأئمة المهديون والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، هل عُرِف عن واحدٍ منهم أنّه عظَّم ليلةَ مولده أو أحياها بخطب وقصائد وقيل وقال؟ إنَّ كلَّ هذا لم يرد عن نبيّنا ولا عَن أصحابه ولا عن من سار على نهجهم واقتفى أثرَهم.
فيا أخي المسلم، إذا قال لك قائل: هذه أمورٌ لا أعرِف لها أصلا في سنّة رسول الله، ولا أعرف لها أصلا في منهج الخلفاء الراشدين ولا الأئمة المهديّين، فأنا لا أحيي تلك الليلةَ لعلمي أنّ هذا أمر محدَث في دين الله، ليس عليه حجةٌ ولا برهان، وآخر يقول: احتفِل به تعظيمًا للنبيّ وشكرًا لله على نعمته، فأيّ الفريقين أحقّ بالاتباع؟ نعم، إنّ أحقَّ الناس بالاتباع من اقتفى أثرَ محمّد ، ولو كان الاحتفال خيرًا لكانوا أسبقَ الناس إليه، لو كان خيرًا لسبقونا إليه، ولم يكن ذلك من حظِّ من تأخّر بعد القرون المفضّلة.
أيّها الموفَّق للخير، إنّ الله جلّ وعلا يقول لنبيّه: وَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [الشورى:15]، فالاستقامة حقًا والعمل الصّدق إنّما هو باتباع منهج محمّد ، ولا تكون استقامةً إلا باتّباع هديه وتحكيم شريعته.
أخي المسلم، أيّها الموفَّق للخير، إنّ بعضَ الناس يرى أنّ مَن لم يقِم احتفالا بليلة المولد أنّه عنوان الجفاء لرسول الله، وعنوان عدم المحبّة لرسول الله، وهذا ـ لعمرو الله ـ من التصوُّر الخاطئ، بل الذين لم يحتفِلوا ولم يقيموا وزنًا لذلك هم متّبعون لسنّته ، ولو علموا دليلا من سنّته أو هدي خلفائِه الراشدين والقرون المفضّلة لكانوا أسعدَ الناس بالعمل بذلك.
أيّها الموفَّق للخير، تعلمُ حقًا أنّ المؤمن دائمًا مقتدٍ برسول الله متأسٍّ به، سنةُ محمد تصحبه في كلِّ أوقاته، في سفره وفي إقامته، في ليله ونهاره، في مأكله ومشربه، في يقظتِه ومنامه، في كلِّ حركاتِه، في معتقده، في معاملاته، في كلّ تصرفاته وأحواله، فسنّة محمّد نصبَ عينيه دائمًا وأبدًا، لا يعمل ولا يترك ولا يتصرَّف إلا على منهجٍ من كتاب الله وسنّة محمّد ، أفمن كانت هذه صفاته يحتاج إلى ليلةٍ من الليالي ليظهرَ فيها تلك المحبَّة، ويظهر فيها تلك الموالاة، أقصائدُ تلقى وخطب رنّانة تُقال هي عنوان المحبة؟! وقد يقول هذه القصائد ويلقي تلك المحاضرات من ليس له علاقة بالسنة، تراه بعد هذه الليلة لا يعرف سنّة رسول الله ولا يعمل بها. فالمقصود أنّ سنّته هي الواجب الاتّباع، والمسلم إذ يترك ما يترك إنّما هو بناءً على ما علِمه من السنّة، فيأتي الأمرَ الذي شرعه الله ورسوله، ويترك الأمرَ الذي لم يشرعه الله ورسوله، ويعلم أنّ العبادات مبناها على الاتّباع لا على الابتداع، فالاتّباع هو المطلوب، والابتداع ينأى المسلم بنفسه عنه.
فيا أيّها الإخوة، إنّ ما نسمعه وما ينقَل لنا في كلِّ ليلة من اثني عشر من ربيع الأول إنّما هذه الأمور تلقّاها الناس بعد القرون المفضّلة، ابتدعها من ابتدعها، وقد يكون عن حسنِ قصد، لكنّها أمور مخالفة للشرع، والمقصد لا يجعل الباطل حقًا، ولا يجعل البدعة سنّة؛ لأن العمل لا يقبله الله إلا إذا كان خالصًا لوجهه، وكان على وفق ما شرعه لنا نبيّنا.
أيّها الشاب المسلم، أيّها المسلمون عموما، إنّ احترامَ دماءِ الناس واحترامَ أموالهم أمر قرَّرته شريعة الإسلام، بل حُرمة الدماء والأموال ممّا اتفقت عليه شرائع الله السابقة كلّها، وأكملها شريعة محمّد ، فقد جاءت باحترام الدماء والأموال، ((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام)) هكذا يقول محمد [6] ، ورتّب الله على قتل الأبرياء أعظمَ الوعيد: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وفي الحديث: ((لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)) [7] ، فاحترامُ الأموال والدّماء أمر مطلوب شرعًا، والسعي في زعزعة أمنِ الأمّة إنّما يصدر من قلوب فارغة من الخير، ومن أناس تصوَّروا الأمورَ على غير حقيقتها، وفهموا الإسلامَ على غير فهمِه الشرعيّ، وجاءهم الشيطان فاستفزَّهم وزيَّن لهم الباطلَ فرأوه حقًا، وذاك من قصور الإيمان والعلم، قال جلّ وعلا: أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَنًا [فاطر:8].
وقد آلم المسلمَ ما قيل عن بعض أبناء المسلمين، وما اقتنَوه من أسلحة الدمار والضلال، وما أرادوا به لكيد الأمّة والنيل منها، وزعزعة دولة الإسلام ومحبّة إظهار الفوضى ببلاد الإسلام، هؤلاء جهلةٌ مغرَّر بهم، جهلة خُدِعوا وغرِّر بهم، ولم يكن عندهم من العلم [والفهم] الصحيح ما يأمرهم باتّقاء هذه المصائب العظيمة. إنّ أعداءَ الأمّة اليوم ساعون في الإغرار بالأمّة بكلّ ما أوتوا من مكائد، من قيل وقال، من أراجيفَ وإشاعات باطلة، ومن إيحاء لبعض ضُعفاء البصائر، ليستغلّوهم في باطلهم، ويجعلوهم سببًا لحصول ما يحصل على الأمّة، فاليقظة والانتباه لمخطّطات أعداء الإسلام وكون المسلمين على حذرٍ من هذه الأمور، فإنّ أعداءَ الله لا يريدون لكم نصحًا، ولا يريدون لكم إخلاصًا، وإنّما يحبون أن يوقِعوا بينكم العداوةَ والبغضاء.
فليحذرِ المسلم أن يكونَ مطيةً لأعدائه، يوجِّهه الأعداء كيف يشاؤون، ليَكن على ثقةٍ بدينه، ثم ثقة بولاّة أمره، ليستقيم على الخير، ويتعاون الجميع على البرّ والتقوى. وليحذر المسلم أن يكون عونًا لكلِّ مجرم أو كلّ مفسد، فإنّ هذا يُخلُّ بالأمانة الشرعيّة، فأمنُ هذا البلد عمومًا مسؤولية كلّ فرد منّا. حمى الله بلادَ المسلمين من كلّ سوء، وجنَّبها المهالك، وكفاها شرَّ الأعداء، وبصَّر الأمّة في دينها.
إنّ الغيرةَ لله والحماية لدينه أمرٌ مطلوب من المسلم، ولكن الغيرة على أصول شرعيّة وضوابط شرعية، لا على ما يمليه الهوى والنفوس الأمّارة بالسوء، ولا على ما يريده الأعداء. فالمسلم يَغار على دين الله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، لكن بالضوابط الشرعيّة، يقِف عند حدِّه، أمّا أن يتَّخذ من دينه وسيلةً للإضرار بالأمة ويزعم أنّ هذا تديُّن والحقيقة أنّه ليس كذلك، بل ذلك خداعٌ وغرور، نسأل الله أن يبصِّر الجميعَ، ويهدي ضالَّ المسلمين، ويثبِّت مطيعَهم، ويعيذنا وإياكم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنّه على كلّ شيء قدير.
أيّها المسلم، إنّ بعضَ أولئك زهدوا حتى في التعليم، ورأوا أنّ التعليم بِدعة، وأنّ كلّ شيء بِدعة، كلّ شيء يرونَه بدعة بلا أصولٍ شرعية، فعلى الأولياء تربيةُ أبنائهم وتحذيرهم من هذه المزالق والأخذ على أيديهم والتبصّر في شبابهم، أين يذهبون؟ وإلى من يذهبون؟ ومن يصاحبون؟ حتّى يكون عند المسلمين وعيٌ صحيح وإدراك للأمور وأخذ على أيدي السفهاء قبلَ أن تزلَّ بهم القدمُ فيما لا خير فيه. وفّق الله الجميعَ لما يرضيه.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمركم بذلك ربّكم قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين الأئمة المهديّين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيّك أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، وانصر عبادك الموحّدين...
[1] أخرجه البخاري في الجنائز (1389)، ومسلم في فضائل الصحابة (2443).
[2] أخرجه البخاري في المغازي (4436، 4437، 4438، 4449، 4451، 4463)، ومسلم في فضائل الصحابة (2444).
[3] أخرجه البخاري في بدء الوحي (1)، ومسلم في الإمارة (1907) من حديث عمر رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[5] أخرجه مسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها، وعلقه البخاري في كتاب البيوع وفي كتاب الاعتصام.
[6] أخرجه البخاري في الحج (1741)، ومسلم في القسامة (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في الديات (6862) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(1/3318)
حديث للأطباء والمرضى
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الإعلام, المرضى والطب
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
14/1/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الابتلاء بالأمراض. 2- فوائد الابتلاء. 3- نعمة العافية. 4- نصائح للطبيب المسلم. 5- وصية للقائمين على المستشفيات والمستوصفات. 6- وصايا للمريض. 7- طهارة المريض وصلاته. 8- الوصية بالوالدين. 9- التحذير من برنامج "ستار أكاديمي" وأمثاله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، الدنيا دارُ عمل وابتلاء، لا يسلَم العبدُ فيها من سقَمٍ يكدِّر صفوَ حياته، ولا مِن مرضٍ يضعِف قوَّته وحاله، وقد يكون في البلاء نعمة، وفي المرض والشدةِ بُشرى، وربّك يرحم بالبلاء، ويبتلي بالنعماء، وشدّةُ المؤمن في هذه الدنيا عينُ لذّته وراحتِه يومَ القيامة. والبلاءُ عنوانُ محبةِ الله والطريق إلى جنَّته، في الحديث: ((أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثمّ الأولياء، ثمّ الأمثل فالأمثل، يبتلَى العبدُ على قدرِ دينه، فإن يكن في دينه صلابة شدِّد عليه، وإلاّ خُفِّف عنه)) [1] ، وقال : ((إنَّ عِظمَ الجزاء مع عِظم البلاء، وإنَّ الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرِّضا، ومن سخط فله السخط)) [2].
أيّها المسلم، في بلاءِ المؤمن رفعٌ لدرجاته وحطٌّ لخطاياه، ((لا يصيب العبدَ من همّ؛ مرض فما دون ذلك إلاَّ حَطَّ الله بها سيئاته كما تحطُّ الشجرة ورقها)) [3].
وفي البلاءِ قوَّةُ الإيمان والتوكُّل على الله وتعلّقُ الأمل بالله، ويُكتب للمريض ما كان يعمَله في صحّته لأنه بنيَّته ينوي الخير، وذاك من فضل الله. وفي المرضِ إذهاب الداء الدفينِ في النفوس، من الكبر والعُجب والاغترار والغفلة، فيعرف ضعفَه وعجزَه، ويتذكَّر قول الله: وَخُلِقَ ?لإِنسَـ?نُ ضَعِيفًا [النساء:28].
أيها المسلم، إنَّ العافيةَ من أعظم نِعم الله عليك بعد الإسلام، وأجزلِ عطاياه لك، هذه نعمةُ العافية نعمةٌ عظيمة، في الحديث: ((نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحّة والفراغ)) [4] ، وسيُسأل العبد يومَ القيامة عن النعيم الذي ناله في الدنيا، يقال له: ألم نصحِّح جسمَك؟! ألم نُرويك من الماء البارد؟!
أيّها المسلم، وسلبُ تلك العافية أو اعتلالُها يورِث ذلك كثرةَ الدعاء وعظيمَ التضرّع بين يدي الله، فسبحان من يستخرج الدعاءَ بالبلاء والشكرَ بالعطاء.
أيّها المسلم، وإذا كنتَ على يقين أنَّ الله أرحمُ بك من نفسك، وأرحم بك من أمّك الشفيقة عليك، أيقنتَ بأنّ قضاءَ الله كلّه عدل، فعليك الصبر، ثم تخلَّق بالرضا عن الله لتكونَ من السعداء.
أيّها الطبيب المسلم، مهنتُك شريفة، وعملك طيّب، عليك بتقوى الله والجدّ والاجتهاد، فالاطِّلاع على كلِّ جديد في هذا الطبِّ لتخدمَ به أمتك، وتتقرَّب بذلك إلى الله.
أيّها الطبيبُ المسلم، المرضى اطَّلعتَ على عوراتهم، وأفشَوا إليك أسرارَهم، وبَثّوا لك شكايتهم، فحقٌّ عليك كتمانُ السرّ وإخفاء الأمراض، وأن لا تشيعَ شكايتهم وحالَهم إلى الناس، بل اجعَل ذلك من أسرار عملك، فأنت مؤتمَن على هذا كلِّه.
أيّها الطبيب المسلم، إنَّ المؤمنَ في كلّ أحواله داعٍ إلى الله، ناشرٌ لدين الله، ساعٍ في الخير جهدَه.
أيّها الطبيب المسلم، من خلال فحوصك واطّلاعك على ذلك ترى من عجائبِ صُنع الله وقدرته في عباده ما تتيقَّن به قولَ الله: وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ [الذاريات:21].
أيّها الطبيب المسلم، قولُك للمريض حكمٌ مقبول لديه، ورأيُك حتى في أجسامهم مقبول.
أيّها الطبيب المسلم، سلَّم لك المريضُ جسمَه وعقله، وربما سلَّم لك روحَه، فاتق الله في أمانتك، وراقب الله في عملك.
أيّها الطبيب المسلم، ليس عيبًا عليك أن تقولَ عمّا لا تعلم: لا أعلمه، فإنّه ربما انغلق عليك أمرٌ اطلع عليه الآخرون، ربما انغلق عليك أمر علِمه غيرك، وَمَا أُوتِيتُم مّن ?لْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85].
أيّها الطبيب المسلم، لقد استغلّ أعداء الإسلام مهنةَ الطبِّ في الدعوة إلى الضلال وإخراج الناس من دينهم بما يظهرونه من رِقّة ولُطف ورحمةٍ بالمريض، فحرّي بك ـ أيّها الطبيب المسلم ـ أن تكون سبَّاقًا لهذه الأمور، ليكن معك حِلمٌ ورفق ولُطف بالمريض، لا يكن مرضُه سببًا لازدرائه، ولا بلاؤه سببًا لاحتقاره، فما جاء المرض إلا لتطهيره ورفع درجاته، والله حكيم عليم.
أيّها الطبيب المسلم، غَضُّ البصر وتحصينُ الفرج والبعد عن رذائل الأمور من الأخلاق التي يجب أن يتحلّى بها الطبيب المسلم كما يتحلّى بها الكلّ، لكن الطبيب المسلم في هذه المواقف فليراقب الله في أقواله وأعماله وتصرّفاته.
أيّها الطبيب المسلم، نبيّنا يقول: ((إنّ الله يحب الفأل)) [5] ، فكن ذا خلُق حسَن، وارفق بالمريض، وارعَ له مرضَه، وتلطَّف به، وإياك أن تضجر من سوء أخلاقِه وقلّة صبره، فلِصاحبِ الحقِّ مقال.
أيّها الطبيب المسلم، إنّ ما ابتُلي به الناس من اختلاطِ الجنسين في أماكنِ التمريض والعلاج لهو خطر عظيمٌ وشرّ مستطير، والمسلمون بإمكانهم عملُ الطبّ، وبإمكانهم تخصيص [مكان] للنساء دون الرجال، وبإمكانهم فصلُ الجنسين بعضهما عن بعض، وذاك أمرٌ إذا صدقت النيّة فيه وحسن القصد فإنّ الأمة توفَّق للخير.
أيّها الطبيب المسلم، إياك وأن تكونَ مهنتُك سببًا للتكبُّر والعلوّ على الناس، فمن تكبَّر أو تعالى بمهنته وضعه الله، واعلم أنَّ المعاصيَ سببٌ يُغلِق أمامَ الإنسان التزوُّد من المعلومات، ورُبَّ معصية له تُفقِده قوَّةَ فكرَه وتدبيره، فطاعة الله سببُ الازدياد من كلّ خير، ومعاصي الله سببٌ لضعف البصيرة وقلَّةِ الإنتاج. فعلى الطبيب المسلم تقوَى الله في مِهَنه كلِّها ليكون من الصادقين، وليؤدِّ هذه الوظيفةَ أداءً كاملاً بإخلاص، وليجعل ذلك عبادةً لله، فإنّ الله جلّ وعلا يثيب العبدَ على نواياه الصالحة، فقد يبلغ العبدُ بنيته المبلغ العظيمَ، فمن أحسنَ قصدَه ونيته فليبشر من الله بالثواب والعطاء الجزيل.
أيّها الطبيب المسلم، إنَّ كلَّ طبيب تطبَّب وهو لا يحسِن الطبَّ ولا يفهمه يكونُ من الآثمين، ويكون إثمُ ما جَنت يداه عليه يومَ القيامة.
أيّها المسلم، إنَّ الطبَّ مع كونه مهنةً ومع كونه مكسبًا لبعض الناس فيجب أن تكونَ مكاسبه مكاسبَ واقعية لا استغلالاً للمريض، واستغلالاً لضعفه، فيؤخذ منه أضعافُ أضعاف ما يأخذه الآخرون، فلنتق الله في تعاملنا.
إنَّ المستشفياتِ الخاصّة والعيادات الخاصة يكون أحيانًا منها استغلالٌ للمرضى، وتكليفهم ما لا يطيقون، وتحميلهم من النفقات ما لا استطاعةَ لهم ولا قدرةَ لهم بتحمُّله، ولو بحثوا في أيّ مكان لكان ما يأخذونه أضعاف أضعافِ ما أخذه غيرهم.
وأمرٌ آخر أنّ هذه المستوصفات الخاصّة يجب على أهلها تقوى الله، وأن يختاروا لمهنة الطبِّ من يثقون بعلمه في الغالب، ويغلب على الظنّ أهليته وصدقُه وقدرته على ذلك العمل، ليكون الهمّ فحص ما يعيّنونه في تلك المستشفيات والمستوصفات، حتى لا تكون أرواحُ الأمّة ضحايًا لأخطائهم وتصرّفاتهم من قرب أو من بُعد، فليس الهمّ المكاسب، ولكن يجب أن يكن الهمّ النفع العامّ، هذا واجب المسلمين.
أيّها المسلم، إذا ابتُليتَ بالمرض فاصبر، والجأ إلى الله، واعلَم أنّ الأسبابَ كلَّها لا تؤثّر إلا بإرادة الله، فمع تعاطيك للأسبابِ فلتكن ثقتك بالله، ورجاؤك في الله، وأملُك معلَّقًا بالله، وتعلم أنَّ الأمرَ بيد الله، قال الخليل عليه السلام: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]، فالشفاءُ بيد الله، والأسباب التي نتعاطاها إنما هي أسبابٌ خاضعة لإرادة الله جلّ وعلا، لكن يكون متعلّقنا بالله، وثقتنا بالله، وآمالنا في الله.
احذَر ـ أيها المريض ـ أن تكونَ في شدّتك مطيعًا، وفي رخائك عاصيًا متمرِّدًا، وأعظمُ من ذلك من يعصي الله في شدَّته ورخائه، يقول نبيّكم : ((تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة)) [6]. أكثِر من ذكر الله والثناء عليه، واعلم أنه أرحم بك من نفسك، ابتلاك ليطهِّرك من الخطايا، ابتلاك ليرفعَ درجاتِك، ابتلاك لتكون مقبِلاً عليه منيبًا إليه راجعًا إليه عالمًا أن النفعَ والضرَّ بيده، وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَـ?شِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدُيرٌ [الأنعام:17].
فيا أيّها المسلم، اتَّق الله في كلِّ أحوالك، واتَّق الله في كلّ أعمالك، وراقبِ الله في كلّ تصرفاتك، هكذا يكون المؤمن حقًّا، أسأل الله أن يوفّق الجميعَ لما يحبّه ويرضاه، إنّه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ ?للَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَـ?شِفَـ?تُ ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَـ?تُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِىَ ?للَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ ?لْمُتَوَكّلُونَ [الزمر:38].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (1/185)، والترمذي في الزهد (2398)، والنسائي في الكبرى (7481)، وابن ماجه في الفتن (4023) وغيرهم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وليس فيه: ((ثم الأولياء)) ، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (2900)، والحاكم (120، 121، 5463) والضياء في المختارة (1056)، ورمز له السيوطي بالصحة، وعزاه من بين ما عزاه للبخاري، قال المناوي في الفيض (1/519): "وعزوه إلى البخاري تبع فيه ابن حجر في ترتيب الفردوس، قيل: ولم يوجد فيه"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (143).
[2] أخرجه الترمذي في الزهد (2396)، وابن ماجه في الفتن (4031)، والقضاعي في مسند الشهاب (1121)، والبيهقي في الشعب (9782) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وحسن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (146).
[3] أخرجه البخاري في المرضى (5648، 5660، 5667)، ومسلم في البر (2571) عن ابن مسعود رضي الله عنه بنحوه.
[4] أخرجه البخاري في الرقاق (6412) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[5] لم أقف عليه بهذا اللفظ، وأخرج أحمد (2/332)، وابن أبي شيبة (9/40)، وابن ماجه في الطب (3536) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله يحب الفأل الحسن ويكره الطيرة، وصححه ابن حبان (6121)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (2848).
[6] هذا اللفظ أخرجه أحمد (1/307)، والحاكم (3/623)، والضياء في المختارة (10/24) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه القرطبي في تفسيره (6/398)، وأخرجه بنحوه أيضًا أحمد (1/293)، والترمذي في صفة القيامة (2516) وقال: "حديث حسن صحيح"، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي أخرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2043).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيّها المسلم، إنّك خُلِقتَ لعبادة الله، خُلقتَ لطاعة الله، وإنّ الصلوات الخمس أعظمُ فرائض الإسلام عليك بعد توحيدك وإخلاصك الدينَ لله، فالصلوات الخمسُ في اليوم والليلة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، هي عمودُ الإسلام، تجب على [المسافر كالمقيم]، وعلى الخائف كالآمن، وعلى المريض كالصحيح، لا تسقط عنك ما دام عقلُك حاضرًا.
أيّها المسلم، إذا ابتُليتَ بمرض لا سمح الله، فاعلم أنه لا بدَّ من أداء الصلاة، ولا تسقطُ عنك هذه الفريضة بشروطها ما دمت قادرًا على الأداء، وربُّك جلّ وعلا قد يسَّر لك الأمور، يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ [البقرة:185]، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ?لأغْلَـ?لَ ?لَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157]، ويقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ?لدّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، فالحمد لله على تيسير هذه الشريعة.
أيّها المسلم، مرضُك لا يسقِط عنك الصلاةَ، ولا يُسقِط عنك الطهارةَ لها، فالطهارة للصلاةِ شرطٌ لصحة الصلاة، يقول : ((لا يقبل الله صلاةَ أحدِكم إذا أحدثَ حتى يتوضأ)) [1] ، ويقول: ((لا يقبل الله صلاةً بلا طهور)) [2].
إذًا أيها المريض المسلم، عندما تُبتَلى بالمرض فلا بدّ من طهارةٍ قبل الصلاة، تطهَّر بالماء، فإن عجزتَ عن الماء لمرضك بأن كان الماءُ يزيدُ المرضَ مرضًا أو يؤخّر البرء أو كان هذا الماء يؤثِّر على عضوٍ ما من الأعضاء، فتيمَّم، إمّا بدلاً عن كلّ البَدن، أو تيمَّم عن ذلك العضوِ الذي لا تستطيع أن تُمرّ الماءَ عليه، فإن كان عليه جبيرة قد لُفَّ بلفافةٍ فإن مسحَك عليها قائمٌ مقامَ غسل العضو بمنزلة الخفين.
وأمرٌ آخر أيها المسلم، لا بدّ من الطهارة، فإن عجزتَ عن استعمال الماء أو كان الماء يزيد المرضَ أو يؤخِّر البرء، فتيمّم، والتيممُ بالتراب ضربةٌ واحدة تسمَح بها وجهَك ويديك بعضها مع بعض، أو كنتَ لا تجدُ من يقرِّب لك الماء، أو ليس عندك من يخدمك ولا من يقرِّب لك الماء، فإنّ الله جلّ وعلا قد عذرك ويسَّر لك التيمّمَ ليقوم مقامَ الماء.
أيّها المريض، قد تشكو أحيانًا من نجاسةِ ملابسك ونجاسة الفراش الذي أنت عليه، فنقول: إزالة النجاسة شرطٌ لصحة الصلاة مع الإمكان، وإذا تعذَّر الأمر عليك وتعذَّر تغيير ملابسك وتعذّر تغيير فراشك واستحال ذلك عليك فإنّ الله يقول: فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ مَا ?سْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
أخي المسلم، إذا ابتُليتَ مثلاً بسلَس بول أو بنزيف دمٍ من بعض الجروح أو بريحٍ يتكرَّر خروجها في كلِّ الوقت، فإنك تتوضَّأ لوقتِ كلّ صلاة، وتصلّي وتقرأ حتى يأتي الوقت الآخر تيسيرًا من الله وتسهيلاً.
أيّها المسلم، اعلم أنَّ الصلاة لا بدّ من أدائها كاملةَ الأركان والواجبات، هذا هو الواجب، ((صلُّوا كما رأيتموني أصلي)) [3] ، ولكن من رحمةِ الله أنَّ المريض يسقط عنه ما يعجز عن أدائه من أركانِ الصلاة، فإن كان هذا ا لمريضُ يستطيع أن يصلّي قائمًا لكنه لا يستطيع الركوعَ فليومئ برأسه عن الركوع، لا يستطيع السجود فليومئ برأسِه عن السجود، أو يصلي على كرسيّ ونحو ذلك. إن كان هذا المريضُ لا يستطيع أن يصلِّيَ قائمًا صلّى قاعدًا، وأومأ بالركوع والسجود، يقرأ الفاتحة ثم يطأطئ رأسه كراكِع، ثم يطأطئ كساجد. إن كان لا يستطيع أن يصلّيَ جالسًا فليصلِّ وهو مستلقي، إن كان يستطيع على جنبِه الأيمن ليتَّجه إلى القبلة فالحمد لله، إن عجز عنها صلّى على حاله، يصلّي إلى جهة القبلة أو رجلاه إلى القبلة، فإن تعذّر الأمر عليه أو كان وضعُ سريره على خلاف ذلك فكلُّها تسقط عنه، ويصلّي على قدر حاله.
دخل النبيّ على رجلٍ من أصحابه وقد وضع وسادةً ليسجدَ عليها لأنّه أصيب بداء الباسور، فقال: ((ما هذه الوسادَة؟)) قال: أسجُد عليها، فرمَى بها، وقال: ((صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب، فإن لم تستطِع فمستلقيًا)) [4] ، ما دام العقلُ حاضرًا فلا بدّ من أداء الصلاة، وإن عجزتَ عن أدائها كلَّ فرص [في وقته]، أو كنتَ أحيانًا تتوضَّأ لفرضٍ ولا تستطيع الوضوءَ لكلِّ فرض، جاز لك أن تجمَع الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء على قدرِ ما يناسبك، إن كان التقديم أنسبَ جمعتَ تقديمًا، وإن كان التأخير أنسبَ جمعت التأخير، وكلّ هذا من تيسير الله.
وعلى أبناء المسلمين البرُّ بآبائهم وأمّهاتهم، ولا سيّما عند مرضهم وثقَلهم وقلّة حركتهم، فليتقرّبِ الأبناء إلى الله ببرّ الأبوين والإحسان إليهما عند كبرهما وضعف قوّتهما وانهيار صحتهما واحتياجهما إليك، ولتذكر أمَّك أيامَ طفولتك؛ تزيل الأذى، تغسلك بيمينها، تفعل معك أفعالاً لو عُدت ثانيًا لعرفتَ فضلَها وقدرها. وكم للأب من محاسنَ عليك. فعند مرضِ الأبوين لا ينبغي للأبناء والبناتِ التجاهل والجفاءُ والإعراض والصدود والانشغال بأي عذر ما من الأعذار، وقد لا يكون هذا العذر مقبولاً، فعليهم أن يتقرّبوا إلى الله ببرّ الأمهات والآباء في زمن المرض وضعف القوة، فذاك عين الابتلاء، فالنفوس الأبيّة والمعادنُ الطيبة لا يخفى عليها ذلك، تبرّ بالآباء والأمّهات في أثناء الكبر وشدَّة المرض وضعفِ القوة، ولا يكِلونه إلى أيّ أحد، بل يرَون ذلك شرفًا لهم وفضلاً لهم وقربّة يتقرّبون بها إلى الله.
نسأل الله أن يعافيَنا وإيّاكم في الدين والبدَن والأهل والمال، وأن يمتِّعنا بقوانا متاعًا حسَنا، إنه على كل شيء قدير.
إخوتي المسلمين، شبابَ الإسلام، فتياتَ المسلمين، أناشدكم الله، أناشدكم دينَكم وحبَّكم لله وإخلاصكم لله وطاعتكم لرسوله ، أسائلكم عمَّا قام في قلوبِكم من تعظيم أوامر لله وتعظيم نواهيه والتصديق بوعده ووعيده ورجاء جنّته والخوف من عذابه.
أيّها الشباب المسلم ذكورًا وإناثًا، لقد ابتُلي المسلمون ببلاءٍ عظيم، وأحاطت بهم شرور عظيمةٌ متتابعة، لا يخلِّصهم منها إلا رجوعُهم إلى الله وإقبالهم على الله وخوفُهم من الله. قنواتٌ فضائية شِرِّيرة، تنشر بالصورة والصوتِ منكراتٍ في العقيدة، منكرات في الأخلاق، تدعو إلى الرذيلة، وتحارب الفضيلة، ما يسمَّى بـ"الأستر كت"، هذه البرامجُ وأمثالها، هذه البرامج الهابطة، هذه البرامج الضالّة هي التي تروِّج للرذيلةِ وتدعو إلى الرذيلة وتحارب الفضيلة، ويحاول معِدُّو هذه البرامج في هذه القنوات التي بعضُها قد يحسَب على المسلمين، تروّج للباطل، لهذه الأفلام الهابطة الرخيصة التي غايتها محاربة كلّ خلُق قويم وكلّ فضيلة وكل كرامة.
فليتّقِ المسلمون ربهم، وليحذَروا مشاهدةَ هذه الأفلام، وليربَؤوا بأنفسهم عنها، فإنها سمومٌ قاتلة، وإنها فسادٌ عظيم، فليتَّقوا الله في أنفسهم وفي أبنائهم وبناتهم، وليعلَموا أنَّ النظرَ إليها جريمة؛ لأنها دعوةٌ إلى الرذائل وترويجٌ للفساد.
فليتَّق الله المسلمون في أنفسهم، وليعلَموا أنّ مشاهدتها والتعاملَ معها وإعانتها أو العمَل فيها أمر يخالف شرعَ الله؛ لأن الله يقول: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة:2]، لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُون [المائدة:78، 79]، قال رسول الله : ((كلاَّ، لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر ولتأخُذنَّ على يدِ السفيه، أو ليضربنَّ الله قلوبَ بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم)) [5].
فليحذر المسلمون مشاهدةَ هذه الأفلام الخليعة، ليبتعِدوا عنها ديانةً لله ومحافظةً على قيَمهم وأخلاقهم، محافظةً على دينهم قبلَ أن تزلّ القدم، فإنّ هذه البرامج ضارة، أعدَّها أعداءُ الإسلام الذين يحاربون المسلمين بكلّ وسيلة، في عقيدتهم وفي فِكرهم وفي أخلاقهم وفي اقتصادهِم وفي سلوكهم، يحاربون هذا الدينَ بقَدر ما يستطيعون، فليكُن للمسلمين موقفٌ بالبعدِ عنها وعدَم التعامل [معها وعدم] مشاهدتها واعتقاد ضررها وفسادها. وإنَّ السعيَ فيها والمكاسبَ من خلالها مكاسبُ خبيثة، مكاسبُ سيئة، فليحذر المسلمون أن يكونوا أعوانًا على الباطل.
أسأل الله أن يثبِّتنا وإياكم على قوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الوضوء (135)، ومسلم في الطهارة (225) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في الطهارة (224) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري في الأذان (631) عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الجمعة (1117) عن عمران بن حصين رضي الله عنه، وليس فيه: ((فإن لم تستطع فمستلقيا)).
[5] أخرجه أحمد (1/391)، وأبو داود في الملاحم (4336)، والترمذي في التفسير (3047)، وابن ماجه في الفتن (4006) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وقد اختلف في إرساله ووصله، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1105).
(1/3319)
أعراضنا إلى أين؟!
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, المرأة, قضايا المجتمع
محمد بن صالح المنجد
الخبر
عمر بن عبد العزيز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عقوبة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة. 2- انتشار الفاحشة في هذا الزمان. 3- التقنيات الحديثة وانتشار الفاحشة. 4- حكم التصوير. 5- ظاهرة تصوير النساء. 6- من أحكام النظر. 7- أضرار تصوير النساء. 8- صور من انحراف الشباب والفتيات. 9- الغيرة على الأعراض. 10- أسباب الانحراف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، إذا كانت أعراضُ المسلِمين في خَطَر، إذا كانَتِ الفاحِشةُ تشيع في الذين آمَنوا، إِذا كانتِ التّقنية الحديثة تُستَعمل لمعصِية الله، إذا كانَت روائح الفَضائح تزكم الأنوف، إذا هُتِكت الأعراض وعمّت البلايا واختُرقت الحرمات، فمن هو المسؤول؟! وماذا نفعل في هذا الحال؟! نشكو إلى اللهِ تعالى ظلمَ الظالمين.
قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].
أَنْ تَشِيعَ : أن تظهر وتنتشِر، يحبّون ذلك ويعمَلون له، ويختارون ويقصِدون ظهورَ القبيح، ظهور الفاحشة، يحبّون أن يذيع الزّنا في المجتَمَع، كما قال قتادة رحمه الله: "أن يظهر الزّنا وفِعل القبيح". ومن أعانَ على نشرها فهو كالذي يقود النّساء والصّبيان إلى الفاحِشة، وكذلك كلّ صاحِبِ صَنعةٍ تعين على ذلك.
عباد الله، إنّ الله يغار، وغيرةُ الله أن ُتنتَهَك حرماته، يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ منه ما يكون بالقول، ومنه ما يكون بالفِعل. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأمّا ما يكون من الفِعل بالجوارح فكلُّ عملٍ يتضمّن محبّةَ أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا داخلٌ في هذا، بل يكون عَذَابه أشدّ، فإنّ الله قد توعّد بالعذاب على مجرَّد محبّة أن تشيعَ الفاحشة، فكيف بالذي يعمَل على ذلك؟! فإذا كانَ الذي يحبّ فقط أن تشيعَ له عذابٌ أليم في الدنيا وفي الآخرة، وليس فقط في الآخرة، فكيفَ إذا اقترَن بالمحبّة أقوال وأفعال لإشاعَةِ الفاحشة في الذين آمنوا؟! حَشَر الله امرأةَ لوطٍ مع قومها في العذابِ لأنها رَضِيت بفعلهم.
عبادَ الله، إنّ هذه من صفات المنافِقِين، ولماذا نهى العلمَاء، لماذا نهوا عن الشِّعرِ الفاضح والغَزَل الذي فيه التّشبيب بالنساء ووصفِهِن؟ لأنّه يثير الغرائز، ولأنه يَدعو إلى إشاعَة الفاحشة، ماذا لهم؟ عذابٌ أليم موجِعٌ في الدّنيا والآخرَة، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ، الله يعلمُ ولذلكَ شرعَ الأحكامَ، الله يعلم المفسدَ منَ المصلح، الله يعلَم شدّةَ العذاب، وأنتم لا تتخيَّلونه، ولا تقدِرون أن تتصوَّروا عذابَ الله في الآخرة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:21]. لا لِطُرُقِ الشيطان، لا لخُطُوات الشيطان التي يُدخِل فيها العبادَ في المعاصي.
عباد الله، نحن في زمنِ إشاعةِ الفاحِشة. تجارةُ الجِنسِ في العالم تقدّر بـ57 بليون دولار في العام الماضي، منها أربع ونصف بليون دولار لتجارةِ الجنس عبرَ الهاتف، وأربعة بلايين عبرَ الإنترنت وأقراص الحاسوب، 12 في المائة من إجمالي مواقع الشبكة لتجارةِ الجنس ونشره، 372 مليون صفحة، وتحمل حركةَ البريد الإلكتروني يوميًّا قرابة 2 بليون ونصف رسالة تتضمّن مواضيعَ وإعلانات جنسيّة، لإثارة الشهوات ونشر الفاحشة.
25 في المائة من إجمالي عددِ طلبات مستخدمي الشبكةِ في محرِّكات البَحث في موضوعاتٍ في الفاحشة والحرامِ والجِنس، وأكثر من 100 ألف صفحةِ إنترنت توفّر صوَرًا فاضحة للأطفال.
وهكذا جاءت جوالات الباندا وغيرها لتعلِن انضمامها إلى مسلسل القذارة في نشر هذه الفواحش، صورٌ ثابتة، وأخرى متحرِّكة، وأنواع التصوير من الكمِرات الثابتة، وتصوير الفيديو، والتصوير التلفزيوني. وعندما كانت كمِرا الجوال تنقل خمسَ عشرة ثانية فقط في التصوير ظهرت البرامج التي يصوَّر بها الآن ثلاث ساعات.
وتقنية البلوتوث التي ترسِل مقاطعَ الفيديو والصوَر في أشخاصٍ في محيطِ هذا الجوال بعشرات الأمتار، وستمتدّ المسافة بتقدّم هذه التقنية، ليكون كلّ من في محيط جوالٍ من هذه الجوالات يلتقط هذه اللّقطات المختلفة.
وتقول الأخبار: أنتجت "كوداك" طابعة تعمل بتقنية البلوتوث لدى معظمِ أجهزةِ الجوالات الحديثة بالتعاونِ مع شركة "نوكيا"، ليصبحَ بالإمكان تحقيق الاتصال بين الطابعة وأيّ جوال لديه هذه التقنية، ليستفيد ـ بزعمِهم ـ أصحاب أجهزةِ الجوال ذاتِ الكمِرا المدمجة. وظهرت لهم مواقعُ تشجِّع على الإبداع ـ بزعمهم ـ في مجال التصوير، وتمكِّن صاحب الجوال من حِفظ ألبوم إلكتروني من الصوَر الفوتغرافية.
انتشارٌ عجيب لهذه التقنية التي ظهرت في عام 2001م، ثم انتشرت في العالم انتشارًا عجيبًا. إن المبيعات تزداد. وفي عام 2008م يتوَقَّع أن يكون نصف الجوالات في العالم في الكرة الأرضية مزوّدا بهذه الكمرات، وربما قبل ذلك. وبعض الشركات لن تنتج أصلاً في موديلاتها الجديدة جوالات بغير كمِرا. 90 مليون هاتف محمول من هذا النوع في أمريكا الشمالية وحدها. و60 في المائة من جوالات اليابانيين مزوَّدة بالكمِرا. وماذا لدينا نحن؟! ربما نسبة أكبر من هذا. فإننا نتسارع ونسارع ـ بزعمنا ـ إلى اقتناء التقنية في أحدث صورها تباهيًا واختيالاً وتظاهرًا. وهذه المظهرية التي ذبحت الكثيرين.
عباد الله، إن التقينة نعمة، لكنهم يجعلونها نقمة، إنها تحوَّل إلى وسيلةٍ اليومَ لنشر الفاحشة والفضيحة في الذين آمنوا. وطلعت الأخبار، وتناقلت المواقع، وعمّت الصحف وساحات الحوار، تلك الأحداث الأليمة التي تحدُث لبناتِ المسلمين في بلدان المسلمين. لا إله إلا الله، ((ويلٌ للعرب من شر قد اقترب)) ، قالت زينب رضي الله عنها: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)). أنهلك وفينا الصالحون؟! ((نعم إذا كثر الخبث)) ، فسّروه بالزنا وبالفسوق والفجور وهكذا. أين إقامةُ دين الله والغيرة على حرُمات الله؟!
يا عباد الله، إنّ القضية خطيرةٌ جدًا، وإنّ سفينة المجتمع ستغرَق إذا لم نقم لله بالحجة، إذا لم نقُم بما أمرنا به.
عباد الله، لماذا التساهل في التصوير أيضًا؟! وماذا قال العلماء في التصوير؟! إن الذي يتمعّن في كلامِ العلماءِ في التصويرِ ليجد حِكَمًا عجيبة كلّما تقدّم الوقت تدلّ الأحداث على أن هذا الحكم جدير بالعناية والاهتمام والحِرص.
إنّ هذا التصوير هذا التشكيل جعل الهيئة الإتيان به على صفةٍ معينة، هذه السمَة والعلامة هذه الصورة سواء كانت مرسومة أو مطبوعة أو منقوشة منحوتة، نافرة أو مستوية، سواء كانت بكمِرا عادية أو فيديويّة أو دجِتالية أو تلفزيونية ونحو ذلك، كانت مرسومة أو بالآلة، كلها صوَر وتصوير في الحقيقة، وماذا سَتقول عنها غير التصوير؟!
عباد الله، إنها كارثة عظمَى كبِيرة عندما ينتشِر بحاجةٍ وبغير حاجة، إنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((إن الذين يصنعون هذه الصوَر يُعذَّبون يوم القيامة، ويُقال لهم: أحيوا ما خلقتم)) ، وقال: ((إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصوّرون)) متفق عليه، وقال: ((لعن الله المصوِّرين)) ، وقال: ((كل مصوِّر في النار)).
وكذلك فإنّ العلماءَ قد بيّنَ كثيرٌ منهم أن ذلك يشمَل جميعَ أنواع الصوَر، إلاَّ ما كان لضرورةٍ أو حاجَة، إلاَّ التصوير لغَرَضِ التعليم في الحالاتِ الطبيّة وغيرها، أو لأجل الإثباتاتِ في الأمور الأمنية وغيرها، أو لأجل التصويرِ على التدريباتِ العسكريّة والتقاطِ ما ينفع المسلمين من صوَر الأعداء ونحوها، وغير ذلك من أنواعِ التصوير للحاجة أو للضرورة، كتتبُّع المجرمين ونحوهم. إن هذا التصوير للحاجة أو للضرورة قد بيّن العلماء جوازه، لكن الآن يتمّ التصوير لحاجة ولغير حاجة، وتنتشر الصور، وتنقَل الصوَر، وعلى من تعرض الصور؟!
يا عبادَ الله، صوَر نسائِنا وبناتنا وصوَر الجنس والخلاعة وأثر هذه القنوات والمجلاّت واضح، وفعل الصورة في النفوس واضِح. إنها ليسَت صوَرًا تنقل جِراحاتِنا ومآسينا لنستعمِلها في الجهادِ الإعلامي، ولكنها صوَر تنقل عوراتِنا، إنها صوَر تنقل أجسادَ نسائنا.
عباد الله، وكم فعلت هذه الصوَر من الأفاعيلِ في الأسر، وكم افتُري بها على المظلومين والمظلومات، وحصلت بها أنواع الفتن والويلات، حتى الداعيات إلى الله لم يسلَمن من ذلك، فتلتَقَط صورهن في محاضراتِ النساء لتركَّب في الشبكة.
وتؤخَذ هذه الصور أيضًا من قِبل الذين يصطادون البنات في هذه الصور للفتياتِ في الأعراس، ليبتزوهن بها بعد ذلك. وهذه أختٌ تتألَّم من أنها فوجِئَت بقيام من صوّرها أثناء قيامها بالوضوء في المدرسة، وأخرى فوجِئَت بطلاقِ زوجها، فإذا هي مكيدَة مدَبَّرة، نتيجةَ صورة التُقِطت بكمِرا الهاتف المحمول. خمس وخمسون كمِرا جوال تمَّ ضبطها في ليلة زفاف واحدة!!
عباد الله، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا [النور:19].
ثم بعد ذلك عندما ُتلتقط وتنشر فهل يجوز النظر إليها؟ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، يغضوا من أبصارهم عن النظر إلى العورات والنساء الأجنبيّات وكلِّ من لا يجوز النظر إليه، ويحفظوا فروجهم عن الحرام. ((يا عليّ، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى ـ أي: نظرة الفجأة ـ ، وليست لك الآخرة)).
عباد الله، حتى النساء لا يجوز لهن النظر إلى الرجال نظرَ الفتنة، ولذلك فإنّ العلماء قد بيّنوا من أحكام النظر ما هو مهمّ جدًا في هذا الباب، فيقولون: إنّ الصورة التي لا يجوز التقاطها لا يجوز النظر إليها. ويقولون أيضًا: إنّ الصوَرَ التي ُتعلَّق حرمتها أشدّ من الموضوعةِ في مكانٍ خفيّ، وإنّ الصوَر على الملابس مِن ذوات الأرواح محرمة كذلك، بدليل أن النبي لما رأى في بَيتِ عائشة سِتارًا فيه تصاوير لم يدخُل وقام على البابِ، وعُرِفت الكراهية في وجهِه، حتى قالت عائشة: يا رسول الله، أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبتُ؟ فقال: ((ما بَال هذه النمرقة؟!)) قلت: اشتريتها لك، قال: ((إن أصحاب هذه الصوَر يُعذَّبون يوم القيامة، ويُقال لهم: أحيوا ما خلقتم، إن البيت الذي فيه صور لا تدخله الملائكة)).
عباد الله، إننا نجِد اليومَ أن من النساء من ُفتِنت بالنظر إلى صوَر الرجال، ولذلك فإنها إذا كانَت تنظر نظرًا يفتِن فلا يجوز لها ذلك، وأما الرّجل فأمره واضحٌ في هذه القَضيّة.
عباد الله، إنّ التوسّعَ في التصوير قد أدَّى بنا إلى مآسٍ أليمة، وكذلك فإنّ على المؤمِنِ أن يطهّر نفسَه، وأن يحصّن فرجه.
عباد الله، إنّ قضية نشر صوَر النساء التي تحدث الآن وتبادُلها في الجوالات واضح التحريم، ولعلك ـ يا عبد الله ـ تمعّن في هذا الحديث: قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري: ((لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنّه ينظر إليها)). ما معنى ((فتنعتها لزوجها)) ؟ أي: تصفها لزوجها في بدنها ونعومته، وجسدها أو ليونته، وما فيها من أنواعِ الجمال كصفةِ الوجه والكفّين ونحو ذلك، كأنه ينظر إليها، الوصف الدقيق. فما بالكم إذا كانت صورةً تنقله بدقّته، وتأخذه بتمامه، فأيهما أولى بالتحريم؟! إذا كان قال: ((لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها)) ، وهو متزوج عنده امرأة، لا تنعتها كأنه ينظر إليها، فما بالكم بالصورة التي تغني عن الوصف تمامًا وتزيد عليه، أيهما أولى بالتحريم؟! إذًا تناقلُ صوَر النساء ولو كانت عمّا يُسمّى بالفضائح أو غيرها أمور محرّمة لا تجوز.
اللهم إنا نبرأ إليك مما فعل السفهاء منا، ونعوذ بك من هَذا الباطلِ والفَحشاء، ونجأر إليك أن تطهِّر قلوبنا وبيوتنا ومجتمعاتنا من الرذائل والفواحش يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على كلّ حال، أشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأصلّي على محمد والآل، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، ما ترك خيرًا إلاَّ دلّنا عليه، ولا شرًّا إلاَّ حذرنا منه.
هذه الشرور قد حذرنا منها محمد بن عبد الله. [وهي تسوّق في] أساليب جذّابة في العرض لكي يجمّلها في الأعيُن، ثم يتَلقَّف هذه التقنيةَ من الفسقة والفاسقات ما يريدون به إشاعةَ الفاحشة بيننا، وُتبتزّ النساء.
تصوَّر النساء في الأعراس والحفلات والمدارس والكلّيات، وتركّب على صورٍ خليعة من الشبكة، ثم يحدث الابتزاز وإرادة هدم البيوت، وهذه انتحرَت، وهذه أصيبَت بمرضٍ مستمرّ، وتلك اعتزلت في بيتها ستَةَ أشهر، وأخرى طلَّقها زوجها، وبعضُهنّ بريئات، وبعضهن ظالمات مفترِيات. فالبريئة من الذي يصدّق براءَتها وأن هذه مركبة وأنها التُقِطت بغير علمها ونحو ذلك؟ تُخرَّب البيوت، وتعطَّل النساء عن الزواج، وتحصل الفضائح في المجتمع.
يقوم شباب مسعورون من الذين يريدون أن تشيعَ الفاحشة بالتصوير والنقلِ والفضح دون مراعاةٍ لحرمات الله، إنهم ينتهكون حدودَ الله، وقد قال عليه السلام والصلاة: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدودًا فلا تعتَدوها، وحرّم حرمات فلا تنتهكوها)).
لقد كان عليه الصلاة والسلام يبطش، متى كان يبطش؟ ما انتقم لنفسه قطّ، إنما كان ينتقِم عندما تنتهَك حرمة الله، لقد أمرَ بإخراج من كان يصِف النساء من البيوت، وحذّر من الدخول، قال: ((لا يدخلنَّ هذا عليكن)) فحجبه، مع أنه مريض ليس فيه شهوة النساء أصلاً، لكن لأنّه صار يلتفِت إلى معالم الجمال في المرأة، وينقل ذلك الوصف.
وتأتي الفتاة الخبيثة الموكَّلة بأخذِ الصّوَر لتجلس بين المدعوَّات، وقد امتلأ قلبها حِقدًا على هذه العائلة المحترمة، بيدها الجوال لتصوِّر وتنقل للعروس وغيرها من النّساء الحاضرات، وتنقَل الصور وُتوزّع في الأسطوانات وفي مواقع الإنترنت، ليفاجأ هذا بصورة زوجته قد أخذت خِلسة، والآخر بصورةِ زوجته أو ابنته أو أخته ونساءِ أهل بيته. أسفَرَت القضية عن قطيعة للأرحام، أسفَرَت القضيةُ عن تركِ بعض المخلِصين لحضور الزّواجات. وفعلاً إنه قرار صائِب عندما لا تكون هناك الاحتياطات، فأعرضَ العدَد مِنَ الرّجال عن اتِّفاقِهم مع نسائهم على عدم حضور حفلات الزفاف مع أنها لأقارب خشيةَ هذه القضية.
وكذلك صارت هناك الحاجة حقيقة للاحتياطات الكثيرة، إذا كان الكفّار يحتاطون، مخاوف ـ هم يقولون: ـ مخاوف لدينا في مراكزِ اللياقة البدنيّة من لوس أنجلوس إلى تورنتو من قضية الهاتف المحمول، وامتدّت المخاوف إلى الشركات التي تخشى عملية التجسّس الصناعي، ومنعت شركة "تويوتا" ضيوفها وزائريها مِن حمل الهواتف ذات الكاميرات. وكذلك اشترَطت حكومَة كوريا الجنوبيّة على الشرِكات أن يصدِرَ الجهاز المزّود بكمِرا صوتًا عاليًا عند التقاط أيّ صورة. فإذا كان البوذيّون عندهم شيء اسمه الاحتياط، والعمل على منعِ ما ينتهِك الخصوصيّة، نحن عندنا قضية أعلى من الخصوصيّة، لأن خصوصيتَنا في هذه الشريعة، في هذه الأحكام، في هذا الدين، في الأمانة التي حُمِّلناها.
إنّ هذا الأمر الذي يخشَون منه لأجلِ السّرقات الرقميّة نحن عندنا أغلَى من الأشياء العلمية والمعلومات والمستندات التي يخشَون تصويرها، عندنا أعراضنا، إنها أثمن من ذلك. عندما تقوم جمعية "حاملي أجهزة الاتصالات والنشر" اليابانية بتوزيع 300 ألف ملصَق في مكتبات البلاد تحذر من القيام بالسرقات الرقمية، فإنّ عندنا ما يدعو إلى أكثر من ذلك بكثير، لأنه أثمن، وأشدّ حرمة من تلك الأشياء العلمية. وإذا كان يساورهم القلق في بِرَك السباحة وأنديةِ اللياقة وغرَف تبديل الملابس، فعندنا القضية شرعية دينية، مرتَبِطة بربّ العالمين وبكتابه وبنبيّه وبدينه، مرتبطَة بالفضيلة، مرتبطة بشرف المسلم.
يا عباد الله، مطاعِم تمنَع دخول الجوّالات لمنع الإزعاج، مطاعم راقية في باريس، ومساجدنا ُتنتهك حرماتها بالجوالات الموسيقية!
عباد الله، صارت القضية إذًا الآن بحاجة إلى حارسات عندَ أبواب المدارس والكليات والصالات والاستراحات وتفتيش المدارس. إنّ القضية حتى في الحرم. إن مسألةَ التصوير الذي يقوم بهِ هؤلاء شيء عجيب.
إن إنسانًا في الصلاة لمّا رنَّ جواله وأخرجه رأى الذي بجانبه صورة "نانسي مجرم" على الشاشة داخل المسجد. يضعون صوَر الفنانات وذوات الفسق والفجور لتظهر! إنّ ولاءه لهذه المجرمة وذلك الفاسق وتلك الداعِرة وهذا الخبيث، ولاءُ شبابنا، كثير من هؤلاء المراهقين والمراهقات. لماذا توضع هذه الصوَر المحرمة؟! لماذا توضَع في واجهاتِ الجوالات؟! ومشرفٌ يأخذ جوالاً من طالبٍ متَّهم بالتصوير ليرى فيه الوَيلات من الصوَر الفاضحات. وهذا يسرق يخطف جوال سائِق سيارة من يدِه ويهرب، فيتّصل سائق السيارة على الحرامي، ويقول: عيب عليك، صوَر بناتي في الجوال، قال: تستاهل.
عباد الله، المسألة الآن في هؤلاء المتساهلين في التصوير الذين يحتَفِظون بصوَر بناتهم وزوجاتهم وأخواتهم لتنقل بعد ذلك وُتختلس وُتنسخ وُترسل، ثم الفسادُ الذي انتشَرَ بسبَب هذا شيءٌ لا يعلمه إلا الله، القضية خطيرة، ووصلت إلى المجاهرة، فبعضهم يفعَل الفاحشَة ويصوّر وينشر الصوَر. ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين)) ، ((إلا المجاهرون)) كما في رواية أخرى. بليّة عمّت، وفضائحٌ طمّت، ثم بعد ذلك تنتقل الصور لكي ُتظهر أن المجتمعَ كلّه هكذا، مع أن المجتمع فيه أخيار كثر وأفاضل كثر وأطهار كثر، لكن هكذا يُعمَّم أن المجتمع كله هكذا، ليُقال للذي ليس بفاسد: لا مناص من الفساد. محاولة إجبار الجميع على أن يكونوا هكذا.
ثم عندما نسمَع بأن هناك من خرجت عمدًا مع شبابٍ أو شابٍ وتمّ التصوير، فإننا نقول: يا عباد الله، قوا أنفسكم وأهليكم نارًا، ((كلكم راع ٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)). فتيات في عمر الزهور يخرجن بما حباهنَّ الله به، يُشاهَدنَ في الليل من شارع إلى آخر، وعلى متن الطائرات وفي المطارات من بلدٍ إلى آخر، قد تزيّنَّ بالملبوسات الشّفافة والعطورات الجذابة التي تريد أن تقولَ للشابّ من أول وهلة مرحّبةً: أين أنت؟ تعالَ اتبعني وهلمّ، والخطوات والالتفات والحركات تدعو ورمشُ العين والإشارات، خروج الفتيات، خروج البنات، والجوالات، مع السائقين، ويريدون الآن سائِقات! وعبارات الإعجاب بعربون الصداقة والورقة والإشارة، و"البلوتوث" الذي صار يُغني عن الأوراق، ثم يقول بعض الناس: نثق في البنات، بناتي أثق بهنّ! تنصحه: يا أخي، بناتك يخرجن ـ أنت جاري ـ بمنظر لا يرضاه الله، قال: أنا واثق، واثق من ماذا؟! واثق من عقوبة الله التي ستنزل عليك لتساهلك؟! واثق بماذا؟! أين الآباء؟! أين الإخوة؟! أين العقلاء؟! أين هؤلاء الرجال؟! أين الرجولة؟! ما معنى الرجولة؟!
يا عباد الله، كمِرات وجوالات ورسيفرات ودشات، وفتيات هكذا يخرجن متبرجات! أين الغيرة؟! الغيرة: الحمية والغضب لمحارم الله، الغيرة: تغيّر القلب وهيجانه أنفة وحمية لله. ((لا أحد أغير من الله، ولذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)). إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرّم الله، يغار إذا رأى الناس يعصون الله.
لما أرادوا الدخول على عثمان لقتله، وأحاط به أعداؤه، جاءت امرأته نائلة ونشرت شعرها أرادت أن تستره لتحميه، قال: (خذي خمارك، فلعَمري لدخولهم عليّ ـ يعني لقتلي ـ أهون عليّ من حرمة شعرك). وعليّ بن أبي طالب لما رأى شيئًا من الاختلاط في السوق قال للناس: (ألا تستحون؟! ألا تغارون أن يخرج نساؤكم؟! فإنه بلغني أن نساءكم يخرجن في الأسواق، يزاحمن الرجال والعلوج). كان فتًى على عهد النبي عليه الصلاة والسلام حديث عهدٍ بعُرس، يستأذن النبي أثناء حفرِ الخندق في وسط النهار ليذهب إلى امرأته، ثم يرجع إلى الحفر، فوجدها واقفة بين البابين لما ذهب إليها، فأهوى إليها بالرمح مباشرة ليطعَنها به ـ أصابته الغيرة على امرأته ـ قالت: (اكفف عليك رمحك، وادخل البيت لتنظر ما الذي أخرجني)، فدخل فإذا هو بحيّة عظيمة منطوية على فراشه.. الحديث. هذا الذي تعلّق قلبه بامرأته، وليطمئنّ إليها; ليس عنده مانع أن يخترقها برمح ٍ لأنه رآها بين البابين، فما بالكم الآن؟! أين كثير من الفتيات في هذه المجمعات التجارية؟ بين البابين؟!
عباد الله، حتى بعض الكفرة الذين عندهم شيء من سلامةِ الفطرة عندهم غيرة، فما بال أهل الإسلام؟! نحن لا نوافِق على فعل بعض الكوبيّين الذين تمّ الإبلاغ في بلادهم عن اثني عشرة هجومًا بحمض الكبريتيك على بعض الأجساد التي تعرّت في الشارع غيرةً! لكن عندنا غيرة إيمانية أقوى من هذا يا عباد الله، ونرى الطرق الشرعية من النصيحة والموعظة وإنكار المنكر والقيام لله بالحجة.
الله يغار، والأنبياء يغارون، والمؤمنون يغارون، ومن عنده شهمة وغيرة يغار، بل حتى ذكور الماعز تغار والديكة والإبل والقرود يغارون، فلو جعلتَ اثنين من الديكة بين الدّجاج لرأيتَ قتالاً شنيعًا تدمي منه الريش، فكيف بالحال بين البشر؟!
يا عباد الله، البخاري روى في صحيحه حديثًا عجيبًا يبيّن حتى الغيرة بينَ القرود، عندما روى عمرو بن ميمون الأودي ـ والحديث في صحيح البخاري ـ عن قِردٍ جاءَ بقِردة ٍ فاضطجعَ، ثم مدّ يده لها، فاضطجعت بجانبهِ، فلما نام انسلّت، وجاء قردٌ آخر فذهب معها، ـ إذًا الأول الزّوج، والثاني هو الغريب ـ، ثم شعَر زوجها فانتفض وأزعجه، ثم صارت المطاردة، واجتمعت القردة، فتجمّعت وقاموا برجمها، قال عمرو بن ميمون الأودي ـ من كبار التابعين، من تلاميذ عبد الله بن مسعود الثقة الصادق ـ يقول: وكنتُ ممن رجمها. والحادثة وقعت في اليمن في زمن النبوة. إذا كانَ هذا القِرد عنده غيرة، فما بال أهل الإيمان؟! أين ذهبت غيرتك عندما تأمر امرأتك أن تصافح أقاربَ من الرجال، وأن تجلس مع الرجال سواء كانوا من إخوانك أم لا وهي كاشفة، ينظر إليها هذا وهذا، ثم يدلي هذا بنظارته لينظر إليها ضحكت من نكتة فلان أم لا؟! لماذا تجعلها أصلاً في مجلس الاختلاط؟!
يا أخي، يا عباد الله، هؤلاء الذين يرضون لنسائهم أن يخرجنَ بالعباءات المزخرفة المزيّنة المطيّبة، هؤلاء أين الغيرة؟! هل يريدون أن يجعلوا من نسائهم لوحات فنيّة ينظر إليها الغادي والرائح، يستمتع بمنظرها غيرك؟! أين ذهبت الغيرة من الرجال الذين يسافرون بنسائهم إلى خارج البلاد إلى أماكن السفور والتعري والتبرّج؟! أين الغيرة عند الذين يتركون بناتهم يسافرن إلى بلاد بعيدة من أجل الدراسة والتعليم كما يُقال، لا محرم ولا حسيب ولا رقيب؟! أين الغيرة من الذين يتركون بناتهم وأخواتهم يسافرن المسافات الطويلة بلا محرم؟! أين الغيرة من أولئك الرجال الذين تتكلّم نساؤهم مع اللاعبين والمطربين والفنانين على القنوات الفضائيّة أمامَ الله وخلقه; لإبداء الإعجابِ بالفنان والمطرِب والمشاركة في برامج الواقع، والتصويت بالصوت المباشر لملِكات الجمال، وما يسمَّى بهذا من القبح والخلاعة؟! أين الغيرة ممن يسمح لامرأته أن تداخل مداخَلة على الهواءِ مباشرة وتكلِّم المذيع لأجل ساقطٍ من الساقطين؟! والذي يأخذها إلى السوق متبرّجة، عباءة مخصَّرة ضيّقة جدًّا، وغطاء شفاف، وعندما يناصحه مناصح يقول: أنا ما وضعتها لك، الذي يريد أن ينظر ينظر!! رجلٌ يجيء مع أخته في غاية التبرّج بهذه الأصباغ، وعندما يُنكَر عليه يقول: يا أخي لا تنظر أنت، لماذا تنظرون؟! الوقح الذي جاء بها الآن، ثم يُنكر على غيره النظر.
أعرابيّ من الأعراب في القديم لما رأى رجلاً ينظر إلى زوجتِه ويقلّب نظره فيها طلّقها! ونحن لا نقول طلِّقها لأنه لا ذنب لها، لكنّ الأعرابي طلقها، ولما عُوتب في ذلك قال:
وأترك حبّها من غير بغضٍ وذلك لكثرةِ الشركاء فيه
إذا وقَع الذباب على طعامٍ رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورودَ ماءٍ إذا رأت الكلابَ ولغن فيه
هكذا، يؤتى إلى أبٍ يُقال له: هناك فتاتان تمشيان تعاكِسان في المنتزه، يقول: أنا قلت لهم لا تروحوا بعيد!!
عباد الله، عندما نسمع هذا التساهل الفاضح وقلة الغيرة، عندما نسمع اللامبالاة، والله القلب يحترق. ثم بعد ذلك يُقال: كيف ضُبِطت فلانة مع فلان في استراحة؟! كيف ظهرت صورة فلانة مع فلان في كمِرا، في الجوّالات، في المواقع؟!
مررت على المروءة وهي تبكي فقلت لها: لمَ تبكي الفتاة؟
فقالت: كيف لا أبكي وأهلي جميعًا دون خلق الله ماتوا
عباد الله، مشية الرجل مطأطئ الرأس وامرأته بغايةِ التبرّج، وعندما ينكَر عليه يقول: أنا كلمتها يا شيخ، كلِّمها أنت!! ما هذا الضعف؟! ما هذا الخوَر؟! أين الرجولة عندما يترك الرجلُ زوجتَه تعرض لونَ الجلد على الصائغ وعلى غيره من صاحب الإكسسوارات والملابس; ليختار اللون المناسب لبشرتها؟! إذا كان زوج وزوجة في العصر العباسي لما تقدّما للشكاية، طالبته بخمسمائة دينار من صداقها، فأنكَرَ الزوج، فجاءتِ الشهود، فطلب القاضي من المرأة أن تكشفَ وجهَها للشهود ليعرفوا أنها فلانة، فقال لها ـ فقط ـ: كَفَى يا شيخ، أُعطِيها المهرَ كله؛ لأنه غار أن تكشفَ المرأة للشهود في مجلس القضاء، في شيء يجوز النظر إليه، في حال الاضطرار.
لماذا يحدث هذا؟! كثرة الذنوب والمعاصي، قال ابن القيّم: "من عواقب المعاصي أن تطفئ في القلب نار الغيرة". لماذا يحدث هذا؟! انسياق وراء العواطف، فإذا عرف وقيل له ورأى من بعض أهل بيته ما لا يرضاه الشرع لانَ والتمس الأعذار والتمس المخارج وغضّ الطرف. لماذا قلة الغيرة وانتشار المنكرات؟! سوء التربية، يتربى الصغير وينشأ وهو يرى أمه تخرج بلا ضوابط شرعية وأبوه لا يغير، وأخته تفعل ما شاءت وأبوه لا يمنع. وتأثّر بحياة الغرب، ونقدِّم اليوم سيدات المجتمع اللاتي يقلنَ: نحن من المهتمّات بالسفر والتنقل من بلد وآخر للتعرّف على الشعوب وعاداتهم وتقاليدهم. والبرامج ما قصّرت، والقنوات الفضائحية، ومناظر العري، ودعاة الفتنة، وأعداء الفضيلة. إلى من نشكو؟ إلى من نلجأ؟ والله لا ملجأ إلاَّ الله، لا ملجأ إلاَّ إلى الله، هذا دين، وهذه أعراضنا.
(1/3320)
إن الله يرضى لكم ثلاثًا
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الآداب والحقوق العامة
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
20/6/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بضدِّها تتميّز الأشياء. 2- ثلاث خصال جاهليّة. 3- أمر الرسول بتوحيد الله تعالى. 4- أمر الرسول بالاجتماع. 5- أمر الرسول بطاعة ولاة الأمر. 6- التحذير من التفرق والاختلاف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيَا عبادَ الله، اتّقوا الله واذكروا أنّه خَلقَكم لعِبادتِه وحدَه دونَ سواه، فأخلِصوا له الدّين، وأحسِنوا العمَل، فالسّعيد من أخلَص دينَه لله وتابَع رسولَ الله حتى أتاه أمرُ الله.
أيّها المسلمون، إنّه إذا كانتِ الأشياء تتميَّز بضدِّها وإذا كان الضّدُّ يظهِر حُسنَه الضّدّ فإنّ الأمورَ التي خالف فيها رسولُ الله أهلَ الجاهليّة هي من أعظمِ ما يبيِّن ذلك ويجلِّي حَقيقتَه؛ ولِذا كانَت معرفتُها متعيِّنةً والوُقوفُ عَليها متأكِّدًا والعلمُ بها مما لا يُستغنَى عنه.
وإنَّ من أظهَر ذلك ثلاثَ خِصال قام عليها دينُهم ومضى عليها أسلافُهم واستبانَ بها جَهلُهم وضلالهم وعِظَمُ خُسرانهم: أما الأولى فإِشراكهم بالله ودعاؤُهم غيرَه، وأمّا الثانية فتفرُّقهم وعدَم اجتماعِهم، وأمّا الثالثةُ فمخالفتُهم وليَّ الأمر وعدَمُ الانقياد له.
فقد كانوا يتعبَّدون بالشّركِ فيدعونَ غيرَ الله تعالى؛ مَلَكًا مقرَّبًا أو نبِيًّا مرسَلاً أو عَبدًا صالحًا أو صَنمًا أو شجَرًا أو كَوكبًا أو غيرَ ذلك، ويرَونَ في هذا الإشراكِ تعظيمًا لهذا المعبودِ من دونِ الله، ويطلبون شفاعتَه عند الله تعالى، ظنًّا مِنهم أنّ هذا المعبودَ يحبّ مِنهم ذلك كما حكَى عَنهم سبحانه قولَهم فيهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].
ثمّ هم بعدَ ذلك منتهِجون نهجَ التفرُّق والاختلاف، راضون به، مستحسنون له، حتى أورثَهم أحقادًا واحتِرابًا، وأفقَدَهم أنفُسًا وأموالاً وأولادًا.
ويَرونَ معَ ذلك أنّ مخالفةَ وَليِّ الأمرِ وعصيانَه وعَدمَ الانقياد له فضيلةٌ تُحمَد وشَرَفٌ يُقصَد ومَنقَبةٌ تطلَب، وأنّ السَّمعَ والطاعة مهانةٌ يجِب الترفُّعُ عنها وضَعَة تلزَم الأنَفةُ منها ومذمَّةٌ تتأكَّد البراءةُ منها ويتعيَّن التجافي عنها، بل كان بعضُهم يجعل ذلك دينًا يتعبَّد به وقُربى يزدلِف بها.
فخالفهم رسول الهدَى صلوات الله وسلامُه عليه بما جاءَه مِن ربِّه من البيِّنات والهدَى في كلِّ ذلك، فأمرهم بالإخلاصِ لله وحدَه في العبادة، وأعلَمَهم أنَّ هذا هو دين الله الذي لا يقبَل سبحانه من أحدٍ سواه، وأخبرهم أنَّ كلَّ من تنكَّب عن هذا الصراط وحادَ عن هذا السبيل ففعَل ما استحسَنوه من عبادةِ غيرِه بِصرفِ أيِّ نوعٍ من أنواعِ العبادةِ له فقد حرَّم الله عليه الجنّةَ ومأواه النارُ كما أخبَره بذلك ربُّه الأعلى سبحانه، وبَيَّن لهم أيضًا أنَّ هذا الأمرَ هو قِوام الدين كلِّه وأساسُه ولُبّه، ولأجلِه افترقَ الناس إلى مسلمٍ وكافر.
كما أمَرَهم عليه الصلاة والسلام بالاجتماعِ والاعتصام بحبلِ الله الذي هو دينُ الله في قَولِ حَبرِ الأمّة وترجمان القرآنِ عبد الله بن العباس رضي الله عنهما [1] ، أو الجماعةُ في قول عبدِ الله بن مسعود رضي الله عنه [2] ، أو القرآنُ في قول غيرهما من السّلف [3] ، وحبلُ الله شامِلٌ لذلك كلِّه، والله تعالى أراد أن يكونَ هذا الاعتصام بحبلِه سببًا لأن يكونَ اجتماع الأمّة ووحدتُها متماسِكَةُ راسخة؛ ولذا فإنه وضَع لها أساسين لا صلاحَ لها إلاَّ بهما:
أمَّا الأوّل فهو أن يكونَ الاجتماع والاتِّحاد حولَ كتابِ الله، وذلك يضمَن الأساسَ المتين للوَحدة، إذ ليس من الممكِن اجتماع القلوب على غيرِ شيء، وليس من المقبولِ شَرعًا أن تجتمعَ على باطل، بل يجب أن يكونَ اجتماعهم على الحقِّ الذي لا يأتيهِ الباطل من بَين يدَيه ولا مِن خَلفِه، وإذا تَوافَر لهذا الاجتماعِ دستورُه الذي تلتقِي عندَه القلوب وتنتفِي الأهواءُ فقد سلِم البناءُ واستبان المنهَج واطمأنَّ المسلمون، وبذلك تَتَوافر لهذا الاجتماعِ كلُّ الضوابطِ التي تصحِّح تصرُّفات الفرد وتوجِّه سلوكَ المجموع وتُسعِد حياةَ الناس؛ لأنّه قائم ـ أي: هذا الاجتماع ـ على أساسِ كتابٍ جمع الله فيه خَيرَي الدّنيا والآخرةِ، ونهى بِهِ عن كلِّ شرّ في الدنيا يكون مآلُه الخسران في الآخرة.
وأمّا الثاني فهو أن يكونَ هذا الاعتصامُ والاجتماع مستغرِقًا جميعَ أبناءِ المجتمع المسلم، لا يتخلَّف عنه شخصٌ واحد، ولا يشذّ عنه صوتٌ، وذلك هو ما جاءَ جلِيًّا واضحًا في قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا الآية [آل عمران:103]، فإنَّ الله تعالى في هذهِ الآيةِ كما ـ قال بعض أهلِ العلم ـ لم يقتصر على مجرَّد الأمر بالاعتصامِ بحبل الله، بل جاء فيها قولُه سبحانه: جَمِيعًا ليؤكِّدَ بذلك شمولَ هذا الاعتصام لكلِّ أبناء المجتَمَع المسلم، وهي الصّفةُ التي أرادَها الله لهذا الاجتماع، فالأمّةُ كلُّها على هذا متّحِدةُ الصّفِّ بأمر الله مجتمعةٌ على هَدَفٍ واحدٍ هو عبادةُ الله وحدَه والسّعيُ إلى رضوانِه كَما قالَ سبحانه: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92].
وأوجب عليهم كذلِك السّمعَ والطّاعةَ لوليِّ الأمرِ المسلِم والنّصيحةَ له، وحرَّم عليهم مخالفتَه وعدَمَ الانقيادِ له إلاَّ أن يأمُر بمعصيةٍ أو يَرَوا كُفرًا بواحًا ـ أي: بيِّنًا محقَّقًا ـ عندهم مِنَ الله فيه بُرهان.
فقال في الحديثِ الذي أخرجَه مسلِم في صحيحه ومالكٌ في الموطَّأ واللّفظ له عَن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن رَسول الله أنّه قالَ: ((إنّ الله يرضَى لكم ثلاثًا ويسخَط لكم ثلاثًا، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصِموا بحبلِ الله جميعًا ولا تَفَرَّقوا، وأن تناصِحوا مَن ولاّه الله أمرَكم، ويَسخَط لكم قيلَ وقالَ وإضاعةَ المال وكثرةَ السّؤال)) [4] ، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديثِ الذي أخرجَه البخاريّ ومسلم في صحيحيهما عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما عن النبيِّ أنه قال: ((مَن كرِه من أميرِه شيئًا فليَصبِر، فإنّ مَن خرجَ من السّلطان شِبرًا مات مِيتةً جاهليّة)) [5] ، وفي الصّحيحين أيضًا عن جُنادة بن أبي أميّة أنّه قال: دَخلنا على عُبادةَ بنِ الصامت وهو مَريض وقلنا: أصلحك الله، حدِّث بحديثٍ ينفعُك الله به سمعتَه من النبيِّ ، فقال رضي الله عنه: دَعَانا النبيّ فبايَعَنا، فكانَ فيما أخَذَ عَلينا أن بايَعنا على السّمعِ والطّاعة في منشَطِنا ومَكرهنا وعُسرِنا ويُسرِنا وأَثَرةٍ علينا، وأن لا نُنازعَ الأمرَ أهلَه إلاَّ أن يكونَ كُفرًا بَواحًا عندكم مِنَ الله فيه برهان [6].
ولا ريبَ أنَّ في الأخذِ بهذا الهدي النبويِّ الحكيم انتظامَ مصالح الدين والدنيا بسدِّ أبوابِ الفِتنة وتوجيهِ الطاقات وصَرف الجهود في كلِّ ما تُجتَلَب بهِ المنافع وتُستَدفَع به المضارّ ويُصان به كيانُ الأمّة وتُحمَى به الحَوزَة ويُكبَت به الأعداء ويَعمُّ به الأمن ويَكثُر به الخير والرّخاء، فأيُّ النّهجَين إذًا أحقّ بالاتّباع يا عباد الله: نهجُ رسولِ الله وهديُه أم نهجُ الجاهلية وضلالها وإِفكُها؟! وكيفَ تصِحّ الحيدةُ عن هذا النّهجِ النبويِّ والطريقِ المحمديّ إلى طريقِ أهلِ الفتنةِ والفُرقَةِ والاختلاف وما أفضى إليهِ هذا الطريقُ مِن تكفيرٍ وتفجير واستباحةٍ للدماء المحَرَّمة وقتلٍ للأنفسِ المعصومَةِ واختطافٍ وترويعٍ وتخريب في العمران وإضاعةٍ للأموال وتبديدٍ للطاقات إلى غيرِ ذلك من الأضرار والأوزار التي أحدَثها هذا العدوانُ الذي تعرَّضَت له هذه البلادُ الطيِّبة المبارَكة الآمِنة في هذهِ الآونة الأخيرة؟! فحذارِ مِن سلوكِ طريقِ الفِتنة حذارِ، فليس وراءَ ذلك واللهِ إلاّ البوار والدّمار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:102، 103].
نفعني الله وإيّاكم بهديِ كتابِه وبسنّةِ نبيّه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفِروه، إنّه كان غفَّارًا.
[1] انظر: زاد المسير (1/433).
[2] جامع البيان للطبري (4/30).
[3] انظر: جامع البيان للطبري (4/31)، وزاد المسير (1/432-433).
[4] صحيح مسلم: كتاب الأقضية (1715)، موطأ مالك: كتاب الجامع (1863).
[5] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7053)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1849).
[6] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7056)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1709).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي يهدِي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم، أحمده سبحانه وهو البَرّ الرؤوفُ الرحيم، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ سيِّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله صاحبُ الخُلُق الراشِد والنّهج القويم، اللهمّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وصحبه.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، قال بعضُ أهل العلم: إنّ الله يبغِّض إلينا التفرّقَ والاختلاف لأنّه أوّلُ الوَهن وبابُ الفَشَل والضياع، والفاشِلُ لا وَزنَ له في هذِه الدنيا ولا مكانةَ له في الآخرة: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ الآية [الأنفال:46]، بل إنّه سُبحانه يحذِّرنا من السّيرِ على نهج المتفرِّقين أو الاقتداءِ بهم لأنّه أعدّ لهم أسوأَ العقابِ عندَه جزاءَ تفرُّقِهِم فقال سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105].
فإذا مَضَينا في طريق الفرقةِ وأضعنا هَدفَ الأمّة وتقطَّعنا فِرَقًا وأحزابًا وتمزَّقنا رؤوسًا وأذنابًا فإنّ أوَّل ما فرضَه ربّنا علينا هو براءَةُ رسول الله منَّا وانفصالُه عنّا؛ لأنّ الأمةَ التي دعا إليها وأرادها لحملِ دعوتِه لا تعرف الفرقةَ، إنما هي أمّةٌ واحدة؛ ربُّها واحِد وكتابها واحدٌ وصفّها واحِد كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159]. وإنّه ـ يا عباد الله ـ لترهيبٌ شديد جديرٌ بأن تَعِيَه العقول وتحذَرَه القلوب.
فاتقوا الله عباد الله، واعمَلوا على كلِّ ما يكون به اجتماعُكم، تحظَوا برِضوان ربّكم وتستَقِمْ حياتُكم وتبلُغوا آمالَكم.
واذكُروا على الدّوَام أن الله تعالى قد أمَرَكم بالصّلاة والسلام على خاتَمِ النبيّين وإمامِ المتّقين ورحمة الله للعالمين، فقال سبحانه في الكتابِ المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...
(1/3321)
مثل النبيّ
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أمثال القرآن والسنة, الفتن
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
20/6/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال الناس قبل الإسلام. 2- صلاح الناس برسالة الإسلام. 3- عودة الفساد بالبعد عن نور الرسالة. 4- فضل الثبات على الدين. 5- التحذير من تنكّب الصراط المستقيم. 6- مثل النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتَّقوا الله فإنّ تقواه أفضلُ زادٍ وأحسَن عاقبة في معاد، إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49].
أيّها المسلمون، كان الناسُ قبلَ الإسلام في جاهليّة جهلاء وفتنةٍ مضِلَّة عمياء، يهيمون في الفِتن حَيارى، ويخوضون في الأهواءِ سُكارى، يتردَّدون في بحارِ الضلال، ويجولون في أوديةِ الفساد والانحلال، فبعثَ الله نبيَّنا محمّدًا هاديًا إلى دينِ الإسلام وداعيًا إلى دارِ السّلام، فبلَّغ عن ربِّه رسالاتِه، وبيَّن المرادَ عن آياته، حتى أسفر الحقُّ عن محضِه، وأبدى الليلُ عن صُبحِه، وانحطّت به أعلامُ الفُرقةِ والشِّقاق، وانهشمت به بيضةُ أهل الزيغ والنِّفاق، وقال في حجّة الوَداع: ((ألا كلُّ شيءٍ من أمرِ الجاهلية تحتَ قدميَّ موضوع)) أخرجه مسلم [1]. وما ماتَ حتّى أدّى ما عليه، وقضى ما عُهِد إليه، وترك أمّتَه على شريعةٍ غرّاء ومحجّةٍ نقيّة بيضاء ومنهَج كاملٍ وضّاء، يقول رسول الهدى : ((تركتكم على المحجّة البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغُ عنها إلا هالك)) [2].
ولم يزل الأئمّةُ والعلماء متمسِّكين بها منافِحين عنها حتى استحالَت ذَنوبُ الإسلام بأيدِيهم غَربًا، وصدَر الناسُ بعَطَن، وأعزّ الله بهم دينَه، فَحفِظوا شَريعتَه، وأقاموا أوامرَه وشعائِرَه، ومنَعوا كلّ أمرٍ فيه تذرُّعٌ إلى نقضِ عُراه أو هَدمِ قاعِدته ومَبناه، وقطعوا طرُقَ التغيير من كلِّ جِهاتها، وأوصَدوا جميعَ أبوابها ومَنافِذِها، ولم يدَعوا للباطِل علَمًا إلا وَضعوه، ولا رُكنًا إلا ضَعضَعوه، حسَموا مَوادّ الفَساد فلا تعتاد، وثقَّفوا قَناةَ الصّلاحِ فلا تنآد [3] ، بذلوا النفوسَ في إظهار الدين العظيمِ، وجاهدوا بسُمرِ القنا وبيض الضُّبا من زاغ عن الصّراط المستقيم وراغ عن المذهبِ القويم، نشروا السنّةَ والكتاب، وأظهروا الفروضَ والآداب، وصانوا مجتمعَ الإسلام من مزاحمة خَبَث الجاهليّة وكَدَرها وضلالها وشرِّها، يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: "سنَّ رسولُ الله وولاةُ الأمر من بعده سُننًا، الأخذُ بها اعتصامٌ بكتابِ الله وقوّةٌ على دينِ الله، ليس لأحدٍ تبديلُها ولا تغييرها ولا النظرُ في أمرٍ خالفها، مَن اهتدى بها فهو مهتدٍ، ومن استنصَر بها فهو منصور، ومن تركَها واتّبع غيرَ سبيل المؤمنين ولاّه اللهُ ما تولَّى وأصلاه جهنَّمَ وساءَت مصيرًا" [4] ، ويقول خلف بن خليفة: شهِدتُ عمرَ بن عبد العزيز يخطُب الناسَ وهو خليفةٌ فقال في خطبتِه: "ألا إنّ ما سنَّ رسول الله وصاحباه فهو وظيفةُ دين، نأخذُ به وننتهي إليه" [5] ، ويقول أبو بكر بن عيّاش رحمه الله تعالى: "إنّ الله بعث محمّدًا إلى أهل الأرض وهم في فَساد، فأصلحهم الله بمحمّد ، فمن دعا إلى خلافِ ما جاء به محمّد فهو من المفسِدين في الأرض" [6] ، ويقول الجُنيد رحمه الله تعالى: "الطُّرق كلُّها مسدودةٌ على الخَلق إلاّ من اقتفى أثرَ الرّسول واتّبع سنّتَه ولزِم طريقتَه، فإنّ طرُقَ الخيراتِ كلَّها مفتوحَة عليه" [7].
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: جاءت ملائكةٌ إلى النبيّ وهو نائمٌ فقال بعضهم: إنّه نائم، وقال بعضُهم: إنّ العينَ نائمَة والقلبَ يقظان، فقالوا: إنّ لصاحبكم هذا مثلاً فاضرِبوا له مثَلاً، فقالوا: مَثلُه كمَثَل رجلٍ بَنى دارًا، وجعل فيها مأدُبةً وبعثَ داعيًا، فمن أجاب الداعيَ دخَل الدارَ وأكلَ من المأدبة، ومَن لم يُجِبِ الدّاعيَ لم يدخُلِ الدار ولم يأكُل من المأدُبة، فالدارُ الجنّة، والداعي محمّدٌ ، فمن أطاع محمّدًا فقد أطاع الله، ومن عصى محمّدًا فقد عصى الله. أخرجه البخاري [8].
أيها المسلمون، ثم بَعُد الزمانُ عن عهد النبوّة، وتقادم العهدُ بنورِ الرسالة، وخَلَف خلوفٌ يهتدون بغير هديِ أسوةِ الأمّة محمّدٍ ، ويستنّون بغير سنّتِه، ويسلكون غيرَ طريقَتِه، في زمنٍ عادت فيه أعلامُ الدين إلى الدّروس، وغلب على أهلِ الزمان العصيانُ وهَوَى النفوس، وخرَج أكثرُهم بسفاهةِ عقولهم وضَعف تمييزهم من نورِ الطاعةِ إلى ظُلمةِ الفجور، وامتَطوا ظهرًا لا ينجو راكبُه ولا يُفضي إلى نُجحٍ صاحبُه، فهو بين هلاكٍ يُرهِقه وأشراكٍ توثقُه وتوبِقُه، أوسَعَهم الشيطان تسويلاً، واستهواهم تغرِيرًا وتضليلاً، طردوا العافيةَ عن دُورهم، وأنزَلوا الفِتنَ في جِوارهم، صَمّوا عن النّذير، وعَموا عن العِظةِ والتذكير، وغطَّتِ الغفلةُ على سمعهم وأعيُنِهم، وحالت بين قلوبهم وصدورِهم، بشؤم مخالفتهم كتابَ الله وسنّةَ رسوله.
ومال آخرون إلى أعداءِ الملَّةِ والدين بمضارعتِهم ومماثَلتهم وموافقتِهم ومشابهتهم في شُعَبهم وعاداتهم ومظاهِرهم، وصدَق رسول الله : ((اقتربتِ الساعة، ولا يزداد الناسُ على الدنيا إلا حِرصًا، ولا يزدادون من الله إلا بُعدًا)) أخرجه الحاكم [9]. ضعفٌ في اليقين، وخفقةٌ من الدّين، ورِقّةٌ ولين، وفِتنٌ قد انعقد غمامُها وادلهمَّ ظلامُها وتلاطمت أمواجُها، فِتنٌ تأخذ كلَّ من استشرَف إليها إلى الوَرا في عقيدتِه وأخلاقه، وتُرجِعه القهقرَى في فِكره وسلوكِه، فعن حذيفةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((تُعرَضُ الفِتنُ على القلوبِ كالحصير عودًا عودًا، فأيّ قلبٍ أُشرِبَها نكتت فيه نكتة سوداء، وأيّ قلبٍ أنكَرَها نُكتت فيه نكتةٌ بيضاء، حتى تصير على قلبين:، على أبيضَ مثلِ الصّفا، فلا تضرّه فتنةٌ ما دامت السموات والأرض، والآخر أسودُ مربادًّا كالكوز مجخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلاّ ما أُشرِب من هواه)) أخرجه مسلم [10] ، ويقول رسول الهدى : ((بادِروا بالأعمالِ فِتنًا كقِطَع الليل المظلم، يصبِح الرجلُ مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا؛ يبيع دينَه بعَرَضٍ من الدنيا زائل)) أخرجه مسلم [11].
أيّها المسلمون، طوبى للثّابت على دينه، الجارِي على سَننِه وأحكامه، الماضي على مَراسِمه وأعلامه، لا يتركه لغلَبة العوائد ولا لشوائبِ المحدَثاتِ الزوائد، فعن أبي ثعلبةَ الخشَني رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنّ من ورائكم أيّامَ الصبر، الصبرُ فيه مثلُ قبضٍ على الجمر، للعامل فيهم أجرُ خمسين رجلاً يعمَلون مثلَ عمله)) ، قيل: يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ قال: ((أجر خمسين منكم)) أخرجه أبو داود [12].
فادّرِعوا بصِدق الانقياد، وتيقَّظوا من الغفلةِ والرّقاد، واسلكوا سبيلَ الرَّشاد، وحاذروا سبيلَ الكِبر والعِناد، وتأهّبوا بخير الزادِ ليوم المعاد، وجرِّدوا المتابَعَة، واصدُقوا في الموافقة لما كان عليه رسولُ الله وصحابتُه الكرام، تنجوا من الشقاء، وتسلَموا من البلاء.
يا عبدَ الله، يا مَن اختار النقيصةَ وتسربَلَ بالدنيَّة وتنطَّق بالخِزي، مَا لك على غَيِّك مُصِرًّا وفي معاصيك مستمِرًا؟! أما تخاف السابِقة؟! أما تحذَر سوءَ الخاتمة؟! احذَر من أوعَدَ وهدّد وأنذَر وشدَّد وتوعَّد بذُلِّ سَرمد، احذَر أن تُذادَ عن حوض النبيّ محمّد ، فعن أسماءَ بنتِ أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنّ رسول الله قال: ((إني على الحوض، أنتظرُ من يرِد عليّ منكم، وسيؤخَذ أناسٌ دوني، فأقول: يا ربّ يا رب، منِّي ومن أمّتي، فيقال: هل شعرتَ بما عمِلوا بعدك؟! والله ما برِحوا يرجعون على أعقابهم، إنهم ارتدّوا على أدبارِهم القهقرى، فأقول: سُحقًا سُحقًا لمن بدّل بعدي)) متفق عليه [13]. فيا خسارةَ من عَصاه، ويا ويلَ من لم يستقِم على هُداه.
أيّها المسلمون، عجبًا لقلبٍ عند ذِكر الحقِّ غيرِ خاشع، عجبًا لعينٍ لا تسكُب المدامِع، عجبًا لنفسٍ لا ترعوِي وتراجِع، فاسترحِم مولاك ضارعًا، وتُب إليه مُسارِعًا، ادعُه راَغِبًا وراهبًا، من خَشيَ الله لم ينَله أذًى، ومن رَجا الله كان حَيثُ رجا.
فالبِدار البدار، والنّجاء النجاء، فإن الثواءَ [14] قليل، وما بعده إلاّ الرحيل، ومن لم ينفَعه حاضرُه فعازِبُه عنه أعوَز وغائِبه عنه أعجَز، وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنّة، ونفعني وإيّاكم بما فيهما من البيّنات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الحج (1218) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في حديث صفة حج النبي الطويل.
[2] أخرجه أحمد (4/126)، وابن ماجه في مقدمة السنن (43)، وابن أبي عاصم في السنة (48)، والطبراني في الكبير (18/257) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، وصححه الحاكم (331)، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (1/47)، وهو في السلسلة الصحيحة (937).
[3] أي: فلا تميل ولا تعوَجّ.
[4] انظر: جامع العلوم والحكم (ص264).
[5] رواه أبو نعيم في الحلية (5/298)، وانظر: جامع العلوم والحكم (ص265).
[6] عزاه في الدر المنثور (3/476-477) لأبي الشيخ.
[7] رواه أبو نعيم في الحلية (10/257).
[8] صحيح البخاري: كتاب الاعتصام (7281).
[9] المستدرك (7917) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وصححه، وأخرجه الشاشي في مسنده (768)، وأبو نعيم في الحلية (7/242)، والقضاعي في مسند الشهاب (597)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1510).
[10] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (144).
[11] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (118) وليس فيه قوله: ((زائل)).
[12] سنن أبي داود: كتاب الملاحم (4348)، وأخرجه أيضا الترمذي في التفسير (3058)، وابن ماجه في الفتن (4014)، وقال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه ابن حبان (1850)، والحاكم (4/358)، ووافقه الذهبي، وهو في السلسلة الصحيحة (494).
[13] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6593)، صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2293) وليس فيه قوله : ((سحقا سحقا لمن بدّل بعدي)) ، وإنما هو عندهما من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
[14] الثواءُ هو الإقامة في مكان معيّن من ثوى يثوي.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله على إِحسانه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِه، وأشهَد أنّ محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانِه، صلّى الله عليه وعلى آلِه وأصحابه وإخوانه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون اتّقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيّها المسلمون، لقد كان رسولُ الله شفيقًا بأمّته رؤوفًا رحيمًا بهم، يخشَى عليهم من الذلِّ والهوان، ويخاف عليهم من الخطيئةِ والعصيان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنما مَثَلي ومَثل أمتي كمَثَل رجلٍ استوقَدَ نارًا، فلما أضاءت ما حَولَها جعل الفراشُ وهذه الدوابّ التي في النار يقَعنَ فيها، وجعل يحجِزها ويغلِبنَه فيتقحَّمن فيها، فذلكم مثلي ومثلُكم، أنا آخذٌ بحُجَزكم عن النار، هَلُمّ عنِ النار، هَلُمَّ عنِ النار، فتغلِبوني تَقَحَّمون فيها)) أخرجه مسلم [1] ، وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مثلي ومَثَلُ ما بعَثني الله كمثَل رجلٍ أتى قومًا فقال: رأيتُ الجيشَ بعينيّ وإنّي أنا النذيرُ العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعته طائفةٌ فأدلَجوا على مَهلِهم فنجَوا، وكذّبته طائفةٌ فصَبَّحهم الجيشُ فاجتاحَهم)) أخرجه البخاري [2] ، وعنه رضي الله عنه عن النبيِّ أنه قال: ((مثلُ ما بَعثني الله به من الهدَى والعِلم كمثَل الغيثِ الكثير أصابَ أرضًا، فكان منها نقيَّةٌ قبِلت الماءَ فأنبَتَت الكلأ والعُشبَ الكثير، وكانت منها أجادبُ أمسكتِ الماء فنَفع الله بها الناسَ فشرِبوا وسَقَوا وزرَعوا، وأصابَت منها طائفة أخرى إنما هِي قيعان، لا تمسِك ماءً ولا تنبِت كَلأً، فذلك مَثَل من فَقه في دين الله ونَفَعه ما بعثني الله به فعلِم وعلَّم، ومثل من لم يرفَع بذلك رأسًا ولم يقبَل هُدى الله الذي أُرسِلت به)) متفق عليه [3].
فاتّقوا الله عبادَ الله، وكونوا ممّن آمن بربِّه حقَّ الإيمان وأسلَم، وفوّض أمرَه إلى الله وسلَّم، وانقادَ لأوامره واستسلَم، فقد أسال عليكم من وابِلِ الآلاء، وأنزَل عليكم من وَبيل اللأواء، وأسبَل عليكم من جميلِ الغِطاء وواسِع العَطاء ما يوجِب الخجَل منه والحياء، وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].
واعلموا أنّ الله أمَركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكتِه المسبّحة بقدسه، وأيَّه بكم أيّها المؤمنون من جنِّه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ على النبيِّ المصطفى المختار، اللهمّ صلِّ عليه ما أزهرتِ الأشجار، اللهمّ صلِّ عليه ما غرّدتِ الأطيار، اللهمّ صلّ عليه ما هطلت الأمطار وسالت العيونُ والآبار، اللهمّ صلّ عليه وعلى المهاجرين والأنصار، وعلى جميع الآل والصحب الأخيار...
[1] صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2284)، وأخرجه أيضا البخاري في كتاب الرقاق (6483).
[2] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6482)، وأخرجه أيضا مسلم في كتاب الفضائل (2283).
[3] صحيح البخاري: كتاب العلم (79)، وأخرجه أيضا مسلم في كتاب الفضائل (2282).
(1/3322)
مظاهر الشّحّ
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
20/6/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- طلب المؤمن للرّزق. 2- غريزة حبّ المال. 3- حقيقة الشحّ. 4- ذمّ الشحّ وبيان مفاسده. 5- مظاهر الشحّ: المماطلة مع القدرة على الوفاء، الخصومة في الباطل، التصرف في أموال المساهمين، أخذ المقابل على الشفاعة، الخيانة في توزيع الحقوق، الغشّ في المعاملات، الرشوة، منع الزكاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، المؤمنُ يسعَى في طلبِ الرّزق جُهدَه امتثالاً لقولِه تعالى: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [العنكبوت:17]، وقوله: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15]. ثمّ المؤمنُ مع سعيِه يأخُذ بالأسبابِ النافعة المأذونِ فيها شرعًا ليتحقَّقَ بتوفيقِ الله له مقصودُه ومرادُه، وفي الحديثِ عنه : ((احرِص على ما ينفَعُك، واستعِن بالله، ولا تعجزَن)) [1]. ومع السَّعي والأخذ بالأسباب هو علَى يقينٍ جازمٍ أنَّ الأمر كلَّه بيَد الله، وأنَّ اللهَ جلّ جلاله فاضَل بين النّاسِ في عُقولهم، في أخلاقهم، في أرزاقهم، يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [العنكبوت:62]. ثمّ هو بعدَ هذا يرضَى بقَسْم الله له، وتطمئنُّ بذلك نفسه، ويقنَعُ بهذا، في الحديث: ((قد أفلَحَ من أسلَم ورُزِق كفافًا وقنَّعه الله بما أعطاه)) [2].
أيّها المسلم، وكلُّ مسلمٍ على يقينٍ بأنّ حُبَّ المال غَريزةٌ في النفوس، لا يستطيع أحدٌ منَّا أن ينكرَ ذلك، الله يقول لنا: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، ويقول لنا جل جلاله في حقِّ الإنسان: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]. هذا أمرٌ مستقِرّ في الفِطَر، وإنكارُه مكابرةٌ وجدالٌ بالباطل، لكنَّ المسلمَ مع حبِّه للمال وسَعيِه في طلبه إلاَّ أنّه بعيدٌ كلَّ البعدِ عن الشحِّ.
وحقيقةُ الشحِّ شَرَهُ النَّفس والحِرص على المال وجَلبه بأيِّ طريقٍ حِلٍّ أو حرام. والشحُّ أيضًا التطلُّع إلى ما لا يحلّ للعبد أن يتطلَّع إليه، لكن مرضُ القلب أدّى إلى ذلك.
وربُّنا جل وعلا أخبرنا أنَّ من وُقِي شُحَّ نفسه فهو دليل على فلاحِه وسعادته في الدنيا والآخرة، قال تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
أجَل أيّها المسلم، مَن وُقِي شحَّ نفسه كان من المفلحين، كان من المطمئنّين، كان ممن يعيش راحةً وانشراحَ صدر وقرَّة عين، لا يتطلَّع إلى ما بِيَد الغير، ولا يتعدَّى ما حُدَّ له، بل هو يسير على طريقٍ مستقيم ومَنهج قويم في طَلبِ المال وسائر الملذَّات.
أيّها المسلم، الشحُّ خُلقٌ ذميم، من نجا منه نجا من بلاءٍ عظيم، يقول نبيّنا : ((إيّاكم والشحَّ، فإنّه أهلك من كان قبلكم؛ أمرهم بالقطيعةِ فقطعوا، وأمرَهم بالظُّلمِ فظَلَموا، وأمَرَهم بالفُجور ففجَروا)) [3]. تلك آفاتٌ ثلاث ترتَّبت على الشحّ: القطيعةُ للرّحم، الفجور، وثالث ذلك ظلْمُ العباد والتعدِّي عليهم، فشحيح النَّفس قاطعٌ لرَحِمه، سَيطَر البخلُ على نفسِه فمنَع الواجباتِ، سيطر الشحُّ على نفسِه فظلم العبادَ وبخَسَهم حقوقَهم وجَحد ما في ذمَّته لهم، سيطر الشحُّ عليه ففجرَ في أخلاقِه وسلوكه ولم يقنَع بما أباح الله له، في الحديث الآخر: ((اتَّقوا الشحَّ، فإنه أهلَكَ مَن كان قبلكم؛ حَمَلهم على أن سَفَكوا دِماءَهم واستحلّوا محارمهم)) [4].
أخي المسلم، لعلَّك أن تقولَ: ما هي صُوَر هذا الشحّ؟ ونريد صُوَرًا لحقيقةِ هذا الشحّ، حتى يكونَ المسلم مبتعِدًا عن هذا الخُلُق الذَميم، عن هذا الخُلُق الرذيل.
نقول: يا أخي، من مظاهِر الشحِّ مماطلةُ من عليهِ الحقّ وعدمُ وفاءِ الديون مع القدرةِ والتمكُّن من ذلك، فمَن في ذمَّته حقوقٌ للآخرين واللهُ قَد بسطَ عليه وأعطاه لا يمكِن أن تطيبَ نفسُه أن يدفعَ إلى أهلِ الحقوق حقوقَهم، لماذا؟ لأنَّ شحَّ نفسه يمنعُه من ذلك، حقٌّ مستقِرٌّ في ذمّته يعلَمه حقًّا، لكن مع هذا يثقُل عليه أن يسدِّدَ ما في ذمّته من حقوقِ الآخرين، لماذا هذا الامتناع؟ شَرَهٌ في النَّفس، وحِرصٌ على المال، وطمعٌ عسى أن يسأَم ذلك الغريمُ ويملَّ الخصومَةَ ويتعب فيتركَ الذي له ويذهَب، أو عساه أن يتنازلَ عن بعض ما لَه مِنَ الحقوق ليغتنمَ الحصولَ على جزءٍ من المال، فهذا الشّحيحُ لا يُعطي الناسَ حقوقَهم، يماطِلهم، ويترافعون إلى المحاكِم ضدَّه، لكنه عنده ممارسةٌ في المماطَلاتِ والأكاذيب والأباطيل وإخلاف المواعيد، فعسى الغريم أن يسأم فيذهب ويترك حقَّه، وعساه أن يساوِم ويفاوض حتى يقتطع [بذلك] جزءًا من مال الحقِّ ظلمًا وعُدوانا.
مِن مظاهر الشحِّ الخصومةُ في الباطل وإقامةُ الدعاوى الكيدية التي لا أصلَ لها، بل هي ظلمٌ وعدوان، فربما أقامَ دعوى على إنسان وهو يعلَمُ في حقيقة نفسه أنَّ دعواه كَذِب وافتراء، لكن لعل وعسى أن ينالَ منها شيئًا، ولذا في الحديث عنه قال: ((من خاصَمَ في باطلٍ لم يزَلْ في سَخَط الله حتى ينزِع)) [5]. هذه الدعوى الكيدية التي يُبرمها مرضَى القلوب والذين سيطَر الشحُّ عليهم ليأخذوا أموالَ الناس ظلمًا وعدوانا، يجدون من يعينهم على باطلهم ومَن يساعِدهم في ظلمِهم ومن يمهِّد لهم الطريق، ألا وهم بعضُ المحامين الذين لا إيمانَ ولا عهدَ عندهم، هؤلاء المحامُون بالباطل وراءَ كلِّ دعوًى كيديّة لا أصلَ لها ولا صحَّةَ لها، ولكنها دعوى باطلة يقيمها من يقيمها ويتولَّى كِبرَها المحامي الذي لا يخاف اللهَ ولا يرجوه، وما يزال بحِيَلِه وأساليبه وخِداعه حتى ربما ظفر ببعض الأشياء وأربَك الناسَ وحصَل ما حصل لينال شيئًا من هذه المادّة، والله يعلم أنه يعلَم أنّ ذلك كذبٌ وافتراء، لكن حبُّ المال رأسُ كلِّ خطيئة، حُبُّه الذي [هو] خلافُ ما شرع الله وأذِن فيه، فالذين يحامون عن المجرمين ويدافعون عن الكذَّابين ويترافعون في المحاكِم دِفاعًا عن الظالمين والمفترين ومن يَعلم الله أنهم كاذبون فيما يقولون، هؤلاء مِنَ الذين أُصيبوا بالشُحِّ في أعمالهم، إلى أن جَعَلوا المحاماةَ التي هي في مُعظمِها باطلةٌ ليتوسَّلوا بها إلى ظلمِ العباد، قد يقيم دعوًى على مُلكٍ ما، وقد ينازِع في أمرٍ ما، وإن كان له شبهةٌ من حقّ، لكنَّ المحاميَ الذي لا يريد سِوى المصلحةَ المادّية يطوِّر هذه الدعوى ويجسِّدها ويبدي ويعيد ويستعمِل أساليبَ المكرِ والخداع والأكاذيب والتزويرِ للحقائق حتى ربَّما ظفر بشيء من ذلك، وأُعطِي اتّقاءً لشرِّه، قَلَب الحقائقَ وزوَّر الوثائق وأتى بكلِّ قولٍ باطل.
مِن مظاهر الشحِّ تصرُّفُ بعضِ رؤساءِ المساهمات في أموالِ الناس، فهم ائتمَنوهم على هذه الأموال وعلى هذه المساهمات، ولكنَّ بعضَهم هدانا الله وإياهم ليس عندهم أمانةٌ، أو عنده أمانةٌ لكن ليس دقيقًا في حساباته وأموره، فربَّما باعَ المساهماتِ وجاء رِبحٌ عظيم فيها، لكن شحُّ النفسِ حمله إلى أن يبخَسَ الناسَ حقوقَهم. يأتيه الشيطانُ بتأويلاتٍ باطلة، ويزيِّن له القبيحَ، حتى يقتطعَ من أموال المساهمين أمرًا ليس له فيه حقّ تحت ستار احتياطٍ للأشياء أو خوفًا من حدوثِ أمورٍ جادّة، فتمضي السنون، وينسَى الناس حقوقَهم، ويظفر هذا بأموالِ الناس، وسيندم عندما تفارِق الروحُ الجسد.
مِن مظاهر الشحِّ أنّ بعضَهم لو احتجتَ إليه في حاجة أو قَضى لك غرضًا أو حقَّق مصلحةً وهو يقدِر عليها لم تطِب نفسه حتى يساوِمَك على هذه الشفاعةِ بمبلغٍ من المال يحقِّق به مطلوبَك، فيقول لك: إن أردتَ نفعَك في أيِّ أمرٍ ما من الأمور؛ وظيفة أو غير ذلك مصلحة ما أنت تستحقُّها، وهو مسلِم أخٌ لك في الإسلام، يقول: لا يمكِن النفعُ ولا يمكن الشفاعةُ إلاَّ أن نتَّفِق على جزءٍ من المالِ قبلَ أن نبدَأ في الشّفاعة. وهذا من الشّحِّ لأنّ هذا أخذُ مالٍ بغير حقّ، وفي الحديث: ((من شَفع لأخيه شفاعةً فأهدى له هديّةً فقبِلها فقد أتى بابًا من أبواب الربا)) [6].
مِن مظاهر الشحِّ أنّ بعضَ من يُعهَد إليهم بتوزيعِ بعض الأشياء وإعطاءِ بعضِ مَن لهم حاجات واستحقاقات، أنّ هذا المتولِّي لا يمكِن أن يُمضِيَ وينفِّذَ ما أُمِر بتنفيذِه إلاَّ أن يساومَ صاحبَ الحقِّ عليه، فيقول له: أُمِر لك بمبلغٍ من المال لكن لا يمكن إلاَّ الثلثُ أو النّصف أو الرّبع لنا والباقي لك، إن وافق هذا مضَت الأمور في يومٍ واحد، وإن أبى وامتَنع وقال: "هذا حقٌّ أتاح الله لي فما لَكَ شيء فيه، أنت عاملٌ وموظَّف لا حقَّ لك في هذا الشيء" وضَع العراقيلَ أمامَك حتى ربما نُسِي مالُك، أو حتّى ربما استحوذَ عليه كلَّه بأكاذيبَ وأباطيل، فالشحّ يمنعه من أن ينفِّذَ ما أُمِر بتنفيذه، ولهذا النبي قال: ((الخازنُ المسلم الأمينُ الذي يُودِّي ما أُمِر بأدائه فيدفعُه كامِلاً غيرَ منتقص أحدُ المتصدِّقين)) [7]. إذًا هذا اللئيمُ الذي يساومُك على حقِّك وعلى فضلٍ هيَّأه الله لك ولا يمكن أن تأخذَه إلاَّ باقتطاع جزءٍ منه إنَّما هو الشحُّ الذي سيطَر على نفسِه فلم تُطِعه نفسُهُ في إعطاء الحقوق ووفائها.
أيّها المسلم، مِن مظاهر الشحِّ الخبيثِ غِشُّ المسلمين في معاملاتهم والتدليسُ عليهم وخِداعهم بأنواع الخِداع والمكر، حتى يظنّ الناس أنك محِقٌّ والواقع أنك مبطل. المعاملاتُ الربويّة ومعاملات الميسِر كلُّها من شحِّ النفس؛ لأنها أخذُ مالٍ بغير حقّ، ولذا النبيّ قال في الشحّ: ((حملهم على أن سَفَكوا دماءَهم واستحلُّوا محارِمهم)) [8].
هذا الشحيحُ أيضًا قد ينتقِل الشحُّ إلى أخلاقِه وسلُوكه وإلى أعمالِه، فهو يجتنِب العدلَ ويرتكبَ الظلم، وهذا من الشحِّ، وهو لا يرضى بما أباح الله له، بل يتطلَّع إلى ما حرَّم الله عليه، وهو مخادعٌ وماكر ومروِّجُ باطلٍ وداعٍ إلى كل شَرٍّ وفساد، هؤلاء الذين سيطرَ الشحُّ على نفوسِهم وملأ الحرصُ قلوبهم، فلم يُقنعهم الحلالُ الذي أحلَّ الله لهم، ولذا قال الله: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ [المعارج:29-31]. فالشحُّ في المال والأخلاقِ والسلوكِ دليلٌ على مرضِ القلبِ وعدمِ القناعةِ بما شرع الله وأباحه للعبد.
فليتَّق المسلمون ربَّهم، وليخلِّصوا معاملاتِهم، وليتَّقوا الشحَّ في تصرُّفاتهم، وليبتعِدوا عن ذلك، فإنه كما قال النبيّ: ((حملهم على القطيعة فقطعوا)) [9] ، قطعوا أرحامهم، لماذا؟ لأنهم والعياذُ بالله لا يرضيهم الحقّ الذي لهم، بل يتطلَّعون إلى زائد من ذلك. قد يكونُ بعضُ أولئك في المواريثِ يظلم ويُخفي بعضَ حقوق الورَثة، ويتساهل في ذلك، وهذا من الشحِّ الذي حَمَله إلى أن أخفَى الحقوقَ الماليّة، وجحد على الورثة، وتلاعب بالأموال، ولم يرضَ بقَسْم الله في المواريث، حملهم على ظلمِ الناس فظلموهم؛ حيث أخذوا منهم مالاً بغير حق، حملهم على الفجورِ في تصرُّفاتهم كلِّها، فكانوا والعياذ بالله رمزَ الفوضَى والإباحيّة وارتكابِ ما حرّم الله.
نسأل الله لنا ولكم التوفيق والسدادَ والهداية لكلّ خير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:128].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في القدر (2664) عن أبي هريرة رضي لله عنه.
[2] أخرجه مسلم في الزكاة (1054) عن عبد الله بن عمرو رضي لله عنهما.
[3] أخرجه أحمد (2/159، 191، 195)، وأبو داود في الزكاة (1698)، والنسائي في الكبرى (6/486)، والبيهقي في الكبرى (4/187، 10/243) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وعند أكثرهم: ((بالبخل فبخلوا)) بدل: ((بالظلم فظلموا)) ، وصححه ابن حبان (5176)، والحاكم (1516)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1489).
[4] أخرجه مسلم في البر (2578) عن جابر بن عبد الله رضي لله عنهما.
[5] أخرجه أحمد (2/70)، وأبو داود في الأقضية (3597)، والبيهقي في الكبرى (6/82) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (2222)، ووافقه الذهبي، وجوّد إسناده المنذري في الترغيب (3/137)، وهو في صحيح الترغيب (2248).
[6] أخرجه أحمد (5/261)، وأبو داود في البيوع (3541)، والروياني (1228)، والطبراني في الكبير (8/238) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3025).
[7] أخرجه البخاري في الزكاة (1438)، ومسلم في الزكاة (1023) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه نحوه.
[8] تقدم تخريجه.
[9] تقدم تخريجه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، الرشوةُ من كبائر الذنوب، والراشي ملعونٌ، والمرتشي ملعونٌ، هكذا بيَّن النبيّ [1].
لماذا لُعِن الراشي دافِع الرشوة؟ ولماذا لُعن المرتشي قابلُ الرشوة؟ لُعِنا لأنهما تعاونا على باطلٍ، فدفع هذا المالَ لهذا المرتشي إذ المرتشِي سهَّل المهمّة، فربما اقتَطعَ له حقَّ الغير، وربما أعانه على الظُّلم والعدوان. الراشي دَفعَ الرشوةَ لماذا دفعها؟ دفعها لتكونَ وسيلةً إلى هضمِ حُقوق الناس، وإلى التعدّي على الناس، وإلى إخفاء ما في ذمّته، وإلى التلبيس والتدليس على القضيّة حتى يكسبَها ولو كان مبطِلاً فيها. المرتشي قَبِل الرشوةَ وهو مسؤول لكن ذمَّتُه السيئة والعياذ بالله وضميرُه الفاسد حمَلَه أن يقبلَ الرشوة ويماطِلَ ويحاولَ ظُلمَ الناس، فإن كان من دفَع الرشوةَ عليه حقوقٌ للناس حاولَ ذلك المرتشِي أن لا يمكِّن صاحبَ الحقّ من حقِّه، لماذا؟ يضعُ العراقيلَ والمواعيدَ، ويحاول أن يفتريَ أشياء، وربما كتب تقريرًا سيِّئًا كاذبًا يضرّ به ذلك المستحقَّ لأجلِ الرشوة التي قبِلها، فإن يكن محقِّقًا في قضيّةٍ مالت به الرشوةُ إلى أن يجعلَ الباطل حقًّا والحقَّ باطلاً، وإن كان أمامَ التنفيذ حاول إرجاءَ التنفيذ والمماطلة بصاحب الحقّ نظرًا لأنّ تلك الرشوةَ وقعَت في يدِه، وربما كان الأمرُ مترتِّبًا على استحقاقِ أُناس أحدُهما أحقُّ من الآخر، لكن [بسبَبِ]الرشوة التي أخذها قدَّم المتأخِّر وأخَّر المتقدِّم، قدَّم الخائنَ وأخَّر الأمين، كلُّ ذلك لأجلِ الرشوة التي دُفِعت إليه، فهو برِشوَته يسيء للأفراد، ويسيء للمجتمع، ويفشي فيهم المحسوبيّةَ وقلَّةَ الأمانة والوفاءِ بالعهود.
أيّها المسلم، ومِن مظاهر الشحِّ حبُّ المال الشديد حتى يحمِلَ صاحبَه أن يبخَلَ بالزَّكاة المفروضة، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].
فلنتَّق الله في تعاملاتِنا، ولنراقبِ الله في تصرِّفاتِنا، ولنجعل خوفَ الله نصبَ أعيننا في تصرُّفاتنا كلِّها؛ لنكونَ من المؤمنين حقًّا قولاً وعمَلا وظاهرًا وباطنًا، ولا يكن حبُّ المال مسيطِرًا علينا مسيِّرًا لنا إلى ما لا خيرَ فيه، بل نتَّقي الله، ولنقف مع أنفسنا عند كلِّ أمرٍ نعملُه: هل في هذا إيقاع لنا في الشحّ أم في هذا نجاةٌ لنا من عذاب الله؟
نسأل الله للجميع التوفيق والسدادَ والهداية، وأن يجعلَنا جميعًا ممن يستمِعون القول فيتّبعون أحسنَه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (2/164)، وأبو داود في الأقضية، باب: في كراهية الرشوة (3580)، والترمذي في الأحكام، باب: ما جاء في الراشي والمرتشي (1337)، وابن ماجه في الأحكام، باب: التغليظ في الحيف والرشوة (2313)، وابن الجارود في المنتقى (586) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (5077)، والحاكم (4/102-103)، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في الفتح (5/221)، والألباني في تخريج أحاديث المشكاة (3753).
(1/3323)
دعوة للوحدة والتضامن
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
20/6/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة طاعة الله تعالى ورسوله. 2- مفاسد التنازع والاختلاف. 3- سبب التنازع والاختلاف. 4- فضل التوحيد والوحدة. 5- تحقيق السلف الصالح للتوحيد والوحدة. 6- الحاجة للوحدة والتضامن. 7- حرص الأعداء على تفريق كلمة المسلمين. 8- نصيحة للشعب الفلسطيني. 9- قراءة في التهديدات الإسرائيلية بشأن الهجوم على المسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].
في هذه الآيةِ الكريمة أمَر الله المؤمنين بطاعتِه وطاعة رسولِه ، وطاعته تعالى تتمثّل بالانقياد إلى شرعه وحكمه والاستسلام لقضائه وقدره واتّخاذ الإسلام عقيدةً وعملا وسلوكا ومنهج حياة، وطاعة الرسول تتمثل باتباع سنته واتباع أمره واجتناب نهيه، وصدق الله العظيم إذ يقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، ويقول أيضا: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7].
كما تتمثل طاعة الله وطاعة رسوله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبقول كلمة الحق وعدم مجاملة الأشرار المفسدين في الأرض والنفاق لهم والتمسّح بأذيالهم والسير على خطاهم وتزيين الشرّ والسوء لهم. فإذا تحقّقت طاعة الله ورسوله على أرض الواقع قولا وعملا لا ادعاءً ولا رياء بطلت أسباب النزاع والشقاق والخلاف التي أعقبت الأمر بالطاعة وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ.
فما يتنازع الناس إلا حين تتعدّد جهات القيادة والتوجيه، وحين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجّه الآراء والأفعال والأفكار، فإذا استسلم الناس لله ورسولِه انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة.
أيها المؤمنون، فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كلّ صاحب وجهة نظَر يصرّ عليها مهما تبين له وجهة الحقّ فيها، وإنما هو وضع الذات والمصالح الذاتية والمنافع الدنيوية والمصالح الشخصية في كفّة ووضع الحقّ في كفة أخرى.
وهذا التعميم بطاعة الله ورسوله في كلّ موقع وحال هو من عمليات الضبط والنظام التي لا بد منها في المعركة وغيرها، إنها طاعة القيادة العليا فيها التي تنبثق منها طاعة الأمير الذي يقودها، وهي طاعة قلبية عميقة لا مجرّد طاعة تنظيمية في الجيوش التي لا تجاهد لله، ولا تسير على شرعه ونهجه، ولا يقوم ولاؤها للقيادة على ولائها لله أصلا، والمسافة كبيرة كبيرة.
وأما طاعة الله فهو الصفة اللازمة في كل ميدان، في ميدان النفس أو في ميدان القتال. الصبر على طاعة الله ورسوله والصبر عن معصيتهما ومخالفة أمرهما والصبر على أذى الظالمين والدجالين والمنافقين والمشعوذين والانتهازيين والنفعيين والمضلين. وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، وهذه المعيّة من الله تعالى هي الضمان للصابرين بالفوز والغَلبة والفلاح في الدنيا والآخرة.
أيها المسلمون، إن الوحدةَ والتوحيد رباط وثيق لا تنفصم عراه ولا تنفكّ عقدته، فالوحدة أشبه بصرح شامِخ متماسك، لن يوهِنَه ضربُ المعاول، أو يفتّت أوصاله هبوب الأعاصير، فهو أبدا صلب منيع.
والتوحيد مدخل لهذا البناء وسُلّمُه، فلا يرتقي أحد إلى البناء إلا عن طريق مدخله ومصعده، وما البناء الشامخ ـ أيها المؤمنون، سوى الإسلام الذي جمع الله بتعاليمه بين القاصي والداني والأبيض والأسود والعربي والأعجمي، وأوقف السادة إلى جانب العبيد صفّا واحدا متآلفا لا متخالِفا ولا متنافرًا كما، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
والتوحيد هو الكلمة التي دخل بها المسلمون في دين الله أفواجا، كلمة الإخلاص: "لا إله إلا الله"، كما قال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64].
أيها المؤمنون، لقد درج المسلمون في عصورهم الذهبية في ظلال الوحدة والتوحيد إخوة متحابين وأولياء متصافين، لا ينزع الأخ من يد أخيه أو يعرض عنه وينأى بجانبه وهو في حاجة إلى عونه ونصرته والوقوف إلى جانبه ظهيرا ومعينا له، مستهدين في ذلك بهدي القرآن الكريم في وصف واقع المؤمنين وحسنِ ولائهم وصدق إخائهم، كما قال ربّ العزة: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، ومستشعرين قول الرسول : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعض)).
فدانت لهم الدنيا، وكانوا فيها السادة والقادة، وكانت لهم الكلمة والعزة والكرامة والمجد، وأخرجوا من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وأضحوا كما وصفهم ربّ العالمين خيرَ أمة أخرجوا إلى الناس.
أيها المؤمنون، ولئن كان هذا واقع المسلمين في أزهى عصورهم فإن العرب والمسلمين اليومَ وقد تتالت عليهم الفتن والمحن والمصائب وتداعت عليهم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، هم اليومَ في أمس الحاجة إلى التضامن والتعاون على البر والتقوى، ولإشادة مجتمعاتهم وبناء صرح جامعتهم على المبادئ السامية والأخلاق الفاضلة والأمثلة الرفيعة الرشيدة التي خرج بها لنا السلف الصالح في التمسّك والتضامن، فالمسلمون في مختلف أقطارهم وأمصارهم ومواقِفهم في محنةٍ وخطر محدِق بهم، خطر السياسة المرسومة لهم من خصوم الإسلام لتفريق كلمتِهم وتمزيق شملهم والحيلولة دون تضامنهم، لئلا نكون حربا عليهم، ولنكون يدا مسالمة تمتدّ إليهم وترتبط بعجلتهم وتسخَّر لإرادتهم فتورد الهاوية، يحمَل المسلمون على الارتداد عن دينهم بمختلف ألوان الإغراء، ثم يجهِزون عليهم، وصدَق الله إذ يقول: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].
أيها المؤمنون، إن الهجوم الصليبي والهجوم الصهيوني لم ينجحا في إضعاف الدولة الإسلامية ومن ثم في القضاء عليها إلا عقب تهيئة الظروف والأحوال لذلك. وكان لتفريق المسلمين فِرَقا وشِيعا ودويلات متدابرة متناحرة ليثيروا بينها النزاع والشقاق لأتفه الأسباب وأحيانا لغير سبب. إن الغريب الدخيل والمستعمِر الغاشم والمحتلّ المتغطرس كلّ أولئك لا يستطيعون دخولَ الحصن المنيع يعيثون فيه فسادا إلا بعد أن ينخروا في جوانبه، ليحدثوا لهم ثغرة يدخلون منها، من أجل هذا كلِّه أصبح العرب والمسلمون بشكل عام والفلسطينيون بشكل خاص في أشد الحاجة وأمسها إلى تضامن عربي وإسلامي كتضامن السلف الصالح؛ ليقطعوا الطريق على أعدائهم المتربّصين بهم الدوائر، وهم بأمس الحاجة إلى وحدة تجمَع شتات قلوبهم وتؤلّف بين صفوفهم التي مزّقها خصوم الإسلام بدسائسهم وأساليبهم الخاصة. هذا إلى جانب الإخلاص في توحيد الله جل جلاله وتخليصه من الشوائب، عندئذ وحين يستظل العرب والمسلمون بظلّ الوحدة والتوحيد ويصبح التضامن العربي والإسلامي واقعا ملموسًا لا قولا معسولا وخيالا يداعب الأذهان ويدغدغ المشاعر والعواطف حينئذ لا يضرّ المسلمين زمجرة العاصفة من أي اتجاه تهبّ عليهم، ولا يؤثر في تضامنهم انقسام من ينشقّ عنهم ويخرج عليهم، صدق ذلك قول رسول الله : ((لا تزال طائفة من أمتي على حقّ ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى تقوم الساعة)) ، وفي رواية: أين هم يا رسول الله؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)).
فاتقوا الله أيها المسلمون، وليكن لكم من تخطيط سلفكم الأمجاد خير أسوة في الاستظلال في ظلّ الوحدة والتوحيد، فبالتوحيد والوحدة عزّ الدنيا وصلاح الدين، وما أروع الدين والدنيا إذا اجتمعا معا، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103].
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المرابطون، فإنه ما من مجتمع من المجتمعات العربية والإسلامية إلا وفيه الصالح والمفسد والبار والفاجر، هذه حقيقة لا ينكرها أحد، واليوم نحن نتحدث عن ضرورة التضامن العربي والإسلامي والالتفاف حول منهج الله وشرعه لمواجهة الأخطار المحدقة بعالمنا العربي والإسلامي لا بد من الحديث عن مجتمعنا الفلسطيني ودعوته للأخذ بهذه النصيحة لأنه المجتمع الذي يمتلك الطائفة المرابطة في هذه الأرض المباركة بالرغم من كلّ الصعوبات المنتشرة والتحديات القائمة هنا وهناك، وبالرغم من كلّ ممارسات الاحتلال التي لم تتوقّف في يوم من الأيام، وبالرغم من جميع أشكال الحصار المفروضة على المدن والقرى، بالرغم من كل ذلك وغيره فما زال شعبنا الفلسطيني مرابطا صامدا في أرضه، يؤدي حياته بكل جدّ ونشاط على جميع المستويات الدينية والتعليمية والثقافية والصحية والاجتماعية والاقتصادية، ولو تعرض شعب آخر لمثل ما تعرّض له شعبنا لاستسلم وانهار ورفع الرايةَ البيضاء.
أيها المؤمنون، إن النظرة إليكم في الكثير من دول العالم هي نظرة الإكبار والإجلال والإعجاب بصمودكم وثباتكم في أرضكم، وقد كنا وما زلنا نفاخر ونعتز بهذه النظرة، ونراهن على عدم الاقتتال الداخلي، ونعتبر ذلك خطا أحمر لا يجوز ولا يمكن تجاوزه مهما كانت الأسباب والتداعيات؛ لأننا أحوج ما نكون للتضامن والتعاون على البر والتقوى ونبذ الخلافات الداخلية، فمن العار بل ومن المحزن أن تضيع هذه النظرة الإيجابية بانجرار البعض منا وراء استدراج أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والتي في غالبيتها تصطاد في الماء العكر، فنعطي العالم صورة قاتمة سوداء وكأننا مجتمع مضطرب، تنتشر فيه مظاهر الانحراف والفساد، وليس معنى ذلك خلو مجتمعنا من هذه المظاهر.
والمجتمع الفلسطيني شأنه شأن بقية المجتمعات الأخرى، لكن ليس بالصورة التي تتراءى للبعض، مع الأخذ بعين الاعتبار الميزة التي منحها الله له بأن جعله من المرابطين في هذه الأرض والمدافعين عنها، وهذا لا يعني عدم فتح الملفات ومحاسبة كل مسؤول عن عمله وحسب موقعه، كما أنه لا يعني عدم النقد البناء لكل من يحتاجه، فهذا أمر واجب ضروري لعملية الإصلاح.
فلنتق الله في وطننا ورباطنا وصمودنا وشهدائنا وأسرانا ومعتقلينا، ولنكن جميعا على قلب رجل واحد، موحَّدي الأهداف والآمال والتطلعات، ولنحكّم شرع الله فيما يجري بيننا، ولنعمل على وأد الفتنة في مهدها، حتى لا نكون لقمةً سائغة لمن يتربصون بنا الدوائر ويراهنون على أوضاعنا، عملا بقوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25].
ولنلتفت حول ما يحاك ضدَّنا ويخطط لنا في هذه البلاد، ولنلتفت إلى جدار الفصل العنصري الذي ابتلع الأرض ودمّر حياة الإنسان الفلسطيني، لنلتفت إلى موجات المهاجرين الجدد والقادمين إلى هذه البلاد، وأخيرا نلتفت إلى المسجد الأقصى المبارك وما يخطّط له في السر والعلن من قبل المتطرفين والمستوطنين.
أيها المؤمنون، بالنسبة للتهديدات الأخيرة أقول: إنّ هذه التهديدات ليست جديدة علينا، فهي قائمة علينا منذ عام 67، ومنذ ذلك الوقت نتوقّع حصول ضرر وسوء لهذا المكان المبارك، وقد حصل مرارا وتكرارا، سواء بمحاولة حرقه أو بالحفريات تحت أساسه وساحاته لتقويض جدرانه إلى غير ذلك من الانتهاكات والاعتداءات اليومية التي كان آخرها دخول مجموعة من هؤلاء المتطرفين إلى المسجد الأقصى وشروع البعض منهم بإقامة طقوسهم الدينية متّحدين بذلك مشاعر المسلمين.
أيها المؤمنون، إن الجديد في هذه التهديدات هو تصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين حول إمكانية تنفيذ العناصر المتطرّفة هجوم على الأقصى بهدف تدميره والنيل من جموع المصلين والوافدين إليه. إن الهدف من ترويج هذه التهديدات هو تهيئة المشاعر والنفوس الإسلامية والعلمية لما سيحلّ بالمسجد الأقصى وكان الأمر حقيقة واقعة.
إنّ هذه التصريحات التي نسمعها بين الحين والآخر ما هي إلا رسالة واضحة وبرقية عاجلة لأكثر من مليار عربي ومسلم، وكأنها تقول لهم: أيها العرب والمسلمون، أفيقوا من سباتكم، وأفيقوا من غفلتكم، واتركوا خلافاتكم جانبا، ووحدوا صفوفكم، فأقصاكم في خطر، ومقدّساتكم في خطر، وأنتم في خطر.
أيها المؤمنون، إن أي مساس بالمسجد الأقصى المبارك ستكون له نتائج مدمرة على استقرار المنطقة والعالم أجمع، وقد صرح بذلك عضو الكنيست الإسرائيلي "ران كوهين" قبل أيام حيث قال: إذا تعرض الحرم القدسي الشريف لسوء فإن الدمار سيحلّ بدولة إسرائيل، وسيؤدّي ذلك إلى حرب يأجوج ومأجوج لكلّ العالم الإسلامي ضدّ دولة إسرائيل والشعب اليهودي.
أيها المسلمون، ومع كل هذه الغيوم المتلبّدة في الأفق فالأمل قائم بإشراقة الشمس من جديد، وحتما بإذن الله ستشرق من جديد، وما ذلك على الله بعزيز.
(1/3324)
المشكلات الزوجية
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا الأسرة
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
27/6/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحياة الهنيّة. 2- أهمّيّة الزواج في الإسلام. 3- عناية الإسلام بالأسرة. 4- الاختلاف من طبيعةِ البشر. 5- أسباب المشكلات الزوجية. 6- سعادة البيوت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، اتَّقوا الله تعالى وراقِبوه، وأطيعوا أمرَه سِرًّا وجهرًا، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4].
أيّها المؤمنونَ والمؤمنات، الحياةُ الهانِئَة ضرورةٌ من ضَرورات الحياةِ؛ ليستقرَّ المجتمَع ويحصلَ النمَاء والبناء ويتفرّغَ الخلقُ للعبادةِ والعِمارةِ، والنفس البشريّة قد جُبِلت على أن تسكنَ وتطمئنَّ إلى نفسٍ أخرَى، لذا قال الله تعالى في معرض ذكرِ نِعمه الوفيرةِ وآياته الكثيرة: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الرّوم:21]. نَعَم، أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ، ولم يقل: لتسكنوا معها، فهو دليلٌ على أنّ الزواجَ سكنٌ واستقرار وهَدأة وراحةُ بال. ومِن هنا جاءت أهمّيّة الزواج في الإسلام والعِنايةُ بالأسرة، فرغَّب الشرع في الزواجِ وحثَّ على تيسيرهِ وتسهيلِ طريقه، ونهى عن كلِّ ما يقِف في سبيلِه أو يعوق تمامَه ويعكِّر صَفوَه، فأمَرَ الله به في قوله: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3]، وقال: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]، وفي الصحيحين أنّ النبيَّ قال: ((يا معشرَ الشباب، من استطاعَ منكم الباءةَ فليتزوَّج)) [1] ، فالزّواجُ من سُنن المرسلين وهديِ الصّالحين.
أيّها المسلمون، لقد عُنِي الإسلام بتكوين الأسرةِ المسلمة واستصلاحِها؛ لأنَّ الأُسَرَ أساس المجتمع الذي يقوَى ويشتدّ بقَدر التماسُك وترابُط أُسَره، ولذا شبَّه النبيّ المسلمين بالبُنيانِ المرصوص الذي يشدُّ بعضه بعضًا [2] ، فأمر بتزويجِ الأكفَاءِ، ونهى عن عَضلِ النساء، وبيَّن في الكتابِ والسنة الحقوقَ والواجباتِ بين الزوجين، ذلك أنَّ استقرار البيوت وصلاحَ الأسَر لا يكون إلاّ باستقرارِ الزوجين ونجاحِهما في حياتهما الزوجيّة. كما أنَّ فاقدَ الشيءِ لا يعطيه، فالأب والأمّ التعيسَين في حياتهما الزوجيّة لن يقدِّما لمجتمعِهما شيئًا، فضلاً أن ينشِئا أجيالاً صالحِين قادِرين على البناءِ والقيادَة. فالزواج الناجحُ نجاحٌ للمجتمَع، أمّا خراب البيوتِ فهو خرابُ الدّيار، لذا قال النبيّ : ((إنّ إبليسَ يضَع عرشَه على الماء، فيبعَث سراياه، فأدناهم منه منزلةً أعظمهم فتنةً. يجيء أحدُهم فيقول: فعلتُ كذا وكَذا، فيقول: ما صنعتَ شيئًا، ثمّ يجيء أحدُهم فيقول: ما تركتُه حتى فرَّقتُ بينه وبين امرأتِه، قال: فيدنيه منه ويقول: نِعمَ أنت)) رواه مسلم [3]. وإذا كان هذا شأنَ إبليس الرجيمِ فإنّ أتباعَه من المفسدين قد حَرصوا على هدمِ هذا الكيان وتفكيكِ أواصرِ المجتمَع وروابطِه عن طريقِ تفكِيكِ الأسَر، حتى انتشرَت معدَّلات الطلاق بشكلٍ مخيف، وارتفَعَت نسبة العُنوسة بشكل أسوَأ، ولا شكَّ أنّ في هذا خطرًا كبيرًا، ففيه تفرُّق المجتمَع وضياع الأولادِ وعنوسةُ النّساء وانتشار الفساد ونَبات الضغينة بين الأسر. إنَّ الواجبَ على المربِّين والمصلحين والإعلاميِّين العنايةُ بهذا الجانِب، فانتشارُ المشكِلات الزوجيّة وتشعُّبها وتنوّعها مؤذنٍ بالخَطَر، فما بين زَعزَعة البيوت وهدمِها تدور المعضِلات.
عبادَ الله، إنّنا نعلَم جميعًا أنّ الكمَالَ عزيز، وأنّ الاختلافَ من طَبيعة البشَر، وأنّ الزوجين لا يمكِن أن يكونا نسخةً لبعضهما في الطبائع والأخلاقِ والرَّغَبات والتّفكير، فيكفي من المفارَقات أنهما ذَكرٌ وأنثى، كما أنهما لا يعيشان منعَزِلين، بل في داخِلِ مجتمَعٍ له متطلّباته وتأثيراته، لِذا فقد تهبّ عواصف الخِلاف على بعض الأسَر، وقد يختَلف الزوجان، ولم يسلَم بيتٌ حتى بيتُ النبوّة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فهذه سنّة الحياة، إلاَّ أنّ البيتَ الصالح المؤسَّس على التقوى والذي عَرَف فيه كلا الزوجَين ما لهما وما عليهما فإنّه لا يتأثّر بأيِّ خِلاف، بل يزيده تماسكًا وثباتًا، ويُكسِبه وعيًا وإدراكًا، فيصلَح الخطَأ وتُسَدّ أبوابُ الشّرّ للمستقبل.
أيّها المسلمون، وفي نظرةٍ سريعة مشفِقة إلى أَسبابِ المشكلاتِ الزوجية نجِدها نابعةً من معصيَة الله تعالى ومخالفةِ أمرِه في كثيرٍ من شؤون النكاح، حتى أصبَحَت بعضُ الزّيجات نَكَدًا ونِقمَة بدلاً من أن تكونَ سَكنًا ورَحمة، والله تعالى يقول: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، ولا شكَّ أن مِن أعظمِ المصائب خرابَ البيوت، وقد قال بعضُ السّلف: "إني إذا عصيتُ الله رأيتُ أثَرَ ذلك في دابّتي وخُلُق زوجتي"، قال أحدُ العلماء: "قلَّت ذنوبهم فعَرَفوها، وعرَفوا مِن أين أتوا". نعم، فمن بارَزَ الله بالمعَاصِي فهل ينتَظِر توفيقًا منه؟! ومَن عَصا الله ولم يطِعه فكيفَ يطالِب زوجتَه بأن تطيعَه؟! وكذا بالنسبة للزوجةِ؛ فمن قصّرت في جَنب الله فلا تنتظر من زوجها تمامًا، إلاَّ أنَّ المعصيةَ من أحدِ الزوجين ليست مبرِّرًا للآخَر أن يقصِّر في حقّ شريكِه أو يقابِلَه بالإساءةِ والعقوق.
عبادَ الله، ومِنَ المعاصِي ما هوَ عامٌّ كتَضييعِ الصّلوَاتِ واقترافِ المحرَّمات، ومنها ما هوَ خاصّ بالنكاح وهو التعدِّي أو التقصيرُ في الحقوقِ والواجبات الزّوجيّة، فبِقَدرِ ما يكون التفريطُ في هذه الحقوق تقَع الخلافات. إنَّ المعصيةَ الخاصّة وهي تضييع الحقوق لمن أشهَر المعاصي التي تهاوَنَ فيها الناس وتساهلوا مع عظيم أثرِها، وليعلَم مَن قصَّر في حقِّ زوجتِه أو قصّرت في حقِّ زوجها أنّه عَصَى اللهَ قبلَ كلِّ شيء، واسمَع قولَ النبيّ : ((إذا دَعا الرجلُ امرأتَه إلى فراشِه فأبَت فباتَ غضبانَ عليها لعَنَتها الملائكة حتى تصبِح)) رواه البخاري [4]. ينبغي للزوجين أن يستحضرَا حالَ الوفاءِ بالحقوق أنهما يقدِّمان طاعةً لله بامتثال أمرِه، بل بالاحتسابِ يكون ذلك عبادةً، وقد أخبَرَ النبيّ أنّ المسلمَ يؤجَر حتى في اللقمةِ يضعُها في في امرأتِه [5] مع أنّ النفقةَ واجبةٌ عليه أصلاً، وفي الصحيحِ أيضًا أخبرَ النبيّ أنّ في جماعِ الرّجل زوجتَه أجرًا [6] مَعَ أنّ هذا تَدعو إليه الطّبيعَة. إذًا أهَمّ الحلول وأوَّلها لمن أرادَ السعادةَ الزوجيّة القيامُ بحقِّ الله تعالى وطاعتُه وامتثال أمره والقيام بما أوجَب من حقوقٍ، فمن أراد الحياةَ الهنِيّة فليقرَأ قولَ الحقّ سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97].
أيّها المسلمون، حُسنُ الاختيار بين الطرَفَين أساسُ الحياة ليكونَ الوِفاق والوِئام والتكامُل والانسجام، إلاَّ أنَّ التقصيرَ في هذا الجانِب ومَعصيةَ الله فيه يجعله سبَبًا للمعضِلات، فمِن ذلك إجبارُ المرأةِ على رجلٍ لا تريده بسبب أعرافٍ بالية لتزويجها على قريبِها الذي لا ترغَبه أو طمعًا من وليِّها في جاهِ الخاطب أو مالِه، وهذا حرام وظلم، فالنبيّ يقول: ((لا تُنكَح الأيِّم حتى تُستأمَر، ولا تنكَح البكر حتى تستأذَن)) رواه البخاري ومسلم [7]. إلاَّ أنّ الفتاةَ يجِب أن تتفهَّم مشورةَ وليِّها، وأن تكونَ المصلحة مناطَ الاختيار.
ومن المخالفاتِ أيضًا الكذبُ والتدليس من قبَلِ أحدِ الجانبين أو مِنَ الوسيطِ، فهذا غشٌّ وظلمٌ للمسلمين، يتحمَّل الكاذب فيه تَبِعتَه في الدنيا قضاءً وفي الآخرةِ حِسابًا وجزاءً.
ومِن سوءِ الاختيار عدمُ الاهتمام بأمورِ الدين، فيسأل غيرُ الموفَّق عن الوظيفةِ والمالِ والجاهِ وأمورِ الدنيا ناسيًا أنّ من خان اللهَ ورسولَه لا يمكِن أن يؤتَمَن على ابنتِه، وينسَى الخاطب أنّ من قصَّرت في جنبِ الله فلن تقومَ بحقِّ زوجِها، وربما يؤسَّس البيت على هذا، فيكون على شَفَا جُرُف هارٍ يوشك أن ينهار. والأولياءُ يتحمَّلون قِسطًا من المسؤولية في ذلكِ لتفريطِهم في السؤالِ عن حالِ الخاطب وتقصيرِهم في أداء الأمانةِ جِهةَ مَولِيَّاتهم، فكم منِ امرأةٍ صالحةٍ عفِيفة بُلِيت بزوجٍ لا يصلّي أو يشرَب المسكِرات ويقارِف المحرّمات، ولا ذنبَ لها إلاَّ تقصير وليّها وإهماله في السؤالِ عن ديانةِ الخاطب، وكم مِن رجلٍ اشترطَ كلَّ الشروط الدنيويّة في مخطوبَته ولكنَّ الدينَ كان آخرَ اهتماماته، ثم يكتشِف أنها لا تصلُح أن تكونَ زوجةً لنقصِ دينها وخُلُقها، وكلّ هذا ناتِج عن غِشٍّ وتدليسٍ أو تهاوُن وتفريط. والسؤال الكبير: على أيّ أساسٍ يكون الاختيار؟ فالجواب في حديثين شريفَين عن النبيِّ : ((إذا أتاكم مَن تَرضَونَ دينه وخلقَه فزوِّجوه، إلاّ تفعَلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير)) وفي رواية: ((عريض)) رواه الترمذيّ وابن ماجه [8] ، والثاني هو قول النبيِّ : ((تنكَح المرأة لأربع: لمالها ولحسَبها ولجمالها ولدينها، فاظفَر بذاتِ الدين تَرِبَت يداك)) رواه البخاري ومسلم [9].
أيّها المسلمون، ومن افتَتَح حياتَه الزوجيّة بالمخالفاتِ الشرعية فهل ينتظِر التوفيقَ من الله؟! أعني بذلك ما بُلِي به بعضُ المسلمين بما أحاطوا به الأعراسَ والأفراحَ من مخالفاتٍ ومُنكَرات قد تنزِع منه البركةَ وتُفقِده التوفيقَ كالتبرّج واختلاطِ الرجالِ بالنساء والتصويرِ المعلَن والخفيِّ والمعازِفِ والأغاني والتعرّي في لباسِ الحفلاتِ وتضييع الصّلوات، هذا بالإضافةِ إلى المبالغةِ في الإسراف والمباحاتِ في التجهيز والحفلات، حتى تحوَّلت بعض الحفلاتِ إلى طغيانٍ ومعاصي. ألا فاتَّقوا الله عباد الله، وليقُم كلٌّ بدوره ومسؤوليّتِه تجاهَ ذلك، ولا يُترَك السفهاءَ يعبَثون.
أيّها المسلمون، إنَّ معرفةَ أسبابِ المعضِلات الزوجيّة يؤدّي بالعاقِلِ إلى تجنُّبها ومناصَحةِ إخوانه المسلمين لئلاّ يقعوا فيها، فتدخُّل الأقارب في شؤون الزوجَين مخالفٌ لقولِ النبيِّ : ((مِن حُسنِ إسلام المرءِ تركُه ما لا يعنيه)) [10] ، وقَد نهى الله تعالى عن التَحَسُّس والتَجَسُّسِ. كما أنّه من الجهلِ والحُمق أن يشتكيَ أحدُ الزوجين لأقاربِه ما يلقَى من الآخر؛ لأنّ توسيعَ دائرة الشقاقِ وإدخالَ مجموعةٍ من المحارِبين في السّاحة يزيدُ الأمرَ سوءًا وتعقيدًا. إنّ الواجبَ أن نحتفِظَ بأسرارِنا ونحلَّ مشاكلنا بأنفسنا، فإذا تأزَّمتِ الأمور يُدْخَلُ من يصلِح لا مَن يفسِد، أمّا أن لا يكونَ مِن أمرٍ إلاَّ وهو دائرٌ في كلّ بيتٍ وتدور الغِيبة والنميمةُ على كلّ لسانٍ فهذا منكَرٌ يهدِم البيوت.
عبادَ الله، ومِن بواعِثِ المشكِلات الأسَرِيّة ومسبِّباتها النظرةُ القاصِرَة للحياة الزوجيّة وعدمُ الإدراك الصحيح لمقاصِدِ النكاحِ الشرعيّة السامية التي من أهمِّها حصولُ الإعفافِ للزوجَين والسّكن الفطريُّ لبعضهما وإقامةُ البيت المسلِم والتعاوُن على البرِّ والتقوى وتربيةُ الذرّيّة الصالحة التي تعبُد الله وتطيعه، فإذا استحضَر الزوجان هذه المعانيَ فلم يلتفتا إلى القشورِ أو القصور ولو حصَل خطأ دنيويّ قدَّراه قدره وتذكّرا قولَ الله عز وجل: وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]، حتى ولو كان نَقصًا في أحدِ الزوجين فإنّ النبيَّ يقول: ((لا يفرُك مؤمن مؤمنة إن كرِه منها خُلُقا رضيَ منها آخر)) رواه مسلم [11].
وكذلك النظرةُ القاصِرة لنِسَب الجمال، فليجعلِ المسلمُ المقاصدَ الشرعيّة هي الأساس، ومن طريفِ ما يُروَى عن الشعبيّ أنّ رجلاً سألَه فقال: "إني تزوَّجتُ بامرأة فرأيتُ في إحدَى قدَمَيها أثرَ عَرج أفأردُّها وأسترجِع مهري؟ قال الشعبيّ: "إن كنتَ تزوَّجتها لتسابِق عليها فرُدَّها" فأفحمه. وبعضُ الناسِ يزهَد في امرأتِه لأنّه يرَى غيرَها أطوَلَ منها أو أعلَمَ، وهذا يؤدّي بِنا إلى الحديثِ عن سَبَبٍ آخرَ مهمّ من بواعثِ الشّقاقِ ومدخَلٍ كبير للشيطان ألا وهو بابُ المقارناتِ بين الأزواج، فتبدأ الوساوسُ والخواطِر كلّما ذُكِرت امرأةٌ وأنّ فيها أو في خُلُقها وتدبيرها تميُّزًا، فيبدأ المسكين يقارِنُ ويتحسَّر، وكذلك المرأةُ، وهذا بابٌ ليس له آخِر.
كذا النظرةُ القاصِرة للجَمال، خصوصًا ما بلِيَ بهِ الزّمن مِن كثرةِ النّظر في الأفلام والقَنَوات الفضائيّة والمجلاّت من صُوَر النّساء الفاتنات أو صوَر أشباهِ الرجال القاصدين الفِتنَة، فلا تُرضِي رجلاً زوجتُه لأنّه يرَى في الصورةِ أجملَ منها، أفلا يعتقِد أنه يوجَد أجملُ ممّن في هذه الصورة؟! إذًا بابُ المقارنةِ لا ينتهي. ثمّ هل يجوز لمسلمٍ يؤمن بالله واليوم الآخر يعلم أنه ملاقي الله ويطمَع في جنّتِه ويخشى نارَه، هل يجوز له أن يفضِّل على امرأتِه المؤمِنة العفيفةِ امرأةً رآها في التّلفاز أو المجلّة كافرةً أو فاسقة، ليس له منها إلاَّ حسرةُ النّظر؟!
إنَّ القنواتِ الفضائيّةَ والمجلاّتِ التي تعرِض صوَرَ النساءِ والرّجالِ في أكمَلِ زينةٍ قد فتَحَت على المسلِمين بابَ شرٍّ عظيم، فأصبحَت المواصَفاتُ للزّواج فضائيّة، فلا تُرضِي الرجلَ امرأةٌ، وإذا وجَد من تناسِبه ثمّ رأى في صورةٍ غيرَها تركها، وهكذا، لا يمكِن أن يقنَعَ ولو تزوَّج نساءِ البلد، مِن هنا ندرِك الحكمةَ العظيمةَ من قولِ الله عزّ وجلّ: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30، 31]، وكذلك يقال للمرأةِ التي تَبني أحلامًا ورديّة للحياةِ على ضوءِ ما تربّت عليه من أفلامٍ ومسلسَلات، ثم تُصدَم بواقعِ الحياة جاهلةً أنَّ ما تربّت عليه أو تربَّى عليه الزوجُ ما هو إلاَّ مجرَّد تمثيليّات وصوَرٍ وخيالات وعُصارة أفكارِ فسّاقٍ ومنحطِّين يسمَّونَ فنّانين.
إنَّ الأفلامَ والمسلسَلاتِ وما تبثُّه القنواتُ من حِواراتٍ لم يقتصِر شرُّها على إثارةِ الشَّهوات، بل أفسدَت أخلاقَ الناس وتعاملاتِهم في بيوتهم، وقرَّرت في نفوسِ مشاهديها مبادئَ خاطئةً عن الحياةِ الزوجيّة والتعامل الأسريّ، وقلبَت المفاهيمَ، وحسَّنت المنكرَ، وقبَّحت المعروفَ، وفتحَت على البيوتِ أنواعًا من المشكِلات لم تكن موجودةً من قبل. إنَّ ما تقومُ به هذه الوسائلُ الإعلاميّة هو منَ التخبيب الذي حرَّمه النبيّ وهو إفساد المرأة على زوجِها وإثارتها عليه.
ومنَ التخبيبِ ومن إفسادِ البيوت مناداةُ المغرضين بخروجِ المرأةِ عن ولايةِ الرجل، وإقناعُها بأنها مهضومةَ الحقوق مسلوبةَ الحرية معطَّلة الطاقة، فدعَوا إلى تسلُّط النساء وتمرُّدِهنّ على بيوتهنّ ومجتمَعَهن وترك واجباتها الطبيعيّة إلى العمَل في الشوارع ومزاحمةِ الرجالِ في كلّ مكانٍ، فبَعدَ أن كانت مكرَّمَة مصونةً مضمونةَ النّفقة والرّعاية تسعى إلى شقائِها بنَفسِها بدعوَى المساواةِ، فهل من العدلِ والمساواة أن تُحمَّل المرأةُ مسؤوليّاتِ الرجل في تجاهلٍ للإمكانات والقُدُرات وطبيعةِ التكوينِ أم يريدونَ المصيرَ إلى الفوضَى العارِمة في الأخلاق والقِيَم وقلب المجتمع على تكوينه؟! وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلِمات من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب النكاح (5065)، صحيح مسلم: كتاب النكاح (1400) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6027)، ومسلم في كتاب النكاح (2585) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[3] صحيح مسلم: كتاب صفة القيامة (2813) عن جاير رضي الله عنه.
[4] صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق (3237) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أيضا عند مسلم: كتاب النكاح (1736).
[5] أخرجه البخاري في كتاب النفقات (5354)، ومسلم في كتاب الوصية (1628) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[6] صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1006) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[7] صحيح البخاري: كتاب النكاح (5136)، صحيح مسلم: كتاب النكاح (1419) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] سنن الترمذي: كتاب النكاح (1084)، سنن ابن ماجه: كتاب النكاح (1967) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/164- 165)، وتعقبه الذهبي بأن فيه عبد الحميد بن سليمان قال فيه أبو داود: "كان غير ثقة"، وفيه أيضًا ابن وثيمة لا يعرف. ثم اختلف في إسناده، فنقل الترمذي عن البخاري أنه يرجح انقطاعه. ولكن للحديث شواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022).
[9] صحيح البخاري: كتاب النكاح (5090)، صحيح مسلم: كتاب الرضاع (1466) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] رواه الترمذي في الزهد (2317)، وابن ماجه في الفتن (3976) من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي إلا من هذا الوجه"، وحسنه النووي في الأربعين: الحديث الثاني عشر، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/287-288): "أكثر الأئمة قالوا: ليس هو بمحفوظ بهذا الإسناد، وإنما هو محفوظ عن الزهري عن علي بن حسين عن النبي مرسلا"، وذكر منهم أحمد وابن معين والبخاري والدارقطني.
[11] صحيح مسلم: كتاب الرضاع (1469) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، خَلَق فسوّى، وقدَّر فهدى، وخلق الزوجين الذكرَ والأنثى مِن نطفة إذا تمنى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله الذي كان خيرَ الناس لأهله وهو خير منّا.
أمّا بعد: أيها المسلمون، ومن أسبابِ المشكلات الزوجيّة عدمُ قيام الزوج بواجب القوامَة الشرعيّ أو التعسُّف في استخدامِه أو منازعةُ الزوجةِ له حقَّ القوامة. إنّ القوامَةَ لا تعني التسلُّط والظلمَ، وإنّما هي الرعاية والحفظُ والقيام بالمصالح.
أيّها المسلمون، لقد حَكَم الله تعالى بأبلَغِ بيانٍ بما على الزوجين فقال: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]. فانظر ـ رعاك الله ـ إلى هذه الكلماتِ القصيرة وتدبَّرها، لقد قال: بِالْمَعْرُوفِ أي: أنَّ المطالبةَ بالحقوق لا تكون بالأنانيّة ولا بالإلجاءِ والمحاسبة، فهي شراكَةُ حياة لا شركةُ تجارة. وقال سبحانه في آية أخرى: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، حتى الفرقة أيضًا بإحسانٍ، فهل تجِدون أجملَ من هذه التّوجيهاتِ لصلاح البيوت؟! أليس من الأولى بأربابِ الأقلامِ ومدَّعي الإصلاحِ الاجتِماعيّ أن يسعَوا في حلّ مثلِ هذه القضايا والاستنارةِ بالهديِ النبويّ في إسعادِ البيوت المسلمة، بدلاً من شنّ الحملاتِ على الحِجاب وسَترِ المرأة وتصديع البيوت والتلبيس على النساءِ بأنّ ما هنّ فيه من صيانةٍ أنه مشكِلة يجب حلُّها وخطأ يجب تغييرُه؟! وغاية دعواتِهم التمرّدُ والفوضى. إنّ إلجامَ هؤلاءِ واجبٌ شرعيّ لحمايةِ المجتمَع بأسره.
أيّها المؤمنون والمؤمِنات، إنّ سعادةَ البيوتِ لا يحقِّقها إلاَّ دينٌ صَحيح وخُلُق سميح وتغاضٍ عن الهفَوَات وحرصٌ على أداءِ الحقوق والواجبات مع المروءةِ والأدَب واحتساب كلِّ أمر عند الله تعالى، عند ذلك تهبّ نسائمُ السعادةِ لتشملَ كلَّ الأسَرِ وتربِط المجتمع كلَّه بالعلاقاتِ الطيّبة والحبِّ والاحترام المتبادَل. ينبغي للمرأةِ أن تقصرَ عينَ زوجِها عليها بحُسن تبعُّلها له، وكذا يجِب على الرجلِ أن يحسِن إلى امرأتِه ويكفيَها. وليَعلم الجميعُ أنّ كَثرةَ المخالفة توغرُ الصدورَ، وأنّ طولَ المرافقة مِن كثرةِ الموافقة وطولَ الصّحبة بالقناعة وجميلَ العِشرة بحُسنِ الطاعة، ومن كان أشدَّ احترامًا فإنّه لا يلقَى إلاّ محبّةً وإكرامًا، ومن دعَا الله لم يخيِّب رجاءَه.
إنَّ العلاقةَ بين الزوجَين ليست دنيويّة مادّية ولا شهوانيّة بهيميّة، إنها علاقةٌ روحيّة كريمة، حينما تصلُح وتصدق فإنها تمتدّ إلى الحياة الآخرة، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23، 24]، وكم مِن أُسَر في سِترِ الله عاشت كريمةً وماتت كريمة.
هذا وصلّوا وسلِّموا على الرحمةِ المهداة والنّعمة المسداة رسولِ الله محمّد بن عبد الله.
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وعلى آله الطاهرين وصحابته الميامين وأزواجه أمّهات المؤمنين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
اللهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدّين...
(1/3325)
ظاهرة انحراف الشباب
الأسرة والمجتمع
الوالدان
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
27/6/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الشباب. 2- خطورة انحراف الشباب. 3- سلامة جيل الصحابة من الانحراف الفكري. 4- موقف الصحابة من الفتن. 5- الانحراف الخلقي. 6- دور الأسرة في تربية النشء. 7- ضرورة محاربة الفقر. 8- دور المدرسة في إعداد الشباب. 9- الدين أعظم حصانة. 10- دور المعلم ورسالته. 11- أهمية الرفقة. 12- خطورة الفراغ. 13- تأثير الفضائيات على الشباب. 14- وسائل علاج الانحراف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوَى الله، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يُعتَبر الشبابُ ثروةَ الأمّة الغاليةَ وذخرَها الثمين، يكون خيرًا ونعمةً حين يُستَثمر في الخير والفضيلةِ والبناء، ويغدو ضررًا مستطيرًا وشرًّا وبيلاً حين يفترسه الشرُّ والفساد.
الانحرافُ في مرحلة الشّباب خطيرٌ ومخوِّف، فمنحرفُ اليوم هو مجرمُ الغدِ ما لم تتداركه عنايةُ الله، وعلى قَدرِ الرعاية بالشبابِ والعنايةِ بشؤونهم يتحدَّد مصيرُ الأمّة والمجتمع.
إنّ انحرافَ الشباب من أعظم المسائلِ المطروحة اليومَ وأهمِّ القضايا التي تُقلِق الآباءَ والمربِّين.
تتملّك بعضَ كتّابنا ومفكِّرينا العاطفة وتقودهم السطحيّة أحيانًا في التعامُل مع ظاهرةِ الانحراف، فنظلّ نلوك المشكلةَ ونفجِّر جراحَها ونردِّد آهاتِها مرّةً وثانيةً وثالثةً دونَ طائل، والعلاجُ الناجِع إعمالُ العقل وإمعانُ النّظر واستشراف المستقبل بتحليل الظاهرة ودراسةِ أسبابها والعَمَل على الوقاية منها بموضوعيّةٍ ومنهجيّة على أساسٍ من الدين والشرع.
ليس غريبًا أن يهتمَّ المختصّون بظاهرةِ الانحراف في أوساطِ الشباب لتجفيف منابِعه واجتثاثِ جذوره؛ لأنّ الشبابَ أملُ الأمّة وعدّة المستقبل وذخيرةُ المجتمَع والعَصَبُ الفعَّال في حياةِ الأمم.
انحرافُ الشّباب ظاهرةٌ عامّة تظهَر في الأفق في كلِّ بلد، وتزدادُ زاويةُ الانحراف اتِّساعًا حين تجدُ نفسًا بلا حصانةٍ وفكرًا بلا مناعة وشخصيّةً بلا تربيّة وطاعة.
الشباب كغيرِه من الناس يخطئون ويصيبون، قال رسول الله : ((كلّ ابن آدم خطّاء، وخير الخطائين التوّابون)) أخرجه الترمذي [1] ، إلاّ أنّ هذه الأمّةَ التي كتب الله لها الخيريّةَ بين الأمَم لا ترضى لشبابها إلاّ أن يكونوا على الأرض سادةً وفي الأخلاق قادَة، ولقد سجَّل تاريخ أمّتِنا منذ فجرِ الإسلام حتى يومنا نماذجَ فذّةً لشبابٍ تمسَّك بالإيمان الصحيح والعمل القويم، والتزَم منهَجَ الله وشرعَه، أسعدَ أمّتَه بقوله، وقوّى أركانَ مجتمعه بجميل فِعالة وكريم خصاله، ممّا يبشِّر بخير عميم، وهم حجّةُ الله على غيرهم.
وفي عصرِنا تنوّعت مسالكُ الشبُهات وتأجَّجت نوازِع الشهوات، وغدَا شبابُنا معرَّضًا لسهامٍ مسمومةٍ ورماحِ غزوٍ مأفونة، ذاق مرارَتها المجتمَع في غلوٍّ وتكفير وانحلالٍ خُلُقيٍّ مقيت.
في ميدانِ الأفكار المنحرفةِ والفِرَق والمِلَل الباطِلة لم يتلوّث مجتمعُ الرعيل الأوّل جيل الصحابة بقاذوراتها، فقد كان تحصينُ الرسولِ لهذا الجيل قويًّا. خرج الرّسول على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، هذا ينزِع آيةً، وهذا ينزع آيةً، كأنما فُقِئ في وجهه حَبُّ الرمّان فقال: ((بهذا أُمِرتم؟!)) أو ((بهذا بُعِثتم أن تضربوا كتابَ الله بعضَه ببعض؟! إنما ضلّت الأمم قبلكم في مثل هذا، إنكم لستُم ممّا ها هنا في شيء، انظروا الذي أُمِرتُم به فاعملوا به، والذي نُهيتم عنه فانتهوا)) أخرجه أحمد [2]. وغضِب رسول الله غضبًا شديدًا عندما وقف متعالِم جاهلٌ مغرور بين يديه يعترِض عليه في حُكمه في الغنائم ويقول: اعدِل يا محمّد، فيقول له الرسول : ((ويحَكَ، ومن يعدِل إذا لم أعدِل؟!)) فلما ولّى قال الرسول : ((دعه، فإنّ له أصحابًا يحقِر أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم وصيامَه مع صيامهم، يقرؤون القرآنَ لا يجاوِز تراقيَهم، يمرقون من الإسلامِ كما يمرق السّهمُ من الرميّة)) أخرجه مسلم [3].
تيقّظ الصحابةُ للفِتن المدلهمّة، أغلقوا منافِذها، ووقفوا منها موقفًا منهجيًّا حازمًا، فهذا الخليفة الراشد عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه يضربُ صبيغًا بعراجينِ النخل على رأسِه عندما رآه يبحَث عن المعضلات والمشكِلات في الكتاب والسنة [4] ، وتشدّدوا رضي الله عنهم في روايةِ السنة، نهوا عن عضلِ المسائل والتكلُّف في السؤال، إلى غير ذلك من القواعِدِ التي حفِظت على الصحابة دينَهم.
ومنَ الانحرافِ ـ عبادَ الله ـ ما يهدِّد الأخلاقَ ويحطِّم القيَمَ ويشكِّل جريمةً شائِنة وخطيئةً متعمَّدَة وأضرارًا جسيمةً بنظام المجتمع وسلامَتِه، خاصّة إذا كان مقرونًا باستهتارٍ أو إصرارٍ أو كان يحمِل نشرَ صُوَر ارتكاب معصيةٍ في مجاهرةٍ على رؤوس الأشهاد بكبيرةٍ توعَّد الله عليها بالعذاب الأليم.
إنَّ سلامةَ القاعدَةِ الأخلاقية في حياةِ الأمّة سبيلُ استقرارها ومناطُ قوَّتها، وإذا انحرفَ سلوكُ الأفراد وانفَجَر بركانُ الشهواتِ وسيطرت النزوات أشرفتِ الأمّة على الهلاك وآذنَت بالزوال، قال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].
الأسرةُ هي المحضِن الأبرز لإعداد الشبابِ وبناء الشخصية، ومنها يصدُر الخيرُ أو الشرّ، ومنها ينجُم الانحرافُ أو الصلاح.
تفقِد الأسرةُ دورَها وتضيِّع رسالتها إذا انصرَف الآباءُ عن أُسَرهم وكان همُّهم الأكبر توفيرَ مادّة الكسب مع ترك الحبلِ على الغارب للأولادِ والتقصيرِ في تربيتهم وعدم تخصيص وقتٍ لهم يمارسون فيه التوجيه والرعاية. يختزل كثيرٌ من الآباء علاقتَه بأبنائه ومسؤوليّته في أسرتِه في حساباتٍ مادّيّة لا تتجاوز حاجاتِ الأولاد من أكلٍ وشُرب وكِسوةٍ وترفيه، أما تربيةُ الأخلاق وتهذيبُ السلوك وبناءُ الشخصية فحظُّها أنها في ذيلِ قائمة المسؤوليات. ولا يشكُّ عاقِلٌ أنّ الآباءَ حين يمارسون التربيةَ الصحيحة ويجعلونها أولى المهمّات في حياتهم يوفِّرون المناعةَ الكافيةَ ضدَّ الانحراف والوقايةَ من المصير الأليم، ويُسهمون في أمن المجتمع، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، وقال : ((والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤولٌ عن رعيَّته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولةٌ عن رعيتها)) أخرجه البخاري [5].
الأسرةُ في الإسلامِ مسؤولةٌ عن حمايةِ الشباب من الانحرافِ، ويتحمّل الوالدان النصيبَ الأوفرَ من جريرةِ الغلوّ في الدين أو التطرُّف في الخُلُق لقوله : ((كلّ مولودٍ يولَدُ على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانِه أو يمجِّسانه)) [6].
قد يُهيِّئ جوُّ الأسرةِ الملبَّد بالغيوم الانحرافَ، فالبيت الذي تعلو فيه أصوات النزاع وتحتدمُ في جنباته مظاهرُ الخُصومة والشقاق ليس مهيَّأً للتربية واستقرارِ النفوس، بل قد يهرب منسوبُو البيت من هذا الجوّ الملبَّد إلى مَن يُؤويهم، وقد يحتضنهم رفقاءُ سوءٍ وقُرَناء شرّ، وقد تُسهَّل له الطّرق ليصبحَ مجرمًا محترفًا، كيف لا وقد فَقَد الرعايةَ والنصحَ والتوجيهَ من أبويه، غاب عنه من يدلُّه على طريق الهدى والنّور.
الطلاق ظاهرةٌ اجتماعيّة خطيرة، تهدِم كيانَ المجتمعات ومِن الأسباب الرئيسةِ في انحراف الأولاد، خاصةً إذا اقترن بضَعف الوازع الدينيّ، وكلُّ خلافٍ يخلِّف خسائرَ واضحةً وآثارًا عميقة، بل هو طعنٌ في قلب المجتَمَع ونزيفٌ في جسده.
إنّ الولدَ الذي يهربُ من جحيم الطّلاق قد لا يجِد من ينصَح أو يردع، ولأقران السوءِ تزيينٌ ولأهل الفسادِ شِباك. والمجتمع مطالبٌ ـ خاصةً أولو الأحلام والنُّهى ـ بتحجيمِ هذه الظاهرة المؤلمة وتحصينِ المجتمع من آثارها المدمِّرة.
ومِن أسبابِ الانحرافِ وقوعُ بعضِ الأُسَر فريسةَ الفَقر، فيلجأُ بعضُ الأولاد إلى مغادَرَة البيت بحثًا عن أسبابِ الرّزق، ولجهلهم وقصورِ إدراكهم قد تتلقّفهم أيدي الشّرّ وقرناء السوء، فيسلكون بهم سُبُل الانحراف، وقد كان النبيّ يستعيذ من الفَقرِ فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الكفرِ والفقر)) [7].
وللوقايةُ من مشكلةِ الفقر وآثارها فرضَ الإسلام الزكاةَ وحثَّ على الصدقة، أحيى معانيَ التكافلِ الاجتماعيّ، دعا إلى تفقُّد الأيتام والفقراء والمساكين، ورتّب على ذلك أجرًا عظيمًا بقوله: ((أنا وكافلُ اليتيم في الجنّة هكذا)) وأشار بالسبابة والوسطى [8].
ومن التكافُل دعمُ الجمعيّات الخيريّة التي ترعى الأيتامَ والفقراءَ والمساكين، ولقد سَمت بلادُ الحرمين بأنموذجٍ فريد في منظومةٍ مباركةٍ تمثَّلت في هذه الجمعيّات الخيرية التي تناثر عِقدُها في أرجاء البلاد، وأصبحت رافدًا مُهِمًّا وشريكًا حقيقيًّا في التنمية البشريّة والاقتصاديّة، قاربت بين الفقراءِ والأغنياء، أسهمت في تقوية بنيانِ المجتمع، غمرته بمشاعرِ الرحمة والشفقة، كم أطعَمت من جائع، كم كَسَت من عارٍ، كم نفَّست من كَرب، كم فرّجت من عُسر، ولا يلمِز هذه الجمعياتِ المباركةَ التي شاع خيرها وعَمَّ فضلُها وطاب غرسُها ورعاها ولاةُ أمرنا، لا يلمزها إلا مغشوشُ النية ملوَّثُ الفِكر منهزِمُ النفس، قد جفّ نبْع الخيرِ من مشاعره وفُؤاده.
المدرسةُ ـ عبادَ الله ـ هي المحضِن الثاني، ووظيفتُها ذاتُ تأثيرٍ عميق في إصلاحِ الشباب أو انحِرافهم، تحمِل مِعوَلَ الهدم أو مِعوَلَ البناء، وأُسُّ المدرسة وأساسُها مناهِجُ التربية والتعلِيم، ولا ينكر عاقلٌ أن المرحلةَ تتطلَّب خاصةً مع تقارُب أطراف العالم وشيوع الأفكار الضالّة والشهواتِ العارمة، يتطلَّب الأمرُ تكثيفَ المناهجِ الشرعية لتكونَ حصانةً لقلبِ الشباب وحمايةً لفِكرِهم من غُلوٍّ مَقيت أو فسوقٍ مُمِيت.
إنّ الدينَ أعظم حصانةٍ للشّباب من كلِّ انحراف، وقراءةُ التاريخ تُجلِّي أنّ ظهورَ الفِرَق وبروز الانحراف وشيوعَ الجريمة لم تنَل حظَّها في المجتمعات ولم تفعَل فِعلَها في القلوبِ والعقول إلاّ على فترةٍ من الدّعوة واندراسٍ من الشريعة، ولا إخالُ منصِفًا يُنكر هذا، وبالتالي يحيي سُنَنًا وعبرة، قال الله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].
وفي غِياب الدينِ الصحيح والإيمان والقويم والمنهَج الوسَط يكون الشبابُ معرَّضًا للانحراف، قد يقَع فريسَةَ الإجرام أو الإرهاب أو التطرّف أو الارتماء في أحضانِ الأعداء أو الوقوع في مصائد المنحَرفين أو يسيطِر عليه الضّياع حتى يُصبِحَ كالسُّمِّ في جسَد الأمّة والمِعوَل في كيانها، يُحطِّم مستقبلَها ومُستقبَله، ويهدم كيانَها وكيانَه.
المعلِّم مِحوَرُ التربية والتعليم، وبه نقاوِم الانحرافَ ونحصِّن الشباب، إذا كان مستقيمًا في سلوكه، صالحًا في خُلُقه، قويًّا في إيمانه، متقِنًا لعمله، يحمِل همَّ أمته ومجتمَعه، وتلك أهمّ سماتِ المعلِّم في المجتمع المسلم.
رسالةُ المعلِّم تغذيةُ الإيمان، توطيدُ الوازعَ الخُلقي، إحياءُ رَقابة الله في نفوس النشء.
الرُفقةُ الصالحة لها أثرٌ في اكتساب القيمَ والسلوك، قال : ((المرءُ على دين خليله، فلينظر أحدُكم من يُخالِل)) [9]. وقد يوقع القرينُ السيّئ في المهلكات، أمّا القرين الصالح [فسببٌ] من أسباب الاستقامة والفضيلة.
الفراغُ ـ عبادَ الله ـ من أسبابِ الانحراف، والوقتُ إذا لم يُوظَّف توظيفًا سليمًا فإنّه ينقلب بآثاره السيئة على صاحبه، ويكون أكثرَ استعدادًا للانحراف، ويجب أن يتبيّن الوالدان أينَ وكيف تُقضى ساعاتُ الفراغ.
في الفراغِ قد تتسَلَّل فتتمكَّن فكرةٌ منحرِفة أو نَزوة عابِرة أو شهوةٌ جامحة، فتقع الواقعة، ولقد أسهمتِ المؤسَّساتُ التربويّة والدورات الشرعيّة وحِلَق القرآن في احتضان عقولِ وأفئدةِ جمعٍ من الشباب، ولا يزال الحالُ يتطلَّبُ توفيرَ محاضن تربويّة آمنةٍ أخرى واستيعاب وإصلاح ما تيسّر من شبابٍ جعل الغُلُوّ طريقًا والتكفيرَ منهجًا، وشبابٍ رضيَ بالعيش على هامش الحياة، فافترش الأرصفةَ وتسكَّع في الأسواق، وشبابٍ وقع فريسةَ الخمور والمخدِّرات، قال عليّ رضي الله عنه: (من أمضى يومًا من عمره في غير حقٍّ قضاه أو فرضٍ أدّاه أو مجدٍ بناه أو حمدٍ حصَّله أو خير سمِعه أو عِلمٍ اقتبسه فقد عَقَّ يومَه وظلَم نفسه) [10].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة (2499) من طريق علي بن مسعدة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه، وأخرجه أحمد أيضا (3/198)، وابن ماجه في الزهد (4251)، والدارمي في الرقاق (2727)، قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة"، وصححه الحاكم (4/244)، وتعقبه الذهبي بقوله: "علي لين"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4515).
[2] مسند أحمد (2/178، 181، 195) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو عند ابن ماجه في مقدمة سننه (85) مختصرا، وصحح إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1/14)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (69)، وأصل الحديث في مسلم: كتاب العلم (2666) من طريق آخر عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وفي الباب عن أبي هريرة وعمر وابن مسعود وأنس وعائشة رضي الله عنهم.
[3] صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1064) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وهو أيضا عند رواه البخاري في الأدب (6163).
[4] قصة ضرب عمر رضي الله عنه لصبيغ بن عسل أخرجها عبد الرزاق في المصنف (11/426)، والدارمي في مقدمة سننه (144، 148)، وأخرج الطبري في تفسيره (9/170) عن ابن عباس قال: (أتدرون ما مثل هذا؟ مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب حتى سالت الدماء على عقبيه أو على رجليه)، قال ابن كثير في تفسيره (2/283): "وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس"، وقال في موضع آخر (4/233): "قصة صبيغ بن عسل مشهورة مع عمر رضي الله عنه، وإنما ضربه لأنه ظهر له من أمره فيما يسأل تعنّتا وعنادا. والله أعلم ". وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (4/14-15).
[5] صحيح البخاري: كتاب الجمعة (893) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم أيضا في الإمارة (1829).
[6] أخرجه البخاري في كتاب الجنائز (1358، 1359، 1385)، ومسلم في كتاب القدر (2658) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه أحمد (5/36، 39، 44)، والنسائي في الاستعاذة (5465)، والبزار (3675) عن أبي بكرة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (747)، وابن حبان (1028)، والحاكم (99، 927)، وهو في صحيح سنن النسائي (5048).
[8] أخرجه البخاري في الأدب (6005) عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
[9] أخرجه أحمد (2/303)، وأبو داود في كتاب الأدب، باب: من يؤمر أن يجالس (4833)، والترمذي في كتاب الزهد، باب: ما جاء في أخذ المال بحقه (2378) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (4/188)، ونقل التبريزي في المشكاة (3/1397) عن النووي أنه قال: "إسناده صحيح"، وحسنه الألباني في تعليقه على كتاب الإيمان لابن تيمية (ص60).
[10] انظر: فيض القدير (6/288).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي خلَق فسوّى، والذي قدَّر فهَدى، أحمده سبحانه وأشكره على نعمٍ لا تُعَدّ ولا تحصَى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، له الأسماء الحسنى والصفاتُ العلى، وأشهد أن سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله المبعوث بالنور والهدى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيلَه واقتفى.
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي سبيلُ النجاة وطريق الفلاح، وبها السعادة في الدنيا والأخرى.
العالمَ اليومَ يعيشُ حالةً من الإثارةِ الشهوانية العارِمة التي تُلهِب مشاعِرَ الشباب، ومن أبرز سُبُل الانحراف ومن أبرز حبائلِ شياطين الإنس هذه الفضائياتُ التي يزيِّنُ مُعظمها الانحرافَ ويجرُّ إلى الضلالة، لقد تراجَع دورُ مؤسّسات التربية أمام هذه الفضائياتِ التي أطلقت أبواقَها وسخّرت جهودَها في فتح أبوابِ الانحراف من تلويثِ العقول وإفساد القلوبِ ونزع جلبابِ الحياء، سهَّلت الغزوَ الفكريَّ ونَقلت ثقافة وأخلاق بلدانٍ لا تمثِّل الإسلامَ ولا تدين به، شجَّعت على الفسقِ والسّفور، جرَّأت على الجريمة والانحراف.
وإذا أردنا تقليصَ زاوية الانحرافِ فلا بدّ من البَحث عن حلولٍ لهذا الكابوسِ الجاثم على صدورِنا القابِع في دورنا المزَلزِل لأخلاقنا والتصدِّي لسُمومه وإبطال مفعوله.
مِن وسائل علاج الانحراف القيامُ بالدعوة إلى الله بالحكمة وبالموعظةِ الحسنة، قيامُ المسجد برسالته وإحياء دورِه في التوجيه والإصلاح، قيامُ الدّعاة والمربِّين بواجبهم وتحمُّل مسؤوليّتهم. أصحابُ الفكر وحملةُ الأقلام ندعوهم للإسهام في مقاومةِ مظاهرِ الانحراف بدراستِها ووضعِ الحلول لها، بل كلُّ فردٍ منّا يُعتبَر حارسًا أمينًا ومسؤولاً عن حمايةِ أمّته من الفساد والانحراف، محافظًا على نقاء وبقاءِ مجتمعه، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
يتحقّق هذا في التواصي بالحقّ والتواصي بالصّبر والقيام بواجب الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر الذي هو صمّام أمنِ المجتمعات وسبيل نجاتها، قال الله تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر].
ألا وصلّوا ـ عباد الله ـ على رسولِ الهدى، فقد أمَرَكم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلِّم على عبدك ورسولِك محمّد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/3326)
من أدب الطريق
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, محاسن الشريعة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
27/6/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل أخلاق الإسلام. 2- شعب الإيمان. 3- فضل كلمة التوحيد. 4- علاقة الأخلاق بالإيمان. 5- فضل إماطة الأذى عن الطريق. 6- وعيد من ألقى الأذى في الطريق. 7- من أنواع الأذى وصوره. 8- حقوق الطريق وآدابه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في سنّةِ محمّدٍ أدبٌ رفيع وخُلُق جمّ ورَبطٌ لأعمال المسلم بإيمانه وصعودٌ بالمسلم مِن خلقِ الأنانيّة إلى خُلُق البذل والعطاء، فيها تهذيبُ السلوك، فيها شَحذُ الهمَم، فيها إبراز شخصيّة المسلم لأن يكونَ عضوًا صالحًا في مجتَمَعِه، يشعُر بمسؤوليّتِه، ويعلم أنّ عليه واجبًا نحوَ أمّته على قدر حاله، وكلٌّ على قدر مستواه.
أيّها المسلم، هذه الشريعةُ كلُّها خيرٌ وكلّها رحمة وكلّها أدب عظيم، أعداءُ هذا الدين أخَذوا من محاسِنِ دينِنا ما زيَّنوا به أنظِمَتَهم الباطلة وجَعلوها كأنها مصدرٌ من مصادِرِهم أو من تلقاءِ أنفسهم، إلاَّ أنها أخلاق إسلامنا، عرفوها فنظَّموا بها شيئًا من دنياهم، فصاروا بها في غايةٍ من السّعادة على قدرِ ما أخَذوا من تعاليم الشريعة، لكن للأسَفِ الشديد أنّ بعضَ أبناء المسلمين فُقِدت منهم هذه الأخلاق، هو مسلمٌ مؤمن مصلٍّ صائم لكن أخلاق التعامل نفقِدها من بعض المسلمين، نفقِد من بعض أبنائِنا أخلاقَ التعامل في المجتمَعِ المسلم، فكأنّ الأخلاقَ شيء والإيمانَ شيء آخر، والواقعُ أنّ شريعةَ الإسلام تجعل هذه الأخلاقَ جزءًا من أجزاءِ الإيمانِ العظيم، فاسمَع نبيَّك حيثُ يقول: ((الإيمانُ بِضعٌ وستّون ـ أو قال: ـ بضعٌ وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق، والحياءُ شعبة من شُعَب الإيمان)) [1].
أخي المسلم، لِنقِف قليلاً مع هذا الحديثِ النبويّ الصحيح الذي يوضِح فيه النبيّ أنّ الإيمانَ له شُعب، إما بِضع وستون أو بضع وسبعون. هذه الشعبُ المتنوِّعة كلّها داخلة تحت اسم الإيمان، وهي متفاوِتَة في فضلها وكِبَرها، فأجلُّ هذه الشعب وأعظمها قول: "لا إله إلا الله"، أساس الملّة والدين التي من قالها عالمًا بحقيقتِها معتقِدًا ما دلّت عليه بقلبه عاملاً بمقتضَى ذلك من إخلاصِ الدين لله وإفرادِ الله بالعبادةِ فإنّه بتوفيقٍ من الله مآلُه دخولُ الجنّة وإن عُذِّب على قدر مخالفته. ثمّ هذه الشعب تأتي بعد "لا إله إلا الله" من فرائضِ الإسلام مِن واجبات الإسلام، ثم أدنى هذه الشعبِ إماطةُ الأذى عن الطريق.
أخي المسلم، لنقِف قليلاً، ((أدناها إماطة الأذى عن الطريق)) ، يعني أنَّ إماطةَ الأذى ورفعَ الأذَى عن طريقِ المسلمين، رفع هذا الأذى إزالة هذا الأذى السّعي في إزالته إمّا بنفسِك أو بالإيعاز والرفع لمن لَدَيهم التنفيذ لإزالةِ هذا الأذى عن الطّريق يُعتَبَر شعبةً من شعب الإيمان وخُلُقًا من خُلق الإيمان وخصلةً من خصالِ الإيمان. إذًا فهذا يعطِي المسلم مسؤوليّة، ويحمِّله مسؤوليةً على قدره، ويجعَل هذا مرتبِطًا بالإيمان. فأخلاق المسلمين كبيرُها وصغيرها هي ممتدَّة من إيمانهم، ولها علاقةٌ بإيمانهم، فيعمل المسلم العملَ وهو جزءٌ من إيمانه ليتقرَّبَ إلى الله بذلك العمل الصالح.
الطريقُ ـ أيها المسلم ـ يسلُكه الجميع، والطريق مهيّأٌ لأن ينتفِع به الكلّ، والطريق موضوعٌ ليعبرَ الناس ويسلكوه. إذًا فإذا رأى المسلم في هذا الطريق العامّ أذى، هذا الأذى لم يحدَّد بشيء، إما إذًى قاذورات أوساخ حجارة تراب، وقل ما شئتَ من أيّ إذًى يمنع المارّةَ من السلوك، أو يعيقُ سلوكَهم، أو يسبِّب ارتباكَ السير، فكلّه إذًى، إذا أزاله المسلِمُ وتفضّل بإزالته فقد أتى شعبةً من شعَب الإيمان، وقد عمِل بخلقٍ من أخلاق الإيمان، يطبِّقها المسلم، يمليه عليه إيمانُه لكونه مؤمنًا بالله يسمع ويطيع لله ورسولِه. فما أشرَفَ هذا الخلُق؛ أن يكونَ إزالةُ الأذى ورفع الأذى عن طريق المسلمين خُلقًا من أخلاق المؤمنين؛ ليعطيَ دَفعةً للمسلم أن يعملَ ويسعى ويترفّع بالفضائلِ والآدابِ الشّريفة.
أيّها المسلم، ونبيُّنا لما أخبرَنا أنّ إماطةَ الأذَى عن الطريق شُعبةٌ من شعبِ الإيمان أخبرنا أيضًا أنّ ذلك صدَقةٌ منك على نفسك، في الحديث عنه قال: ((كلُّ سلامَى من الناس عليه صدقة)) ، والسلامى الأعضاء الدقيقة، فسلامتُها تكاملها وخلُوّها من الأوجاع والأمراض نعمَة تحتاج إلى أن تقابِلَها بشكر الله، ((كلَّ يوم تطلُع فيه الشمس تعدِل بين اثنين صدقة)) ، يعني إذا أصلحتَ بين متخاصِمَين فقد تصدَّقتَ صدقةً منك، ((تعين الرجلَ على دابّته فتحمِله عليها ترفَع له عليها متاعَه صدقة، وبكلِّ خطوة تخطوها إلى المسجد صدقة، والكلمَة الطيبة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة)) [2]. إذًا هو من شعب الإيمان، وإزالته صدقةٌ منك على نفسِك.
ثم اسمع ـ أخي ـ أيضًا ثوابًا آخَر في آجِل أمرِك لمن له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد، يقول فيما صحَّ عنه: ((بينما رجل يمشي في الطريق إذا هو بغصن شوك، فأخذه عن الطريق، فشكر الله له، فغفر له)) [3]. عملٌ يسير، غصن شوكٍ أخذه ونحاه عن الطريق حتى لا يؤذيَ المارّةَ، فشكر الله له فِعلَه وغفر له ذنبه بهذا العملِ اليسير، ما أعظَمَ الفضلَ والإحسان.
ثوابٌ آخر، يقول : ((رأيتُ رجلاً يتقلَّب في الجنّة)) ، ما عمله؟ ((رأى شجرةً في طريقِ المسلمين فأزالها)) [4] ، فهو يتقلَّب في الجنة بهذا العمل اليسير.
أيّها المسلم، فإذا علِمنَا الثوابَ العظيم والفضلَ الكبير فلنسمَع إلى عقوبةِ من رفَض هذا الأمرَ وخالف هذا الفضلَ، يقول : ((اتّقوا اللاّعِنَين)) ، قالوا: وما اللاعنان يا رسولَ الله؟ قال: ((الذي يتخلَّى في طريقِ المسلِمين أو ظلِّهم)) [5]. هذا الشخصان الواحدُ منهم يتخلّى في طريق المسلمين، يأتي للطّرُق العامّة فيتغوَّط أو يبول في ناحيةٍ منها، ثانيًا: أن يتخلّى في ظلِّهم، يأتي لظلِّ الأشجار التي يستظلّ بها النّاس ويجلِسون تحتَها ويقضون بعضَ وقتِهم تحتها، إمّا في طرقٍ عامة أو حدائقَ عامّة، يأتي لتلك الشّجرةِ المظِلّة التي ربما يأتي محتاجٌ إليها فيعمَل فيها الأعمالَ السيئة، ربما تغوَّط أو بالَ فيها، ثانيًا: ربما ألقَى فيها قاذوراتٍ وأوساخًا، ربما ذبحَ ذبيحتَه فألقى الفرثَ والعظام وفضلاتِ الطعام فيها، ربما ألقَى فيها فَضلات الأطفالِ وقاذورات الأطفال، لماذا؟ لأنّه ليس عنده إحساسٌ في نفسه ولا خلُق إيمانيّ يمنعه، وإذا عُدِم خلُق الإيمان فلا خيرَ في الإنسان.
أيّها المسلم، قد تخشَى لو رأيتَ مراقبًا يراقِب أحوالَك ويلاحِظ تصرّفاتك لامتنعتَ، لكن ألا تخشَى والله عليمٌ بسرِّك وعلانيّتك ومحيط بك من كلّ وجه؟! فاتَّق الله، واعرف للمسلمين حقَّهم، ولا تتعدَّ على حقوقهم، وتأدَّب بالأدب الإسلاميّ.
أيّها المسلم، إنّ هناك أذًى متعدّدًا في طُرُقاتِ الناس لا يبالي البعضُ به، فمِن أنواع الأذى في الطريق إلقاءُ القاذورات في الطريق، ثانيًا: بعضُ المتهوِّرين ومن لا حياءَ عندهم تراه في سيّارته فإذا انتهى من علبةِ الماء أو من أيِّ مشروب فتح زجاجةَ البابِ وألقاها في الطريق فربما وقعَت على سيارةٍ أو على مارّ أو سبَّبت حوادثَ إلى غير ذلك، لا يبالي، علبةُ الماء أو أيّ مشرب ينتهي منه، والنهايةُ أن يفتحَ زجاجةَ السيارة ثمّ يلقِي ذلك في الطريق دونَ أن يميِّز هل تضرّ أحدًا أم لا.
من الأذى في الطريق أنّ بعضَهم لا يبالي في الطريق، فيسير سَيرًا غيرَ منضبِط وغير متَّزن، لا يراعي طُرُق السّير، ولا يراعي المواقفَ المعروفة، ولا يهتمّ بإشارة منع الوقوف أو نحو ذلك، ولا يبالي.. من أذى الطريق أيضًا بعضُهم ربما وقفوا في طريقِ الناس وهم في سيَّاراتهم فتحدَّث بعضهم إلى بعض وأخَذوا في أطرافِ الأحاديث دونَ أن يبالوا بمن وراءَهم وبمن عن جانبهم.
من أذى الطريقِ أحيانًا أنَّ البعضَ لا يبالي بالطريق، يؤذِي الناس بأقواله وأفعاله، ونبيُّنا قال لأصحابِهِ: ((إيّاكم والجلوسَ في الطرقاتِ)) ، قالوا: يا رسولَ الله، مجالسُنا لا بدّ منها نتحدّث، قال: ((إن كنتم أبَيتُم إلاّ أن تفعلوا فأعطُوا الطريقَ حقَّه)) ، قالوا: وما حقُّ الطريق يا رسول الله؟ قال: ((غضُّ البصَر، وكفّ الأذى، وإفشاءُ السلام، والأمرُ بالمعروف، والنّهي عن المنكر)) [6]. هذه حقوقُ الطريق: غضّ البصر، المسلم يمشي في الطريق غاضًّا بصرَه عمّا حرّم الله عليه النظرَ إليه: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]. كم من متسكِّع في الطرقاتِ لا غرضَ له ولا حاجَة سوى أن ينظرَ إلى هذه وتلك، وكم من أناسٍ ـ هدانا الله وإياهم ـ اتَّخذوا الأسواقَ مَصيَدةً لمن يريدُ التغريرَ والإضرار به، وهذا عامّ للمرأة والرجل، فالمرأة تغضّ بصرَها وتمتنِع عن الإتيانِ إلا للحاجة، والرجل يغضّ بصرَه ولا يتطلّع إلى عوراتِ الآخرين. يكفُّ الأذى في الطريق فلا يؤذِي الناسَ بلسانه، لا كلامًا سيّئًا، ولا همزًا ولمزًا وعيبًا، ولا سخريّة واحتقارًا، هو كافٌّ الأذى عن الناسِ، لا يؤذيهم لا بالأقوالِ كما لا يؤذيهم بالأفعال، وهو يفشِي السلامَ ويسلِّم على من لقيه، وهو يأمر بالمعروفِ وينهَى عن المنكر على قدرِ استطاعته، إذَا رأَى من يعمَل المنكرَ نهاه وحذَّره بحكمةٍ ورفقٍ ولين، ينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف ويدعو إلى الخير.
أيّها الإخوة، لقد أساءَ البعض إلى طرُق المسلمين إساءةً عظيمة فتحمَّلوا الإثمَ والوِزر، أساؤوا لطريقِ المسلمين فآذوا الناسَ في طرقاتهم بأقوالِهم وأفعالهم. بعضُ قائدة السيارات يؤذون الناسَ بالأصواتِ المزعِجة ويؤذون الناسَ بالنظَرات المهلِكة، ويؤذون الناس بالمواقفِ الخاطِئة، فربَّما عطَّلوا مصالحَ الغيرِ من غيرِ مبالاة. يأتي ويوقِف سيّارتَه في أيّ مكان شاء، لا يبالي هل هذا الموقفُ يقطَع الطريقَ على الناس، هل يؤثِّر على العابرين أم لا، ثم يقضي ساعاتٍ طويلة، وغيره ينتظِر متى يأتي هذا ليفسَحَ الطريق أمام الجميع، لو أنك المبتلى بهذا لأقمتَ الدنيا وما أقعدتها، إذًا فلا بدّ أن ننصف من أنفسنا وأن نعاملَ غيرّنا كما نحبّ أن يعاملنا غيرنا بذلك.
إنّ طرُقَ الناس مصلحةٌ للجميع، فلا يلقَى فيها أذى؛ لا بماء ولا بزجاجٍ ولا بأيّ مؤذٍ ومعكِّر للطريق، وإنّ ظلَّ الناس ومستَرَحات الناسِ وحدائقَهم العامّة يجب أن يحترمَ كلٌّ صاحبه، فالاحترام وتبادُلُ المصالح العامّة وكون كلٍّ يحترم صاحبَه ويشعر بمسؤوليته هذا هو الخلق الذي دعا إليه الإسلام.
وتميط الأذى عن الطريق فهو شعبةٌ من شعب الإيمان، خُلُق من أخلاقِ الإسلام، فلنسمُ بأخلاقنا إلى معالي الأمور، ولنترفَّع عن الدنايا، ولتكن أخلاق الإسلام ملازِمَةً لنا رآنا الناس أم غابوا عنَّا، خلُق كامنٌ في نفوسنا، يمنعنا من الرذائل، ويحمينا من السَّفَه، ويجعلنا على مستوى المسؤولية في أحوالنا كلِّها.
فاتّقوا الله يا عباد الله، وتعاوَنوا فيما بينكم على البرِّ والتقوى، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33].
بارك الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هَذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إلَيه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (9)، ومسلم في الإيمان (35) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الجهاد (2989)، ومسلم في الزكاة (1009) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[3] أخرجه البخاري في الأذان (654)، ومسلم في الإمارة (1914) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في كتاب البر (1914) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[5] أخرجه مسلم في الطهارة (269) عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ اللّعّانين، وهذا لفظ أبي داود في الطهارة (25).
[6] أخرجه البخاري في الاستئذان (6229)، ومسلم في اللباس وفي السلام (2121) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيهِ كَمَا يحبّ ربُّنا ويرضَى، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شَريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عَبده ورَسوله، صَلّى الله عليه وعَلى آله وصَحبِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمّا بَعد: فيا أيّها النّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى، واجتنِبوا أذى المسلمين في أحوالهم كلِّها، والله يقول: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].
أخِي المسلم، وأنتَ تسيرُ في الطّريقِ بسيّارتك أليسَ مِنَ الأذَى أن تُربِكَ السّيرَ بأن تتخطّى من أمامَك فربَّما أوقعتَه أو أوقعتَ غيرَه في هَلَكة؟! أليسَ هذا منَ الأذى؟! تمشي مِشيةً جنونيّة فتتخطّى غيرَك، وربما تسبَّبتَ في حوادثَ متعدِّدة، سببُها هذا التهوُّر الزائد وعدمُ المبالاة بمصالح الآخرين وأرواح الآخرين. أليس من الأذى أن يمسِكَ الطفل الذي لم يميّز ولا عنده تقديرٌ؛ أن يُعطَى سيارةً يقودها لا يحسِن قيادتَها وليسَ عنده تمييزٌ وحُسن تقديرٍ للمصالح من المفاسد، فربَّما سبَّب بقيادتها ضَررًا على المسلمين في طريقهم.
أخِي المسلم، إنَّ كفَّ الأذَى من أخلاقِ المؤمنين، البعضُ من الناس عندَما ينتهي بناؤُه وتشييد بنائه ربما ينسَى فضلاتِ البناء من عن يمينه أو شِماله، وربما ينقلها من جانبِ بيته إلى أرضِ مجاورةٍ، فيلقي فيها فضلاتِ بنائه المختلفة يلقيها في أرض الغير، لماذا؟! أليس هذا ملكًا لمسلم؟! غدًا إذا أراد أن يبنيَ فينفِق نفقةً طائلة على رفعِ هذه الفضلاتِ وإزالتها من أرضه، فلماذا أنت تبعِد الأذى عن نفسك ثم تؤذي به غيرك؟!
إنَّ الإسلامَ يؤدّب المسلم أن يعاملَ غيرَه كما يحبّ أن يعاملَ نفسَه، وأن لا يتَّخذ من بيته وأيّ تصرفاتِه ما يؤذي الآخرين. كم من أناسٍ في الطريق يجلِسون على فناءِ المساجد لكي ينظروا مَن يمرّ ومن يأتي، ولكي تنطلقَ النظرات المسمومةُ من أعينِهم والألفاظ السيّئة الوقِحَة من غير حياءٍ وخَجَل.
فلنحترِم الطّرُقَ ومجالسَ الناس، ولنكفَّ الأذى، ولنتخلَّق بأخلاق الإيمان الذي يجعل إزالةَ الأذى شعبةً من شعب إيماننا ليسموَ بنا إلى مكارمِ الأخلاق وفضائل الأعمال، وصدق الله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].
أيّها المسلم، بعضهم ربما ألقَى فضلاتِ الأمتعةِ من عُلَب أو كراتين ونحوها، لا يبالي يلقِيها في الطريق، يلقيها عند متجره ويقول: تأتي الجهاتُ المختصَّة لترفعَه عن طريق الناس. أنت يا أخي المسلم، لماذا هذا العمل؟! لماذا لا تكون عَونًا في سلامةِ الطريق الصغير والكبير؟! لماذا تؤذي الناس بأيّ أنواع الأذى؟!
فلنتخلَّق بأخلاق إيماننا الذي يربّينا على الفضائل ويؤدِّبنا بالآداب العالية لتكون جزءًا من إيماننا، نؤدّيها على قناةٍِ وطاعة لله ورسوله. أسأل الله للجميع التوفيقَ والهداية والعونَ على كلِّ خير، إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهديِ هدي محمد ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالَة، وعليكم بجماعةِ المسلِمين، فإنّ يدَ الله عَلَى الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحِمكم الله ـ على عبدِ الله ورسولِه محمّد كَمَا أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمَّ عَن خلَفَائِه الراشدين...
(1/3327)
المسلمون والأقصَى
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
27/6/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سر زهد الحسن البصري. 2- تكالب الأعداء على المسلمين. 3- سبب الهوان والذل. 4- مقارنة بين عبادتنا وعبادة السلف. 5- قراءة في التهديدات بالهجوم على المسجد الأقصى. 6- مسلسل الجرائم اليهودية على المسجد الأقصى. 7- فضل المسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: عباد الله، قيل للحسن البصري رحمه الله: ما سرّ زهدك في الدنيا يا تقيّ الدين؟! فقال: "أربعة أشياء: علمت أن رزقي لا يأخذه غيري فاطمأنّ قلبي، وعلمت أن عملي لا يقوم به غيري فاشتغلت به، وعلمت أن الله مطّلع عليّ فاستحييت أن يراني على معصية، وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء ربّ العالمين". هذه قوّة اليقين، هذه عظمة النفوس المؤمنة.
الإسلام هو الإسلام، لا يعرف المحسوبيّة، ولا يعرف المجاملة. الإسلام دين الرحمة والقوة، الإسلام دين الأخوة والعطاء، الإسلام دين المحبة والإخاء، الإسلام دين العزّة والنصر، وليس دين إرهاب كما يزعم أعداء الإسلام، إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ [آل عمران:19].
عباد الله، أمتنا اليوم تعيش أياما هي أشد الأيام خطورة على الإسلام، لماذا؟ لأننا في كل مكان وفي كل بلد إسلامي نرى أعداء الإسلام يحاولون إخراج المسلمين من دينهم، الفتن على أشدها، الأموال تدفع بغزارة، والتيارات المعادية لافح حرّها وشديد قيظها، حتى الذين يتسمّون بأسماء المسلمين هم أشد خطرا على الإسلام.
فقد وقعنا في المحرمات، وارتكبنا المنكرات، أعداء الإسلام يفتِكون بالمسلمين من كلّ مكان، أينما وجد الإسلام والمسلمون فهناك الحروب دائرة، وكل ذلك بسبب فسادنا وسوء أخلاقنا، فلماذا لا نعود إلى الله أيها المؤمنون؟! إن الله غفار الذنوب، ويقبل التوبة عن عباده، وهو الغفور الرحيم.
عباد الله، لقد آن الأوان أن نصطلح مع الله، فإن كثرة الذنوب ضيقت الأرزاق، وأفسدت الأخلاق، وضيعت المروآت، ونزعت الرحمة من صدور العباد.
إن البيوت قد دخلها الشيطان، لا تسمع إلا صوت الغناء والتمثيل، حفلات الزواج تستمرّ إلى آخر الليل، والبيوت لا تسمع فيها قارئا لكتاب الله أو يقرأ سنّة رسوله! حتى بناتنا إذا أردن أن يتزوجن فإن الخطوبة تعلن في الصّحف، ويوضع بجانبها صورة غير محتشمة، وسائل الإعلام في بلادنا لا تنشر شيئا عن الإسلام، بينما تنشر صورة لما يسمى ملكات الجمال وكلامًا لا يسمِن ولا يغني من جوع.
لماذا ضاعت الأخلاق؟ لماذا ضاعت قيم الإسلام وأصبحنا لا نطبق من الإسلام إلا الصلاة؟ ويا ليتنا أحسنّا أداء الصلاة، وهذا هو حاتم الأصم يسأل: كيف تصلي؟ فماذا قال للسائل؟ أتدري ـ أيها المسلم ـ كيف كان بصلي حاتم رحمه الله؟! أيصلي مثل صلاتنا؟! أيقبل على الله وقلبه ساه غافل؟! أيقبل على مولاه وقلبه مشغول بالدنيا؟! لا، وإنما يقبل عليه بقلب كله خشوع وخضوع لمن خلق السموات والأرض. تأمل ـ أيها المسلم ـ ماذا قال حاتم: "أقوم بالأمر، وأمشي بالسكينة، وأدخل بالنية، وأكبِّر بالعظمة، وأقرأ بالترتيل والتفكّر، وأركع بالخشوع، وأسجد بالتواضع، وأسلم بالنية، وأخاف أن لا تقبل مني، والله إن لم يرحمنا لنكونن من الخاسرين".
فكثير منا يصلي ولا يعلم ماذا قرأ، ولا ماذا قال حينها، مع أنه لم يشرب خمرا، وإنما أسكره جهله بربه وغفلته عن مولاه واتباعه لهوى نفسه وطاعته لشيطانه، أين نحن من صلاة كانت قرّة عين رسول الله ، والتي كان يتشوّق قلبه إليها، حتى يقول لبلال بن رباح رضي الله عنه: ((أرحنا بها يا بلال)). شتان ثم شتان بين من يقول: "أرحنا بها" وبين من يقول: "أرحنا منها". فلا بد للمسلم أن يقف أمام مولاه وقفةً تليق بجلال ألوهيته وذل عبوديته.
عباد الله، رأت فأرة جملاً فأعجبها، فجرت خطاه فتبعها، فلما وصلت إلى باب بيتها وقف ونادى بلسان الحال إما أن تتخذي دارا تليق بمحبوبك، أو تتخذي محبوبا يليق بدارك. من هنا فالواجب على المسلم أن يصلي صلاة تليق بالمعبود جلّ جلاله وأن يتوجه إلى الله بثوب الاستغفار والإنابة والانكسار.
عباد الله، ما أعظم وما أجمل التوبة! كان العارف بالله تعالى حاتم الأصم رضي الله عنه إذا غرّته نفسه على معصية الله دخل قبرا مهجورا ونام فيه، وبعد أن ينام في القبر المهجور كان يقرأ قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:97-100]، ثم يقوم من القبر، وينفض التراب عن ثيابه، فيقول لنفسه: "يا حاتم، قد رجعت، فاعمل قبل أن تموت فلا ترجع".
عباد الله، دخل أحد المرضى على الحبيب ، وهذا المريض يشكو ويقول: وا ذنوبي، يتأوه من كثرة الذنوب، وإذا بالرسول عليه السلام يجلسه أمامه ويلقنه هذه الكلمات، قال له: قل: ((اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبي، ورحمتك أرجى عندي من عملي)) ، فقالها الرجل، فقال عليه الصلاة والسلام: ((عد فقلها مرة ثانية)) ، فعاد وقالها، فقال له: ((كررها مرة ثالثة)) ، فعاد وكررها مرة ثالثة، فقال له: ((قم فقد غفر الله لك ذنوبك)). وصدق الله وهو يقول لنبيّنا : وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113].
اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبي، ورحمتك أرجى عندي من عملي، إن لم أكن أهلا لبلوغ رحمتك فإن رحمتك أهل لأن تبلغني، فأنت القائل: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]، وأنا شيء، فلتسعني رحمتك يا ربّ العزة.
عباد الله، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((يا ابن ادم، عليك الجهد وعليّ الوفاء، وعليك الصبر وعليّ الجزاء، وعليك السؤال وعليّ العطاء، وعليك الإملاء وعلي الكتابة، وعليك الدعاء وعليّ الإجابة، وعليك الشكر وعلي الزيادة، وعليك التوبة وعليّ القبول)). فتوجهوا إلى الله بقلوب مؤمنة صادقة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي تفرد بالعزة والجلال، وتوحد بالكبرياء والكمال، وأذل من اعتز بغيره غاية الإذلال، وتفضل سبحانه على المطيعين بلذيذ الإقبال، نعّمهم في الدنيا بمعرفته وخدمته، وأكرمهم في العقبى برؤية وجهه، والنعيم في الحال والمال. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نفاد لملكه ولا زوال، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أيده بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة وزينة بأشرف الخصال، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة دائمة بالغدوّ والآصال.
أما بعد: أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وفي أكناف بيت المقدس، يا من شرفكم الله بشرف الرباط على ثغر من ثغور الإسلام، يا عمّار المسجد الأقصى وحماته، كرر وزير الداخلية الإسرائيلي مجدّدا الحديثَ عن جماعات يهوديّة متطرّفة تسعى إلى القيام بهجمات في هذا المسجد المبارك وإلحاق الأذى بالمصلين والمسلمين، وأضاف أنه لا يستطيع الكشف عن تفاصيل هذه الهجمات. قال: إذا أوصى جهاز الاستخبارات العسكرية باعتقال المتطرّفين فسيعمل على اعتقالهم.
إذًا فخيوط المؤامرة وتفاصيلها ومن يقف وراءها ومن هم أبطالها أصبحت معلومة لدى الحكومة الإسرائيلية، دون أن تقوم بأي فعل ضدّ هذه الجماعات، إن كانت جادّة بعدم إراقة المزيد من الدماء، وإن كانت جادة بعدم تفجير الأوضاع في المنطقة. إن هذا لشيء عجاب، وهو في غاية الاستغراب، واستخفاف ما بعده استخفاف بالأمة الإسلامية في أرجاء المعمورة.
أيها المسلمون، هذه التحذيرات تترك عدّة تساؤلات: هل هي لإعطاء الضوء الأخضر أمام الجماعات اليهوديّة المتطرّفة للاعتداء على المسجد الأقصى والمساس بالمصلّين بين يدي الله؟! هل هي لجسّ نبض الشارع الإسلامي على الصّعيدين الرسميّ والشعبي؟! هل هي لتخويف المسلمين وإرهابهم ومنعهم من التواجد في المسجد الأقصى؟!
أيها المسلمون في رحاب المسجد الأقصى، ومن منبر الفاتح صلاح الدين نحمِّل الحكومة الإسرائيلية ما يجري وما سيجري داخل المسجد الأقصى. فالسماح لليهود بالدخول والتجوّل في ساحات المسجد الأقصى وعلى صحن قبّة الصخرة المشرّفة وحول أسوارة وبحماية رجال الشرطة وحرس الحدود تحت ذريعة السياحة قد أعطى الفرصة للمتربصين بالمسجد من التخطيط والترتيب والمؤامرة، وكيف يتم تنفيذ المخطط الإجرامي لا سمح الله.
عباد الله، إن الحركة الصهيونية لم تخف أطماعها بالسيطرة على منطقة المسجد الأقصى، بتحقيق الحلم المزعوم بإقامة ما يسمّى الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى وفق المسلسل التالي:
أولاً: بعد حرب عام 67 بأيام قليلة قامت جرافات إسرائيلية بإزالة حي المغاربة الإسلامي الملاصق للجهة الجنوبية الغربية من المسجد بما فيه من مبان وعمائر ومساجد، تعود للأوقاف الإسلامية ساحة البراق، أو ما تسميه ساحة المبكى.
ثانيا: جريمة إحراق المسجد الأقصى في عام 69 والتي تصادف هذا الشهر في الحادي والعشرين من شهر آب، حيث أتى الحريق على منبر السلطان الأكبر صلاح الدين، والذي لم يتم إيجاد البديل عنه حتى يومنا هذا.
ثالثا: القيام بالحفريات الإسرائيلية تحت المسجد الأقصى، وكان أخطرها التي وصلت تحت سبيل"قايتباي" من الجهة الغربية للمسجد في عام 79، وقام المسلمون بردمه وإغلاقه في ذلك الوقت.
رابعا: استمرار المحاولات من جماعة ما يسمّى "أمناء جبل الهيكل" بدخول المسجد لإقامة الصلاة فيه.
خامسا: في نيسان عام 82 أطلق أحد الجنود الإسرائيليين النار على المصلين، في صحن الصخرة المشرفة، أدت إلى استشهاد اثنين من المصلين بينهم حارس، وجرح ستّ مصلين. الصحف الإسرائيلية ووسائل إعلامهم آنذاك أفادت أن الجندي الإسرائيلي معتوه مجنون، فالعجب العجاب: لا يقوم بالاعتداء على الأقصى إلا المجانين.
سادسا: في عام 84 تم اكتشاف مؤامرة خطيرة من تنظيم سري خطّط لنسف المسجد الأقصى لولا رعاية الله ثم يقظة حراس المسجد.
سابعا: في اليوم الثامن من تشرين الأول عام 90 حدثت المجزرة الإرهابية واستشهد فيها ما يزيد عن عشرين شهيدا، وأكثر من ألف جريح.
ثامنا: في أيلول عام 96 تم اكتشاف شقّ النفق من ساحة البراق غلى ساحة العمرية، وقد أعقب ذلك مواجهات عنيفة على امتداد الأرض الفلسطينية، أدت إلى استشهاد 86 شهيد ومئات الجرحى.
تاسعا: وفي الثامن والعشرين من أيلول عام ألفين اندلعت انتفاضة الأقصى إثر قيام رئيس وزراء إسرائيل الحالي بدخول المسجد الأقصى بحماية مئات الجنود الإسرائيليين، هذه الانتفاضة لا تزال تداعياتها وآلامها تفتك بشعبنا المرابط، فقد استشهد حتى الآن قرابة أربعة آلاف شهيد، وأصيب ما يزيد عن خمسين ألف جريح، وعشرات الآلاف من السجناء والشرفاء، وقرابة ألف منزل تم تدميرها وإزالتها.
عاشرا: منع السلطات الإسرائيلية حتى اليوم دائرة الأوقاف الإسلامية من قيامها بمهامها من أعمال الترميم والتبليط والصيانة، وحرمانها من إجراء أي تصليحات داخل المسجد.
والأنكر من ذلك أن المتطرفين اليهود طالبوا المحكمة العليا الإسرائيلية بإصدار قرار منع المسلمين مِن دفن موتاهم في مقبرة "باب الرحمة"، هذه المقبرة التي تجمع رفاتَ الصحابة الأبرار والشهداء الأخيار وأهل العلم والصلاح من أبناء المسلمين والمجاهدين عبر القرون الماضية أمثال: عبادة بن الصامت وشداد بن أوس رضي الله عنهم.
أيها المسلمون، هذا غيض من فيض من الجرائم المحمومة ضدّ المسجد الأقصى. إضافة إلى ذلك حرمان المسلمين من أبناء الضفة الغريبة وقطاع غزة من الدخول إلى القدس والوصول إلى المسجد لأداء الصلوات فيه.
ولا يفوتني من أن أشير إلى ما يتعرض إليه السجناء من ممارسات قمعية ووحشية، حتى أبناء القدس الشريف يزيدون الطين بلّة، فيقومون بفتح محلاتهم، وتستمر عمليات البيع والشراء خلال أداء صلاة الجمعة وخاصة أثناء الخطبة.
فالواجب عليكم ـ يا أبناء بيت المقدس ـ لا بد أن يبقى طابع المدينة المقدسة موجودا لدى المسلمين، فأنتم من شرّفكم الله بالسكن حول بيته، وحافظوا عليه وعلى عمارته، ولا تكونوا أول كافر به، واتقوا الله في دينكم ومسجدكم.
أيها المسلمون، أين ما يسمّى منظمة المؤتمر الإسلامي؟! أين ما يسمى لجنة القدس؟! أين ما يسمى جامعة الدول العربية؟! ماذا تنتظر أمتنا الإسلامية إزاء هذه التحذيرات والتلميحات من خطر وشيك يحيط ويحاك بالمسجد الأقصى؟!
أيها المسلمون، أيها الحكام والقادة، أفيقوا من سباتكم فإن الله لن يرحمكم، وإن غضب الله سينزل عليكم إن لم تتحركوا وتوقفوا هذا العدوان، عودوا إلى رشدكم قبل فوات الأوان، وعندئذ لات ساعة ندم ولا حين مناص. وحّدوا صفوفكم قبل أن يجرفكم تيار التطرف من أعدائكم.
وأما أنتم يا أبناء صلاح الدين، المطلوب منكم التواجد في هذا المسجد المبارك، شدوا الرحال إليه دائما، وليس في أيام الجمعة فقط، وليس في شهر رمضان فحسب. وقد ورد في بعض الأقوال أن من أتى هذا المسجد وصلى فيه وتصدق بما قل أو كثر ثم دعا الله تعالى استجيب له الدعاء وكشف الله عن حزنه وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وإن سأل الله الشهاده أعطاه إياها.
وتذكروا ـ أيها المسلمون ـ أن مسجدكم ليس فيه موضع شبر إلا وقد صلى فيه نبيّ مرسل، أو قام عليه ملك مقرب، وأن نبيكم صلى فيه بالأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين، فلولا أنكم ممن اختاره الله من عباده واصطفاكم من سكان بلاده لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار، ولا مباريكم في شرفها مبار، فطوبى لكم بهذه النعمة التي ليس بعدها نعمة.
فتمسّكوا ـ أيها المسلمون ـ بهذا الفضل الكبير، وبيعوا أنفسكم في رضا الله وعبادته إذ جعلكم من خيار عباده، وإياكم أن يستزلّكم الشيطان وأن يتخاذلكم الطغيان.
فاتقوا الله يا عباد الله، واحفظوا الله يحفظكم، وانصروا الله ينصركم، واذكروا الله يذكركم، واشكروا الله يزدكم ويشكركم.
الله أكبر، فتح الله ونصر، غلب الله وقهر، أذل الله من كفر.
عباد الله، أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره والازدجار بزواجره، وأيدنا وإياكم بنصر من عنده، إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].
(1/3328)
ظاهرة انحراف الشباب
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الأبناء, الفتن, قضايا المجتمع
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
27/6/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الشباب. 2- خطورة انحراف الشباب. 3- سلامة جيل الصحابة من الانحراف الفكري. 4- موقف الصحابة من الفتن. 5- الانحراف الخلقي. 6- دور الأسرة في تربية النشء. 7- ضرورة محاربة الفقر. 8- دور المدرسة في إعداد الشباب. 9- الدين أعظم حصانة. 10- دور المعلم ورسالته. 11- أهمية الرفقة. 12- خطورة الفراغ. 13- تأثير الفضائيات على الشباب. 14- وسائل علاج الانحراف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوَى الله، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يُعتَبر الشبابُ ثروةَ الأمّة الغاليةَ وذخرَها الثمين، يكون خيرًا ونعمةً حين يُستَثمر في الخير والفضيلةِ والبناء، ويغدو ضررًا مستطيرًا وشرًّا وبيلاً حين يفترسه الشرُّ والفساد.
الانحرافُ في مرحلة الشّباب خطيرٌ ومخوِّف، فمنحرفُ اليوم هو مجرمُ الغدِ ما لم تتداركه عنايةُ الله، وعلى قَدرِ الرعاية بالشبابِ والعنايةِ بشؤونهم يتحدَّد مصيرُ الأمّة والمجتمع.
إنّ انحرافَ الشباب من أعظم المسائلِ المطروحة اليومَ وأهمِّ القضايا التي تُقلِق الآباءَ والمربِّين.
تتملّك بعضَ كتّابنا ومفكِّرينا العاطفة وتقودهم السطحيّة أحيانًا في التعامُل مع ظاهرةِ الانحراف، فنظلّ نلوك المشكلةَ ونفجِّر جراحَها ونردِّد آهاتِها مرّةً وثانيةً وثالثةً دونَ طائل، والعلاجُ الناجِع إعمالُ العقل وإمعانُ النّظر واستشراف المستقبل بتحليل الظاهرة ودراسةِ أسبابها والعَمَل على الوقاية منها بموضوعيّةٍ ومنهجيّة على أساسٍ من الدين والشرع.
ليس غريبًا أن يهتمَّ المختصّون بظاهرةِ الانحراف في أوساطِ الشباب لتجفيف منابِعه واجتثاثِ جذوره؛ لأنّ الشبابَ أملُ الأمّة وعدّة المستقبل وذخيرةُ المجتمَع والعَصَبُ الفعَّال في حياةِ الأمم.
انحرافُ الشّباب ظاهرةٌ عامّة تظهَر في الأفق في كلِّ بلد، وتزدادُ زاويةُ الانحراف اتِّساعًا حين تجدُ نفسًا بلا حصانةٍ وفكرًا بلا مناعة وشخصيّةً بلا تربيّة وطاعة.
الشباب كغيرِه من الناس يخطئون ويصيبون، قال رسول الله : ((كلّ ابن آدم خطّاء، وخير الخطائين التوّابون)) أخرجه الترمذي [1] ، إلاّ أنّ هذه الأمّةَ التي كتب الله لها الخيريّةَ بين الأمَم لا ترضى لشبابها إلاّ أن يكونوا على الأرض سادةً وفي الأخلاق قادَة، ولقد سجَّل تاريخ أمّتِنا منذ فجرِ الإسلام حتى يومنا نماذجَ فذّةً لشبابٍ تمسَّك بالإيمان الصحيح والعمل القويم، والتزَم منهَجَ الله وشرعَه، أسعدَ أمّتَه بقوله، وقوّى أركانَ مجتمعه بجميل فِعالة وكريم خصاله، ممّا يبشِّر بخير عميم، وهم حجّةُ الله على غيرهم.
وفي عصرِنا تنوّعت مسالكُ الشبُهات وتأجَّجت نوازِع الشهوات، وغدَا شبابُنا معرَّضًا لسهامٍ مسمومةٍ ورماحِ غزوٍ مأفونة، ذاق مرارَتها المجتمَع في غلوٍّ وتكفير وانحلالٍ خُلُقيٍّ مقيت.
في ميدانِ الأفكار المنحرفةِ والفِرَق والمِلَل الباطِلة لم يتلوّث مجتمعُ الرعيل الأوّل جيل الصحابة بقاذوراتها، فقد كان تحصينُ الرسولِ لهذا الجيل قويًّا. خرج الرّسول على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، هذا ينزِع آيةً، وهذا ينزع آيةً، كأنما فُقِئ في وجهه حَبُّ الرمّان فقال: ((بهذا أُمِرتم؟!)) أو ((بهذا بُعِثتم أن تضربوا كتابَ الله بعضَه ببعض؟! إنما ضلّت الأمم قبلكم في مثل هذا، إنكم لستُم ممّا ها هنا في شيء، انظروا الذي أُمِرتُم به فاعملوا به، والذي نُهيتم عنه فانتهوا)) أخرجه أحمد [2]. وغضِب رسول الله غضبًا شديدًا عندما وقف متعالِم جاهلٌ مغرور بين يديه يعترِض عليه في حُكمه في الغنائم ويقول: اعدِل يا محمّد، فيقول له الرسول : ((ويحَكَ، ومن يعدِل إذا لم أعدِل؟!)) فلما ولّى قال الرسول : ((دعه، فإنّ له أصحابًا يحقِر أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم وصيامَه مع صيامهم، يقرؤون القرآنَ لا يجاوِز تراقيَهم، يمرقون من الإسلامِ كما يمرق السّهمُ من الرميّة)) أخرجه مسلم [3].
تيقّظ الصحابةُ للفِتن المدلهمّة، أغلقوا منافِذها، ووقفوا منها موقفًا منهجيًّا حازمًا، فهذا الخليفة الراشد عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه يضربُ صبيغًا بعراجينِ النخل على رأسِه عندما رآه يبحَث عن المعضلات والمشكِلات في الكتاب والسنة [4] ، وتشدّدوا رضي الله عنهم في روايةِ السنة، نهوا عن عضلِ المسائل والتكلُّف في السؤال، إلى غير ذلك من القواعِدِ التي حفِظت على الصحابة دينَهم.
ومنَ الانحرافِ ـ عبادَ الله ـ ما يهدِّد الأخلاقَ ويحطِّم القيَمَ ويشكِّل جريمةً شائِنة وخطيئةً متعمَّدَة وأضرارًا جسيمةً بنظام المجتمع وسلامَتِه، خاصّة إذا كان مقرونًا باستهتارٍ أو إصرارٍ أو كان يحمِل نشرَ صُوَر ارتكاب معصيةٍ في مجاهرةٍ على رؤوس الأشهاد بكبيرةٍ توعَّد الله عليها بالعذاب الأليم.
إنَّ سلامةَ القاعدَةِ الأخلاقية في حياةِ الأمّة سبيلُ استقرارها ومناطُ قوَّتها، وإذا انحرفَ سلوكُ الأفراد وانفَجَر بركانُ الشهواتِ وسيطرت النزوات أشرفتِ الأمّة على الهلاك وآذنَت بالزوال، قال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].
الأسرةُ هي المحضِن الأبرز لإعداد الشبابِ وبناء الشخصية، ومنها يصدُر الخيرُ أو الشرّ، ومنها ينجُم الانحرافُ أو الصلاح.
تفقِد الأسرةُ دورَها وتضيِّع رسالتها إذا انصرَف الآباءُ عن أُسَرهم وكان همُّهم الأكبر توفيرَ مادّة الكسب مع ترك الحبلِ على الغارب للأولادِ والتقصيرِ في تربيتهم وعدم تخصيص وقتٍ لهم يمارسون فيه التوجيه والرعاية. يختزل كثيرٌ من الآباء علاقتَه بأبنائه ومسؤوليّته في أسرتِه في حساباتٍ مادّيّة لا تتجاوز حاجاتِ الأولاد من أكلٍ وشُرب وكِسوةٍ وترفيه، أما تربيةُ الأخلاق وتهذيبُ السلوك وبناءُ الشخصية فحظُّها أنها في ذيلِ قائمة المسؤوليات. ولا يشكُّ عاقِلٌ أنّ الآباءَ حين يمارسون التربيةَ الصحيحة ويجعلونها أولى المهمّات في حياتهم يوفِّرون المناعةَ الكافيةَ ضدَّ الانحراف والوقايةَ من المصير الأليم، ويُسهمون في أمن المجتمع، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، وقال : ((والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤولٌ عن رعيَّته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولةٌ عن رعيتها)) أخرجه البخاري [5].
الأسرةُ في الإسلامِ مسؤولةٌ عن حمايةِ الشباب من الانحرافِ، ويتحمّل الوالدان النصيبَ الأوفرَ من جريرةِ الغلوّ في الدين أو التطرُّف في الخُلُق لقوله : ((كلّ مولودٍ يولَدُ على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانِه أو يمجِّسانه)) [6].
قد يُهيِّئ جوُّ الأسرةِ الملبَّد بالغيوم الانحرافَ، فالبيت الذي تعلو فيه أصوات النزاع وتحتدمُ في جنباته مظاهرُ الخُصومة والشقاق ليس مهيَّأً للتربية واستقرارِ النفوس، بل قد يهرب منسوبُو البيت من هذا الجوّ الملبَّد إلى مَن يُؤويهم، وقد يحتضنهم رفقاءُ سوءٍ وقُرَناء شرّ، وقد تُسهَّل له الطّرق ليصبحَ مجرمًا محترفًا، كيف لا وقد فَقَد الرعايةَ والنصحَ والتوجيهَ من أبويه، غاب عنه من يدلُّه على طريق الهدى والنّور.
الطلاق ظاهرةٌ اجتماعيّة خطيرة، تهدِم كيانَ المجتمعات ومِن الأسباب الرئيسةِ في انحراف الأولاد، خاصةً إذا اقترن بضَعف الوازع الدينيّ، وكلُّ خلافٍ يخلِّف خسائرَ واضحةً وآثارًا عميقة، بل هو طعنٌ في قلب المجتَمَع ونزيفٌ في جسده.
إنّ الولدَ الذي يهربُ من جحيم الطّلاق قد لا يجِد من ينصَح أو يردع، ولأقران السوءِ تزيينٌ ولأهل الفسادِ شِباك. والمجتمع مطالبٌ ـ خاصةً أولو الأحلام والنُّهى ـ بتحجيمِ هذه الظاهرة المؤلمة وتحصينِ المجتمع من آثارها المدمِّرة.
ومِن أسبابِ الانحرافِ وقوعُ بعضِ الأُسَر فريسةَ الفَقر، فيلجأُ بعضُ الأولاد إلى مغادَرَة البيت بحثًا عن أسبابِ الرّزق، ولجهلهم وقصورِ إدراكهم قد تتلقّفهم أيدي الشّرّ وقرناء السوء، فيسلكون بهم سُبُل الانحراف، وقد كان النبيّ يستعيذ من الفَقرِ فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الكفرِ والفقر)) [7].
وللوقايةُ من مشكلةِ الفقر وآثارها فرضَ الإسلام الزكاةَ وحثَّ على الصدقة، أحيى معانيَ التكافلِ الاجتماعيّ، دعا إلى تفقُّد الأيتام والفقراء والمساكين، ورتّب على ذلك أجرًا عظيمًا بقوله: ((أنا وكافلُ اليتيم في الجنّة هكذا)) وأشار بالسبابة والوسطى [8].
ومن التكافُل دعمُ الجمعيّات الخيريّة التي ترعى الأيتامَ والفقراءَ والمساكين، ولقد سَمت بلادُ الحرمين بأنموذجٍ فريد في منظومةٍ مباركةٍ تمثَّلت في هذه الجمعيّات الخيرية التي تناثر عِقدُها في أرجاء البلاد، وأصبحت رافدًا مُهِمًّا وشريكًا حقيقيًّا في التنمية البشريّة والاقتصاديّة، قاربت بين الفقراءِ والأغنياء، أسهمت في تقوية بنيانِ المجتمع، غمرته بمشاعرِ الرحمة والشفقة، كم أطعَمت من جائع، كم كَسَت من عارٍ، كم نفَّست من كَرب، كم فرّجت من عُسر، ولا يلمِز هذه الجمعياتِ المباركةَ التي شاع خيرها وعَمَّ فضلُها وطاب غرسُها ورعاها ولاةُ أمرنا، لا يلمزها إلا مغشوشُ النية ملوَّثُ الفِكر منهزِمُ النفس، قد جفّ نبْع الخيرِ من مشاعره وفُؤاده.
المدرسةُ ـ عبادَ الله ـ هي المحضِن الثاني، ووظيفتُها ذاتُ تأثيرٍ عميق في إصلاحِ الشباب أو انحِرافهم، تحمِل مِعوَلَ الهدم أو مِعوَلَ البناء، وأُسُّ المدرسة وأساسُها مناهِجُ التربية والتعلِيم، ولا ينكر عاقلٌ أن المرحلةَ تتطلَّب خاصةً مع تقارُب أطراف العالم وشيوع الأفكار الضالّة والشهواتِ العارمة، يتطلَّب الأمرُ تكثيفَ المناهجِ الشرعية لتكونَ حصانةً لقلبِ الشباب وحمايةً لفِكرِهم من غُلوٍّ مَقيت أو فسوقٍ مُمِيت.
إنّ الدينَ أعظم حصانةٍ للشّباب من كلِّ انحراف، وقراءةُ التاريخ تُجلِّي أنّ ظهورَ الفِرَق وبروز الانحراف وشيوعَ الجريمة لم تنَل حظَّها في المجتمعات ولم تفعَل فِعلَها في القلوبِ والعقول إلاّ على فترةٍ من الدّعوة واندراسٍ من الشريعة، ولا إخالُ منصِفًا يُنكر هذا، وبالتالي يحيي سُنَنًا وعبرة، قال الله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].
وفي غِياب الدينِ الصحيح والإيمان والقويم والمنهَج الوسَط يكون الشبابُ معرَّضًا للانحراف، قد يقَع فريسَةَ الإجرام أو الإرهاب أو التطرّف أو الارتماء في أحضانِ الأعداء أو الوقوع في مصائد المنحَرفين أو يسيطِر عليه الضّياع حتى يُصبِحَ كالسُّمِّ في جسَد الأمّة والمِعوَل في كيانها، يُحطِّم مستقبلَها ومُستقبَله، ويهدم كيانَها وكيانَه.
المعلِّم مِحوَرُ التربية والتعليم، وبه نقاوِم الانحرافَ ونحصِّن الشباب، إذا كان مستقيمًا في سلوكه، صالحًا في خُلُقه، قويًّا في إيمانه، متقِنًا لعمله، يحمِل همَّ أمته ومجتمَعه، وتلك أهمّ سماتِ المعلِّم في المجتمع المسلم.
رسالةُ المعلِّم تغذيةُ الإيمان، توطيدُ الوازعَ الخُلقي، إحياءُ رَقابة الله في نفوس النشء.
الرُفقةُ الصالحة لها أثرٌ في اكتساب القيمَ والسلوك، قال : ((المرءُ على دين خليله، فلينظر أحدُكم من يُخالِل)) [9]. وقد يوقع القرينُ السيّئ في المهلكات، أمّا القرين الصالح [فسببٌ] من أسباب الاستقامة والفضيلة.
الفراغُ ـ عبادَ الله ـ من أسبابِ الانحراف، والوقتُ إذا لم يُوظَّف توظيفًا سليمًا فإنّه ينقلب بآثاره السيئة على صاحبه، ويكون أكثرَ استعدادًا للانحراف، ويجب أن يتبيّن الوالدان أينَ وكيف تُقضى ساعاتُ الفراغ.
في الفراغِ قد تتسَلَّل فتتمكَّن فكرةٌ منحرِفة أو نَزوة عابِرة أو شهوةٌ جامحة، فتقع الواقعة، ولقد أسهمتِ المؤسَّساتُ التربويّة والدورات الشرعيّة وحِلَق القرآن في احتضان عقولِ وأفئدةِ جمعٍ من الشباب، ولا يزال الحالُ يتطلَّبُ توفيرَ محاضن تربويّة آمنةٍ أخرى واستيعاب وإصلاح ما تيسّر من شبابٍ جعل الغُلُوّ طريقًا والتكفيرَ منهجًا، وشبابٍ رضيَ بالعيش على هامش الحياة، فافترش الأرصفةَ وتسكَّع في الأسواق، وشبابٍ وقع فريسةَ الخمور والمخدِّرات، قال عليّ رضي الله عنه: (من أمضى يومًا من عمره في غير حقٍّ قضاه أو فرضٍ أدّاه أو مجدٍ بناه أو حمدٍ حصَّله أو خير سمِعه أو عِلمٍ اقتبسه فقد عَقَّ يومَه وظلَم نفسه) [10].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة (2499) من طريق علي بن مسعدة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه، وأخرجه أحمد أيضا (3/198)، وابن ماجه في الزهد (4251)، والدارمي في الرقاق (2727)، قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة"، وصححه الحاكم (4/244)، وتعقبه الذهبي بقوله: "علي لين"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4515).
[2] مسند أحمد (2/178، 181، 195) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو عند ابن ماجه في مقدمة سننه (85) مختصرا، وصحح إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1/14)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (69)، وأصل الحديث في مسلم: كتاب العلم (2666) من طريق آخر عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وفي الباب عن أبي هريرة وعمر وابن مسعود وأنس وعائشة رضي الله عنهم.
[3] صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1064) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وهو أيضا عند رواه البخاري في الأدب (6163).
[4] قصة ضرب عمر رضي الله عنه لصبيغ بن عسل أخرجها عبد الرزاق في المصنف (11/426)، والدارمي في مقدمة سننه (144، 148)، وأخرج الطبري في تفسيره (9/170) عن ابن عباس قال: (أتدرون ما مثل هذا؟ مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب حتى سالت الدماء على عقبيه أو على رجليه)، قال ابن كثير في تفسيره (2/283): "وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس"، وقال في موضع آخر (4/233): "قصة صبيغ بن عسل مشهورة مع عمر رضي الله عنه، وإنما ضربه لأنه ظهر له من أمره فيما يسأل تعنّتا وعنادا. والله أعلم ". وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (4/14-15).
[5] صحيح البخاري: كتاب الجمعة (893) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم أيضا في الإمارة (1829).
[6] أخرجه البخاري في كتاب الجنائز (1358، 1359، 1385)، ومسلم في كتاب القدر (2658) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه أحمد (5/36، 39، 44)، والنسائي في الاستعاذة (5465)، والبزار (3675) عن أبي بكرة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (747)، وابن حبان (1028)، والحاكم (99، 927)، وهو في صحيح سنن النسائي (5048).
[8] أخرجه البخاري في الأدب (6005) عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
[9] أخرجه أحمد (2/303)، وأبو داود في كتاب الأدب، باب: من يؤمر أن يجالس (4833)، والترمذي في كتاب الزهد، باب: ما جاء في أخذ المال بحقه (2378) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (4/188)، ونقل التبريزي في المشكاة (3/1397) عن النووي أنه قال: "إسناده صحيح"، وحسنه الألباني في تعليقه على كتاب الإيمان لابن تيمية (ص60).
[10] انظر: فيض القدير (6/288).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي خلَق فسوّى، والذي قدَّر فهَدى، أحمده سبحانه وأشكره على نعمٍ لا تُعَدّ ولا تحصَى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، له الأسماء الحسنى والصفاتُ العلى، وأشهد أن سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله المبعوث بالنور والهدى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيلَه واقتفى.
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي سبيلُ النجاة وطريق الفلاح، وبها السعادة في الدنيا والأخرى.
العالمَ اليومَ يعيشُ حالةً من الإثارةِ الشهوانية العارِمة التي تُلهِب مشاعِرَ الشباب، ومن أبرز سُبُل الانحراف ومن أبرز حبائلِ شياطين الإنس هذه الفضائياتُ التي يزيِّنُ مُعظمها الانحرافَ ويجرُّ إلى الضلالة، لقد تراجَع دورُ مؤسّسات التربية أمام هذه الفضائياتِ التي أطلقت أبواقَها وسخّرت جهودَها في فتح أبوابِ الانحراف من تلويثِ العقول وإفساد القلوبِ ونزع جلبابِ الحياء، سهَّلت الغزوَ الفكريَّ ونَقلت ثقافة وأخلاق بلدانٍ لا تمثِّل الإسلامَ ولا تدين به، شجَّعت على الفسقِ والسّفور، جرَّأت على الجريمة والانحراف.
وإذا أردنا تقليصَ زاوية الانحرافِ فلا بدّ من البَحث عن حلولٍ لهذا الكابوسِ الجاثم على صدورِنا القابِع في دورنا المزَلزِل لأخلاقنا والتصدِّي لسُمومه وإبطال مفعوله.
مِن وسائل علاج الانحراف القيامُ بالدعوة إلى الله بالحكمة وبالموعظةِ الحسنة، قيامُ المسجد برسالته وإحياء دورِه في التوجيه والإصلاح، قيامُ الدّعاة والمربِّين بواجبهم وتحمُّل مسؤوليّتهم. أصحابُ الفكر وحملةُ الأقلام ندعوهم للإسهام في مقاومةِ مظاهرِ الانحراف بدراستِها ووضعِ الحلول لها، بل كلُّ فردٍ منّا يُعتبَر حارسًا أمينًا ومسؤولاً عن حمايةِ أمّته من الفساد والانحراف، محافظًا على نقاء وبقاءِ مجتمعه، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
يتحقّق هذا في التواصي بالحقّ والتواصي بالصّبر والقيام بواجب الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر الذي هو صمّام أمنِ المجتمعات وسبيل نجاتها، قال الله تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر].
ألا وصلّوا ـ عباد الله ـ على رسولِ الهدى، فقد أمَرَكم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلِّم على عبدك ورسولِك محمّد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/3329)
شواطئ البكائين
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
أعمال القلوب, مخلوقات الله
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الضحك والبكاء صفتان يعبر البشر بهما عن عواطفهما. 2- أنواع البكائين بحسب ما يبكون عليه. 3- البكاؤون من خشية الله. 4- مدح العين الباكية خشية لله. 5- بكاء رسول الله. 6- بكاء السلف. 7- ذم الضحك وكثرته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل وكثرة حمده على آلائه إليكم ونعمائه عليكم وبلائه لديكم، فكم خصّكم بنعمة وأزال عنكم من نقمة وتدارككم برحمة، أعوزتم له فستركم، وتعرضتم لأخذه فأمهلكم، وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد:38].
أيها الناس، قال الله عز وجل في محكم التنزيل: وَفِى ?لأَرْضِ ءايَـ?تٌ لّلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ [الذاريات:20، 21]، وقال تعالى: سَنُرِيهِمْ ءايَـ?تِنَا فِى ?لأَفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى? يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ?لْحَقُّ [فصلت:53].
والآية جدّ آية، والعظمة جدّ عظمة، ما أودعه الله عز وجل في بني البشر من النعمتين العظيمتين، ألا وهما نعمة الضحك والبكاء، ضحك وبكاء أودعهما الله النفس الإنسانية والأمة البشرية، وَأَنَّ إِلَى? رَبّكَ ?لْمُنتَهَى? وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى? [النجم:42، 43]. ضحكٌ أودعه الله النفس البشرية، لتعبّر به عن فرحها المرغوب ورضاها به وأنسها بما يسّر، وبكاء أُودِعَتْه النفس لتعبر به عن الخشية والفَرَق والخوف والوجل، ولربما هجم السرور على النفس فكان من فرط ما قد سرّها أبكاها، فهي تبكي في الأفراح والأحزان.
إنّ الله عز وجل أنشأ للإنسان دواعي الضحك ودواعي البكاء، وجعلها وفق أسرار أودعها فيه، يضحك لهذا، ويبكي لذاك، وقد يضحك غدا مما أبكاه اليوم، ويبكي اليوم مما أضحكه بالأمس، في غير جنون ولا ذهول، إنما هي حالات جبلية خلقها الله فيه، وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ.
أيها المسلمون، أيها المسلم، أيتها المسلمة، إن الله عز وجل أنعم عليكم بنعمة البكاء لتشكروه عليها، إذ كيف يعيش من لا يبكي؟! كيف تتفاعل نفسه مع الأحداث والمواقف؟! بماذا يترجم عن الحزن والأسى؟! بماذا يعبر عن الخشية والخوف من الله جل وعلا؟! قال رسول الله : ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن نفس لا تشبع، ومن عين لا تدمع، ومن دعوة لا يستَجاب لها)) [1].
أيها الأحبة، البكاء قافلة ضخمة حطت ركائبها في سوق رحبة، ما ابتاع الناس منها فعلى ثلاثة أضرب:
فضرب من الناس اشتروا بكاء العشاق والمشغوفين، أصحاب الهوى والتيم، أهل الصبابة والغرام، الذين هربوا من الرق الذي خُلِقوا له، وبَلَوا أنفسَهم برقِّ الهوى والشيطان، فاشترى هؤلاء القوم هذا الضرب من البكاء شراء مفتقرا لشروط الصحّة، فابتاعوا بيعا فاسدا، ثم زادوا السقم علة والطين بِلَّة، حين أوقفوا هذه الدموع واحتبسوها في غير وجه شرعي، فبطل الوقف، وخسر الواقف، وهام الموقوف عليه، فما أعظمها شِقْوَةً! وما أوعرها هُوَّة!
فما في الأرض أشقى من محب وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكيا في كل حين مخافة فرقة أو لاشتياق
فتسخن عينه عند التلاقي وتسخن عينه عند الفراق
ويبكي إن نأوا شوقا إليهم ويبكي إن دنوا خوف الفراق
أعاذنا الله وإياكم من هذه الحال ومن حال أهل النار.
وضربٌ من الناس ابتاعوا بكاء أهل الحزن على مصائبهم ورزاياهم، وعلى هذا الضرب جلّ الناس، فاقتصروا على سلعة وافقت جِبِلّتهم التي جبلهم الله عليها، فأصبحوا لا لهم ولا عليهم.
وضرب ثالث اشتَروا بكاء الخشية من الله عز وجل، تلكم البضاعة التي زهد فيها معظم القوم إلا من رحم الله. آيات تتلى، وأحاديث تروى، ومواعظ تلقى، ولكن تدخل من اليمنى وتخرج من اليسرى، لا يخشع لها قلب، ولا تهتزّ لها نفس، ولا يسيل على أثرها دمع. اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع.
عباد الله، لقد أثنى الله جل وعلا في كتابه على البكّائين من خشية الله وفي طاعة الله، الأتقياء الأنقياء ذوي الحساسية المرهفة، الذين لا تسعفهم الكلمات للتعبير عما يخالج مشاعرهم من حب لله وتعظيم له، وخشية وإجلال، فتفيض عيونهم بالدموع، قربة إلى الله وزلفى لديه: إِنَّ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى? عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:107-109]، وقال تعالى: أُولَئِكَ ?لَّذِينَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ?لنَّبِيّيْنَ مِن ذُرّيَّةِ ءادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيَّةِ إِبْر?هِيمَ وَإِسْر?ءيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَ?جْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى? عَلَيْهِمْ ءايَـ?تُ ?لرَّحْمَـ?نِ خَرُّواْ سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58]، وقال تعالى: وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى ?لرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ?لدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ?لْحَق [المائدة:83]، وقال تعالى: أَفَمِنْ هَـ?ذَا ?لْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَـ?مِدُونَ فَ?سْجُدُواْ لِلَّهِ وَ?عْبُدُواْ [النجم:59-62].
ثبت عن النبي أنه أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءه عصابة من أصحابه، فقالوا: يا رسول الله احملنا، فقال لهم: ((والله، لا أجد ما أحملكم عليه)) ، فتولوا وهم يبكون، وعزّ عليهم أن يجلسوا عن الجهاد، ولا يجدون نفقة ولا محملا، فأنزل الله عز وجل: لَّيْسَ عَلَى ?لضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى? ?لْمَرْضَى? وَلاَ عَلَى ?لَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ?لْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلاَ عَلَى ?لَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ?لدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ [التوبة:91، 92] [2].
عباد الله، البكاء من خشية الله وصف شريف ومسعى حميد، به وصف الله أنبياءه والذين أوتوا العلم من عباده، وقد ذكر رسول الله من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((رجلا ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)) متفق عليه [3].
ويمتاز البكاء في الخلوة؛ لأن الخلوة مدعاة إلى قسوة القلب والجرأة على المعصية، فإذا ما جاهد الإنسان نفسه فيها واستشعر عظمة الله فاضت عيناه، فاستحق أن يكون تحت ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله. قال رسول الله : ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)) رواه الترمذي [4]. صدق رسول الله ، فلقد قال ذلك بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، قال ذلك وهو أتقى الناس لله، وأخشى الناس لله، وأكثر الناس بكاء من خشية الله.
ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنّ النبي قال له: ((اقرأ عليّ القرآن)) ، فقال: أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟! قال: ((إني أحب أن أسمعه من غيري)) ، فقرأ من سورة النساء حتى بلغ قول الله: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى? هَؤُلاء شَهِيدًا [النساء:41]، فقال رسول الله : ((حسبك)) ، فإذا عيناه تذرفان [5].
وقد ثبت عنه أنه كان إذا صلى سمِع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء، أي: كصوت القدر إذا اشتدّ غليانه. رواه أبو داود وأحمد والنسائي [6].
وثبت عنه أنه بكى على ابنه إبراهيم حينما رآه يجود بنفسه، فجعلت عيناه تذرفان الدموع، ثم قال: ((إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون)) رواه البخاري ومسلم [7].
إن هذه الدموع الزكية التي سالت من عينه تمثل إحساسا نبيلا ومشاركة أسيفة للمحزونين والمكروبين، وهي لا تتعارض أبدا مع كونه مثلا للشجاعة ورباطة الجأش والرضا بقضاء الله وقدره، ولكنه بكاء المصطفى الكريم في مواطن الرحمة والإشفاق، ومن لا يرحم لا يُرحم، مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح:29].
عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ ما النجاة؟ قال: ((أمسِك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)) رواه أحمد والنسائي [8].
أيها المسلمون، هذه حال النبي في بكائه من خشية الله، أخذها الصحابة رضوان الله عليهم، فقد روى الحاكم والبزار بسند حسن عن زيد بن أرقم قال: كنا مع أبي بكر بعد وفاة النبي فاستسقى، فقدم له قدح من عسل مشوب بماء، فلما قربه إلى فيه بكى وبكى، حتى أبكى من حوله، فما استطاعوا أن يسألوه عن سبب بكائه، فسكتوا وما سكت، ثم رفع القدح إلى فيه مرة أخرى، فلما قربه من فيه بكى وبكى، حتى أبكى من حوله، ثم سكتوا فسكت بعد ذلك، وبدأ يمسح الدموع من عينيه ، فقالوا: ما أبكاك يا خليفة رسول الله؟! قال: كنت مع رسول الله في مكان ليس معنا فيه أحد وهو يقول: ((إليكِ عني، إليك عني)) ، فقلت: يا رسول الله، من تخاطب وليس ها هنا أحد؟! قال : ((هذه الدنيا تمثّلت لي فقلت لها: إليكِ عني، فقالت: إن نجوتَ مني فلن ينجو مني من بعدك)) ، فخشيت من هذا [9].
أيها الأحبة، قام محمد بن المنكدر ذات ليلة فبكى، ثم اجتمع عليه أهله ليستعلموا عن سبب بكائه، فاستعجم لسانه، فدعوا أبا حازم، فلما دخل أبو حازم هدأ محمد بن المنكدر بعض الشيء، فسأله عن سبب بكائه فقال: تلوت قول الله جل وعلا: وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ?للَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47]، فبكى أبو حازم، وعاد محمد بن المنكدر إلى البكاء، فقالوا: أتينا بك لتخفّف عنه فزدته بكاء. وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ?للَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ.
كان الربيع بن خثيم يبكي بكاء شديدا، فلما رأت أمه ما يلقاه ولدها من البكاء والسهر نادته فقالت: يا بنيّ، لعلك قتلتَ قتيلا؟! فقال: نعم يا والدتي، قتلت قتيلا، فقالت: ومن هذا القتيل يا بني، نتحمل إلى أهله فيُعفوك؟ والله، لو علموا ما تلقى من البكاء والسهر لقد رحموك، فقال الربيع: يا والدتي هي نفسي، يا والدتي هي نفسي.
عباد الله، هذا بكاء السلف، وهذه دموع البكائين تسيل، ولسان حالهم يقول:
نزف البكاء دموع عينك فاستعر عينا لغيرك دمعها مدرار
من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عينا للدموع تعار
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنه لا بد من القلق والبكاء، إما في زاوية التعبّد والطاعة، أو في هاوية الطرد والإبعاد، فإما أن تحرق قلبك بنار الدمع على التقصير والشوق إلى لقاء العليّ القدير، وإلا فاعلم أن نار جهنم أشد حرا، فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [التوبة:82].
فانظر ـ يا عبد الله ـ إلى البكائين الخاشعين تراهم على شواطئ أنهار الدموع نزولاً، فلو سرت عن هواك خطوات لاحت لك الخيام.
اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
[1] أخرجه مسلم في الذكر (2722) من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه، وليس فيه: ((وعين لا تدمع)).
[2] أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (6/213) عن محمد بن كعب القرطي مرسلاً.
[3] صحيح البخاري (660)، صحيح مسلم (1031).
[4] صحيح، سنن الترمذي ح (1639) وقال: حديث حسن غريب.
[5] صحيح البخاري (5055)، صحيح مسلم (800).
[6] صحيح، أخرجه أحمد (4/25، 26)، والنسائي (1214).
[7] أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315).
[8] صحيح، أخرجه أحمد (4/148)، والترمذي (2406)، وقال: "حديث حسن".
[9] مستدرك الحاكم (4/309) وقال: "صحيح الإسناد"، وتعقبه الذهبي بقوله: "عبد الصمد تركه البخاري وغيره".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن هذا الدين وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، ولا يفهم من الحث على البكاء والتباكي خشيةً لله، لا يفهم منه الدعوة إلى الكدر، ولا إلى الرهبنة، ولا إلى ما يقوله أحدهم: "ما ضحكت منذ أربعين سنة"، فرسول الله إمام الأمة وقائد الملة كان يضحك، ولكنه لا يستجمع ضاحكا، ولا يفرط في الضحك، فقد ثبت عنه من حديث أبي هريرة أنه قال: ((لا تكثروا الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب)) رواه ابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد بسند جيد [1].
ولا يضحك ويقهقه ويرفس الأرض برجله ويستلقي على قفاه إلا الذي قسا قلبه وغفل عن الموت ونسي ما بعده.
وقد يغرق البعض في الضحك حتى إنه لا يلين قلبه ولا تبكي عينه، ولا يتأثر بشيء ولو وعظه لقمان أو تليت عليه آيات القرآن، يطرب لأصوات المظلومين وأنات المنكوبين، قد نزع الله من قلبه الرحمة، وجرده من الخوف والرجاء، جفت مآقيه عن الدموع، فاعتاض عنها شرارا يقذفه من عينيه، يضحك للمصيبة تنال أخاه، يقهقه سخرية من كل صاحب سنة، إذا مرّ بذي صلاح غمز، وإن ذكر عنده ذو علم لمز: إِنَّ ?لَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا ?نقَلَبُواْ إِلَى? أَهْلِهِمْ ?نقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَـ?فِظِينَ فَ?لْيَوْمَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنَ ?لْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى ?لأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوّبَ ?لْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُون [المطففين:29-36]. فهؤلاء ضحكوا هنا فبكوا هناك، وهؤلاء بكوا هنا وسيضحكون هناك، هَلْ جَزَاء ?لإِحْسَـ?نِ إِلاَّ ?لإِحْسَـ?نُ [الرحمن:60].
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية، فقد قال : ((من صلى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا)).
[1] صحيح، سنن ابن ماجه (4193).
(1/3330)
النهي عن أذية المسلمين
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, مساوئ الأخلاق
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
4/7/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الاقتداء بالسلف الصالح. 2- من صفات المؤمنين الصادقين. 3- من مقتضيات الأخوة. 4- قبح الأذية باللسان واليد. 5- فضل المراكز والمخيمات الصيفية. 6- ذم الخصومة في الباطل. 7- فضل الكلام الطيب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، واحذَروا أسبابَ سخَطه، فإنّه لا ملجأَ ولا منجى منه إلاَّ إليه، وأنيبوا إليه وتوكَّلوا عليه وأخلِصوا له العملَ تكن لكم العاقبةُ في الدنيا وفي الآخرة.
أيّها المسلمون، إنَّ في السَّير على خُطى سلفِ هذه الأمة وخيارها خيرَ مسلكٍ لبلوغِ الغاية من رضوانِ الله ونزولِ دار كرامتِه إلى جِوار أوليائه والصَّفوة من خلقه، وقد وجّه الله تعالى رسولَه المصطفى صلواتُ الله وسلامه عليه إلى انتهاجِ مناهجِ سلَفِه من أنبياء الله ورسلِه والاقتداء بهم فيما هداهم الله إليه من الحقّ بما أكرمهم به من البيِّنات والهدى فقال عزّ اسمه: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ [الأنعام:90].
وإنّ من أجملِ ما اتَّصف به الصَّفوة من أهل الإيمان كمالَ الحرصِ على سلوك سبيلِ الإحسان في كلّ دروبِه، والحذر من التردِّي في وَهدَة الإيذاء للمؤمنين والمؤمنات بأيّ لونٍ من ألوانه وفي أيِّ صورةٍ من صوَرِه، يحدوهم إلى ذلك ويحمِلهم عليه ذلك الأدبُ الرفيع والخُلُق السامي الذي ربَّاهم عليه ربُّهم الأعلى سبحانه حين بيَّن لهم أنّ الصلةَ بين المؤمنين هي صلةُ أخوّةٍ في الدين كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ الآية [الحجرات:10].
الأخوّةُ تعني التراحُمَ والتوادَّ والتعاطُف والقيامَ بالحقوق كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن عبد الله بن عمرَ رضي الله عنهما عن النبيِّ أنه قال: ((المسلمُ أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيهِ كان الله في حاجتِه، ومن فرَّج عن مسلم كربةً فرّج الله عنه بها كربةً من كرَب يوم القيامة، ومن ستَر مسلِمًا ستره الله يوم القيامة)) [1]. الأخوّةُ تعني أيضًا فيما تَعني كفَّ الأذى، فالمسلم حقًّا من كمُل إسلامه بسلامةِ النّاس من إيذاءِ لسانه ويده وما في حكمهما كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاريّ رحمه الله في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسولِ الله أنّه قال: ((المسلم من سلِم المسلمون من لسانِه ويدِه، والمهاجرُ من هجَر ما نهى الله عنه)) [2]. وإذا كان الإيذاءُ باللسان واليد دروبًا شتى وألوانًا متعدِّدة لا تكاد تُحصَر، فإنّ من أقبحِ صوَرِ الإيذاء ما اجتمع فيه اللسانُ واليد معًا، كمن يصِف المؤمنَ بما ليس فيه من صفاتِ السوء، يقول ذلك بلسانِه ويخطُّه بيمينه ليستحكِم الأذى وليشتدَّ وقعه وليصعُب دفعه، ولذا جاء الوعيد الصادق والتهديد الشديد الزاجِر لكلِّ من آذى مؤمنًا فقال فيه ما ليس فيه، وذلك فيما أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داودَ في سننه والحاكم في مستدركِه بإسنادٍ صحيح عن عبد الله بن عمرَ رضي الله عنهما عن رسولِ الله أنّه قال فذكر الحديث وفيه قوله: ((ومن قال في مؤمنٍ ما ليس فيه حُبس في رَدغَة الخبال حتى يخرُج مما قال)) [3]. ورَدغَة الخبالِ بإسكان الدّال وفتحِها ـ يا عبادَ الله ـ هي عُصارة أهلِ النار، وخُروجُه ممّا قال هو بالتّوبةِ عنه وبأن يستحلَّ ممّن قال فيه تلك المقولَة.
وإنَّ الإيذاءَ كما يقع على آحاد الناس وأفرادهم فإنه يقع أيضًا على المجموعِ منهم كذلك، غيرَ أنّ الإيذاءَ للمجموع أشدُّ وقعًا وأعظَم ضَررًا لعمومِه وشمولِ التجنِّي فيه.
ومِن ذلك ـ يا عبادَ الله ـ هذا الهجومُ السافر والاتِّهام الجائر الذي تسلَّط سهامُه على المراكز والمخيَّمات الصيفيّة التي دأَبت بعضُ الجهاتِ الرسمية في الدولة وفَّقها الله على إقامتِها كلَّ عام منذ أمَدٍ بعيد في برامجَ مفيدةٍ منوّعة معلَنَة، نفع الله بها شبابَنا وغيرَهم، وكانت لهم من العوامِل على إشغال النّفس بالحقّ إن شاء الله.
عبادَ الله، إنَّ من أعظم أسبابِ الإيذاء المفضيةِ إليه اللَّددَ في الخصومة، ولذا كان الألدُّ الخصِم أبغضَ الرجال إلى الله كما جاءَ في الحديث الصّحيح عن رسولِ الهدَى [4] ، وجاء التحذيرُ الشديد لمن خاصَم في باطلٍ وهو يعلَم وذلك في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داودَ في سننه بإسنادٍ صحيح عن عبد الله بن عمرَ رضي الله عنهما أنّ رسولَ الله قال فذكر الحديث وفيه قوله: ((ومن خاصم في باطلٍ وهو يعلَم لم يزَل في سخَط الله حتى ينزِع)) [5] ، أي: حتى يترُكَ ذلك الذي وقَع فيه، ولذا يتعيَّن على من جُهِل عليه أن لا يقابلَ ذلك الجهلَ بمثلِه طاعةً لله تعالى، وحذرًا من الوقوعِ فيما لا يحسُن ولا يجمُل بالمؤمن الذي وصفهُ رسول الله بقولِه في الحديثِ الذي أخرجه أحمدُ في مسنده والحاكم في مستدركه بإسنادٍ صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسولَ الله قال: ((ليس المؤمنُ بالطّعّان ولا اللّعّان والفاحشِ ولا البذيء)) [6] ، ولأنّك كما قال بعض السلف رضوان الله عليهم أجمعين: لن تعاقبَ من عصا الله فيك بشيءٍ خيرٍ من أن تطيعَ الله فيه. وبِذا يكون معَك من الله نصيرٌ ما دمتَ على ذلك، وحريٌّ بمن لا يقابل الإساءةَ بمثلها ومن لا يدفع الظلمَ بظلمٍ مثلِه أن يحظى بمعيّة ربِّه وتأييده، إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38].
فاتقوا الله عبادَ الله، واسلكوا مسالكَ الصّفوةِ من عباد الله في سلوكِ سبيل الإحسان والتجافي عن سُبُل الإيذاء في كلِّ صوَرِه تكونوا من المفلحين الفائزين في جنّات النعيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].
نفعني الله وإيّاكم بهديِ كتابِه وبسنّة نبيّه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب المظالم (2442)، صحيح مسلم: كتاب البر (2580).
[2] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (10). وأخرجه مسلم في الإيمان (40) مقتصرا على جزئه الأول.
[3] مسند أحمد (2/82)، سنن أبي داود: كتاب الأقضية (3597)، مستدرك الحاكم (2222)، وأخرجه أيضا أبو يعلى في معجمه (84)، والطبراني في الكبير (12/388) والأوسط (6491)، وابن عدي في الكامل (2/388)، وأبو نعيم في الحلية (10/219)، والبيهقي في الكبرى (6/82، 8/332)، والخطيب في تاريخ بغداد (3/392)، وهو في السلسلة الصحيحة (437).
[4] رواه البخاري في كتاب المظالم (2457)، ومسلم في كتاب العلم (2668) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[5] مسند أحمد (2/82)، سنن أبي داود: كتاب الأقضية (3597)، وهو جزء من حديث ابن عمر المتقدّم.
[6] مسند أحمد (1/404)، مستدرك الحاكم (29/ 30، 31) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة (6/162)، والترمذي في كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في اللعنة (1977)، والبخاري في الأدب المفرد (312)، وأبو يعلى (5088)، والبيهقي في الكبرى (10/193)، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (192)، ورجح الدارقطني في العلل (5/92) وقفه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (320).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله الذي قدَّر فهدى، أحمده سبحانَه له الأسماء الحسنى والصِّفات العُلى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسولُه، وضع المعالمَ لطريق الهدَى، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا عبادَ الله، إنَّ في قول رسولِ الله في الحديث الذي أخرجَه الشيخان في صحيحيهما أن أبي هريرة وأبي شريحٍ رضي الله عنهما أنه صلوات الله وسلامه عليه قال: ((مَن كان يؤمِن بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمُت)) الحديث [1] فيه ما يقيم قواعدَ السلامةِ الاجتماعيّة ويُرسي أسُسَ الحياة السّعيدة الرشيدة، وفي هذا يقول بعضُ أهل العلم: إذا تكلَّم المرء فليقل خيرًا، وليعوِّد لسانَه الجميل من القول، فإنّ التعبيرَ الحسَن عمّا يجول في النّفس أدبٌ عالٍ أخذ الله به أهلَ الديانات جميعًا، وقد أوضَح القرآن أنّ القول الحسنَ من حقيقة الميثاق المأخوذِ على بني إسرائيلَ على عهدِ موسى عليه السلام: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ الآية [البقرة:38]، والكلامُ الطيِّب العَذب يجمُل مع الأصدقاءِ والأعداء جميعًا، وله ثمارُه الحلوةُ، فأمّا مع الأصدقاء فهو يحفَظ مودَّتهم ويستديم صداقَتَهم ويمنع كيدَ الشيطان أن يضعِف حبالهم ويُفسِد ذاتَ بينهم، وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53]. وأمّا حُسنُ الكلام مع الأعداء فهو يطفِئ خصومتَهم ويكسِر حدَّتهم، أو هو على الأقلّ يقِف تطوُّر الشرّ واستطارةَ شَررِه، وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34].
وفي تعويدِ النّاس لطفَ التعبيرِ مهما اختلفَت أحوالُهم يقول رسول الله : ((ما مِن شيءٍ أثقل في ميزانِ المؤمن يومَ القيامة من حُسن الخلق، وإن الله يبغِض الفاحِشَ البذيء)) أخرجه الترمذيّ بإسناد صحيح [2] ، بل إنّه يرى الحرمانَ مع الأدب أفضلَ من العطاء مع البذاء: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ [البقرة:263]. والكلامُ الطيِّب خصلةٌ تندرِج مع دروب ومظاهِر الفضلِ التي ترشِّح صاحبَها لرضوان الله وتكتُب له النعيمَ المقيم.
فاتقوا الله عباد الله، واذكروا على الدوام أنّ الله تعالى قد أمركم بالصلاةِ على البشير النّذير والسراج المنير، فقال سبحانه وتعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الأربعة...
[1] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6475) وكتاب الأدب (6135)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (47، 48).
[2] سنن الترمذي: كتاب البر (2002) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وأخرجه دون الجملة الأخيرة أحمد (6/448)، وأبو داود في الأدب (4799)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (481)، وهو في السلسلة الصحيحة (876).
(1/3331)
منهُ آياتٌ مُحكَمات
العلم والدعوة والجهاد, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, القرآن والتفسير
محمد بن عدنان السمان
الرياض
13/6/1425
جامع الجهيمي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة الرجوع إلى كتاب الله تعالى. 2- وقفة مع آية: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ. 3- أقوال أهل العلم في تفسير الآية. 4- حرص الشيطان على إضلال المنتسبين للصلاح. 5- بداية افتراق الأمة. 6- إبطال استدلال الفئة الضالّة بحديث: ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)).
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن تقواه سبحانه وتعالى هي الطريق الموصل للجنّة والمبعِد عن النار.
ما أحوجنا ـ عباد الله ـ أن نعودَ لكتاب الله في كلّ وقت، نستقي من نوره ونستظلّ بآياته، نتلوها ونتدارسها، ففي هذا الكتاب نور لمن أراد النور، وهداية لمن أراد الهداية، وعِزة لمن أراد العِزّة.
دعونا اليوم نقف مع القرآن هذه الوقفةَ التي أحسِب أننا محتاجون إليها في هذا الوقت أكثرَ من أيّ وقت مضى. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7]، هذه آية من كتاب الله وضّحت الحدودَ ورسمت المناهج، وهذه جملةٌ من أقوال أهل التفسير ممن نحسَبهم من الراسخين في العلم في معنى هذه الآية الكريمة:
أولها وأعظمها ما أخرجه الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7]، قالت: قال رسول الله : ((إذا رأيتم الذين يتّبعون ما تشابَه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم)).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (المحكمات ناسخُه وحلالُه وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمَر به ويعمَل به).
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: "يخبر تعالى أنّ في القرآن آياتٍ محكمات هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ أي: بيّنات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخَر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن ردّ ما أشتبه إلى الواضح منه وحكّم محكمَه على متشابهه عنده فقد اهتدى، ومن عكس انعكس، ولهذا قال تعالى: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ أي: أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه".
وقال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره: "يخبر تعالى عن عظَمته وكمال قيّوميّتِه أنه هو الذي تفرّد بإنزال هذا الكتاب العظيم الذي لم يوجَد ولن يوجَد له نظير أو مقارب في هدايته وبلاغته وإعجازه وإصلاحه للخلق، وأن هذا الكتاب يحتوي على المحكم الواضح المعاني البيّن الذي لا يشتبِه بغيره، ومنه آيات متشابهات تحتمل بعضَ المعاني ولا يتعيّن منها واحد من الاحتمالين بمجرّدها حتى تضَمَّ إلى المحكم، فالذين في قلوبهم مرض وزيغ وانحراف لسوء قصدهم يتّبعون المتشابِهَ منه، فيستدلّون به على مقالاتهم الباطِلة وآرائهم الزائفة طلبًا للفتنة وتحريفًا لكتابه وتأويلا له على مشاربهم ومذاهبهم ليَضلّوا ويُضلّوا، وأما أهل العلم الراسخون فيه الذين وصل العلم واليقين إلى أفئدتهم فأثمر لهم العمل والمعارف فيعلمون أنّ القرآن كلَّه من عند الله، وأنه كلّه حقّ محكمه ومتشابهه، وأنّ الحقَّ لا يتناقَض ولا يختلِف، فلعِلمهم أنّ المحكمات معناها في غاية الصراحة والبيان يردّون إليها المشتبِهَ الذي تحصل فيه الحيرة لناقِصِ العلم وناقص المعرفة، فيردون المتشابهَ إلى المحكم، فيعود كلّه محكما ويقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ".
لقد اختلفت أقوال أهل العلم: هل الراسخون في العلم يعلمون المتشابهَ أم هذا مما اختص الله تعالى بعلمه؟ على قولين مشهورين بالإيجاب والنفي، وأدلتهم مبسوطة في كتب التفسير، لكنهم اجتمعوا على أمرٍ مهمّ وهو أن ميزة الراسخين في العلم أنهم جمعوا بين الفقه في الدين وعلم التأويل.
عباد الله، يحرِص الشيطان في كلّ زمان على إغواء البشرية بأيّ طريقة كانت، حتى أنه يكون إغواؤه لمن ادّعى الصلاح وسلك مسلكه، يزيّن له بعضَ المشتبهات حتى يعدّها محكمًا من المحكمات.
أيّها المسلمون، كانت الأمة في عهد النبوة مجتمعة على كلمة واحدة، القرآن منهجها، ورسول الله قائدها، ثم لما ظهرت البدع بدأت الأمة بالتفرق، ولنستَمع إلى الإمام ابن كثير رحمه كيف يحكي عن هذا الأمر ويوضحه وهو في معرَض كلامه عن تفسير الآية التي عليها مدار حديثنا فيقول رحمه الله: "فإنّ أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج، وكان مبدؤهم بسبَب الدنيا حين قسَم النبي غنائم حنين، فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدِل في القسمة، ففاجؤوه بهذه المقالة فقال قائلهم وهو ذو الخوَيصرة بقرَ الله خاصِرته: اعدل فإنّك لم تعدل، فقال رسول الله : ((لقد خِبت وخسِرت إن لم أكن أعدِل، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟!)) فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب ـ وفي رواية: خالد بن الوليد ـ في قتله فقال: ((دعه فإنه يخرج من ضئضئ هذا ـ أي: من جنسه ـ قوم يحقِر أحدكم صلاته مع صلاتهم وقراءتَه مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقِيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم)) ، ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقتلهم بالنهروان، ثم تشعّبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونحل كثيرة منتشِرة، ثم انبعث القدريّة ثم المعتزلة ثم الجهمية وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق في قوله: ((وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة)) قالوا: وما هم يا رسول الله؟ قال: ((من كان على ما أنا عليه وأصحابي)).
أيّها المسلمون، وكانت الفتن والمشتبهات في تلك العصور والأزمان لها من يتصدّى لها ويوضّح فيها الحقّ لإنه لن يخلوَ زمن بإذن الله من أهل العلم الراسخين فيه. وإنّ المشتبهَ لما يشيع ويُعمَل به ينبغي للعالم أن يبيّنَه. وقد بيّن علماء أهل هذه البلاد وما زالوا يبينون كلّما عرض من المستجدات ما يحتاج إلى وقوفهم معها، وإن الشيخ المسدّدَ صالح بن فوزان الفوزان رعاه الله كان له جملة من المحاضرات والدروس والكلمات في هذا المجال نفعنا الله بعلمه، وإنّ من معرض كلماته وفّقه الله مقالة عنوَن لها بعنوان: "الاستدلال الباطل وآثاره المدمّرة"، وكان من كلامه حفظه الله: "وكلام الله يفسِّر بعضه بعضًا، ويوضح بعضه بعضًا... وأما أهل الزيغ والضلال فإنهم يستدلّون بالمتشابه من الكلام كما قال الإمام أحمد رحمه الله: ويتركون المحكم ابتغاءَ الفتنة، ويقطعون ما أمر الله به أن يُوصَل، ويفسدون في الأرض، ويقولون نحن استدلَلنا بالقرآن، وهم في الحقيقة لم يستدلّوا بالقرآن، وإنما أخذوا طرَفًا وتركوا الطرَف الآخر، مثل الذين يستدلّون بقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] على ترك الصلاة، ولا يأتون بالآية التي بعدها وهي: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:5]، وقد لا يكون هؤلاء أهل زيغ وإنما هم أهل جهلٍ وتعالم وحماسٍ جاهل، وليسوا من الراسخين في العلم، ولا يرجعون إلى أهل الرسوخ في العلم، فيقعون في الهلاك ويُوقعون غيرهم فيه..."، ثم جاء وفقه الله بمثال يؤكّد به ما قال، لعلنا نرجئه إلى الخطبة الثانية بإذن الله.
نفعني الله وإياكم بالكتاب والسنة، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله اللطيف الخبير العلي الكبير، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي وصيته للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].
أيها المسلمون، لقد تقدّم معنا في الخطبة الأولى وقفاتٌ مع قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ، وذكرنا جملة من أقوال أهل العلم في تفسير هذه الآية، وتوقفنا عند كلام الشيخ صالح الفوزان وفّقه الله.
فبعد المقدّمة التي ذكرها والتي ذكرنا جزءًا منها في الخطبة الأولى نورِد ها هنا المثال الذي أورده الشيخ وفقه الله تأكيدًا لكلامه، فيقول حفظه الله: "خُذ مَثلاً في وقتنا هؤلاء المخرِّبين الذين روّعوا العبادَ وأفسدوا في البلاد وصاروا يفجِّرون المباني وينسِفونها على من فيها ويقتُلون الأنفسَ التي حرّم الله قتلَها إمّا بالإيمان وإمّا بالعهد والأمان, ويستدلّون بقوله : ((أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)) ، ولم يعلموا:
أولاً: أن هذا الخطاب لولاةِ الأمور وليس هو خطابًا لكلّ أحد من الناس بدليل أنّ الصحابة رضي الله عنهم لم يفعَلوا ذلك أفرادًا، وإنما الذي قام به عمر بن الخطاب الخليفة الثاني، فدلّ هذا على أنّ هذا الخطاب يتولى تنفيذَه وليّ الأمر إذا رأى المصلحةَ في ذلك وأمكنه تنفيذه.
ثانيًا: الرسول قال: ((أخرِجوهم)) ولم يقل: اقتلوهم واغدروا بهم إذا أمنتموهم، بل إنّ الله سبحانه قال لنبيه : وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التوبة:6]، وإبلاغه مأمنه أن يوصَلَ إلى بلاده آمنًا؛ لأن الإسلام دين الوفاء، لا دين الغدر، قال النبي : ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين سنة)) خرجه في الصحيح.
ثالثًا: إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب لا يمنع استقدامَهم لأعمال يقومون بها، ثم يرجعون إلى بلادهم إذا انتهت مهمّاتهم كالسفراء والعمّال والتجار وأصحاب الخبرات التي يحتاجها المسلمون وليس عندهم من يقوم بها، فقد استأجر النبي مشركًا يدلّه على طريق الهجرة، واستدان من يهوديّ في المدينة، وجاءه نصارى نجران ودخلوا عليه في مسجده وتفاوضوا معه، وربط ثمامة بن أثال في المسجد وهو مشرك" ا.هـ.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين...
(1/3332)
هل أنت من الطيبين؟
العلم والدعوة والجهاد
أمثال القرآن والسنة, القرآن والتفسير
أمير بن محمد المدري
عمران
مسجد الإيمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لا يستوي الطيب والخبيث. 2- طيب أهل الطاعة والإيمان وخبث أهل الكفر والعصيان. 3- مثل المؤمن. 4- طيبة المؤمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول تعالى: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100].
اسمع ـ يا عبد الله ـ إلى كلام العزيز الحميد الذي بيَّن لنا أنه لا يستوي عنده الخبيث والطيّب، فالطيّب في أعلى الدرجات، والخبيث في أسفل الدّركات. والله جعَل الدنيا دار ابتلاء وامتحان، لماذا؟ ليميز الخبيثَ من الطيب. والله تعالى طيّب يحبّ الطيب من القول، ويحب الطيب من العمل، ويضاعفه لأصحابه. الله جل وعلا يحب الطيّبين من الناس، ويبغِض الخبيث. الله جل وعلا يرفع الطيّبَ ويبارك لأصحابه فيه.
أيها المسلمون، الله أمرنا أن نكون طيّبين في أقوالنا وأعمالنا وذواتنا وأموالنا، ونهانا أن نكون من الخبيثين في أقوالنا وأعمالنا وأموالنا وذواتنا. فانظروا وتأمّلوا هل يستوي من طاب لسانه وطاب قوله فلا يقول إلا طيّبا ولا ينطق إلا خيرا، إذا حضرتَ مجلسَه وجدتَه طيّبا مطيَّبا بذكر الله والصلاة والسلام على محمد رسول الله، هل يستوي هذا مع ذلك الرجل الذي إذا تكلّم تكلّم بغيبة ونميمة وتفريق بين الناس؟! وصدق الله القائل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم:24، 25].
عباد الله، هل يستوي المؤمن طيّبُ الأعمال الذي إذا رأيتَه رأيتَ عمله طيّبًا، عملَه حسنًا، عملا يحبه الناس ويحبه الله، يؤدّي فرائض الله، طيّبا في أعماله، راعيا لأمانته في وظيفته، هل يستوي هذا مع ذلك الخبيث في عمله وفعله؟! تراه لا يرعى أمانة الله، متقهقرا في الصلوات، إذا استُرعي على مال أكله، إذا استُعمل على وظيفة ارتشى وغشّ وخان، هؤلاء ولو كانوا كثيرين فهم عند الله من أخبث البشر.
أيها المؤمنون، هل يستوي المال الطيب والمال الخبيث؟! فالطيب من المال وإن قل فمآله إلى بركة، مآله إلى خير، وصاحب المال الحلال تستجاب دعوته، ويبارك الله في أهله وأولاده. لا يستوي هذا مع صاحب المال الخبيث ولو كان الحرام قليلا فهو داء وسمّ زعاف، صاحب المال الحرام من أيّ مصدر كان؛ من رشوة أو ربا أو غش أو خيانة لأموال المسلمين فهو مال خبيث، وبالٌ على صاحبه في الدنيا والآخرة.
عباد الله، أهل الإيمان معدنهم أفضل المعادن، فهم كالذهب وأصفى وأطيب، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة:7]، وقال : ((إن مثل المؤمن كمثل القطعة من الذهب، ينفخ فيها صاحبها فلم تتغير. والذي نفس محمد بيده، إن المؤمن كمثل النخلة أكلت طيّبا ووضعت طيبا)) ، وقال ((مثل المؤمن كمثل النخلة ما أخذتَ منها من شيء نفع)). النخلة تثمر طوال السنة بلحا رطبا، والمؤمن أينما حلّ نفع، كالغيث والنخلة أغصانها وجذوعها وجريدها يفيد البلادَ والعباد، والمؤمن كله خير؛ كلامه وماله وحركته. والنخلة ترمَى بالحجر وترد بأطيب الثمر، وهكذا المؤمن يدفع الإساءةَ بالإحسان. النخلة أصلها ثابت لا يتزعزع، والمؤمن ثابت لا تغيّره شهوة ولا شبهة ولا غيرها، فهو ثابت على دينه وتقواه. النخلة فرعها في السماء، والمؤمن لا يأخذ زاده وغذاءه إلا من خالق السماء.
قال : ((إن خير عباد الله الموفون الطيّبون، أولئك خيار عباد الله)). معيشة المؤمن طيّبة، ورزقه طيّب، وحياته طيبة، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]. فالمؤمنون استلموا الماء الطهور من ربهم، فتطهروا بالماء الطهور، فأصبحوا طاهرين متطهِّرين، ويوم القيامة الجزاء من جنس العمل، وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21]. طهارة في الماء، طهارة في الصلاة، وطهارة في الجنة مع سيد الطاهرين محمد.
والحياة الطيّبة لا تكون إلا بالإعمال الصالحة والإيمان، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
وفي الحياة الزوجية الطيبات للطيّبين، الأقوال الطيّبة لا تصدر إلا من أناس طيبين، الأقوال الخبيثة لا تخرج إلا من أناس خبيثين، والمؤمن وذريته طيبة مباركة، قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مريم:4، 5].
فأنت ـ يا عبد الله ـ طيّب، تزوجتَ طيّبة، يعطيك الله ذريّة طيبة. والمؤمن إن أنفق وأخرج من ماله أنفق من الطيبات، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267]. المؤمن في حياته كلها طيب، في أخلاقه طيب، في سلامه طيب، قال تعالى: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً [النور:61]. والمؤمن رحلته طيبة إلى الله تعالى، فإذا مات جاءته ملائكة بيض الوجوه يقولون: "اخرجي ـ أيتها النفس الطيبة ـ إلى روح وريحان ورب راض غير غضبان"، قال تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ [النحل:32].
والمؤمن في قبره يأتيه رجل طيب الرائحة طيب الملبس جميل الصورة فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، أنا عملك الطيب، فيفتح له نافذة إلى الجنة، ويوسّع له في قبره. وفي الجنة تستقبل الملائكة المؤمنين قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، سلام عليكم طبتم فادخلوا دار الطيبين والأزواج المطهرة، سلام عليكم طبتم فالذي طيّبهم فعلُ الخيرات أداءُ الصلوات طاعةُ الوالدين حبّ الصالحين وذكر الله ونصرة الصالحين والحياء والعفة وحسن الخلق.
فيا أيها المؤمن، عنوان السعادة والصلاح في الدين والدنيا والآخرة الإيمانُ الصحيح، فالمؤمن الحق لا يأتي إلا طيبًا، ولا يصدر منه إلا طيب، بدنه طيب، وخلقه طيب، مدخله طيب، ومخرجه طيب.
وأخيرًا، أسأل الله بأسمائه الحسنى أن يجعلني وإياكم من الذين طابت أقوالهم وأعمالهم ونفوسهم، وأسأل الله أن يجعلنا وذرياتنا من الطيبين المطيبين، اللهم أدخلنا دارَ الطيبين يا رب العالمين...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3333)
المال الحرام
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
4/7/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار الفساد في العصر الحاضر. 2- حرص الإسلام على تنقية المكاسب. 3- مفاسد المكاسب الخبيثة. 4- قبح خيانة أصحاب الوظائف العامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشرَ المسلِمين، إنَّ عالمَ اليوم عالمٌ تغيَّرت فيه كثيرٌ من القِيَم الصّحيحة وتبدَّلت فيه المفاهيمُ المستقيمة، عالمٌ تكالب فيه البشَر على التنافُس في جلبِ المصالح واستِحصالِ المنافع. الدّنيا هي المُنيَة وتحصيلُها هو الغاية، فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ [النجم:29، 30].
والغريبُ أنّ بعضًا من المسلمين استهوته تلك الموجةُ العاصفة فزلَّت به القدمُ ومالَت به النفسُ الأمّارة بالسّوء، فراح يجمع الدّنيا بكلِّ طريق ويستكثِر منها بأيِّ سبيل، حتى صدَق على بعضٍ وليس بالقليلِ إخبارُ المصطفى بقولِه: ((ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يُبالي المرءُ بما أخَذَ المالَ أمِن الحلال أم مِنَ الحرام)) رواه البخاري [1]. ولذا حرِص الإسلامُ على التوجيهِ الصريح والإرشادِ الجليّ حتى يكونَ المسلم حريصًا أشدَّ الحرص بتنقيةِ مكاسبِه من كلِّ كسبٍ خبيثٍ أو مالٍ محرَّم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29] ولا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، ورسولُنا يقول: ((مَن أكَل طيِّبًا وعمِل في سنّةٍ وأمِن الناسُ بوائقَه دخَل الجنّة)) صحّحه الحاكم ووافقه الذهبي [2].
معاشرَ المسلمين، المكاسبُ المحرَّمة ذاتُ عواقبَ وخيمةٍ وآثارٍ سيّئة، أخطرُها وأشدّها أنها سببٌ من أسبابِ دخول النار ومن أسبابِ غضَب الجبّار، فرسولنا يقول لكعبِ بنِ عُجرة رضي الله عنه: ((يا كعبُ، إنّه لن يربوَ لحمٌ بنت من سُحتٍ إلا كانتِ النّار أولى به)) حديث صحّحه الحاكم ووافقه الذهبيّ [3]. والسّحتُ ـ يا عباد الله ـ مصطلح شرعيّ يشمل كلَّ مال اكتُسِب بالحرام.
عبادَ الله، إنّ المالَ الحرامَ مِن جميع طرُقه شؤمٌ على صاحبه وضَرَر على جامعه، فرسولنا يقول: ((لا يكسِب عبدٌ مالاً من حَرام فينفِق منه فيبارَك له فيه، ولا يتصدّق به فيقبَل منه، ولا يتركُه خلفَ ظهرِه إلاّ كان زادَه من النار)) رواه أحمد والبيهقي وسنده حسن [4]. ولهذا فمِن أسبابِ الشّقاء الشامِل وعواملِ الخذلان المستمرِّ على بلدانِ المسلمين هو جمعُ الأموال من طريقِ المكاسب المحرَّمة والوسائلِ الخبيثة، وإلاَّ فهل مُنِعت الاستجابةُ إلاَّ بسبَبِ المكاسب المحرّمة؟! وهل وقعتِ المصائب والإحَن إلاَّ بانتشارِ الخبائِث والموبقات. روى مسلم في صحيحه أن النبيَّ ذكَرَ الرجلَ يطيل السّفرَ ((أشعثَ أغبرَ يمدّ يدَيه إلى السّماء يقول: يا ربِّ يا ربّ، ومطعمُه حرام، وملبسه حرام، وغذيَ بالحرام، فأنى يستَجاب لذلك؟!)) رواه مسلم [5]. وفي الحديثِ عند الترمذيِّ بإسنادٍ صحيح: ((لا تقبَل صلاةٌ بغير طهور، ولا صدقةٌ من غُلُول)) [6] ، والغلول عندَ أهلِ العلم مصطلحٌ لكلِّ ما اكتُسب من طريقٍ غيرِ شرعيّ عن طريق النّهب والسّلب. قال مالكُ بن دينار: "أصابَ الناسَ في بني إسرائيلَ قحطٌ فخرجوا مِرارًا فلم يسقَوا، فأوحى الله إلى نبيِّهم أن أخبِرهم أنّكم تخرجون إليَّ بأبدانٍ نجِسة وترفعون إليَّ أكُفًّا قد سفَكتُم بها الدماءَ وملأتم بطونَكم من الحرام، الآنَ قد اشتدَّ غضبي عليكم، ولن تزدادوا مني إلا بُعدًا" [7].
أيّها المسلمون، آكلُ الحرام منزوعُ البَركة مسلوبُ الاستقرار والطمأنينةِ، لا يقنَع بخير يأتيه، ولا يعينه كثيرٌ يجنيه، عن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله خطيبًا فقال: ((لا والله، ما أخشى عليكم ـ أيّها الناس ـ إلاّ ما يخرج الله لكم من زهرةِ هذه الدنيا)) إلى أن قال: ((فمن يأخُذ مالاً بحقِّه يبارَك له فيه، ومن يأخُذ مالاً بغير حقِّه فمثَلُه كمَثل الذي يأكُل ولا يشبَع)) رواه البخاري ومسلم [8]. وفي الحديثِ الصحيح أيضًا: ((فإن كذَبا وكتَما مُحِقت بركةُ بيعهما)) [9].
فيا أيّها المسلم، إن كنتَ تحِبّ نجاتَك وترجو سعادتك فأطِب كسبَك ونقِّ مالَك وتخلَّص من حقوق غيرك، فرسول الله يقول: ((من كانت عندَه مظلمةٌ لأخيه من مالٍ أو عِرض فليأته فليستَحلِله من قبلِ أن يؤخَذَ منه وليسَ ثَمّ دينارٌ ولا دِرهم، فإن كانَت له حسناتٌ أخِذَ من حسناتِه لصاحِبِه، وإلاّ أخِذ من سيّئات صاحبه فطُرِحت عليه فطرِح في النار)) رواه البخاريّ [10].
فالحذَر الحذَر من كَسبِ الأموال من غير سُبُلها المباحَة ونيلِها من غيرِ طُرُقها المشروعة، فلقد أتتِ المكاسِبُ المحرَّمة على بيوت آكليها فخرَّبتها، ودكَّت صروحَ عزِّهم ومجدِهم فهَدَمتها، فبماذا يكون الجوابُ إذا وقفوا غدًا بين يدي الله جلّ وعلا وسألهم عن هذه الأموال بأيّ وجهٍ أخذوها؟ وبأيّ دينٍ استباحوها؟ فأنت ـ أيّها المسلم ـ مسؤول عن مالك: من أينَ اكتَسَبتَه؟ وفيم أنفَقتَه؟ كما صحَّ بذلك الخبر عن المعصومِ صلوات الله وسلامه عليه [11].
فاجتنِبوا ـ عباد الله ـ في جمعكم للأموالِ المسالكَ المعوجَّة والطرقَ الملتوِية والمخالفةَ للأحكام القرآنيّة والتوجيهاتِ النبويّة والقواعدِ الشرعية. تبصَّروا فيما تقدِمون عليه وما إليه تتَّجهون من طرُقٍ للمكاسب بحثًا عن حكمِ الشرع الصحيحِ مِن مصادره المعتَمَدة وعلمائه الثِّقات الربانيّين، فمن اتّقى الله وقاه الله ورَزقه من حيث لا يحتسِب ومن حيث لا يخطُر له على بال، ومَن ترك شيئًا لله عَوّضه الله خيرًا منه.
اللهمّ أغنِنا بحلالك عن حَرامك، وبفضلِك عمّن سواك.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الهديِ والبيان، أقول هذا القولَ، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب البيوع (2059، 2083) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] مستدرك الحاكم (7073) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأخرجه هناد في الزهد (1136)، ومن طريقه وغيره أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2520)، والطبراني في الأوسط (3520)، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث إسرائيل... وسألت محمد بن إسمعيل عن هذا الحديث فلم يعرفه إلا من حديث إسرائيل ولم يعرف اسم أبي بشر"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (29، 1068).
[3] مستدرك الحاكم (7163، 8302) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا معمر في جامعه (11/345-346 ـ مصنف عبد الرزاق ـ)، ومن طريقه أحمد (3/321، 39)، والدارمي في الرقاق (2776)، وأبو نعيم في الحلية (8/247)، والبيهقي في الشعب (5/56، 57، 7/47-48)، وصححه ابن حبان (1723)، وقال الهيثمي في المجمع (5/247): "رجاله رجال الصحيح"، وهو في صحيح الترغيب (1728). وورد من حديث كعب نفسه، أخرجه الترمذي في الجمعة (614)، والطبراني في الصغير (430، 625) والأوسط (2730، 4480) والكبير (19/105، 135، 141، 145، 162)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث عبيد الله بن موسى، وأيوب بن عائذ الطائي يضعف، ويقال: كان يرى رأي الإرجاء، وسألت محمدا عن هذا الحديث فلم يعرفه إلا من حديث عبيد الله بن موسى، واستغربه جدا"، وصححه ابن حبان (5567)، وهو في صحيح سنن الترمذي (501). وفي الباب عن أبي بكر وعمر وعبد الرحمن بن سمرة وابن عباس وابن عمر وحذيفة رضي الله عنهم.
[4] مسند أحمد (1/387)، شعب الإيمان (4/395-396) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه من طريق أحمد أبو نعيم في الحلية (4/166)، قال الهيثمي في المجمع (10/228): "رجاله وثقوا، وفي بعضهم خلاف"، وأخرجه أيضا البزار (2026) وفي آخره زيادة، قال الهيثمي في المجمع (10/292): "فيه من لم أعرفهم"، وضعفه العراقي في تخريج الإحياء (2/115)، والألباني في غاية المرام (19).
[5] صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1015) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] سنن الترمذي: كتاب الطهارة (1) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو عند مسلم في الطهارة (224).
[7] رواه البيهقي في شعب الإيمان (2/55)، وانظر: جامع العلوم والحكم (ص107-108).
[8] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1465)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1052).
[9] أخرجه البخاري في كتاب البيوع (2079، 2082، 2110)، ومسلم في كتاب البيوع (1532) عن حكيم بن حزام رضي الله عنه.
[10] صحيح البخاري: كتاب المظالم (2449) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[11] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2417)، والدارمي في المقدمة (537)، وأبو يعلى (7434)، والطبراني في الأوسط (2191) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وله شواهد انظرها في السلسلة الصحيحة للألباني (946).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله على إحسانِه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانه، وأشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنَّ سيّدنا ونبيّنا محمَّدًا عبده ورسوله الداعِي إلى رضوانه، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فهي وصيّةُ الله للأوّلين والآخرين.
معاشرَ المسلمين، مِن أعظم الخيانةِ وأقبحِ الأعمال أن يشرِّفَك الله ـ أيّها المسلم ـ بحَملِ أمانةِ عملٍ من أعمالِ المسلمين، ثم تتَّخِذ من ذلك العمَل مطيّةً لجمع الأموالِ ونيلِ المصالح الخاصّة بالنّهب والسّلب والتحايُل على ما ليس بحقّ.
فيا أيّها المسلم، اعلم عِلمًا جازمًا أنَّ أيَّ وظيفة من الوظائف كبيرة أو صغيرة فهي أمانةٌ عظيمة ومسؤوليّة كبرى لا يجوز بأيِّ حالٍ منَ الأحوال أن تجمَعَ الأموال بسبَبِها أو أن تُكتَسَب بواسطتها، فالحذرَ الحذرَ من ذلك، فلقد أرسَى رسول الله وهو صاحبُ الإصلاح الشامِل، لقد أرسى قاعدًة لا تقبل تأويلَ المتأوِّلين ولا تعسُّفَ المتعسِّفين قاعدةً تتضمَّن تحريمَ كسبَ الأموالِ عن طريق الوظائِفِ والأعمال التي للمسلمين، فلقَد استعمل رسول الله رجلاً من الأزدِ على الصّدقة، فلمّا قدِم قال: هذا لكُم وهذا أُهدِيَ إليَّ، فقام رسول الله على المنبر فحمِد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: ((ما بالُ عامِلٍ أبعثُه فيقول: هذا لكم وهذا أهدِيَ إليّ؟! أفَلا قعَدَ في بيتِ أبيه أو بيتِ أمِّه حتى ينظرَ أيُهدَى إليه أم لا؟! والذي نفسِ محمّدٍ بيَدِه، لا ينالُ أحدٌ منكم فيها شيئًا ـ أي: في الأعمال ـ إلاّ جاءَ بهِ يومَ القيامَة يحمِلُه على عُنُقه)) الحديث رواه البخاري ومسلم [1]. وقد بوَّب له البخاريّ بقوله: "هدايا العُمّال غُلول"، قال ابنُ حجر رحمه الله: "وفيه إبطالُ كلِّ طريقٍ يَتَوصَّل بها مَن يأخُذ المال إلى محاباةِ المأخوذِ منه والانفرادِ بالمأخوذ" [2].
واعلَم ـ أيّها المسلم في كلِّ مكان ـ أنَّ المالَ العامّ في ديار المسلمين من أراضٍ وعقاراتٍ وأموالٍ ومنقولات كلّها الأصلُ فيها العِصمةُ، لا يجوز الانتفاعُ بها في غيرِ محلِّها، ولا يجوز بأيِّ حالٍ الاعتداءُ على شيءٍ منها إلا بطريقٍ شرعيّ معتَبَر عند أهل العلم. فاستمِع ـ أيّها المتهاوِن بذلك ـ إلى تحذيرِ الشّرع وزَجرِه وردعه، يقول : ((إنَّ رجالاً يتخوَّضون في أموالِ الله بغير حقٍّ فلهم النارُ يومَ القيامة)) رواه البخاري [3]. والمعنى أي: يتصرَّفون في أموالِ المسلمين بالباطل، وهو أعمُّ مِن أن تكونَ بالقسمة أو غيرها كما قرَّره أهلُ العلم. وجاء عند الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" أنّ النبيَّ قال: ((إنَّ هذا المالَ خضِرة حلوَة، مَن أصابَه بحقِّه بورِك له فيه، ورُبَّ متخوِّضٍ فيما شاءت نفسُه مِن مال الله ورسولِه ليس له يومَ القيامة إلاّ النار)) [4] والعياذ بالله.
ثمّ اعلَموا ـ أيّها المسلمون ـ أنّ الله جل وعلا أمَرَنا بأمرٍ عظيم تزكو به حياتنا، وتسعد به أنفسنا، وتطمئنّ به قلوبنا، ألا وهو الإكثار من الصلاةِ والسلام على النبيِّ المختار.
اللهمّ صلِّ وسلِّم على سيدنا ورسولنا محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديِّين...
[1] صحيح البخاري: كتاب الهبة (2597)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1832) عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه.
[2] فتح الباري (13/167).
[3] صحيح البخاري: كتاب فرض الخمس (3118) عن خولة الأنصارية رضي الله عنها.
[4] سنن الترمذي: كتاب الزهد (2374) عن خولة بنت قيس رضي الله عنها، وأخرجه أيضا عبد الرزاق (4/59)، والحميدي (353)، وابن أبي شيبة (7/85)، وابن راهويه (1/269)، وأحمد (6/364، 378، 410)، وعبد بن حميد (1587)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3259)، والطبراني في الأوسط (5318) والكبير (24/227، 228، 229، 230، 231)، وأبو نعيم في الحلية (2/64، 7/311)، والقضاعي في مسند الشهاب (1143)، والبيهقي في الشعب (7/279)، والخطيب في تاريخ بغداد (5/191)، وصححه ابن حبان (2892، 4512)، وهو في السلسلة الصحيحة (1592). وفي الباب عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وأم سلمة وعمرة بنت الحارث وحمنة رضي الله عنهم.
(1/3334)
جريمة حرق المسجد الأقصى
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
محمد أحمد حسين
القدس
4/7/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جريمة حرق المسجد الأقصى. 2- الاعتداءات على المسجد الأقصى ومدينة القدس. 3- منظمة المؤتمر الإسلامي. 4- معاناة المعتقلين في السجون الإسرائيلية.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره. قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ويحترق المسجد الأقصى المبارك قبل خمسة وثلاثين عامًا بِيَد الغدر ونار الحقد، بجريمة بشعة خُطِّط لها بليل ودُبِّر لها بإحكام، ونفِّذت في ظلّ الاحتلال أول جريمةِ حرقٍ للمسجد الأقصى في تاريخه.
لقد استيقظ كلّ أهل القدس ورأوا المسجد صباح يوم الحادي والعشرين من شهر آب لعام ألف وتسعمائة وتسع وستين، استيقظوا على استغاثات المسجد، تنطلق من حناجر المرابطين الذين هبّوا لإطفاء الحريق بنور إيمانهم وصدق عزيمتهم وثبات موقفهم الذي لا يرضخ لمخطّطات العدوان ولا يستكين لجرائم المحتلين. ولقد شاهد العالم ألسنة النيران التي علت قبّة المسجد تشكو إلى الله ظلمَ الظالمين واعتداء المعتدين الذين لا يرعَون للمقدسات حرمةَ، ولا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إنّ الحريق الذي استهدف المسجد الأقصى وجودًا وحضارة لم يتوقّف عند إحراق منبر صلاح الدين الأيوبي والأجزاء التي تمثّل فنّ الحضارة والعمارة الإسلامية على امتداد التاريخ الإسلامي في المسجد الأقصى، بل امتدّ هذا الحريق وانتشر في ربوع أرضنا المباركة بأشكال متعدّدة؛ في محاولات لطمس معالم هذه الديار وفرض التهويد على الأرض والمقدسات، وفي الطليعة وبؤرة الصراع تأتي مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك.
لقد زحف ويزحف التهويد على هذه المدينة من خلال المستعمرات والمستوطنات التي تتطوَّقها من جميع جهاتها، بل امتدّت هذه المستوطنات إلى أحيائها العربية، ومن شأنها تقطيع أوصال هذه الأحياء وفصلها عن بعضها البعض. كما انتشر سرطان الاستيطان في الأراضي الفلسطينية من خلال مصادرات الأراضي من أصحابها الشرعيين لإقامة المستوطنات وابتلاع أكبر قدر من الأرض في بناء وإقامة الطرق والشوارع الالتفافية، مما أحرق مقوّمات الاقتصاد لأبناء شعبنا الذي يعتمد على الزراعة واستغلال الأرض التي جرفت من قبل الاحتلال ودمّرت مزارعها وقطعت الملايين من أشجارها.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، لم يكن الحريق المشؤوم للمسجد الأقصى المبارك الاعتداءَ الوحيد على هذا المسجد، بل تعددت أشكال العدوان التي استهدفت وتستهدف المسجد من خلال الحفريات التي جرت وتجري خاصّة في الجهة الجنوبيّة الشرقية من جدران المسجد، ومن الجهة الغربية التي كان من أخطرها نفق البراق الذي يمتدّ من ساحة البراق بمحاذاة الجدار الغربي للمسجد الأقصى وأسفل الأروقة والمدارس الإسلامية التي تعود إلى فترات متقدمة من العصر الأمويّ والعباسي والمملوكي، وصولاً إلى العهد العثماني. هذا النفق الذي أثر وما يزال يؤثِّر على العمائر الإسلامية والأملاك الوقفية الواقعة فوقه بالتصدع والتشقق، ويعرضها لخطر الانهيار. كما نفذ المعتدون من خلال هذا النفق إلى "بئر قايتباي" الواقع في مواجهة قبة الصخرة المشرفة، إلا أن الأوقاف الإسلامية استطاعت وبوقفة شجاعة من أبناء هذه الديار إعادة الأمور إلى سابق عهدها، وتجنيب أرض المسجد الأقصى دنس هذا العدوان.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن المسجد الأقصى المبارك الذي تعرض لاعتداءات كثيرة في ظل الاحتلال من الحرق إلى الحفريات إلى إطلاق النار في ساحاته وفي أروقته وتحت قبابه واستشهاد الأبرياء من المصلين في رحابه الطاهرة وهم يذودون عنه بصدورهم العارية إلا من وهج الإيمان وقوّة الإرادة والعقيدة في ردّ العدوان وإفشال أهداف المعتدين في فرض الأمر الواقع على المسجد ومرافقه والتدخل في شؤونه، في هجمة تستهدف السيطرة عليه لتنفيذ أحلام الحالمين بهيكل مزعوم على أنقاضه، لا سمح الله.
وفي الوقت الذي تشتدّ فيه وطأة الاحتلال على شعبنا وأرضنا بقصف الأبرياء في المدن والقرى والمخيمات وسقوط مواكب الشهداء على ثرى هذه الأرض الطاهرة التي أبت وأبى شعبها المرابط أن يركع إلا لله وحده، فلن تلين قناة هذا الشعب للحصار والإغلاق والحواجز، ولا لجدران الفصل العنصرية التي تمزق أوصال الوطن في محاولات يائسة للنيل من شعبنا والقفز عن تضحياته لتمرير مخططات الاحتلال وتنفيذ أهدافه التي ما عادت خافية على أبناء شعبنا وعلى أبناء الشعوب الإسلامية، بل وعلى إرادة المجتمع الدولي الذي أعلن تأييده لقرار محكمة العدل الدولية الخاص بجدار الفصل، والذي اعتبر مخالفًا للقانون الدولي من خلال تصويت الغالبية الساحقة من دول المنظمة الدولية إلى جانب قرار محكمة العدل الدولية، وطالب حكومة الاحتلال بضرورة إزالة المبنى منه والتوقف عن انتهاك القانون الدولي وتعويض المتضرّرين من أبناء شعبنا جراء إقامة هذا الجدار.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إثر حرق المسجد الأقصى قبل خمسة وثلاثين عاما قامت منظمة المؤتمر الإسلامي التي تشمل كل الدول الإسلامية، وانبثقت عن هذه المنظمة لجنة القدس للاهتمام بشؤون المدينة المقدسة، وفي مقدمة ذلك المقدسات الإسلامية، وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك، فماذا صنعت هذه المنظمة ولجنتها لحماية المسجد الأقصى من الأخطار التي تحدق به؟! وماذا فعلت هذه المنظمة ولجنتها للمحافظة على وجه القدس الإسلامي وطابعها الحضاري؟! ألم تسمع دول هذه المنظمة بتحذيرات وزير الأمن الإسرائيلي من جهات يمينية صهيونية تريد الأذى بالمسجد الأقصى والمصلين فيه؟! فماذا عساها تفعل دول المنظمة الإسلامية لإلزام الحكومة الإسرائيلية بكبح جماح المتطرفين اليهود ومنعهم من تنفيذ اعتداءاتهم؟! أم أن الدول العربية والإسلامية مشغولة بهموم المحافظة على كياناتها واسترضاء قوى الاستكبار العالمي على حساب دينها وعقيدتها ومقدساتها وكرامتها؟!
إننا من على هذا المنبر الشريف، ومن هذه الرحاب الطاهرة نخاطب المسلمين جميعًا ونقول: إن القدس ومسجدها الأقصى أمانة الفاروق عمر ومحرّره صلاح الدين، تهيب بأمتنا إلى حماية مسجدها والدفاع عنه أمام المخاطر التي تحدق بها قبل فوات الأوان، ولات ساعة مندم.
اللهم هل بلّغنا، اللهم فاشهد.
جاء في الحديث الشريف عن الصحابي الجليل ذي الأصابع رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أين تأمرنا إن ابتلينا بالبقاء بعدك؟ قال: ((عليك ببيت المقدس، فلعله ينشأ لك بها ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون)) رواه أحمد.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى صراطه المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى أصحابه أجمعين، ومن اهتدى واقتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، يخوض أبناء الحركة الأسيرة داخل السجون الإسرائيلية معركةَ الأمعاء الخاوية دفاعًا عن كرامتهم وحقّهم في الحياة بكرامة وإنسانية، هذا الحقّ الذي ضمنته كل الشرائع السماوية، التي كرّمت الإنسان، ومنعت الحدّ من حريته، وأوجبت توفيرَ متطلبات العيش الكريم له في جميع الأحوال، حتى ولو كان سجينًا أو معتقلاً.
كما أكدت القوانين الوضعية والمواثيق والمعاهدات الدولية حقّ السجين في المعاملة اللائقة بكرامة الإنسان، فمنعت تعذيبَه الجسديّ، أو إيذاءه النفسي، فأين هذه المعاهدات والمواثيق التي ترعاها المنظمات الدولية من أبناء الحركة الأسيرة لأبناء شعبنا الفلسطيني؟!
لقد تعرّض السجناء من جلاديهم لأصناف التعذيب الجسديّ والنفسيّ والحرمان من أبسط حقوقهم في الغذاء أو الدواء، بل لقد تعرّضوا لما يجرح الكرامة ويخدش الحياء من أعمال مشينة؛ كتعريتهم أثناء التفتيش، وغير ذلك من أنواع الأذى بالعزل الانفرادي، في أوضاع لا تتناسب وأدنى حقوق الكرامة الإنسانية.
ومنع الاحتلال ذويهم من زيارتهم لفترات طويلة، عدا ما تقوم سلطات السجون به بين الفينة والأخرى، من قمع وعقوبات جماعية لكافة السجناء، بإطلاق قنابل الغاز داخل غرف السجن وضرب السجناء ضربًا مبرحًا.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، أيها المسلمون في كل مكان، إن الأسرى من أبناء شعبنا هم الذين قدموا التضحيات الجِسام من أجل كرامة هذا الشعب وحرية هذه الأرض الطاهرة، وهم يستحقون من شعبهم وأمتهم أسمى آيات الاعتزاز والتقدير، والوقوف صفًا واحدًا أمام مطالبهم لتحقيق الكرامة لهم والعمل على تحريرهم وإطلاق سراحهم من أسر السجان وظلم الجلاد.
إنهم طليعة الحرية وطلاب الحقّ وحراس كرامة، ليس لأنفسهم، بل لشعبهم وأمتهم.
إننا من هذه الرحاب الطاهرة، وباسم الحشود المرابطة في رحاب المسجد الأقصى وأكناف بيت المقدس نبعثها تحيّة إكبار وإجلال واحترام لأبناء الحركةِ الأسيرة، نشدُّ على أيدِيهم، نقف معهم في سبيل حريّتهم وتحقيق مطالبهم الإنسانية، ونهيب بكافّة أبناء شعبِنا، وندعوهم إلى مؤازرة الأسرَى في معركة كرامَتهم، من خلال خيام الاعتصام، ورفع مطالبهم إلى كافة المؤسسات والهيئات والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان، ومطالبة دول العالم بأسره بنصرة هذه القضية الإنسانية وردع سلطات الاحتلال عن ممارستها القمعية ضد أسرانا ومعتقلينا، داعين الله عز وجل أن يفرج كربهم، ويعجل خلاصهم، إنه نِعم المولى ونعم النصير.
(1/3335)
امتحان الدنيا وامتحان الآخرة
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رحلة الدنيا واختبار الآخرة. 2- سؤال الإنسان عن عمره وشبابه وعلمه وحاله. 3- عاقبة هذا الاختبار في الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: تظلنا في هذه الأيام استعدادات لألوف من الأبناء والطلاب الذين يتهيّؤون لدخول اختباراتهم الدراسية بعد شهور من العمل والجدّ والاجتهاد، فتجدون الكلّ ينشطون بأنواع النشاط والاستعداد، فالاختبار فيه شيء من الرهبة، وهو يحدَّد مصير صاحبه، فتغمره الفرحة بالنجاح، ويسود وجهه أو يعلوه الاكتئاب بالفشل والرسوب إن كان عنده كسَل أو تقصير.
نعم أيّها الاخوة المؤمنون، نعم أيها الأباء والأبناء، إن الموقف رهيب وإن المسؤولية عظيمة وكبيرة، ولكنها مهما كانت كبيرة ومهما كانت عظيمة ومهما كان الموقف رهيبا يبقى ذلك كله أهون وأسهل من الموقف العظيم بين يدي الله، ومن المسؤولية والاختبار الذي يكون بين يدي الله تعالى.
الكل فينا سيسافر سفرا بعيدا، بل سفرا نهائيا يودّع فيه هذه الحياة، ويترك فيها كل مكان يؤمله ويحبه ويسعى من أجله، ليقف بين يدي ربّ العزة تبارك وتعالى، وقد أخرج له كتابا يلقاه منشورا، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا. يقف للاختبار الرهيب حقًّا والموقف العظيم حقًّا عند أحكم الحاكمين الذي يضع الموازين القسط ليوم القيامة ولا يظلم أحدا، واسمعوا إلى خطبة عتبة بن غزوان في ذلك: (إن الدنيا قد آذنت بصرم، وولت حذَّاء، ولم يبق منها إلا صُبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنه قد ذكِر لنا أن الحجرَ يلقى من شفة جهنّم فيهوي فيها سبعين عاما لا يدرك لها قعرا، وَوالله لتُملأَنّ، أفعجبتم؟! ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام). فهل ترون ـ أيها المسلمون ـ أن استعدادنا لذلك الامتحان كان متناسبا مع أهميته وعظمته وقد خلقنا الله تعالى من أجله حيث قال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إَلاَّ لِيَعْبُدُونِ ، ثَمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ.
لقد أنعم الله تعالى على الإنسان بما لا يحصَى من النعم والخيرات والمواهب، قال سبحانه: وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا ، وأعطاه كلّ ما يساعده على اجتياز الامتحان بنجاح، وعندئذ اختلف الناس فمنهم من آمن ومنهم من كفر، منهم من اتقى وأطاع ومنهم من فجر وعصى، منهم من حقّق النجاح ومنهم من كتِب عليه الشقاوة والفشل.
وحسبنا ـ أيها المؤمنون ـ أن نقف عند بعض الأسئلة في هذا الاختبار الإلهي يوم القيامة، وقد عرفنا عليها النبي فلم يعد امتحانا سرّيًّا، بل أصبح مكشوفا معلوما حتى نهيّئ الإجابة الصحيحة بالعمل الصالح منذ هذه اللحظة التي نعيشها الآن، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه؟ )). هذه هي الأسئلة الأربعة ـ أيها المسلمون ـ لعلكم تهيّئون الإجابة عليها عمليّا لتكون سببا للفوز والنجاة والفلاح.
إن الله تعالى قد وهبك ـ أيها الإنسان ـ عمرا مديدًا وحياة طويلة عريضة، هي منحة من الله، له فيها عليك جملة من الحقوق ينبغي أن تقوم بها، وحق الله عليك هو الطاعة والعبادة فقد قال لمعاذ: (( يا معاذ، هل تدري حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟)) قال: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذّب من لا يشرك به شيئا)).
فكيف أفنيتَ عمرك أيها الإنسان؟ وبأي شيء قضيته؟ في الطاعة أم في المعصية؟ في الخير أم في الشر؟ كنت غافلا لاهيا ساهيا، أم يقظا عاقلا فطنا في أمور دينك ودنياك؟ أما أمور الدنيا فما أظنّ أحدا منا يقصّر فيها حسب طاقته، أما أمور الدين فما أدري ـ والله ـ كم نحن مقصرون فيها.
والسؤال الثاني: ((وعن شبابه فيم أبلاه؟)) ، والشباب طائفة من العمر ومرحلة منه، ولكنه مرحلة متميزة بالقوة والفتوة والنشاط والقدرة أكثر من مراحل الحياة الأخرى، فهي مرحلة القوة بين ضَعفَين، ولذلك تكون موضوع مسؤولية أشد.
والسؤال الثالث: ((عن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟)) ، يشمل فقرتين اثنتين، تحتاج ـ أيها الإنسان ـ إلى المال الذي سماه الله خيرا فقال عنه: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ، زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ. هذه الزينة وهذا المال الذي نسعى جميعا إليه: ما الطريق الذي سلكناه حتى نحصل عليه؟ هل أخذناه من حلّ أم من حرام؟ لقد حدّد لنا الإسلام طرائق للكسب الحلال، وحذرنا من طرائق الكسب الحرام، والكلّ فينا يعرف ما يجوز وما لا يجوز في المعاملات، فإن الحلال بيّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، ولأن الإنسان يحبّ المال حبّا شديدا، فقد يدفعه ذلك إلى أن يسلك كل طريق للحصول عليه، ولذلك جاءت الآيات والأحاديث تحذرنا من كل كسب غير مشروع، ومن أكل أموال الناس بالباطل، ومن الغش والربا والاحتكار، ومن السرقة والغصب، وتحذرنا من أن نكون عبيدًا للمال: ((تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض)).
ويبقى الشق الثاني من السؤال: فيم أنفقت هذا المال الذي اكتسبته؟ فلا يكفي أن تكسبه من حلال، بل يوجب عليك الإسلام أن تنفق كذلك في الحلال، يوجب عليك أن لا تضعه إلا في باب مشروع أو في طريق حلال، فلا تنفقه على طعام حرام ولا على شراب حرام ولا على سماع حرام، فإن اشتريتَ ما لا يجوز سماعه أو الاستماع إليه فأنت آثم تعرض نفسك للعقوبة، وإن اشتريت طعاما لا يجوز أكله فتعرّض كذلك نفسك للعقوبة، إن أنفقته على الهوى والملذات والشهوات المحرمة فأنت معرّض لعقوبة شديدة، ففتّش عن طعامك وشرابك، وفتّش عن الأثاث في بيتك وعن الزينة فيه وعن كل نفقة تنفقها، فتش عن ذلك كله حتى تعرف هل أنت تنفق في حلال أم في حرام، فإن كان الحلال فأنت سعيد بذلك تفوز بموعود الله تعالى وجنته، وما أعظم ربحك عندئذ.
والسؤال الأخير: ((وعن علمه ماذا عمل فيه؟)) ، لقد أعطاكم الله تعالى عقلا وهيأكم لتلقي العلوم فتعلمتم، وليس المتعلّم كالجاهل، وليس البصير كالأعمى، فماذا عملتم في هذا العلم أيّا كان مستواه. إنك تعلم أن لك ربّا تعبده، وأن رسولا بعثه الله إليك، وأن دينا وشرعا نزله الله، وأن كتابا أوحى الله به إلى نبيه، فهل عملت بهذا العلم الذي تعلمته فأنقذت نفسك من الهلاك أم خالفت ما تعلّمت فعرّضتَ نفسك للمَقت والهلاك؟ والله تعالى يعاقب قوما لا يعمَلون بعلمهم فيقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ.
عن أسامة بن زيد قال: ((يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه ـ أي: أمعاؤه ـ ، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما لك؟! ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه)).
أيها المسلمون، هذا هو الاختبار قد عرفتموه وعرفتم أسئلته، وأنتم داخلون فيه، فإما إلى جنة وإما إلى نار، وإذا كانت الجنة عظيمة وإذا كان فضل الله واسعا ورحمته وسعت كل شيء فإن ناره رهيبة وعقوبته شديدة وأخذه أليم، وقد بين النبي صفتها فقال: ((ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم)) ، قيل: يا رسول الله، إن كانت لكافية، قال: ((فضِّلت عليهنّ بتسعة وستين جزءا كلّهنّ مثل حرّها))، وعن أنس قال: قال رسول الله : ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرا قط؟ هل مرّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسا قط؟ هل مرّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مرّ بي بؤس قط، ولا رأيت شدّة قط)).
أيها المؤمنون، فإنه النار محفوفة بالشهوات التي تميل النفس إليها مع أنّ هلاكها في ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعدّه الله لأهلها فيه، ثم جاء فقال: أي رب، وعزّتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم حفّها بالمكاره، ثم قال: يا بجريل، اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: أي رب، وعزتك لقد خشيتُ أن لا يدخلها أحد، قال: فلما خلق الله النار قال: يا جبريل، اذهب فانظر إليها، قال: فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: أي رب، وعزتك، لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفّها بالشهوات ثم قال: يا جبريل، اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها فقال: أي رب، وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دَخلها)).
فاللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل أو اعتقاد، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل أو اعتقاد...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3336)
خُلُق السماحة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة, مكارم الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
4/7/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- يُسر الإسلام. 2- دعوة الإسلام إلى خلُق السماحة. 3- السماحة في البيع والشراء. 4- السماحة في قضاء الحقوق. 5- السماحة في اقتضاء الحقوق. 6- فضل القرض. 7- السماحة في الإجارة. 8- السماحة في التعامل مع الناس. 9- سماحة النبي ورحمته. 10- النهي عن تخصيص رجب بشيء من الأعمال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوَى.
عبادَ الله، ثبَت عنه أنّه قال: ((أيسرُ الدّين الحنيفيّةُ السّمحة)) [1].
شريعةُ الإسلام كلُّها خير ورحمةٌ وعدل ومنفَعة للبشريّة في دنياهم وآخِرَتهم لمن قبِلَها وآمَن بها والتزَمَها، ونبيّنا وصفَه الله بأنّه رحمةٌ للعالمين: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وقال عنه جلّ جلاله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]. بعثه الله بالحنيفيّة السّمحَة، رفَع الله ببِعثتِه الآصارَ والأغلال التي [كانت] على مَن قبلنا مِن الأمم حينما وضِعت عليهم عقوبةً لهم قال تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157].
رفع الله الحرجَ عن هذهِ الأمّة فيما أمَرها به ونهاها عنه: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]. أخبرنا ربّنا أنه أراد بنا اليسرَ فيما شرعَ لنا: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة:185]. وعندما يتأمَّل المسلم هذه الشريعةَ حقَّ التأمّل ليرى السماحةَ واليسرَ جليّين في الأوامر والنواهي، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115].
فانظر إلى أصلِ الدّين توحيد ربِّ العالمين وإخلاص الدّين له، لما اشتدَّ الأمر على المسلمين بمكّة وعذِّب الضعفاءُ ومن لا ناصرَ له في الأرض، عذّبوا وأوذوا قال الله لهم: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]. فأُبيح لهم النطقُ بكلمةِ الكفر تخلُّصًا مِن عذابِ المشركين وظلمِهم وعدوانهم وربّك حكيم عليم.
ثم انظر إلى فرائضِ الإسلام، انظر إلى الطهارةِ التي جعَلَها الله شرطًا لصحّة الصلاة، وفي الحديث: ((لا يقبل الله صلاةً بلا طهور)) [2]. هذه الطهارةُ بالماء التي هي شرطٌ لصحّة الصلاة عندما يفقِد المسلم الماءَ أو عندما يتعذَّر عليه استعمالُه لمرضٍ أو قروحٍ ونحو ذلك أبيحَ له أن ينتقِل إلى التيمّم: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، وفي الحديث: ((وجُعِلت ليَ الأرض مسجدًا وطهورا)) [3].
انظر إلى الصلاةِ التي هي الرّكنُ الثاني من أركانِ الإسلام، أوجب الله لها القيامَ والرّكوعَ والسّجودَ واستقبالَ القبلة، إذًا فأركانُها وشروطُها قد تسقُط عند العَجز عنها، في الحديث: ((صلِّ قائمًا، فإن لم تستطِع فقاعدًا، فإن لم تستطِع فعلى جَنب، فإن لم تستطِع فمستلقيًا)) [4]. فيصلّيها المسلمُ على قدرِ حالِه، وفي الآية يقول الله: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]، مستقبلي القبلةَ أو غير مستقبليها عندما تدعو الضرورةُ إلى ذلك. وكم شرَع الله صلاةَ الخوف وما فيها من تخفيفٍ في الأركان؛ لأن ذلك من يسرِ هذه الشريعة.
ثم انظر ـ أخي المسلم ـ أنَّ هذا الدينَ من يُسرِه وسماحته أنَّ المسلمَ إذا نوى الخيرَ وعجزَ عنه فإنّ الله يثيبه على قدرِ نيّته، في الحديث: ((إذا مرِض العبدُ أو سافر كتَب الله له ما كان يعمَله صحيحًا مقيما)) [5].
انظر إلى الصيامِ، جعله الله ركنًا من أركانِ الإسلام، شهرًا في العام شهر رمضان. أوجب الله على المقيمِ الصحيحِ أن يصومَ رمضانَ في وقته أداءً، وجعل هذا ركنًا من أركانِ الإسلام، وأباح للمريضِ والمسافِرِ الفطرَ وأن يقضيَا أيّامًا أُخر، وأباح للشيخِ الهرِم الكبير الذي يُعجزه الصيام مُطلقًا أن يطعمَ كلَّ يوم مسكينًا عِوَضًا عن الصيام، ولذا قال الله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة:185].
فَرضَ الحجَّ على المسلم في عُمره مرّةً، وجعل هذا الفرضَ مشروطًا بالاستطاعة البدنيّة والماليّة: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].
وجعل النفقةَ على الزوجةِ والأولاد على قدرِ استطاعة العبدِ: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7].
أيّها المسلم، وشريعةُ الإسلام مِن خُلقِها السماحةُ، والشريعةُ تدعو المسلمَ لأن يكونَ متخلِّقًا بالسماحةِ في تعامُله مع عباد الله؛ لأنّ هذه السماحةَ التي يتخلَّق بها المسلم تقوِّي الإيمانَ في قلبه قبل كلِّ شيء وتضعِف الثوابَ له عند الله، ثم تشدُّ أزرَه بإخوتِه، فتكون المحبّةُ والمودّة سائدةً بين أفرادِ المجتمع.
فشريعةُ الله إذا تخلَّق بها المسلمُ في تعامُله مع عبادِ الله حقًّا فإنها تجلِب له المحبةَ والمودّة وتجعل له في قلوبِ العباد محبّةً مع ما سبَق ذلك من رِضوان الله، وما وعَد الله به المسلمَ خيرٌ من هذا كلِّه، وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى [الضحى:4].
أيها المسلم، العبدُ في هذه الدنيا لا بدَّ له من تعامُلٍ مع الناس أَخذًا وعطاءً والتقاءً مع أفرادِ المجتمع، فلا بدَّ أن يروِّض نفسه [على] السماحةِ في تصرّفاته كلِّها؛ في بيعه، في شرائه، في قضائه، في استقضائه حقَّه، في تعامُله مع الناس، في سيرته وجلوسِه معهم وصحبته لهم، في كلِّ الأحوال. فإذا تخلَّق بالسماحةِ يسَّر الله أمرَه وبارك له في أحوالِه كلِّها.
أيّها المسلم البيع تبادُل منافع بين الأفرادِ، هذا يبذلُ سلعتَه، وذا يبذل قيمتَها، ونبيّنا أرشد المسلمَ أن يكونَ متخلِّقًا بخلُق السماحةِ في بيعه وشرائه، فيقول : ((رحِم الله امرئًا سَمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتَضَى)) [6] ، وقال: ((أفضل المؤمنين رجلٌ سمحٌ في بيعِه وسَمح في شرائه وسمحٌ إذا قَضى وسمح إذا اقتضى)) [7].
نعم أيها المسلم، يكون المسلِم سمحًا في بيعِه، ليس الهدف أن يفرِّطَ في أمواله، ولا أن نقولَ تصرَّف فيها تصرّفَ السفيه فتدفعُها بلا قيمةٍ تأخذها، هذا لا يقولُه أحَد، ولكنَّ السماحةَ في البيع تتمثَّل بطيبِ النفسِ وسخاءِ النّفس وكرَم النفس وجودِها، أنت بائعٌ ومستفيد، ولكنَّ السماحةَ لا بدَّ أن تصحبَك في بيعك. استقصاءُ الحقوق كاملةً تامّة لا يليق بك في موضعِ البيع، أنت تَبيع وتبحثُ عن الفائدة، وتطلُب المزيدَ من فضلِ الله، ولكن لتكُن السماحة واضحةً عليك وعلى نظراتِك وبسماتك أثناءَ بيعك، فتبيع حقًّا، وتطلُب حقًّك، وتعرِض سِلعتَك، ولكن اعلم أنّ السماحةَ خلُق كريم، وأنّ السماحةَ عنوان كرَم النّفس وجودِ النفس وطِيبِ الخلُق، وهي حقيقتُها عدمُ الاستقصاءِ التامّ في كلّ الأمور. فبعضُ الباعَةِ عندَما تفاوِضه في قيمةِ سِلعةٍ يريد بيعَها بدَلَ أن يفاوضَك بخلُقٍ طيّب إذا عرضتَ له سَومًا ما انقضَّ عليك غَضبًا واستهزاءً وسخريّة وقيلٍ وقال ورفع الصوتَ وأتى ببذاءة ِالقول وفحش اللفظ، ليس هذا مِن خُلُق المسلم.
المسلمُ سمحٌ، يطلب حقًّا، ويبيع للاستفادَة، ولكن لا بدّ من السماحةِ في البيع حتى تكونَ الأمور سائرةً على المنهج الصحيح، ولا بدّ للمشتري أيضًا وهو الذي يريد الشراءَ ويرغَب فيه أن تكونَ لدَيه سماحة؛ سماحةٌ في شرائه، فلا ينبغي أن يكونَ هناك رفعُ صوتٍ أو تبادُل سوء أو لمزٍ أو عيبٍ للبائع أو عيبٍ لسِلعته أو استنقاصٍ من قدره أو غير ذلك، لا، بل يكون سمحًا حتى في شرائه وفي بذلِه المال لقيمةِ سلعته، فتكون السماحة ظاهرةً عليه، فيتبادل الناس منافعَهم بنفوسٍ طيّبة وخلُق كريم وكرَم نفسٍ وعلوّ همّة.
ثم أيضًا المسلم سمحٌ في قضائه، فإذا كانَت الحقوقُ في ذمّته فليكن سَمحًا في قضائِه، بمعنى أن لا يماطِل بالحقوق، ولا يضطرَّ صاحبَ الحقِّ لرفعِ صوتِه فالنبيّ يقول: ((إنَّ لصاحبِ الحقِّ مقالاً)) [8]. فتكون سمحًا في قضائِك بأن تعطيَ الناسَ حقوقَهم في وقتِها، لا تماطل بهم، لا تخدعهم، لا تكذِب عليهم، لا تعطيهم المواعيدَ بعد المواعيد وأنت كاذِبٌ في وعدِك غيرُ وفيٍّ بما التزمتَ به. إذا كان الأمرُ يشقُّ عليك فتدبَّر أمرَك قبلَ أن تتعلَّقَ بذمتك حقوقُ الآخرين. فكن سمحًا في قضائِك بأن تحرِصَ على الوفاءِ وتعطيَ الناسَ حقوقَهم طيّبةً بذلك نفسُك غيرَ مماطلٍ غيرَ كاذب غيرَ هارب، إنما أنت صادِق في الوعد صادقٌ في القول، لا يشعُر منك البائع بكذِبٍ ولا إخلافِ وعدٍ ولا أمورٍ دنيئة، ولا تضطرّه إلى المحاكِمِ والترافُع إليها، بل أنت تَرى حقوقَ العباد واجبًا يذلها بطيبِ النّفس. هكذا يكون المسلم في قضائه.
ثم مَن له الحقُّ أيضًا مطلوبٌ منه أن يكونَ سمحًا في اقتضائه، يراعي شعورَ الآخرين، ويراعي ظروفَهم، ويراعي أحوالَهم، هو حقًّا مطالِبٌ بحقّ ولا شكّ، مطالِب بحقٍّ وله القول، لكن مع هَذا كلِّه فلا بدَّ من السماحة، فلا تلجِئ أخاك إلى ما لا يطيق، وخاطِبه بالقولِ الحسَن، وحتى في مرافعَتك كن عدلاً وسمحًا في أمورِك، فما يحِلّ المشاكلَ وينهيها بالطّرق الميسَّرةِ السّمحَة فذاك خيرٌ من أمورٍ تقسو بها القلوبُ وتعظم بها الفجوَة بين الإخوان المسلمين؛ ولذا شُرِع التيسير في الاقتضاءِ، والله جل وعلا قال لنا: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، فأمرنا أن ننظِر المعسرَ عندما نقتضِي منه أن نُنظرَه إن علِمنا فقرَه وقلَّةَ ذاتِ يده، فلنُنظره إلى أن ييسِّرَ الله الأمرَ له، لكن أن نشمتَ به، ولكن أن نفضَحَه، ولكن أن نقولَ ونقولَ فيه ونحن نعلَم أنّه ليس ذا قدرةٍ على الوفاء فذاك مما حرّم الله.
أخبرنا نبيّنا أنَّ عبدًا من عبادِ الله أوقفَه الله بين يدَيه، سأله عن حسناتِه فلم يكن إلاَّ قوله: إني كنتُ أبايِع الناس وآمُر غِلماني أن ييسِّروا على الموسِر ويُنظِروا المعسِر، قال الله: أنا أحقُّ بالتجاوز منك، فتجاوَز الله عنه [9]. فربُّنا أكرمُ الأكرمين وأجوَد الأجودين. أخبر أنّه ييسِّر للموسِر فيمهله، وينظر المعسِر المعدِم، لا يترافَع به إلى المحاكم، ولا يضطرّه إلى أن يسجَنَ، ولا يفضحه بين النّاس فيفقِد الناسُ الثقةَ به، ويقول: هذا الذي ماطلَ بحقِّي وظلمني، هذا الكذّاب، هذا الجاحد، هذا الظالم، هذا فاسِد الذمّة إلى آخره، لا يا أخي، إذا علِمتَ عسرَه وقِلّةَ ذات يدِه فاعلم أنّ إنظارَك له إلى القدرةِ صدقةٌ منك على نفسِك وسماحةٌ تخلَّقت بها، تلقى الله بها يومَ تكون أفقرَ الناس ولو لمثقالِ ذرّةٍ يرجح بها ميزانُ عملِك.
أيّها المسلم، القرضُ من المرافِق، يُقرِض المسلم أخاه وقتًا ما، ولهذا شُرِع أيضًا للمقرِض أن يكونَ سمحًا في قضائِه، وشرِع للمقترِض أن يكون سمحًا أيضًا في وفائه. نبيُّنا محمّد قد جبله الله على مكارمِ الأخلاق وفضائِل الأعمال، فهو خير الخَلق خُلقًا، هو أكمَل الخلق خلُقًا، وأكمل الخلقِ طيبَ نفسٍ وسماحةَ معامَلة، وأكرَمُ الخلق في كلِّ الخصال الحميدة، وصدق الله إذ قال فيه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فهو ينصِف من نفسِه قبل أن ينصِف الناس منه. اقتَرَض من رجلٍ بَكرَة صغيرةً، فلما جاء ليستوفيَ المقرِضُ حقَّه قالوا: ما وجَدنا إلاَّ رباعًا خيارًا، قال: ((أعطوه إيّاه، فإنَّ خيرَكم أحسنُكم قضاءً)) [10] ، فصلواتُ الله وسلامُه عليه أبدًا دائمًا إلى يومِ الدّين.
أيّها المسلم، كن سَمحًا في اقتضاءِ الأُجرةِ، وكن سمحًا في قضاءِ حقِّ الأجير، لا تماطل بالأجير ولا تظلِمه، وكن سمحًا في بذلِ ما تحقَّق عليك في ذمَّتك مِن أُجرة، كما أنَّ المستأجِر يجب أن يكونَ سمحًا فيدفعُ الأجرةَ إلى صاحبها من غيرِ ضرَرٍ وأذًى يلحقه.
أيّها المسلم، والسّماحة مطلوبةٌ منك أيضًا في المعاملاتِ العامّة مع المسلمين، وفي الوضعِ الاجتماعيّ مع المسلمين لا بدّ أن تكونَ سمحًا، سماحتُك تتمثَّل في عفوٍ عمّن أساء، وفي صلةٍ لمن قطَع، وفي إعطاءٍ لمن منَع.
أيّها المسلم، اسمع الله يؤدِّب المسلمَ بالأدبِ الحسَن، يقول الله: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34، 35]، ويقول جلّ وعلا: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43]. فالحِلم على الجاهِل والعفوُ عن السّفيه وتحمُّل الأذى يكسِبك خلُقًا كريمًا ومكانةً في مجتمعك، وقبل ذلك عند الله الثوابُ العظيم، فتكونُ لك المكانةُ المرموقَة، وتعرَف لك تلك المكارِم بصبرِك وعفوِك وحِلمك عن جاهل وعدمِ مخاطبِتك للسفهاء. يقول الله في وصفِ عبادِ الرحمن: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63].
هكذا سماحةُ الإسلامِ في التعامُل، إنَّ المسلمَ سمحٌ في تعاملِه مع أصحابه، فلا يعاتِب على كلّ خطأ، بل يعفو ويتناسَى ويتجاهَل كثيرًا من الأشياء لتدومَ المودّة والإخاء. أنت مع زوجتِك لو تعاتِبُها كلَّ يومٍ على كلِّ شيء لسئمت منك وضجِرت الحياةَ معك، ولكن إذا كنتَ تتغاضَى عن بعض الأشياءِ وتتناسى بعضَ الأشياء غير مخلّةٍ بشرَف ولا دين، ولكن تساهُلٌ وتسامح، عند ذلك تدومُ المودّة.
أنس خادِم محمّد ، خدمه عشرَ سنين، وها هو أنَس يخبِرنا عن خلُق النبيِّ مع من يخدِمه ومع من يقضِي حاجتَه، يقول أنَس: خدمتُ نبيَّكم عشرَ سنين، والله ما قال لي لشيء لم أفعله: لماذا لم تفعله؟ ولا لشيءٍ فعلتُه لماذا فعلته؟ [11]. وأخبرنا أنس أيضًا أنّه إذا قرِّب له الطّعام إن أعجَبَه أكَل، وإن لم يعجِبه لم يعِب ذلك الطعامَ، ولكن قال: ((لا أشتهيه)) [12] ، فما في خُلقِه فضاضةٌ ولا فُحشٌ ولا سوءُ خلُق صلوات الله وسلامه عليه.
يقدِّم ربيعةُ الأسلميّ له وضوءَه فيقول: ((يا ربيعة، سلني حاجتَك)) ، لأنّه قدّم له وضوءَه، قال: ((سلني حاجتك)) ، كرَمُ النفسِ وعلوُّ الهمّة يقول لهذا الصحابي لما قدّم له الوضوء: ((سلني حاجتك)) ، قال: أسألُك مرافقتَك في الجنّة، لقد طلَب أمرًا عظيمًا، وتطلَّعت نفسُه إلى هذهِ الحاجةِ الكبيرة التي يقول الله فيها: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، قال: ((يا ربيعة، أعِنِّي على نفسِك بكثرة السجود)) [13].
سماحتُه في إرضاءِ الكلّ وإزالةِ اللَّبس عن كلّ أحد، فأصحابُه الكرام المهاجرون والأنصار كان معَهم في أسمحِ الخلُق وأعلاه وأكمله. لما انتهت غزوةُ حُنين وزَّع غنائمَه وخصَّ المؤلّفةَ قلوبُهم حديثي الإسلام بالأموالِ ترغيبًا لهم في الإسلام وتقويةً للإيمان، وترك أولئك القومَ الذين امتلأت قلوبُهم إيمانًا ويقينًا، فالدّين لا يعدِله عندهم شيء، فكأنَّ الأنصارَ وجدوا في أنفسهم إذ لم يُعطَوا من تلكَ الغنائِم وقال قائلهم: رحِم الله رسولَ الله، وجَد قومَه وعشيرتَه فأعرض عنّا، أو نحو ذلك، فجمَعَهم جميعَ الأنصار ولم يدخِل معهم أحدًا، وقال لهم: ((يا معشرَ الأنصار، ألم أجِدكم ضُلالاً فهداكم الله بي؟!)) قالوا: الله ورسوله أمنُّ، ((ألم أجِدكم متفرِّقين فألَّفكم الله بي؟!)) قالوا: الله ورسوله أمنّ، ((ألم أجِدكم عالةً فأغناكم الله بي؟!)) قالوا: الله ورسوله أمنّ، قال: ((أتَرضونَ أن يرجعَ الناس بالشاء والبعير وترجِعون بالنبيِّ إلى رحالكم؟! المحيا محياكُم، والمماتُ مماتُكم، الأنصارُ شِعارٌ والناس دِثار)) ، قال: فبكى القومُ حتّى أخضَبوا لِحاهم وقالوا: رضِينا بالله وبرسولِه [14]. هذا الخلُق العظيم والسماحةُ العالَية التي يزيل فيها ما قد يُلقيه الشيطانُ في النفوسِ؛ ليطهِّرَ قلوبَ أصحابه، فيعرفوا مكانته، صلوات الله وسلامه عليه.
يدخل مكّةَ فاتحًا منتصِرًا عاليَ الرأس بنصرِ الله وتأييده، وتجتمع قريش في الحرم ينتظرون مصيرَهم، وماذا سيكون حالهم، فمِنهم من قد قتل منهم مَن قتل، ومنهم من قد آذاه وآذى أصحابه، فماذا سيكون المآلُ والعاقبة؟ فيصعَد الكعبةَ ويقِف ببابها ويقول: ((يا معشر قريش، اذهَبوا فأنتُم الطلقاء)) [15] ، صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
فكن ـ أخي المسلم ـ متخلِّقًا بالسّماحة في أحوالك كلِّها، واقتدِ بنبيِّك، فهو خير قدوةٍ لك وأسوةٍ لك في أحوالك كلّها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
باركَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيهِ منَ الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هَذا، وأستغفِر الله العظيم الجليلَ لي ولَكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذَنب، فاستغفروه وتوبوا إِليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] علقه البخاري في كتاب الإيمان مجزومًا به، ووصلَه في الأدب المفرد (287)، ورواه أحمد (1/236)، وعبد بن حميد (569)، والطبراني في الكبير (11/227) عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: ((أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)) ، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (1/94)، وقال الهيثمي في المجمع (1/60): "وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ولم يصرّح بالسماع"، وله شواهد كثيرة، ولذا أورده الألباني في السلسلة الصحيحة (881)، وانظر: السلسلة الصحيحة (2924).
[2] رواه مسلم في الطهارة (224) عن ابن عمر رضي الله عنهما نحوه.
[3] رواه البخاري في التيمم (335)، ومسلم في المساجد (521) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[4] رواه البخاري في الصلاة (1117) عن عمران بن حصين رضي الله عنه، وليس فيه الصلاة مستلقيا.
[5] رواه البخاري في الجهاد (2996) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه نحوه.
[6] رواه البخاري في البيوع (2076) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما نحوه.
[7] رواه الطبراني في الأوسط (7544) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه نحوه، قال منذري في الترغيب (2/354): "رواته ثقات"، وتبعه الهيثمي في المجمع (4/75)، وهو مخرج في السلسلة الضعيفة (2853). وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه الترمذي في البيوع (1319)، وأبو يعلى (6238)، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب"، وصححه الحاكم (2338)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1064).
[8] رواه البخاري في الاستقراض (2390، 2401)، ومسلم في المساقاة (1601) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (3452)، ومسلم في المساقاة (1560، 1561) عن حذيفة وأبي مسعود البدري رضي الله عنهما نحوه.
[10] رواه البخاري في الوكالة (2305، 2306)، ومسلم في المساقاة (1601) عن أبي هريرة رضي الله عنه بمعناه.
[11] أخرجه البخاري في الأدب (6038)، ومسلم في الفضائل (2309) نحوه.
[12] روى البخاري في الأطعمة (5409)، ومسلم في الأشربة (2064) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما رأيت رسول الله عاب طعاما قط، كان إذا اشتهاه أكله، وإن لم يشتهه سكت.
[13] رواه مسلم في الصلاة (489) عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه.
[14] رواه البخاري في المغازي (4330)، ومسلم في الزكاة (1061) عن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه نحوه.
[15] أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (4/412) فقال: "حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله قام على باب الكعبة فقال:..." فذكره في حديث طويل، وهذا سند معضل، وروي عن قتادة السدوسي مرسلاً، أخرجه الطبري في تاريخه (2/161) من طريق ابن إسحاق.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
اللهمَّ بارِك لنا في رجب وشعبان، وبلِّغنا بفضلك رمضانَ، إنّك على كل شيء قدير.
أيّها الإخوة، شهرُ رجَب أحد الأشهر الحرم الذي قال الله فيه: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36].
هذا الشّهرُ أحَدُ الأشهرِ الحرم، لكن المؤمنُ مأمورٌ باتّباع محمّد في كلّ أحواله. هذا الشهر ليس له خصوصيّةٌ من جِهة إحياءِ بعضِ لياليه أو صيامِه أو صيامِ بعض أيامه أو عمرة لأجل كونه في رجَب أو صيام أو صدقة في هذا الشّهر خاصّة، كلّ هذه لا أصلَ لها، فلا أصلَ لصلاةٍ في لياليه، أو صيامِ بعض أيّامه أو كلّه، أو عمرة لكونه رجَب، أو أيّ عملٍ يخصّ ذلك الشهرَ دون سائر الشهور، فتلك أمورٌ لا أصلَ لها في شريعة الإسلام، والمؤمنُ مأمورٌ بالخير في كلّ الأحوال والتقرُّب إلى الله بما يرضيه، لكن تخصيصُ هذا الشهرِ بعبادةٍ لكونِه رجَب هذا أمرٌ لا أصلَ له في الشرع، بل ذلك من البدَع التي نهانا عنها نبيُّنا حيث يقول: ((من أحدثَ في أمرنا هذا ما ليسَ منه فهو ردّ)) [1] ، وفي لفظٍ: ((من عمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ)) [2].
اعلَموا ـ رَحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخَيرَ الهديِ هدي محمّدٍ ، وشَرّ الأمورِ محدَثاتها، وكلَّ بدعةٍ ضَلالة، وعَلَيكم بجمَاعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله عَلى الجَمَاعة، ومَن شَذّ شذّ في النّار.
وَصَلّوا ـ رحمكم الله ـ عَلَى محمّد كما أمَركم بذلِكَ ربّكم حيث يقول: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صَلِّ وسَلِّم وَبَارِك عَلَى عبدِك ورسولِكَ محمَّد، وارضَ اللهمّ عَن خلفائِه الرّاشدين...
[1] رواه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718) عن عائشة رضي الله عنها.
[2] هذه الرواية عند مسلم: كتاب الأقضية (1718)، وعلقها البخاري في الاعتصام.
(1/3337)
يوشك أن تداعى عليكم الأمم
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
فيصل بن عوض الردادي
الظهران
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موقف هارون الرشيد من رسالة ملك الروم. 2- نداء إلى أهل العراق وحثهم على الصبر والصمود. 3- أسباب النصر. 4- مبشرات بنصر الإسلام والمسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فعندما تضعف أمة الإسلام فإن كلاب الأمم تطمع بخيراتها ومقدّراتها، بل تتجرأ على غزو ديارها، وإن كلاب الأمم بعامّة لا يُجدي معها سوى لغة إلقام الحجر، ولا يردعها سوى لغة: ((خمس فواسق يُقتلن في الحلّ والحرم)) ، ولا يردّها خاسئة ذليلة حقيرة إلا منطق سليمان عليه الصلاة والسلام: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل:38]، ولا يقطع دابرها سوى مقولة: ((مَنْ لِكعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله)) رواه البخاري، ولا يردّها عما عزمت عليه غير منطق: (الجواب ما تراه لا ما تسمعه).
لقد كان هذا هو منطق أمير المؤمنين وخليفة المسلمين في زمانه هارون الرشيد، يومّ أطلقها مُدوّية من بغداد. لقد تجرأ نقفور ملك الروم، فكتب ـ مُجرّد كِتابة! ـ إلى هارون ملك العرَب: "أما بعد: فإن الملِكة التي كانت قبلي أقامتك مقامَ الرُّخ، وأقامت نفسها مقام البيدَق، فحملت إليك من أموالها، وذلك لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأتَ كتابي فاردُد ما حصل قبلَك، وافتدِ نفسَك، وإلا فالسيف بيننا". فلمّا قرأ هارون الرشيد الكتاب اشتدّ غضبه، وتفرّق جلساؤه، خوفًا من بادِرة تقَع منه، ثم كتَب بيدِه على ظهرِ الكتاب: "من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه". ثم ركب من يومِه، وأسرع حتى نزل على مدينة هرقلة، وأوطأ الروم ذلاًّ وبلاءً، فقتل وسبى وذلّ نقفور، وطلب نقفور الموادعَة على خراج يؤدّيه إليه في كلّ سنة، فأجابه الرشيد إلى ذلك.
لله درك يا هارون الرشيد، والله إنّ الأمة بحاجة إلى مُخاطبة طاغيةِ الروم اليومَ بهذا الخطاب وبهذه القوّة وبهذه اللغة، وكم هو والله بحاجة إلى أن يُعرَّف قدرَه.
يا ألفَ مليون تكاثر عدّهم إن الصليب بأرضنا يتبخترُ
فالحرب دائرة على الإسلام يا قومي، فهل منكم أبيٌّ يثأرُ
يتقاسم الأعداء أوطاني على مرأى الورى وكأننا لا نشعرُ
أين النظام العالمي ألا ترى شعبًا يُباد وبالقذائف يُقبرُ
أين العدالة أم شعار يحتوي سفك الدماء وبالإدانة يسترُ
مادام أن الشعب شعب مسلمٌ لا حلّ إلا قولهم: نستنكرُ
يا أمتي والقلب يعصره الأسى إن الجراح بكل شبرٍ تُسعِرُ
والله لن يحمي رُبى أوطاننا إلا الجهادُ ومصحف يتقدّر
عباد الله، آن لنا أن نخاطب إخواننا الصامدين الثابتين الرابضين في الخنادق أمام الزحف الصليبي اليهودي الحاقد، فهذه نداءات يطلقها إخوان لكم من قلوب تحترق لما ترى من تكالب أعداء الله عليكم وعظيم ما وقع عليكم من ظلم، وهي تعيش شعوركم، وتحسّ إحساسكم كغيرهم من آلاف الملايين، تحترق قلوبهم لما يجري لكم، وترقص طربًا لبطولاتكم وثباتكم، عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ?لأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف:129].
يا أهل العراق، يا أهل الرافدين، يا أهل الكوفة والبصرة، يا أهل بغداد، يا دار الخلافة ومنبت العلم والعلماء والفقه والفقهاء والحكمة والحكماء، بلد أمير المؤمنين الرشيد وإمام أهل السنة أحمد بن حنبل والقائد المظفر المثنى بن حارثة، أنتم الآن رمز الأمة وحملة لواء بطولاتها فلا تخذلوها. الله الله، لا تبتغوا بإسلامكم بديلاً، فهو سرّ عزتكم وكرامتكم، ما عُرفت بلادكم بحضارة آشور ولا بابل، ولكن بحضارة الدين والإسلام، ولا استمدت إمامتها من حمورابي ولا بختنصر، ولكن من خلفاء الإسلام وأئمة الدين. فالله الله، ارفعوا لواء الجهاد وهوية الإسلام، وأخلصوا الدين لله، وتبرؤوا من كل راية جاهلية؛ قومية وبعثيّة وقَبَلية، واجعلوها جهادًا صادقًا ناصعًا، بعد تصحيح الاعتقاد وتحكيم الشريعة، حتى يكون قتيلكم شهيدًا وتليدكم عزيزًا.
يا أهل العراق، أيها الصامدون، صبرًا صبرًا في مواجهة الزحف الصليبي، فإنما الشجاعة صبر ساعة، والمهزوم من يئن أولاً. تذكروا أسلافكم المجاهدين أهل القادسية والجسر والمعارك الفاصلة، كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ?للَّهِ [البقرة:249].
في دياركم وأراضيكم سقط العرش الكسرويّ، ودمّر البيت الأبيض إيوان كسرى، قال : ((عُصيبة من المسلمين يفتتحون البيض الأبيض بيت كسرى)) رواه مسلم، فعسى أن يكون على أيديكم سقوط البيت الأبيض إيوان الطاغية. ومن دياركم انطلقت ألوية فتح الهند والسند والصين والروس.
أيها الصامدون، تذكّروا الشعوب الصامدة التي قاتلت حتى آخر قطرة دم، ووقفت في وجه الاستعمار حتى آخر رجل، تذكروا أهل فيتنام الذين ذهبوا مثلاً خالدًا في تاريخ البطولة والتضحية، ودنّسوا وجه أمريكا القبيح، فلا يكن الكافرون أشدَّ وأقوى منكم بأسًا، وَلاَ تَهِنُواْ فِى ?بْتِغَاء ?لْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ ?للَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:104]. لا يكن الروس الملاحِدة أقوى منكم بأسًا حينما سطروا بطولات خارقة، وقاتلوا هِتلر قتالَ المدن على خرائب "ليننغراد" وعلى أطلال "ستالين غراد" وغيرها، أبَوا على الغزاة الألمان، وصمدوا شهورًا وسنين، وتحملوا أعنف قصفٍ جويّ ومدفعي عرفته البشرية إلى ذلك الوقت، وقاتلوا فرق الإنزال، وحصدوا فرق الصاعقة والكوماندوز، حتى هزموا الألمان هزيمة منكرة، وحطموا جيشهم الذي كان عداده بالملايين. تذكّروا تضحياتهم، بل تذكروا تضحياتِ إخوانكم الأفغان، وخوضهم غمارَ حرب، واجهوا فيها بالبنادق أقوى جبروت عسكريّ مجهَّز بكلّ الطائرات والصواريخ والمدافع، حتى هزموا الروس، وكان على أيديهم تفكّكه.
صبرًا يا أيها العراقيون المسلمون، لا يكن هؤلاء الصليبيون العلوج أشدّ بأسًا منكم، فإنما هم لفيف من اللقطاء والبغايا، وها هم يهاجمونكم ـ يا أحفاد الصحابة والعرب الأباة ـ في عقر داركم، وعلى مرأى ومسمع من العالم، فلا يكن النساء الفاجرات وأولاد العلوج أشدّ منكم بأسًا.
إياكم أن تتراجعوا في وجوه نساء الغرب، إنها سبّة التاريخ ووصمة العار، قاتلوا حتى النهاية، فإمّا الفوز وإما الشهادة.
عش عزيزًا أو مت وأنت كريم بين طعن القنا وخفق البنود
أيها المجاهدون في العراق، اعلموا أن قضيتكم عادلة، وأنتم مظلومون معتدى عليكم في دياركم، أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـ?تَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ?للَّهَ عَلَى? نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ?لَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـ?رِهِم بِغَيْرِ حَقّ [الحج:39، 40]، وكل هذه الصفات محقّقة فيكم، قوتِلتم وظُلمتم، وأراد الغزاة إخراجَكم من دياركم وسلب أموالكم وبترولكم، فلا تكونوا عبيدًا للغرب، اثبتوا واصبروا إن الله يحب الصابرين.
واعلموا أن أمريكا غاشمة ظالمة، مستبدّة متكبرة، مغرورة بقوتها، ظانّة أن لا غالبَ لها، وهذه أمارات الزوال والهزيمة، وَتِلْكَ ?لْقُرَى? أَهْلَكْنَـ?هُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا [الكهف:59]، فعسى أن يكون موعد هلاكهم على أيديكم وفي دياركم، وقال تعالى: وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا [الفرقان:19]، وقال تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَـ?رِهِم بَطَرًا وَرِئَاء ?لنَّاسِ [الأنفال:47]، وقال تعالى: لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْفَرِحِينَ [القصص:76]، وقال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18]، فأمريكا مكروهة مبغوضة لله بتكبّرها وغطرستها وظلمها.
واحرصوا أنتم على أسباب محبّة الله لكم، بتحكيمكم شرعَه واتباع هديِ رسوله والمحافظة على الطاعة وترك المعصية ورفع راية الجهاد الخالص والاجتماع وترك الفرقة، حتى يكون النصر حليفَكم لمحبة الله إياكم إذا حققتم أسبابها، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لَّذِينَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَـ?نٌ مَّرْصُوصٌ [الصف:4].
يا أهل العراق، أعلنوها إسلامية خالصة جامعة، وتبرؤوا من كل عصبية سوى الإسلام، كالبعثية والاشتراكية وغيرها، لتلتئم حولكم الشعوب، وتهوي إليكم القلوب، وتُرضوا علاّم الغيوب، فاتقوا الله واجعلوه جهادًا في سبيله لإعلاء كلمة الله تعالى.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، إن المبشرات التي يُرجى معها دَحر هذا العدوّ الكافر عديدة، فمنها:
1- ما أعدّ الله للمجاهدين في سبيلِه من الثوابِ الأوفى إذا صدقوا النية وأخلصوا القصد وقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا، وكم في القرآن والسنة من الآيات والأحاديث الواعدة بهذا الثواب، ويكفيكم قوله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ مِنَ ?للَّهِ فَ?سْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ?لَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة:111]. قال الحسن البصري: "يا عجبًا! أنفسًا خلقها وأموالاً وهبها فباع واشترى معها، وضمن الربحَ لها". الله أكبر ما أعظمَ كرم الله، تأمّلوا الشروطَ في الآية بعدها وحقّقوها: ?لتَّـ?ئِبُونَ ?لْعَـ?بِدُونَ ?لْحَـ?مِدُونَ ?لسَّـ?ئِحُونَ ?لركِعُونَ ?لسَّـ?جِدونَ ?لاْمِرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?لنَّاهُونَ عَنِ ?لْمُنكَرِ وَ?لْحَـ?فِظُونَ لِحُدُودِ ?للَّهِ وَبَشّرِ ?لْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112]، والسائحون: المجاهدون أو الصائمون.
واعلموا أن قتال أهل الكتاب المعتدين من أفضل القتال والجهاد، وذكر رسول الله أن أفضل الشهداء في زمانهم من يقتلهم النصارى في الملحمة بينهم وبين المسلمين، هذا قدركم يا أهل العراق، جاءكم الجهاد في دياركم يسعَى، ودخلت عليكم الشهادة أرضَكم وبيوتكم، فقولوا: مرحبًا بلقاء الله، واعلموا أنها سوق الجنة قامت في أرضكم، فبيعوا واشتَروا مع الله، وانووا الجهاد الصادق، وحقّقوا الدين الخالص والتوحيد الحق، وتجردوا من كل أنواع الشرك والضلالات والبدع والمحدثات، فوالله لا نحبّ أن يودّعنا منكم ذاهب إلا إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
2- ومن المبشرات كثرة دعوات المسلمين لكم في أرجاء الدنيا، شعورًا منهم بفداحة ما وقع عليكم من ظلم وإجرام، وليتكم تسمَعون ضجيجَ الأصوات بالدعوات من المساجد والبيوت والمجامع، من العجائز والأطفال والصغار والكبار والرجال والنساء، يدعون الله لكم بالنصر والثبات، ولعدوكم بالهزيمة والخذلان، فلستم وحدكم في الساحة، فكم من جنود لله مجاهيل تقاتل معكم، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر:31]. ويُحيون الليالي، ويتهجّدون في الظلام، ويدعون الواحد الأحد، ويستمطرون لكم النصر، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَ?سْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9].
وحريّ أن يستجيب الله الدعاء إذا تضافرت وتكاثرت الدعوات، وأنتم كذلك لا تملّوا الدعاءَ والتضرع، فإنه من أسباب النصر والتمكين.
3- ومن المبشرات أن عدوكم ظالم باغ متغطرس متكبر، يقاتل جنوده المكرَهون لا لهدفٍ ولا لغاية، وأنتم تقاتلون في بلادكم وبيوتِكم ودون محارمكم، فاصبروا فإن النصرَ مع الصبر، وعدوّكم يقاتل غريبًا وحيدًا في صحراء لم يتعوّدها ولا يتحملها، ولئن صبرتم قليلاً يوشك أن تشتدّ عليه الشمس، فتذوب أجسادهم المنعّمة كما يذوب الثلج تحت وهج اللهب، لا تملّوا ولا تستبطئوا النصر. عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ?لأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف:129].
(1/3338)
أحداث الخبر
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
فيصل بن عوض الردادي
الظهران
16/4/1425
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية مطلب الأمن. 2- توالي الفتن والأحداث. 3- تجريم حادث الخُبر. 4- انتكاس المعايير عند الفئة الضالة. 5- مخالفة هذه الأعمال للكتاب والسنة. 6- تعظيم الإسلام للدماء المعصومة. 7- التحذير من الخلط بين تعاليم الإسلام والأعمال التخريبية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيّها الناس، إنّ من يسبُر التاريخ الغابرَ والحاضر ببداهةِ فهمِه واتّزان نظرِه ويتعرّف على واقعِ الأمم السالفة والمجتمعاتِ الحاضِرة فلن يتطرّق إليه شكّ ألبتّة في وجود حقيقةٍ ثابتة ومبتغًى ينشدُه كلّ مجتمع وأسٍّ لا يتغيّر ولا يتبدّل مهما توالت عليه العصور وعصفت به رياح الأيّام التي يداولها الله بين الناس، ألا وهو مطلب الأمن والأمان. الأمن الذي يهنأ فيه الطعام، ويسوغ فيه الشراب، ويكون فيه النهار معاشًا والنّوم سباتًا والليل لباسًا.
وإنَّ واقعَنا اليومَ لهو واقعٌ موحِش، تتلاطم فيه ظلماتُ الفِتَن كتلاطُم موج بَحر لُجِّيّ يغشاهُ موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب، ظلماتٌ بعضها فوق بعض، وإنّ غواسِقَ هذه الفتن قد أحاطت بنا من كلِّ جانب، وأخذت بأفئدتنا كلَّ مأخَذ، بل وتخطَّفتنا على غِرَّة كما تتخطَّف الزوابع نِثار الأرض. إنَّها لفتنٌ عمياء صمَّاء بكماء، تَدعُ الحليم حيرانًا واللَّبيبَ مذهولا، ذلكم الحليم الذي رُزق خَصلةً يحبُّها الله ورسوله، الحليمُ الذي إذا شُتِم صبر وإذا ضُرِب غفَر، إنّه ليُرى إبَّان هذه الفتن حيرانًا من هول الوقع وعِظَم الخطب. الفتن التي قال فيها المصطفى : ((ستكون فتنٌ؛ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ فيها خير من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، من تشرَّف لها تستشرفْه)).
أيّها المسلمون، لقد تكاثرت في هذه الآونةِ حلقاتُ الإخلال الأمنيّ في المجتمع المسلم، وقلَّت في واقعنا هيبةُ الدم المسلم وحرمتُه وعصمتُه، ولقد أشار المسلم بالسِّلاح على أخيه المسلم، بل وأفرَغ حشوَه فيه، وهذا ما لا كُنّا نعهدُه في زمَن الاستقرار الوارف والطمأنينةِ التي عمَّت المجموع، فما الذي غيَّر الأمرَ عن مجراه؟ ولأيِّ شيء يختلف اليومُ عن الأمس؟!
وما حدث قبل أيام في مدينة الخبر هو مشهد من سلسلةِ مشاهد مروّعة انغمست فيها الأيدي الآثمة بدماء الأبرياء، لتسجّل في صفحات التاريخ أبشع معاني الغدر وانتهاك الحرمات وترويع الآمنين، فما أقساها من قلوبٍ تلكَ التي تُحاربُ إخوانًا لها، وتُكفّرُ رجالاً تعفّرتْ وجوههم بالسجودِ بينَ يدي اللهِ تباركَ وتعالى، أنفسٌ مؤمنةٌ، وقلوبٌ مُخبتةٌ، وجوارحُ متوضّئةٌ، أربابُ أسرٍ وآباءُ صبيةٍ صغارٍ، لا يُعرفُ لمَ قُتلوا، لكنَّ الشبهة َ توردُ المهلكةَ، حينَ تجعلُ من هذا المُسلمِ تِرسًا في وجهِ الهدفِ الموهومِ، فيجبُ قتلهُ ولو كانَ يُراوحُ بينَ جبهتهِ وركبتهِ للهِ تباركَ وتعالى، ودموعهُ تخضلُ لحيتهُ.
إنّها أحجية ُ القرنِ العشرينِ، ذلكَ الذي يجعلُ من الفتنةِ جِهادًا، ومن البغي فتحًا، ومن المُسلم ِ العابدِ للهِ كافرًا! بأيّ ذنب يقتَل الأطفال ومن يمسحُ البؤسَ والشقاءَ عن محيَّا آبائهم وذويهم؟! ومن يُعيدُ بهجةَ حياتِهم ومنتهى أحلامهم؟! إنَّ الحياة َ إنما تحلو بالبنينَ والبناتِ، فهم زهرة ُ الحياةِ الدنيا، وإنَّ أحدنا لو هبّتِ الريحُ على أحدِ بنيهِ لباتَ يتململُ ليلَهُ ونهارهُ، فكيفَ إذا روّعَ فيهِ بالقتلِ من شخص ٍ مسلمٍ تحتَ ذريعةِ الجهادِ؟! وقد لعنَ النبيُّ صلّى اللهِ وعليهِ وآلهِ وسلّمَ من روّعَ كافرًا في ولدهِ، وذلكَ بإبعادهِ عنهُ في السبي والغنيمةِ، فكيفَ بمن يستبيحُ دمهُ من المُسلمينَ، ويُسقطُ عصمتهُ بمبرراتٍ هي أوهى من بيتِ العنكبوتِ؟!
عباد الله، وكيف يستقيم هذا الإجرامُ مع قول ربِّنا الأعلى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]؟! وأين من اجتَرأ على هذه الحُرُمات، أين هو من وصيَّة نبيِّ الرحمة والهدى الواردةِ في خطبته في حَجَّة الوداع وهي قوله عليه الصلاة والسلام: ((فإنّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرام كحرمةِ يومكم هذا، في بلدكم هذا ـ أي: البلد الحرام، أي: مكّة ـ ، في شهركم هذا ـ أي: في شهر ذي الحجة ـ ، ألا هل بلغت؟)) قالوا: نعم، قال: ((اللهم اشهَد، فلا ترجِعوا بعدي كفَّارًا يضرِب بعضُكم رقابَ بعض)) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده، إنها لوصيتُه لأمته: ((لا ترجِعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضُكم رقابَ بعض)) أخرجه البخاري في صحيحه؟! وإذا كان للعقلاءِ مِن تمام الحِرص على إنفاذ وصايا موتاهم ما هو معلوم مشهورٌ، فكيف بوصيّة هذا النبيِّ الذي وصفه ربُّه سبحانه بقوله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]؟! أفلا تستحقُّ وصيَّته الرعايةَ والعِناية والعملَ بما جاء فيها؟! بل أليست هذه الوصيةُ دينًا نتعبَّد اللهَ به لأنّه سبحانه أمرنا بذلك بقوله عزّ اسمُه: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]؟! ثمَّ مَن المنتفِع بهذه الأعمال على الحقيقة؟! أهم المسلمون أم الأعداء؟! وهل حقَّقت لأصحابها شيئًا؟! وكيف يرتضي عاقلٌ لنفسِه أن ينقلِب إلى أداةٍ في يدِ أعدائه وأعداء بلدِه وأمّته، يبلغون بها ما يريدون، وهم موفورون لم يمسسهم سوء؟!
عبادَ الله، إنَّ على كلِّ مؤمن صادقٍ يحذَر الآخرةَ ويرجو رحمةَ ربِّه أن يرفعَ صوتَه بإنكار هذه الأعمال الإجراميّة لأنها محرَّمةٌ بنصوص الكتاب والسنة، ولأنها تعدٍّ لحدود الله وانتهاك لحرماته وعُدوان على عباده، ولأنها فسادٌ نهى الله عنه وأخبرَ أنّه لا يحبُّه، وأنه لا يُصلِح عملَ المفسدين.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الإسلام يعظّم حرمة الدم الإنساني، الويل ثم الويل لمن يقتل أنفسًا، ويروّع آمنين، ويدمّر ممتلكات، يقصدهم في مساكنهم وأسواقهم ومرافقهم، في أسواق ومرافق تعجّ بالرجال والنساء والأطفال.
أيها المسلمون، دين الإسلام واضح المعالم صافي المشارب نقي الفكر طاهر المورد، يبني ولا يهدم، ويجمع ولا يفرق، ويرفع ولا يخفض، ويعز ولا يهين، مسلك وسط يستوعب الأحكام كلّها في جليلها ودقيقها على أسس صحيحة ومسالك بينة، دون تزيّد يدعو إلى الغلو والتنطع، ولا تفريط يدعو إلى التنقّص والتهاون؛ ومن أجل هذا فيجب الحذر من إطلاق العبارات التي قد يفهم منها أن المتمسّك بالدين وآدابه وهديه هو في قفص الاتهام.
الإسلام عقيدة راسخة في القلب وآداب في السلوك ظاهرة على الجوارح، أحكامٌ ظاهرة يمارسها المسلم تميّزه عن غيره، فالأذان وصلاة الجماعة وارتياد المساجد والتزام السنة في اللباس وإكرام اللّحى والبعد عن التشبه بالكفار وأهل الفسوق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلّ ذلك وأمثاله أمور يجب حفظها ورعايتها وتقديرها وتقدير أهلها.
(1/3339)
عمر بن عبد العزيز
سيرة وتاريخ
تراجم
فيصل بن عوض الردادي
الظهران
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نقطة تحوّل عمر بن عبد العزيز. 2- ما قام به عمر بعد أن ولّي الخلافة. 3- عدل عمر. 4- تواضع عمر وقضاؤه حوائج المسلمين. 5- زهد عمر. 6- رحيل عمر من الدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أيها الإخوة، بالله ما أعظم أن نتحدث عن القيم، ما أعظم أن نتحدّث عن المثل، وما أروع أن نتحدث عن الأخلاق.
المُثُل رِجال والأخلاقُ فِعال، ولكن ما أروع أن نرى ذلك كلّه يتجسّد في سِيَر شخصياتٍ عظيمة تتسامى حتى تتحقّق فيها المثل والأخلاق والقيَم كأوضح ما تكون وأجلى.
أيّها الإخوة في الله، وفي رحاب عَلَم من هؤلاءِ الأعلام وشخصيةٍ من تلكم الشخصيات. مع الرجل الذي لم يكن قمّةً في الزهد فحسب، ولا قمّة في العبادة فحسب، ولا قمّة في الورع فحسب، وإنما كان قمّة في ذلك كله، فكانت حياته قممًا شامخة في كلّ ذلك. مع رجل نقِف في رحابه لنرى روعتَه وبساطته وعدلَه وزهده ونسكه وعبادته. مع من؟ وفي رحاب من؟ مع ابن عبد العزيز الأغرّ، مع ابن عبد العزيز عمَر، مع إمام هدى، مع عمر بن عبد العزيز ذو النفس التوّاقة، مع الرجل الذي كانت حياته معجزة، إي والله إنها لمعجزة.
عباد الله، إنا لنقرأ قصصَ المهتدين والعابدين فتنظر نقطةَ التحوّل في حياتهم، موتُ قريب، فجيعة في عزيز، كِبَر في السنّ، حدثٌ أو مرَض زعزع كيانهم حتى أفاقوا إلى رشدِهم، لكن ما هي نقطة التحوّل في حياة عمر؟ لقد كانت نقطة التحول في حياة عمر أنه وليَ الملكَ فحِيزت له الدنيا بحذافيرها، فأصبح ليس بينه وبين الله أحد من خلقه. لقد كانت نقطةُ التحول في حياة عمر أن فتِحت زخارف الدنيا كلّها بين يديه، يأخذ ما يشاء ولا يحاسبه أحد إلا الله، هذه اللحظة التي تضعُف فيها النفوس وتغفَل عن كبرى الحقائق كانت نقطة الاستفاقة في حياة عمر، فخاف أعظم ما يكون الخوف، وعدل أحسن ما يكون العدل، لقد خاف عمر ولم يكن خوفه إلا من الله، فلم يكن بينه وبين الله أحد من الخلق يخشاه، وكان خوفه عجبًا من العجب.
حدّثت زوجه فاطمة بنت عبد الملك رضي الله عنها قالت: كان عمر يذكر الله في فراشِه فينتفض كما ينتفض العصفور، ثم يستوي جالسا يبكي حتى أخاف أن يصبحَ المسلمون ولا خليفةَ لهم. كان عمر يذكر الآخرة فإذا ذكرها فكأنما هو رجل وقف على شفيرِ جهنم فرآها يحطم بعضها بعضا.
خطب عمر بالناس فذكر النار حتى ذكر قوله تعالى: نَارًا تَلَظَّى فتلجلج لسانه واشتدّ بكاؤه فقطع خطبته وجلس. هكذا كان خوف عمر، هكذا كان خوفه، هكذا كانت رهبته.
أما عدله فما ظنك بعدلِ مَن كانت هذه خشيته؟ ولي عمر الخلافة فنظر في بيت مال المسلمين، ثم نظر إلى ما في يده، ثم نظر إلى ما في يد أمراء بني أميه، فبدأ بنفسه فدعا زوجه فاطمة ابنة الخليفة وزوجةَ الخليفة وأختَ الخلفاء فقال: يا فاطمة، هذه حليّك تعلمين من أين أتى بها أبوك؟ فإن رأيتِ أن أردَّها إلى بيت مال المسلمين فعلت، وإلا خذيها وفارقيني، فوالله لا أجتمع أنا وهي في دارٍ أبدا، فقالت: لا والله يا أمير المؤمنين، بل أؤثر صحبَتَك، فردّت حليَّها على بيت مال المسلمين. فلما مات عمر قال لها أخوها: يا فاطمة، إن شئتِ رددتها إليك، قالت: لا والله لا آخذها وقد ردّها عمر. فأخذها أخوها هشام فقسمها على بناته.
ثم انقلب عمر بعد أن بدأ بنفسه إلى بني أميه، فقطع كلّ صلات كانوا يأخذونها وأعطياتٍ كانوا يستلمونها. نظر إلى بيت المال فإذا اسمه بيت مال المسلمين، بيت مال مَن؟ بيت مال المسلمين، ليس بيتَ مال عمر، ولا بيت مال الأمراء، ولكن بيت مال المسلمين، فكلّ مال أخِذ من بيت مال المسلمين فدفِع إلى أمير قام عليه عمر فردّه من حيث أخذ، واستشاط أمراء بني أميه غضبًا، فأرسلوا إليه ابنَه عبد الملك فقالوا: يا عبد الملك، إما أن تستأذنَ لنا على أبيك، وإما أن تبلّغه عنا، قال: قولوا، قالوا: أخبِره أنّ من كان قبله من الأمراء يعطوننا أعطياتٍ ويصلوننا بصلاتٍ وأنه قد قطعها عنا، مره فليردها علينا، وأبلغَ عبد الملك أباه المقالةَ فقال: ارجع إليهم فقل لهم: إن أبي يقول: إني أخاف إن عصيت ربي عذابَ يوم عظيم، إني أخاف إن عصيت ربي عذابَ يوم عظيم. لجامٌ ألجم عمر به نفسه.
وأتاه أحد بني عمّه واسمه عنبسة بن سعيد، وكان سليمان أمر له بعشرين ألف دينار، ومات سليمان قبل أن يقبِضَها، فأتى عنبسة يرجو عمر أن يمضِيَ عطاءَ سليمان، فلما جلس إليه قال: يا أمير المؤمنين، إن أقاربك وبني عمك يشتكونك، قال: وما ذاك؟ قال: يذكرون أنك لا تعطيهم كما يعطي الخلفاءُ قبلك، قال: إن مالي لا يتّسع لهم فأقسِمه بينهم، قال: يا أمير المؤمنين، إنهم لا يسألونك من مالك، ولكن يسألونك من بيت المال، قال: مِن بيت مال المسلمين يسألوني! والله ما لهم ولرجل في أقصى المغرب في بيت المال سواء، قال: يا أمير المؤمنين، إن سليمان قد أمر لي بعشرين ألف وإنه مات قبل أن أقبضها وأنت أحقّ من أمضى عطاءه، فانتفض عمر وقال: عشرون ألف دينار تغني أربعةَ آلاف من المسلمين أعطيكها؟! لا والله لا أعطيكها أبدا. فقام عنبسه يائسًا منه وهو الذي يذكر قُرباه وسابقَ مودّته، فلما وصل الباب ناداه عمر: يا أبا خالد ـ يعني عنبسه ـ، فحدثت نفسي وقلت: ذكر أمير المؤمنين قرابتي وسابقَ صداقتي فأشفَق عليّ ورجع عمّا كان قاله، فلما أتيت إليه قال: يا عنبسة، اذكر الموت فإنه ما ذكِر في قليلٍ إلا كثّره، وما ذكر في كثير إلاّ قلّله. الله أكبر لقد كان عطاء عمر مواعظَ تحيي القلوبَ، ولم يشأ أن يكون كريما من بيت مال المسلمين.
لقد كانت حاجات المسلمين هي حاجته وهمومهم همه، لا يستصغر حاجة ولا يستعظمها. كتبت إليه أمة سوداء من مصر برسالة تقول: "بسم الله الرحمن الرحيم، من فرتونه السوداء إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز"، لم تكتب إليه تطلب أن يجري لها نهرا، ولا أن تقطع لها ضيعة، ولكن ما الذي يمكن أن تطلبه أمة سوداء؟ "من فرتونه السوداء إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز. أما بعد: فإن لي جدارا على حائطي انهدم بعضه، فأصبح الغلمان يعبرون على حائطي فيسرقون دجاجي، فأمُر واليَك على مصر فليقِم الجدار". إنّ هذا الطلبَ الصغير الذي يوجَّه في رسالة إلى عمر يدلّ على تواضع عمر وأن حاجات المسلمين كبيرة عنده وإن كانت صغيرة. إن كل امرئ لا يحسّ إلا بهمّه، فكتب إليها: "من عمر بن عبد الله بن عبد العزيز إلى فرتونه. أما بعد: فإني قد أمرتُ أميري على مصر أن يقيم لك الجدارَ والسلام. عمر بن عبد العزيز".
عمر بن عبد العزيز الذي كان هذا خوفه وكان هذا عدله فكيف كان حاله في سيرته مع نفسه وفي بيته؟ إن سألت عن زهد عمر فأغربُ ما يكون الزهد، فما تقول في رجل أتته الدنيا تتهادى حتى بركت عند قدميه فركلها بقدمه وأعرض عنها؟!
أهدِيت إلى عمر هدية فكتب إلى الذي أهداها: "إنّ هديتك قد بلغت موقعَك والسلام" وردّها، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله كان يقبل الهدايا! فقال: "كانت لرسول الله هدية، أما لنا فكانت رشوة".
عمر بن عبد العزيز الذي ولي الخلافة وهو مِن أنظر الناس وجهًا وألينهم عيشًا وأبهاهم حلّة، ما إن ولي الخلافة حتى كان هذا خلافُ بينِه وبين هذا كله.
عمر بن عبد العزيز قدم عليه محمد بن كعب القرظي، فلما دخل عليه جعل يقلّب نظره في وجه عمر وهيأته فإذا هو ينظر إلى وجه شاحِب وبدنٍ ناحل ورأس أشعث وهيئة رثّة، ينظر إلى رجل كأنّ جبال الدنيا على عاتقه يحملها، فازداد عجبه، وجعل يقلّب نظره فيه وهو الذي كان يعرفه من قبلُ ليِّنَ العيش نضِرَ البشرة زاهيَ الثياب، ففطن عمر إليه وقال: ما لك يا كعب؟! قال: عجبتُ ـ يا أمير المؤمنين ـ من تغيُّر حالك! قال: يا محمد بن كعب القرظي، لو رأيتني بعد ثلاث من دَفني وقد سالت العينان وانخسفت الوجنتان وأتت على الجوف الديدان لكنتَ لحالي من حالي أشدَّ عجبًا، وكنتَ لي أعظمَ إنكارًا، فبكى محمد وضجّ المجلس بالبكاء.
عمر بن عبد العزيز الذي زوى الدنيا عنه مختارًا، ولم تزوَ عنه مكرهًا. أتت إليه امرأة من العراق تشكو إليه ضعف حالها وكثرة بناتها، فلما دخلت دارَه دخلت إلى دارٍ رثّة وهيئة وضيعة متواضعة، فجعلت تعجب وهي تقلّب طرفها في أنحاء الدار، فقالت لها فاطمة زوج عمر: ما لك؟! قالت: لا أُراني إلا جئتُ لأعمر بيتي من هذا البيت الخراب، فقالت لها فاطمة: إنما خرابُ هذا البيت عمارةُ بيوت أمثالك. هكذا كان زهد عمر.
عمر الذي كان يخطب فينظر، فإذا كلّ ثيابه تقوَّم باثني عشر درهما. عمر الذي زهد هذه الزهادة كانت سعاتُه يسيحون في الأمصارِ، يحملون الزكاةَ يقولون: من يقبل الزكاة؟ هل من فقير؟ هل من مسكين؟ فلا يجدون من يقبلها. لقد زهد عمر ففاض المال، لقد زهد عمر فكثر الخير، لقد زهد عمر فحلّت البركة، لقد زهد عمر وأعطى فلم يجد الأغنياء فقيرا يدفعون إليه زكاتهم، وكانت حالة فريدة لم يذكرها التاريخ لا قبلَ عمر ولا بعده.
عرَف عمر قدرَ نفسِه، عرف عمَر قدر نفسه فتزيّن بالفعال، ولم يتزين بالمال، تواضع لله فرفعه الله، أعرض عن زخرف الدنيا فرفع الله ذكره وشرّف قدره. تواضع عمر وأخذ بنيه على التواضع، بلغه أنّ ابنًا له قد اشترَى فصًّا لخاتمه بألف درهم فاستدعاه وقال: عزيمة من أمير المؤمنين عليك إلا بعتَ فصَّك هذا واشتريتَ فصًّا بدرهمٍ واحدا وكتبتَ عليه: رحم الله امرئا عرف قدر نفسه.
فرحم الله عمر، فهو والله عرف قدر نفسه. لقد عامل الله عمر بنيّته فاستفاض له الثناء ولهج له المسلمون بالدعاء، وليس المسلمون وحدهم هم الذين لهجوا بالثناء على عمر، فلقد ذكر ملك الروم لويس الثالث عمر بن عبد العزيز فقال: لو كان رجل يحيي الموتى بعد عيسى لكان عمر. والله، لا أعجبُ من راهبٍ جلس في صومعتِه وقال: إني زاهدٌ، ولكني أعجب ممن أتته الدنيا حتى أناخت عند قدمه فأعرض عنها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لقد عاش عمر بين المسلمين، وكان لسان حاله أعظمَ واعظ وأفصحَ معلّم، وكان وعظه بمقاله غايةً في البيان، وبعد أن يصدر المقال بعد أن صدّقته الفِعال فما زال عمر مرضيّا محمود الطريقة حتى كان آخر عمره، فكأنما استشفّ عمر قربَ نهايته، فخطب بالناس آخر خطبةٍ خطبها بكلمات نورانية كأنما تخرج من مشكاة النبوة، خطب بالناس فقال: "أيها الناس، إنكم لم تخلَقوا عبثًا، ولم تترَكوا سدى، وإنه لا يأمن غدًا إلا من حذر الله وخافه وباع نافدا بباق وقليلا بكثير وخوفا بأمان. إنكم تشيّعون في كل يومٍ غاديا ورائحا إلى الله قد قضى أجله، فتضعونه في بطن صدعٍ من الأرض غير موسّد ولا ممهّد، قد فارق الأحباب وباشرَ التراب وواجه الحساب، فاتقوا الله وموافاته وحلول الموت بكم. أما والله إني لأقول هذا وما أعلم عند أحدٍ من الذنوب أكثر مما عندي"، ثم خنقته عبرته فأخذ طرفَ ردائه فوضعه على وجهه فبكى وأجهش بالبكاء، وبكى من عنده، ثم نزل من المنبر فكانت آخر خطبة خطبها.
حتى إذا نزل به الموت الذي طالما خافه، طالما أفزعه، نزل به الموت بعد طول استعدادٍ له، فأتى إليه مسلمة بن عبد الملك ابن عمّه، قال: يا أمير المؤمنين، إنه قد نزل بك ما أرى، وإنك قد تركتَ صِبية صغارا لا مال لهم، فأوصِ بهم إليّ أو اقسم لهم من هذا المال، فقال: ادعوا لي بنيّ، فدعوا إليه بنيه وكانوا بضعة عشر صبيا، فأتى بهم إليه كأنهم أفراخ، فنظر إليهم، نظر بحنان الوالدِ بعطفِ الأبوّة، نظر لضعفِ الطفولة وبراءةِ أعينهم فقال: أي بنيّ، إن أباكم كان بين أمرَين: إما أن يغنيَكم ويدخل النار، أو يفقركم ويدخلَ الجنة، وإن أباكم قد اختار أن يفقِركم ويدخلَ الجنة. إن وليّي عليكم الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين، اصرفوهم عنّي، فانصرفوا، فجعل عمر يبتهل إلى الله في دعاءٍ خاشع يقول: رباه، أنا الذي أمرتني فقصّرت، ونهيتني فعصَيت، ولكن أفضل ما أعدّ: لا إله إلا الله، ثم قال لمن حوله: اخرجوا عني، فخرجوا، فلهج بالقراءة، فكانوا يسمعونه من داخل غرفته وهو يقرأ: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. وأسلم عمر الروح فأغمضت عيناه، أغمضت عينان طالما بكتا من خشية الله، وسكت فم طالما تلجلج بذكر الله، واستراحت يدان طالما قامت بأمرِ الله، وودّع عمر الأمّة الإسلامية، ودّع عمر الأمة والجياعُ قد شبعوا والخائفون قد أمِنوا والمستضعفون قد نصِروا، فارق الأمة عمر بعد أن وجد فيه اليتامى أبا والأرامل كافلا والتائهون دليلا والمظلومون نصيرا، مات عمر بعدما وجدت فيه أمة الإسلام عمر بن الخطاب، بعد أن لمست في عهده الأمن والطمأنينة والروحانية والسكينة والعدل والأمان والاطمئنان والإيمان، مات عمر وقد حقّق ذلك كلَّه، ليس في عشرين سنه، ولا في عشر سنين، ولكن سنتان وخمسة أشهر وبضعة أيام، وهذا يدلّ على أنّ الرجال لا تقاس بأعمارها ولكن بهِمَمِها وأعمالها. فسلام على عمرَ في الصالحين، وسلام على عمر في العالمين، هذه سيرة عمر، فإن كانت أعجبَتك فاقتد بها تكن بعضَ عمر.
(1/3340)
أحكام المستأمن
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, فرق منتسبة
محمد بن عدنان السمان
الرياض
15/4/1425
جامع الجهيمي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تلاحق الأحداث المأساوية. 2- حفظ الإسلام للضرورات الخمس. 3- أصناف الذين يدخلون تحت عهد المسلمين. 4- وجوب العدل مع جميع الناس. 5- مفاسد الفئة الضالة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، حيرتنا الأحداث المتلاحقة التي تمر بها بلادنا حرسها الله في الرياض، ثم في ينبع، ثم في الخبر، وأخيرًا في الطائف، عم نتكلّم؟ وبماذا نبدأ؟! فكل حدث منها أمر ذو بال، هل نتحدث عن عصمة دماء المسلمين والتعدي على رجال الأمن، أم نتكلم عن الأمن وأهميته وحاجة الناس إليه، أم نتكلم عن واجب الطاعة لولي الأمر والتحذير من الخروج عليه، أم نتحدث عن تلك المفاسد والأضرار التي جنتها الأمة من تلك التصرفات القبيحة والأعمال المشينة التي لا يقرّها عقل ولا نقل؟!
أيها المسلمون، عندما يكبر حجم المأساة تضيق مساحة اللغة، وعندما يعظم حجم الفاجعة يتذكر المسلم قول الله تعالى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227]. لكنني سأتجاوز ذلك كله لأقف معكم اليوم مع أمر كثرت فيه دندنتهم، أعني دندنة الفئة الضالة المنشقّة عن الصف الخارجة على وليّ الأمر؛ لنستبين الأمر مع وضوحه ونؤكّد عليه مع أهميته، ألا وهو حكم بل أحكام من استأمنهم وليّ الأمر من الكفار الذين دخلوا بلاد المسلمين.
أيها المسلمون، لقد جاء الإسلام بحفظ الضروريات الخمس، وهي الدين والنفس والعقل والعرض والمال، ورتب حدودًا صارمة في حق من يعتدي على هذه الضرورات، سواء كانت هذه الضرورات لمسلمين أو معاهدين، قال فضيلة الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: "فالكافر المعاهد له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم، قال النبي : ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة)) ، وقال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التوبة:6]، وإذا خاف المسلمون من المعاهدين خيانة للعهد لم يجز لهم أن يقاتلوهم حتى يعلموهم بإنهاء العهد الذي بينهم ولا يفاجئوهم بالقتال بدون إعلام، قال تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال:58]، والذين يدخلون تحت عهد المسلمين من الكفار ثلاثة أنواع:
المستأمن وهو الذي يدخل بلاد المسلمين بأمان منهم لأداء مهمة ثم يرجع إلى بلده بعد إنهائها.
والمعاهد الذي يدخل تحت صلح بين المسلمين والكفار، وهذا يؤمن حتى ينتهي العهد الذي بين الفئتين، ولا يجوز لأحد أن يعتدي عليه، كما لا يجوز له أن يعتدي على أحد من المسلمين.
والذي يدفع الجزية للمسلمين ويدخل تحت حكمهم.
والإسلام يكفل لهؤلاء الأنواع من الكفار الأمن على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ومن اعتدى عليهم فقد خان الإسلام واستحقّ العقوبة الرادعة.
والعدل واجب ـ والكلام ما زال للشيخ حفظه الله ـ مع المسلمين ومع الكفار حتى لو لم يكونوا معاهَدين أو مستأمَنين أو أهل ذمة، قال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا [المائدة:2]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]. والذين يعتدون على الأمن إما أن يكونوا خوارج أو قطاع طرق أو بغاة، وكل من هذه الأصناف الثلاثة يتّخذ معه الإجراء الصارم الذي يوقفه عند حدّه ويكفّ شرّه عن المسلمين والمستأمنين والمعاهدين وأهل الذمة. فهؤلاء الذين يقومون بالتفجير في أيّ مكان ويتلِفون الأنفس المعصومة والأموال المحترمة لمسلمين أو معاهدين ويرمّلون النساء وييتّمون الأطفال هم من الذين قال الله فيهم: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204-206]. ومن العجيب أن هؤلاء المعتدين الخارجين على حكم الإسلام يسمون عملهم هذا جهادًا في سبيل الله، وهذا من أعظم الكذب على الله، فإن الله جعل هذا فسادًا ولم يجعله جهادًا، ولكن لا نعجب حينما نعلم أن سلف هؤلاء من الخوارج كفّروا الصحابة وقتلوا عثمان وعليّا رضي الله عنهما وهما من الخلفاء الراشدين ومن العشرة المبشرين بالجنة، قتلوهما وسموا هذا جهادًا في سبيل الله، وإنما هو جهاد في سبيل الشيطان قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ [النساء:76]، وهؤلاء إن لم يكونوا كفارًا فإنه يخشى عليهم من الكفر وهم يقاتلون في سبيل الطاغوت.
معاشر المسلمين، جاء في صحيح البخاري قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفكَ الدم الحرام بغير حلّه). قال فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله معلّقا على هذا الحديث: "ولقد صدق ابن عمر رضي الله عنهما، إنّ من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها أن يسفكَ الإنسان الدم الحرام بغير حلّه، وإن دم المعاهد حرام، وسفكه من كبائر الذنوب؛ لأن النبي أخبر أن من قتله لم يرح رائحة الجنة، وكل ذنب توعّد الله عليه في كتابه أو رسوله في سنته فإنه من كبائر الذنوب" انتهى المراد من كلامه رحمه الله.
ثم من الغدر أيضًا ترويع هؤلاء المستأمنين بخطفهم أو رهنهم أو تهديدهم بالسلاح والقتل، وهو مناف أيضًا لتكريم الله للإنسان كما قرّر ذلك أهل العلم.
إخوة الإسلام يتبين مما سلف مجموعة من الأحكام التي تؤكّد أحكام المستأمن وأنه مستأمن على دمه وماله وعرضه، وأن التعدي عليه من الغدر والخيانة، وأن العدل كلّ العدل استئمانهم على ما استأمنهم عليه وليّ الأمر.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أعماركم تمضي، وهي شاهدة لكم أو عليكم.
إن المرء يسأل: ماذا بعد الخبر؟ هل سيقف هؤلاء عند حدهم؟ إن ما حدث في الخُبَر من ترويعٍ واستخفاف حقير بأرواح الناس لهو مؤشّر على حقارة هذه الفئة وتلبسها بالجرم المشهود، فأين ما كانوا يردّدونه من قبل؟! أين أعداؤهم الذين يريدون إنقاذ بلادنا منهم كما يزعمون؟! لقد انكشفت الأكاذيب وأعلنوها حربًا علينا وعلى من يحارب أفكارهم، هم ومن معهم في الداخل والخارج. ومع ذلك كله فستبقى هذه البلاد المباركة بإذن الله مضربَ المثل في الأمن ورغد العيش بفضل الله تعالى ثم بجهود ولاة أمرنا أعزهم الله بطاعته، وتكاتف الجميع معهم لحماية بلاد الحرمين الشريفين وقبلة المسلمين.
(1/3341)
حسن العبادة
الرقاق والأخلاق والآداب, قضايا في الاعتقاد
الاتباع, فضائل الأعمال
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
11/7/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وظيفة الإنسان في هذه الحياة. 2- التذكير بالآخرة. 3- الحث على إحسان العبادة. 4- السبيل إلى تحسين العبادة. 5- أثر الإيمان في تحسين العبادة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، واستمسِكوا منَ الإسلامِ بالعروة الوثقى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71]. واعلَموا أنَّ الدّنيا ممرٌّ وأنّ الآخرةَ هي المستقرّ، فاستبِقوا الخيرات قبل فواتها، وحاسبوا أنفسَكم على زلاّتها وهفواتها، وكفّوها عن الإغراقِ في شهواتها، فالكيِّس من دان نفسَه وعمِل لما بَعد الموت، والعاجِز من أتبع نفسَه هواها وتمنى على الله الأماني، ومن أصلح سريرتَه أصلَح الله علانيتَه، ومن أصلح ما بينه وبين الله كفاه الله ما بينَه وبين الناس، فاللهَ اللهَ في السرائر، فما ينفعُ في فسادِها جمالُ الظاهر.
أيّها المسلمون، في زحمةِ الحياة ومع تراكُم مشاغلِ الدنيا وتواليها قد يغفَل الإنسانُ عن وظيفته الأساسِ التي من أجلِها وُجد والغايةِ التي لها خلِق ووُلِد، ألا وهي عبادةُ الله سبحانه وطاعته، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. فأرسلَ الله الرسلَ وأنزل الكتبَ وخلق للإنسانِ وسخَّر له ما في السّموات والأرض كلُّ ذلك لأجلِ القيام بحقِّ العبودية ومقتضياتِها لله سبحانه، ووعَد بالجنّة من أطاعه، وتوعَّد بالنار من عصاه، وأخبر جلّ في علاه أنه سيأتي يومٌ تعرَض الخلائقُ فيه على الله وتُنشَر الصحف وتوزَن الأعمال، فينظر كلٌّ لميزانه بإشفاقٍ ووجَل، يتمنَّى كمالَ عملِه وحُسنَ ما قدَّم، علّ ميزانَه أن يَثقُلَ بالحسنات. سيأتي يومٌ يكون الحساب والجزاءُ فيه بالأعمال، وللذّرّة قيمةٌ وميزان، وللحَسَنة تأثيرٌ يشحّ بها المرءُ على أمّه وأبيه وزوجِه وبنيه وأخيه، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:23، 24]، فما مِن أحدٍ إلاَّ سَيندَم، فالمقصِّر يندَم على تقصِيره، والعامِل يندَم أن لم يكن قد ازدادَ.
في يومِ القيامةِ مواقِفُ وعرَصاتٌ وأهوال وكُرُبات ووزنٌ للحسناتِ والسيّئات، لن ينجوَ منها إنسٌ ولا جانّ إلاَّ بالعَمَل إذا رحِمه الرحيم الرحمن، فماذا قدّمت لحياتك الأخرى يا عبدَ الله؟! ما مقدارُه ونوعُه؟! وما مدى كَمالِه وتمامِه؟!
رَوى لنا معاذُ بن جبلٍ رضي الله عنه أنّ النبيَّ أخذ بيدِه وقال: ((يا مُعاذ، والله إنِّي لأحبّك، أوصيكَ يا معاذ: لا تدعنَّ في دبُر كلِّ صلاة تقول: اللهمّ أعنِّي على ذكرِك وشُكرك وحسنِ عبادتك)) رواه أبو داود في سننه بإسناد صحيح [1]. فهذا إرشادٌ نبويّ كريم بأن ندعوَ الله بعد الفراغِ من الصلاة ونسألَه حُسنَ عبادته، وقبل ذلك يقول الحقّ سبحانه وتعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، فدَلّ النصّان الكريمانِ على أنّ حسنَ العبادةِ مرتَبَة زائدةٌ على مجرَّد أدائِها، ولأجلِ ذلك فإنّ العبادةَ الكامِلة الحسنةَ تؤتي ثمارَها وتبلُغ بالعبدِ منازلَ عظيمة من القَبول والمثوبةِ والمغفرة والجزاءِ الحسن.
وفي صحيح مسلِم أنّ عثمانَ بن عفان رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله يقول: ((ما مِن امرئٍ مسلم تحضرُه صلاةٌ مكتوبة فيُحسِن وضوءَها وخشوعَها وركوعَها إلاَّ كانت كفّارةً لما قبلَها من الذنوبِ ما لم تُؤتَ كبيرةٌ، وذلك الدهرَ كلَّه)) [2]. ولئن كان الكثيرُ من المسلمِين حريصين على أَداءِ عباداتهم وما افترَضَه الله عليهم، فإنّ القليلَ منهم هم الحرِيصون على أدائِها بإحسانٍ، كاملةَ السُّنَن والواجباتِ والأركانِ، سالمةً من الخلَلِ والنقصان. وايمُ الله، إنّ المسلمَين ليخرُجان متوضِّئين للصلاة ساعِيَين إلى المسجدِ يصلِّيان خلفَ إمامٍ واحد ينصرِفان من صلاتَيهِما وبَينهما كما بين السماءِ والأرض في المثوبةِ والجزاء، واسمَعوا حديثَ عمّار بنِ ياسر رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: ((إنَّ الرّجلَ لينصرِف وما كُتِب له إلاَّ عُشرِ صلاتِه، تُسعها، ثُمنها، سُبعُها، سُدسُها، خُمسها، ربعُها، ثُلثُها، نِصفُها)) رواه أبو داود بإسنادٍ حسن كما أخرجه الإمام أحمد في مسنده [3] ، بل إنّ من المصلَّين من تُلَفّ صلاتُه كثوبٍ خلِق، فيرمى بها في وجهِه، وقد قال النبيّ لرجلٍ: ((ارجِع فصلِّ؛ فإنّك لم تصلِّ)) [4] ، مع أنّه أتى بأفعالِها الظاهرة.
أيّها المسلمون، إنّ مما ينبغي للمسلِم معرفتَه واستحضاره أنّ للواجباتِ والمفروضات من العبادات جانبَين: جانب الإجزاء وجانب الجزاء، فإذا أدّى المسلمُ عبادتَه الواجبة برِئت ذمّتُه منها وأجزأَته وأصبحَ غيرَ مطالَبٍ بها، أما الجزاء فهو المثوبة والأجرُ المترتِّب على أداء هذه العبادة، فقد يتساوَى عابدان في الإجزاء ويختلِفان كما بين المشرقِ والمغرب في الجزاء، وهذا الاختلاف والتباينُ مردُّه إلى حِرصِ أحدهما على حسن عبادته وتمامها وتقصيرِ الآخر فيها.
عباد الله، حقٌّ على كلِّ مسلِمٍ يرجو لقاءَ الله يطمَع في جنّتِه ويستجير به من نارِهِ أن يسعَى لإحسانِ عمَله في تمامٍ وكَمال يسُرّه ويُنجيه يومَ تبيَّض وجوهٌ وتسوَّد وجوه، وإليكم ـ رعاكُم الله ـ بعضَ ما تحسُن به العبادَة:
فأوَّلُ ذلِك ورأسُه شرطُ صحَّتها وهو الإخلاصُ لله والمتابعةُ لرسوله ، فذالكم هو مقتضَى الشهادتين. والمرادُ بالإخلاص نوعاه العامّ والخاص:
فالعامّ أن لا يكونَ العبدُ متلبِّسًا بشيء من الشّرك في حياته كدعاءِ غيرِ الله أو الاستغاثةِ أو الاستعانة بغيرِه أو صَرف شيءٍ من العبادات لغيرِ الخالق الواحِد سبحانه وتعالى، وهذا بابٌ عظيم ينبغي العنايةُ به، فقد قال الله تعالى لرسوله الكريم: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65، 66]. فهو دليلٌ على أنّ الشركَ لا ينفع معه عملٌ، فالواجب على المسلم أن يتفقَّد نفسَه دومًا وأن يوحِّدَ الله في كل شؤونه.
وأمّا النوع الثاني وهو الخاصّ مما ينبغي العنايةُ به في جانبِ الإخلاص فهو أن تكونَ العبادةُ المؤدّاة سالمةً منَ الرّياء مُرادًا بها وجه الله وحدَه، وفي الحديث القدسيّ: ((قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشّركاء عن الشركِ، من عمِل عملاً أشرك فيه معِيَ غيري تركتُه وشركه)) رواه مسلم [5].
أمّا الشرط الثاني من شروطِ صحّة العبادةِ فهو المتابعةُ لرسول الله ، والمراد بها تأديةُ العبادة على الصّفةِ التي جاءت عن النبيّ مِن غير زيادةٍ ولا نقصان. ومعنى هذا أنه لا يجوزُ أن يعبَد الله إلاَّ بما شرعه رسول الله مبلِّغًا عن ربه، فالتعبّد بما لم يشرعه الله ولم يرِد صحيحًا عن رسول الله هو البدعة التي قال عنها النبي في حديثِ عائشة رضي الله عنها: ((من عمِل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رد)) رواه البخاري ومسلم [6] ، وفي رواية البخاريّ: ((من أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)) [7] ، والله تعالى يقول: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، وقالَ سبحانه: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا [هود:112].
وثمّةَ أمر آخر يتعلَّق بالمتابعةِ وهو أنّ العابدَ قد يؤدِّي عبادتَه كما أمِر لكنه ينقص من سننِها ويجتزِئ من واجبها، وقد تتخلَّلُها بعضُ المكروهات أو يداخِلها شيء من المحرَّمات، فهذه العبادةُ وإن أجزأت إلاّ أنّه ينقُص من ثوابها بمقدارِ ما نقَص من حسنِها. والغبنُ كلّ الغَبن ـ يا عبادَ الله ـ أن يفعلَ الإنسان ما يفعلُه غيرُه ثم يأخذ أجرَه أنقصَ بكثيرٍ من صاحبهِ، بل ربما لم يأخُذ من ثوابِه شيئًا، وربما فعَل العبدُ فعلاً يريدُ به من الله الزلفى على هيئةٍ لم يشرعْها الله تعالى ولم ترِد عن رسولِه الكريم، فيقصِيه الله بهذا العمل، ويكتبه في عِداد المبتدعِين شبيهًا بالضّالين.
أيّها المسلمون، ومما تحسُن به العباداتُ الواجباتُ تكميلُها بالنوافلِ التي من جِنسِها، فأركانُ الإسلام مثلاً عباداتٌ متحتِّمات، ومِن جنسها نوافلُ ومستحبَّات، كنوافلِ الصلاة من رواتبَ وصلاةِ ليلٍ ووِتر، وكنوافل الصيامِ مِن صيام الاثنينِ والخميسِ وستّ شوّال وعاشوراء وعرَفة، وكذلك نوافل الإنفاق في سبيل الله في عموم وجوهِ الخير فوق الزكاة الواجبةِ، ونافلة الحجّ وغير ذلك، فكلُّ ما سبق جابرٌ لما نقَص من الفرائض والواجباتِ كما في الحديثِ القدسيّ الذي رواه الترمذيّ وابن ماجه بإسنادٍ صحيح ((أنّ الله عزّ وجلّ يقول يومَ القيامة: انظروا هل لعبدي من تطوّع، فيُكمَّل بها ما انتقَص من الفريضة)) [8].
عبادَ الله، ومَن إحسان العمل حَفظُ الحسنات من الضياع وتجنُّب ما يبطِل الثوابَ وينقص الجزاء، وقد قال الحقّ سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33]، في إشارةٍ إلى أنّ المعصيّةَ قد تبطل العمل، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264]، وفي صحيحِ مسلم عن النبيّ أنّ رجلاً قال: ((واللهِ، لا يغفِر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألَّى عليّ أن لا أغفرَ لفلان، إني قد غفرتُ له وأحبطتُ عملَك)) [9] ، قال أبو هريرة رضي الله عنه: تكلّم بكلمةٍ أوبقت دنياه وآخرته [10] ، وفي الصحيحين أنّ النبيَّ قال: ((إنَّ الرجلَ ليتلَّكم بالكلِمةِ ما يتبيَّن فيها يزلّ بها في النّارِ أبعدَ مما بينَ المشرقِ والمغرِب)) [11]. فهل يعِي هذا من أطلقَ لسانَه وأرخى للكلامِ عنانَه، لا يبالي بما قال وكتَب؟! هل يعي هذا من يتخوَّضون في دينِ الله بلا عِلم ويعترِضونَ شريعتَه وحكمَه بما استحسَنوه من منطقهم؟! أم هل يزدَجِر بهذا من يستطيل في أعراضِ المسلمين سواء بالدّعوةِ إلى الفاحشة أو بالغيبة والنّميمة والكذب وشهادةِ الزور؟! إنّ آفاتِ اللسانِ كثيرةٌ وخطيرة، ومن أخطرِها ما يحمِل لَفظًا شركيًّا أو تسخُّطًا على أقدار الله واعتراضًا على حكمه، وقد قال الله تعالى عن المشركين: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23].
ومما يضيعُ الحسناتِ ويجلِب الحسرات الظلمُ والتعدّي على عباد الله بغير حق وأكلِ أموال الناس بالباطل، ففي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله : ((أتدرونَ منِ المفلِس؟)) قالوا: المفلِس فينا من لا دينارَ ولا درهمَ له ولا متاع، فقال: ((المفلسُ من أمّتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيامٍ وزكاة، ويأتي وقد شتَم هذا وقذف هذا وأكَل مالَ هذا وسفكَ دمَ هذا وضرَب هذا، فيعطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه، فإن فنِيت حسناتُه قبل أن يقضيَ ما عليه أخِذ من خطاياهم فطُرِحت عليه، ثمّ طرِح في النار)) رواه مسلم [12] ، كما ورد أيضًا في الحديثِ عند أبي داود بسندٍ فيه مقال: ((إنّ الحسَدَ يأكل الحسناتِ كما تأكل النار الحطَب)).
ألا فاتَّقوا الله عبادَ الله، وأحسِنوا فيما تقدِّمون، وحافِظوا على أعمالكم، ولا تكونوا كأقوامٍ لا يرضَون أن تنتقَصَ دنياهم شعرةً لا يبالون بما ينقُص مِن دينِهم مهمَا كان من القلّة والكثرَة، أَرَضوا بالحياةِ الدُّنيَا من الآخرَة؟! فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة:38].
بارَك الله لي ولكُم في الكتابِ والسّنّة، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلماتِ فاستغفروه، إنّه كان غفّارًا.
[1] سنن أبي داود: كتاب الصلاة، باب: في الاستغفار (1522)، وأخرجه أيضا أحمد (5/247)، والنسائي في السهو، باب: نوع آخر من الدعاء (1303)، وصححه ابن خزيمة (751)، وابن حبان (2020)، والحاكم (1/407)، وقال النووي في الخلاصة كما في نصب الراية (2/235): "إسناده صحيح"، وصححه الحافظ في الفتح (11/133)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1347).
[2] صحيح مسلم: كتاب الطهارة (228).
[3] سنن أبي داود: كتاب الصلاة (796)، مسند أحمد (4/319، 321)، ورواه أيضا النسائي في الصلاة من الكبرى (612)، والبيهقي (2/281)، وصححه ابن حبان (1889)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (537).
[4] رواه البخاري في الأذان (757، 793)، ومسلم في الصلاة (397) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] صحيح مسلم: كتاب الزهد (2985) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] صحيح البخاري: كتاب البيوع وكتاب الاعتصام معلَّقًا، صحيح مسلم: كتاب الأقضية (1718).
[7] صحيح البخاري: كتاب الصلح (2697)، وهي أيضا عند مسلم في كتاب الأقضية (1718).
[8] سنن الترمذي: كتاب الصلاة (413)، سنن ابن ماجه: كتاب الصلاة (1425) من حديث رضي الله عنه، ورواه أيضا أحمد (2/425)، وأبو داود في الصلاة (864)، والنسائي في الصلاة (465)، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (965)، وهو في صحيح سنن الترمذي (337).
[9] صحيح مسلم: كتاب البر (2621) عن جندب رضي الله عنه.
[10] هذا قاله أبو هريرة بعد حديثٍ يرويه عن النبي في معنى حديث جندب المتقدم، رواه أحمد (2/323)، وأبو داود في الأدب (4901)، وحسنه الألباني في تعليقه على شرح الطحاوية (364).
[11] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6477)، صحيح مسلم: كتاب الزهد (2988) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[12] صحيح مسلم: كتاب البر (2581) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله، توالت نِعمُه وأحاطتنا مِننُه، فحقَّت علينا عبادتُه، نسأله أن يوزِعنَا شكرَ نِعمِه، وأن يوفِّقنا للصالحاتِ، ويسعِدَنا في الدنيا وبعد الممات، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبِه وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: أيّها المؤمنون، إذا استشعَر المسلم أن هذه العبادةَ أمرُ الله وفيها رِضاه قد رضيَ سبحانه أن تكونَ من الإنسان زلفَى له وقربةً منه يرفَع بها الدرجاتِ ويمحو بها السيئاتِ كان هذا أدعَى للإنسانِ أن يهتمَّ بعبادتِه ويعظِّمها ويجوِّدها ويحسّنَها، فيحذر المسلم من تقديمِ العبادة بشكلٍ هزيل أو مظهرٍ عليل؛ لأنّ الواجبَ تعظيم شعائر الله، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]. ولذا كان الإحسان أعلى مراتبِ الدين لاستشعارِ مراقبة الله للعَبد كما في الحديث المخرَّج في الصحيحين أنّ النبيَّ قال: ((الإحسانُ أن تعبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك)) [1]. قال النوويّ رحمه الله تعالى: "هذا من جوامع الكلِم التي أوتيَها النبيّ ؛ لأنّا لو قدّرنا أنّ أحدَنا قام في عبادةٍ وهو يعايِن ربَّه سبحانه وتعالى لم يترُك شيئًا ممّا يقدِر عليه من الخضوعِ والخشوع وحسنِ السَّمت واجتماعِه بظاهره وباطنه على الاعتناءِ بتتميمها على أحسنِ وجوهها إلاَّ أتى به" [2]. فالتتمِيم المذكورُ في حالِ العيانِ إنما كان لعِلم العبد باطلاع الله سبحانه عليه، فلا يقدِم العبدُ على تقصيرٍ في هذا الحال، وإذا كانَت مجالسةُ الصالحين مندوبةً لتكونَ مانعًا من تلبُّس الإنسانِ بشيءٍ من النقائصِ احترامًا لهم واستحياءً منهم، فكيف بمن لا يزالُ الله تعالى مطَّلعًا عليه في سرّه وعلانيته؟! ومن أحسنَ الظنَّ بالله أحسنَ العمل، ومن أحسن القصد أحسن العمل.
نسأل الله تعالى أن يكتبَنا في المحسنين الذين قال عنهم: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، وقال: فَأَثَابَهُمْ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:85].
هذا وصلّوا وسلِّموا على الهادِي البشير والسراج المنير، رسولِ الله محمدِ بنِ عبد الله الهاشميّ القرشيّ.
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمّد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (50)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] شرح صحيح مسلم (1/157-158).
(1/3342)
سبيل الهداية
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, فضائل الأعمال
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
11/7/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الهداية للحق. 2- فضل الهداية للإسلام. 3- الدعاء بالهداية. 4- الهداية بيد الله وحده. 5- أثر الجليس في سلوك صاحبه. 6- فضل مجالسة العلماء. 7- حفظ القلب من الشبهات والشهوات. 8- الحث على اجتناب المعاصي والإكثار من الطاعات. 9- القرآن الكريم كتاب هداية. 10- فضل زيارة القبور. 11- الموقف الشرعي من الساخرين المستهزئين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا اللهَ ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، فمنِ اتَّقى ربَّه نجا، ومن اتّبَع هواه غوَى.
أيّها المسلمون، أسبَغ الله على عبادِه مِننًا جليلةً، وأعظمُ النِّعم وأعزُّها نعمةُ الهداية لهذا الدّين، وبفضلٍ منه اهتدى المهتدون، وبعدله ضلَّ ضالّون، قال سبحانه: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلالَةُ [الأعراف:30].
والهدايةُ مِنحةٌ منَ الكريم لا تُسدَى لكلِّ أحَد، ولا تتحقّق بالآمالِ والأماني، وقد تتخلّف مع وجودِ أسبابها، بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ [الحجرات:17].
ولا نجاةَ من العذابِ ولا وصولَ إلى السعادةِ إلا بها، وهي أجلُّ نِعمِ الله الواجِب شكرُها، قال جلّ جلاله: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ [البقرة:198].
وطلبُ الثباتِ عليها من أخصِّ أدعيةِ الصالحين: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]. ولا سبيلَ إلى الجنّة إلا بسلوكِ طريق الهدايةِ، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]. ورأسُ الأدعية وأفضلُها الدعاءُ بالهدايةِ، فإنه يجمع صلاحَ العبدِ في الدين والدنيا والآخرة. وأُمِر المسلم بأن يدعوَ ربَّه في كلّ صلاةٍ بأن يمنحَه الهداية، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "أنفعُ الدعاءِ وأعظمهُ وأحكمُه دعاءُ الفاتحةِ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]؛ لأنَّ العبدَ إلى الهُدى أحوجُ منه إلى الأكل والشرب" [1].
وكان النبيُّ يأمر أصحابَه بالدّعاء بالهدايةِ، يقول عليّ رضي الله عنه: قال لي رسول الله : ((قل: اللهمّ اهدني وسدِّدني)) رواه مسلم [2] ، وقال لمعاويةَ رضي الله عنه: ((اللهمّ اجعله هاديًا مهديًّا واهدِ به)) رواه الترمذي [3] ، ومن دعاء المصطفى : ((اللهمّ اهدني ويسِّر الهدَى لي)) رواه الترمذي [4].
ولعِظَم شأنها لم يخلُ قومٌ من هادٍ ونذير وداعٍ إليها، قال سبحانه: إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد:7].
وفتحُ القلوبِ بيَد الله وحدَه، لا للخلقِ منها شيءٌ سوى بذل الأسباب، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142].
والجليسُ الصالح خيرُ عونٍ للهدايةِ، يذكِّرك إذا نسيتَ، ويعينك إذا غفلتَ، لا تسمعُ منه إلاّ قولاً طيّبًا وفِعلاً حسنًا. الصُّحبةُ الصالحةُ عبادةٌ ممزوجة بالمتعَةِ والأنس، تزداد بالإيمانِ والنُّصح، حقيقتُها جسَدٌ واحدٌ تتعدّد فيه القلوب، يقول عليه الصلاة والسلام: ((المؤمِنون كرَجلٍ واحد)) رواه مسلم [5].
وللجليس تأثيرٌ على الدين والسلوكِ والآداب والأخلاق، والمرءُ يعرَف بمُجالسِه، يقول النبي : ((المرءُ على دين خليله، فلينظُر أحدُكم من يخالِل)) رواه أبو داود [6].
وقرينُ السوءِ يدعوك إلى البُعدِ عن الطاعات، ويزيِّن لك السيئاتِ، قريبٌ منك في السّرّاء، بعيدٌ عنك في الضرّاء، ضَرَرُه متجدِّد في صُورٍ شتّى، حذّر الإسلام من مصاحبتِه ومن مجالسته، لا للمعالي يُعليك، ولا عن الدنايَا يجافيك، لذا شبّهه النبيّ بنافخِ الكير الذي ينالك أذَاه على كلِّ حال [7]. رفيقُ السّوء صحبتُه حَسرةٌ في الدنيا وندامةٌ في الآخرة، قال جلّ وعلا: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
وحضورُ مجالسِ العلماءِ من مواطِن الهداية، في عِلمهم وتعليمهم زيادةُ إيمان، وعلى وجوههم سمتُ الصالحين، وعلى جوارِحهم أمارةُ نقاءِ السريرَة، مجالسُهم تذكيرٌ بسِيَر الأفذاذ من الأسلاف وشَحذٌ دائم للهِمَم إلى الآخرة، في مجالسَتِهم خيراتٌ متناثِرة وثمراتٌ يانعة، فكُن أقربَ الناس إليهم، يقول ميمون بن مهران رحمه الله: "وجدتُ صلاحَ قلبي في مجالسةِ العلماء" [8].
وتطهيرُ القلبِ من أدرانِ القوادح والحِفاظ عليه من تلويثِه بالشبهاتِ أو تدنيسِه بوَحل الشّهوات مِن أسباب الهداية، والشبهةُ إذا وَردت على القلب ثقُل استئصالُها وثَنتِ العبدَ عن القُرب من الربِّ.
والتطلُّعُ إلى المنكرات والشهوات في المرئيّات والسّمعيات يُظلِم القلبَ بكثرةِ العِصيان، ومن تعرّض للشبهاتِ والشهوات ثم طلبَ إصلاحَ القلب رام مُمتنِعًا، ورُبَّ عثرةٍ أهلكت، ورُبَّ فارِطٍ لا يُستدَرك، وفي زمن تنزُّل الوحيِ وملازمة الصحابةِ للنبيّ كان عليه الصلاة والسلام يخشى عليهم من الفِتن، وينهاهم عن القُرب منها.
والنفسُ طامعةٌ إذا أطمَعتَها، منتهيةٌ إذا نهيتها، فألجِمها بلجامِ الأوامر والنواهي، وابتعِد عن أسبابِ الفِتَن وموارِدها، فإنّ المقاربةَ منها مِحنةٌ لا يكادُ صاحبها ينجو منها، ومن حام حولَ الحِمى يوشِك أن يقعَ فيه.
والانتصارُ على الشهوات تاجٌ على الهام، ودرءُ الشبهاتِ وقارٌ يعلو النفسَ، وصَونُ الجوارحِ عن المعاصي ثباتٌ بإذنِ الله على الهداية، والاستسلام للهَوى والفراغِ من مداخلِ الشيطان للغوايةِ، والسّعيد من استبق الخيراتِ، ونأى بنفسه عمّا يضرُّه ولا ينفعه، وعمِل بوصيّة النبيّ في قوله: ((احرِص على ما ينفعُك، واستعِن بالله، ولا تعجَزَن)) رواه ابن ماجه [9].
وعمارةُ الوقتِ ببرِّ الوالدَين وصِلةِ الرحم وقضاء حوائج المسلمين عبادة.
والمعصية تورِد صاحبَها المهالك، والذي يفوتُ بارتكاب الخطيئةِ مِن خَيرَيِ الدّنيا والآخرة أضعافُ ما يحصُل له من السّرور واللّذة.
والإكثارُ من الطاعات مِن وسائل الثّبات على الدين ومن أسبابِ حفظِ [الله لعبدِه]، يقول عليه الصلاة والسلام : ((احفَظ الله يحفَظك)) [10]. وكان أفاضِلُ البشَر هم القدوةُ في التعبُّد، قال سبحانه عن إبراهيمَ عليه السلام: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120]، وكان سلَف الأمة يكثرون من التعبُّد لله، قال ابن كثير عن ابن القيّم رحمهما الله: "ولا أعرفُ من أهلِ العلم في زمانِنا أكثرَ عبادةً منه، وكانت له طريقةٌ في الصلاة يُطيلها جدًّا، ويمدُّ ركوعَها وسجودَها، ويلومه كثيرٌ من أصحابه في بعضِ الأحيان، فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك" [11].
وكتابُ ربِّ العالمين منارُ الهدى والصلاح، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9]. والمداومةُ على تلاوتِه حفظٌ بإذن الله من الشّرور والفِتن وحصنٌ من الشّبهات والشهوات.
وزيارةُ المقابر للعِظةِ والعبرة سنّةٌ قائمة تذكِّر بالآخرة، وتعين على الاستقامةِ على أمر الله والبُعدِ عن المعاصي وعن الاغترارِ بالأمل، يقول عليه الصلاة والسلام: ((زوروا المقابرَ فإنها تذكِّركم الآخرة)) رواه الترمذي [12]. ومن جَعل الموتَ بين ناظِرَيه صلَحت أحواله.
والقلوبُ بين أصبعَين من أصابعِ الرحمن، يقلِّبها كيف يشاء، ولا شيءَ من الأسبابِ أنفَع ولا أبلَغ من الدعاءِ في حصول المطلوبِ، فتضرّع إلى ربِّك في يومِك وليلتك بأن يجعلَك من عباده الصالحين.
وإذا رأيتَ أهلَ العصيان هم الأكثر عددًا في الأرض فلا يُثنِيك ذلك عن التمسُّك بهذا الدّين، فسنّة الله قضَت أنّ أهلَ الفسوق والمعاصِي هم أكثر عددًا ممّن يطيع الرحمن، قال سبحانه: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ [المائدة:49]. وانظر إلى الحقِّ ولا تنظُر إلى العدد، فالله وصَف إبراهيم عليه السلام بأنه أمّةٌ وهو وحدَه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا [النحل:120]، يقول الفضيلُ بن عياض رحمه الله: "لا تستوحِش من الحقِّ لقلّةِ السّالكين، ولا تغترَّ بالباطِل لكثرة الهالكين" [13].
ومِنّةُ الله عليك بالصّلاح مع ضلالِ كثير من الخلق ممّا يزيدك هدايةً في نفسِك ويحمِلُك على دعوة غيرك إلى الطريق المستَقيم.
أيّها المسلمون، سُنّةُ الله في هذه الحياة ابتلاءُ مَن تمسّك بهذا الدّين لتمحيص الصادِق في الاستقامة، قال سبحانه: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3].
ولقد سخِر الكفار من رُسُل الله إليهم، قال سبحانه: وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الأنعام:10]. وكلُّ رسولٍ يُبعَث يُبهَت بالسِّحر ويُرمى بالجنون، كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات:52]. وصحابةُ رسول الله سَخِر منهم أهلُ النفاق، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين:30]. فمن استهزأ باستقامَتك فتلك منقبةٌ لك، رُمِيتَ بما رُميَ به خيرُ البشَر، وتلك بُشرَى صدقٍ في الاستقامة، ولا تحزن فإنّ دافعَ الساخِر الهوَى أو الجهل، وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]. والساخرُ في عُمقِ نفسه يتمنَّى الهدايةَ، ولكنّه لا يملكها، قال سبحانه عن أهل الضلال: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر:2]. ومن سخِر منك فتحلَّ بما اتّصف به الأنبياءُ من الصبر، ولا تُحبِط عملك بالجزَع أو الهلَع، والزَم جانبَ العفوِ والحلم والأناة والإعراض عمّن آذاك، قال جلّ وعلا: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ [الأحقاف:35].
والموفَّق من استنارَ بنور الهداية، ودعا صاحِبَ خطيئةٍ إلى التوبة، وخفض جناحَه لمن ابتُلي بمعصيةٍ بدعوته بحكمةٍ ولين ورويّة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [يونس:108].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني الله وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفِر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفورُ الرّحيم.
[1] مجموع الفتاوى (8/215-216).
[2] صحيح مسلم: كتاب الذكر (2725).
[3] سنن الترمذي: كتاب المناقب (3842) عن عبد الرحمن بن أبي عميرة رضي الله عنه، ورواه أيضا أحمد (4/216)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1129)، وابن قانع في معجم الصحابة (2/146)، والطبراني في الأوسط (656)، وأبو نعيم في الحلية (8/358)، والخطيب في تاريخ بغداد (1/207-208)، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1969).
[4] سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3551) عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه أيضا ابن أبي شيبة (6/50)، وأحمد (1/227)، وعبد بن حميد (717)، وأبو داود في الصلاة (1510)، والنسائي في الكبرى (6/155)، وابن ماجه في الدعاء (3830)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (947، 948)، والحاكم (1910)، وحسنه ابن حجر في الأمالي المطلقة (205)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2816).
[5] صحيح مسلم: كتاب البر (2586) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[6] سنن أبي داود: كتاب الأدب، باب: من يؤمر أن يجالس (4833) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (2/303)، والترمذي في كتاب الزهد، باب: ما جاء في أخذ المال بحقه (2378) وقال: "حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (4/188)، ونقل التبريزي في المشكاة (3/1397) عن النووي أنه قال: "إسناده صحيح"، وحسنه الألباني في تعليقه على كتاب الإيمان لابن تيمية (ص60).
[7] رواه البخاري في الذبائح (5534)، ومسلم في البر (2628) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[8] رواه أبو نعيم في الحلية (4/85)، وانظر: تهذيب الكمال (29/220).
[9] سنن ابن ماجه: المقدمة (79) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو عند مسلم في القدر (2664).
[10] أخرجه أحمد (1/293)، والترمذي في صفة القيامة (2516) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الضياء المقدسي في المخارة (10/25)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وهو في صحيح سنن الترمذي (2043).
[11] البداية والنهاية (18/523).
[12] سنن الترمذي: كتاب الجنائز (1054) عن بريدة رضي الله عنه بلفظ: ((قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها فإنها تذكر الآخرة)) ، وقال: "وفي الباب عن أبي سعيد وابن مسعود وأنس وأبي هريرة وأم سلمة، حديث بريدة حديث حسن صحيح"، وهو في كتاب الجنائز من صحيح مسلم (977) نحوه.
[13] رواه البيهقي في الزهد الكبير (240) بمعناه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، أسعدُ الخلق هم أهل الهداية، وأوّل الخير الهدَى، ومنتهاه الرحمةُ والرضوان، ومَن عرف الحقَّ واتّبعه فقد هدِي إلى صراطٍ مستقيم، ومن اهتدى جُلِبت له السعادة والرزقُ والسرور، وأعانه الله على الطاعةِ وتركِ المعصية، فلم يصِبه شرٌّ لا في الدنيا وفي الآخرة، ومن تمسَّك بنور الهداية زادَه الله نورًا، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم:76]، ومنزلتُك في الآخرةِ مبنيّة على هذه اللحَظات التي تعيشها، وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى [النجم:39]، والسعيد من قدّم لنفسِه صالحًا.
ثمّ اعلَموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيّه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلِّم وزد وبارك على نبينا محمّد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
(1/3343)
استقبال العام الدراسي الجديد
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
11/7/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قرب العودة إلى المدارس. 2- توجيهات للمعلمين والمعلمات. 3- مسؤولية الآباء والأمهات. 4- عناية الإسلام بالعلم. 5- قضية المستوطنات والطرق الالتفافية والجدار العازل. 6- قضية إضراب الأسرى عن الطعام. 7- المؤامرة على المسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في سورة الزمر: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]، ويقول عز وجل في سورة المجادلة: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11].
أيّها المسلمون، يا أمة القرآن، يا أمة العلم والفرقان، بعد أيام قلائل يتوافد بعون الله ورعايته وحفظه مئات الآلاف من الطلاب والطالبات من أبنائنا وبناتنا فلذات أكبادنا إلى رياض الأطفال والمدارس والمعاهد بمختلف مستوياتها ودرجاتها وتخصصاتها، إنهم يتوجهون لينالوا العلم وفي أيديهم وعلى ظهورهم حقائب الغد المختبي، هذا الغد المجهول الذي لا يعلمه إلا الله ربّ العالمين، إنهم يتوجهون إيذانا ببدء عام دراسي جديد، ونسأله عز وجل رب الخلائق والأكوان أن يكون هذا العام الدراسي عام يمن وخير على طلابنا وطالباتنا وعلى المجتمع كله، وأن يتسم هذا العام بالهدوء والاستقرار، ليتمكن أبناؤنا وبناتنا من تعويض ما فاتهم من أيام وسنوات عجاف، نتيجةَ ممارسات الاحتلال العدوانية ضد شعبنا الأبي، وضد مدارسنا ومدرسينا وطلابنا.
أما أنتم ـ أيها المعلمون ـ فإن ثقتنا بكم قوية وكبيرة إن شاء الله، فشمروا عن سواعدكم للعمل الجاد والمثمر والمفيد، وهيئوا أذهانكم للتحضير والشرح، فعليكم يعوّل أمر التعليم.
ومما لا شك فيه أن التحصيل الدراسي للطلاب يرتبط ارتباطا وثيقا بالمدرسة والمدرس؛ فالجو المدرسي له أثر كبير في تحصيل الطلاب للعلوم، كما أن المدرس له دوره الفعال في ترغيب الطلاب في الدراسة، فالمدرس الناجح هو الذي يكون محبا لمهنته محترما إياها وأن يكون لديه تقدير للرسالة السامية الملقاة على عاتقه، بالإضافة إلى هضمه للموضوع الذي يدرسه ويشرحه للطلاب، حينئذ يحترم الطلاب معلمهم ويصغون إليه ويستفيدون منه، هؤلاء الطلاب الذين يمثلون جيش الليل كما وصفهم أحد العلماء من سلفنا الصالح.
أيها المعلم، أنت قبس من نور، قبس من رسالة الأنبياء والمرسلين، فيك ثورة العظماء وتضحية المجاهدين وحنكة القياديين، فكن عند حسن ظن الناس بك، فلا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيدها لطلابك ولا تبالغ ـ أيها المعلم ـ في مسامحتهم حتى لا يميلوا إلى الفراغ والمفسدة ومضيعة الوقت.
هذا ما كتبه هارون الرشيد الخليفة العباسي للعالم الكسائي مؤدب ولديه الأمين والمأمون، وكما هو معلوم أن طبيعة الطلاب تميل إلى الانفلات ومضيعة الوقت وحب الإضرابات.
أيها المعلم، لقد أودعناك فلذات أكبادنا، فكن لهم قدوة صالحة ومربيا ناجحا، فعليك أن تعاملهم معاملة حسنة، وأن تظهر لهم المحبة والعطف ليقابلوك بالاحترام والطاعة وبالجد والاجتهاد، وأن تكف ـ أيها المعلم ـ أمام الطلاب عن الشكوى؛ فإن الشكوى تحطم روح العمل والإبداع، وتفقد احترام الطالب لك، ولا تظهر انزعاجك أمامهم لأن الطالب إذا شعر بأن أستاذه منزعج أو متضايق لأي سبب من الأسباب فإنه يتأثر نفسيا وينزعج لانزعاج أستاذه ويتضايق لتضايقه، ولا تيأس ـ أيها المعلم ـ في إصلاح الطلاب وتقويمهم مهما عظم الفساد وانفلتت الأمور، والله سبحانه وتعالى يقول: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100].
أيها الآباء والأمهات، أما أنتم ـ أيها الآباء والأمهات ـ لا تظنوا أنكم مُعفَون من المسؤولية تجاه أولادكم وبناتكم، فلا تلقوا بالمسؤولية على المدرسين وحدهم، فالمسؤولية مشتركة، ويجب الربط بين المدرسة والبيت، وبخاصة في هذه الظروف القاسية العصيبة الخطيرة التي لا حماية فيها للأخلاق ولا للأعراض.
وتذكروا ـ أيها الآباء وأيتها الأمهات ـ قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]. وتذكروا قول رسولنا الأكرم: ((ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، وهي مسؤولة عنهم)).
أيها الآباء، أيتها الأمهات، احذروا رفقاء السوء من أن يؤثّروا على أولادكم، احذروا الذين يتعاطون المخدرات والذين يحاولون نشرها في المدارس، وبخاصة بين الطلاب والطالبات في سنّ المراهقة. اسألوا عن أولادكم في الذهاب والإياب مِن وإلى المدرسة، متى يخرجون من البيت؟ ومتى يعودون إليه؟
لقد سمعنا أشياء سلبية كثيرة في العام الدراسي الماضي، لا يجوز السكوت عنها، عليكم من بدء العام الدراسي الجديد أن تتعاونوا مع المدرسة تعاونا وثيقا حرصا على أبنائكم وبناتكم سلوكيا وعلميا.
أيها المسلمون، لقد أعطى ديننا الإسلامي العظيم العناية الكافية للتعليم وأكرمَ العلماء والدعاة والمعلمين تكريما ماديا ومعنويا، ونطالب أولي الأمر والشأن إنصاف المعلمين ليتمكنوا من التفرغ لمهنة التعليم.
وكما هو معلوم أن أول آية نزلت على قلب رسولنا الأكرم محمد لم تتناول موضوع التوحيد والعقيدة، رغم أن التوحيد يمثل القاعدة الأساسية في الدين الإسلامي، وإنما كانت الآيات الأولى تأمر بالقراءة والكتابة بقوله سبحانه وتعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5].
فلا نتصور ـ يا مسلمون ـ فهما ووعيا وإدراكا لهذا الدين العظيم دون أن نتعلم القراءة والكتابة، ففيها بيان لأهمية العلم وبيان أن الإسلام قائم على العقل والإقناع وأنه يحافظ على كرامة الإنسان، وليس دينا قائما على الخرافات والدجل والأوهام والخزعبلات.
من هذا كانت أمتنا الإسلامية مؤهله لأن تكون خير أمة أخرجت للناس، بهذا الدين العظيم، الأمة الكريمة التي تشيد المساجد ودور العلم والمكتبات ولا تشيد السجون والمعتقلات. الأمة التي تحافظ على التراث والآثار والحضارات، ولا تجرف الأراضي وتهدم البيوت.
إن ما تقوم به سلطات الاحتلال من تجهيل وتخريب وتدمير يذكرنا بالمغول والتتار والصليبيين، وكل إناء بما فيه ينضح.
جاء في الحديث النبوي الشريف: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلوا)) صدق رسول الله.
حمانا الله وإياكم من الضلالة والإضلال.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، حمدَ عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الدين. اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
هناك ثلاث موضوعات ساخنة نتعرض لها بإيجاز:
الموضوع الأول: بشأن المستوطنات والطرق الالتفافية والجدار العازل، هذا الثالوث السرطاني التهم الأراضي ومزق البلاد وشتّت العباد، إن المحصلة النهائية لهذا الثالوث السرطاني أن جعل الأراضي الفلسطينية مجزأة دون اتصال فيما بينها، أي أصبحت عبارة عن كانتونات وتجمعات سكنية مقطعة الأوصال تحكم حكما ذاتيا أو تحكم من خلال البلديات والمخافير، وأن ما تقوم به السلطات الاحتلال المحتلة هو تنفيذ لمخطط عدواني رهيب وضع منذ عام 1969م. فالمطروح الآن هو تصفية القضية وليس حلّ القضية، فماذا ينتظر المسلمون؟! وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، الموضوع الثاني: بشأن إضراب الأسرى الأبطال في السجون الإسرائيلية، وإن الأسرى البواسل لم يقدموا على الإضراب بدون أسباب. لقد تراكمت الممارسات المهينة والمعاناة المستمرة للأسرى الأبطال من قبل السجانين وإدارة السجون الإسرائيلية، مما اضطر الأسرى العظام إلى الإعلان عن الإضراب للتعبير عن احتجاجاتهم وللمطالبة بتحسين أوضاعهم.
وإن الحركة الأسيرة أعلنت بأن الإضراب ليس سياسيا، وإنما لدوافع إنسانية، وهناك تجاوب شعبي وجماهيري في الداخل والخارج مع مطالب الأسرى الإنسانية، وبالمقابل هناك تعنّت من قبل السلطات الإسرائيلية المحتلة، فإن وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي يصرح تصريحا عنصريا بأن الأسرى إذا أضربوا فليجوعوا حتى يموتوا. وإن وزير الصحة الإسرائيلي يعلن تصريحا عنصريا آخر بأن المستشفيات الإسرائيلية سوف لا تستقبل أي أسير مريض، ونحن نعلن من على منبر المسجد الأقصى المبارك بأن السلطات الإسرائيلية المحتلة مسؤولة عن حياة هؤلاء الأسرى، ونحمل المسؤولية عن أي أسير يستشهد، لأن إدارة السجون قد صادرت من الأسرى كميات الملح وحرمتهم من الحليب والبيض، وهذا يؤثر على صحتهم وحياتهم تأثيرا سلبيا، ويتوجب الإفراج عن الأسرى الأبطال، فمن حقهم أن يعيشوا أحرارا بين أهلهم وذويهم. وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8].
ومن على منبر المسجد الأقصى نحيّي إخوتنا الأسرى على صمودهم وعلى شجاعتهم وعلى ثباتهم، والله يحفظكم الله يرعاكم.
ويتوجب على الأنظمة والحكومات في العالم العربي والإسلامي دعم موضوع الأسرى، فالأسرى هم جزء من القضية الفلسطينية.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، الموضوع الثالث: بشأن المسجد الأقصى المبارك درة فلسطين وتاج المسلمين، لنوضح بأن الأخطار المحدقة به هذه الأيام هي أشد من أخطار الحريق المشؤوم الذي لحق بالمسجد الأقصى في 21/8/1969م. وإن ذكرى الحريق ستبقى ماثلة في عقول وأذهان المسلمين عبر الأجيال، فقد مس هذا الحريق مسجدنا المبارك الذي يمثل جزءًا من إيماننا وعقيدتنا. لكن أهل بيت المقدس وأكناف بيت المقدس أطفؤوا الحريق، وأحبطوا مؤامرة التدويل، وسيحبطون أيّ مس لهذا المسجد المبارك، فالأقصى للمسلمين وحدهم، ونحن السدنة ونحن الحراس له.
(1/3344)
شرف المقاصد والوسائل
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
18/7/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظنّ خاطئ. 2- شرف الغاية يقتضي شرفَ الوسيلة. 4- عبادة الله تعالى بما شرع. 5- الوسيلة الشرعية للعلاقة بين الجنسين. 5- صور من الوسائل المحرمة في باب المكاسب. 6- أدوية محرمة. 7- النهي عن سبّ آلهة المشركين. 8- فضل الرّفق في الأمر كله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتقوا الله واذكروا أنّكم موقفون بين يدَيه، فالسعيدُ من أعدَّ لهذا الموقفِ عدّتَه، متزوِّدًا بخير زادٍ، سالكًا إلى الله في كلّ واد، كادحًا إليه من كلّ طريق، مبتغيًا إليه الوسيلة بكلّ قولٍ وعمل، راجيًا منه القبولَ والمغفرةَ والرّضوان.
أيّها المسلمون، يخطِئ فريقٌ من الناسِ حين يظنّ أنَّ من حقِّه سلوكَ كلِّ سبيل وإعمالَ كلِّ وسيلة واتِّخاذَ أيّ سببٍ يبلُغ به الغايةَ ويصيب به الهدَفَ ويصِل به إلى المراد ما دامَ أنّ الغايةَ طيّبةٌ مقبولة وطالما كان الهدفُ المنشود مشروعًا وكان المراد صحيحًا لا غبارَ عليه، وتلك غفلةٌ عجيبة أو تغافلٌ مقبوح؛ إذِ الحقُّ أنّ سلامةَ الغاياتِ وصوابَ الأهداف وصحّةَ المقاصد يستلزِم في هذه الشريعةِ المباركة أن يكونَ السبيلُ إلى كلِّ أولئك سالمًا وأن تكونَ الوسيلةُ إلى بلوغه أيضًا صحيحةً مشروعة، فلا تُنال الغاياتُ النبيلة بسلوكِ السّبل الملتوية ولا الأهدافُ السّامية بالوسائل المحظورة.
وفي الطليعة من ذلك عبادةُ الله تعالى والازدلاف إليه، فالمسلمُ الحقّ هو الذي يعبد الله على بصيرة، مخلِصًا دينَه لله، مبتغيًا به رضوانَه ونزولَ دارِ كرامتِه إلى جوارِ أوليائه والصّفوة من خلقه، كما قال تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر:11]، وقال عزّ مِن قائِل: قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [الزمر:14]. وهو في عبادته ربَّه متابعٌ رسولَه صلوات الله وسلامه عليه، مقتَدٍ به، مستمسِكٌ بهَديه، حذَرَ أن يحبَطَ عملُه أو يضلَّ سعيُه لقول النبيّ في التحذيرِ من ذلك: ((من أحدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ)) أخرجه البخاريّ ومسلم عن عائشة رضي الله عنها [1] ، وفي روايةٍ لمسلم عنها رضي الله عنها مرفوعًا بلفظ: ((مَن عمِل عَمَلاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ)) [2]. ولذا فإنّ مَن تقرَّب إلى الله بعملٍ لم يجعَله الله ورسولُه قربةً إلى الله فعَمَله كما قال الإمامُ الحافظ ابنُ رجب رحمه الله: "باطل مردود عليه، وهو شبيهٌ بحال الذين كانت صلاتُهم عند البيتِ مُكاءً وتَصدِية أي: صفِيرًا وتَصفيقًا، وما أشبَهَ ذلك منَ المحدثاتِ التي لم يشرَعِ الله ورسولُه التقرّبَ بها بالكلّيّة، بل إنّ العملَ الذي عدَّه الشارع قُربةً في عِبادة لا يكون قربَةً في غيرِها مطلقًا في كلّ الأحوال، فقد رأى النّبيّ رَجلاً قائمًا في الشّمسِ فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نَذَر أن يقومَ ولا يقعُد ولا يستظلَّ ولا يتكلّم ويصوم، فقال النبيّ : ((مروه فليتكلّم وليستظِلّ وليقعُد وليتِمَّ صومَه)) أخرجه البخاري في صحيحه [3] ، فلم يجعَل قيامَه وبروزَه للشمس قربةً يفي بنذرِهما مع أنّ القيامَ عبادة في مواضعَ أُخَر كالصلاة والأذانِ والدّعاء بعرفَة ومع أنّ البروزَ للشمسِ قربةٌ للمحرِم، فدلَّ ذلك على أنه ليس كلُّ ما كان قربةً في موطن يكون قربةً في كلّ المواطن، وإنما يُتَّبع في ذلك ما وردَت به الشريعة في مواضِعِها" انتهى كلامه رحمه الله [4].
وفي الصّلة بين الرجالِ والنساء الملَبِّيَة لنداءِ الفِطرة لم يجِز الشارعُ كلَّ الوسائل المحرّمة كاتخاذ الأخذان وسائر أنواعِ المعاشرة الواقِعَة خارجَ دائرةِ العلاقة الشرعية القائمةِ على النكاح، كما قال تعالى في صفات المؤمنين: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ [المعارج:29-31].
وفي اكتسابِ المالِ لإنفاقه في وجوهِ المنافع جاء تحريمُ المكاسِبِ الخبيثةِ الناشئةِ عن الوسائلِ المحرّمَة لكَسب المالِ، ومن ذلك تحريمُ بيع الخمرِ والميتة والخنزيرِ والأصنام، كما جاء في الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنّه سمِع رسولَ الله يقول عامَ الفتح وهو بمكّة: ((إنّ اللهَ حرّم بيعَ الخمر والميتةِ والخنزير والأصنام)) الحديث أخرجه الشيخان في صحيحيهما [5]. ومن ذلك تحريمُ ثمنِ الكلبِ ومَهرِ البغي وهو ما تأخذه ثمنًا للفاحشة وحلوانُ الكاهن وهو ما يأخذه لقاءَ كهانته، فقد جاء النهيُ الصريح عنها في الصحيحين من حديثِ أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه [6]. ومن ذلك تحريمُ الربا الذي توعَّد الله مَن أكَلَه وأنذَرَه بقوله عزّ اسمه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:278، 279]، ولَعَن رسولُ الله آكِلَه وموكِلَه وكاتِبَه وشاهِدَيه وقال: ((هم سواء)) أخرجه مسلم في صحيحه [7]. ومنه تحريمُ كلِّ كسبٍ نَشَأ عن غِشّ كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسولَ الله مرّ على صُبرةٍ من طعام ـ وهي الطّعام المجموع إلى بعضه ـ فأدخل يده فيها فنالت أصابعُه بَللاً فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟)) قال: أصابته السماءُ يا رسول الله، قال : ((أفلا جَعلتَه فوقَ الطعام كَي يراه الناس، من غشَّ فليس مني)) أخرجه مسلم في صحيحه [8] ، إلى غير ذلك من المكاسِب الخبيثة الناشِئة عن الوسائل المحرّمة مما هو مبسوطٌ في موضِعِه من كتب أهل العلم.
وفي التداوي جاء النهيُ عن اتِّخاذ الحرامَ وسيلة وسبيلاً للشفاء، فعن طارق بن سويد الجعفي أنه سأل النبيَّ عن الخمرِ فنهاه عنها أو كرِه أن يصنَعَها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال صلوات الله وسلامه عليه: ((إنّه ليس بدواء، ولكنه داء)) أخرجه مسلم في صحيحه [9]. والحكمةُ الباعثة على تحريمِ التداوِي بالخمر وغيره من المحرَّمات هي كما قال العلاّمة الإمام ابن القيم رحمه الله "أنَّ تحريمَ الشيء يقتضي تجنّبَه والبعدَ عنه بكلّ طريق، وفي اتِّخاذه دواءً حضٌّ على الترغيبِ فيه وملابسته، وهذا ضِدّ مقصودِ الشارع، وأيضًا فإنَّ في إباحةِ التداوي به ـ لا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه ـ ذريعةً إلى تناوله للشّهوة واللّذّة، وبخاصّةٍ إذا عرفتِ النفوس أنه نافِعٌ لها مزيلٌ لأسقامها جالبٌ لشفائها، وأيضًا فإنّ في هذا الدواءِ المحرَّم من الأدواء ما يزيد على ما يُظنّ فيه من الشّفاء، وإنّ مِن شرط الشفاءِ بالدواء التّلقيَ له بالقبول واعتقادَ منفعته وما جعل الله فيه من بركةِ الشفاء، ومعلومٌ أنّ اعتقادَ المسلم تحريمَ هذه العين هو مما يحول بينَه وبينَ اعتقاد منفعتِها وبركتها وحسن ظنِّه بها وتلقِّيه لها بالقبول، بل كلّما كان العبد أعظمَ إيمانًا كان أكرهَ لها وأسوأَ اعتقادًا فيها، وكان طبعه أكرَهَ شيءٍ لها، فإذا تناولها في هذه الحالِ كانت داءً لا دواء" انتهى كلامه رحمه الله [10].
عبادَ الله، إنَّ هذا كلَّه ظاهر الدلالة على وجوبِ سلوك السبيلِ الصحيح المشروع لبلوغِ الغاية الصحيحة المشروعةِ، وأنّه لا انفصالَ في ديننا بين الغاياتِ والوسائل، بل إنّ بينهما رباطًا وثيقَ العُرى وطيدَ العلاقة يَجعَل منهما سببًا يُثاب عليه المسلم من عند الله إذا ابتغى بهما وجهَ الله، فإنّ حياة المسلم كلَّها لله ربِّ العالمين كما قال عزّ من قائل: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
نفعني الله وإيّاكم بهديِ كتابه وبسنّةِ نبيِّه ، أقول قولي هذَا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الصلح (2697)، صحيح مسلم: كتاب الأقضية (1718).
[2] صحيح مسلم: كتاب الأقضية (1718).
[3] صحيح البخاري: كتاب الأيمان والنذور (6704) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[4] جامع العلوم والحكم (ص60).
[5] صحيح البخاري: كتاب البيوع (2236)، صحيح مسلم: كتاب المساقاة (1581).
[6] صحيح البخاري: كتاب البيوع (2237)، صحيح مسلم: كتاب المساقاة (1567).
[7] صحيح مسلم: كتاب المساقاة (1598) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[8] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (102).
[9] صحيح مسلم: كتاب الأشربة (1984).
[10] زاد المعاد (4/156-158).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أحصَى كلَّ شيء عدَدًا، أحمده سبحانه لم يكن له شريكٌ في الملك ولم يتَّخذ صاحبةً ولا وَلدًا، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله نبيّ الرحمة والهدى، اللهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبه الأئمة الأعلام النُّجبَا.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، إنّ إعلاءَ كلمةِ الله والنّصرة لدينه والذودَ عن حياضِه مقصدٌ جليل وغايةٌ شريفة وهدَف رفيع للمؤمِن، يبتغي به الوسيلةَ إلى ربّه، ويسعى إلى رضوانِه والحظوةِ بمحبته سبحانَه ونصرته، غيرَ أنّ هذا المقصودَ الصحيح لا يصحّ بلوغه بوسيلةٍ نهى الله عنه وحذَّر عباده منها، ألا وهي السبُّ لآلهة المشركين ومن في حكمهم، لأنّ الثمرةَ المحقَّقة والنتيجةَ الحتميّة لذلك هو مقابلةُ المشركين هذا الأمرَ بمثلِه بسبِّ الله ونسبةِ النقص إليه تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرا، كما روى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن قتادة أنه قال: كان المسلمون يسبّون أصنامَ الكفار فيسبّ الكفارُ الله عَدوًا بغير عِلم، فأنزل الله: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:108]. وقد جعَل العلامةُ الحافظ ابن كثير رحمه الله ذلك النهيَ مِن تركِ المصلحة لمفسدةٍ أرجحَ منها.
ولما دخل رهطٌ من اليهود على النبيّ قالوا: السامُ عليكم، فقال رسول الله : ((وعليكم)) ، ففطنت إليها عائشة رضي الله عنها فقالت: عليكم السّام واللعنة، وفي لفظ: السّام عليكم ولعَنَكم الله وغضِب عليكم، فقال النبيّ : ((مهلاً يا عائشة، فإنّ الله يحبّ الرفقَ في الأمرِ كلِّه)) ، وفي رواية: ((عليكِ بالرِّفق، وإياك والعنفَ والفحش)) ، قالت: أوَلَم تسمع ما قالوا؟! قال رسول الله : ((فقد قلت: وعليكم)) ، وفي رواية: ((ألم تسمعي ما قلت؟! رددتُ عليهم، فيستجابُ لي فيهم، ولا يستجابُ لهم فيّ)) أخرجه البخاري في صحيحه [1]. والسام هو الموت، وقيل: هو من السّأَم الذي هو الملَل أي: تسأمون دينكم.
وفي صحيح مسلمٍ عن عمرةَ عنها رضي الله عنها أنّ النبيَّ قال: ((إنّ الله رفيق يحبُّ الرفقَ، ويعطي على الرفقِ ما لا يعطي على العنف)) [2] ، ومعناه أنه يتأتّى مع الرفقِ مِنَ الأمورِ الحسنةِ والعاقبةِ المحمودة ما لا يتأتَّى مثلُه مع العنف.
وفي صحيحِ مسلم أيضًا عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أنَّ رسول الله قال: ((من يُحرَم الرفقَ يُحرَم الخيرَ كلَّه)) [3] ، وهو خطابٌ نبويّ جامع لا يخرج عنه شيء.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واعمَلوا بهذا التشريع الربانيّ، والزموا هذا الهديَ النبويّ في كل أحوالكم تستقِم أموركم وتبلُغوا غاياتِكم وتحظَوا برضوانِ ربكم.
واذكروا على الدوامِ أنّ الله تعالى قد أمركم بالصلاةِ والسلام على خير الوَرَى فقال جلّ وعلا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الأربعة...
[1] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6024، 6030)، وهو أيضا عند مسلم في السلام (2165) عن عائشة رضي الله عنها.
[2] صحيح مسلم: كتاب البر (2593).
[3] صحيح مسلم: كتاب البر (2592).
(1/3345)
أخطاء ومخالفات في الخطوبة
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
11/7/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اشتراط رضا الطرفين في عقد النكاح. 2- مشروعية النظر إلى المخطوبة. 3- ضوابط النظر إلى المخطوبة. 4- مفاسد التحدّث ومبادلة الرسائل مع المخطوبة. 5- تحذير الفتياتِ من تغرير الشبابِ الفاسد. 6- تحذير الزوجين من فتح سِجِلاّت الماضي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ من شرطِ صِحّةِ النكاح رضَا كلٍّ من الزّوجين بصاحبِه، ومِن أسبابِ هَذا الرّضا عِلمُ كلٍّ مِنَ الزوجَين بحقيقةِ صاحِبِه فيما يَظهَر من تصرُّفاتِه وحتّى في شَكلِه الظّاهريّ، ولذا جَاءَت سنّةُ محمّدٍ تبيحُ للخاطِبِ نظرَه إِلى مخطوبَتِه وتُبيح لها نَظرَها إلى خَاطبِها، فنظرُ الخطِيبِ إلى مخطوبتِه ونظرُها إليه أمرٌ أرشَدَ إليهِ النّبيّ ، وبيَّن علَّةَ ذلك وسببَه، وأنّ النّظرَ يؤدِّي إلى تكوينِ فِكرةٍ في قَلبِ ذلك الخاطب، فيكون سببًا لالتِئامِ الزوجَين بتوفيقٍ من الله. وهذَا النظرُ الشرعيّ أمرٌ مرغَّب فيه، فلا يجوزُ للأبِ أن يمنعَ الخاطبَ منَ النّظر إلى مَن خطب لأنَّ هذا ليسَ مِن شأنِه، فرسولُ الله رغّب وأمَر أمْرَ استحبابٍ بذلك. روى المغيرةُ بن شعبةَ أنّ النبيَّ قال له: ((إذا خَطَبتَ امرأةً فانظُر إليها فلعلَّه أن يُؤدَم بَينَكما)) [1] ، يعني أنّ نظرَك إليهَا سَبَبٌ لأن يجعلَ الله بينك وبينها مودّةً ومحبّة، وقال لرجلٍ من أصحابِه وقد خطَبَ امرَأةً: ((انظر إليها فإنّ في أعيُنِ الأنصَارِ شيئًا)) [2] ، وأخبَرَ أنّ الخاطِبَ إذا نظَر إلى بعضِ ما يدعوه إلى الزواج بمخطوبتِه ولو لم تعلَم المرأةُ بذلك فلا جناحَ عليه [3]. هذا إذا كانتِ النظرةُ آتِيةً لأجلِ الخطبة، لا نظرة تَشَهٍّ وتطلُّعٍ على عوراتِ الآخرين.
أيّها المسلم، وهَذِه النظرةُ الشّرعيّة إنما تَكون بحضُورِ وَليِّ المرأةِ، سواء كان الأب أو أيّ محرمٍ لها؛ لأنَّ حضورَها مَعَ خاطبها الذِي لم يتمَّ عقد النّكاح له عليها يعتَبَر خلوةً بأجنبيّة بعيدةٍ عنه، فلا بدَّ في هذه النظرةِ أن تَكونَ نظرةً بحضورِ محرَمِ المرأة حتى نَأمَنَ مِنَ الخلوةِ بالأجنبيّة.
أيّها المسلم، هذه السنّةُ النبويّة الدالةُ على الترغيبِ في نَظَر الخاطبِ لمخطوبَتِه سنّةُ خيرٍ وهُدى، والتِزام المسلمِ لها مع الضوابطِ الشرعيّة بعدمِ الخلوة وبحضورِ محرَمها هذه هي السنّة، ولذا دلّت سنّةُ رسول الله على تحريمِ خَلوةِ الرجل بالمرأةِ التي ليست مِن محارمِه إذا لم يحضُرهما محرَم، يقول : ((ما خَلا رجلٌ بامرأة إلاَّ كانَ ثالثَهما الشّيطان)) [4] ، وحذّر من الدّخولِ على النّساء فقال: ((إيّاكم والدّخولَ على النّساء)) ، فقال رجلٌ: أرأيتَ الحَموَ يا رسول الله؟! قال: ((الحَموُ الموتُ)) [5] ، وحذَّر المرأةَ أن تسافرَ بلا محرَم وناشدها إيمانَها بالله واليومِ الآخر أن لا تسافرَ إلاَّ بمحرَم يصحَبُها [6] حفظًا لكرامتها وصيانةً لأخلاقها.
أيّها المسلم، ولكن للأسفِ الشديد يغلَط البعضُ من المسلمين ممّن اغترّوا بتقليد الأعداءِ وانساقوا وراءَ تلكَ الشّعارات الزائفةِ والأفكار المنحرفةِ حيث أنّ الخطيب ربما التَقَى بمخطوبتِه لُقيا غيرَ شرعيّة سببُها الاتِّصال الهاتفيّ، الرسائل الجوال، وأمثال ذلك، فمجرَّدِ الخطبة يتَّخذ بعضُ ضعفاءِ الإيمان ذلك وسيلةً إلى الاتصالِ بالمرأة المخطوبةِ والتحدُّث معها عبرَ الجوال أو الهاتف وتبادُل الرّسائل، وذا منكَر يا أخي المسلم، فإنّ هذه الاتصالاتِ والرسائلَ ربما تقرِّب بعضَهم إلى بعض، فيجري اتِّصالٌ ولِقاء وخَلوَة، وربّما وقع المحذور والعياذ بالله.
أختي المسلمة، قد يخدَعُك بعضُ الشباب، فيذكُرُ أنّه يريد خطبَتَك وسيتقدَّم لخطبَتِك لوليِّك، فيكثِر الاتصالَ، ويكثِر التحدّث، ويكثِر بَعثَ الرسائل، وما قصدُه إلاَّ خِداع ومَكر وتضلِيل وتغرير، فإن تكن الفتاةُ فتاةً مؤمنة حقًّا ذات دينٍ واستقامة ومحافظةٍ على دينها وشرفِها لم تمكِّن هذا المتطفِّل منَ الاتصالِ بها وتقول: الأمورُ تُؤتَى من أبوابها، والسنّةُ أباحتِ النظرَ عندما تدعو الحاجةَ إليه، أمّا اتصالاتٌ وأحاديثُ يوميّة، يعلِّل بعضُ أولئك أنّه يريدُ أن يكشِفَ أخلاقَها، ويريدُ أن يسبُر العلاقَةَ النفسيّة، ويريد ويريد، ويتشاوَرَان في تأثيثِ المسكَن أو المشترياتِ للزواج، إلى غيرِ ذلك من هذه العِلَل الواهية، فهذا من تزينِ الشيطان وتحسينِه الباطلَ لبعضِ ضُعفاءِ الإيمان. فلا يخدعنَّك ـ أختي المسلمة ـ ممارِسٌ في الشّرِّ ومتردِّد في الفسادِ وساعٍ في الشرّ والبلاء، إن تقدَّم خاطبًا نظَر وتكفيه النظرةُ الأولى، وأما الأحاديثُ ومبادلَة الأحاديث فذا أمرٌ ينبغي إغلاقُ بابِه إلاَّ بعد العقدِ الشرعيّ الذي يستبيح به المرأةَ المسلمة.
أيّتها المرأةُ المسلمة، كم من شبابٍ خدَعوا بعضَ الفتيات وغرّروا ببعضِ الفتيات وتجرَّؤوا على بعض الفتيات، حتّى حمَلهم ذلك الباطلُ إلى التقاطِ صورٍ لتلك الفتاة وهي تحادِثُ هذا الرجل وتلتقي به، ثمّ يجعلها وسائلَ ضغطٍ على هذهِ الفَتاةِ ليقتَنِصَها ويدمِّر أخلاقَها وفضائلها.
فيا أختي المسلمة، احذَري من هذا الضَّربِ من الناس، وأغلِقِي بابَ الاتصال، واجعلي الأمرَ يأخُذ قنواتِه المعروفة ويأخُذ طُرُقَه الشرعيّة، أمّا اتصالاتٌ ولقاءات مشبوهَة فإنّ ذلك خداعٌ لك من أولئك القوم؛ لأنّ بعضَهم لا يهدِف من ذلك سوى الإفساد، هو فاسِد في نفسِه فيريد أن ينقُلَ الفسادَ والشرَّ إلى غيره، ويفرَح مع عُشَراء السّوء بإفسادِ فتَياتِ المسلمين وإيقاعهنّ في البلاء حتى يقضِيَ غَرضَه المحرّم بأسباب هذه الاتّصالاتِ المشبوهَة.
أختي المسلِمَة، أخي المسلِم، لا بدَّ من تقوَى الله للجميع، وأن نكونَ صادقين في إخبارِنا، فإن تكن صادِقًا فقدِّم الخطبةَ لأبي المرأة، واجعَل حَديثَك مع وليِّ أمرها، وابتعِد عن هذه اللقاءاتِ والأحاديث المشبوهَة، فبإمكانِك عقدُ الزّواج وتعجيل الدخولِ فتكون على طريقةٍ واضحةٍ ومنهَج سليم بعيدٍ عن الحرام قليلِه وكثيرِه.
أيّتها المسلمة، لا بدَّ من تقوى الله ومراقبتِه، لا بدّ من أخذِ الحيطة والحذر من بعضِ أولئك الفاسقين الفاسِدين، أن لا نمكِّنَ لهم الأمرَ، وأن نحولَ بينهم وبين إجرامِهم، وأن نردَعَهم ونوقِفهم عند حدِّهم، فوليُّ الفتاةِ المسلمة يجِب أن يشعِرَها بعد الخِطبة على أنّ هذا الخاطبَ لا يزال أجنبيًّا عنها إلى أن يتمَّ العقدُ الشرعيّ، وأنَّ اتصالَها به واتصالَه بها والتحدّثَ بينهما لا يؤدِّي إلى نتائجَ طيّبة.
أخي المسلم، أختي المسلمة، كم مِن محادَثةٍ أفسدت حتَّى الخِطبة وجَلَبت على المرأةِ وأوليائِها العار، وكم محادَثةٍ جَلبَت المصائبَ والبلايا؛ أقوامٌ هم فاسِدون في أنفسِهم، متمرِّسون في الفساد، مجرِّبون لطُرُق الغواية والإفسادِ والإضلال، فيأخُذ بالهاتِف هذه الفتاةَ بأسلوبٍ معسول، ثم يقلِب المِجنَّ عليها ويبتعِد عنها، وربما تعلَّق قلبُها به فأصابها ما أصابها. إذًا فلا تعطِي الانقيادَ إلى أولئك، ودعوا الأمورَ الشرعية تأخُذ مجراها، بعدَ العقدِ الشرعيِّ يبادَر بالدخول حتى تُغلَق أسباب الشرّ، ويحرِص المسلم على الامتناع عن الشرّ والفساد، ويكون زواجُه زواجًا شرعيًّا قائمًا على أسسٍ ثابتة بعيدًا عن هذه الغواياتِ والتضليل.
فلتتَّقي اللهَ الفتاةُ المسلمة في نفسها، وليتّقِ اللهَ الشابّ المسلم في نفسه، وليتّق الله أولياءُ الرجل وأولياء المرأة، ولتكن البيوتُ مبنيّةً على زواجٍ شرعيّ بعيدٍ عن هذه التّرّهات وعن هذهِ الخداعات والأباطيل. أسأل اللهَ أن يوفِّق الجميع لما يحبّه ويرضاه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذَا، وأستغفر اللهَ العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (4/244)، والترمذي في النكاح (1087)، والنسائي في النكاح (3235)، وابن ماجه في النكاح (1688) نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (675)، وابن حبان (4043)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (96).
[2] أخرجه مسلم في النكاح (1424) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[3] أخرجه ابن أبي شيبة (4/21)، وأحمد (3/334)، وأبو داود في النكاح (2082) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال رسول الله : ((إذا خطب أحدكم المرأةَ فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)) ، وصححه الحاكم (2696)، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (9/181)، والألباني في الإرواء (1791).
[4] أخرجه أحمد (1/18)، والترمذي في الفتن (2165)، والنسائي في الكبرى (9219) من حديث عمر رضي الله عنه نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (5586)، والحاكم (387)، والضياء في المختارة (98)، والذهبي في السير (7/102، 103)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1758).
[5] أخرجه البخاري في النكاح (5232)، ومسلم في السلام (2172) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.
[6] روى البخاري في الجمعة (1088)، ومسلم في الحج (1339) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرةَ يوم إلا مع ذي محرم)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّم تَسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدّين.
أمّا بعد: فيَا أيّها الناس، اتقوا الله تَعالى حقَّ التّقوَى.
عبادَ الله، إنَّ هناك فئةً من الأزواجِ ـ هدانا الله وإياهم ـ طِباعُهم سيّئة وماضيهِم سيّئ، وقد تردَّدوا في الفسادِ وطرُقه؛ لهذا ترى بعضَهم عندما يخطب الفتاةَ ويدخل بها يحاوِل فتحَ ملفٍّ عن الماضي فيقول لها: أخبِرني عن ماضيك السابِق ماذا حصل؟ التقيتِ بمن؟ ماذا عملتِ؟ مَنِ الصاحب؟ مَنِ الصديقة؟ إلى آخره، ويبني على هذا الشكوكَ في المرأةِ وكراهيّتها وربما أضرَّ بها.
يا أخي المسلم، ما مضى من ماضٍ فلستَ مسؤولاً عنه، وفتحُ الماضي والتحدُّث عن الماضِي لستَ مسؤولاً عنه، أنتَ مسؤولٌ عن المرأةِ مِن أوّل يومٍ انتقلت إليك وخلوتَ بها، فالماضي بما مضى لستَ مسؤولاً عنه، ومحاولةُ إرغامُ المرأة على أن تتحدَّثَ وربما يحمِلها على الكذب ليتَّخِذ ذلك ذريعةً للإضرارِ بها أو إيذاءِ أهلها أو استرجاعِ المهرِ من أهلها، ويكون ذا بذاءةٍ في اللسان وفجورًا في القول، وأضرُّ الناسِ من يُكرمه الناس اتّقاءَ شرِّ لسانِه.
يا أخي المسلم، لستَ مسؤولاً عن الماضي، لنَكُن جادّين في إصلاح حاضِرنا ومستقبَلنا إن شاء الله، أما أمورٌ مضَت فإنّ التحدّثَ بها ومحاولة البحثِ لا جدوى له ولا مصلحةَ منه.
يا أخي، وُجِد عند بعضِ هؤلاء الأزواجِ من يقول لها بعدَ مضيِّ سنين معها: إن لم تخبريني بماضيك فأنت طالق إلى آخره، ويهدِّدها بالطلاق لماذا؟ لأنّ شلّتَه الفاسدة أوحَوا إليه بأكاذيبَ وأباطيل أرادوا بها التفريقَ بينه وبين امرأته، ربما يكون صدقٌ في شيء، لكن الكذب والباطل هو المسيطِرُ على هذه الآراءِ الخطيرة. كريمُ النّفسِ طيّبُ الخلُق يعامِل المرأةَ بالحسنى ويسوسُها السياسةَ الشرعيّة ويتّقي اللهَ فيها، وأمّا فتحُ بابِ الشكوكِ والوساوسِ والأوهامِ الماضِية وأنتَ لا تعلم ولا علاقةَ لك به، لكن شيطانٌ أراد أن يفرِّقَ بينك وبين امرأتك، فربما أتى بأمرٍ يصدُق في واحدةٍ ويكذب في مائة ليفرِّقَ بينك وبين امرأتك ويُحدثَ شرخًا بينكما ويهدِمَ البيتَ ويقضي على الحياةِ الزوجية السعيدة.
فليتَّق اللهَ شبابُنا، وليبتعِدوا عن هذه التّرّهات، وليستقيموا على الطّاعة، وكلُّ ظنونٍ وشكوك مبنيّةٌ على غير أساسٍ كلُّها ضلالٌ وخطأ، وكلّها مبنيّة على باطل، واعلَم أن قذفَ المرأة المسلمة بما هي بريئةٌ منه كبيرةٌ من كبائرِ الذنوب، وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:4، 5].
أخِي المسلم، شُلَل الفسادِ وعُشَراء الباطل احذرهم على نفسِك، واحذرهم على أهلِك وولدك، احذَرهم أن يدمِّروا منزلَك، احذرهم أن يفرِّقوا أسرتك؛ لأنهم قومٌ لا خلاقَ لهم، يحبّون الفسادَ والإفساد، ولا تهنأ نفوسُهم إلاَّ إذا فرَّقوا بين الرجل وبين امرأتِه، وربما يتَّخذونها وسائلَ ضغط على تلك المرأة ليوقِعوها في شَبَكات الفسادِ والعُهر والعياذ بالله.
فلنتّقِ الله في أنفسنا وفي عوراتِ المسلمين عمومًا، وأن لا نسعَى بالفساد والإفساد، فلعن الله من خبَّب امرأةً على زوجها، فمن أفسَدَ الحياةَ الزوجية بالأكاذيب والأباطيل فإنّه مستحقٌّ للعنة الله لأنه شيطان من الشياطين لا خيرَ فيه، إذِ المؤمن يسعَى في الخير جُهدَه ويسعى في التأليف، وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، أمّا أولئك الهادِمون للبيوتِ المفرِّقون بين الأزواج هؤلاء فِئةٌ ماردة وفئة فاسِدة.
أسأل الله أن يردَّ ضالَّ المسلمين للهداية، وأن يوفِّقَنا وإياكم لصالح القول والعمل، ويجنّبَنا وإياكم طريق الزّلل، إنه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
(1/3346)
العمل للدين مسؤولية الجميع
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
مازن التويجري
الرياض
جامع أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل كلمة التوحيد. 2- نعمة الهداية للإسلام. 3- ماذا يعني انتسابنا للإسلام؟ 4- تضحيات النبي والسلف الصالح لنصرة دين الله تعالى. 5- صور من العمل لنصرة دين الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
"لا إله إلا الله" كلمة قامت عليها السموات والأرض. "لا إله إلا الله" تُحفظ بها الدماء والأموال. "لا إله إلا الله" شعارٌ من رفعه فله الولاء والإخاء.
من بين الآلاف، بل الملايين، بل آلاف الملايين عبر العصور والأزمان قد اصطفاك الله وحباك بينما يسجد أحدهم لصنم، ويتمسّح آخر بحجر أو شجر، ويدعو ثالث إنسًا أو جنًّا، ويتّجه لشمس أو قمر، كنت أنت مخلصًا في عبادتك، موحِّدًا في توجّهك، إن دعوتَ دعوت الله، وإن توكّلتَ فعلى الله، إن استعنتَ فبالله، خوفُك من الله، ورجاؤك بالله، ذبحك لله، ونذرك لله، فحياتك ومماتك لله، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
إنها نعمة عظيمة، لا توازيها نعمة، أن تتخبّط أفواجٌ ليست باليسيرة من الناس في دياجير الجاهليّة والكفر وقد هُديتَ أنت صراطَ الله المستقيم، ليس بالأمر اليسير أن تُرشَد إلى الإسلام بينما يموت أناس ويحيا آخرون على الشرك والعمى. هل هي مسألة سهلة أن توفَّق للتوحيد وإخلاصِ العبادة لله وأكوام من البشر لم تزَل حبيسةَ الجهل والضلال، قابعةً في ظلام الشرك والزيغ والعناد؟ إنها قضية عظيمة ونعمة كبيرة، بل هي النعمة التي لا تجاريها نعمة.
خرّج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، مَن أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله : ((لقد ظننتُ ـ يا أبا هريرة ـ أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أولَ منك لِما رأيتُ من حرصك على الحديث. أسعدُ الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: "لا إله إلا الله" خالصًا من قلبه أو نفسه)).
كيف لا تكون أعظمَ نعمة وهي مفتاح الجنة؟! روى أحمد والبزار بإسنادهما عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مفاتيح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله)).
كيف لا تكون رأسَ النعم وبها تُحرَم النار؟! روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أنّ النبي ومعاذٌ رديفه على الرّحل، قال: ((يا معاذ بن جبل)) ، قال: لبيك ـ يا رسول الله ـ وسعديك، ثلاثًا، قال: ((ما مِن أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسول الله صِدقًا من قلبه إلاّ حرمه الله على النار)) ، قال: يا رسول الله، أفلا أخبر الناس فيستبشروا؟ قال: ((إذًا يتّكلوا)).
وبعدُ: فكلٌّ يدّعي اتّصاله بالإسلام وانتماءه إليه، بل ولا يرضى أن يمسَّ دينُه بأقلّ المساس، أو يشكِّك أحد في ولائه لدينه وتمسكه به. والسؤال الكبير: هل نحن صادقون في ادعائنا هذا؟ هل نحن صادقون في انتمائنا لديننا وعقيدتنا؟ هل يقف معنى الشعور بالانتماء لدى الكثيرين عند التلفّظ بالشهادتين وإقامة الصلاة وإظهار شيءٍ من شعائر الدين؟ ماذا يعني صدقُ انتسابنا للإسلام؟ وهل ثمّة حقيقة غائبة في فهم الإسلام فهمًا صحيحًا صائبًا؟ إن من يدعي حبَّ محبوب لا بدّ أن يقدّم البراهين والدلائل على صدق محبته لذلك المحبوب، وإلا أضحى الحب ادّعاءً باطلاً وزعمًا بعيدًا عن الواقعية.
إنّ البشر في حياتهم العملية يتفانون في صدق ولائهم وانتمائهم لمرجعهم، فالتاجر يمدح تجارته ويثني على مبيعاته، ينشر أوراقه وعباراته الدعائية في سبيل إنفاق سلعته وربح تجارته. العامل في دائرة حكومية أو مؤسسة أو شركة يثني على أعمالها، ويذكر إنجازاتها، وينافح عنها، ويردّ على مزاعم من يقدح فيها. وتلك ظاهرة نشاهدها في أنفسنا، في عواطفنا وتعاملنا، نراها في عبارات الناس من حولنا وحديثهم، نقرأها ونسمعها في وسائل الإعلام المختلفة، ولا تكاد تجلس في مجلس إلاّ وترى من ذلك ما يُرضي ويُسخط.
إذًا بمَ يطالبك الإسلام الذي كرِّمت بالانتساب إليه وشُرِّفت بالانتماء له؟ وقبل الإجابة على هذا التساؤل المهمّ لا بد من التذكير بقضيّة مهمة، هي سهلة بدهية، ولكننا نغفل عنها ونساها كثيرًا، وهي ـ ولا إخالك تجهلها ـ أنك عضو في الأمّة، ولبنة في جدارها، أنت واحد من ذلك المليار أو يزيد ممن ينتمون لهذا الدين الحنيف. إذًا أنت تشكّل جزءًا لا يتجزّأ ممن يمثّلون هذا الدين شئتَ أم أبيت. وعلى هذا فأنت تؤثّر في هذا الكيان سلبًا أو إيجابًا، أنت تدفع عجلةَ الأمة إما إلى الأمام أو إلى الخلف. لا تنظر لنفسك بعين السخرية والاحتقار والصّغار لتسأَل: وماذا عساني أن أقدّم للمليار؟! أنت نقطة في هذا البحر، وهل السيل إلا اجتماع النقط؟!
ولتقريب الصورة فأنت واحد من مليار واحد، فهل قدّمتَ ما يشفع لك الانتماءَ لهذا العدد؟ إن الإسلام لا يطالب أتباعَه إلا على قدر طاقتِهم وبحسب استطاعتهم، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]. إنه يريد منك همًّا يعتلِج في صدرِك، يشغَل تفكيرك، تحزن لمصائبِه، وتفرح لفوزِه وعلوّه. يريد منك نية صالحة أن تشاركَ في كلّ خير، وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ [التوبة:92]. إنهم معذورون، ولكنّه الهمُّ خالط نفوسهم والأسى تحشرج في صدورهم خزنًا وألمًا أن لا يجدون مالاً يشاركون به لرفع لا إله إلا الله.
روى البخاري في صحيحه أنّ النبي نعى زيدًا وجعفر وابن رواحة في غزوة مؤتة للناس قبل أن يأتيَهم خبرهم فقال: ((أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب ـ وعيناه تذرفان ـ حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله عليهم)). وكان عليه الصلاة والسلام يرسل الكتيبةَ والسريّة، ولا يزال يدعو الله لها بالنصر والتأييد.
رحل إلى الطائف فدعاهم وخوّفهم، فكذّبوه وأغرَوا به سفاءهم، فسار مغمومًا على وجهه ولم يستفق صلوات ربي وسلامه عليه إلا بقرن الثعالب. سار تلك المسافةَ الطويلة لا يشعر بنفسه يعالج الهمّ والخزن، أَلِمالٍ فقده أم لضِياع وأراضٍ سُلبَها؟! ألِزوجة فارقها أم لمنصبٍ عُزل منه؟! كلا ولكن لأجل قومٍ رفضوا الحقَّ ولم يقبلوا هدَى الله الذي جاء به، واسمع إلى هذا الحديث العظيم: ((من مات ولم يغزُ ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق)) رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
إن الإسلام يريد منك تحسّسًا لأخباره واطلاعًا على أحواله ونشرًا لها بين أبناء المسلمين، أين أنتم يا أهل الفضائيات؟! ألم تحدّثونا عن سبب إدخالكم لهذا الجهاز وأنه تتبّع الأخبار والاطلاع على مستجدّات الأحداث؟! أين أنتم من قضايا المسلمين هنا وهناك؟! لم نسمع لكم حديثًا عن مجازر الشيشان وآلام الصومال وآهات القدس وغيرها كثير، أم أنها شماعة عُلّق عليها ذلك السبب لتكون مبرّرًا لكم.
إنّ الإسلام يريد منك تفاعلاً مع قضاياه فرَحًا وحزنًا، ألمًا وأملاً، لماذا هذا الجمودُ في العواطف تجاه مصائب المسلمين وآلامهم؟!
لما بعث رسول الله محمدَ بن مسلمة ومَن معه لقتل كعب بن الأشرف اليهوديّ وكان شاعرًا يؤذي رسول الله وأصحابه لم يزل عليه الصلاة والسلام قائمًا تلك الليلةَ يصلي ويتحرّى أخبارهم، فلما قتلوه وبلغوا بقيعَ الغرقد كبّروا، فلما سمع تكبيرهم عليه السلام كبّر وعرَف أن قد قتلوه. ثم انتهوا إلى رسول الله فقال: ((أفلحتِ الوجوه)) ، فقالوا: ووجهك يا رسول الله.
ولما فتح عمرو بن العاص مصر وأسَر من أسر منها وضرَب على أهلها الجزيةَ خيَّر الأسرى بين الإسلام أو النصرانية والجزية، قال زياد الزبيدي وكان من جند المسلمين: فجعلنا نخيِّر الجلَّ من الأسرى، فإذا اختار الإسلام كبَّرنا تكبيرَة هي أشدّ من تكبيرنا حين تفتَح القرية.
وذكر صاحب كتاب "الدعوة إلى الإسلام" عن حرص الأتراك على الدعوة إلى الإسلام أنّ المسلم الجديد إذا دخل في دين الله أقاموا له فرحًا شعبيًّا، فيمتطي حصانًا ويطاف به في طرقاتِ المدينة، وهم في نشوةِ النصر.
إسلامك يريد منك تقديمَ ما تستطيع من جهدٍ أو مال أو مشورةٍ، فقد قدّم أجدادك نفوسهم رخيصة في سبيل الله ورفعة هذا الدين.
ذكر ابن حجر في كتاب الإصابة عن سليمان بن بلال رضي الله عنه أنّ رسول الله لما خرج إلى بدر أراد سعد بن خيثمة وأبوه جميعًا الخروج معه، فذُكر ذلك للنبيّ فأمر أن يخرج أحدهما، فاستهما ـ أي: اقترعا ـ فقال: خيثمة بن الحارث لابنه سعد رضي الله عنهما: إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم، فأقم مع نسائك، فقال الابن سعد: لو كان غير الجنة لآثرتك به، إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا. فاستهما فخرج سهم سعد، فخرج مع رسول الله إلى بدر، فقتله عمرو بن عبد ودّ.
الله أكبر، يقترعان للموت. نعم، إنه موت العزةِ والشرف والرفعة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
سكن داعيةٌ مسلم شهير مدينةَ ميونخ الألمانية، وعند مدخل المدينة توجد لائحة كبرى مكتوبٌ عليها بالألمانية: "أنت لا تعرف كفرات يوكوهاما"، فنصب هذا الداعية لوحةً كبرى بجانب هذه اللوحة كتب عليها: "أنت لا تعرف الإسلام، إن أردتَ معرفته فاتّصل بنا على هاتف كذا وكذا". وانهالت عليه الاتصالات من الألمان من كلّ حدَب وصوب حتى أسلم على يده في سنة واحدة قرابةُ مائة ألف ألماني ما بين رجل وامرأة، وأقام مسجِدًا ومركزًا إسلاميًا ودارًا للتعليم.
أنت تستطيع أن تقومَ للإسلام بأيّ شكل من الأشكال أيًّا كان مكانك ووظيفتك وحجمك بل وعمرك. فطفل صغير يخصّص حصالته الخاصة لجمع المال لفقراء المسلمين، ورجل يرسل ابنه ذا السنتين من عمره إلى جاره ببعض الأشرطة والكتب النافعة، وشاب في الصف الأول الثانوي يجمع بمفرده وفي فترة وجيزة ثلاثة عشر ألف ريال لمسلمي كوسوفا، وأطفال في المرحلة الابتدائيّة يتبرّعون بمصروفهم اليوميّ لإخوانهم في الشيشان.
إذًا اعرف مواهبك، وحدّد قدراتك، واعمل قدر استطاعتك، فليست الدعوة حكرًا على أناس معيّنين، وليس العمل للدين محصورًا في شريحةٍ معينة من المجتمع لا يتعداها لغيرها، فقدم لدينك وإن كنتَ مقصّرًا في بعض جوانب الدين.
فمن ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
فلا يكن تقصيرنا في بعض الواجباتِ أو وقوعنا في بعض المخالفات عائقًا عن العمل لدينِنا وأمتنا.
الوالي والعالم، الطبيب والمهندس، المعلم والأديب، الكاتب والصحفي، المدير في إدارته والموظف في دائرته والعامل في دكانه، المرأة في بيتها، الصغير والكبير، الكلّ مطالب ولكن كلّ بحسبه.
وثق تمامًا أنّا لا نطالبك فوق طاقتك، ولكن نريد منك العمل أيًّا كان بشرطِ أن يوافق الشرعَ وبعضَ الهدف. فالدين ظاهر منصور، وهذا وعد الله لا يتخلّف، ولكن الشأن يومَ ينصَر الدين هل أنت من جنده أم لا؟
قال ابن القيم رحمه الله:
والحق منصور وممتحنٌ فلا تعجب فهذي سنة الرحمن
وبذاك يظهرُ حِزبُه من حربِه ولأجل ذاك الناس طائفتان
ولأجل ذاك الحرب بين الرسل والكفـ ـار مُذ قام الورى سِجلان
لكنما العُقبى لأهل الحقّ إن فاتت هنا كانت لدى الديان
(1/3347)
حتى تكون الإجازة سعيدة
الأسرة والمجتمع
الأبناء, قضايا المجتمع
مازن التويجري
الرياض
16/4/1425
جامع أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صورة الإجازة الفاشلة. 2- نعمة الفراغ. 3- التحذير من السفر إلى بلاد الكفر والفسوق. 4- دعوة لاغتنام الأوقات. 5- مقترحات ووصايا لاغتنام الإجازة. 6- شكر وتقدير لكل من يسر استثمار الإجازة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أبو محمد رجل مسلم، انتهى أبناؤه من الامتحانات ولمّا يحصل على إجازة من عمله، حاول فقيل له: بعد شهر من بدء الإجازة. ومضت أيام هذا الشهر تباعًا، يأتي من عمله والأبناء نيام، فهم سهروا حتى ارتفاع الضحى، يقلّبون القنوات من قناةٍ لأخرى، وبعضهم في محادثاتٍ تطول عبر الإنترنت، أو يبحث عن مواقع تجرّه إلى الرذيلة والعار، وقبَيل العشاء أو بعده يستيقظ الأبناء والبنات، وما هي إلا ساعة تزيد أو تنقص، الأبناء مع رفاقهم، دوران وتسكّع، والبنات مع السائق من سوقٍ إلى سوق، ومن شارعٍ إلى آخر، والمطاعم ملأى، والعذر الذي يجمِع عليه الجميع وتعتذّر به الأم لأبنائها عند والدهم: معذورين في إجازة ولم يتيسّر لهم سفر. وبعد شهر تطير العائلة إلى بلاد أوربا أو أمريكا وغيرها ليبدأ الفصل الثاني من مسلسَل الضياع هناك، وبعد أيام طالت عادت العائلة الكريمة بنفوسٍ قد تلطّخت بشؤم المعصية، وأضحت أبعدَ عن خالقها وربها.
روى البخاري في صحيحة أن النبي قال: ((نعمتان مغبون فيها كثير من الناس: الصحة والفراغ)). فحصول الفراغ وكمال الصحة للعبد نعمة عظيمة، قلّ في الناس من يدركها ويستشعر فضلها، ليستثمرها فيما يعود عليه بالنفع في الأولى والآخرة، وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر].
معاشر المؤمنين، إنّ المسلم بحاجة ماسّة إلى أن يضع له ولأفراد عائلته أهدافًا يريد تحقيقَها خاصة في زمن الإجازات التي تخلو من دراسة نظامية أو وظيفة. هذه الأهداف يسعَى للوصول إليها من خلال وسائل ومناشط متعدّدة تناسب جميعَ الأعمار، وتلبي مختلف التوجهات والرغبات. ليس عدلاً في قاموس العقلاء أن تكون الإجازة عند المسلم ضياعًا للأوقات وهدرًا للطاقات وركوبًا لأصناف المعاصي والمنكرات.
بالله عليكم، ماذا جنى أرباب السفر إلى بلاد الكفار أو بلاد الفسق والمجون إلا ضياع الدين وضعف الغيرة والحياء والجرأة على معصية الخالق سبحانه وكسب السيئات والخطايا وهدر الأموال وتبذير الثروات؟! ماذا جنى أرباب سياحة الطرب والغناء والمسارح والعروض؟! أين العقول التي ترى أن الحياة أغلى وأعظم من أن تقضى بشهوة ساعة أو أغنية ماجنة أو ترحال لبلاد لا يسمع فيها لصوت الحق مناديًا؟! أين من يثمّن الأعمار ويدرك قصر الحياة وهو يرى الموت يخطف الأرواح صغيرها وكبيرها، ولا يفرق بين سقيم وصحيح؛ ليسعى لاستغلال دار فانية قصيرة، يعقبها نعيم لا ينفد وقرة عين لا تنقطع؟!
أيها الأفاضل، نعم نحن نعلم بأنه لا خلود في هذه الدار، وأن الموت مصير كل حيّ، ولكن مشكلتنا الحقيقية هي في التطبيق، في العمل، في مجاهدة النفس. نعم، نحب الله ونتمنّى دخول الجنة، نسأل الله المراتبَ العالية فيها، ولكن أفعالنا تخالف الحقيقةَ التي نؤمن بها ومولانا الذي نحبه ونحبّ ما يقربنا له، اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء:1-3].
إخوتي في الله، إن العلم لا يكفي بمفرده، والحب لا يصح إلا أن نقيمَ البراهين بالأعمال على ذلك العلم والرغبة وندلّل على الحبّ والمحبة. والدعاوي إذا لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياءُ، وإلا فكل الناس يرجو النجاة، لكن أين من سلكوا طريقها؟! كلنا نسأل الله الهداية في كل ركعة من صلاتنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، لكن أين من يسعى لنيلها؟! أين من يتجاوز شهواته ويكسر حنين نفسه، ليحصّل مطلوبه وغايته، ويسابق في ميادين البر والخير؟! أما آن للآباء والأمهات أن يلتفتوا لمصالح أبنائهم في مثل هذه الأجازات؟! أن يسعوا لتزكية النفوس وغرس مفاهيم الإسلام وتعاليمه وهم يرون الفتن قد أقبلت بخيلها ورجلها تجوس خلال الديار؟! وليس أعظم من يحفظ الأبناء والبنات من فتن الشهوات والشبهات والدعاوى المضللات سوى البيت المسلم التقي النقي، وما أروع قولة العبد الصالح لابنه وهو يعظه: يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17].
وكي نتعاون معًا في الاستفادة من هذه الإجازة إليك بعض المقترحات والوصايا:
أولا: إشراك الأبناء في الدورات المكثفة لحفظ القرآن الكريم، والبنات في دُور تحفيظ القرآن الكريم المنتشرة ولله الحمد في مناطق كثيرة. في هذه الدورات يستطيع الطالب أن يحفظَ القرآن كاملاً في خمسة وأربعين يومًا أو شهر واحد. ومن أمثلة التجارب السابقة في العام المنصرم استطاع شاب حفظ القرآن في ستة عشر يومًا فقط، وآخر في ثمانية عشر يومًا، وشابّين في تسعة عشر يومًا. إنه مشروع كبير، لم لا يشارك فيه الأب وأبناءه سويًا ليروا صورة القدوة أمامهم، يتشجعوا ويتنافسوا في هذه الدورات؟! تبدأ بحفظ خمسة أجزاء إلى حفظ القرآن كاملاً.
ثم انطلقت قبلَ أعوام يسيرة دورة حفظ السنّة النبوية في بيت الله الحرام في مكة المكرمة، فيحفظ طلاب العلم صغارًا وكبارًا صحيح البخاري ومسلم خلال شهرين تزيد أو تنقص، إنجازٌ كبير وفوزٌ عظيم. وكان ممن شارك في الدورات السابقة طلاب في المرحلة المتوسطة فما فوق، ونساء حفظنَ الصحيحين في خمسةٍ وخمسين يومًا، فلمَ لا تكون ـ أيها الأب المبارك ـ هذه الإجازة أيامًا لحفظ القرآن الكريم يشار ك فيها الجميع؟! وتذكر على الدوام ما يحطم العقبات: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17].
ثانيًا: الدورات العلمية التي يأخذ فيها طالب العلم علومًا شتى في التفسير والحديث والفقه والعقيدة وغيرها من علماء متخصّصين في أيام قليلة وفي فترة وجيزة مما قد لا يتيسّر مثله في غير هذه الإجازات، فكم هي الأمور التي نجهلها من ديننا، لا أقول في دقائق العلم، بل في مسائل من أهم المهمات في التوحيد والفقه، لمَ لا تكون هذه الإجازة فرصةً لك للتزوّد من العلوم ولقاء العلماء والأخذ عنهم، وانطلاقةً للأبناء في طريق العلم والمعرفة؟! يُذكر مع هذا أن تقوم في مبتدأ الإجازة يزيارةٍ إلى مكتبة علمية مع أبنائك يختار كلّ ابنٍ أو بنت مجموعةً يسيرة من الكتب النافعة فيما يحبّ من فنون لتكون رفيقةَ دربه في هذه الأيام، ويحسن أن يكون هناك كتاب يقرؤه الجميع في جلسة عائليه كلَّ صباح أو مساء.
ثالثا: صقل مواهب الأبناء بإشراكهم في دورات صيفية في الحاسب الآلي أو تعليم السباحة أو الدفاع عن النفس أو دورات في التفكير وفنّ إدارة الأوقات للزوجين في العلاقات الزوجية، وهذا وغيره ولله الحمد مطروح وبكثرة، وهو يجمع بين الفائدة والترفيه في آن واحد، فاجعل في جدولك منه نصيبا.
رابعا: إشراك الأبناء في المراكز الصيفية وهي كثيرة ولله الحمد، لا على سبيل التخلّص من الابن وإلقاءِ همِّ متابعته، ولكن رغبة في الفائدة والنفع، وفي هذه المراكز تقام بعض الدورات كما سبق في المقترَح السابق، ويعتنى فيها بحفظ القران الكريم، وتقام المسابقات في حفظ السنة، ثم هي تكسر حاجز التعرّف على المجتمع والانخراط معه لدى الشابّ، وفيه يكتشف مواهبه وقدراته وينمّيها، ويلقَى من يعتني به من أهل الخير ليعينك في طريق تربيته وإصلاحه، وهي محاضن تحفظ أوقاتهم وتزكي نفوسهم وتقيهم شرّ فتن الشهوات والشبهات، شهد لها القاصي والداني من مسؤولين وآباء ومعلمين، وليس صدقا ولا عدلا أن نرضى بهذه الحملة الشعواء من قبل بعض من له توجّهات تحارب الدين والخير وتسعَى خلف غرب وشرق، وإذا ما حاصرنا كل عمل خير يرتقي بالنفوس ويصلها بربها بسبب ما تعيشه البلاد اليوم من فتن، إذًا نحن نسعى لوأد أغلى ما نملك من الدعوة إلى الدين والخلُق ورفيع المبادئ. إذا أغلقت مثل هذه المحاضن أين سيتوجه الأشبال والشباب؟! ومن سيتولّى توجيههم وتربيتهم؟! قنوات فضائية أم مواقع عنكبوتية، مقاهٍ وشوارع. الأمة بحاجة إلى أن تتكامل في مشروعها التربويّ الذي يقوم على التوسط الذي يرضاه الله، فلا غلوّ ولا جفاء.
خامسًا: الترفيه البريء لإجمام النفوس وإعادة نشاطها، وهذا لا يقدر بقدر، فأنت تعطيه ما ترى كفايته من الوقت، وجميلٌ أن يعلّق الترفيه والراحة بإنجاز عمل أو مطلوب وواجب، فإذا حفظ الجميع ما عليه من وِرد لمدّة أسبوع أو أربعة أيام قامت الأسرة برحلة خلويّة يختار مكانها المتميّزُ من الأبناء في هذا. ويجدر التنبيه هنا بأن الترفيه لا بدّ أن يكون محاطًا بإطار الشرع، فلا يسمع فيه بتجاوزات شرعية، وإنما ترفيه يجدّد النشاط ويبعث حياة الهمّة في النفوس دون أن يكون فيه معصيةٌ وما أكثرَه لو تأمّلنا.
سادسًا: السفر له طعمٌ خاصّ عند الأبناء، فيوضع في الجدول مسبقًا بعد مشاركة الجميع في تلك المناشط أو بعضها حسب ما يتّفَق عليه، فتكون هذه الرحلة الممتدة لأيام بمثابة الجائزة الكبرى أو شهادة الشكر للجميع على ما بذلوه وقدّموه، والخيارات في بلادنا كثيرة ولله الحمد.
سابعًا: المحفّزات والجوائز مطلب لنجاح برنامجك الأسري، فمن أحسن يكافَأ، ومن قصّر وأخطأ يدفع برفق ليلحقَ الركب، والدعاء بالتوفيق والتسديد والصلاح والهداية والتعلق بالله سبحانه والانطراح بين يديه والذلة له وسؤاله العون أعظم سبيل للتيسير قبل العمل وأثناءه وبعده.
ثامنًا: كيف تبدأ؟ خلال الأسبوع المقبل اجمع المطروح من تلك البرامج على الساحة من دورات علمية ودورات لحفظ القرآن الكريم والدُّور النسائية والمراكز الصيفية والمعاهد التي تقدّم الدورات المختلفة وأماكن الترفيه، ثم انظر الأصلحَ والأنفع مراعيًا ما يلي:
لا تكثر البرامج على الأبناء فيملّوا، فقليل دائم خير من كثير منقطع.
لا يكن المكان بعيدًا عن منطقة سكنك مما قد يشقّ عليك ويكون سببًا في الانقطاع إلا عند الحاجة وعدم وجود البديل القريب.
اجعل للأبناء أكثر من خيار، ثم اترك لهم مساحة للتفكير والاختيار.
بعد ذلك ضع الجدول بمشاركتهم ليكون أبلغ في تطبيقهم له.
لا تحدّد تطبيق بعض البرامج بوقت معين من الساعة كذا إلى الساعة كذا، ولكن قل: خلال شهر لا بد أن تقرأ هذا الكتاب بمعدّل ثلاث صفحات يوميًّا، واترك للابن اختيار الوقت المناسب وهكذا.
وأخيرًا صلة الرحم من أهمّ المهمّات فاجعل لها في جدولك نصيبًا وافرًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة في الله، من خلال ما مضى فإنه من العدل والإنصاف أن يقال بأن أولئك الجنود الذين يقفون على تلك البرامج الهادفة من القائمين على الدورات في بيوت الله والمراكز الصيفية، بل وحتى من أقام الدورات النافعة بمردود مادّي ومن وفّر جوًّا للترفيه البريء الخالي من منغّصات المخالفات الشرعية، كل أولئك لهم منا عطر الثناء وصدق الدعاء، لا يستوون مع من فكّر وسعى وخطط وطبّق لإضاعة أوقاتِ الناس وتهيئة جو الفتنة وتيسير المعصية والرذيلة مما يعود على المجتمع وبالاً، لا يدفع إلى خير، ولا ينشر معرفة، لا يرفع المجتمع ولا يرقى بوعي أفراده، لا يكتشف المواهب ولا ينمي القدرات، بل يساهم في ضياع الشباب والشابات، ويشارك في هدم الطاقات.
أيها الأفاضل، هذا وغيره به نحفظ أبناءنا ومجتمعنا من نزغات الشيطان وحزبه وعبث العابثين، به نربط المجتمع بدينه وأمته، ونحببه لأهله ومجتمعه، به نحفظ عقول الشباب من واردات الهوى وأمراض الشهوات والشبهات، به يعرف أبناء المجتمع ماذا نريد منه وماذا يريد منا، نفتح له آفاقًا لخدمة أمته وبلده، به نكتشف المواهب والقدرات وننميها ونحفظها ونصقلها.
وخاتمة المقال قول رب العالمين سبحانه: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:1-10].
(1/3348)
محبّة النبيّ
الإيمان
الإيمان بالرسل, خصال الإيمان
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
18/7/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب محبة الله تعالى ورسوله. 2- فضل محبة النبي. 3- شواهد المحبة الصادقة. 4- لوازم محبة النبي ومظاهرها. 5- حماية النبي لجناب التوحيد. 6- التحذير من الغلو في النبي. 7- خطر القنوات الفضائية الهابطة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فبها تحصُل السعادة والسرورُ، ويتحقَّق الفوزُ والحبور.
عبادَ الله، لا حَياة طيِّبَة ولا عِيشَة رضيّة ولا سعادة أبديَّة إلاَّ بتحقيقِ المحبّة الكامِلة لله جلّ وعلا، يقول عزّ وجل: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]. بتحقيقها ينالُ العبد العزّةَ والسعادةَ والفلاح والنجاةَ في الدنيا والآخرة.
وإنّ من محبّة الله جلّ وعلا محبّةَ رسوله ، قال ابن تيمية رحمه الله: "فإنّ الرسولَ إنما يُحَبّ لأجل الله ويطاع لأجل الله ويُتَبَّع لأجل الله، كما قال جلّ وعلا: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ [آل عمران:31]" [1]. فمحبّةُ الله جلّ وعلا لا تنفكّ عن محبّة سيّدنا ورسولنا محمّد ، في صحيحِ البخاريّ عن النبيّ أنه قال: ((ثلاثٌ من كُنّ فيه وجد بهنَّ حلاوةَ الإيمان)) وذكر منها: ((أن يكونَ الله ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما)) [2].
وحينئذ فمحبّةُ سيِّد الخلق وأفضلِ البشر وإمامِ الرّسُل أصلٌ عظيم من أصولِ الدين وقاعِدَة مهمّة من قواعِدِ الإيمان، كيف وقد قال ربُّنا جلّ وعلا: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6]، قال العلماء: وهذه الأولويّةُ تتضمَّن أن يكونَ الرسول أحبَّ إلى العبدِ من نفسِه، وأن لا يكونَ للعبد حكمٌ على نفسه أصلاً، بل الحكمُ لله وللرسّول وهديِه وشَرعه وسنّته. في الصحيحين من حديث أنسٍ رضي الله عنه قال : ((لا يؤمِن أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)).
محبّةُ سيّدنا محمّد عاقبتُها خيرٌ عظيم وفضل عميم ونعيم مُقيم، فمن أحبَّ رسولَ الله مؤمنًا بالله عزّ وجلّ موحِّدًا محقِّقًا له التوحيدَ كان مع رسولِ الله في جنّاتِ النعيم برحمةٍ من الله وفضلٍ وإحسان، عند البخاريّ أنّ رجلاً قال للنبيِّ : يا رسولَ الله، متى الساعة؟ قال: ((وماذا أعددتَ لها؟)) قال: ما أعددتُ لها من كثيرِ صلاةٍ وصوم وصدقة، أي: ما زِدتُ على الواجباتِ من نوافل، ثم قال: ولكني أحبُّ الله ورسولَه، فقال النبيّ : ((أنت مع من أحببت))، قال أنس رضي الله عنه وهو الصحابي الجليل: فأنا أحِبّ النبيَّ وأبا بكر وعُمر وأرجو أن أكونَ معهم بحُبِّي إيّاهم وإن لم أعمَل بمثلِ أعمالهم [3]. يقول الحسن البصري رضي الله عنه في فهم هذا الحديث: "فمن أحبَّ قومًا اتَّبع آثارَهم، ولن تلحقَ بالأبرار حتى تتّبِع آثارَهم وتأخذ بهديهم وتقتدي بسنتهم وتصبح وتمسي وأنت على منهجهم، حريصًا أن تكونَ منهم، فتسلك سبيلَهم، وتأخذ طريقَهم، وإن كنت مقصِّرًا في العمل" انتهى [4].
معاشرَ المسلمين، والحبُّ وإن كان من أعمال القلوب فلا بدَّ من ظهور آثارِه على الجوارح قولاً وعملاً، ولا بدَّ من بروز براهين صِدقِه في الحياة ظاهرًا وباطنًا، فهناكَ شواهدُ صحيحةٌ على المحبّة الصادقة، وهناك علامات تؤكِّد صحَّتَها وآثار تظهَر على من اتَّصف بها، فمحبّةُ المؤمن لله ولرسولِه تحمِل على تحصيلِ ما يحبُّه الله جلّ وعلا ويحبّه رسولُه عليه أفضل الصلاة والسلام من أعمال القلوب والجوارِح، وتحمل على اجتنابِ ما يبغضه الله ويُبغضه رسوله من الاعتقادات والأقوال والأعمال، فمحبُّ رسولِ الله محبّةً صادقة ظاهرةً وباطنة متَّبِع لرسول الله في منشطِه ومكرهه، في سِرِّه وعلانيته، باذلاً كلَّ ما في وُسعه للوقوف على هديِه واتّباع سنّته، متحرِّيًا في جميع توجُّهاته سنّتَه وسيرته وشرعَه وهديه، فقمَّة السموِّ في حبِّ رسول الله تتضمَّن أن يستعليَ المسلم على رغباتِ النفس وشهواتها، مقدِّمًا هديَ رسول الله وأمرَه على رغباتِ النفس وهواهَا؛ لأنّها محبّةٌ تقتضي وجوبَ وفرضيةَ قبولِ ما جاء به مِن عند الله واتِّباع شرعِه وتلقِّي ذلك بالمحبّة والرِّضا والتعظيم والتسليم، قال الحسن البصريّ وغيره من سلف هذه الأمة: "إنّ قومًا زعموا محبّةَ الله ومحبّةَ رسولِه فابتلاهم الله بهذه الآية: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]" [5].
معاشرَ المسلمين، محبّةُ سيِّدنا رسولِ الله تقتضِي حُسنَ التأسِّي به وتحقيقَ الاقتداء بسنَّته في أخلاقه وآدابه، في نوافِلِه وتطوُّعاته، في أكلِه وشربه ولباسِه، في جميعِ آدابه الكامِلة وأخلاقه الطّاهرة.
إخوةَ الإسلام، محبةُ رسول الله تقتضي تعظيمَ النبيّ وتوقيرَه والأدَبَ معه وفقَ المأذونِ وحسبَ المشروع في كتابِ الله جلّ وعلا وسنّةِ رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام. تعظيمٌ مشروعٌ يقتضي التعظيمَ بالقلبِ باعتقادِ كونِه رسولاً، رسولاً مصطفىً مخصوصًا بأعلى المقدار وأرفعِ الأذكار دونَ غلوٍّ أو جفاء، وبدون وقوعٍ في محذورٍ. تعظيمٌ باللسان وذلك بالثناءِ عليه بما هو أهلُه وبأفضلِ ما يوصَف به خيرُ البشر، وحينئذ فالواجبُ البُعد والحذَر في مقام النبوّة من الجفاءِ، كترك الصلاة عليه لَفظًا وخطًّا أو الاستهانة بهديِه وسنّته أو قلّة المبالاةِ بها أو إهمال مطالعةِ سيرتِه ومذاكرةِ هديه. كان محمد بن المنكَدِر وهو من أعلامِ التابعين إذا سئل عن حديثٍ من أحاديثِ رسول الله بَكَى حتى يرحَمه الجالسون إجلالاً وتوقيرًا لرسولِ الله [6] ، وكان عبد الرحمن بن مهدي وهو من أعلامِ المحدِّثين إذا قرأ حديثَ النبيّ أمر الحاضِرين بالسكوت وقال: "لا ترفَعوا أصواتكم فوقَ صوتِ النبيّ" [7] ، قال ابن العربي: "حرمةُ النبيِّ ميتًا كحُرمتِه حيًّا، وكلامه المأثورُ بعد موته في الرِّفعة مثل كلامِه المسموع في لفظه، فإذا قُرِئ كلامُه وجب على كلّ حاضرٍ أن لا يرفعَ صوتَه عليه ولا يعرض عنه... إلى أن قال: وله مِنَ الحرمة مثلُ ما للقرآنِ إلاَّ معاني مستثناة بيانها في كتب الفقه" [8]. فواجبُ المسلم اختيارُ أحسنِ الألفاظ وأهذبها وأرقِّ المعاني وألطفِها في الحديث عنه ، وتجنُّب كلِّ ما فيه جفاءٌ أو إساءَةُ أدبٍ مع مقامه.
عبادَ الله، ومن محبّتِه الثناءُ عليه بما هوَ أهلُه بما أثنى عليه به ربُّه من غير غلوٍّ ولا تقصير، وإنّ من أعظم الثناءِ عليه إكثارَ الصلاة والسلام عليه أفضل الصلاة والسلام، الإكثار من ذلك عند ورودِ ذكره الشّريف على المسامعِ واللسان وعند الخطِّ بالبنان، والصلاة عليه تدور بين الواجبِ والنّدب كما هو مفصَّل عند أهل العلم والفَضل، في سنن أبي داود عنه أنه قال: ((وإنَّ من أفضلِ أيّامكم يومَ الجمعة؛ فيه خلِق آدم، وفيه قبِض، وفيه النّفخة، وفيه الصّعقة، فأكثِروا عليَّ من الصلاة فيه)) حديث صحيح [9] ، وفي سنن أبي داود أيضًا: ((لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعَلوا قبري عيدًا، وصلّوا عليَّ فإنّ صلاتَكم تبلُغُني حيث كنتم)) الحديث صحيح بما له من طرق وشواهد [10].
إخوةَ الإيمان، ومن مظاهِر محبّتِه عليه أفضل الصلاة والسلام تذكُّره دائمًا وتمنِّي رؤيتِه ودعاءُ الله جلّ وعلا ـ أيها العبد ـ أن يجمعَ بينك وبين رسولِه في جنّتِه، روى مسلم عن النبيِّ أنه قال: ((مِن أشدّ أمّتي لي حبًّا أناسٌ يكونون بَعدي يودُّ أحدُهم لو رآني بأهلِه وماله)) [11]. أورَد ابن عساكر في ترجمةِ بلال رضي الله عنه أنه لما احتُضر نادَت امرأتُه: وا ويلاه، فنادى هو قائلاً: (وا فَرحاه، غدًا نلقى الأحبّه، محمّدًا وحِزبه) [12]. فيا تُرى، أين شوقُ المسلمين اليومَ لرسول الله ؟! أين موقعُهم مِن محبّتِه؟! أين صِدقهم في تحقيقِ تلك المحبّة كما صدق فيها أبو بكر وعمر وسائرُ الصحابة والتابعين؟!
معاشرَ المسلمين، مِن مظاهر حبِّه عليه الصلاة والسلام محبّةُ قرابته وآل بيتِه وأزواجه ومحبّةُ جميعِ صحابته وتوقيرُهم ومعرفةُ فضلهم وحفظُ حرماتهم ومعرفةُ مكانتهم، فرسولُنا في الحديثِ الطويل الذي أخرجه مسلم يقول: ((أذكِّركُم اللهَ في أهل بيتي، أذكِّركم الله في آل بيتي، أُذكِّركم الله في آل بيتي)) [13] ، ولهذا في صحيح البخاريّ أنّ أبا بكرٍ الصديق رضي الله عنه قال: (ارقُبوا محمّدًا في أهل بيته) [14]. وأمّا في شأنِ صحابته رضي الله عنهم وأرضاهم وجزاهم الله عن هذهِ الأمة خيرًا فرسولنا يقولها صحيحةً صريحة فيما أخرجه الشيخان: ((لا تسبُّوا أصحابي، فلو أنَّ أحدَكم أنفق مثلَ أحُد ذهبًا ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه)) [15].
معاشرَ المسلمين، دعوتُه عليه الصلاة والسلام التي حرِص عليها ليلاً ونهارًا سِرًّا وجهارًا هو تحقيقُ العبودية لله جلّ وعلا وعدَمُ صرف شيء من خصائص الربوبيّة أو الألوهية لغير الله، ولهذا كان أكثرُ الناس محبّةً له وتعظيمًا هو من عظَّم هذا الجانبَ وأعطاه حقَّه وابتعد عن كلِّ ذريعة تخلّ بالتوحيد الذي جاءَ به أو تؤثِّر عليه، ومن هنا فمِنَ الأصول الشرعيّة المقطوعِ بها ومِنَ القواعد القرآنيّة والنبويّة المجزومِ بها تحريمُ الغلوِّ في تعظيمه صلوات الله وسلامه عليه بما ليس بمشروعٍ، ولهذا جاء في المسند بإسنادٍ صحيح على شرط مسلِم أنّ رجلاً قال: يا محمد، يا سيّدَنا وابنَ سيّدنا، يا خيرنا وابنَ خيرنا، فقال رسول الله : ((عليكم بقولِكم، لا يستهوينَّكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبدُ الله ورسوله، ما أحِبّ أن ترفعوني فوقَ منزلتي التي أنزلَني الله إياها)) [16] ، وفي الحديث الآخر الصحيحِ عنه عليه الصلاة والسلام: ((لا تطروني كما أطرَتِ النصارى ابنَ مريم، إنّما أنا عبدٌ، فقولوا: عبدُ الله ورسوله)) [17] ، وعند أحمد بسند حسن أنَّ رجلاً قال للنبيّ: ما شاء الله وشِئتَ، فقال له النبيّ إمام الموحِّدين وسيّد الأنبياءِ والمرسلين، قال له: ((أَجَعلتني لله ندًّا؟! قل: ما شاء الله وحده)) [18] ، وفي حديث الطفيل وهو صحيحٌ بشواهِدِه: ((لا تقولوا: ما شاء الله وشاءَ محمّد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثمّ شاء محمّد)) [19] ، ولهذا لما أخلَص التوحيدَ لله وكان أعظمَ من مقام بهذا الحق كان هو صاحبَ المقام المحمود عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم.
عبادَ الله، وإن من أخطرِ الأمور وأعظمِها قبحًا أن يقَعَ الإنسان في الشركِ بالله والذي جاء سيِّد الأنبياء والمرسلين لمحاربَتِه والتحذير منه، فمن الظلمِ العظيم للنّفس أن يوسوسَ لك الشيطان بزعمِ المحبّة لرسولِ الله ، فينقلب ذلك على دعوةِ القرآن والسنة وما فيهما بالمصادَمَة والمعانَدَة والمعارضة، فتزلَّ بك القدم، فتعتقِدَ اعتقادًا باطلاً، كاعتقادِك في رسولِ الله ما هو من خصائصِ الله جلّ وعلا، كاعتقادِ أنّه يعلَم الغيب بما لم يُطلِعه الله عليه، أو تدعوه من دونِ الله لكشفِ ضرٍّ ودفعِ كربٍ أو جَلب نفع، فذلك شركٌ بنصِّ القرآن وهدي سيِّد الأنام، يقول سبحانه في حقِّه : قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ [الأعراف:188]، ويقول جلّ وعلا في حقِّه: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الجن:21، 22].
ومن أعظمِ التكذيب للقرآنِ وسنّةِ سيّد الأنام اعتقادُ أن وجودَه عليه الصلاة والسلام سابقٌ لهذا العالم، أو أنَّ الخلقَ والكونَ خُلِق من نوره ونحو ذلك من الاعتقاداتِ المخالفة لما في الوحيَين ما تضمَّنته نصوصُ الهَديَين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [فصلت:6].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الهديِ والبيان، أقول هذا القولَ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مجموع الفتاوى (10/649).
[2] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (16، 21) عن أنس رضي الله عنه، وهو عند مسلم في الإيمان (43).
[3] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3688) عن أنس رضي الله عنه، وهو عند مسلم في البر (2639).
[4] ينظر من رواه.
[5] انظر: تفسير ابن كثير (1/359).
[6] انظر: مجموع الفتاوى (1/226).
[7] ينظر من رواه.
[8] أحكام القرآن (4/132).
[9] سنن أبي داود: كتاب الصلاة (1047، 1531) من حديث أوس بن أوس رضي الله عنه، ورواه أيضًا أحمد (4/8)، والنسائي في الجمعة (1374)، وابن ماجه في الصلاة (1085)، وصححه ابن خزيمة (1733)، وابن حبان (910)، والحاكم (1029، 8681)، والنووي في الأذكار (294)، والألباني في السلسلة الصحيحة (1527).
[10] سنن أبي داود: كتاب المناسك (2042) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أحمد في المسند (2/367)، والطبراني في الأوسط (8/81)، وحسنه الألباني في تحذير الساجد (ص 96، 97).
[11] صحيح مسلم: كتاب الجنة (2832) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[12] انظر: سير أعلام النبلاء (1/359).
[13] صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2408) من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه.
[14] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3713، 3751).
[15] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3673)، صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2541) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[16] مسند أحمد (3/241، 249) عن أنس رضي الله عنه، وأخرجه أيضا عبد بن حميد (1309، 1337)، والنسائي في الكبرى (6/70، 71)، وأبو نعيم في الحلية (6/252)، والبيهقي في الشعب (4/226)، وصححه ابن حبان (6240)، والضياء في المختارة (1626، 1627، 1628، 1629)، وهو في السلسلة الصحيحة (1097، 1572).
[17] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3445) من حديث عمر رضي الله عنه.
[18] مسند أحمد (1/214) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا ابن ماجه في الكفارات، باب: النهي أن يقال ما شاء الله وشئت (2117) بدون القصة، والطبراني في الكبير (12/244)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (139، 1093).
[19] أخرجه أحمد (5/72)، والدارمي في الاستئذان (2699) واللفظ له، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2743)، وأبو يعلى (4655)، وابن قانع في معجم الصحابة (2/50)، والطبراني في الكبير (8/324)، والحاكم (5945، 5946)، وصححه الضياء في المختارة (154، 155، 156)، وهو في السلسلة الصحيحة (138).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا لا ينفَد، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له الملِك الأحد، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمدًا عبده ورسوله أفضل من تعبّد، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه سلامًا دائمًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فهي وصيّة الله للأوّلين والآخرين.
معاشرَ المسلمين، إنَّ أعظمَ أسبابِ خُذلان المسلمين اليومَ ووقوع كثيرٍ من الفتن والمحَن هو البعدُ عن تحقيق محبةِ الله ومحبةِ رسول الله محبّةً حقيقيّة، وإن من أعظمِ أسباب الوقوع في الفتن ومن أعظم أسبابِ المحن الوقوع في مخالفة منهج الله ومنهج رسولِه عليه أفضل الصلاة والسلام ممّا يكون من المخالفاتِ العقائدية والمحاذيرِ العمليّة.
أمّة الإسلام، وإنّ مما ينذِر بالخطر العظيم ما فشا واضِحًا جليًّا في مجتمعات المسلمين من قنواتٍ فضائية متخصِّصة في عرضِ الصّوَر الفاضحةِ والكلمات الخادِشة للشّرف والفضيلة، مما يُعَدّ منَ البلاء العريض والفسادِ الكبير. قنواتٌ تتضمَّن أسبابَ الانحلال الخلقيّ والاستهتار بالقيَم العالية والمبادئ الفاضلة، مما يخالِف محبّةَ الله جل وعلا ومحبّةَ رسوله ، وحينئذٍ فالواجب على الجميعِ من أبناءِ هذه الأمّة المناصحةُ والبيان والوقوفُ بحَزم ضدَّ تلك الوسائلِ المفسدة والأمور المهلكة.
ثم إنَّ الله جلّ وعلا أمرنا بأمرٍ عظيم تزكو به حياتنا وتسعَد به نفوسنا، ألا وهو الإكثارُ من الصلاة والتسليم على النبيّ الكريم.
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمّة المهديّين...
(1/3349)
احترام الكبير
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
قضايا المجتمع, مكارم الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
18/7/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غفلة المسلمين عن أخلاق دينهم. 2- حثّ الإسلام على احترام الكبار. 3- تحذير الشاب من الاغترار بقوته وفتوّته. 4- صور من ازدراء الصغار للكبار. 5- تأكد احترام ذي الشيبة من ذوي الأرحام. 6- تربية الأبناء على احترام الكبير. 7- خُلُق النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في شريعتِنا الحنيفيّة السّمحة أخلاقٌ عالية وأدَبٌ عظيم وفضائلُ عِدّة، لكنّ المصيبةَ غفلةُ كثيرٍ من المسلمين عن هذه الأخلاقِ والِقيَم وتناسيهم لها وعدم عَمَلهم بها، فينشأ النشءُ من غير أن يقيمَ لتلك الأخلاق وزنًا، وكان المطلوبُ منا جميعًا أن نربِّيَ نشأنَا التربيةَ الإسلاميّة الصحيحة على الأخلاقِ الإسلامية والقِيَم الإسلامية التي يسعدُ بها الفَرد في حياته وآخرته.
شريعةُ الإسلام جاءت بما يقوِّي الروابطَ بين أفراد المجتمَعِ صغيرِه وكبيره، غنيِّه وفقيره، عالِمِه وجاهِله. جاءت بما يقوِّي تلك الأواصرَ حتى يكون المجتمع المسلِم مجتمعًا مثاليًّا في فضائلِه وقِيَمه، وفي شريعة الله كلُّ خير وهدًى، يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57].
أيّها المسلم، من تِلكُم الآدابِ العظيمة ما جاءت به الشريعةُ مِن حثِّ الصغار على احترامِ الكِبار وأمرِ الصّغار بإجلالِ الكِبارِ وتعظيمِهِم والرِّفقِ بهم وعَدمِ التّطاوُل عليهم أقوالاً وأفعالاً. هذه شريعةُ الإسلام تدعو المسلمَ إلى أن يكرِمَ أخاه المسلمَ الذي تقدَّمَه سِنًّا وسبقه في هذه الحياةِ، تدعوه إلى أن يحترمَه ويكرِمَه ويراعيَ له كِبَرَه وسابِقَتَه في الإسلام، فيجِلّ الكبيرَ ويحترمه، ويعرِف له قدرَه ومكانته، والكبيرُ مأمورٌ برحمةِ الصِّغار والعطفِ عليهم والرِّفق بهم والإحسانِ إليهم. هذه المنافعُ المتبادَلَة بين أفرادِ المجتمَعِ المسلِم تثبِّت أواصِرَ الحبِّ والوئام بين الجماعةِ المسلمة.
أيّها المسلم، إنَّ نبيَّنا محمَّدًا حثَّنا على هذا الخلقِ الكريم ورَغَّبنا فيه، فأوّلاً: يبيِّن لنا نبيُّنا أنَّ مَن أحسن إلى الكبيرِ في الدنيا هيَّأ الله لذلك المحسِنِ عند كِبَر سنِّه ورقَّةِ عَظمه من يجازيه بهذا العمَلِ الصّالح، فيقول : ((مَا مِن مسلمٍ يكرِم ذا الشَّيبةِ إلاَّ قيَّض الله له من يكرِمه في سِنِّه)) [1] ، فإذا أكرمتَ ذا الكِبَر لسنِّه قيَّض الله لك في حياتِكَ من يجازيك بمثلِ ما عمِلتَ، فيكرمُك ويحسِن إليك.
ونبيُّنا يخبرنا أنّ إكرامَنا لمن هو أقدمُنا سِنًّا أنّ ذلك من تعظيمنا لربِّنا وإجلالنا لربِّنا، يقول : ((إنَّ مِن إجلالِ الله إكرامَ ذي الشَّيبةِ من المسلمين وحامِلِ القرآن غيرِ الغالي فيه والجافي عنه وذي السلطانِ المقسِط)) [2] ، فمن إجلال الله أن تكرمَ هؤلاء الثلاثة: ذو الشيبةِ من أهل الإسلام، تكرِمه، ترحَم كِبَره، تخاطبه بخطابٍ ليِّن، تقضي حاجتَه، تعينه على نوائِبِ الدنيا، تعرِف له كِبَره وضعفَ قوّته وعجزه عن التصرُّف، فكلُّ هذه الأمور تكون في فِكرِك، فتعامِل ذا الشّيبةِ المعاملةَ الطيّبة التي تنمّ عن رحمةٍ وأدَب حسَن. ثانيًا: من كان حامِلاً لكتابِ الله الحملّ الشرعيَّ، ليس غاليًا فيه، فإنّ الغالي في القرآنِ يخرج به غلوُّه عن المنهَج والطريق السويِّ كما خرج بفرقةِ الخوارج الذين ساءَ فهمُهم للقرآن وقَلَّ وعيُهم وإدراكهم حتى استحلّوا دِماءَ المسلمين، كفَّروهم واستحلّوا دماءَهم وأموالهم، والغالي في القرآن تراه متكبِّرًا على غيره مكفِّرًا لغيره معتقِدًا ضلالَ غيره بلا فِكرٍ ولا رَأي مُصيب، أو الجافي عنه الذي حمَله فعطَّل العملَ به ولم يقم بحقوقِه، عافانا الله وإيّاكم من ذلك. وذو السلطان المقسِط العادِل تكرمه لإمامتِه وقيامِه بشأن رعيَّته.
أيّها الشابّ المسلم، في شبابِك حيويّة وقوّةٌ شبابيّة، ترى نفسَك وأنت ممتَّع بسمعك وبصرِك وسائرِ قوَّتك، يمرُّ بك ذو الشّيبة من المسلمين فما ترعى له حقًّه، لا تسلِّم عليه أحيانًا، ولا تقدِّر له قدرَه، وربما ضايقتَه في الطريق، وربما سخِرتَ منه، وربما استهزأتَ به، وربما عِبتَه، وربما قلتَ وقلت.
أيّها الشابّ المسلم، ولئن كنتَ ممتَّعًا الآن بقوَّتك فتذكَّر بعد سنين وقد ضعُفت تلك القوّة وعُدتَ إلى ضعفِك القديم، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم:54]، لئن كان هذا المارُّ بك شيبةً قد أمضى سنينَ عديدة فاعلم أنّك بمضيِّ السنين ستكون حالُك مثلَ حالِه. إذًا فأكرِم ذا الشيبةِ، واعرف له قيمتَه ومكانته، إيّاك أن تستطيلَ عليه بلسانك احتقارًا له وسخريّةً به، إيّاك أن تترفَّع عليه لكونِك ذا علمٍ وفِقه وثقافة فترى ذا الشيبةِ أقلَّ شأنًا من ذلك، بل تزدريه وتحتقِره لعلمك وحيويَّتك ولكِبَره وقد يكون لجهله، إيّاك أن يغُرَّك جاهك أو يخدعَك منصِبك أو يغرّك كثرةُ مالك، فارفق بمن هو أكبرُ منك سنًّا ليدلَّ على الأدبِ الرفيع في نفسك.
الأدبُ إخوتي الشباب، الأدب الإسلاميّ خُلُق يتخلَّق به المسلم، يقودُه لكلِّ فضيلة، وينأى به عن كلِّ رذيلة.
أيّها الشاب المسلم، إنَّ نبيَّنا يروَى عنه أنّه أخبر أنّ إهانةَ الشيخ الكبيرِ والعالِمِ وذِي السلطان أنَّ إهانتَهم وعدَمَ احترامهم دليلٌ على ما في القلبِ من نفاق [3] ، فارفق بذي السِّنّ أيّها الشابّ المسلم، وأكرم ذا السّنّ، أكرمه واحترِمه وأعطِه قدرَه، ألا ترى اللهَ جلّ وعلا يرغِّبك في أبويك عند كِبَر سنِّهما فيقول لك: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]؟! كم من شيخٍ كبيرٍ إن تحدَّث في مجلِسٍ نظر إليه الشّباب نظرةَ الازدِراء والاحتقارِ، يرَونَ كلامَه غيرَ صحيح، ويرَونَ رأيَه غيرَ صائب، ويعدّونه عِبئًا وثُقلاً عليهم، وما علِموا أنَّ هذا الذي أمضى عمرًا في طاعةِ الله وفي القيامِ بما أوجب الله أنّه أفضلُ وأعلى منهم منزلةً.
أيّها الشابّ المسلم، نبيّنا يقول لنا: ((ليس منَّا من لم يوقِّر كبيرَنا ويرحَم صغيرَنا)) [4] ، ونبيّنا إذا تحدّث عنده اثنان في أمرٍ ما يبدَأ بأكبَرهما بالحديث ويقول: ((كبِّر كبِّر)) [5] ، يبدأ الأكبرُ قبلَ أن يبدأَ الأصغر. هكذا خلُق الإسلام، وهكذا رُبِّي المسلمون على هذه التربيةِ العظيمة، أن يحترِمَ صغارهم كبارَهم، وأن يرحَمَ كبارهم صغارَهم، وأن تتبادلَ المنافع بين الجميع ليكون المجتمع المسلم مجتمعًا مترابِطًا متعاونًا على الخير والتقوى.
أيّها المسلم، لا سيّما رحمك، فالرّحِم لهم حقُّ الصِّلة، فكبارهم يجب أن تحترِمَه لرَحمِه أوّلاً ثم لكِبَر سِنّه ثانيًا، تقدِّره وتقدِّمُه وتربِّي الصغارَ على احترامِ الكبار، لا تدَع الصغيرَ يتخطَّى حدَّه، ولا تدع الصغيرَ يبسط لسانَه بالبذاءةِ أو السخرية، ولا تدع الصغيرَ يتقدَّم على الكبير، بل ألزِمهم الأدبَ الحسَن ليعرفَ بعضهم قدرَ بعض، وهكذا الأبناءُ أيضًا، أبناؤُك تربِّيهم على هذَا، ليكونَ صغيرهُم محترِمًا لكبيرهم، وليكن كبيرهم رفيقًا بصغيرهم، فإذا علِم الأبناء منك أنَّك تقدِّم الأكبرَ فالأكبر وتربّيهم على هذا الخُلُق نشؤوا وقد ألِفوا تلكمُ الأخلاقَ العالية، لكن مصيبتُنا للأسفِ الشّديد أنَّ كثيرًا من مجالِسِنا نرى صِغارًا في صدورِ المجالس وكِبارًا في أقصاها، ونرى شبابًا تستطيلُ ألسنتهم على الكبار، ونرى شبابًا لا يعرِف للكبير أيَّ قدرٍ ولا أيَّ مكانة، لا يرى له قدرًا، قد يلمِزه بجهله، وقد يلزمه بضَعف رأيه، وقد يلمزه بقِلّة علمه، وقد يلمِزه بعدَم نظافةِ ملبَسه، وقد وقد.. كلُّ هذه التّرَّهات لا يجب أن تحمِلك على إهانةِ الكبير، بل قدِّر الكبير وعظِّمه وأظهر لأولادك عندما يزورون معك رحِمًا أنّك تقدِّم الأكبرَ فالأكبر. وكم سلك هذا المسلكَ بعضُ من أريدَ لهم خيرٌ مِن أُسَرٍ كريمة، فلا تكاد تعرِف أعمارهم إلاَّ إذا رأيتَ الكبير متقدِّمًا على من دونه ولو كان الكبير أقلَّ مرتبةً ممن هو دونه، لكن يعرِفون للكِبَر حقَّه، ويجلّون الكبيرَ، ويتربَّى النشءُ على هذه الفضائلِ العظيمة.
فكونوا ـ إخوتي ـ على هذا الأدبِ العظيم، ربُّوا أولادَهم على احترام الكبار، سواء من ذوي الرحم أو من ذي غَيرهم، وعلِّموهم الأدَبَ الحسن والقولَ الطيِّب في التعامل مع الآخرين، فتلك أخلاقُ الإسلام التي إن اعتنينا بها حقًّا نِلنا السعادةَ في الدنيا والآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيهِ منَ الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولَكم ولسائِرِ المسلمينَ من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبُوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه الترمذي في البر (2022)، والعقيلي في الضعفاء (4/375)، والطبراني في الأوسط (5903)، وابن عدي في الكامل (3/27، 7/279)، والبيهقي في الشعب (7/461) من حديث أنس رضي الله عنه بمعناه، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث هذا الشيخ يزيد بن بيان"، وضعفه أيضا الذهبي في السير (15/31)، وهو في السلسلة الضعيفة (304).
[2] أخرجه أبو داود في الأدب (4843)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (8/163) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وحسنه النووي في رياض الصالحين (173)، وابن حجر في التلخيص الحبير (2/118)، والألباني في صحيح الترغيب (98). وقد أخرجه البخاري في الأدب المفرد (357)، وابن أبي شيبة (6/421) عن أبي موسى موقوفا، قال ابن عبد البر في التمهيد (17/430): "وقد روي مرفوعا من وجوه فيها لين".
[3] رواه الطبراني في الكبير (8/202) عن أبي أمامة بلفظ: ((ثلاثة لا يستخف بحقهم إلا منافق: ذو الشيبة في الإسلام وذو العلم وإمام مقسط)) ، قال الهيثمي في المجمع (1/127): "رواه الطبراني في الكبير من رواية عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد وكلاهما ضعيف"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (7/245).
[4] رواه أحمد (1/257)، والترمذي في البر (1921)، وعبد بن حميد (586)، والطبراني في الكبير (11/72، 449)، والقضاعي في مسند الشهاب (1203) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (458، 464). وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وأبي هريرة وأنس بن مالك وأبي أمامة وعبادة بن الصامت جابر وواثلة بن الأسقع رضي الله عنهم.
[5] رواه البخاري في الجزية (3173)، ومسلم في القسامة (1669) من حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مُباركًا فيهِ كَمَا يحِبّ ربّنا ويَرضَى، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصَحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التَّقوى.
عباد الله، محمّدٌ سيِّد الأوّلين والآخرين كان في تعامُله مع أهله وغيرِهم على أكمَلِ خُلُقٍ وأعلى أدَب وأشرف معاملة، فصلوات الله وسلامه عليه، وصدق الله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
تذكُر عائشة أمُّ المؤمنين رضي الله عنها شيئًا من هذا فتقول: ما رأيتُ أحدًا أشبَهَ برسول الله سَمتًا ولا هَديًا مِنِ ابنتِه فاطمة رضي الله عنها، قالت: وكانت إذا دَخَلت على النبيِّ قام لها وقبَّلها وأخذ بيدِها وأجلسَها مجلِسَه، وكان إذا دَخَل عليها تقوم لأبيها النبيّ وتقبّله وتُقعِده في مجلسها رضي الله عنها وأرضاها [1].
ونبيُّنا يعلِّمنا أيضًا في أهمِّ شيء وهي الصلاة فيقول: ((ليَلِني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم)) [2] ، أي: ليكن من يلِي الإمامَ ذو الأحلام والنهى، ذو العلم والكِبَر في السن.
أحَدُ الصحابة كان يصلِّي، فرأى مع أحدِ الصحابة ابنًا له فأخَّره عن الصفِّ الأول، وكأنّه رأى الأبَ قد تغيَّر، فقال: يا أخي، هذه سنّة محمّد [3].
إنَّ هذا الاحترامَ الصادِر من المسلمين بعضهم لبعض دليلٌ على الخيرِ في نفوسهم ودليلٌ على التربيةِ والتنشئَة الصالحة التي ترَبَّى عليها الأجيال التربيةَ النافعة، وما أحوَجَنا لهذه التربية النافِعَة التي تسود مجالسَنا وأماكنَ تجمُّعاتنا أن يكونَ الصغار يعرفون قدرَ الكبار ويجلّون الكبار، يقدِّمونهم مجلِسًا، ويقدِّمونهم جلوسًا، ويبدَؤون بهم، ويستشيرونهم، ويُصغون إليهم، ويورونهم التقديرَ والإجلال، هكذا أدَبُ الإسلام الرّفيع الذي إن تمسَّكنا به نِلنَا السعادةَ في الدنيا والآخرة.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسَنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هَدي محمّد ، وشرَّ الأمور محدَثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمّد كما أمَرَكم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] رواه البخاري في الأدب المفرد (971)، وأبو داود في الأدب (5217)، والترمذي في المناقب (3872)، والنسائي في الكبرى (5/96، 392)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2969)، والبيهقي في الكبرى (7/101)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (6953)، والحاكم (4732، 7715)، وهو في صحيح سنن أبي داود (4347).
[2] أخرجه مسلم في الصلاة (432) عن أبي مسعود البدري وعن ابن مسعود رضي الله عنهما، وهما حديثان، وقد عُدّا في طبعة محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله حديثا واحدا.
[3] ينظر من أخرجه.
(1/3350)
الظلم ظلمات يوم القيامة
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
18/7/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تهديد الله تعالى للظالمين. 2- سنة الله تعالى في الظالمين. 3- أنواع الظلم. 4- عاقبة الظالمين. 5- وسائل إزالة الظلم. 6- من أشدّ صور الظلم الصد عن مساجد الله. 7- حال الأسرى الفلسطينيين المزري.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا [الفرقان:19]، ويقول أيضًا: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
أيها المسلمون، هذه الآية الكريمة أعظم تهديد وتحذير للمجتمعات التي تظلم وتدعو إلى الظلم، ومعناها: كذلك الذي قصصناه عليك، والخطاب للرسول ، وبمثل هذا الدمار والنكال يأخذ ربك القرى حين يأخذها وهي ظالمة مشركة، حين تدين لغير الله بالربوبية والعبودية، وهي ظالمة لنفسها بالشرك والفساد في الأرض والإعراض عن دعوة التوحيد والصلاح، وقد ساد فيها الظلم وسيطر الظالمون، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ.
بعد الإمهال والمتاع، وبعد الإعذار بالرسل والبينات، وبعد أن يسود الظلم في الأمة ويسيطر الظالمون، ويصولوا ويجولوا، ويتبين أن دعاة الحق المصلحين قلة منعزلة، لا تأثير لها في حياة المجتمع الظالم، ثم بعد أن تفاصل العصبة المؤمنة قومها السادرين في الضلال، وتعتبر نفسها أمة وحدها، لها دينها، ولها ربها، ولها قيادتها المؤمنة، ولها ولاؤها الخاص فيما بينها، وتعلن الأمة المشركة بهذا كله، وتدعها تلاقي مصيرها الذي يقدر الله لها وفق سنته التي لا تتبدل ولا تتغير على مدار الزمن.
أيها المؤمنون، ذلك الأخذ الأليم الشديد في الدنيا هو علامة على عذاب الآخرة، يراها الذين يخافون عذاب الآخرة، أي: الذين تفتحت بصائرهم وأبصارهم ليدركوا أن الذي يأخذ القرى بظلمها في هذه الحياة سيأخذها بذنوبها في الحياة الآخرة، فيخافوا هذا العذاب.
أيها المسلمون، والذين لا يخافون الآخرة تظل قلوبهم صماء لا تتفتّح للآيات، ولا تتعظ ولا تعتبر بها، كما أنها لا تحسّ ولا تشعر بحكمة الخلق والإعادة، ولا ترى إلا واقعها القريب في هذه الدنيا، والله تعالى يقول: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:44، 45]، فحمد الله تعالى نفسه لما أهلك الظالمين وطهر منهم الأرض.
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)). ومعنى ((اتقوا الظلم)) أي: اجتنبوه واجعلوا بينكم وبينه حاجزًا ومانعًا.
ويحذر الرسول الظالمين من الاعتزاز في الدنيا ومن عدم معالجتهم بالعذاب بقوله: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ، وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه في الحديث القدسي الطويل، وفيه: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا)).
أيها المسلمون، إن الظلم ظلمات يوم القيامة، كما أن العدل المأمور به الذي هو ضد الظلم نور يوم القيامة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)).
والظلم أصل الجور ومجاوزة الحد، وهو وضع الشيء في غير مكانه، ومعناه في الشرع: وضع الشيء في غير موضعه الشرعي.
والظلم نوعان اثنان: النوع الأول: ظلم العبد لنفسه، وأعظمه الشرك بالله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وإنما سمي الشرك ظلمًا لأن المشرك المسكين وضع العبادة في غير موضعها المختص بها المستحق لها وهو الله تعالى، وجميع الكبائر والمعاصي تسمى ظلمًا لأنها من جنس الشرك وليست بشرك، ولأن المعاصي فيها اعتداء على حدود الله ومحارمه، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [البقرة:329].
فإذًا، الشرك ظلم، والقتل ظلم، والفواحش ظلم، والربا ظلم، والسحر والشعوذة ظلم، وعقوق الوالدين ظلم، وأكل أموال الناس وحقوقهم بالباطل ظلم، إلى غير ذلك من كبائر الذنوب.
أيها المسلمون، إن الظلم محرم في كل شيء ولكل إنسان.
أما النوع الثاني من أنواع الظلم فهو: ظلم العبد والإنسان لأخيه الإنسان، وهو من أعظم أنواع الظلم، لأن له تعلقًا بحقوق الإنسان. وقد شدد الله على هذا الظلم في الدنيا والآخرة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه الله من سبع أرضين)).
فلا يحل ظلم أحد أصلاً، سواء كان مسلمًا أو كافرًا أو كان ظالمًا، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].
ويكفي في تحريم الظلم أن الله تعالى ملك الملوك الجبار القاهر حرم الظلم على نفسه المقدسة والمنزهة عن الظلم، جاء في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا)).
أيها المسلمون، إن عاقبة الظلم الخسران وعدم الفلاح في الدنيا والآخرة، والله يعاقب على الظلم بأنواع العقوبات، قال تعالى: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21]، وقال: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى:40].
وقد أهلك الله أقوامًا وقرونًا من الناس قبلنا، وما زال يهلك الأمم لوجود الظلم في الأرض، وما أحداث الزلازل الأرضية وانفجار البراكين الجوفية والأمراض المستعصية وغيرها بغائبة عن أسماعنا وأبصارنا. فصار هذا الأمر سنة كونية، كلما كثر الظلم والفساد في الأرض نزل العقاب الأليم.
اسمعوا لقوله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].
أيها المسلمون، إن الظلم مشين، لا يبقى معه ملك، ولا تبقى معه حضارة، والعدل زين، يدوم معه الملُك، ولو كان الملُك كافرًا، قال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117]، وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة".
يا أيها المسلمون، إذا عرفنا أن الظلم حرام وأنه لا يفلح الظالمون فلا بد من إزالة الظلم والتقليل منه، فما هي طرق إزالة الظلم؟
أقول: إن من أعظم وسائل إزالة الظلم:
ـ الدعوة إلى العدل بالحكمة والموعظة الحسنة واللين في القول والفعل، قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].
ـ عدم الركون إلى الظالم لأنه سبب في انتشار الظلم، قال تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ [هود:113]، ولأن الركون إلى الظالم سكوت عن ظلمه.
ـ هجر الظالم وعدم إعانته على ظلمه، قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68].
ـ الدعاء على الظالم والظلم بالزوال، قال : ((ليس بين الله ودعوة المظلوم حجاب)) ، لذا كان الأنبياء إذا يئسوا من ظلم الظالمين دعوا الله تعالى.
جاء في القرآن على لسان نوح عليه السلام: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا [نوح:28]. وهذا موسى عليه السلام يدعو على آل فرعون، قال تعالى: رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:88]. وكان النبي يدعو على المشركين من قومه كما في غزوة بدر الكبرى: ((اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش)).
وختامًا، فلا بد لكل إنسان من التوبة من جميع أنواع الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وأعظم الظلم الشرك بالله، وبعده ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.
وقرر العلماء أن التوبة لا تصح إلا بإرجاع الحقوق إلى أصحابها، فإن لم يؤدها في الدنيا أداها في يوم القيامة بالحسنات التي له، إن كان له حسنات.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المرابطون، إن الظلم ظلمات يوم القيامة، ومن أشد أنواعه منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه والسعي في خرابها.
فها هو المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثاني المسجدين، وثالث المساجد التي تشدّ إليها الرحال، زهرة مدينة القدس، وتاج عز العرب والمسلمين، رمز عقيدتهم، يئنّ من ظلم الاحتلال، ويشكو قلة الوافدين إليه من أبناء هذه الأمة، وبخاصة من أبناء شعبنا، فمئات الآلاف منهم يمنعون، ويحرمون من الصلاة فيه بسبب الحصار المفروض على المدن والقرى الفلسطينية، وفي مقدمتها مدينة القدس، وبسبب جدار الفصل العنصري والحواجز المقامة في كل مكان.
حقًا إن المسجد الأقصى يستغيث وينادي أمة العرب والمسلمين: أن هلموا إليّ، وإلى متى هذا الصمت المريب؟!
أيها المسلمون، وإن من أبسط حقوق الإنسان كإنسان عدم حرمانه من الوصول إلى أماكن العبادة والصلاة فيها، إن الله تعالى هو رب العالمين، ومن حقه أن يُعبد بما أمر، وإنه ليس من حق أحد أو جهة منع الراغبين في ذلك، إن هذا الفعل هو قمة الظلم، قال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114].
أيها المرابطون، ومن أشد أنواع الظلم سلب الإنسان حريته وكرامته وإنسانيته وحقوقه، وها هم أسرانا القابعون في سجون الاحتلال، منذ سنوات طويلة يعيشون حياة سيئة وظروفا قاسية، تمارس في حقهم أبشع أنواع التعذيب التي تتنافى مع كرامة الإنسان كإنسان، مما اضطرهم ودعاهم إلى إعلان إضراب مفتوح عن الطعام منذ عشرين يومًا، رجاء أن تستجيب إدارات السجون لمطالبهم المشروعة العادلة، والمتمثلة بأبسط متطلبات الحياة المعيشية.
إن من حق هؤلاء الأسرى الحصول على ذلك، بل من حقهم أن ينالوا حريتهم وأن يطلق سراحهم، ليعودوا إلى بيوتهم وذويهم. يلتقي الأب بأبنائه وبناته، يضمهم إلى صدره الحنون، ليعيشوا في كنفه، يمسح عن وجوههم دمعة الحزن والألم، ويعود الابن إلى أبيه وأمه ليقوم بواجبهما والاعتناء بشأنهما. إنه لمن الظلم الشديد أن لا يكون الإنسان إلى جانب أحبابه وذويه.
إن هؤلاء الأسرى ناضلوا من أجل تحرير أرضهم ومقدساتهم وأمتهم، وهو أمر مشروع أقرته قوانين السماء والأرض، ونادت به الهيئات الدولية ومؤسسات حقوق الإنسان.
نعم، من حق هؤلاء إطلاق سراحهم ليعودوا إلى الأرض التي تربوا فيها وعاشوا على خيراتها. من حقهم العودة إلى بساتينهم وكرومهم التي غرسوها بأيديهم، وسقوها بعرق جبينهم، ليتفيؤوا ظلال أشجارها ويأكلوا من ثمارها.
إن هؤلاء لم يأتوا من بعيد، إنهم من قرى ومدن فلسطين، فمن حقهم أن يعيشوا فيها كما يعيش الآخرون، ومن حقهم أن تقف المنظمات الدولية والمؤسسات الإنسانية بل والعالم أجمع إلى جانبهم لدعم مطالبهم العادلة والعمل على إطلاق سراحهم. من حقهم أن ينالوا اهتمامًا كالاهتمام الذي يناله الآخرون، وبذلك يرتفع الظلم ويعم الأمن والسلام على المنطقة.
وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
(1/3351)
فضل الصدق
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
25/7/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة العبد عند الله بالإيمان والخلق. 2- تفاوت الأعمال الحسنة والسيئة. 3- فصل الصدق. 4- حقيقة الصدق: صدق القول وصدق الفعل. 5- أصل الإيمان الصدق. 6- الحث على الصدق والتحذير من الكذب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى بامتثالِ أمرِه والبُعد عن غضَبِه ومعصيته، فإنَّ التقوَى باب كل خير، والفجور بابُ كلِّ شرّ.
واعلَموا ـ عبادَ الله ـ أنَّ منزلةَ العبدِ عند ربِّه هي بإيمانه وخُلُقه، وقيمةَ الإنسان عند الله وعند الخَلق هي بهذا الإيمانِ والعمل الصالح، لا بمالِه ولا بقوَّته ولا بولدِه، قال الله تعالى: وَمَا أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ بِ?لَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى? إِلاَّ مَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء ?لضّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِى ?لْغُرُفَـ?تِ ءامِنُونَ [سبأ:37].
ألاَ وإنَّ الأعمالَ الصالحةَ تتفاضَلُ في الثواب والصِفات الحميدة، ويزيدُ بعضها على بعضٍ في الأجر والمنازل بحَسَب عمومِ نفعِها لصاحبها وللخلق، كما أنَّ الأعمالَ السيئة والأفعالَ الرديئة والصفات القبيحة يعظُم عقابها وجزاؤُها الأليم بحسَب ضررِها وطَيران شرَرِها لصاحبها وللخَلق، قال الله تعالى: وَلِكُلّ دَرَجَـ?تٌ مّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفّيَهُمْ أَعْمَـ?لَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأحقاف:19].
ألا وإنَّ الصّدقَ خُلُقٌ كريم ووصف عظيم، لا يتَّصِف به إلا ذو القَلبِ السّليم، أمَرَ الله تعالى به في كتابه فقال عز وجلّ: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
الصّدقُ يكشِف عن مَعدن الإنسان وحُسنِ سريرته وطيب سيرته، كما أنَّ الكذبَ يكشف عن خبثِ الطويَّة وقبح السيرة. الصدقُ منجاة والكذِب مرداة. الصّدقُ محبوبٌ ممدوح في العقول السليمة والفطر المستقيمة، حثَّ على الصدقِ رسول الله ، فعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((عليكم بالصِّدق، فإنَّ الصّدقَ يهدي إلى البرّ، وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجلُ يصدُق ويتحرّى الصدق حتى يُكتَب عند الله صدّيقًا، وإيّاكم والكذبَ، فإنَّ الكذبَ يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجورَ يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرَّى الكذبَ حتى يُكتَبَ عند الله كذّابًا)) رواه البخاري ومسلم [1].
وقد وَعَد الله على الصدق ثوابه العظيمَ وجزاءه الكبيرَ في الدنيا والآخرة، ففي الدّنيا يُرزَق صاحبُ الصدق حسنَ الأحدوثة ومحبَّةَ الله ومحبَّة الخلق، وتُثَمّن أقوالُه، ويؤمَنُ جانِبُه، ويريحُ النّاسَ من شرِّه، ويحسِن إلى نفسه وإلى غَيره، ويُعافى من الشرورِ والمهالك التي تصيب الكذّابين، ويطمئنُّ بالُه وقلبه، فلا يمزّقه القَلق، ولا يعبثُ به الخوف من الفضيحةِ، فعن الحسنِ بنِ عليٍّ رضي الله عنهما قال: حفِظتُ من رسولِ الله : ((دَع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإنَّ الصّدقَ طمأنينة والكذبَ ريبة)) رواه الترمذيّ وقال: "حديث صحيح" [2].
وتكونُ عواقبُ الصّادِقِ في حياتِه إلى خَير، كما في حديثِ كَعب بنِ مالكٍ رضي الله عنه في قِصّة تخلُّفِه في غزوة تبوك، (قال: قلت: يا رسول الله، إني ـ والله ـ لو جلستُ عند غيرك من أهلِ الدنيا، لرأيت أني سأخرُج من سخَطِه بعُذر، لقد أُتِيتُ جدلاً، ولكني ـ والله ـ لقد عَلمتُ لئن حدّثتُك اليومَ حديثَ كذبٍ تَرضَى به عنِّي، ليوشِكنَّ الله يُسخِطُك عليَّ، وإن حدّثتُك حديثَ صِدقٍ تجِدُ عليَّ فيه، إني لأرجُو فيه عُقبى الله عزّ وجلّ) رواه البخاري ومسلم [3] ، أي: أرجو منَ الله العاقبةَ الحميدةَ في صدقي، وقد كان ذلك.
وأمّا ثوابُ الصّدقِ في الآخرة فرضوانُ الله تعالى والدّرجات العُلى في الجنّة التي فيها ما لا عينٌ رَأَت ولا أُذُن سمِعت ولا خَطَر على قلب بشر، ففي القُرآنِ العظيم قال الله: هَـ?ذَا يَوْمُ يَنفَعُ ?لصَّـ?دِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِىَ ?للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [المائدة:119]، وقَالَ تَعَالى: وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لَّذِينَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ?لنَّبِيّينَ وَ?لصّدّيقِينَ وَ?لشُّهَدَاء وَ?لصَّـ?لِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].
فَما حقيقةُ هذا الصِّدقِ الذي وَعَد الله عليه أحسَنَ الثوابِ ونجَّى صاحبَه من العذاب؟
الصدقُ صِدقُ قولٍ وصِدق فعل:
فصدق القولِ أن يقولَ الحقَّ بتبليغ كلامِ الله تعالى أو كلامِ رسول الله ، أو يأمر بحقٍّ، أو ينهَى عن باطل، أو يخبِر بما يطابِقُ الواقعَ، قال الله تعالى: وَ?لَّذِى جَاء بِ?لصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:33، 34]، وفي الحدِيثِ عنِ النبيِّ : ((المؤمِنُ إذا قال صدَق، وإذا قيلَ له يُصدِّق)) [4].
والصِّدقُ في الفِعلِ هوَ مُعاملةُ الله تعالى بِصِدقِ نيّة وإِخلاصٍ ومحبَّةٍ ويَقينٍ ووَفاء ودَوامِ عبادةٍ، ومُعاملةُ الخَلق بصدقٍ ورَحمةٍ ووَفاءٍ، بغيرِ تقلُّبٍ وبغيرِ كَذِبٍ وخِداعٍ ومَكر، قال الله تعالى: وَلَـ?كِنَّ ?لْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ وَ?لْمَلَئِكَةِ وَ?لْكِتَـ?بِ وَ?لنَّبِيّينَ وَءاتَى ?لْمَالَ عَلَى? حُبّهِ ذَوِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ وَ?بْنَ ?لسَّبِيلِ وَ?لسَّائِلِينَ وَفِي ?لرّقَابِ وَأَقَامَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَى ?لزَّكَو?ةَ وَ?لْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـ?هَدُواْ وَ?لصَّابِرِينَ فِى ?لْبَأْسَاء و?لضَّرَّاء وَحِينَ ?لْبَأْسِ أُولَئِكَ ?لَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، وَقَالَ تعَالى: مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
والإيمانُ أصلُهُ الصِّدقُ والتّصدِيق والوفاء، فالصِّدقُ إذًا يكونُ بالأقوالِ ويكون بالأفعالِ، وقد كانَ السَّلفُ رضي الله عنهم أشدَّ الناسِ تمسُّكًا بخُلُق الصّدق مع ربِّهم ومع عبادِ الله، عن كعبِ بن مالك رضي الله عنه قال: (قلتُ: يا رسولَ الله، إنَّ اللهَ إنما أنجَاني بالصِّدق، وإنَّ مِن توبَتي أن لا أحدِّثَ إلاّ صِدقًا ما بَقيتُ، فواللهِ ما علمتُ أحدًا منَ المسلمين أبلاه الله تعالى في صِدقِ الحديث منذُ ذكرتُ ذلك لرسول الله أحسَنَ مما أبلاني، والله ما تعمَّدتُ كذبة منذ قلتُ ذلك لرسول الله إلى يومي هذا، وإنِّي لأرجو أن يحفظَني اللهُ تعالى فيما بقِي) رواه البخاري ومسلم [5].
ووصَفَ الله المهاجرين الأوَّلين بخُلُق الصِّدق فقال تعالى: لِلْفُقَرَاء الْمُهَـ?جِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـ?رِهِمْ وَأَمْو?لِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ?للَّهِ وَرِضْو?نًا وَيَنصُرُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لصَّـ?دِقُونَ [الحشر:8].
بارَك الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإيّاكم بما فيه مِنَ الآياتِ والذكر الحكيم، ونفَعَنا بهديِ سيِّد المرسلين وبقوله القويم. أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6134)، ومسلم في كتاب البر (2607).
[2] أخرجه أحمد (1/200)، والترمذي في صفة القيامة (2518)، والنسائي في الأشربة (5711)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (722)، والحاكم (2/13)، ووافقه الذهبي، وهو مخرج في الإرواء (2074).
[3] أخرجه البخاري في المغازي (4418)، ومسلم في التوبة (2769).
[4] ذكره علي القاري في المصنوع (260)، وقال: "لا يعرف بهذا اللفظ".
[5] تقدم تخريجه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله الملِكِ القدّوس السّلام، رفع منارَ الإسلام، وعمّ خَلقَه بالنّعَم العِظام، أحمدُ ربِّي وأشكره، وأتوبُ إليه وأستغفِره، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له ذو الجلالِ والإكرام، وأشهد أنّ نبيَّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله، كشف الله به دياجيرَ الظلام، اللهمّ صلِّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين الأئمة الأعلام.
أمّا بعد: فاتّقوا الله تعالى وأطيعوه، وتقرَّبوا إليه بما يرضيه.
أيّها المسلمون، إنَّ الصدقَ يحبُّه الله ورسوله، ويعرف فضلَه العقلاء الحكماء، دعا إليه نبيّ الرحمة مع دعوته لعبادةِ الله وحدَه أوّلَ بِعثته، وأمَرَ بِه في جميع أيّامِ رِسالته، عن أبي سفيانَ رضيَ الله عنه أنَّ هرقلَ سأله عن النبيِّ عندما بَلَغَه خَبرُه، فقال: فماذا يأمُرُكم؟ قلتُ: يقول: ((اعبُدوا اللهَ وحدَه ولا تشرِكوا به شيئًا، واترُكُوا ما يقول آباؤكم)) ، ويأمرنا بالصّلاة والصِّدق والعفافِ والصلة. رواه البخاري ومسلم [1].
وقال الله تعالى: إِنَّ ?لْمُسْلِمِينَ وَ?لْمُسْلِمَـ?تِ وَ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَ?لْقَـ?نِتِينَ وَ?لْقَـ?نِتَـ?تِ وَ?لصَّـ?دِقِينَ وَ?لصَّـ?دِقَـ?تِ وَ?لصَّـ?بِرِينَ وَ?لصَّـ?بِر?تِ وَ?لْخَـ?شِعِينَ وَ?لْخَـ?شِعَـ?تِ وَ?لْمُتَصَدّقِينَ وَ?لْمُتَصَدّقَـ?تِ و?لصَّـ?ئِمِينَ و?لصَّـ?ئِمَـ?تِ وَ?لْحَـ?فِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ?لْحَـ?فِظَـ?تِ وَ?لذاكِرِينَ ?للَّهَ كَثِيرًا وَ?لذاكِر?تِ أَعَدَّ ?للَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].
عبادَ الله، كُونُوا مِن أولياءِ الله الصّادِقِين، كُونُوا منَ الصّادقِين في أقوالِكم وأعمالِكم مع ربِّكم ومع عباد الله تعالى، واجتنِبوا الكذبَ الذي يجانِب الصِّدقَ ويجانِب الإيمانَ؛ فإنَّ الكذِبَ مِنَ المكرِ والخِداع، وإنّه ناشِئٌ عن التلوُّن وعنِ الأهواء، فإنَّ الصّدقَ بابٌ من أبواب الجنة لا يقرّب أجلاً ولا يمنَع رِزقًا ولا يفوِّت مصلَحَةً.
عبادَ الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاةً واحِدةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد...
[1] أخرجه البخاري في بدء الوحي (7)، ومسلم في الجهاد (1773) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(1/3352)
التعليم في الإسلام
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
25/7/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة الأطروحات التعليمية. 2- عناية الإسلام بالعلم والتعليم. 3- فضل العلم المقرون بالتربية الصالحة. 4- أهمية التربية وضرورة العناية بها. 5- مهمة تربية الأولاد. 6- دور الوالدين في تربية الأجيال. 7- خطر الفضائيات على المسيرة التربوية. 8- الثبات على مبادئ الإسلام. 9- خطورة استيراد العملية التربوية. 10- مناهج التعليم في بلاد الحرمين الشريفين. 11- العلم الشرعي ضمان من الانحراف. 12- عناية الإسلام بتعليم المرأة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله أيّها المسلمون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]. بالتّقوى تُنال الخيراتُ، وبالتّقوى يُنال العِلم، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ [البقرة:282].
وبعد: أيّها المسلمون، بعد بداية مواسِمِ الدّراسة تكثُر الأطروحاتُ التعليميّة والتنظيرات التربويّة، ويستنفِر الجميعُ للحديث والمساهمة في هذا الجانب، وما ذاك إلاَّ لإدراكِ النّاس ما للتّربية والتّعليم من أهمّيةٍ بالغة وأثرٍ فاعل في بِناء الأجيال وإعداد المجتمعات. ولقد كانت عنايةُ الإسلام فائقةً في هذا المضمار من أوّل حرفٍ نزل به الوحيُ من القرآن على رسول الأنام : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]. كما توافرتِ النصوصُ عن إمام المربّين قولاً وتطبيقًا في جانب التربية حتى تغيَّرت حياةُ الأعراب الجفاة عبدَةِ الأوثان في سنواتٍ قليلة، فأصبحوا قُدوةَ الدنيا وقادةَ العالم، وخلَّدوا سِيَرًا لا زال شذا عِطرِها يفوح ونورُ هُداها يُقتَبَس إلى يومِنا هذا.
أيّها المسلمون، لا يخفى على عاقلٍ فضلُ العلم المقرونِ بالتربية الصالحة، فبه يعبد المسلم ربَّه على بصيرة، وبه يعامِل الناسَ بالحسنى، وبه يسعَى في مناكبِ الأرض يبتغي عند الله الرزقَ، وبالعلم تُبنى الحضارات وتُبلغُ الأمجاد ويحصُل النماءُ والبناء. العلمُ يُجلِس صاحبَه مجالسَ الملوك، وإذا اقترن بالإيمان رفعَه الله في الدنيا والآخرة، يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]. وإذا كان العلم مجرَّدًا من التربيّة خواءً من المبادِئ فهو وبالٌ ونقمة؛ ولذا ارتبطتِ التربية بالتعليم والعِلم بالعمَل والمفردات بالمبادِئ والسلوك، ففي القرآنِ العظيم آياتٌ تتلَى إلى يوم الدين فيها أدَبُ الحديث وأصولُ العلاقات الاجتماعية وبِرّ الوالدين والعِشرة الزوجية والعلاقات الدولية في السِّلم والحرب، بل فيه أدبُ الاستئذان وأدبُ النظر، واقرؤوا إن شئتم سورةَ النساء والأنفال والحجُرات والنور. أما السنّة والسيرة فعالَمٌ مشرِق بالمُثُل والتربية، ويكفينا مثالاً حديث ابنِ عباس رضي الله عنه قال: كنت رديفَ رسولِ الله يومًا فقال: ((يا غلام، إني أعلِّمك كلمات، احفَظ الله يحفَظك، احفَظ الله تجِده تجاهَك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله، واعلم أنَّ الأمةَ لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلاَّ بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمَعوا على أن يضرّوك لم يضرّوك إلاَّ بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام وجفَّت الصحف)) رواه أحمد والترمذي بسند صحيح [1].
إنّه أوّلُ ما ينبغِي ترسيخه في قلوبِ الناشئةِ وتُرسَى عليه قواعدُ التربية، عقيدةٌ صحيحة وربطٌ للنَّشء بالله ومراقبَتِه واليقين والتوكّل عليه، عندها يصبِح المؤمن ذا همَّة وعزيمةٍ وقوّةِ إرادة، لامتلاءِ قلبِه بالإيمان واليقين، فيُرجى منه النّتاج، وتتحقَّق منه الآمال، وهذا سرُّ امتداحِ الله تعالى لخِيرة أنبيائِه بأنهم أولو العَزم من الرسل. وقد نبَّه الفقهاء رحمهم الله إلى أنَّ القائدَ والوالي للمسلمين ينبغي أن يكونَ من أولي العزمِ من الرجال أي: علوِّ الهمّة وقوّة العزيمة والشجاعةِ النابعة من الإيمان، ومنه يعلَم أيضًا سرُّ اهتمام الأعداء بتدجين الشعوب وإغراقهم في الشّهوات وتلبيسِ عقيدتهم لإحباطِ عزائمهم ثمّ استرقاقهم.
أيّها المؤمنون والمؤمنات، إنَّ الأبَوَين المستحقَّين للدّعاء هما من أحسن التربيةَ، وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24]، وفي الحديث: ((إذا ماتَ ابن آدم انقطَعَ عملُه إلاَّ من ثلاث)) ومنها: ((ولدٍ صالح يدعو له)) رواه مسلم [2].
إنَّ مهمّةَ تربيةِ الأولاد مهمّةٌ عظيمة، خصوصًا في هذا الزّمنِ الذي تَلاطمَت فيه أمواجُ الفتن واشتدَّت غربةُ الدين وكثُرت فيه دواعي الفساد، حتى صار المربِّي مع أولاده كراعِي الغَنَم في أرضِ السّباع الضارية إن غفَل عنها أكلَتها الذئاب.
أيّها المربّي مِن أبٍ وأمّ ومعلِّم ومعلّمةٍ، اعلم أنَّ خيرَ القلوب أوعاها وأرجاها للخيرِ ما لم يسبِق إليه الشرّ، وأولى ما عُنِي به الناصحون ورغِب في أجره الراغبون إيصالُ الخير إلى قلوبِ أولاد المسلمين لكي يرسَخَ فيها وتنبيهُهم على معالم الدّيانة وحدودِ الشريعة وترويضُهم عليها، وهذه والله وظيفةُ الأنبياء، وقد أخبر النبيّ كما في سنن التّرمذيّ أنّ الله وملائكتَه وأهل السموات والأرض ليصلّون عل معلِّمِ الناس الخير [3] ، وفي صحيح مسلم أنّ النبيَّ قال: ((من دعَا إلى هدًى كان له مِنَ الأجرِ مثل أجورِ من تبِعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا)) [4]. فهنيئًا لك إذا أخلصتَ نيّتك واحتسبتَ أجرَك عند ربّك. كما أنّ على المربّين من المعلّمين والوالدَين العنايةَ بجانب القُدوة، فإنّ قدرةَ المتعلّم على الالتقاط والاقتداء بوعيٍ أو بدون وعي كبيرةٌ جدًا، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
وإذا قال المنظِّرون: إنّ التربيةَ والتعليم عمليّةٌ تكامليّة، فما دورُ الآباء والأمّهات في هذا التكامل؟ وما دور وسائِلِ الإعلام في التربية والتوجيهِ والنّصح والتعليم؟ وهل أدّى الأمانة من أيقظَ ابنَه للمدرسة وأهملَه في صلاة الفجر أو العصر؟! وهل رعى المسؤوليّةَ من جلب الفضائيّاتِ والمفسِدات لبيتِه في تناقضٍ صريح مع مقوّمات التربية التي تجاهِد المدرسةُ في إرسائِها وبنائها؟!
إنّه لم تعدِ التربيةُ اليومَ مقتصرةً على مقاعدِ الدراسة، فمع التطوّر الهائل والانفتاحِ المذهِل لوسائل الإعلام والاتّصال أصبحنا في وقتٍ ينازعنا غيرُنا في تربية أجيالنا، خصوصًا إذا كان واقعُ هذه الوسائل والفضائيُّ منها خاصّة إثمُه أكبر من نفعه، وهدمُه للقِيَم والعقائد ظاهرٌ لكلِّ ناظر. تبذَل الطاقاتُ والإمكانات وتصرَف الجهود والأموال للتربية والتعليم، بينما الفضائياتُ تهدِم وتفسِد وتفتِك، وكأنّها في حربٍ مع الدّين والقِيَم، ليُستَنبَتَ جيلٌ في هذه المستنقعاتِ قد شرِب من هذا الكدر، أفلا يستدعي ذلك وقفةً من أصحابِ القرار وحرّاس الفضيلة والمعنيِّين بالتربيةِ لأجل حمايةِ المجتمع، خصوصًا إذا كانت هذه الوسائلُ مملوكةً ومدعومَة ممن ينتسِب للإسلام والمسلمين؟! وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، والأمر بالوقايةِ للوُجوب، ومن لم يقِ يُسأَل كما في الحديث: ((كلُّكم راعٍ، وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته)) [5].
أيّها المربّون، أنتم مؤتَمَنون على تربيةِ أجيالِنا وإعدادِ أولادِنا وتوجيهِ مستقبَلنا في تطويرٍ وتجديد ومواكبةٍ للجديدِ مع الأصالةِ والثباتِ المستمَدّ من شريعة الإسلام، نعَم الأصالةُ والتميُّز المستمِدّةُ منهجَها من الكتابِ والسنَّة، الهادِفةُ إلى تعبيدِ الناس لربِّ العالمين والولاءِ لهذا الدّين وتنشئةِ المواطنِ الصالحِ المنتِج الواعي السَّالم من شطَطِ التفكير ومَسالِك الانحرافِ. إنّ مبادئَ الإسلام الثابِتَة المرِنةَ كانت الانطلاقةَ الصحيحة للحضارةِ الإسلامية التي باركَها الله على أهلِ الأرض جميعًا، وما ضعُفت إلاَّ حينَ كانت المنطلقات غيرَ شرعيّة في تنكُّر للدّين أو تحجُّر لا يتحمَّله الإسلام.
أيّها المسلمون، كلُّ أمّة تنشِئ أفرادَها وتربّيهم على ما تريد أن يكونوا عليه في المستقبَل، إذًا فالتربيّةُ والتعليم في حقيقتِه هو صناعةُ الأجيال وصياغةُ الفكر وتشكيلُ المجتمع وتأهيلُه وتوجيهه، وكلُّ الأمم والدوَل مهما كانت غنيّةً أو فقيرة متقدِّمةُ أو متخلّفة تدرِك هذا الجانبَ، وتسعى بما تستطيعُ لترسيخِ مبادئِها وأهدافِها عن طريقِ التربية والتعليم، وتعتبر ذلك من خصوصيّاتها وسيادتِها وسماتها التي لا تساوِم عليها، ومنه ندرِك أنَّ استيرادَ التربيةِ من أمّةٍ أخرى بكلِّ عُجَرها وبُجرها خطيئةٌ كبيرة وتبعيَّة خطيرة، تعني نشأةَ جيلٍ مغيَّب عن تراثِه وتاريخِه مقطوعِ الصّلةِ بعقيدته ومبادئه، مسخًا بلا هويّة يسهُل قيادُه بل واستعبادُه. وهذا لا يعني هجرَ الإفادة مِن تجارب الأمم، فالحكمة ضالّة المؤمِن أنّى وجدَها فهو أولى بها، إلاَّ أنه من الخلطِ والتّضليل فرضُ العَلمنَة بحجّة التطوير أو إقصاءُ الدين لمواكبة العلم كما بُليت بذلك بعض بلادِ المسلمين، وفي قولِ الله عزّ وجلّ: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] دليلٌ على أنّ العلومَ النافعة هي المقرِّبة إلى الله ولو كانت من علومِ الدنيا، وذلك باصطِباغها بصِبغة الإيمان والتقرُّب بها إلى الله وخِدمةِ دينه ونفعِ المسلمين وعمارةِ الأرض كما أراد الله، في توازُنٍ وشُمول ووسطيّة واعتدالٍ، فتُعمَر الدنيا والآخرة.
أمّا إذا تجرَّد التعليمُ وأهدافه من الإيمان فأضحَتِ الوسائل والمقاصِد مادّيةً بحتة فهو الوبالُ والشقاء، وهذه حضارةُ اليوم شاهِدٌ حيّ على هذا النتاج، فشقِيت أمَمٌ بصِناعاتها واختِراعاتها، وأصبح التّسابُقُ في وسائِلِ الدمار لا في العَمَار والاستقرار، وأضحَى الظلمُ والطغيان وسرقةُ الأوطانِ هو شعار أقوَى الدّوَل وأظهرِها في الحضارة المادية، وها هي فلسطينُ والعِراق تدمَّر قُراها وتُسفَك دماها برعايةِ مبادئ الحضارةِ الزائفة، وما الفخرُ في بناياتٍ تعانِق السّحابَ إذا كانتِ الأخلاق والفضائل مدفونةً تحثها في التراب؟! وما الرّبح في كثرةِ المتعلِّمين إذا غُيِّبتِ المبادئ والحقائِق وصودِرَ الدين وشُغِل العامّة بالشّهوات واللّهَثِ وراءَ المادّة الجافّة في غفلةٍ عن الآخرة؟! وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:6، 7].
عبادَ الله، إنَّ من الحقِّ والعدلِ أن نفخرَ بأنّ المناهجَ الدراسيةَ في بلاد الحرمينِ الشريفين من أفضلِ المناهِج في عالمنا الإسلامي رغمَ وجهات النظَر الغريبة التي تطرَح أحيانًا لتغييرِ المسارِ الآمن، إلاَّ أنَّ التميُّزَ والأصالة لزالت سمةً تجب المحافظةُ عليها مع التطويرِ المثمِر والسّعي للأفضل، فأرجاءُ الفضاء فسيحةٌ للتحليقِ، ولكن يجِب أن تكونَ القواعد والمنطَلَقات ثابتةً راسخة وفي نفسِ الوقت آمِنة.
وأخيرًا، فإذا كان هذا الزمنُ زمنَ صِراعٍ حضاريّ وعقائدي بين الأمم وضغوطاتِ لعولمةِ الفِكر وعلمنةِ التعليم فإنّ من علامةِ إخلاص ووعيِ القائمين على المناهجِ في بلاد المسلمين مواجهةَ هذا التحدّي والعناية بالمنطلقات والأسُسِ العقدية والفكرية الصحيحةِ حين بناءِ المناهج أو تطويرها. وإذا كان ولاةُ الأمر في هذهِ البلاد وفّقهم الله يبذلون ويحرِصون ويوجِّهون ويتابِعون فإنَّ الواجبَ على المربّين والمتربِّين عمومًا أن يكونوا على قدرِ المسؤوليّة في القيام بهذا الواجِبِ العظيم لأجلِ مستقبَل مضيءٍ بإذن الله بالعلمِ والهدَى والعطاءِ والبناءِ في ظلِّ دوحة الإيمان الوارفة.
حفِظ الله بلادَنا وبلادَ المسلمين عزيزةً بدينها آمنةً بإيمانها سابقةً لكلِّ خير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:52، 53].
بارَك الله لي ولكُم في الكتابِ والسّنّة، ونفعنا بما فيهما منَ الآياتِ والحِكمة، قد قلتُ ما سمِعتم، وأستغفِر الله تعالى لي ولكم.
[1] مسند أحمد (1/293)، سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة (2516) وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الضياء المقدسي في المخارة (10/25)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وهو في صحيح سنن الترمذي (2043).
[2] صحيح مسلم: كتاب الوصية (1631) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] سنن الترمذي: كتاب العلم (2685) من طريق القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة رضي الله عنه، وقال: "حديث حسن غريب صحيح"، وهو أيضا عند الطبراني في الكبير (8/234)، وذكره الهيثمي في المجمع (1/124) وقال: "فيه القاسم أبو عبد الرحمن وثقه البخاري وضعفه أحمد". والحديث في صحيح الترغيب (81).
[4] صحيح مسلم: كتاب العلم (2674) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] رواه البخاري في العتق (2554، 2558)، ومسلم في الإمارة (1829) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله، أوجدنا من العدَم، وربَّانا بالنِّعم، وجعل الوحيَ لنا نورًا نهتدي به في حالِكِ الظُلَمَ، وأشهد أن لا إلهَ إلا وحده لا شريكَ له، قد أفلح من بحبلِه اعتَصَم، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سارَ على نهجه الأقوَم.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، إنّ العلمَ الشرعيَّ الصافي ضمانةٌ بإذن الله ضدَّ الانحرافات الفكرية والعقيدة، فالواجِب على ذوي الاختصاصِ مراعاةُ ذلك وتبصيرُ الأجيال بما يجِب عليهم بالتفصيلِ والوضوح النافي للخَلط أو التضارب؛ لأنَّ العقول أو القلوبَ أوعية إن لم تُبادَر بالحقّ وتُملأ بالصواب تسرَّب إليها الفهم المغلوط. أمّا مواراةُ النصوص وتحويرُها فهو تغييبٌ للوعيِ وسَبَب لاضطرابِ المفاهيم.
أيّها المسلمون، النّساء شقائقُ الرجال، وقد عُني الإسلام بتعليمِ المرأة وتربيَتِها أيّما عناية، بل إنَّ النصوصَ الواردة في فضل تربيةِ البنات والإحسانِ إليهن أكثرُ مما ورد خاصًّا بالبنين، مع اشتراكِ الجميع فيما ورَد لعموم الأولاد. وعليه، فينبغِي العنايةُ بتعليمِ المرأةِ ما ينفعها وتحتاجه في حياتها وما يمكِن أن تخدم به مجتمَعَها مما لا يتنافى مع طبيعتها، ولا تحجيرَ في العلوم، إلاَّ أنه من الإغرابِ أن تدرُسَ الهندسَةَ الفراغيَّة أو الفلسَفَة الحداثية ثمّ هي لا تعرِف شيئًا عن حياتها الطبيعية وما يسلَم به دينُها وتصحّ به عبادتها وكيف تتصرَّف إذا كانت زوجةً أو أمًّا، لا تعرِف تربيةَ الأولاد والعنايةَ بالصّحّة ولا تدبيرَ المنزل أو الحقوقَ الزوجية والتعاملَ الاجتماعي، وهذه أمورٌ يتحتَّم المصير إليها وينبَني وضعُ المجتمع عليها. وإذا أحسَنَت كلُّ متعلِّمة ما سبَق وعرفَت ما لها وعليها استقامَت أحوال الأُسَر وتكاملتِ الحياة ولم تكن العلومُ الدنيويّة عائقًا، بل نجاحًا مضاعفًا.
وهمسَةٌ أخيرة للطلاّب والطالبات بوصيّةٍ بالإخلاصِ لله عزّ وجلّ في طلبِ العِلم والجِدِّ والمثابَرَة في التحصيل واحترامِ المعلّمين وتوقيرهم والقيام بحقِّهم والحذَرِ من رفقة السّوء وضِعاف الهمّة، وقد قال الله تعالى: يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12]، وقال لموسى عليه السلام لما آتاه الألواحَ فيها التّوراة: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ [الأعراف:145]، كما ينبغي الحذَر من الأفكار المنحرِفة والتوجُّهات المشبوهة.
والله تعالى هو المسؤول أن يوفِّقَ الجميعَ لما يحبّه ويرضاه وأن يعِزّ دينه ويُعليَ كلمتَه.
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:65].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولك محمّد صاحبِ الحوض المورودِ واللّواء المعقود، وأورِدنا حوضَه، واحشرنا تحت لِوائه، وارضَ اللهم عن صحابة نبيك أجمعين...
(1/3353)
مهمّة التعليم
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
25/7/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل نعمة العلم. 2- وجوب شكر الله تعالى على تيسير سبل العلم. 3- حث الطُّلاب على الجد والاجتهاد. 4- كلمات توجيهية للمعلمين والمعلمات. 5- التحذير من الأفكار الضالة والانحرافات السلوكية. 6- مسؤولية الآباء. 7- مهمة تربية النشء. 8- الإسلام يدعو إلى العلم النافع. 9- نقد فكرة: "العلم وسوق العمل".
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، العِلم نعمةٌ من الله يهَبُها لمن يشاء من عبادِه، فضلٌ يتفضَّل الله به على من يشَاء من عبادِه، ملائكةُ الرحمن يقولون: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32]، ويقول جلّ وعلا: عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:5]، ويمتنُّ بالعلم على العِبادِ بقولِه: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78].
العِلمُ يدعو إلى خشيةِ اللهِ ومخافتِه، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:28]. العلم شَرفٌ لأهله ورِفعة لهم في الدّنيا والآخرة، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]. العالِم والجاهِل ليسوا على حدٍّ سواء، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]. استشهَدَ الله بالعلماءِ على أعظمِ مشهودٍ عليه وهو توحيدُه وإخلاصُ الدّين له، شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، وفي الحديث: ((من سلَكَ طريقًا يلتمِس فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنّةِ)) [1].
أيّها الإخوَة، غدًا يوم السّبت السادِس والعشرين من رجَب من عام خمس وعشرين وأربعمائة وألف، يتوجّه أبناؤنا وبناتنا إلى مراحِلِ التعليم المختلفة مِن جامعيّين وما دونها من التعليم الثانوي فالمتوسّط فالابتدائي، نرجو من الله أن يكونَ عامَ خيرٍ ونعمة للجميع.
فبهذه المناسبةِ العظيمة أذكِّر أبناءَنا وبناتنا نعمةَ الله عليهم إذ يسَّر لهم سبيلَ الحصول على العِلم، وهيّأ لهم تلك المراحلَ المتعدِّدة يؤمُّونها، وكلٌّ في بلدِه ما يكفيه من مراحِلِ التعليم، وتلك نعمةٌ منَ الله على العباد أن يقصِدَ هذا العدَد الكبير من أبنائنا وبناتنا في أرجاء هذه البلادِ العزيزة مراحلَ التعلم، وقد شُرِعت لهم أبوابها، ويُسِّر لهم سبيل الوصولِ إليها والالتحاق بها، فتلك نعمةٌ عظيمة يشكر العبدُ عليها ربَّه جلّ وعلا. فلقد كانت تُشدّ الرحالُ إلى العلم ويطلَب من أقاصي الدنيا، واليومَ والبلاد تعمُّها مراحل التعليمِ المختَلِفة، وكلٌّ يجد في بلدِه أو بالقربِ منه مراحلَ التعليم التي يحتاج إليها. فلنشكر الله على هذه النّعمةِ وعلى هذا الأمنِ والاستقرارِ وتسهيلِ المهمّات، فللَّه الفضلُ والمنّة أوّلاً وآخرًا.
أيّها الابنُ الكريم، أيّتها الفتاةُ العزيزة، إذا كانَت مراحِلُ التعليمِ قد يُسِّرَت سبُلُها وذُلِّلت الصّعابُ أمامَ أبنائِنا وبناتنا فما عَلى أبنائِنا وبناتِنا إلاَّ الجدُّ في التّحصِيلِ، الجِدّ وبذلُ الوُسعِ في التحصيل العلميّ؛ ليتزوَّدوا عِلمًا ومعرِفة.
أحذِّر أبناءَنا وبناتِنا منَ الكسَل والخمولِ والتَّسكُّع في الطّرقات وتَضييعِ هذه الفرصةِ حتى يمضيَ سنون عديدةٌ وما استفادَ الطالِب عِلمًا، تمرُّ بِه مراحِل التعليم وبينما يحتاج إلى ثلاثِ سنواتٍ ما قد تكون ستَّ سنَوات، لماذا؟ كسَلٌ، خمولٌ، وتسكّع في الطرق، اشتغالٌ بما لا ينفع، تضييعُ الفرَص النافعة حتى تَمضيَ زهرةُ شبابِه وما استفادَ عِلمًا ولا تحصيلا.
عارٌ عليك ـ أيّها الشاب المسلم وأيّتها الفتاة المسلمة ـ أن تمضيَ مراحلُ التعليم وقد جعلتَ كلَّ مرحلةٍ مرحلتين وكلَّ عامٍ عامين بلا سببٍ يقتضي ذلك، لكنّه الكسَلُ والخمول. إنّ هناك فئاتٍ من النّاس قد يثبِّطون طُلاّبَنا وطالباتِنا عن التعليمِ، يثبِّطونهم ويُضعِفون مِن عزائِمِهم ويفُتُّون في عضُدِهم ويدعونهم إلى الكسَلِ والخمولِ وإلى الذّهابِ هنا وهناك، سهرٌ في اللّيل طويل على غيرِ هدًى، وملتقى على غيرِ منفعة، ثمّ يأتي للمدرسة ونحو ذلك فارغَ الذهب قليلَ المعرفة، لا رغبةَ عنده، ولا ميولَ إلى الاستفادة، وإنما قد يأتي خوفًا من الأبِ أو الأم أو مساءلةِ المدرسة. عارٌ عليك ذلك ونقصٌ في حقِّك وأنت مؤهَّل فكريًا مؤهّل للعلم، لكن الخمول والكسَل يخيِّم على البعض ودعاةُ الفساد والتضلِيل ومن يريدون صرفَ أبنائنا وبناتِنا عن التزوُّد بالعِلم النافع ويدعونهم إلى البُعد عن ذلك؛ ليعيشوا جهلاً إلى جَهلهِم، وتمضي أيّامُ الشباب وما استفاد ذاك الشابّ ولا تلك الفتاة من ذلك العمُر خيرًا.
إذًا فعلى الجميعِ أن يستقبِلوا العامَ الدراسيَّ بكلِّ جدٍّ ونشاط وتحصيلٍ علميّ، فالأمّة بأمسِّ الحاجة إلى أبناء وبنات لديهم الفهمُ والتحصيل النافع؛ ليساهموا في بناء هذا المجتمعِ المسلم على أسُسٍ من الأخلاق والفضائلِ والعلوم النافعة.
إنَّ الأمّةَ تُقاس حضارتها بفُشُوّ العلم بين أبنائها، فالعِلم في المجتمعِ هو مِقياس تقدُّمه ورقِيِّه وكونه مجتمعًا نافعًا.
أيّها المعلِّم الكريم، أيّتها المعلّمة الكريمة، إنَّ خطابي معكَ أيّها المعلم ومعكِ أيّتها المعلمة لأذكِّر نفسِي وأذكِّر الجميعَ بالأمانةِ الملقَاة على كاهِلِ الجميع، فأنتَ ـ أيّها المعلم ـ مؤتَمَن، نعَم مؤتَمَن وعلى أيّ شيء؟ على فلذاتِ الأكباد، علَى عدّةِ المجتمع وأمَلِه بعد الله، على هَذا الجيلِ أنتَ مؤتَمَن حقَّ الأمانة.
أيّها المعلم، إذًا اعرِف مسؤوليّتَك، واستحضِر واجبَك، واعلم أنّك مسؤولٌ أَمامَ الله قبلَ كلِّ شيء، مسؤول عن هذه الأمَانةِ التي حَمَلتَها، هل حَمَلتها بحقٍّ فتكونَ ممن أدّى الأمانةَ، أم حملتَها بغيرِ حقٍّ وبكسَل وخمول فتكونَ ممّن خُنتَ تلك الأمانة؟
أيّها المعلم، أيّتها المعلمة، إنَّ أبناءَنا وبناتِنا يَرقُبون سُلوكَ ذلك المعلِّم وسُلوكَ تِلك المعلِّمة، يرقُبُون الأقوالَ والأخلاقَ والسّلوكَ والتّصرُّفات، فإن يكن ذلكَ المعلِّم رجلاً صالحًا مهذَّبَ السّلوك مهذّبَ القَول، إن تكلَّم تلفَّظَ بخَير، وإن تَصرَّف فتصرُّفٌ حسَن، مَظهرُه إسلاميّ، وأقوالُه طيّبة، وأعمالُه حَسَنة، يربِّي الجيلَ تربيةً صالحة، يغرِس في قلوبهم حُبَّ الله وحبَّ رسولِه وتعظيمَ دينِه وتعظيمَ الأوامِر وتعظيمَ النّواهِي، إن تكلَّم فالأقوالُ حَسَنة، فليسَ بالسّبَّابِ ولا باللَّعّان ولا بالفَاحِش ولا البذيء، منضبِطٌ أداءً ووقتًا، فالأمانةُ العلمية تقتضي منه أداءَها على المطلوب، وتقتضي أن يؤدِّيَ الوقتَ المحدَّد على المطلوبِ، وتقتضي أن يكونَ مِثاليًّا في انتظامِهِ في العمَل والسّلوكِ الحسن. إنّك قدوةٌ فأحسِن القُدوةَ، يقتدي بك أولئكَ النّشء، يسمَعون كلامَك، ويرَونَ مظهَرَك وتصرُّفاتِك وانضبَاطَك في الزمَنِ، فيكونون نقَلةً لكلّ تصرّفاتك، فهم مرآةٌ تعكِس أخلاقك وأعمالَك، فاتّق الله أيّها المسلم، اتّق الله في نفسِك تقوًى تحمِلك على أداء الأمانة والقيامِ بالواجب وتربيةِ هذا النشءِ تربيةً إسلامية صالحة مبنيّةً على أسُسٍ من الأخلاقِ والقِيَم والفضائل.
أيّتها المعلمة، بناتُنا يُصغون إليك، وينظرون حركاتِك وتصرّفاتك، فاتّقي اللهَ أيّتها المعلمة، وكوني قدوةً صالحة لهنّ في السلوك والمظهَر الحسَن، إيّاك أن يكونَ المظهَر سيِّئًا؛ من سفورٍ، من تبرّج، من عَدَم عِفّة في الملبس، من أقوالٍ سيّئة، فتنقل الفتاة الصغيرةُ عنك كلَّ ما عمِلت وقلتِ.
فليتَّق الجميع ربَّهم في تربيةِ نشئِنا من بنينَ وبنات، وليكن الجميعُ مراقبًا لأمرِ الله، مراقبًا الله في ما يأتي ويذَر.
أيّها المعلِّم، أيّتها المعلِّمة، إنَّ الأمّةَ تعصِف بها أفكارٌ سيِّئة، سببُها حَمَلاتٌ شرِسَة من لدُن أعداءِ الإسلام؛ ليفرِّقوا كلِمةَ الأمّة ويشتِّتوا شملَها ويَفتُّوا في عضدِها، فلا بدّ لرجالِ العلم والتربية ذكورًا وإناثًا أن يساهِموا في تخليصِ الأمّة من هذه الدّعوات المضلِّلة. أفكارٌ سيّئة ما بين غلوٍّ مشين وما بين جفاءٍ قبيح، فلا بدّ للمعلّم والمعلّمة من علاجِ هذا الفكر المنحرِف، سواءً كان من طريق الغلوِّ المذموم أو من جانبِ الجفاء الممقوت، فلا بدَّ أن نريَهم الحقَّ والطرِيقَ المستقيم ليسيروا عليه.
أبناؤنا وبناتُنا كم يشاهد الجميع بعضَ القنوات الفضائيّة التي تحمِل في طيّاتها إلحادًا وانحرافًا عقديًّا وسلوكيًّا ودعواتٍ مضلِّلة تشكِّك الأمة في ثوابِتها ومسلَّماتها. لا بد لذي العلمِ والتعليم عندما يشعُر عن بعض أبنائنا أو بناتِنا شيئًا من هذه الأفكارِ المنحرِفة أن نعالجَها بفكرٍ سليم صحيح، نصحِّح المسار ونطهِّر القلوبَ من أدران هذه الضّلالات والغوايات.
أيّها المعلِّمون رجالاً ونساء، أبناؤُنا بعضهم قد يكون تهيَّأت له الفرَص فذهب هنا وهناك واطَّلع على عالِم خارجيٍّ وشاهد من الإعلامِ في الصحافة والتلفاز وغيره والمنتديات وغيرها شاهدَ أمورًا عجيبةً وأمورًا غريبة عليه وعلى بيئته، وقد يكون متأثِّرًا بها، وقد تسمعه يتحدَّث عمّا رأى وما شاهد ومعجبًا ببعض الأمورِ التي هي ضارّة ولا بدّ، إذًا فلا بدّ لرجال التعليم من أن يستأصِلوا تلك الأفكارَ الخاطئة، بأن يوضِحوا لهم شريعةَ الله ويبيِّنوا لهم المنهجَ المستقيم، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].
أيّها المعلِّم، قد يكون عند بعضِ أبنائنا تبادُل لأشرطةٍ أو مقالاتٍ وأفلام هابطة، وقد تشعُر بشيء من هذا، فحاوِل من خلال تعليمِك أن توصيَ الجميعَ بتقوى الله، وأن تحذِّرهم من هذا الانحرافِ الفكريّ، الانحراف السلوكيّ أو الانحراف العقديّ، لتضَعَهم على الطريق المستقيم.
إنّ هذه الثوراتِ الإعلامية لن يستطيعَ أحدٌ إيقافَ زحفها ولا السيطرةَ عليها إلاَّ بفكرٍ سليم يغرِس في قلوب أبنائنا وبناتِنا حبَّ الخير والبعدَ عن الشر والفساد؛ إذ تلك القنواتُ الضالة التي تنقل في شاشاتِها كلَّ بلاءٍ ومنها ما يصوِّر الأشياءَ الضارّة والأخلاق الهابِطة فلا بدّ من فكر سليمٍ يحمله رجالُ العلم ذكورًا وإناثًا إلى شبابِنا من ذكور وإناث، ليوضِحوا لهم الحقَّ ويهدوهم الطريقّ المستقيم ويقابلوا الأفكارَ السيّئة بالأفكار السليمةِ المستقيمة، فالأمّة بأمسّ الحاجة إلى فهمٍ ووعي صحيح لهذه الأمورِ المخالفة ومعالجتِها بالفكرِ السليم الناضج المبنيِّ على الكتاب والسنة.
أيّها الأخ العزيز، أيّها المعلم العزيز، لا بدّ من جهادٍ في سبيل الله بدعوةٍ إلى الله وتبصيرِ النشء وحثِّهم على الخير حتى يسمَعوا ويقبلوا منك، فكلماتُك مقبولة، تسمعُها الأذُن، ويعيها القلب. فاتَّق الله، وأصلح فيما بينك وبين الله، وربِّ هذا النشءَ تربيةً صالحة ليكونَ ما يستمرّون عليه من خيرٍ وهدًى لك أجره إن شاء الله إلى قيام الساعة.
وعلى الآباء والأمّهات أن يكونوا عونًا للأبناءِ على الخير، يحثّونهم على العلم، ويرغِّبونهم في الجدّ، ويحاسبونهم على التخلُّف، ويحولون بينهم وبين وسائلِ التّثبيط عن الخير والهدَى. لا بدّ من تعاون الأبوين جميعًا، فإنّ هذا التعاونَ سببٌ لكلّ خير.
والمسؤولون عن إدارةِ المدارسِ والجامعات من ذكورٍ وإناث لا بدّ للجميع من تعاونٍ بينهم، لا بدّ للمعلِّم والمعلّمة أن ينظروا في واقع أبنائِنا وبناتنا، وأن يحذِّروهم من جلساءِ السوء ودعاةِ الرذيلة ومن يثبِّطون عن العلم ومن يدعون إلى هجرِ العلم ومن يزهِّدون في العلم ومن ينادون إلى أن يكونَ الناس على جهلٍ وبُعد عن الخير، مهما برَّروا تلك الدعواتِ فإنّها دعواتٌ ضالّة خاطئة، لا بدّ من رفضِها وتحذيرِ أبنائنا من أن يغترّوا بها.
أسأل الله للجميعِ التوفيق والسداد، يقول الله جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولَكم ولسَائر المسلمين من كلّ ذَنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الذكر (2699) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضَى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورَسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يَوم الدّين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التّقوَى.
إنَّ من أهمِّ المهمات السعيَ في تربية النشءِ التربيةَ الصالحة، فهي مسؤوليةٌ عظيمة وأمانة ثقيلة لمن تصوَّرها حقًّا وأدرك الخيرَ أو الشر في ضدِّها. إنّ المسؤولين عن سياسةِ التعليم في عالمنا الإسلاميّ واجبُهم تقوَى الله في كلّ حال، واجبُهم أن يرسموا سياسةً للتعليم ترتبِط بهذا الدّين، بهذه العقيدة الصّالحة، بهذه الأخلاق والقيَم والفضائل.
إنّ دينَنا لا يحارب العلم، وليس عدوًّا للعلم، بل هو يدعو إلى العلوم المختلِفة وأن يتزوّدَ الناس من كلِّ علم نافع، اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا [سبأ:13]، وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ [الأنبياء:80]، وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ الآية [هود:38]. الإسلام يؤيِّد العلمَ ويدعو إليه، ولكن ـ أيّها الإخوة ـ هناك شبهةٌ يثيرها من يثيرُها ويقولها من يقولها، إمّا عن جهلٍ بحقيقة ما يَقول أو عن سوءِ نيته، حينما يطرَح بعضُهم فكرة: "العلم وسوق العمل"، مراد بعضِ أولئك بهذه الكلِمة أنّ العلمَ يجب أن يقتصر على سوقِ العمَل، والمرادُ بالعملِ أن لا يتعلَّمَ الناس إلاَّ العلومَ المادية التي يصلِحون بها أوضاعَهم وحاجاتِ المجتمع من هذه العلوم الماديّة. إذًا فهل العلومُ الشرعيّة خارجةٌ عن سوقِ العمَل؟! هل العلوم الشرعيّة معوّقة للعمَل؟! لا، العلومُ الشرعيّة ضرورةٌ لكلِّ عبد مهما يكن، الرجلُ المسلم ضرورةٌ له أن يتفقَّه في دينه وأن يعلمَ كيف يعبُد ربَّه وكيف يؤدّي فرائضَ الإسلام وكيف يكون في تعاملِه وسيرتِه في هذه الحياة؛ لأنّ تعاليمَ الإسلام جاءت لتهذِّب السلوكَ وتزكّيَ النفوس وتطهِّر القلوب وتأخذ بيدِ الجميع لما فيه الخيرُ والصّلاح.
نعم أيها المسلم، لا أمنعُك من أيِّ عِلم، والعلم مطلوب، وميادين العمَل واسعةٌ، والأمةُ بحاجةٍ إلى أن تزاحِمَ غيرها وتنافِسَ غيرَها في العلوم، وبأمسّ الحاجةِ إلى أن يكونَ في أبنائها المتخصِّصين في شتّى العلومِ النّافعة للأمّة التي يستفيدون منها في دنياهم، ولكن مع هذا كلِّه فلا بدّ من علمٍ شرعيّ يتلقّاه كلُّ طالب مهما بلغت مرحلتُه العلمية؛ لأنّ علمَ الشريعة هو زكاةٌ للنفوس وطهارة للقلوب وتقويَةُ الصِّلة بين العبد وبين ربِّه، فنحن خلِقنا لنعبد الله، خُلِقنا لعبادة ربِّنا، خلِقنا لنعمرَ الأرض بطاعة الله ولنقوم فيها بما أوجبَ الله، وسخَّر لنا الله ما في السّموات وما في الأرض جميعًا منه. فنحن لا نحارِب العلمَ، ولا نقِف حجرَ عثرةٍ أمام كلِّ علمٍ ينفع الأمّةَ ويسعِدها في دنياها وآخرتها، ومعلومٌ التقدّمُ العلميّ في المجتمعات، ونحن ننادي بكلِّ علمٍ نافع ومفيدٍ للأمّة، لكن مع هذا كلِّه لا يجوز أن يتصوَّر أحدٌ أنّ العلومَ الشرعيّة عائقةٌ للمجتمع عن تقدُّمه ورقيِّه، وأنّ العلومَ الشرعيّة هي تنشُر الكسلَ والخمول وتؤخِّر المجتمعَ وتمنعه من التقدُّم والرقيِّ الماديِّ، هذه مقالةٌ خاطئة، فالعلم الشرعيُّ ضرورةٌ لكلِّ مسلم؛ أن يأخذَ من العلم ما يصلِح به أمرَ دينه ويعرِف كيف يتعامَل مع ربِّه الذي خلقَه ليعبدَه ويقومَ بما أوجب الله عليه. فالخلطُ بين سوقِ العمَل وبين عزلِ الأمّة عن علومِ الشريعة خلطٌ بين الأوراقِ وسوءٌ للفَهم وقلّة للإدراك. فالعلمُ الشرعيّ ضرورة لكلّ عبد؛ أن يتعلّمَ ما يصلِح به أمرَ دينه، ليكونَ على علمٍ في عبادة ربِّه وفي معاملاته وفي سائر أحوالِه، ولا ينافي ذلك تزوّدَه بأيّ علمٍ نافع مفيد.
هذا هو المطلوب، نسأل الله أن يوفِّق الجميعَ لكل خير، وأن يرزقَ الجميعَ التعاون على البرّ والتقوى، وأن يصلِح شبابَ المسلمين ويأخذَ بأيديهم لما فيه صلاحُ دينهم ودنياهم، وأن يجعلهم دعاةَ خير وأعضاء صالحين في مجتمَعهم، يساهِمون في بناء هذا المجتمَع على أسُسٍ من الخيرِ والقيَم والفضائل، صالحين في أنفسهم، مصلحين لغيرهم، إنّه وليّ ذلك والقادِر عليه.
اعلَموا ـ رَحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخَيرَ الهديِ هدي محمّدٍ ، وشَرَّ الأمورِ محدَثاتها، وكلَّ بِدعةٍ ضَلالة، وعَلَيكم بجمَاعةِ المسلِمين، فإنّ يدَ الله عَلى الجَمَاعَة، ومَن شَذّ شذّ في النّار.
وَصَلّوا ـ رحِمكم الله ـ عَلَى نبيّكم محمّد كما أمَركم بذلِكَ ربّكم، قال الله جل جلاله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صَلِّ وسَلِّم وَبَارِك عَلَى عبدِك ورسولِكَ محمَّد، وارضَ اللهمّ عَن خلفائِه الرّاشدين...
(1/3354)
معجزة الإسراء والمعراج
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
محمد أحمد حسين
القدس
25/7/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذكرى الإسراء والمعراج. 2- وجوب المحافظة على المسجد الأقصى. 3- مشاهد من رحلة الإسراء والمعراج. 4- رابطة التوحيد الكبرى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، تحلّ على المسلمين في هذه الأيام المباركة من شهر رجب ذكرى الإسراء والمعراج بنبينا محمد عليه السلام والصلاة، وبشرى لأمتنا الكريمة بأن هذه الديار المباركة ديار إسلامية، شأنها شأن مسجدها الذي قرر الله مسجديَّتَه وإسلاميته من فوق سبع سماوات في قرآن يتلوه المسلمون صباح مساء، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، فقد جاءت هذه المعجزة والرحلة القدسية المباركة لتربط ديار الإسلام في رباط عقدي، وتؤاخي بين أول بيت وضع للناس على الأرض وبين المسجد الأقصى ثاني مسجد وضع في الأرض بعد المسجد الحرام بأربعين سنة، لما رواه أبو ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال: ((المسجد الحرام)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((المسجد الأقصى)) ، قلت: كم بينهما؟ قال: ((أربعون سنة)).
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن معجزة الإسراء والمعراج بنبينا عليه الصلاة والسلام تجعل هذه الأرض المباركة ومسجدها محورًا لهذه المعجزة وأمانة في أعناق المسلمين لا يجوز لهم التهاون في حمايتها ورعايتها ودرء الأخطار عنها، وهذا ما رأيناه واضحًا في سيرة السلف الصالح في المحافظة على هذه الديار بعد الفتح الإسلامي لها على يد الخليفة العادل عمر والصحابة الكرام رضوان الله عليهم.
وقد حث الفاتح الأول لبيت المقدس على شكر نعم الله والمحافظة على طاعته حتى لا تنزع النعم ولا يسلط العدو، فقد جاء في خطبة عمر رضي الله عنه يوم الفتح: (يا أهل الإسلام، إن الله تعالى صدقكم الوعد، ونصركم على الأعداء، وأورثكم البلاد، ومكن لكم في الأرض، أما لا يكونن جزاؤه منكم إلا الشكر، وإياكم والعمل بالمعاصي، فإن العمل بالمعاصي كفر للنعم، وقلّما كفر قوم بما أنعم الله عليهم ثم لم يفزعوا إلى التوبة إلا سُلبوا عزهم، وسلط عليهم عدوهم). فهلا اعتبر المسلمون اليوم بما أصابهم من الهوان وسلب الكرامة وضياع الأرض، وفي مقدمتها أرض الإسراء والمعراج؟! وما ذلك إلا بسبب المعاصي والبعد عن هدايات القرآن الكريم الذي يهدي للتي هي أقوم.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، وإذا كانت رحلة الإسراء قد بدأت من المسجد الحرام وانتهت بالمسجد الأقصى، فإن المسجد الأقصى المبارك هو بوابة الأرض إلى السماء، فقد كان معراج النبي من هذه الرحاب الطاهرة إلى السماوات العُلى، حيث رأى نبيكم عليه الصلاة والسلام من آيات ربه الكبرى، وفرض الله عليه وعلى أمتكم الإسلامية الصلوات الخمس، وجعلها خمسًا في العمل وخمسين في الأجر، فضلاً من الله ومنّة، وتكرمة لكم ورحمة، إنه بعباده رؤوف رحيم. كما أن الصلاة معراج المؤمن إلى ربه وصلة المخلوق بخالقه، تصقل الروح، وتطهر الجروح، وتنقي القلوب، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي أول الأعمال التي يحاسب عليها الإنسان يوم القيامة، وهي عمود الدين وأحد الأركان التي بني عليها الإسلام، وعلامة بين الكفر والإيمان، وإن فرضَها من فوق سبع سماوات دليل أهميتها ورفعة شأنها وبيان فضلها.
أيها المسلمون، يا أمة الهادي عليه السلام، لقد أشارت سورة الإسراء بشكل قاطع إلى رحلة النبي ، كما أشارت سورة النجم إلى معراجه عليه الصلاة والسلام إلى السموات العلى، قال تعالى: وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:7-11]
وقد كثرت الأحاديث الشريفة في ذكر حادثة الإسراء وركوبه عليه الصلاة السلام على البراق حتى بيت المقدس وعروجه إلى السموات العلى ولقائه بإخوانه الأنبياء في السماوات، ثم اجتيازه إلى سدرة المنتهى التي غشيها من النور والجمال ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وقد رأى نبينا محمد في معجزة المعراج عقوبة بعض الذنوب، ومنها أنه أتى على قوم ترضخ رؤوسهم، كلما رضخت ترجع كما كانت فقال: ((يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل قلوبهم عن الصلاة المكتوبة)).
وتصوِّر رحلة المعراج الزناة والزواني في صورة كريهة بغيضة، فتقول: ((ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدورهم، ولحم آخر نيئ وخبيث، فجعلوا يأكلون من النيئ الخبيث، ويدعون النضيج الطيب، فقال : من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك، تكون عنده المرأة الحلال الطيبة، فيأتي المرأة خبيثة، فيبيت عندها حتى يصبح. والمرأة تقوم من عند زوجها حلالاً طيبًا، فتأتي رجلاً خبيثًا، فتبيت معه حتى تصبح)).
ويأتي على قوم كلما حصدوا عاد كما كانوا، فقال: ((يا جبريل ما هذا؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن معجزة الإسراء والمعراج بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام جاءت لتربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلى محمد خاتم النبيين، كما ربطت بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعًا بإعلان وراثة الرسول الأكرم لإرث النبوات، وهو إرث التوحيد والإيمان وأماكن العبادة التي تمثلها المقدسات.
فابتداء رحلة الإسراء من المسجد الحرام بمكة وانتهاؤها بالأرض المباركة في المسجد الأقصى بالقدس يدل على قداسة هذين المسجدين وما يحيط بهما من أرض شهدت مبعث النبوات والرسالات، ولهذا كان المسجد الأقصى القبلة الأولى التي لا تنسى للمسلمين، وكان المسجد الحرام القبلة الدائمة التي يتوجهون إليها كل يوم، ويحجون إليها كل عام.
وهذا يقتضي وجوب المحافظة من قبل المسلمين على هذين المسجدين ورعايتهما، فلا يكون المسلم في أمان في رحاب هذه المساجد على عقيدته وعبادته إذا لم تكن هذه المساجد في حوزة المسلمين، وكيف لا وهي تمثل رموز التوحيد وترتبط بالعقيدة والعبادة، ولا حرية للعقيدة والعبادة في ظل حراب المحتلين.
هذا وقد قام الخليفة العادل الفاروق عمر بفتح القدس ليهيئ للمسلمين حرية الوصول إلى المسجد الأقصى، وليشدوا رحالهم إليه وإلى المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف في ظل راية الإسلام وعزة المسلمين.
وعلى نفس الخطى سار محرر القدس صلاح الدين والدنيا حينما وقع المسجد الأقصى في أسر الاحتلال الصليبي أزاح عنه الغمة، وأعاده إلى رحاب الإسلام حرًا عزيزًا يرتفع نداء التوحيد في سماء وفضاء القدس التي أرادها الله حاضنة للمسجد الأقصى الذي خلد الله ذكره في كتابه العزيز، وجعله ملتقى الأنبياء والمرسلين بسيد الخلق أجمعين، في هذه الرحاب الطاهرة ليلة الإسراء والمعراج.
أيها المسلمون، إن ذكرى الإسراء والمعراج تهتف بالمسلمين جميعًا أن يولوا وجوههم شطر المسجد الأقصى الأسير، ليرفعوا عنه الضيم، ويفكوا القيد، ويشدوا رحالهم إليه في مسيرة كالأولى بين الفاتحين الكرام والمحررين العظام، ولا يكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، وليعلموا أن الله سائلهم عن هذه الأمانة، أحفظوا أم ضيعوا؟
أما أنتم يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، يا من شرفكم الله بفضل الرباط في هذه الديار المقدسة المباركة وأكرمكم بأن جعلكم حراسًا وسدنة للمسجد الأقصى العظيم وعيونًا ساهرة على رعاية مقدساتكم وأرضكم، لا تفسحوا مجالاً لليأس أن ينال من عزيمتكم، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
واعلموا أن النصر قريب مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا، ولن يغلب عسر يسرين، واصبروا وصابروا ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون.
(1/3355)
أهمية التوحيد وخطورة الشرك
التوحيد
أهمية التوحيد, الشرك ووسائله
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب معرفة التوحيد والشرك. 2- لا نجاة إلا بالتوحيد ومجانبة الشرك. 3- دعوة الأنبياء إلى التوحيد ونهيهم عن الشرك. 4- فساد العالم بانتشار الشرك. 5- سدّ ذرائع الشرك. 6- الشرك طارئ على التوحيد. 7- نشأة الشرك وتطوره.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى.
عباد الله، أوجب الواجبات على العبد معرفة توحيد الله عز وجل ومعرفة ما يضاده من الشرك، ذاك أن التوحيد هو القاعدة والأصل والأساس لدين الإسلام الذي لا يقبل الله عملاً إلا به، ويغفر لمن أتى به إن شاء، ولا يغفر لمن ناقض التوحيد، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
ولهذا لما اشتملت كلمة الإخلاص على إقرار التوحيد ونفي الشرك كانت أفضل الكلام وأعظمه، وأعظم آية في القرآن آية الكرسي: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، ويقول الرسول : ((من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)) رواه أبو داود والحاكم وصححه.
لا يستقيم توحيد عبدٍ إلا بمعرفة الشرك ثم الحذر منه، وهذا القرآن كله آمر بالتوحيد ومحذر من الشرك، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]. معرفة التوحيد والتمسك به ومعرفة الشرك والحذر منه مصلحتها راجعة إلى العبد لا إلى غيره، هو المنتفع بالتوحيد كما أنه المتضرر بالشرك، إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم:8]، إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7].
لا نجاة ـ أيها الناس ـ ولا فوز إلا بالتمسك بسبيل الله تعالى، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].
عباد الله، لم يأت نبي من الأنبياء إلا وأمر قومه بإخلاص التوحيد لله ونهاهم عن أن يشركوا معه غيره، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، ولقد كتب الله على من خالف هذا النهج وأشرك معه غيره أن كانت عقوبته أفظع عقوبةٍ وأعظمها، إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72].
عباد الله، إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام الذي قال الله عنه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120] خاف الشرك على نفسه وعلى ذريته، فسأل ربه فقال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]. أعظم الناس منزلة وأعلاهم درجة عند الله هم أنبياء الله ورسله؛ ولهذا اختارهم لحمل أفضل أمر في هذا الكون وهو الدعوة إلى الله، غير أن أعمالهم لا تنفعهم شيئًا إذا أخلّوا بجناب التوحيد، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].
أيها الناس، أرأيتم هذه السماوات كيف عظمتها، كيف قامت بدون عمدٍ، أرأيتم هذه الأرض كيف استوت بهذه الأوتاد، أرأيتم هذه الجبال وعلوها وعظمتها، ما مالت ولا سقطت منذ أن خلقها الله، كل هذه الثلاثة ـ عباد الله ـ يختلّ نظامها وتهتز أركانها ويفسد أمرها إذا وقع في الأرض أمر يخالف فطرةَ الله، أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:21، 22]. واقرؤوا ـ عباد الله ـ قول الله سبحانه وتأملوه: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا [مريم:90]، أمور فظيعة تقع، ما سببها؟ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا [مريم:91، 92]، حين وُصِف الله عز وجل بالعجز والحاجة والنقص، فوصِف بالولد، وهل يحتاج إلى الولد إلا الضعيف؟! لما قيل ذلك تغيّر مجرى الكون.
لهذا اقتضت حكمة الله أن الأرض لا تخلو أبدًا من موحّدٍ إلى أن تقوم الساعة، ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي وعد الله)) ، فإذا خلت الأرض من موحدين آن للوضع حينئذٍ أن يتغير وللساعة أن تقوم، يقول الرسول : ((لا تقوم الساعة وفي الأرض من يقول: الله الله)).
عباد الله، لما كان الأمر بهذا الصورة جاء الإسلام مانعًا من كل ما يكون سببًا للإشراك بالله، لا نتوكل إلا على الله، لا نذبح إلا له، لا ننذر إلا له، لا ندعو إلا إياه، لا نطلب العون إلا منه، من حلف بغير الله فقد أشرك، ولذا لما سمع الرسول رجلاً يحلف بأبيه قال : ((إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت)) أخرجاه في الصحيحين، وروى الترمذي وأبو داود والحاكم وصححه: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)).
عباد الله، ما من أحد إلا وهو عرضة للمرض والسقم، فأمِرنا بالتداوي، ولكن نهينا عن تعاطي الأسباب المحرمة. لما رأى رسول الله على يد رجل حلقة من صفر قال له: ((ما هذا؟)) قال: من الواهنة ـ نوع من المرض ـ، قال: ((انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنًا، إنك لو متّ وهي عليك ما أفلحتَ أبدًا)) رواه الإمام أحمد. بل لقد تعدى الأمر ذلك، فلم يبايع الرسول شخصًا ارتكب مثل هذا الذنب، روى الإمام أحمد والحاكم عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله أقبل إليه رهط، فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله، بايعتَ تسعة وتركتَ هذا! قال: ((إن عليه تميمة)) ، فأدخل يده فقطعها، فبايعه ، ثم قال : ((من علق تميمة فقد أشرك)) ، وفي رواية: ((من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له)) ، وإلا فأي فائدة تحصل من خيوط تربط أو خرزٍ يجمع أو حلقة توضع في اليد أو الرجل أو حجب أو حروفٍ مقطعة؟! كل ذلك شرك وضلال وفساد في الفطرة والعقول.
عباد الله، جبِل الإنسان على الذهاب إلى أصحاب العلاج والأطباء، غير أن الرسول قال: ((من أتى عرافًا فسأله عن شيء فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يومًا)) رواه مسلم، وقال صلوات ربي وسلامه عليه: ((من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمدٍ)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
نهينا عن التشاؤم بالأيام والشهور أو التشاؤم من المرضى أو الطيور، في الصحيحين: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)) ، وفي مسند الإمام أحمد: ((من رجعته الطيرة عن حاجته فقد أشرك)) ، وفيه أيضًا: لما ذكرت الطيرة عند رسول الله قال: ((أحسنها الفأل، ولا ترد مسلمًا، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك)) ، إلى غير ذلك من أمور هي عند بعض الناس صغيرة، ولكنها عند الله كبيرة.
عباد الله، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (يوشك أن ينقض عرى الإسلام عروةً عروةً، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية)، ويقول حذيفة رضي الله عنه: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخالفة أن أقع فيه.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وأطيعوه، وراقبوه في كل ما تأتون وما تذرون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إن ربي غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الذي وعد الموحّدين بالجنة، وتوعّد المشركين بالنار، أحمده سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، حمى جناب التوحيد عن كل ما يخل به ويشينه، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى وراقبوه في السر والعلن.
شر البلية ضلال بعد الهدى، وعمًى بعد البصيرة، وغيّ بعد رشاد، ولقد خلق الله الخلق يميلون بفطرهم إلى التوحيد دين الفطرة، فانحازت الشياطين بفريقٍ منهم وحوّلوهم عن الهدى، وانحرفوا بهم عن مسلك الرشاد، يقول الله سبحانه في الحديث القدسي: ((خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين)).
عباد الله، إن من الباطل الذي زينته الشياطين وأوقعوا فيه ذوي العقول الضعيفة من الإنس الغلوَّ في الصالحين والأولياء في قالب محبتهم والسير على منهاجهم أو التبرك بآثارهم.
إن الشرك ـ عباد الله ـ لا يقع في الأرض جملةً واحدةً، بل يقع شيئًا صغيرًا ثم يكبر، وانظروا إلى قوم نوح، يقول الله عنهم: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن هؤلاء المذكورين هم رجال صالحون من قوم نوح، لما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبَد، حتى إذا هلك أولئك ونسِي العلم عبدت).
عباد الله، لقد حذّر النبيّ قبل موتِه من أمورٍ خشية أن تقع في أمته، روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيّ قال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)) متفق عليه. لما نزل برسول الله المرض جعل يطرح خميصةً على وجهه ويقول: ((لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)) ، بل لقد حذر النبي من الغلو بجميع أنواعه فقال: ((إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)).
فاتقوا الله عباد الله، وأخلصوا له العبادة، واعلموا أن وراءكم جنةً ونارًا، وأن أفضل أعمال أهل الجنة توحيد الله، وأن أشنع أعمال أهل النار الإشراك مع الله غيره، يقول الرسول : ((من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة, ومن لقي الله يشرك به شيئًا دخل النار)) رواه مسلم.
عباد الله، إن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
ثم صلوا على نبي الهدى وإمام الورى...
(1/3356)
التشبه بأهل الكتاب
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, الولاء والبراء
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضلال الناس قبل البعثة. 2- إشراق الأنوار بمبعث الرسول. 3- الأمر بهجر الشرك وأهله. 4- نهي الإسلام عن كل ما فيه تقريب من الشرك ومشابهة للمشركين. 5- وقوع هذه الأمة في التشبه بأهل الكتاب. 6- مفاسد مشابهة الكافرين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله التي هي نِعمَ المدَّخر ليوم المعاد، اتقوا الله سبحانه واشكروه على نعمه التي أسداها إليكم ومنَّ بها عليكم.
أيّها الناس، كان الناس قبل بعثةِ النبي في جاهلية جهلاء وضلالةٍ عمياء، من مقالاتٍ يظنونها علمًا وهي جهل، وأعمالٍ يحسبونها صلاحًا وهي فساد، غاية البارع منهم علمًا وعملاً أن يحصل قليلاً من العلم الموروث عن الأنبياء المتقدمين، قد اشتبه عليه حقه بباطله، أو يشتغل أحدهم بعملٍ القليلُ منه مشروع، وأكثره مبتدَع لا يكاد يؤثِّر في صلاحه إلا قليلاً. ولقد مقت الله تعالى أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، لم يبق منهم قبل البعثة إلا قلة.
عباد الله، لقد هدى الله الناس بعد ذلك ببركة نبوة محمد وبما جاء به من البينات والهدى، هدايةً جلت عن وصف الواصفين وفاقت معرفة العارفين، حتى حصل لأمته المؤمنين منهم عمومًا ولأولي العلم خصوصًا من العلم النافع والعمل الصالح والأخلاق الكريمة والسنن المستقيمة ما لو جمعت حكمة سائر الأمم قاطبةً إلى الحكمة التي بعث بها نبيّنا لتفاوتا تفاوتًا يمتنع معرفة قدر النسبة بينهما، فله سبحانه الحمد كما يحبّ ويرضى.
عباد الله، بعِث الرسول بالأمر بالتوحيد والبراءة من الشرك، ولقد كان من أوائل ما نزل عليه من القرآن قول الله سبحانه: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5]، قال ابن زيد في تفسير هذه الآية: "الرجز: آلهتهم التي كانوا يعبدون، أمره أن يهجرها، فلا يأتيها ولا يقربها".
أمر الله نبيه أن يهجر الشرك وأهله، ذاك أنه لا يمكن أن يجتمع الشرك مع الإيمان، فإذا وقع هذا رفع ذاك، وإذا وقع ذاك رفع هذا، كما أنّ الليل والنهار لا يجتمعان فكذلك الشرك والإيمان.
دعا الرسول في مكة مدةً من الزمن، حتى اشتد أذى كفار قريش له ولأصحابه، حتى إذا خشي الرسول من تزايد أذى الكفار على المسلمين أمر أصحابه أن يفروا بدينهم إلى الحبشة فرارًا بدينهم ليغادروا موضع الشرك وأهله.
ثم أمر الله نبيه أن يهاجر بدينه من مكة إلى المدينة، حتى إذا قوي الإسلام بفتح مكة التي كانت فيما قبل دار كفر فأصبحت بعد الفتح دار إيمانٍ وإسلام جعل الله فتح مكة فارقًا في الأجر، لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد:10].
لقد جعل الله الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام أمرًا لازمًا لا شك فيه، فمن لم يهاجر فقد قال الله تعالى عنه: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ [النساء:97، 98]، ولقد قال : ((أنا بريء من رجلٍ مسلمٍ يقيم بين أظهر المشركين)) رواه الترمذي وأبو داود.
عباد الله، لقد جاء دين الإسلام آمرًا أتباعه بالبعد عن كل ما فيه تقريب من الشرك، وجاء بالنهي عن كل ما فيه مشابهة للمشركين أو مماثلة لهم. جلس رسول الله مدة يصلي إلى بيت المقدس وهي قبلة اليهود، وكان يودّ لو استقبل الكعبة، فلما أمره الله باستقبال الكعبة مخالفةً لليهود غضِبت يهود عند ذلك، وقالوا: مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142].
ولما كثر الناس بالمدينة اهتمّ الرسول للصلاة كيف يجمع الناس لها، فقيل له: انصب رايةً عند حضور الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضًا، فلم يعجبه ذلك، فذكروا له القنع وهو شبور اليهود، فلم يعجبه ذلك، وقال: فذكروا له الناقوس فقال: ((هو من فعل النصارى)) ، إلى أن أرِي عبد الله بن زيد الأذان في منامه. رواه أبو داود وأصله في الصحيحين.
ولما جاء عمرو بن عبسة إلى رسول الله ليخبره عن الصلاة، قال له: ((صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع؛ فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار))، ثم قال: ((وصل العصر بعد الفيء ثم أقصِر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطانٍ وحينئذٍ يسجد لها الكفار)) رواه مسلم، فنهاه النبي عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها؛ لأنه وقت يصلي فيه الكفار.
عباد الله، لقد قطع الإسلام مادة المشابهة للكفار من أصلها، في الصحيحين: ((خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى))، وروى أبو داود عن شداد بن أوس أن النبي قال: ((خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا في خفافهم)) ، وروى مسلم في صحيحه أن الرسول قال: ((فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر)) ، وروى أبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه أنه قال: ((لا يزال الدين ظاهرًا ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون)) ، ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه كانت اليهود إذا حاضت فيهم المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي رسول الله عن ذلك، فأنزل الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222]، فقال : ((اصنعوا كل شيء إلا النكاح)) ، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه. رواه مسلم في صحيحه.
عباد الله، لقد جاءت أوامر الشريعة ناهيةً عن كل ما فيه مشابهة حتى في أخص عبادات المسلمين ومعاملاتهم، أفيرضى عاقل بعد ذلك أن يوافق اليهود أو النصارى في أعيادهم وأكاذيبهم؟! لما صلى رسول الله في مرضه جالسًا وصلى خلفه الصحابة قيامًا أشار إليهم فقعدوا، فلما سلموا قال: ((إن كدتم آنفًا تفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتمّوا بأئمتكم)) رواه الإمام مسلم. ولما جاء الرسول إلى المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فأمر الناس بصيامه، ثم قال: ((صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود؛ صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده)).
عباد الله، إن اليهود والنصارى لا يقرّ لهم قرار حتى يفسدوا على الناس دينهم، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ [البقرة:109]، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
إن المسلمين ـ أيها الناس ـ أهدى الناس طريقًا وأقومهم سبيلاً وأرشدهم سلوكًا في هذه الحياة، وقد أقامهم الله تعالى مقام الشهادة على الأمم كلها، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]، فكيف يتناسب مع ذلك أن يكون المسلمون أتباعًا لغيرهم من كل ناعق، يقلدونهم في عاداتهم، ويحاكونهم في أعيادهم وتقاليدهم؟! ورسول الله نهى المسلمين جميعًا أن يتلقوا عن أهل الكتاب، فعن جابر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أتى النبي بكتابٍ أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه، فغضب رسول الله ثم قال: ((أوَفي شكٍّ يا ابن الخطاب؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبرونكم بحقٍ فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به. والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيًا ما وسعه إلا أن يتبعني)) رواه أحمد وابن أبي شيبة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاعلموا ـ أيها الناس ـ أن دين الإسلام هو دين الكمال، والتمسك به هو العز، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]، ومع أن الله سبحانه قد حذرنا سلوكَ سبيل المغضوب عليهم والضالين إلا أن قضاءه نافذ بما أخبر به رسوله فيما جاء في الصحيحين أنه قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه)) ، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!)) ، وفي رواية في البخاري: ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراعٍ)) ، قيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ قال: ((ومن الناس إلا أولئك؟!)) ، ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتًا وهديًا، تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا).
عباد الله، ما مات الرسول إلا وقد نهى عن كل ما يدعو إلى المشابهة والمماثلة، حتى إنه في مرض موته طفق يطرح خميصةً على وجهه من شدة الألم، فإذا اغتمّ بها كشفها عن وجهه، ثم قال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)) أخرجاه في الصحيحين، ولكن كم في بلاد الإسلام من قبور نصبت عليها المساجد والمشاهد حتى عبدت من دون الله.
عباد الله، إن مشابهة أهل الكتاب ومشاركتهم في أعيادهم ومناسباتهم توجب عند المسلم نوعَ مودة لهم ولا شك، وإننا لندرك جميعًا أن فئامًا ممن يتشبهون بالكفار في لباسهم أو سلوكهم أو عاداتهم أو يتكلمون بلغتهم أنهم تميل نفوسهم إلى حبهم وتقديرهم والإعجاب بهم والفرح لفرحهم والحزن لحزنهم. فإذا كانوا كذلك فما المانع عند من هذه حاله أن ترنّ نواقيس الكنائس بجوار مآذن المساجد؟! وما المانع عند هؤلاء أن تتعانق الأديان على أرض جزيرة العرب؟! ناسين أو متناسين قول الرسول : ((لا يجتمع في جزيرة العرب دينان)) رواه الإمام مالك.
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89].
أيها الناس، إننا قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة من غيره أذلنا الله.
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
(1/3357)
الوضوء
فقه
الطهارة
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1 - نعمة الإسلام. 2- الأمر بالطهارة. 3- عناية الإسلام بالطهارة والنظافة. 4- فضل الوضوء وأهميته. 5- مواضع يشرع فيها الوضوء. 6- فضل المحافظة على الوضوء. 7- الوضوء عبادة توقيفية. 8- نعمة الماء. 9- التحذير من الوسواس في الطهارة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ بتقوى الله سبحانه وتعالى، فنعمت بضاعة المؤمن التقوى، وهي وصية الله للخلق أجمعين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].
عباد الله، نعم الله على عباده لا تحصى، غير أن هناك نعمة هي أعظم النعم على المسلمين قاطبةً، إنها نعمة الإسلام ودين الحنيفية ملة إبراهيم، الإسلام الذي هو الاستسلام لله تعالى والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، وما من عبادةٍ شرعها الله عز وجل إلا وهي داخلة في الإيمان، يزيد الإيمان بفعلها، وينقص بتركها أو التهاون بها.
وإن من أوائل ما نزِّل على رسولنا من التشريعات قوله تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]، والمقصود من الطهارة هنا كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ثلاثة أنواع: الطهارة من الكفر والفسوق، فكما أن الكافر يوصف بالنجاسة فبعكسهم المؤمن، قال الله تعالى عن المشركين: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، والطهارة من الحدث، والطهارة من النجاسات كلّها.
ولقد امتازت أمة الإسلام عن غيريها من الأمم بالطهارة والنظافة، حتى إن الطهارة من الأحداث تعادل نصف الإيمان، يقول أبو مالك الأشعري: قال رسول الله : ((الطهور شطر الإيمان)) رواه مسلم.
عباد الله، الوضوء هو النظافة والطهارة، فإذا تنظف المصلّي صار وضيئًا مشرقًا مقبلاً على الله. والوضوء فريضة لازمة على كل مسلم، يقول الله تعالى في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6].
إن أعظم ما شرع له الوضوء هو الصلاة، يقول الرسول : ((لا يقبل الله صلاةً بغير طهور)) رواه مسلم، وروى البخاري ومسلم أيضًا أن النبي قال: ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)).
إن من رحمة الله تعالى بكم ـ أيها الناس ـ أن شرع لكم من العبادات ما يكون سببًا لتكفير السيئات، وإن الإنسان لا يمكن أن يصدر أيّ عملٍ إلا من أحد أربعة مواضع هي: الوجه واليدان والرأس والرجلان، فحواس الإنسان تجمَع في هذه المواضع، وقد جاء الوضوء ليكون مكفّرًا لكل ما يصدر من هذه الأعضاء، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إذا توضأ العبد المسلم ـ أو المؤمن ـ فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئةٍ نظر إليها بعينه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيًا من الذنوب)) ، وروى مسلم أيضًا أن الرسول قال: ((من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره)).
عباد الله، إذا جاء يوم القيامة واختلطت الأمم امتازت أمّة محمد بالوضوء، فعن أبي حازم قال: كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة فكان يمد يده حتى يبلغ إبطه، فقلت له: يا أبا هريرة، ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فرّوخ، أنتم ها هنا؟! لو علمت أنكم ها هنا ما توضأت هذا الوضوء، سمعت خليلي يقول: ((تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)) رواه مسلم، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة، وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه، فأنظر إلى ما بين يدي، فأعرف أمتي من بين الأمم، ومن خلفي مثل ذلك، وعن يميني مثل ذلك، وعن شمالي مثل ذلك)) ، فقال رجل: يا رسول، كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟! قال: ((هم غر محجَّلون من أثر الوضوء، ليس أحد كذلك غيرهم، وأعرفهم أنهم يؤتَون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم تسعَى بين أيديهم ذرّيَّتهم)) رواه الإمام أحمد وأصله في الصحيحين.
عباد الله، الوضوء سبب لتكفير الذنوب والخطايا، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما من امرئٍ مسلمٍ تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهرَ كله)) رواه مسلم.
الصلاة مِفتاح الجنة، ومفتاح الصلاة الوضوء، يقول الرسول : ((مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الوضوء)) رواه أحمد والترمذي، بل الوضوء وحده ـ عبادَ الله ـ موجبٌ لانفتاح أبوابِ الجنة الثمانية يتخيَّر العبد أيّها شاء كما صحّ ذلك عن الرسول كما في صحيح مسلم.
عبادَ الله، الشيطان خلقه الله من نارٍ، والنار إنما تطفأ بالماء، ولأجل ذا شرع الوضوء في المواضع التي يشعلها الشيطان أو يحضرها، فالوضوء يخمد ثوران النفس، يقول الرسول : ((إذا غضب أحدكم فليتوضأ)) رواه أحمد.
الإبل خُلقت من شياطين، ألم تروا إلى ما يصاحِب أصحابها من الخيلاء والأنفة والكبر، ولهذا أمر المصلي أن يتوضأ من لحوم الإبل.
إنّ شأن الوضوء أعظم من ذلك، هو طارد للشيطان، قاطعٌ لدابره، فإذا أراد النائم أن يرتاح في نومه فعليه أن يتوضّأ، يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: قال رسول الله : ((إذا أتيتَ مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك...)) الخ الدعاء المتفق عليه. فإذا نام الإنسان على غير وضوء فإنّ نومه مجال للشيطان يلعب فيه ويشوش، فإن استيقظ النائم فبدأ بالوضوء أفسد على الشيطان كلّ ما صنع، يقول الرسول : ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد إذا نام، بكل عقدةٍ يضرب: عليك ليل طويل، فإذا استيقظ فذكر الله عز وجل انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدتان، فإن قام فصلى انحلت عقده الثلاث، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)) متفق عليه. ولا غروَ ـ عباد الله ـ إن فرط النائم في هذه الأمور أن يبولَ الشيطان في أذنيه، ولما أخبِر الرسول عن رجل نام حتى أصبح قال: ((ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه)).
عباد الله، الوضوء مشروع في مواضِع كثيرة، فلا يمسّ القرآن إلا طاهر، ولا يطوف بالبيت محدِث، وإذا كان الإنسان جنبًا فأراد أن يأكل فيسنّ له أن يتوضّأ، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله إذا كان جنبًا فأراد أن يأكلَ أو ينام توضأ للصلاة. رواه مسلم. وروى مسلم أيضًا أن الرسول قال: ((إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ)).
العين حقّ، ومن عان أخاه فليتوضّأ له. لما اغتسل سهل بن حنيف بالخرار، نزع جبةً كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، وكان سهل رجلاً أبيض حسنَ الجلد، فقال عامر: ما رأيت كاليوم، ولا جلد عذراء!! فما تعدّى سهل مكانه حتى وعِك ومرض، فأخبر الرسول فقال: ((علامَ يقتل أحدكم أخاه؟! ألا برّكت عليه؟! إن العين حقّ، توضّأ له)) ، فتوضأ له عامر، فقام سهل ما به بأس. رواه مالك والموطأ.
فاتقوا الله عباد الله، وواظبوا على ما أمركم، تفوزوا وتفلحوا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الذي ميّزنا على غيرنا بالطّهور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ لله، جعل من الماء كل شيءٍ حيّ، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، كان دينه وسطًا بين الغلو والتفريط، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واجعلوها لكم شعارًا ودثارًا.
عباد الله، إن حديثًا عن الوضوء لا بد أن يشتمل على أربعة أمور:
أولها: أن من حافظ على هذا الوضوء في كل يوم وليلة فإنه جدير أن يتصف بالإيمان، ومن هنا نعلم قول الرسول في الحديث الذي رواه ثوبان رضي الله عنه أنه قال: ((استقيموا ولن تحصُوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة, ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)) رواه مالك وأحمد وابن ماجه والدرامي، فما بالكم ـ عباد الله ـ بمن لا يحافظ على الصلاة؟! أترونه يحافظ على الوضوء؟!!
ثاني الأمور عباد الله: أن الوضوء عبادة، وكل عبادةٍ لا بد أن تؤخذ عن النبي ، فهذا الوضوء من نقص فيه عن صفة وضوء رسول الله فقد أخطأ، ومن زاد فقد تعدى. يقول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: رجعنا مع رسول الله من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجّل قوم عند العصر فتوضّؤوا وهم عِجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسّها الماء، فقال رسول الله : ((ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء)) رواه مسلم.
أيها الناس، توضأ رسول الله وغسل أعضاءه مرةً مرةً، وتوضأ أخرى فغسلها مرتين مرتين، وتوضأ ثالثة فغسل أعضاءه ثلاثًا ثلاثًا، فمن زاد عن الثلاث فقد خالف السنة، وجاء أعرابي إلى رسول الله يسأله عن الوضوء، فأراه الوضوء ثلاثًا ثلاثًا ثم قال : ((هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم)) رواه النسائي وابن ماجه بأسانيد صحيحة.
وروى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن المغفل رضي الله عنه أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: أي بنيّ، سلِ الله الجنة وتعوّذ به من النار، فإني سمعت رسول الله يقول: ((سيكون في أمتي قوم يعتدون في الطهور والدعاء)).
ثالث الأمور عباد الله: أن هذا الوضوء الذي يتجدد على المرء في يومه وليلته يذكّرنا بنعمةٍ عظمى منَّ الله بها على عباده وهي نعمة الماء الطهور: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30]، أنزل الماء ليكون رِيًّا للظمآن وإنباتًا للزرع وإدرارًا للضرع وتطهيرًا للأبدان وجمالاً للمنظر، ألم تروا أن البلدَ إذا أجدب من المطر والغيث ذهب عنه نوره وبهاؤه؟!
وإنّ الوضوء لم يكن ولن يكون أبدًا بابًا من أبواب الإسراف في الماء، فلقد كان يتوضّأ بالمدّ ويغتسل بالصاع، وكان أوفر الناس شعرًا، فما أدري الآن ما منزلةُ الصاع من وضوء أحدِكم فكيف بغسله؟!
يقال في الحكمة: "مِن وَهنِ عِلم الرجل ولوعُه بالماء في الطهور"، وجاء في حديث في سنده ضعف أن الرسول مرّ على سعد وهو يتوضأ فقال: ((ما هذا السرف يا سعد؟)) قال: أفي الوضوءِ سرف يا رسول الله؟! قال: ((نعم، وإن كنتَ على نهرٍ جارٍ)) رواه أحمد وابن ماجه.
عباد الله، خير ما يقال في هذا المقام: ما عرف قدر الماء من أسرف في الماء.
رابع الأمور المتعلقة بالوضوء: أنه كما أن الوضوء يطرد به الشياطين فإنّ الوضوء مرتَع خصب يجول الشيطان من خلاله على قلوبِ بني آدم، يقول إبراهيم بن أدهم: "يقال: إنّ أول ما يبتدئ الوسواس من قبل الطهور"، ويقول الحسن البصري: "إن شيطانًا يضحَك بالناس في الوضوء، يقال له: الولهان".
فترى أحدَهم إذا جاء للوضوء لعِب به الشيطان، فجعل يخلِط عليه نيّته، يقول: أرفع الحدث لا بل أستعدُّ للصلاة، لا بل أتطهَّر، إلى غير ذلك من ألفاظ يلبِّس بها الشيطان على أهل الوضوء، بل ربما فاتَ الإنسان وقت الصلاة وهو لا يزال في معركةِ وضوئه، يتوضّأ أحدهم بما يعادل القلّتين من الماء، ولا زال في نفسه: أبَلغَ الماء إلى جميع مواضع الوضوء أم لا؟!
ويؤثَر أنّ أحد المبتلَين رأى أبا الوفاء بن عقيل يتوضّأ، فتعجّب من قلة استعماله الماء، ثم قال: إني لأنغمس في النهر ثم أخرج منه وأشك: هل صحّ وضوئي أم لا؟ فقال له ابن عقيل: لقد سقطَت عنك الصلاة؛ لأن الرسول يقول: ((رفع القلم عن ثلاثة)) وذكر منهم: ((المجنون حتى يفيق)) ، وأنت هو.
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [سورة الناس].
اللهم صلّ على معلم الناس الخير محمدٍ ، وارض اللهمّ عن أصحابه أجمعين...
(1/3358)
الصلاة: أهميتها وجزاء تاركها
فقه
الصلاة
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مكانة الصلاة في الإسلام. 2- خصائص الصلاة. 3- من فضائل الصلاة. 4- الصلاة مفزع وملاذ. 5- حقيقة إقامة الصلاة. 6- التحذير من تأخير الصلاة عن وقتها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله حقّ التقوى، فإنها خير وصية أوصى بها رجل أخاه، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
عباد الله، يقول الله سبحانه: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45]، إن أعظم أركان الإسلام بعد تحقيق التوحيد هي الصلاة، وهي عمود الدين، هي شعار الموحدين، هي الفاصلة بين الإسلام والكفر.
عباد الله، ما بلغت الصلاة هذه المكانة إلا لِما امتازت به على سائر الأعمال، فلقد خص الله سبحانه الصلاة بأمورٍ ليست موجودة في غيرها من العبادات:
فمن ذلك ـ عباد الله ـ أنها فرضت في السماء السابعة، ومن الله مباشرة بدون واسطة جبريل، وذلك ليلة الإسراء والمعراج، أما غيرها من العبادات فكان جبريل فيها واسطة بين الله سبحانه وبين الرسول.
الصلاة ـ أيها الإخوة ـ يؤمر بها كل مسلم بلغ سبع سنين، ولا تسقط عن البالغ سفرًا ولا مرضًا، ولا تجب على أحدٍ دون أحدٍ، أما غيرها من العبادات فلا تجب على كل مسلم، فالصوم لا يجب إلا على القادر، والزكاة لا تجب إلا على من عنده مال وبلغ نصابًا، والحج لا يجب إلا على المستطيع.
عباد الله، من خصائص الصلاة أنها هي آخر ما يرفع من الدين كما صح ذلك عن رسول الله.
الصلاة هي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، يقول الرسول : ((أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن صلحت صلح له سائر عمله, وإن فسدت فسد سائر عمله)) رواه أحمد وأبو داود وغيرهما بأسانيد صحيحة.
اختصت الصلاة ـ عباد الله ـ بأن من تعمد تركها فإنه يكفر على الصحيح من أقوال أهل العلم ولو كان تركًا من غير جحود، أما العبادات غيرها فلا يكفَّر تاركها إلا بالجحود، يقول الرسول : ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، من تركها فقد كفر)) ، ويقول عبد الله بن شقيق: ما كان أصحاب رسول الله يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.
من خصائص الصلاة ـ عباد الله ـ أنها عبادة الأنبياء، يقول الله عن زكريا: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [آل عمران:39]، ويقول الله سبحانه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم:45، 55].
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة كذبات إبراهيم عليه السلام قال رسول الله : ((وبينما إبراهيم ذات يوم ومعه سارة، إذ أتى على أرض جبارٍ من الجبابرة، فقيل له: إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنها، فقال: من هذا؟ قال إبراهيم: هذه أختي، فأتى سارة وقال: يا سارة، ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني عنك فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني، فأرسل إليها، فلما دخلت عليه ذهب الجبار يتناولها بيده فأُخِذ، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت الله فأطلِق، ثم تناولها الثانية فأخِذ مثلَها أو أشدّ، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت فأطلِق، فدعا بعض حجبته فقال: إنكم لم تأتوني بإنسانٍ، إنما أتيتموني بشيطان، فأخدَمَها هاجر، فأتت إبراهيم وهو قائم يصلي، فأومأ بيده: مهيم؟ قالت: رد الله كيد الكافر في نحره وأخدم هاجر)).
عباد الله، إن من فضائل الصلاة أنها هي قرّة عين النبي ، روى الإمام أحمد والنسائي عن أنس رضي الله عنه أن النبي قال: ((حبِّب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)).
أيها الناس، إن أمرًا هذا صفته وعبادةً هذه فضائلها جديرةٌ بأن تكون حلاًّ لكثير من المشاكل ومفزَعًا في كثير من الملمّات، ولقد كان يقول لبلال: ((أرحنا بالصلاة يا بلال)).
ما من مشكلة إلا والصلاة حلّ لها:
إذا أجدَبت الأرض وقحط المطر ونشف الضرع أمِرنا أن نفزع إلى الصلاة.
إذا تغيّر مجرى الكون واختلّ نظامه فذهب نور الشمس وأظلم القمر أمِرنا أن نفزع إلى الصلاة، في البخاري ومسلم: ((إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتموها فادعوا الله وصلوا)).
إذا مات المسلم وغادر هذه الحياة وابتدأ حياةً جديدةً أمِرنا أن نودِّعه بالصلاة.
إذا اضطرَبت أمور المؤمن وضاق عليه أمره فلا يدري أيذهب أم يعود أيفعل أم يترك أمِرنا أن نلجأ إلى الصلاة، في البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلّمنا السورة من القرآن يقول: ((إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك...)) الدعاء المعروف.
إذا نام الإنسان ففزع في نومه وأقلقَته أحلام الشيطان أمِر أن يلجأ إلى الصلاة، في البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: ((إذا رأى أحدكم رؤيا يكرهها فلا يحدِّث بها أحدًا وليقم فليصلّ)) ، وفي البخاري عن عبادة مرفوعًا: ((من تعارّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، والحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم دعا استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته)).
إذا قدم الإنسان من سفر وألقى رحالَه أمِر أن يبدأ بالصلاة، في البخاري ومسلم أن النبيّ كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين. وفي البخاري أن الرسول لما اشترى جمل جابر وهما في سفرٍ أمره إذا وصل المدينة أن يبدأ بالصلاة.
إذا عصى المؤمن ربّه وأخطأ في حقّ مولاه فأذنب ذنبًا ثم ندم على فعله أمِرنا أن نلجأ إلى الصلاة، روى الترمذي وأبو داود وابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما مِن رجل يذنب ذنبًا ثم يقوم فيتطهّر ثم يصلّي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له)) ، ثم قرأ: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران:135].
إذا تعرّض المؤمن للقتل من الكفار يريدون بذلك صدَّه عن دينه سُنّ له أن يركَع ركعتين، في البخاري أن كفار قريش لما اشتروا خبيب بن عدي ممن أسَروه، ثم لما أرادوا قتلَه وخرجوا به إلى الحِلّ قال لهم خبيب: ذروني أركع ركعتين، فتركوه فركع ركعتين، ثم قال: لولا أن تظنّوا أنّ ما بي جزع لطوّلتهما، اللهمّ أحصِهم عددًا، ثم قال:
ولست أبالى حين أقتل مسلما على أيّ جنبٍ كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أشلاء شِلوٍ ممزّع
فقتله ابن الحارث. يقول راوي الحديث: فكان خبيب هو سنَّ الركعتين لكلّ امرئٍ مسلمٍ قتل صبرًا.
عباد الله، أيستبيح مسلم لنفسه بعد أن عرَف أهمية الصلاة وفضلها أن يتركها أو يتهاون بها؟! ألا فليبشر فاعل ذلك إن لم يتب بالعذاب يومَ القيامة.
بارك الله لي ولكم فيما نقول ونسمع، وجعلنا هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمّد.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، أحمده وأشكره، لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عباد الله، إن الإنسانَ لا يكون مقيمًا للصلاة بتأديته لها وكأنه يلقي حملاً ثقيلاً عن ظهره، إن إقامة الصلاة التي أمر الناس بها هي المحافظة عليها وأداؤها تامةً كاملةً بأركانها وواجباتها، وأن تكون الصلاة زاجرةً للمرء عن المعاصي، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (من حفظها وحافظ عليها حفِظ دينه، ومن ضيّعها فهو لما سواها أضيع).
عباد الله، إن من أكبر الكبائر وأعظم المعاصي ومن أفحش الذنوب تأخير الصلاة عن وقتها، أو النوم عنها وتجاهل أمرها، أيرضى عاقل أن يضيّع دينه بإضاعته للصلاة؟! إن المؤمن اللبيب هو الذي يجعل أوقات الصلوات الخمس مبدأ لتنظيم حياته، لا أن يجعل أوقاته طاغيةً على وقت الصلاة.
روى البخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله ذاتَ غداة: ((إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق؟ وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجِع، وإذا آخَر قائم عليه بصَخرة، وإذا هو يهوي بالصّخرة على رأسِه فيثلغ رأسِه، فيتدهده الحجر ها هنا، فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصحّ رأسه كما كان، ثم يعود إليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى، قال: قلت لهما: سبحان الله!! ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا)) ، ثم ذكر أنواعًا من أقوام يعذبون، ثم لما انتهيا قال لهما الرسول : ((لقد رأيت منذ الليلة عجبًا، فما هذا الذي رأيت؟)) قال: ((فقالا لي: أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآنَ ويرفضه، والرجل ينام عن الصلاة المكتوبة)).
أيها الناس، إنّ صلاةَ الفجر لتشتكي من هجرانِ الناس لها، ألا فليتق الله امرؤ خاف عذابَ الله، ألا فليتق الله امرؤ يخاف على أولاده وأهل بيته من النار، ألا فليتّق الله امرؤ عاقل عرف مصلحة نفسه، أيرضى عاقل أن تدركه الصلاة المكتوبة فلا يؤديها إلا بعد خروج وقتها، أما أمور الدنيا فالناس في تسابق إليها؟!
عباد الله، الصلاة شعار الأعمال، فمن حافظ على الصلاة فحريّ به أن يحافظ على سائر الأعمال، ومن ضيّع الصلاة فهو لما سواها من الأعمال أشدّ تضييعًا.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
(1/3359)
الزكاة وضرر منعها
فقه
الزكاة والصدقة
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تخويف الله تعالى عباده بالآيات. 2- نعمة المطر. 3- عقوبة منع الزكاة في الدنيا. 4- فضل الصدقة. 5- فريضة الزكاة. 6- التحذير من العجب بالطاعات. 7- التكافل الاجتماعي في الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العزيز الحميد، فاتقوه حقّ تقاته، واحذروا بطشه الشديد، واعلموا أنه قد أحاط بكل شيء علمًا, فلازموا أدب العبد مع ربه.
عباد الله، يقول الله سبحانه: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء:59]، إنّ حكمةَ الله اقتضت أن العبادَ ما عملوا عملاً على خلاف شرع الله إلا وعاقبهم من العقوبات في الدنيا ما يكون فيه اعتبارهم، وما من عقوبةٍ إلا وبينها وبين المعصية تناسبًا ظاهرًا أو باطنًا.
قوم سبأ أعطاهم الله الجنتين وطلب منهم أن يعبدوه ويشكروه، فلما عصوه وعاندوه عاقبهم بما كان نعمةً لهم في وقت من الأوقات، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ [سبأ:16]، ويقول الله عن قوم هود: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:24، 25].
عباد الله، المطر نعمة لا يعدلها نعمة، به حياة الأرض، وبه حياة الأبدان، إذا جاء المطر فرح به الناس حتى وإن كانوا في طرق معبدة وبيوت متقنة، وما ذاك إلا تيمّنًا منهم بما يعود به المطر من المعاني التي تصاحبه عند نزوله، ولهذا كان النبي إذا رأى سحابة احمر وجهه وتغيرت حاله، فإذا أمطرت السماء سرّي عنه، وقال: ((إن قومًا فرحوا بالسحاب فأصابهم ما أصابهم)) ، وإن حرمان البلدان من الأمطار ما هو إلا إنذار وتهديد من الله لعباده؛ ليعودوا إلى رشدهم وينظروا في أنفسهم، وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء:59].
عباد الله، يقول الرسول : ((خمس خصال إن ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن)) ، وذكر منهن: ((ولم يمنع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء, ولولا البهائم لم يمطروا)) رواه ابن ماجه والبزار والبيهقي عن عبد الله بن عمر.
فانظروا ـ رحمكم الله ـ إلى هذا التوافق، لمّا منع الناس إخراجَ ما بأيديهم من الزكاة منع الله القطرَ أن ينزل من السماء، وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن:16].
كثيرًا ما يستسقي الناس في خطبهم وفي صلواتهم فلا يسقون في الحال، بل ربما أقاموا صلاة الاستسقاء مرة بعد مرة، فلا يظهر لهم معالم استجابة، أفلا يكون هذا الأمر رادعًا لأصحاب الأموال أن يخرجوا ما بأيدهم؟!
أيها الناس، روى الإمام مسلم والإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة: اسقِ حديقة فلان، فتنحّى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجةٌ من تلك الشراج قد استوعبَت ذلك الماء كلّه، فتتبَّع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحوّل الماء بمسحاته فقال له: يا عبد الله، ما اسمك؟ قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له: يا عبد الله، لم تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان، لاسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وأرد فيها ثلثه)). هذا ـ عبد الله ـ رجل عرف الله، فكافأه الله على فعله.
عباد الله، الزكاة حقّ افترضه الله للفقراء في أموال الأغنياء. الزكاة فريضة المال، أوجبها الله على من ملك نصابًا من الأموال، وله المنة سبحانه في ذلك عليهم، حيث وهبهم الكثير، وجعلهم أمناء عليه، ينفذون فيه أمره، ويتسابقون في دفع الحاجة عن عباده الفقراء، آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7].
في إخراج الزكاة إخلاص العبودية لله سبحانه؛ فإن شهادة أن لا إله إلا الله تتضمن إفراد المعبود سبحانه بالعبادة، وإن من شروط الوفاء به أن لا يبقى للموحّد محبوب لذاته سوى الواحد الفرد، وإنما يمتحن المحبّ بتخلّيه عن محبوبة، والأموال محبوبة عند الخلائق؛ لأنها آلة تمتُّعهم بالدنيا، وبسببها يأنسون بهذا العالم وينفرون عن الموت، ولهذا تجد المرء يفادي بنفسه وماله كل شيء؛ ولهذا امتحنهم الله بهما، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ [التوبة:111].
روى الإمام أحمد والحاكم واللفظ له وصححه عن بشير بن الخصاصية رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله لأبايعه على الإسلام، فاشترط عليّ: ((تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وتصلي الخمس, وتصوم رمضان، وتؤدي الزكاة, وتحج البيت، وتجاهد في سبيل الله)) ، قال: قلت يا رسول الله، أمّا اثنتان فلا أطيقهما، أما الزكاة فما لي إلا عشر ذودٍ هنّ رسل أهلي وحمولتهم، وأما الجهاد فيزعمون أنه من ولّى في المعركة، فقد باء بغضب من الله، فأخاف إذا حضرني قتال كرهت الموت وخشعت نفسي، قال: فقبض الرسول الله يده ثم حركها، ثم قال: ((لا صدقةَ ولا جهاد، فبم تدخل الجنة؟!)) قال: ثم قلت: يا رسول الله، أبايعك عليهن، فبايعني عليهن كلّهن.
الزكاة ـ عباد الله ـ لا بد من إخراجها طيبةً بها نفس مخرجها، وينبغي أن يستصغرها؛ فإن من استعظم زكاته أعجِب بها، والعُجب من المهلكات، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا [التوبة:25], ويقال: إن الطاعة كلما استصغِرت عظمت عند الله تعالى، والمعصية كلما استعظمت صغرت عند الله سبحانه. وقيل: "لا يتم المعروف إلا بثلاثة أمور: تصغيره وتعجيله وستره".
روى البيهقي في شعب الإيمان بإسناد حسن عن عبد الله بن معاوية الغاضري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان: من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه كلّ عام، ولا يعطي الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة ـ يعني رذائل المال ـ ، ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره)).
ولقد كان عبد الله بن عمر يتصدق بالسكّر، فلما قيل له قال: (أليس الله يقول: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]؟! وإنّ أحبَّ ما أحِبّ السكر).
عباد الله، كان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا جاء رمضان خطب الناس وقال: (هذا شهر الزكاة، فأخرجوا فيه زكاة أموالكم).
أيها الناس، بذل المنفقين وإحسان المحسنين وسيلة من وسائل رضا رب العالمين، فبادروا بأعمالٍ علكم أن تلقوا بها مغفرة من ربكم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي جعل الأموال عونًا للمؤمن على أمور دينه ودنياه، سبحانه من إله أعطى الكثير كرمًا منه وإحسانًا، وفرض الزكاة على عباده ابتلاءً وامتحانًا، ولطفًا بالمؤمنين وامتنانًا، أحمده سبحانه على نعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس.
لقد جاء الإسلام بالتكافل بين عموم أفراده، يقول الرسول : ((من كان له فضل زادٍ فليعد به على من لا زاد له، ومن كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له)) ، قال أبو سعيد: وذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حقّ لأحد منا في فضل ماله. رواه مسلم.
عباد الله، إن تكاليف الحياة كثيرة ومتزايدة، التكاليف ترهق الكاسب وتفتن الكاسد، الكاسب تتضاعف عليه النفقة، فما الحال بالمعدم الكاسد؟! وصفهم رسول الله فقال: ((ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئًا)) ، كما قال الله تعالى: يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ [البقرة:273].
كم في الناس ـ عباد الله ـ من أرملة تضمّ أيتامًا لا عائل لهم، ولا تستطيع الكسب فتنفق عليهم. كم في الناس من شيخ كبير وهن منه العظم، وما عنده ما يستعين به على عجزه، ولا ولد بارّ يسعفه في شيخوخته، كم في الناس من عاجز أقعدته عن الكسب زمانته، أولئك ـ عباد الله ـ ومن على شاكلتهم في حاجة إلى التخفيف من متاعبهم في زمن عضّهم فيه الفقر وأثقلت كواهلهم النفقات.
روى الإمام أحمد وغيره عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: أتيتُ رسول الله وهو في المسجد.. الحديث وفيه: قال: قلت: يا رسول الله، فما الصدقة؟ ـ أي: ما ثوابها؟ ـ قال: ((أضعاف مضاعفة، وعند الله مزيد)) ، قال: قلت: أيها أفضل يا رسول الله؟ قال: ((جهد من مقل أو سرّ إلى فقير)) ، ويقول الشعبي رحمه الله: "من لم ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته وضرب بها وجهه".
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/3360)
الحرص على العمل الصالح وعدم استقلاله
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعدد وجوه الحث على الأعمال الصالحة في القرآن الكريم. 2- وسيلة للتشجيع على العمل الصالح. 3- لذة العبادة. 4- تنوع الأعمال الصالحة. 5- التحذير من الاستهانة بالعمل الصالح. 6- تفاوت الأعمال الصالحة في الأجر باختلاف الأوقات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى أيها الناس، وبادروا بالعمل الصالح؛ فإنه لا نجاة لكم إلا به، ولا ينفعكم سواه، هو زادكم في الآخرة، وطريقكم إلى الجنة، هو الذي خلقكم من أجله، وأعطيتم المهلة والصحة والغنى والفراغ لتحقيقه، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ [المؤمنون:99، 100].
عباد الله، كرر القرآن الكريم وأعاد في الحث على الأعمال الصالحة والسعي إليها، جاء ذلك بطرق متعددة: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51], وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:105]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77].
أخبر الله سبحانه في كتابه أنه خلق السماوات والأرض والموت والحياة وجميع ما على الأرض ليبتلي العباد ويختبرهم ويعرف أيهم أحسن عملاً: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود:7]، إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف:7].
عباد الله، أعظم وسيلةٍ لتشجيع العاملين وحفز همم المتقاعسين هي المجازاة على الأعمال، إن خيرًا فبالإحسان والجائزة, وإن شرًا فبالنقمة وعسير المؤاخذة, ليزيد المحسن في إحسانه, ويقلع المسيء عن إساءته.
وإن الجزاء على الأعمال الصالحة يتنوع، ففي الدنيا نعيم وسرور ولذة، وما في الآخرة أعظم، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124، 123].
عباد الله، إن انشراح صدر المؤمن بنوافل العبادات أمر لا بد منه، فصاحب النوافل المحافظ عليها في سرور ولذة دائمة، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "ولا تظن أن قوله تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13، 14] يختص بيوم المعاد فقط، بل هؤلاء في نعيم دائم في دورهم الثلاثة ـ يعني في الدنيا وفي القبر ويوم القيامة ـ، وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة".
بل إن نوافل العبادات ـ أيها الناس ـ من أحب الأعمال إلى الله، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله تعالى يقول: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن؛ يكره الموت وأنا أكره مساءته)).
عباد الله، الأعمال الصالحة ليست قاصرة على عمل واحد، بل كل ما أمر الإنسان به من قول أو عمل فإنه يتقرب إلى الله به، ولقد كافأ الله أقوامًا على أعمال عملوها لما أخلصوا فيها لله سبحانه وتعالى.
الصلاة عمود الدين، من تركها فقد كفر، ومع ذلك فمن تنفل بشيء من الصلوات فإن له منزلة عند الله، ولقد رفع الله أقوامًا وبلّغهم منازل في الجنة بنوافل الصلوات، فهذا بلال بن رباح رضي الله عنه كان لا يساوي عند أهل مكة شيئًا، لما صدق العهد مع الله سبق الرسولَ في الجنة، يقول بريدة بن الحصيب رضي الله عنه: أصبح رسول الله ، فدعا بلالاً فقال: ((يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة؟! فما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي)) ، فقال بلال: يا رسول الله، ما أذّنت قطّ إلا صليت ركعتين، وما أصابني حدث قطّ إلا توضّأت عندها، ورأيت أن لله عليّ ركعتين، فقال رسول الله : ((بهما)) رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححاه.
الصوم ـ عباد الله ـ قربة يتَقرّب بها إلى الله، ولقد تكفل الله لعبد صام أن يباعد وجهه عن النار سبعين خريفًا كما روى ذلك أصحاب السنن.
الزكاة حقّ مفروض واجب على كل من توفرت فيه الشروط، ومع ذلك فمن تزوّد من الصدقة فقد تقرّب إلى الله تعالى، ولقد بلغ عثمان بن عفان رضي الله عنه منزلة رفيعة بفضل صدقته. لما جاء المهاجرون إلى المدينة لم يكن بها ماء عذب إلا بئر رومة، وكان صاحبها يبيع ماءها، فقال رسول الله : ((من يشتري بئر رومة وله الجنة؟)) فاشتراها عثمان. رواه الترمذي. ولما جاءت غزوة تبوك كان الصحابة في حاجة ماسة إلى المال، فجاء عثمان بألف دينار، فصبها في ثوب النبي ، فجعل رسول الله يحركها ويقول: ((ما على عثمان ما فعل بعد اليوم)) رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي.
عباد الله، خرج الصحابة يوم بدر مع رسول الله لا يريدون غزوًا، وإنما يريدون قافلة، فإذا هم بجيش قريش، فثبتوا وثبّتهم الله، ولم يضِع الله جهدهم، بل أعطاهم منزلة ليست لغيرهم، ولهذا لما غضب عمر بن الخطاب على حاطب بن أبي بلتعة قال له رسول الله : ((أليس قد شهد بدرًا؟!)) قال عمر: نعم، فقال رسول الله : ((وما يدريك يا عمر، لعل الله اطلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) رواه البخاري.
إن الإنسان ليتقرب إلى الله بأعمال يظنها يسيرة، ولكنها عند الله عظيمة، وهذه أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ناصرت الرسول في أحرج الأوقات: والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر. فما ضاع ذلك عند الله، بل جاء جبريل إلى رسول الله ذات يوم فقال له: (هذه خديجة قد أتت معها إناءٌ فيه طعام، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا نصب فيه ولا صخب) متفق عليه.
خزيمة بن ثابت رجل من عامة الصحابة أراد الله به الخير فدله على الخير، روى أبو داود أن رسول الله ذات يوم اشترى فرسًا من أعرابي، وطلب منه أن يتبعه إلى بيته ليأخذ الثمن، فلما خرج الأعرابي جعل الناس يساومون في الفرس، وما علموا أن رسول الله قد اشتراه، فقال الأعرابي لرسول الله : إن الثمن قد زاد، فقال له رسول الله : ((أما بعتني؟!)) فقال الأعرابي: لم أبعك، ألك شهود؟ والرسول يقول: ((بلى، قد بعتني)) ، فقام خزيمة بن ثابت فقال: أنا أشهد أنك قد بعته على رسول الله، فأقبل الرسول على خزيمة وقال: ((كيف تشهد وأنت لم تره؟!)) فقال خزيمة: نصدّقك في خبر السماء ولا نصدقك في خبر الأرض؟!
فانظروا ـ عباد الله ـ إلى هذه الفطنة العجيبة من خزيمة بن ثابت، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269]. لقد كافأ رسول الله خزيمة مكافأة لا يبلغها أحد مهما بلغ من المكانة والشرف، لقد جعل شهادته تعادل شهادة رجلين حتى صار يسمى بين الصحابة: ذا الشهادتين.
عباد الله، أعمال يسيرة بلغ بها أصحابها منازل رفيعة في الدنيا والآخرة، لما صدقوا ما عاهدوا الله عليه إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13].
فاتقوا الله عباد الله، واستعدوا ليوم القيامة يوم الجزاء والمحاسبة، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8].
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي نوع بين أوقات الطاعات، أحمده سبحانه وأشكره، لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
أما يعد: فإن من رحمة الله بعباده أن فارق بين الساعات في الأجر والدرجات ليختبر الصادقين فيسهل لهم أعمالاً في وقت دون وقتٍ، ليعرف الجاد من الهازل والصادق من الكاذب.
عباد الله، الليل محلّ لمضاعفة الجزاء واستجابة الدعاء، إذا خمدت الأصوات ونامت العيون آن للمحب أن يلتقي مع ربه في ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل خيرًا إلا أعطاه، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16، 17]، يقول الرسول : ((يا أيها الناس، أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصِلوا الأرحام، وَصَلّوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، ويقول سهل بن سعد فيما رواه الطبراني بسند حسن: جاء جبريل إلى رسول الله فقال: (يا محمد، غش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزيّ به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس)، يقول يحيى بن معاذ: "الليل طويل فلا تقصره بمنامك".
أيها الناس، إن أمامنا بابًا مفتوحًا كلّ ليلة لرفع الدرجات وحطّ الخطيئات، فما بالنا قصّرنا فيه؟! روى الإمام أحمد والترمذي أن النبي قال: ((إن في الجنة غرفًا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها))، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لمن أطعم الطعام وأفشى السلام وصلى بالليل والناس نيام)).
وروى محمد بن نصر أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (إن الله يضحك إلى رجلين: رجل قام في ليلة باردة من فراشه ودثاره ولحافه ومن بين أهله وجيرانه، فتوضأ ثم قام إلى الصلاة، فيقول الله لملائكته: ما حمل عبدي على ما صنع؟ فيقولون: ربّنا رجاء ما عندك، فيقول الله: فإني أشهدكم أني أعطيته ما رجا وأمنته مما يخاف).
فاتقوا الله عباد الله، واغتنموا أيامكم ولياليكم فيما ينفعكم، فإن مهلة الإنسان في هذه الدنيا قصيرة، ومدته محدودة، وأجله مقدّر، والإنسان في هذه الحياة رهن لعوارض تعوقه عن العمل، فحريّ بالعاقل اغتنام الفرص قبل فواتها.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن الله أمركم بالصلاة على رسوله فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
(1/3361)
تعليم النبي لأصحابه
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
الشمائل, العلم الشرعي
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل هذه الأمة. 2- نعمة بعثة النبي معلّما. 3- حرص النبي على تعليم أمته. 4- أهمية التعليم التطبيقي. 5- تعليم النبي بأخلاقه. 6- مصيبة قصر العلم على المدرسة. 7- مبادرة العلم والجد في طلبه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فأوثق العرى كلمة التقوى.
أيها الناس، إن هذه الأمة أمةَ محمد خير أمة أخرجت للناس، الصدارةُ منزلتها، والقيادة مرتبتها، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]. إن مصدر أصالة الأمة ومنبر توجيهها ومنار تأثيرها هو التمسك بتعاليم دينها، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]. هكذا أراد الله لها إن هي استقامت على النهج وقامت بالحق.
إن أمةً رفع الله من شأنها ليس لها أن تنحدر إلى مستوى التقليد والتبعية، وإن أمة قد وضحت لها المعالم من السفاهة أن تطلب الحقَّ في معالم غيرها.
عباد الله، إن أعظم مِنّة منّ الله بها على هذه الأمة هو أن بعث فيهم محمدا مبشرًا ومنذرًا، وقبل ذلك وذاك معلما ومرشدا، لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]. حين دعا إبراهيم عليه السلام لذريته من بعده دعا لهم بكل خير، ولكنه لم ينس أن يسأل الله لهم بالمعلّم الناصح والمرشد الموجه: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، فلما أوجد الله هذا الرسول جعل وجوده قاطعًا للعذر مقيمًا للحجة، كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:151، 152].
وما مات حتى علم الناس كل شيء، روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر رضي الله عنه قال: لقد تركنا محمد وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا عنه علمًا.
عباد الله، لقد أفنى رسول الله عمره كله في سبيل تعليم أمته ونشر الدين بينهم.
كان صلوات ربي وسلامه عليه يعلم الناس على جميع أحواله، في مسجده، في خطبة الجمعة، في مواعظه لأصحابه، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إني لأتخوّلكم بالموعظة كما كان رسول الله يتخوّلنا بالموعظة مخافة السآمة علينا.
بيته مدرسة، ولهذا كان الصحابة إذا اختلفوا في أمر ذهبوا إلى بيوت النبي يسألون زوجاته عن عمله في بيته.
كان يعلم الناس وهو واقف على ناقته، يقول عبد الله بن عمرو بن العاص: لقد رأيت النبي وهو واقف على ناقته في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فما سئل عن شيء قدِّم ولا أخِّر إلا قال: ((افعل ولا حرج)) رواه البخاري.
عباد الله، لقد كان لا يدع فرصةً للتعليم إلا اغتنمها، يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: كنت يومًا خلف النبي على الدابة، فقال: ((يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك..)) الحديث رواه الترمذي. ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه: كان النبيّ على حمار، وكان معاذ رديفه، فقال: ((يا معاذ بن جبل)) ، فقال معاذ: لبيك يا رسول الله وسعديك ـ ثلاثًا ـ، ثم قال: ((ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صِدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار)) متفق عليه.
أيها الناس، يقول منظرو التعليم: إن التعليم التطبيقي أرسخ من التعليم النظري، ولقد سبقهم إلى ذلك محمد ، يقول عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه كنت غلامًا في حجر رسول الله ، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله : ((يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)) متفق عليه. وكان يمشي ومعه الحسن بن علي، فوجد تمرةً، فأخذها الحسن، فقال : ((كخ كخ، أما علمت أنّا لا تحلّ لنا الصدقة؟)).
عباد الله، إن أمر تعليم الناس أمر عظيم، حتى إنه ليوقف غيره من العبادات لأجل العلم، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي رفاعة العدوي رضي الله عنه قال: انتهيت إلى النبي وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله، رجل غريب يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، قال: فأقبل عليّ رسول الله وجعل يعلّمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها.
أيها الناس، لئن كان يعلّم الناس بأقواله وأفعاله فلقد كان يعلمهم بأخلاقه، يقول معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: بينا أنا أصلي مع رسول الله إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكلَ أمياه! ما شأنكم تنظرون إليّ؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكتّ، فلما صلى رسول الله فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: ((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)) رواه الإمام مسلم.
عباد الله، بمثل هذه الأعمال من المصطفى علّم أمته كلَّ شيء، حتى بلغ من ذلك أن بعض المشركين قال لسلمان الفارسي: إنا نرى صاحبكم يعلمكم كل شيء حتى الخراءة! قال سلمان: نعم، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع دابةٍ أو عظم.
إن مستوى التعليم في زماننا لم يضعف ولم يهتزّ بنيانه إلا حينما قصرناه على جوانب محدودة فقط. إن التعليم ليس مقصورًا على مدرسة تفتح ثم تغلق ثم تفتح، إنّ الحياة كلها مجال للتعليم، البيت مدرسة، الأب مدرسة، الأم مدرسة، المسجد مدرسة، السوق مدرسة، كل واحدٍ من الناس مدرسة في أخلاقه وتصرفاته. لما بنيت المدارس ـ وأول ما بينت ببغداد ـ قال علماء ذلك العصر: "اليوم ينعَى العلم ويودِّعه أهله".
ألا فاتقوا الله عباد الله، وتفقهوا في دينكم، وليقِم كلّ واحدٍ منكم نفسه معلمًا لغيره.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حقَّ حمده، أفضل ما ينبغي لجلال وجهه، أحمده سبحانه لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: روى الإمام الدارمي في سننه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لما توفي رسول الله قلت لرجل من الأنصار: يا فلان، هلمَّ فلنسأل أصحاب رسول الله فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجبًا لك يا ابن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله من ترى؟! فترك ذلك وأقبلتُ أنا على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل، فأتوسّد ردائي على بابه، فتسفي الريح على وجهي التراب، فيخرج فيراني، فيقول: يا ابن عمّ رسول الله، ما جاء بك؟ ألا أرسلتَ إلي فآتيك؟! فأقول: أنا أحقّ أن آتيك، فأسأله عن الحديث، قال: فبقي صاحبي الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس علي، فقال: كان هذا الفتى أعقل مني.
عباد الله، إن السابقين ما نالوا من العلم ما نالوه إلا بالمشقّة والمكابدة، وإننا لن نصل إلى مثل ما وصلوا إليه في وقتهم إلا بمثل ذلك العناء والمكابدة.
أيها الناس، إنه وإن تعددت وسائل التعليم وطرائقه إلا أنه بقدر ذلك تتعدّد المغريات والملهيات، وإن خطرها وتأثيرها لمِن أشدِّ ما يواجِه المعلّم في هذا العصر، فاتقوا الله عباد الله، وتواصوا فيما بينكم بالحق، وتواصوا بالصبر.
اللهم إنا نسألك علمًا نافعًا وقلبًا خاشعًا ولسانًا ذاكرًا.
اللهم صلّ على عبدك ورسولك محمد...
(1/3362)
السفر قطعة من العذاب
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل السياحة في الأرض والتأمل في عجائب الكون. 2- أهمية السفر وحاجة الناس إليه. 3- السفر يسفر عن معادن الناس. 4- مذاهب الناس وأهواؤهم في السفر. 5- فوائد السفر. 6- مساوئ السفر. 7- حكم السفر. 8- السفر في الزمن الحاضر. 9- آداب السفر. 10- من أحكام المسافر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإن تقوى الله هي الزاد في الحال والسفر، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197].
عباد الله، إن السياحة في الأرض والتأمل في عجائب الكون مما يزيد العبد معرفة بربه عز وجل ويقينًا بأن لهذا الكون مدبرًا لا ربّ غيره ولا معبود بحقّ سواه. المسافر إذا سافر يتأمل ثم يتدبّر، وبعد ذلك كلّه يخشى الله سبحانه، وذلك حين يرى عجيب صنع الله في الكون وعظم قدرته، صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88]، ولقد أنكر الله على من فقد هذا الإحساس: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [يوسف:105].
عباد الله، إن السفر وقطع الفيافي والقفار أمر ذو بالٍ يحتاج إليه كل أمرئٍ مسلم، فما أكثر ما يسافر الناس لشؤون حياتهم، مادية كانت أو معنوية، ولقد سافر رسول الله مرات ومرات، إبان شبابه قبل البعثة وبعد نبوته، في حج وعمرة وجهاد أو تجارة.
السفر ـ عباد الله ـ يعرّي الإنسان من الأقنعة التي كانت عليه، وكانت تحجب طبيعته، بل ما سمّي السفر سفرًا إلا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، المرأة تسمّى سافرة إذا كشفت عن وجهها، وتسمّى المِكنسة مسفِرة لأنها تسفر التراب عن وجه الأرض.
عباد الله، تختلف مطالب الناس من السفر، فذاك طالب علم، وآخر سائح، وثالثهم طالب مال، بل إن من الناس من لا يجد رزقه إلا في السفر والذهاب والإياب، وعلى كلٍّ فإن السفر كغيره من الأمور ذو محاسن ومساوئ، فمن محاسنه أنه يفرّج الهم، فإن الله سبحانه قضى أن الملازم لمكان واحد أو طعام واحد يسأم منه، ولذلك اتُّخذت ألوان الطعام، وأطلِق التزويج بأربع نسوة، ورسم التنزُّه والتحوُّل من مكان إلى آخر.
في السفر ـ عباد الله ـ اكتساب المعيشة، تقول العرب: "البركات مع الحركات"، ويقول أحدهم: "صعود الآكام وهبوط الغيطان خير من القعود بين الحيطان". ما اكتُسبت العلوم والآداب والأخلاق إلا بالسفر، جابر بن عبد الله الصحابي الجليل سافر في طلب حديث واحد، ويقول أحد السلف: "لولا التغرّب ما ارتقى دُرّ البحور إلى النحور".
عباد الله، أعظم ما في السفر معرفة عظمة الله وقدرته مما يزيد على شكره وحمده، يقول الثعالبي: "من فضائل السفر أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار ومن بدائع الأقطار ومحاسن الآثار ما يزيده علما بقدرة الله عز وجل ويدعوه إلى تذكر نعمه".
ومن فوائد السفر أنه يرفع الإنسان من الذلّ إلى العزة إذا كان بين قوم لئام، فهذا رسول الله ناله من مشركي مكة ما ناله، فخرج منها مهاجرًا، وقال وهو على راحلته بعد أن خرج منها: ((والله، إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرِجت منك ما خرجت)) ، فهاجر إلى طيبة لما نبا المقام، فكان من أمره ما كان، ثم عاد إليها وفتحها الله عليه.
عباد الله، السفر ذو مساوئ كثيرة من أعظمها أنه هو العذاب حقّا، أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله)) ، وأيّ عذاب أعظم من فقد الأحباب وتقطيع الأكباد واقتحام المخاوف؟!
أيها الإخوة، أرأيتم الزاني لما زنى وخالف فطرة الله جعل الله عقوبته أن يغرَّب عن بلده حتى يتجرَّع مرارة الغربة، ويفقد أحبابه وذويه، فلا يعود إلى ما كان يفعل، وها هم قطاع الطريق والمفسدون في الأرض لما خوَّفوا الناس في ديارهم عوقبوا بنقيض قصدِهم، فطرِدوا عن بلادهم حتى يعرفوا ضرر ما ارتكبوه، إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ [المائدة:33].
سئل إمام الحرمين: لِمَ سمّى النبيّ السفرَ قطعة من العذاب؟ فأجاب على الفور: "لأن فيه فرقة الأحباب"، ويقول الحجاج بن يوسف: "لولا حلاوة الإياب لما عذَّبت أعدائي إلا بالسفر".
عباد الله، لا زال الناس منذ تقادُم العصور يذهبون ويغدون ويسيرون في أرض الله، بل لقد جعل بعض الناس السفر عادة عندهم، وكأنه أمر محتم عليه، فمنهم هذه الأيام من أعدّ عدته، ومنهم من ينتظر، وإن خير السفر ما كان في طاعة الله، كأن يكون سفرًا لأداء عبادة أو بر والد أو صلة رحم أو طلب علم، وأعظم منه سفر جهاد لإعلاء كلمة الله، أو سفر حج بيت الله الحرام، أو السفر لتحصيل قوت، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. أما السفر لمعصية فحرام، يأثم به صاحبه. كما لا يشرع أيضا مفارقة الأوطان وهجر المألوفات وترك الجمعة والجماعات والذهاب في الأرض والانقطاع عن الناس بدعوى التفرغ للعبادة، يقول الإمام أحمد رحمه الله: "ما السياحة من الإسلام في شيء، ولا من فعل النبيين ولا الصالحين؛ لأن السفر يشتت القلب، فلا ينبغي للمريد أن يسافر إلا في طلب علم أو نحو ذلك".
عباد الله، السفر في هذه الأزمان يختلف عن قرون مضت، فقد مهِّدت الطرق وأنشِئت العربات الآلية بشتى أنواعها المبدعة، فهي تسير بهم على الأرض إن شاؤوا، أو تقّلهم الطائرات السابحة في الهواء إن رغِبوا، أو تحملهم الفلك المواخر في البحر إن أرادوا، كما أن الأزمنة قد تقاصرت، فما كان يتمّ في شهور بشقّ الأنفس أضحى يتمّ في أيام، بل في ساعات قلائل، بل وبجهود محدودة، فلربما عطس رجل في المشرق فشمّته آخر بالمغرب، وما هذا إلا مصداق حديث النبي من أن تقارب الزمان من علامات الساعة كما رواه البخاري.
عباد الله، كل هذه الراحة، وكل هذه السرعة، وكل هذا التيسير، إلا أن الأخطار في الأسفار تزداد، بل هي أعظم منها في السابق، فمثلاً يركب الواحد منا طائرة يمتطي بها ثبج الهواء، معلق بين السماء والأرض، لا هو قريب من السماء فيتعلق، ولا هو في الأرض فيتمسك، بل هو بين مساومة الموت ومداعبة الهلاك، فوق قطعة حديد، ربما يكون مصيره معلقًا ـ بأمر الله ـ في خلخلة مسمار أو إعطاب محرك، وكل هذا ـ عباد الله ـ يؤكد وجوب الاحتماء بالله والتوكل عليه وفعل الأسباب الداعية إلى رعاية الله للمسافر، من مثل التأدب بآداب السفر، والبعد عن معصية الله في هوائه بين أرضه وسمائه، وإن تعجب فالعجب كلّه من مشركي زمان النبي من لجوئهم إلى الله في الضراء، فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]، أما بعض عصاة زماننا فسرّاؤهم وضراؤهم على حدّ سواء، فقبحًا لقوم مشركو زمان النبي أعلم بلا إله إلا الله منهم.
عباد الله، لو أن رجلاً أمامه سفر طويل ينبغي أن يستعدّ له، ولو ركب طيارته أو امتطى سيّارته بدون عتاد أو عدة لحكم الناس بضعف عقله وقلّة خبرته وضياع أمره، فهكذا أنتم ـ أيها الناس ـ منذ أن خرجتم من بطون أمهاتكم إلى أن تقوم قيامتكم بالموت، وأنتم تستعدّون لسفرٍ لا سفرَ بعده، أمسَك الرسول بمنكب عبد الله بن عمر ثم قال له: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) رواه البخاري.
فالمؤمن ـ عباد الله ـ في هذه الدنيا بين حالتين: إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة، همّه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم البتة، بل هو ليله ونهاره يسير إلى بلد الإقامة، لا همَّ له إلا التزوّد بما ينفعه، لا ينافس أهل البلد في عزّهم، ولا يجزع من الذلّ عندهم.
فحيّ على جنات عدنٍ فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيّم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مغرم
وأيّ اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تحكَّم
فاتقوا الله عباد الله، وتزودوا من ممركم لمقركم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي خلق الفلك والأنعام، أحمده سبحانه، جعل النجوم زينةً في السماء ليهتدي بها الأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إليه المنقلب والمآب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الإسلام قد عُني بالسفر عناية فائقة، فجعل له أحكامًا تخصه، بل لقد تفضل الله على عباده وخفّف عنهم من مشقة السفر بأن يسّر لهم العبادات، فالصلاة أمر أن تقصر، وليس من البر الصيام في السفر، بل لقد منّ الله منّة عظيمة، يقول الرسول : ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا)).
أمر المسافر أن يلتزم حال سفره بآداب، فإذا ركب راحلته قال ذلك الدعاء المعروف، وإذا نزل منزلاً قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.
الشيطان أحرص ما يكون على المسافر، ولهذا أمر الرسول بالرفقة في السفر، يقول فيما رواه البخاري في صحيحه: ((لو تعلمون من الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده)) ، وقال في الحديث الآخر: ((الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب)).
جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إني أريد سفرًا فأوصني، قال: ((عليك بتقوى الله، والتكبير على كل شرف)) رواه أهل السنن، وروى أبو داود والنسائي أن رسول الله ودع عبد الله بن عمر عند سفره فقال: ((أستودع اللهَ دينك وأمانتَك وخواتيم عملك)).
عباد الله، متى ما كان السفر ملهيًا عن طاعة الله أو مشغلاً عنها فلا خيرَ فيه، ولهذا نهي المسلم أن يسافر يوم الجمعة حتى لا تفوتَه الصلاة، وفي البخاري أن النبي قال لمالك بن الحويرث وصاحبٍ له: ((إذا كنتما في سفر فليؤذن أحدكما، وليؤمكما أقرؤكما لكتاب الله)). ألا فليعلم المسافرون أن صلاة الجماعة لا تسقط عنهم بحال.
عباد الله، نهى النبي المسافر أن يستصحِب في سفره مزامير، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس)) ، وفي رواية: ((الجرس من مزامير الشيطان)) ، فما حال أناس جعلوا هجيراهم في حلهم وترحالهم سماع أصوات الخنا ومزامير الشيطان؟!
أيها الناس، روى أبو داود وابن ماجه والنسائي بإسناد جيد أن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى رسول الله يبايعه فقال: جئت لأبايعك على الجهاد، وتركت أبويّ يبكيان، فقال له رسول الله : ((ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما)).
ألا فاعلموا ـ أيها الشباب ـ أن الجهاد من أعظم العبادات، ومع ذلك اشترِط له إذن الأبوين، فكيف يطيب قلب شابٍّ أن يسافر بدون إذن أبويه؟!
ألا فاعلموا ـ عباد الله ـ أن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وصلوا وسلموا على نبي الرحمة وإمام الهدى محمد ، فقد أمركم الله بذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
(1/3363)
الحذر الحذر من ظلم العمال
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مبدأ العدل. 2- تفاوت الناس في طبقاتهم. 3- وجوب إنصاف الأجير ورعاية حقه. 4- قاعدة في التعامل مع الأجراء. 5- التحذير من ظلم الأجراء والاعتداء عليهم. 6- حسن معاملة الأجير. 7- مفاسد الانكباب على الخدم. 8- واجب دعوة الأجراء وتعليمهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى، فلقد خصّكم بدين عظيم، دين الإسلام الحنيف الذي جاء بكل خير وصلاح للبشرية جمعاء.
أيها الناس، لقد جاء الإسلام بتعليمات كريمة ومبادئ مثلى، من أخذ بها عز في دنياه وأخراه، وجعل هنالك مبدأً تقوم عليه ألا وهو العدل.
العدل ـ عباد الله ـ هو مصدر الأمن والاستقرار في الأرض، هو مصدر ضمان الحقوق واطمئنان النفوس. بالعدل ـ أيها الإخوة ـ يعمر الكون، وعليه قامت السماوات والأرض، بالعدل رست لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم ولكل أمة قاعدة ثابتة للتعامل، لا تميل ولا تتأثر بالأهواء، ولا بمودة ولا بغضاء، لا تتغير مجاراةً لقرابة أو مصاهرة أو قوة أو ضعف أو غنى أو فقر، إنما تكيل وتزن للجميع بمكيال واحد، هو العدل.
عباد الله، اقتضت حكمة الله أن يفاوِت بين الناس ويجعلهم على طبقات: شريف ووضيع، غني وفقير، رئيس ومرؤوس، عالم وجاهل؛ ليحتاجَ الناس بعضهم إلى بعض، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [الزخرف:32]. يقول المفسرون: "أي: ليسخَّر بعضهم لبعض في الأعمال والحرف والصنائع، لو تساوى الناس في الغنى ولم يحتج بعضهم لبعض لتعطلت كثير من مصالحهم ومنافعهم".
عباد الله، في ظلال العدل تطمئنّ النفوس، وبامتداد رواقه تسكن القلوب، ألا وإن من صور العدل الواضحة إنصافَ الأجير ورعاية حقه كإنسان يحسّ ويشعر ويتألّم كما تتألم، ولهذا فقد رسم لنا ديننا طريق التعامل مع الأجراء والمستخدمين، وأوضحها أيما إيضاح، بل إنه لا يخلو كتاب فقهيّ من باب عقد في بيان أحكام الإجارة والأجير.
أيها الناس، إن العدلَ مع الأجير وإعطاءه حقَّه وحسن التعامل معه ليس خلقًا كريمًا فقط، بل هو عمل صالح يتقرَّب به إلى الله سبحانه، جاء في الحديث المشهور في قصة الثلاثة الذين أووا إلى غار، فانحطت على فم الغار صخرة، فتوسل كل واحد منهم بعمل صالح عمله لعل الله أن يفرج عنهم ما هم فيه، فقال أحدهم: اللهم إني كنت استأجرت أجيرًا بفرق أرز، فلما قضى عمله قال: أعطني حقي، فعرضت عليه فرقه من أرز، فرغب عنه، فلم أزل أزرعه له حتى جمعت منه بقرًا ورعاءها، فجاءني يومًا فقال: اتق الله، ولا تظلمني حقي، قلت: اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها، فأخذ البقر وذهب، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا، ففرج الله عنهم.
عباد الله، قاعدة عظيمة رسمها لنا ديننا في التعامل مع الأجراء، روى الإمام البخاري ومسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي قال: ((إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم)).
نهى النبي أن يكلَّف العامل فوق طاقته، فلا يطلب منه ما يعجز عنه أو يتعبه، روى مسلم في صحيحه أن النبي قال: ((للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلَّف من العمل ما لا يطيق)).
إن إساءة المعاملة مع الأجير أو الخادم يوجد صورًا من المخالفات الشرعيّة التي توعّد الله عليها وحذّر منها رسوله.
عباد الله، عدم إعطاء الأجير أجرتَه المتّفق عليها أو تأخير مستحقّه منكر كبير، صح عن الرسول أنه قال: ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه)). حينما يحصَى على العامل الزلات والهفوات، ثم يماطل أجره أو يؤجّل، أليس ذلك هضمًا لحقه؟! ولولا عظم هذا الذنب ـ أيها الكفلاء ـ لم يتكفّل الرسول أن يدافع عن مثل هؤلاء الأجراء عند الله يوم القيامة، روى الإمام البخاري أن النبي قال: ((ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجرته)).
أيها الناس، حينما يتعاقد شخص مع آخر على عمل معيّن فلا بد من تحديد العمل وتحديد الأجرة قبل البدء في العمل، فهذا نبيّ الله موسى عليه السلام لما ذهب إلى الرجل الصالح قال له: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ [القصص:27]، فحدّ له الأجرة قبل أن يبيّن له العمل.
عباد الله، بمثل هذا يسود الصلح ويتمّ العمل وتذهب الخلافات والنزاعات.
أيها الناس، بالخلق الحسن وحسن التعامل واحترام الآخرين يسود الحب والوئام، وإن من صور سوء الخلق ورداءة الطبع أن يعمد المخدوم إلى خادمه فيضربه، كيف ذاك وقد نهي المسلم أن يضرب من له ولاية عليه كزوجه وولده إلا في حالات محدودة؟! فما الحال بشخص لا يجمعك به إلا عقد ينتهي عند أجله؟! يقول أبو مسعود رضي الله عنه: كنت أضرب غلامًا لي فسمعت من خلفي صوتًا يقول: ((اعلم أبا مسعود، لله أقدر عليك منك عليه)) ، فالتفتُّ فإذا هو رسول الله ، قلت: يا رسول الله، فهو حرّ لوجه الله، فقال: ((أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار)) رواه مسلم وغيره.
لقد بلغ من حسن التعامل مع الخادم والأجير أن يعطى من الطعام الذي صنعه تطمينًا لخاطره وإسكانًا لقلبه، روى البخاري ومسم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلِسه معه فليناوِله لقمةً أو لقمَتين أو أكلة أو أكلتين، فإنه ولي علاجه)) أي: تولى صنعه وعمله.
عباد الله، يقول الرسول الكريم : ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا)) ، وإن أكلَ أموال العمال أو المستأجَرين بغير حقّ لهو من المال الحرام الذي يأكله صاحبه سحتًا، وإن هناك صورة دائمًا ما تتكرّر، حين يترك العامل أهله، وينقطع عن أولاده وأطفاله، ويخرج من بلده ما أخرجه إلا طلب الرزق، يقطع البحار والأنهار، ويسير فوق الجبال والقفار، يتحمل أذى الغربة، ويتجرع ألم الوحشة، كل ذلك ليطعم أهله وذويه، أترونه يرضى أن يكدح ويتعَب ليدفع المال إلى غيره، ثم بعد ذلك يهضم حقه، ويبخس نصيبه؟! أليست هذه الصورة داعية لهذا العامل أن يسلك سبلاً معوجة وطرقًا ملتوية من أساليب الغشّ والخداع والتلاعب بالناس حتى يوجد لنفسه مالاً؟!
فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه في جميع أعمالكم، صغيرها وكبيرها، فإنكم ستلاقون يومًا وصفه الله بقوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أمر بالعدل في كتابه المبين، ونهى عن الجور والظلم والعدوان حتى على الكافرين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله رحمة للعالمين وحجة على الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإنها هي المخرج من كلّ مشكلة ومعضلة، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2].
أيها الناس، ثلاثة أمور لا بد من تذكّرها عند الحديث عن العمال:
الأول: أن يتذكّر الإنسان ما كان فيه أهل هذه البلاد من ضنك عيش وفقر وجوع، وكان الناس يتفرقون في البلدان بحثًا عن الرزق والمعيشة، أما وإنه تغيّرت الأمور، فأصبحت البلاد مستقرًّا للناس في طلب رزقهم، فلا بد للنعمة من تذكّر، ثم لا بد لها من شكر، اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13].
ثاني الأمور عباد الله: أن انكباب الناس على العمال والخدم ليس مبشّرًا بخير، بل إننا سنرى أثر ذلك على أجيال قادمة، فليس غريبًا أن تزفّ بنت إلى زوجها وما تعرف كيف تصنع طعامها أو كيف تخدم زوجها، أو يضع الناس ابنتهم عند شابّ لا يدري كيف يدير بيته أو يقضي لوازم أهله.
أما ثالث الأمور وهو أهمّها: فإن من أعظم ما أنعم الله به على هذه البلاد أن رزقها سلامةً في المعتقد ووضوحًا في المنهج، فليس غريبًا إذًا أنّ من خرج منها يخرج بغير الفكر الذي دخل به.
عباد الله، إن الدعوة إلى الله ليست قاصرة على طلاقة لسان أو سيلان قلم، إن أعظم ما تكون الدعوة بالخلق الحسن، وإلا فهذا محمد أوتي جوامع الكلم وخواتمه، واختصر له الكلام اختصارًا، مع ذلك يقول الله عنه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: قدم النبيّ المدينة وليس له خدم، فأخذ أبو طلحة بيدي، فانطلق بي، حتى أدخلني على النبيّ فقال: يا بنيّ الله، إنّ أنسًا غلام كيس لبيب، فليخدمك، قال أنس: فخدمته في السفر والحضر عشر سنين من مقدمه المدينة حتى توفي ، ما قال لي عن شيء صنعته: لم صنعت هذا هكذا؟ وكان رسول الله من أحسن الناس خلقًا، ولا مسست خزًّا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألين من كفّ رسول الله ، ولا شممت مسكًا قطّ ولا عطرًا كان أطيبَ من عرق النبيّ. رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ البخاري في الأدب المفرد.
أيها الناس، إنّ حسن التعامل والخلق الحسن من أعظم صور الدعوةِ إلى الله، كيف وقد تيسرت دعوة الناس إلى هذا الدين كل تيسير.
فاتقوا الله عباد الله، وتبصروا في جميع تصرفاتكم.
واعلموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على صاحب الخلق العظيم والمقام الكريم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
(1/3364)
تعامل الرسول مع الأطفال
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ
الأبناء, الشمائل
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الشباب. 2- ضرورة العناية بالنشء. 3- خطورة مرحلة الطفولة. 4- عناية النبي بالأطفال. 5- نماذج من معاملته للأطفال. 6- حرص النبي على تعليم الأطفال والشباب. 7- نعمة الذرية. 8- السبيل لصلاح الأولاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى.
أيها الناس، زينة الحياة الدنيا وعدّة الزمان بعد الله هُم شباب الإسلام والناشئون في طاعة ربهم، لا تكاد تعرف لهم نزوة أو يعهد منهم صبوة، يتسابقون في ميادين الصالحات، أولئك لهم الحياة الطيبة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله سبحانه. في الحديث: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) ، وذكر منهم: ((شابًا نشأ في طاعة الله)).
عباد الله، لئن تطلعت الأمة لإصلاح ناشئتها ورغبت أن تقرّ أعينها بصلاحهم فعليها أن تهتمّ بتربيتهم، وتسليحهم بسلاح الإيمان، وتحصينهم بدروع التقوى، وأخذهم بجدِّ وقوة العلم النافع والعمل الصالح.
إن العناية بالنشء مسلك الأخيار وطريق الأبرار، ولا تفسد الأمم إلا حين يفسد أجيالها الناشئة، ولا ينال منها الأعداء إلا حين ينالون من شبابها وصغارها.
عباد الله، إن الشاب في فترات تكوينه يمر بمراحل، كل مرحلة أهمّ من الأخرى. ألا وإن من أهم تلك المراحل مرحلة الطفولة، فهي السن الذي يتعرف فيه الطفل على مجريات الحياة، فيعرف الصحيح، ويعرف الخطأ، ويعلم الصواب، ويتعوّد على الغلط، ((كل مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصرنه أو يمجسانه)).
لهذا كانت مرحلة الطفولة من أخطر المراحل، ولقد كان السلف الصالح يعنون بأبنائهم منذ نعومة أظفارهم، يعلّمونهم وينشّئونهم على الخير، ويبعدونهم عن الشرّ، ويختارون لهم المعلمين الصالحين والمربين والحكماء والأتقياء.
عباد الله، محمد سيد ولد آدم وأعظم الناس مكانة هو القدوة في كل شيء، ولقد راعى الأطفال واهتم بأمرهم. ألا فليقتد بذلك الناصحون، لم يكن يتضجر ولا يغضب منهم، إن أخطؤوا دلهم من غير تعنيف، وإن أصابوا دعا لهم.
وإليكم ـ يا عباد الله ـ نماذج من معاملته لأطفاله :
روى الإمام أحمد في مسنده أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع النبي العشاء، فإذا سجد رسول الله وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا رفع رأسه أخذهما من خلفه أخذًا رفيقًا ووضعهما على الأرض، فإذا عاد إلى السجود عادا إلى ظهره حتى قضى صلاته، ثم أقعد أحدهما على فخذيه، يقول أبو هريرة: فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، أردهما؟ فبرقت برقة في السماء، فقال لهما: ((الحقا بأمكما)) ، فمكث ضوؤها حتى دخلا.
وعن أم خالد رضي الله عنها قالت: أتيت رسول الله مع أبي وأنا صغيرة، وعلي قميص أصفر، فقال رسول الله : ((سنه سنه)) ، أي: حسن حسن، قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة على ظهر رسول الله، فزبرني أبي، فقال رسول الله : ((أبلي وأخلِقي، ثم أبلي وأخلقي)) ، فعمرت أم خالد بعد ذلك. رواه البخاري.
ولما جاءت أم قيس بنت محصن إلى رسول الله بابنٍ لها صغيرٍ لم يأكل الطعام، فحمله رسول الله فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه عليه ولم يغسله. وتقول أم الفضل رضي الله عنها: بال الحسين بن علي رضي الله عنهما في حجر النبي ، فقلت: يا رسول الله، أعطني ثوبك والبس ثوبًا غيره حتى أغسله، فقال: ((إنما ينضج من بول الذكر، ويغسل من بول الأنثى)) رواه الثلاثة.
عباد الله، لقد كان يلاعب الأطفال، ويمشي خلفهم أمام الناس، وكان يقبلهم ويضاحكهم. روى الإمام أحمد وابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد عن يعلى بن مرة رضي الله عنه قال: خرجت مع النبي وقد دعينا إلى طعام فإذا الحسين بن علي يلعب في الطريق، فأسرع النبي أمام القوم ثم بسط يديه ليأخذه، فطفق الغلام يفرّ ها هنا ويفرّ ها هنا، ورسول الله يلحقه يضاحكه حتى أخذه، فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى في رأسه ثم اعتنقه ثم أقبل علينا وقال: ((حسين مني وأنا من حسين)).
ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت أذناي هاتان وبصر عيناي هاتان رسول الله أخذ بيديه جميعًا بكفي الحسن أو الحسين، وقدماه على قدم رسول الله ، ورسول الله يقول: ((ارقه ارقه)) ، قال: فرقى الغلام حتى وضع قدميه على صدر رسول الله ، ثم قال رسول الله : ((افتح فاك)) ، ثم قبله، ثم قال: ((اللهم أحبه فإني أحبّه)) رواه البخاري في الأدب المفرد والطبراني في معجمه.
وجاء الأقرع بن حابس إلى رسول الله فرآه يقبّل الحسن بن علي، فقال الأقرع: أتقبّلون صبيانكم؟! فقال رسول الله: ((نعم)) ، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من الولد ما قبلت واحدًا منهم قط، فقال له رسول الله : ((من لا يرحم لا يرحم)) متفق عليه.
أيها الناس، لقد بلغ من عناية الرسول بأطفاله أن ألقى لهم باله حتى أثناء تأديته للعبادة، يقول أبو قتادة: كان رسول الله يصلي وهو حامل أمامة بنت بنته زينب، فإذا ركع وضعها وإذا قام حملها، وكان إذا سمع بكاء الصبي وهو في صلاته تجوّز فيها مخالفة الشفقة من أمه. متفق عليهما.
وكان رسول الله يخطب ذات يوم فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه، ثم قال: ((صدق الله ورسوله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15] ، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان فيعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما)) ، ثم أكمل خطبته. رواه أهل السنن.
عباد الله، هذا رسول الله ، وهذه معاملته لأطفاله، أترونه يهمل تعليمهم؟! روى البخاري ومسلم أن عمر بن أبي سلمة قال: كنت غلامًا في حجر رسول الله ، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله : ((يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)). ولما أراد الحسين أن يأكل تمرة من تمر الصدقة قال له الرسول : ((كخ كخ، أما علمت أنا لا تحل لنا الصدقة؟!)). وروى البخاري أن النبي كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول: ((أعيذكما بكلمات الله التامة من كلّ شيطان وهامة، ومن كل عين لامة)).
إن عناية المصطفى تستمر معهم حتى بعد بلوغهم مبلغ الرجال، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كانت فاطمة بنت رسول الله عندي، وكانت أحبّ أهله إليه، فجرّت بالرحى حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثّرت في نحرها، وقمّت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت القدر حتى دكِنت ثيابها، وأصابها من ذلك ضرّ، فسمعنا أن رقيقًا أتِي بهم النبيّ فقلت: لو أتيتِ أباك فسألتيه خادمًا يكفيك، فأتته فوجدت عنده ناسًا فاستحيت فرجعت، يقول علي: فغدا علينا رسول الله من الليل ونحن في لفاعنا ـ أي: لحافنا ـ قد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا لنقوم فقال: ((مكانكما)) ، ثم جلس بيننا، وأدخل قدمه بيني وبين فاطمة، وجلس عند رأسها، فأدخلت فاطمة رأسها في اللفاع حياءً من أبيها، فقال: ((ما كان حاجتُك أمس إلى آل محمد؟)) فسكتت، فقلت: أنا والله أحدّثك يا رسول الله، إنّ هذه جرّت عندي بالرحى حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت القدر حتى دكنت ثيابها، وخبزت حتى تغير وجهها، وبلَغَنا أنه قد أتاك رقيق فقلت: سليه خادمًا، فقال : ((أوَلاَ أدلّكما على ما هو خير لكما من خادم؟! إذا أويتما إلى فراشكما فسبّحا الله ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبّرا أربعًا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم)) رواه البخاري ومسلم وأبو داود واللفظ له.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه فيما تحت أيديكم وما استرعاكم الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، واشكروا نعمة الله عليكم بهؤلاء الأولاد الذين جعلهم الله فتنة لكم، فإما قرّة عين في الدنيا والآخرة، وإما حسرة وندم ونكد. وإن من شكر نعمة الله عليكم فيهم أن تقوموا بما أوجب الله عليكم من رعايتهم وتأديبهم بأحسن الأخلاق والأعمال وتنشئتهم تنشئة صالحة.
عباد الله، الأطفال هم حياة البيوت، بيت لا أطفال فيه بيت فيه نقص. إنهم ـ أيها الإخوة ـ يملؤون البيت إزعاجًا ولكنهم يملؤونه فرحًا وسرورًا، يملؤونه فوضى ولكنهم يملؤونه ضحكًا وابتهاجًا.
سئل غيلان بن سلمة الثقفي: من أحب ولدك إليك؟ فقال: "صغيرهم حتى يكبر، ومريضهم حتى يبرأ، وغائبهم حتى يحضر".
عباد الله، شعور يحسّ به الوالد حين يرى صغاره أمامَه، ويتذكّر قول الرسول : ((لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرّ منه)) ، ويرى ما هو فيه وما مر به من فتن لا يثبت فيها إلا من عصمه الله، وماذا بعده؟ أو كيف السبيل إلى وقايته مما أمامه؟
ألا فاعلموا ـ عباد الله ـ أن ثمة أمورًا جعلها الله من فِعل الأب وتنفع الابن من بعده، ومن أهمّ هذه الأمور صلاح الوالد في نفسه، فإنه سبب لحفظ الله عز وجل لأبنائه من بعده، يقول الله سبحانه: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82]، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (حفظهما الله بصلاح والدهما ولم يذكر الله للولدين صلاحًا).
وإن الله بفضله وكرمه إذا أدخل المؤمنين الجنة يلحِق بالآباء أبناءهم وإن كانوا دونهم في العمل، يقول الله سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور:21]، يقول ابن عباس رضي الله عنهما عند هذه الآية: (إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل كي تقرّ بهم أعينهم)، وجاء في حديث مرسل: ((إن الله ليحفظ المرء المسلم من بعده في ولده وولد ولده وفي داره والدويرات حوله)).
عباد الله، لا يغلبنّكم الشيطان على باب آخر مفتوح للمؤمنين وهو دعاء الوالد لولده، فقد صحّ عنه من حديث أبي هريرة أنه قال: ((ثلاث دعوات مستجابات لا شكّ فيهن)) ، وذكر منهن: ((دعوة الوالد لولده)).
ولقد كان دأب الأنبياء عليهم السلام الدعوة لأبنائهم، يقول إبراهيم: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:40]، وقال هو وولده إسماعيل: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، وقال زكريا: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38].
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا صالحًا، وسيروا على النهج، وأصلحوا النشء؛ تسعدوا في حياتكم وبعد وفاتكم.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد...
(1/3365)
سلامة الصدر
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عقد الأخوة الإيمانية. 2- ضرورة مخالطة الناس. 3- حرص إبليس على بث العداوة بين الناس. 4- فضل مخالطة الناس والصبر عليهم. 5- التحذير من العداوة بين المسلمين. 6- خُلُق السماحة والعفو. 7- أصناف الناس في قبول الاعتذار. 8- ضرر الشحناء. 9- فضل سلامة الصدر والصفح عن الزلات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، فمن اتقى الله دله على كل خير.
إن عقد الأخوة بين الناس رابطة وثيقة، ذاك أن الإنسان إما أن يكون وحدَه أو مع غيره، وإذا تعذّر عيش الإنسان وحده إلا بمخالطة من هو من جنسه لم يكن له بد من تعلّم آداب المخالطة، وكل مخالط ففي مخالطته أدب، والأدب على قدر حقه، وحقه على قدر رابطته التي بها وقعت المخالطة.
إنّ حقوق الناس على الإنسان كثيرة، ولكن حق الوالدين آكد من حقّ الرحم، وحقّ الجار القريب آكد من حق الجار البعيد، وحق الصاحب في الدرس والعمل آكد من حق صاحب السفر.
وإن الله سبحانه ليجمع بين أناس متباعدين كما قال في صحيح مسلم: ((الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)). فلا بد للإنسان بعد هذا أن يكون له أصحاب ورفقاء، وإذا أراد الله بعبدٍ خيرًا وفّقه لمعاشرة أهل السنة والصلاح والدين، ونزّهه عن مخالطة وصحبة أهل الأهواء والبدع المخالفين.
إبليس لعنه الله لما طرده الله من الجنة جعل على نفسه عهدًا أن يضلّ الناس وينشر العداوات بينهم، فهذا أول ذنبٍ عصي الله به في الأرض وكان بين أخوين متصافيين، دخل الشيطان بينهما حتى حمل أحدهما على قتل أخيه، وما كان إلا بسبب الشيطان.
إن التعامل مع الناس والدخول معهم يتطلّب من الإنسان جهادًا وصبرًا، ولهذا فقد عظّم الرسول المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم على من لم يخالطهم، روى الترمذي وابن ماجه أن رسول الله قال: ((المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)).
الناس ليسوا على طريق واحد، والشيطان ينزع بينهم، يكبِّر الأمر الصغير ويزرع الشرّ وينشر الفتنة. وإن الشحناء وتتبع العثرات بين الناس لإحدى خدع الشيطان وطرائقه. وإن الشيطان ليجمع هفوات الشخص عند صاحبه حتى تصير مثل الجبل، ولو صفّى الإنسان فكره لوجدها مجموعة أوهامٍ وخيالاتٍ، نسجُها كنسج العنكبوت، ولكن الشيطان يعمي الإنسان ويصمه.
إن الكمال لا يكون إلا لله، فلا شخص مبرأ من زلل وسهو، ولا سليم من نقص أو خلل، ومن رام سليمًا من هفوة أو التمس بريئًا من نَبوةٍ فقد تعدّى على الدهر بشططه، وخادع نفسه بغلطه، يقول بعض الحكماء: "لا صديق لمن أراد صديقًا لا عيب فيه".
وإذا الدهر ـ عباد الله ـ لا يوجِد للإنسان ما طلب، والمنقطع عن الناس متوحّش، كان على الإنسان أن يخالط الناس بالصفح والإغضاء، يقول أحدهم: "ثلاث خصال لا تجتمع إلا في كريم: حسن المحضر، واحتمال الزلة، وقلة الملال".
إن العداوة بين الناس لا ينبغي أن تكون لأيّ سبب، يقول أبو حاتم: "العاقل لا يعادي على الحالات كلّها؛ لأن العداوة لا تخلو من أن تكون لأحد رجلين: إما حليم لا يؤمَن مكره، أو جاهل لا يؤمن شتمه، ولا يجب على العاقل إذا عادى أن يغرّه إحسانه إلى عدوّه وما يرى من سكونه إليه، فإن الماء وإن أطيل إسخانه حتى غلا فإن حرارته ليست بمانعته من إطفاء النار إذا صبّ عليها، ولا يجب على العاقل أن يعظم عليه حمله عدوّه عاتقه إذا وثق بحسن عاقبته؛ لأن اللين والمكر أنكى في العدوّ من الفظاظة والمكابرة".
إن الواجب على المرء أن يطلب العذر لأخيه إذا أخطأ عليه قدر الإمكان، يقول ابن مازن: "المؤمن يطلب معاذير إخوانه، والمنافق يطلب عثراتهم"، وجاء في حديث مرسل: ((من اعتذر إليه أخوه المسلم فلم يقبل عذره فعليه مثل صاحب مكس)). ويقول ابن القصار: "إذا زل أخ من إخوانك فاطلب له تسعين عذرًا، فإن لم تقبل ذلك فأنت المعيب لا هو"، ويقول الحسن بن علي: (لو أن رجلاً شتمني في أذني هذه واعتذر في أذني الأخرى لقبلت عذره)، ويقول أبو الدرداء: (معاتبة الأخ أهون من فقده، ومن لك بأخيك كلّه)، وقال آخر: "من لك بأخيك كله، لا تستقص عليه فتبقى بلا أخ".
الناس في قبول الاعتذار وتقبّل الأخطاء نوعان:
فنوع يرى أن الصديق إذا أحدث نَبوةً وتغيّرًا والأخ إذا أوجد جفوةً وتنكرًا ثم أبدى صفحة الاعتذار رأى أن حقّ الأخوة والصحبة أعظم من تتبّع الزلات، ويرى أن مثل هذا مثل الأمراض التي تعرض للبدن إن عولجت أقلعت وإن ترِكت أسقمت ثم أتلفت.
ومن الناس نوع يرى أن متاركة الإخوان إذا نفروا أصلح واطراحهم إذا فسدوا أولى، كأعضاء الجسم إذا فسدت كان قطعها أسلم، وإن تركها سرت إلى نفسه فأهلكته، وهذا مذهب من قلّ وفاؤه وضعف إخاؤه وساءت طرائقه وضاقت خلائقه، يقابل على الجفوة ويعاقب على الهفوة.
الشحناء بين النّاس من الذنوب المانعة من المغفرة، روى الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله قال: ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيغفر لكلّ عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: أنظروا هذين حتى يصطلِحا)). فانظروا كم من أعماله موقوفة لم يغفر له. ولقد جاء في الحديث الآخر نهي المسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام حتى لا يورث طول الهجر عداوةً دائمة وشحناء مستمرة، ولهذا صار خيرهما الذي يبدأ بالسلام.
إن سلامة الصدر من أنواع الشحناء كلِّها من أفضلِ الأعمال، روى ابن ماجه بسند لا بأس به عن عبد الله بن عمرو قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: ((كل مخموم القلب صدوق اللسان)) ، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: ((هو التقي النقيّ الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد)). وروى الإمام مسلم أن النبي قال: ((إن الله يحبّ العبد التقي الغني الخفي)). ولقد كان حبس الإنسان نفسه عن أذية الناس من أفضل الأعمال، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أنه قال: سأل رجل رسول الله : أيّ الأعمال أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله)) ، قال: فإن لم أستطع؟ قال: ((تعين صانعًا أو تصنع لأخرق)) ، قال: فإن لم أفعل؟ قال: ((فاحبس نفسك عن الشر، فإنها صدقة تصدقتَ بها على نفسك)) ، وفي رواية: ((احبس شرَّك عن الناس، فأنها صدقة منك على نفسك)).
لقد وصف الله المؤمنين بأنهم يقولون: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، ويقول سبحانه: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، ويقول الفضيل بن عياض: "الفتُوّة الصفح عن عثرات الإخوان".
إن الصفح عن الزلات سبب لمغفرة الذنوب والخطيئات، ولقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ينفق على مِسطح وغيره من الفقراء، فلما كان من حادثة الإفك ما كان وتكلم مسطح بما تكلم به حلف أبو بكر أن لا ينفق على مسطح وأصحابه، فأنزل الله: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22]، فقال أبو بكر: بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع بالنفقة على مسطح، وقال: لا أنزعها منه أبدًا. متفق عليه.
اللهم طهر قلوبنا من الغل والحسد، اللهم اسلل سخيمة قلوبنا، ونزه ألسنتنا عن عرض غيرنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فروى الإمام أحمد في مسنده عن أنس رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا مع رسول الله فقال: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)) ، قال: فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من الوضوء قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد قال النبي مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي تبع عبد الله بن عمرو بن العاص الرجل وقال له: إني لاحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني عندك حتى تنتهي، قال الرجل: نعم. قال أنس: وكان عبد الله بن عمرو يحدث: أنه بات معه تلك الليالي الثلاث، فلما مضت وكدت أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله، إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر، ولكن سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرار: ((يطلع عليكم رجل من أهل الجنة)) فطلعت أنت الثلاث مرار، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما تعمل، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما بلغ؟ قال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، إلا أني أبيت وليس في قلبي شيء على أحدٍ من المسلمين، ولا أحسد أحدًا على خيرٍ أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغتَ بها وهي التي لا نطيق.
متى تنتهي العداوات بين الناس؟! متى تزول الشحناء والحقد بين الإخوان؟! إنك لتجد الرجلين في مكانٍ واحدٍ وفي قلبيهما مثل الجبل من الحقد، أخوان خرجَا من رحمٍ واحدٍ لا يداني أحدهما أخاه، جاران لا يفصل بينهما إلا مجموعة أحجارٍ وإنّ الشر ليتطاير من أحدهما تجاه الآخر.
إن الحياة لا تدوم على مثل هذه الحال، ولقد روي عن أبي الدرداء أنه قال لزوجته أم الدرداء: (إذا غضبتُ فرضِّيني، وإذا غضبتِ رضَّيتُك، فإننا إن لم نفعل افترقنا سريعًا)، ويقول بعض السلف: "أفضل الأعمال سلامة الصدور وسخاوة النفوس والنصيحة للأمة، وبهذا بلغ من بلغ، لا بكثرة الاجتهاد في الصلاة والصوم".
فصلوا وسلموا على خير الورى محمد...
(1/3366)
من حسن إسلام المرء
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الكلام. 2- حفظ اللسان من علامات حسن الإسلام. 3- نصوص وآثار سلفية في التحذير من اللسان والأمر بحفظه. 4- الكلام النافع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها الناس ـ حقّ التقوى، واعلموا أن الله قد أحاط بكل شيء علما.
عباد الله، من أعظم ما منّ الله به على ابن آدم وميّزه به على سائر الحيوان أن خصّه بلسان يتكلّم به، أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ [البلد:8، 9]، وما أصغر حجم اللسان، ولكن ما أعظم أثره على الإنسان، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
ولقد جعل الله عز وجل الحذر من اللسان والتحفّظَ منه من علامات حسن إسلام العبد المؤمن، فروى الإمام الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)).
فهذا الحديث أصل عظيم من أصولِ الأدب، يقول ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله: "جماع آداب الخير وأزمَّتُه تتفرّع من أربعة أحاديث"، وذكر منها هذا الحديث.
عباد الله، إنّ من حسُن إسلامُه ترَك كلَّ ما لا يعنيه من قولٍ أو فعل، واقتَصَر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال، وليس المراد أن يتركَ الإنسان ما لا يعنيه بحكم الهوى وطلب النفس، بل بحكم الشّرع والإسلام، ولهذا جعله من حسنِ الإسلام، فإذا حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال.
يقول ابن رجب رحمه الله: "وأكثر ما يراد بترك ما لا يعني حِفظُ اللسان من لغو الكلام، وفي المسند من حديث الحسين رضي الله عنه أن النبي قال: ((إنّ من حسن إسلام المرء قلّة الكلام فيما لا يعنيه)) ، ويقول أبو الدرداء: (من فقه الرجل قلّة كلامه فيما لا يعنيه)، وروى الخرائطي أن رجلاً أتى النبي فقال: يا رسول الله، إني مطاع في قومي، فما آمرهم؟ قال: ((مرهم بإفشاء السلام وقلّة الكلام إلا فيما يعنيهم)) ، ولقد قال عمر بن عبد العزيز: من عدّ كلامه من عمله قلّ كلامه فيما لا يعنيه، وهو كما قال رحمه الله فإن كثيرًا من الناس لا يعدّ كلامه من عمله، فيجازف فيه ولا يتحرّى؛ ولهذا خفي هذا الأمر على معاذ رضي الله عنه حتى سأل عنه النبي فقال: أنؤاخَذ بما نتكلم به؟! فقال: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم؟!)) رواه الترمذي، ويقول أبو الدرداء رضي الله عنه: (تعلموا الصمت كما تتعلمون الكلام، فإن الصمت حكم عظيم، وكن إلى أن تسمع أحرصَ منك إلى أن تتكلّم، ولا تتكلّم في شيء لا يعنيك، ولا تكن مضاحكًا من غير عجب، ولا مشّاءً إلى غير أرب) يعني إلى غير حاجه، ويقول الحسن البصري رحمه الله: من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه؛ خذلانًا من الله عز وجل له".
عباد الله، كم من كلمة قالت لصاحبها: دعني، كم من كلمةٍ سلبت نعمةً وجلبت على صاحبها نقمة. إن الكلمة إذا خرجت لا يمكن استردادها، وقد يصعب تدارك خطرها، الملائكة كتبوا، والناس سمعوا، والمرجفون علقوا وشرحوا وزادوا، وأنت وحدك الذي تتحمل كل هذه التبعات، لذلك يقول النبي : ((إنّ العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبيّن فيها يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)) رواه مسلم، وروى البخاري: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم)). يقول مورق العجلي: أمرٌ أنا في طلبه منذ كذا وكذا سنة لم أقدر عليه، ولست بتاركٍ طَلَبَه ما بقيت، قالوا: وما هو؟ قال: الكفّ عما لا يعنيني.
أيها الناس، لقد جعل الله من أوصاف عباده المؤمنين أنهم لا يتكلّمون باللغو وهو ما لا يعني: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]، ثم قال سبحانه: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72]، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:1-3].
الله سبحانه طيب، لا يقبل إلا طيبًا، ويحب الطيب من القول، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، ولقد أمر الله عباده أن يخاطبوا بأحسن القول: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83].
عباد الله، إن المؤمن متى استشعر قرب الله منه واطلاعه عليه قلّ كلامه في غير طاعة الله، قال بعضهم: "إذا تكلمتَ فاذكر سمع الله إليك، وإذا سكتّ فاذكر نظرَ الله إليك"، ويقول ابن القيم رحمه الله: "من العجَب أن الإنسان يهون عليه التحفّظ والاحتراز من أكل الحرام والسرقة وشرب الخمر ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين أو بالزهد أو بالعقل وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالاً".
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا على حذر مما تقولون، فإن الله لا تخفى عليه خافية، وكل كلام تقوله فهو يعلمه، وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس:61]، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرشد أمته إلى الطيب من القول وحذرهم من قول الزور، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم إلى يوم النشور، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، فإن تقوى الله هي الواقية لجوارح المرء عن كل ما لا يعنيه.
عباد الله، لقد نفى الله سبحانه الخير عن كثير من كلام الناس: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء: 144]، روى الترمذي وابن ماجه من حديث أم حبيبة رضي الله عنها أن النبي قال: ((كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكر الله عز وجل)) ، وقد تعجّب قوم من هذا الحديث فعن سفيان الثوري قال: "وما يعجبكم من هذا؟ أليس الله يقول: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]؟! أليس الله يقول: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ:38]؟!".
عباد الله، كم من مجالس عقدت وولائم نصبت وليالٍ قد مضت كلها على كلام لا حاجة للإنسان فيه، بل عليه وزره، وإن المرء ليعجب من حبّ الناس للحديث في أمور نجّى الله أيديهم وأرجلهم منها، وأبوا مع ذلك إلا أن يتحدثوا فيها.
يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: (أنصِف أذنيك من فمك، فقد جعل الله لك أذنين وفمًا واحدًا؛ لتسمع أكثر مما تقول)، ويقول أحد السلف: "إن الرجل ليتكلم في ساعةٍ ما يعجز عنه في شهر".
ما أحوجنا ـ عباد الله ـ إلى أن ننظر في حالنا وفي مجالسنا بأيّ شيءٍ نمضيها، فوالله لنُسألنَّ عنها: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24].
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى وإمام الورى، فقد أمركم الله بذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
(1/3367)
توحيد الأسماء والصفات
التوحيد
الأسماء والصفات
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- افتراق هذه الأمة. 2- الفرقة الناجية. 3- أقسام التوحيد. 4- توحيد الأسماء والصفات. 5- الأسماء والصفات توقيفية. 6- أسماء الله وصفاته لا حصر لها. 7- النهي عن الإلحاد في أسماء الله تعالى. 8- التفاضل بين الناس إنما هو بمعرفة الله ومحبته. 9- أثر الإيمان بأسماء الله وصفاته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى ـ أيها الناس ـ وأطيعوه، وأخلصوا له العبادة ووحدوه، واعلموا أن أفضل ما وعظ به الواعظون وذكّر به المذكّرون معرفة الله تعالى بأنه ربّ العالمين الرحمن الرحيم المالك المتصرف ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وأن جميع الكون وكل ما فيه خلقه وملكه وعبيده وتحت ربوبيته وتصرفه وقهره.
عباد الله، لقد أخبر ـ وخبره صدق ـ عن افتراق أمته إلى ثلاث وسبعين فرقه كلهم في ضلال إلا فرقةً واحدةً هي التي وافقت هدي الكتاب والسنة وسارت على نهج المصطفى ونهج أصحابه من بعده. وإن هذا الافتراق شامل لكل أمور الدين والعبادة، ولكن عند إطلاقه يتبادر إلى ذهن قائله وسامعه التفرق في باب التوحيد والاعتقاد، فأهل الزيغ والضلال في باب الاعتقاد طوائف شتى وفرق عديدة كل فرقة فرحة بما عندها.
أما أهل السنة والجماعة الذين ساروا على النهج القويم فإنهم على خط مستقيم في هذا الأمر، بل وفي جميع أمورهم، ولكن في باب العقيدة والتوحيد يخصونه بمزيد اهتمام ومزيد عناية؛ لأن الضلال فيه ضلال كبير ليس كالضلال في غيره، والخطأ فيه عظيم، الخطأ في العقيدة ليس كالخطأ فيما دونها؛ لأن من أخطأ في التوحيد والاعتقاد يخشى عليه من الكفر والانحراف الشديد والضلال البعيد.
عباد الله، الله سبحانه هو المستحق للعبادة دون سواه، والجن والإنس ما خلقوا إلا لعبادته سبحانه، والعبادة هي منتهى الذل مع منتهى المحبة، فهي حقيقة جامعة لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال القلبية والحسية البدنية الظاهرة والباطنة.
عباد الله، التوحيد ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذا القسم الثالث لا بد للموحد أن يعرفه، فمنزلته في الدين عالية وأهميته عظيمة، ولا يمكن لأحد أن يعبد الله على الوجه الأكمل حتى يكون على علمٍ بأسماء الله وصفاته ليعبده على بصيرة.
توحيد الأسماء والصفات زلّت فيه أقدام وضلّت فيه أفهام وتحيّرت فيه عقول، ولكن الله هدى من شاء من عباده إلى توحيده بأسمائه وصفاته حين ساروا على منهج القرآن والسنة.
فمما ينبغي أن يعلمه كل موحدٍ في هذا الباب أن الله سبحانه وصف نفسه بصفات ووصفه رسوله بصفات، ونفى سبحانه عن نفسه صفات ونفى عنه رسوله صفات؛ فيجب علينا أن نثبت لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله ، وأن ننفي عن الله تعالى ما نفاه عن نفسه وما نفاه عنه رسوله.
ومما ينبغي أن نعرفه أن أسماء الله وصفاته حسنى لا نقصَ فيها، بل إنها بلغت في الحسن غايته وفي الكمال منتهاه وفي الجمال أقصاه وأعلاه، وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، فالعليم اسم لله تعالى، وقد اقتضى العلم الكامل الذي لم يسبق بجهل ولا يلحقه نسيان، قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52]، العلم الواسع المحيط بكلّ شيء، وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [التغابن:4].
عباد الله، إن مما ينبغي أن يعلم علم يقينٍ لا شكّ فيه أن أسماء الله وصفاته مجالها مقصور على الكتاب والسنة، فليس لأحد أن يصف الله بصفةٍ لم ترد عنه ولا عن رسوله ، بل يجب الوقوف على ما في الكتاب والسنة لا يزاد فيه ولا ينقص؛ لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقّه تعالى من الأسماء، وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].
أيها الإخوة، إذا ما أثبت الإنسان هذا فليعلم أن أسماء الله لا عدد لها ولا حصر، يقول : ((أسألك بكل اسم هو لك، سميتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)) رواه أحمد وابن حبان والحاكم. فما استأثر الله بعلمه لا يستطيع أحد معرفته.
فإذا ما أثبت المسلم هذه الأمور لله سبحانه فلا يجوز له الميل عنها ولا الإلحاد فيها، يقول الله سبحانه: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180]، فالله سبحانه أوضح في هذه الآية أربعة أمور: أن له أسماء، وأنها حسنى، وأمرنا أن ندعوه ونتعبّده بها، ونهانا عن الإلحاد فيها. والإلحاد ـ عباد الله ـ في أسماء الله هو الميل بها عما دلّت عليه بتحريفها وتأويلها إلى ما لا تحتمله، كما تفله كثير من فرق الضلال. والله سبحانه يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:74]. فلا نتدخل بعقولنا، ولا نؤوّل بأفهامنا ومداركنا، ولا نحكم على الله سبحانه وتعالى، لا نمثله بخلقه، ولا نكيّف صفته، كما أننا لا نعطلها عن معناها، ولا نسميه بما لم يسمّ به نفسه كما فعلت النصارى، ولا نشتق من أسمائه أسماء للأصنام كما فعلت قريش حين اشتقت العزّى من العزيز.
هذا هو الإلحاد الذي نهانا الله عنه في أسمائه وصفاته: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [طه:5-8].
هذا ـ عباد الله ـ مجمل الاعتقاد في أسماء الله وصفاته، اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي لم يتّخذ ولدًا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له وليّ من الذل, وما كان معه من إله، لا إله إلا هو، ولا خالق غيره، ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج:62]، أحمده سبحانه وأشكره، وأثني عليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن الناس يتفاضلون في أمور كثيرة حسب معرفتهم لها، وكذلك التفاضل الحقيقي إنما يكون بحسب معرفة الله تعالى ومحبته، ومعرفة الله بأسمائه وصفاته هي جماع السعادة في الدنيا والآخرة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أصل التفاضل بين الناس إنما هو بمعرفة الله ومحبته، وإذا كانوا يتفاضلون فيما يعرفونه من المعروفات فتفاضلهم في معرفة الله وصفاته والتصديق به أعظم، بل إذا كانوا يتفاضلون في معرفة أي شيء من أمور الدنيا أو أمور الآخرة فتفاضلهم في معرفة الله تعالى أعظم وأعظم. إن كل ما يعلم ويقال يدخل في معرفة الله تعالى، إذ لا موجود إلا وهو خَلقه، وكل ما في المخلوقات من الصفات والأسماء والأقدار شواهد ودلائل على ما لله سبحانه من الأسماء الحسنى والصفات العلى، وكل كمال في المخلوقات من أثر كماله، وكل كمال ثبت لمخلوق فالله أحق به، وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أحق بتنزيهه عنه، لقد ثبت في الحديث الشريف أن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده، وأسماء الله متضمنة لصفاته، وليست أسماء محضة، وإذا كان من أسمائه ما اختص هو بمعرفته ومن أسمائه ما خصّ به من شاء من عباده علم أن تفاضل الناس في معرفته أعظم من تفاضلهم في معرفة كل ما يعرفونه" اهـ.
عباد الله، جاء في صحيح البخاري أن الرسول قال: ((إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة)) ، وهذا الحديث لا يحدّد عددا ولكنه ينبّه الناس إلى أمر مهم وهو أن إحصاءها هو معرفة لفظها ومعناها، وأن يتعبّد الله بما دلّت عليه وما تقتضيه، فإن مما يعين على العبادة معرفة أسماء الله وصفاته.
فمن أسمائه الرحمن الرحيم، فكل ما نحن فيه من نعمة فهو من آثار رحمته تعالى، وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص:73]، فهل استشعر المؤمن هذه المعاني عند سماعه لهذا الاسم؟!
ومن أسمائه العليم، الذي أحاط علمه بكل شيء من ماض وآت وظاهر وكامن ومتحرك وساكن وجليل وحقير، فهل استشعر هذا المعنى من أقدم على معصية الله سبحانه؟!
ومن أسمائه السميع البصير، يسمع كل شيء، ويرى كل شيء، ولا يخفى عليه دبيب نملة سوداء في ليلة مظلمة تسير على صخرة صماء، إن جهرتَ بقولك سمعه، وإن أسررت به لصاحبك سمعه، وإن أخفيته في نفسك سمعه، بل إنه سبحانه يعلم ما توسوس به نفسك وإن لم تنطق به، هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3]، لا تخفى عليه خافية، حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم.
عباد الله، معرفة الله بأسمائه وصفاته هي أساس الإيمان به والتصديق برسله وما أرسلوا به. معرفة الله بأسمائه وصفاته تورث السكينة والرضا، وتبعد العبد عن السخط والغضب. العارف بالله من أطيب الناس عيشا. معرفة الله تورث معيّته سبحانه. معرفة الله بأسمائه وصفاته سراج ينير الطريق، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:78-82]، إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].
من عرف الله خافه وحذر من بطشه، ومن عرف الله علم بقرب نصره لعباده وانتقامه من الظالم، ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)).
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:22-24].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3368)
الأمن الفكري
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, التربية والتزكية
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
3/8/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية سلامة الأفكار والتمسك بالثوابت. 2- أهمية مطلب الأمن الفكري. 3- معنى الأمن الفكري وحقيقته. 4- مفاسد اختلال الأمن الفكري. 5- أسباب الخلل الفكري في العصر الحاضر. 6- الغزو الفكري والثقافي. 7- الحرب على الحجاب والعفة. 8- حرب القنوات الفضائية والشبكات المعلوماتية. 9- وسائل تعزيز الأمن الفكري. 10- كلمة بمناسبة العودة للمدارس. 11- الإشادة بجهود بلاد الحرمين في تعزيز الأمن الفكري.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجل، فهُدَى النفوسِ بتقواها، وبإعراضِها عنها رداها في دينِها ودنياها وأُخراها، يِـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ?للَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الأنفال:29].
أيّها المسلمون، عنوانُ تقدُّم الأمَمِ وفَخارِها ومبعَث أمنِها وأمانها واستقرارِها مرهونٌ بسلامة عقولِ أفرادها ونزاهةِ أفكار أبنائِها ومدَى ارتباطهم بمكوِّنات أصالتِهم وثوابتِ حضارتهم وانتظامِهم منظومتَها العقديّة والفكريّةَ ونوعيّتَها الثقافيّة والقِيَميّة. ومن محاسنِ شريعتِنا الغرّاء أنها جاءت بحفظِ العقول والأفكار، وجعلت ذلك إحدَى الضرورات الخمس التي قصدَت إليها في تحقيقِ مصالح العباد في أمورِ المعاش والمعاد، كما جاءت بحِفظ الأمنِ للأفرادِ والمجتمع والأمّة.
ومع أنَّ الأمنَ بمفهومِه الشامل مطلَبٌ رئيس لكلِّ أمّة إذ هو ركيزَة استقرارِها وأساسُ أمانها واطمئنانها إلاَّ أنَّ هناك نوعًا يُعدَ أهمَّ أنواعِه وأخطرَها، فهو بمثابةِ الرأس من الجسَد لِما له من الصِّلة الوثيقةِ بهويّة الأمّة وشخصيّتِها الحضارية، حيث لا غِنى لها عنه، ولا قيمةَ للحياة بدونه، فهو لُبّ الأمنِ ورَكيزتُه الكبرى، ذلكم ـ يرعاكم الله ـ هو الأمنُ الفكريّ. فإذا اطمأنَّ الناس على ما عندهم من أصولٍ وثوابِت وأمِنوا على ما لدَيهم من قِيَم ومثُلٍ ومبادئ فقد تحقَّق لهم الأمنُ في أَسمى صوَرِه وأجلَى معانيه وأَنبلِ مَراميه، وإذا تلوَّثت أفكارُهم بمبادئَ وافِدة ومناهجَ دخيلة وأفكارٍ منحرِفة وثقافاتٍ مستورَدَة فقد جاس الخوفُ خلالَ ديارهم وحلَّ بين ظهرانَيهم، ذلك الخوف المعنويّ الذي يهدِّد كيانهم ويقضِي على مقوِّماتِ بقائهم. لذلك حرصت شريعتُنا الغرّاء على تعزيز جانِبِ الأمن الفكريّ لدى الأفراد والمجتمعِ والأمّة، وكان لها قَصَب السبقِ في ذلك عن طريقِ تحقيق وسائلَ متعدِّدة أسهمَت في حمايته والحفاظِ عليه من كلِّ قرصَنَة فكريّة أو سَمسَرة ثقافيّة أو تسلُّلات عولميّة تهزُّ مبادئَه وتخدِش قِيَمه وتمسّ ثوابته.
إخوةَ الإيمان، إنّ الأمنَ الفكريَّ لدى هذه الأمّةِ يعني أن يعيشَ أهل الإسلام في مجتمَعِهم آمنين مطمئنِّين على مكوِّنات شخصيّتِهم وتميُّز ثقافتِهم ومنظومَتِهم الفكريّة المنبثقةِ من الكتاب والسنة، وتأتي أهمّيتُه من كونه يستمِدّ جذورَه من عقيدة الأمة ومسلَّماتها، ويحدِّد هويَّتَها، ويحقِّق ذاتِيَتها، ويراعي مميِّزاتها وخصائصَها، وذلك بتحقيقِ التّلاحُم والوَحدة في الفكرِ والمنهج والسّلوك والهدف والغاية، كما أنّه ـ بإذن الله ـ سِرّ البقاء وسبَب النماء وطريقُ البناء وعامِل العطاء وقاعِدة الهناء وضمانةٌ بحول الله من التلاشِي والفناء، فإذا اطمأنَّ أهلُ الإسلام على مبادِئِهم وقِيَمهم وفِكرِهم النيِّر وثقافتِهم المميَّزة وأمِنوا على ذلك من لوثاتِ المبادئ الوافدَة وغوائلِ الانحرافات الفكريّة المستورَدَة ولم يقبَلوا التنازلَ عن شيءٍ من ثوابَتِهم ولم يسمَحوا بالمساوَمَة والمزايَدَة عليها وعمِلوا على حراسَتها وحَصانتها وصِيانتها فقد تحقَّق لهم الأمنُ الفكريّ.
وبضدِّها تميز الأشياء، فإذا غدَت مبادِئهم وثوابتُهم محلاًّ للمساومَاتِ والمزايدات عبرَ حِوارات وأطروحاتٍ تضَع قضايا الأمّة ومسلَّماتها موضعَ البحثِ والمراجعة والنّقد والمناقشة وتنبرِي الأقلامُ وترتفِع الأصواتُ عبرَ الصّحف ووسائلِ الإعلام بالانقلاب عليها وزَحزَحة مكانتها في نفوسِ الأجيال وكِيان المجتمع والأمّة فعند ذلك يحصُل الخوفُ المعنويّ والخلَل على أمنِ الأمّة الفكريّ، بل إنّ الخوفَ على الفكر الصحيحِ والثقافة الشرعيّة والمبادئ الإسلاميّة الأصيلة أشدُّ من الخوفِ على مجرّدِ النفوس والأجسادِ والمقوّماتِ المادّية. أضِف إلى ذلك أنَّ الخللَ في الأمنِ الفكريّ طريقٌ إلى الخللِ في الجانب السلوكيّ والاجتماعيّ، وما سلكَت فئامٌ في الأمّة مسالِكَ العنفِ والإرهاب والقتلِ والإرعاب والتدمير والتفجير إلاَّ لما تشبَّعت أفكارُها وغسِلَت أدمِغتها بما يسوِّغ لها تنفيذَ قناعاتها وتحسينَ تصرّفاتها، وذلك راجعٌ إلى رصيدٍ فكريّ ومخزون ثقافيّ أفرَزَ عملاً إجراميًّا وسلوكًا عدوانيًّا.
لذا فإنّ الحاجة ماسّة إلى التذكير بقضيّة الأمنِ الفكريّ، لا سيما في هذا العصرِ الذي هبَّت فيه رياحُ الجنوحِ عن منهجِ الوسطيّة والاعتدال وتعدَّدت فيه أسبابُ الانحراف ووسائلُ الانحلال، خاصّةً في تلك الحقبةِ العصيبة والمنعَطف الخطير الذي تمرّ به مجتمعاتُنا وأمّتُنا ويُكادُ فيه لأجيالِنا ناشئتِنا وشبابنا، مما يحتِّم المسؤوليةَ العظمى على جميع شرائحِ المجتمع وأطيافِ الأمّة في الحفاظِ على أمنِ الأمة الفكرِي، بل وعلى المستوَى العالميِّ والدّولي ما تقدِم عليه الصهيونيةُ العالمية من إجراءاتٍ لتهويدِ مقدَّسات المسلمين في فلسطينَ والأقصى، ومثلُ ذلك ما تفاقم فيه الحالُ في بلاد الرافدين كلُّ ذلك نِتاج فِكرٍ منحرِف يهدِف القضاءَ على مقدَّرات المسلمين وطمسِ معالم هُويّتهم، فرحماك ربَّنا رحماك.
أمَّة الإسلام، إنَّ المتأمّلَ في واقعِ الأمن الفكريِّ في الأمّة يُصاب بالذّهول وهو يرَى كثرةَ الأسباب والعوامِل التي تسعَى إلى تقويض بنيانِه وزعزَعة أركانِه والعملِ على إغراقِ سفينته وَسطَ أمواجٍ عاتية وسيولٍ جرّارة هادرة؛ مِن ألوان الغزوِ الفكريّ المركَّز والتحدّي الثقافيّ المعلَن. ولعل أخطرَ تلك الأسبابِ القصورُ في جوانبِ العقيدة وتطبيقِ الشريعة، يقول الله عز وجل: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ [الأعراف:96]، وأيُّ بركةٍ أعظمُ مِن تحقيق الأمن؟! وكذلك التساهُل في مجالاتِ الدعوة والحسبة، وهما صِمام الأمانِ في تحقيق الأمنِ الفكريّ. ومن ذلك التزهيدُ في علماءِ الشريعة وتركُ الرجوعِ إليهم خاصّةً في النوازل والمستجدّات التي يتطلَّب النظر فيها إلى فهمٍ دقيق واستنباطٍ صحيح، وكذا الأخذُ والتلَّقي من أنصافِ المتعلِّمين والخائضين في أمورِ الشريعة والإفتاء تحليلاً وتحريمًا وهم ليسُوا من ذلك في وردٍ ولا صدر.
وثَمّةَ سببٌ مهِمّ في الخلَل الفكريّ، وهو القصورُ في جوانبِ التربية والتعليم، ووجودُ الخلَلِ في الأسرة ومناهج التعليم، وتضييق النطاقِ على العلومِ الشرعيّة ومزاحمَتها بغيرِها مع أنها الأصلُ الذي تنبني عليه سائرُ العلومِ المعاصرة. ولقد أدرك الخصومُ أنَّ قوّةَ الأمّة تكمُن في التزامِها بدينِها وأنّ ذلك لن يتحقَّق إلاَّ بإيلاءِ المناهجِ التعليميّة الشرعيّة الاهتمامَ والعناية، فعمِلوا على الحدِّ من تعليمِ الناشِئة هذا الدين بمحاسنِه وجماليّاتِه، ممّا كان عاملاً لسهولةِ التأثُّر بالأفكارِ المنحرفة والمناهِجِ الدخيلة التي ترمِي إلى تقويض دعائمِ الأمنِ الفكريّ.
إخوةَ العقيدة، ومما ينكأ الجراحَ في قضيّة الأمن الفكري ذلك الزّخَم الهائل من وسائلِ الغزوِ الفكريّ والثقافيّ الذي يرفع عقيرَتَه فئامٌ من ذوي الاستِلابِ الثّقافيّ وضحايا الغزوِ الفكريّ من بني جِلدةِ المسلمين ومَن يتكلَّمون بألسنتهم ممَّن يسلكُون مسالكَ متعدِّدة في الخضوعِ للغزوِ الثقافيّ، بل ومحاولةِ إخضاع المجتمَع المسلم المحافِظ لرغبتِها وجنوحِها المنحرِف بدعاوَى فجّة تحت سِتار حرّيّة الرأي وحرّيّة التفكير وغيرِها من الصِّيَغ المعسولَة والأسماء المنمَّقَة، فلم يتورَّع هؤلاء من النّيلِ من الذّات الإلهية والصّفات العليّة، تعالى الله عمّا يقولون علوًّا كبيرًا، والإساءةِ إلى شخصيّة المصطفى ولتعاليمِ الشريعة وآدابها.
ومنَ المؤسِفِ حقًّا أن جدارَ ثقافتنا الإسلامية على الرّغم من قوّتهِ ومتانته قد تعرَّض للتصدُّع مِنَ الضّرَبات المتتاليَة التي يصوِّبها إليه دعاةُ التغريبِ والعَولمة. فهل من حرّيّةِ الفكر الانقلابُ على المبادئ واعتناقُ كلِّ فكرٍ مستورَد حتى ولو كان إِلحاديًّا إباحيًّا لا يقيم للدّين ولا للفضائل والقِيَم وزنًا؟! فسبحان ربي العظيم! كأنّ الحرية لا تأتي إلاَّ عندَ مهاجمةِ المعتقَداتِ الإسلامية.
إنّه إذا انتشَرَت مثلُ هذه القناعاتِ المريضة فإنّما تدلّ على هزيمةٍ نفسيّة لدى أصحابها، ومتى جاسَت خلالَ صفوفِ ناشئةِ الأمّة وأجيالها فماذا عسَى أن يبقَى للمؤسّسات التربويّة في المجتمع؟! وإلى أين يتّجه مصير التربيّة الإسلامية والوطنيّة التي تحفَظ وَحدةَ الفكر والثقافةِ ووَحدة النسيجِ الاجتماعيّ المتميِّز كعامِلٍ من أهمّ عوامل الأمن الفكري؟!
لقد أوجَدَ الغزوُ الثقافيّ مناخًا يتَّسِم بالصراع الفكريّ الذي يجرّ إلى نتائجَ خطيرةٍ وعواقبَ وخيمة على مقوِّمات الأمّة وحضارتها، وكان من نتيجةِ ذلك أن تُسمَع أصوات تتَعالى عبرَ منابرَ إعلاميّةٍ متعدّدة تدعو وبكلِّ بجاحةٍ إلى التخلّي عن كثيرٍ من الأمور الشرعية والثوابِتِ المرعيّة والمعلومَةِ من دين الإسلامِ بالضّرورة، خاصّةً في قضايا المرأة.
لقد شَنّوا الحربَ على الحجاب، وطالبوا بإلغاءِ قوامةِ الرّجل وولايتِه عليها، ودعَوا إلى الاختلاط في التعليمِ وميادينِ العمل بدعوَى الحرّيّة والمساواة، ولقد أسهَم الإعلامُ المفتوح لا سيّما الفضائيّ منه في إذكاءِ نارِ الخلَل الفكريّ وتفنَّن في جذبِ الأنظار والتأثيرِ على الرأي العام، ممّا جعل أمنَ الأمّة الفكريّ عُرضةً للاهتِزاز ومهبِّ الأخطار.
لقد أوحَت هذه الفضائياتُ وشبكاتُ المعلوماتِ للناظرين وكأنّ هذه الدنيا أصبَحت هدفًا للفوضَى الفكريّة والأخلاقية ومسرحًا للضّياع في مَباءات الإغراءات والإباحيّة، ممّا لا يحكمه دينٌ ولا قِيَم ولا يضبِطه خُلُق ولا مُثُل، وقَنوات أخرى لا تفتَأ في إذكاءِ نار الفتنة بين الرعيّة والرّعاة بدعوَى الإصلاح زعمَوا، وأُخرى بدعوَى الإثارة والبلبَلة تدعوا الموتورين إلى أن تكونَ مِنبرًا لهم حيث لا منبرَ لهم، وهكذا منتدياتُ الفضائح والمثالب والطّعون والمعائب، أوَليس ذلك كلُّه مدعاةُ إلى أن تولي الأمّة الأمنَ الفكريَّ جُلَّ اهتمامها، وذلك يكون أولاً وقبلَ كلِّ شيءٍ بتقويَةِ وازِعِ الدّين في النفوس وإذكاءِ جَذوةِ الإيمان وتقوِيَته، ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]، وإعزازِ جانب الدّين والكفِّ عن الوقيعةِ في المتديّنين والصالحين، وإعزازِ جانبِ الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر لِما يمثِّلُه من طوقِ أمانٍ في الحِفاظ على الأمن الفكريّ، ومن يتعرَّف على الجهود المباركة التي تُبذَل في المؤسّسات الدعَويّة والأروقةِ الاحتسابيّة يجدِ الدورَ الكبير الذي يبذُله دعاةٌ صادقون ومحتسِبون مبارَكون في الحفاظ على الأمنِ الفكريّ للأمة، ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لأُمُورِ [الحج:41].
سدّد الله الخطى، وبارك في الجهود، وأخذ بالأيدي إلى مواطن الصلاح والتوفيق، ونفع بالأسباب، وحفِظ للأمّة أمنَها وأمانها عامّة وأمنَها الفكريَّ خاصّة، إنّه خير مسؤول وأكرمُ مأمول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافّة المسلمين من كلِّ خطيئة وإثم، فاستغفروه وتوبوا إليه، فيا لَفوز المستغفرين، ويا لَبُشرى التائبين.
_________
الخطبة الثانية
_________
حمدًا لكَ اللهمّ حمدًا حمدًا، وشكرًا لك يا الله شُكرًا شكرًا، أحمد ربِّي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفِره، وأذكره ذكرًا ذكرًا، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له شهادةً ندِّخرها ليوم المعاد ذُخرًا، وأشهد أنّ نبيّنا محمَّدًا عبد الله ورسوله أشرفُ الخليقة طُرًّا، صلّى الله عليه وعلى آلِه وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، واعلَموا أنّ أصدقَ الحديث كتاب، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة، فإنّ يدَ الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
أيّها الإخوة في الله، وأبناءُ الأمة وشبابها وطلاّبها يدلُفُون إلى عامٍ دراسيّ جديد حافِلٍ بجلائِلِ العلوم والمعارف فإنّه ليس بغنيٍّ عن التذكيرِ بأهمّيّة العلمِ الصحيح في الحفاظِ على أمنِ الأمّة الفكريّ، مع تذكير إخواننا المدرِّسين وأخواتنا المدرِّسات بأهمّيّة الرسالة الملقَاة على عواتِقِهم في تربيةِ فلَذات الأكباد وثمرَات الفؤاد والحفاظِ على أمنِهم الفكريّ ومعالجةِ الانحرافات الفكريّة واللّوثات الأخلاقيّة التي قد توجَد لدى بعضهم. فالمساجِد والبيوتُ والمدارس ووسائل الإعلامِ كلُّها قنواتٌ ينبغِي أن تكونَ قِلاع أمنٍ فكريّ وحصونَ أَمانٍ توعويّ، تتهاوى أمام قوّةِ رسالتِها وعظيم تأثيرِها سهامُ الخلَلِ الفكريّ.
كما أنّ الحاجةَ ملحّةٌ إلى وضعِ الضوابط الحازمة للمطبوعاتِ والمنشورات والوقوفِ بحزمٍ ضدَّ تيّارات الغلوّ والغلوِّ المضادّ وتعويدِ أبنائنا لغةَ الحوار وإشاعة ثقافةِ التسامُح والوئام وتَرسيخ منهجِ الوسطيّة والاعتدال.
لا بدّ من العنايةِ بتصحيح المفاهيم وضبطِ المصطلحات الشرعيّة وتنقيَتِها مما خالطَها من المصطلحات المغلوطةِ والمشبوهة، والتصدّي لكلِّ دعوات الانفتاحِ غيرِ المنضبط والتحرّر اللاّمسؤول والسّير وراءَ مصطلحات الغَير واجترارِها على حساب خصوصيّتنا الثقافيّة ومميِّزاتنا الفكريَة.
والدّعوةُ موجّهة إلى كلِّ مَن بوَّأَه الله للولايةِ واتِّخاذِ القَرار في أيِّ ثَغر من ثغورِ الأمّة إلى الاضطِلاع لمسؤوليّاتهم في ذلك، فلم يعدِ الأمر مسؤوليةَ رجال الأمنِ وحدَهم، بل كلٌّ على ثغرٍ من ثغور الإسلام، فاللهَ اللهَ أي يؤتَى الإسلام من قِبَله.
لقد آن الأوان أن تقومَ مراكز البحوثِ والدراسات وأن تُكوَّن هيئاتٌ عليا بمختَلِفِ التخصّصات لرصدِ كلِّ ما يهدِّد أمنَ الأمة الفكريّ ووضعِ آليّاتِ العمَل المدروسة مع التنسيقِ مع الجهات ذاتِ العلاقة للحِفاظ على أمن الأمة الفكريّ.
وهنا كلمةٌ حقٍّ لا بدّ أن تروَى فلا تطوَى، وهي الإشادةُ بالدّورِ الرائد الذي تضطلِع به بلادُ الحرمين حرسَها الله في حراسة وتعزيزِ جانبِ الأمنِ الفكريّ في الأمّة، فلها فيه القِدح المعلَّى والدّور المجلَّى. وهي مع ما تواجِهه من زوابعَ وحملاتٍ دعائية ومُعادية مصمِّمةٌ بإذن الله على السّير في طريقها، كيف وهي تقِف في خطِّ الدّفاع الأوّل وجهَ التحدّيات المعاصرة بما تقدِّمُه من صورةٍ مشرِقة عن حضارةِ الإسلام العريقة على الرّغم من دعاوَى منظَّمات حقوقِ الإنسان الزّائفة وتعرُّضها لدعاوَى الإرهاب، إنها ثِقة عالِية بمقوِّمات راسِخة وهويّة واضِحة ترفُض التّبعيّة ولا تستسلِم للضغوطِ، فلا تنسَى الماضيّ العريق، وتعمَل للحاضِر المشرِق، وتستشرِف آفاقَ المستقبَل الواعِد بإذن الله، حفِظَها الله وحفِظ بلادَ المسلمين من كيد الكائدين وحِقد الحاقدين، وأدامَ عزَّها وأمنَها منارًا للإسلامِ وقِبلةً للمسلمين ولو كرِه الحاقدون الحاسِدون.
ألا وصلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على الرحمةِ المهداة والنعمة المسداة نبيِّكم محمّد بن عبد الله، فقد أمركم بذلك ربّكم جلّ في علاه فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّد الأولين والآخرين وخاتم الأنبياءِ والمرسلين نبيِّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحابته الغر الميامين وأزواجه الطاهرات أمّهات المؤمنين وعنا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين...
(1/3369)
الغسل من الجنابة
فقه
الطهارة
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحياء المحمود والحياء المذموم. 2- وجوب تعلم أمور الدين. 3- فضل الغسل من الجنابة. 4- بيان النبي لأحكام الجنابة. 5- هدي النبي في الغسل. 6- من آداب الغسل. 7- ما يمنع منه الجنب. 8- شرط النية في غسل الجنابة. 9- نعمة الماء. 10- التحذير من الإسراف في الماء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاعلموا ـ أيها الناس ـ أن التقوى مفتاح كلّ خير، والعلم ـ عباد الله ـ خير صفة يتصف بها المسلم، ومفتاح العلم التقوى، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ [البقرة:282].
أيها الناس، الحياء صفة عالية وخصلة رفيعة تدعو إلى ترك القبيح وفعل المحمود، والحياء خير كله، ولا يأتي الحياء إلا بخير، إلا أن الحياء قسمان: قسم محمود، وهو الشرعي الذي جاء الحثّ عليه والأمر بالتحلي به، وحياء مذموم، وهو الذي بالمعنى اللغوي الذي هو مانع من قول الحق والمانع من التعلم حياءً من الناس.
جاءت أم سليم رضي الله عنها إلى رسول الله تسأله فقالت: إن الله لا يستحيي من الحق، وقال مجاهد: "لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر".
عباد الله، إنّ الواجب على الناس جميعًا أن يتعلّموا، وأن لا يكون الحياء مانعًا لهم عن التعلم أو السؤال، وأولى ما يتعلمه المرء أن يتعلم كيف يعبد ربه، إذًا هذا هو العلم الذي يعود نفعه إلى الإنسان، فبه يقيم شعائر دينه على منهاج الهدي النبوي.
ولقد كان الناس ولا زالوا يخجلون من التحدث عن أمورٍ من العبادات هي من أخصّ أمورهم، وإذا كان المتعلم يسكت حياءً والناس لا يسألون فمتى يتعلم الجاهل؟!
عباد الله، عبادة من العبادات يحتاج إليها كل مسلم ومسلمة، عبادة خفية غير ظاهرةٍ للناس، أمِر فاعلها بالتستر عن الملأ حال فعلها، عبادة مشتقة من النظافة، بل هي النظافة بعينها.
أعظم ما في هذه العبادة أنها أمانة ائتمن الله عليها الناس، روى أبو الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((خمس من جاء بهن مع إيمان دخل الجنة: من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وصام رمضان، وحج البيت إن استطاع إليه سبيلاً، وأعطى الزكاة طيبة بها نفسه، وأدى الأمانة)) ، قالوا: يا أبا الدرداء، وما أداء الأمانة؟ قال: الغسل من الجنابة. رواه أبو داود. وفي رواية للطبراني يقول النبي : ((إن الله لم يأمن بني آدم على شيءٍ من دينه غيرها)). قال الهيثمي في مجمع الزوائد: "إسناده جيد".
عباد الله، الغسل من الجنابة شعيرة عظيمة وعبادة جليلة، ما ترك الرسول فيه شيئًا إلا وبينه، فكما أن المحدث حدثًا أصغر لا تباح له الصلاة إلا بالوضوء، فكذلك من أصابه حدث أكبر لا تباح له الصلاة وغيرها من العبادات إلا بعد الغسل.
روى مسلم في صحيحه عن أبي موسى رضي الله عنه أن المهاجرين والأنصار اختلفوا فيما يوجب الغسل، فقال أبو موسى: أنا أشفيكم من ذلك، قال: فقمت فاستأذنت على عائشة فأُذن لي فقلت لها: يا أم المؤمنين، إني أريد أن أسألك عن شيء، إني أستحييك، فقالت: لا تستحي أن تسألني عما كنت سائلاً عنه أمك التي ولدتك، فإنما أنا أمك، قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله : ((إذا جلس بين شعبها الأربع وجاوز الختان الختان فقد وجب الغسل)).
وجاء رجل إلى رسول الله وعائشة جالسة عنده فقال: يا رسول الله، الرجل يجامع أهله ثم يكسل ولا ينزل هل عليهما الغسل؟ فقال رسول الله : ((إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل)) رواه مسلم.
أما إذا كان الخارج مذيًا فلا يجب الغسل، وإنما الواجب الوضوء، يقول علي رضي الله عنه في الحديث الصحيح: كنت رجلاً مذاءً، فاستحييت أن أسأل النبي لمكان ابنته مني، فأمرت المقداد فسأل رسول الله فقال: ((اغسل ذكرك وتوضأ)).
عباد الله، الإنسان ذكرًا كان أو أنثى متى يستيقظ من نومه فيجد في ثوبه بللاً فيجب عليه الغسل، جاءت أم سليم إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسلٍ إذا هي احتلمت؟ قال: ((نعم، إذا رأت الماء)) ، فغطت أم سلمة وجهها وقالت: فضحتِ النساء، أوَتَحتلم المرأة؟! فقال رسول الله: ((ترِبت يداك، فبم يشبِهها الولد؟)) رواه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم.
أيها الناس، الغسل من الجنابة عبادة، وكل عبادةٍ ليست على وفق هدي رسول الله فهي غير صالحة، تقول عائشة رضي الله عنها في الحديث المتفق عليه: كان رسول الله إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه ثلاثًا وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يخلّل شعره بيده حتى إذا ظنّ أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده.
هذه ـ عباد الله ـ صفة الغسل الكامل التي وردت عن المصطفى ، فيجزئ المغتسلَ أن يتمضمض ويستنشق ويعمّ سائر جسده بالماء. والواجب على المغتسل أن يعم شعره بالماء حتى إذا ظن أنه قد أصاب جميعه انتقل إلى ما بعده من الأعضاء كما ورد بذلك الحديث.
عباد الله، كان رسول الله إذا أراد أن يغتسل بدأ فغسل كفيه ثلاثًا. رواه البخاري ومسلم. وكان يتوضأ قبل غسله ليكون تشريفًا لأعضاء الوضوء أن يبدأ بها.
إخوة الإسلام، كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراةً ينظر بعضهم إلى بعضٍ، وكان نبي الله موسى يغتسل وحده، والمسلم مأمور بالستر والخفاء حال ظهور عورته. روى أبو داود والنسائي عن يعلى بن شداد أن رسول الله رأى رجلاً يغتسل بالبراز، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((إن الله حيي ستير يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر)). وتقول أم هانئ رضي الله عنها: ذهبت إلى رسول الله عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب. رواه مسلم.
وقال أحد الصحابة: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: ((احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك)) ، قلت: يا رسول الله، أحدنا إذا كان خاليًا؟ قال: ((الله أحق أن يستحيى منه من الناس)) رواه أصحاب السنن وحسنه الترمذي وصححه الحاكم.
ولقد كان يغتسل هو وزوجته جميعًا من إناءٍ واحد، تقول عائشة رضي الله عنها: كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناءٍ واحدٍ، تختلف أيدينا فيه، فيبادرني حتى أقول: دع لي دع لي. رواه البخاري ومسلم.
عباد الله، الجنب كغيره من الناس، لا يحرم عليه إلا ما ورد الدليل بتحريمه، ومن ذلك قراءة القرآن، إذ يقول علي رضي الله عنه: كان رسول الله يقرأ القرآن كل حالٍ ما لم يكن جنبًا. رواه الترمذي والنسائي.
وإذا أراد الجنب أن ينام أو يأكل فعليه أن يتوضأ، كما أرشد إلى ذلك رسول الله إذا كان جنبًا وأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة. رواه مسلم.
وإذا كان الإنسان جنبًا فلا عليه أن يخالط الناس ويحادثهم، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: لقيني رسول الله وأنا جنب فأخذ بيدي فمشيت معه حتى قعد، فانسللت منه، فأتيت الرحل فاغتسلت، ثم جئت وهو قاعد، فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ فقلت: كنت جنبًا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال : ((سبحان الله، إن المؤمن لا ينجس)) رواه البخاري، وتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ربما اغتسل رسول الله صلى الله من الجنابة ثم جاء فاستدفأ بي فضممته إلي وأنا لم أغتسل. رواه الترمذي وابن ماجه.
عباد الله، كان الناس في حرج شديد ومشقة بالغة حتى نزل قول الله سبحانه: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]. وإن الغسل من الجنابة من تلك الأمور الخفية التي كثيرًا ما ينساها الناس، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف قيامًا، فخرج إلينا رسول الله ، فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب فقال لنا: ((مكانكم)) ، فرجع فاغتسل ثم خرج إلينا ورأسه يقطر، فكبر فصلينا معه.
وروى مالك في الموطأ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلى بالناس الصبح، ثم غدا إلى أرضه بالجرف فوجد في ثوبه احتلامًا فقال: (إنا لما أصبنا الودك لانت العروق)، فاغتسل وغسل الاحتلام من ثوبه وأعاد صلاته.
بارك الله لي ولكم قي القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيها من العلم والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وما ترك شيئًا إلا دلنا عليه، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيراٍ.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الحديث عن الغسل لا بد أن يُتطرّق فيه إلى أمرين:
الأول: أن الغسل عبادة، وكل عباده لا بد فيها من نية، ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) ، فإذا أراد الإنسان أن يغتسل فلا بد أن ينوي بغسله رفع الحدث.
الأمر الثاني عباد الله: أن هذا الغسل الذي يتجدّد على المرء يذكرنا بنعمة عظمى منَّ الله بها على عباده وهي نعمة الماء الطهور، وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30]. أنزل الماء ليكون رِيًّا للظمآن وإنباتًا للزرع وإدرارًا للضرع وتطهيرًا للأبدان وجمالاً للمنظر، ألم تروا أن البلد إذا أجدب من المطر والغيث ذهب عنه نوره وبهاؤه؟!
إن الغسل الشرعي ـ عباد الله ـ لم يكن ولن يكون بابًا من أبواب الإسراف في الماء، فلقد كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد، وكان أوفر الناس شعرًا. يقول سفينة رضي الله عنه: كان رسول الله يغسله الصاع من الماء من الجنابة ويوضئه المد. رواه مسلم. وسأل قوم جابرًا رضي الله عنه عن الغسل فقال: يكفيك صاع، فقال رجل: ما يكفيني، فقال جابر: كان يكفي من هو أكثر شعرًا منك وخير منك، يعني النبي. متفق عليه.
عباد الله، يقول : ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه)) ، كل هذا محافظة على الماء من الضياع والإسراف. وجاء رجل إلى سعيد بن المسيب يسأله عما يكفي الإنسان من غسل الجنابة، فقال سعيد: إن لي تورًا يسع مدّين من الماء، فأغتسلُ به ويكفيني منه فضل، فقال الرجل: فوالله، إني لأستنثر وأتمضمض بمدين من ماء! فقال سعيد: فبم تأمرني إن كان الشيطان يلعب بك؟! ويقول إبراهيم بن أدهم: "إن أول ما يبتدئ الوسواس من قبل الطهور". ويقال: "من قلة فِقه الرجل ولوعه بالماء".
فاتقوا الله عباد الله، واعرفوا لهذا الماء قدره، فإن الله يقول: وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [المؤمنون:18].
اللهم صل على محمد على آل محمد...
(1/3370)
الاستخارة: أحكام وآداب
فقه
الصلاة
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضعف الإنسان وافتقاره. 2- من وسائل الاختيار في الجاهلية. 3- حق النصيحة. 4- مشروعية صلاة الاستخارة. 5- دعاء الاستخارة. 6- فضل الاستخارة. 7- من أحكام صلاة الاستخارة. 8- محدثات في صلاة الاستخارة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاعلموا ـ عباد الله ـ أن خير الوصايا الوصية بتقوى الله، فاتقوا الله جميعًا ـ أيها المؤمنون ـ لعلكم تفلحون.
عباد الله، إن من المسلَّمات عند الناس قاطبةً أن الإنسان مخلوق ضعيف محتاج إلى غيره، لا يمكن أن يصرف أمور حياته وحده بدون موجّه أو ناصح، ولا بد له إذًا من معونة أو مشورة أو مناصحة، والحياة ـ عباد الله ـ مليئة بالمتغيرات والأمور المحيرة، يقف المرء حيالها في حيرة فيما يقدم عليه، تتعارض عنده أمور، فيمضي أيامًا وليالي وهو منشغل الفكر منزعج الخاطر، إلى أين يذهب؟ وإلى أي اتجاهٍ يمضي؟
أيها الناس، لقد كان أهل الجاهلية يلجؤون إلى أمور هي أقصى ما وصل إليه علمهم، وما زادتهم إلا غيًا وضلالاً، فبعضهم يستقسم بالأزلام، فعلى أيّ وجه خرجت فعل، وآخرون يزجرون الغراب ويتشاءمون به، وبئس من كان الغراب له دليلاً.
فلما جاء الله بالإسلام ـ الذي ما ترك أمرًا من أمور الناس إلا حلّها ولا نازلةً إلا فكها ـ كان فيه الحل لمثل هذه الأمور. جعل الإسلام من حق المسلم على المسلم النصيحة، يقول : ((حق المسلم على المسلم ست: وإذا استنصحك فانصحه)) ، وفي البخاري: ((وإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له)) ، وفي مسلم: جعل الرسول الدين هو النصيحة فقال: ((الدين النصيحة)) ثلاثًا. ولقد كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ليجد فيها الاطمئنان والراحة؛ لأنه علاقة مع الله وحده، ينقطع المرء فيها عن المنغصات والمكدرات، ولقد كان يقول لمؤذنه: ((أرحنا بالصلاة يا بلال)).
أيها الناس، إن مما جعله الله ملجأ للمؤمن إذا حزبه أمر ولم يتبين فيه أن يلجأ إلى الصلاة، صلاة ليست فريضة ولا راتبةً، بل هي متعلقة بسببها متى ما وجد وجدت، ليس لها وقت وليس لها عدد، إنها صلاة تسمى بصلاة الاستخارة.
عن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: ((إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ـ ثم يسميه باسمه ـ خير لي في ديني ومعاشي ومعادي وعاقبة أمري ـ أو قال: عاجل أمري وآجلة ـ فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال: في عاجل أمري وآجلة ـ فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به)) ، قال: ((ويسمي حاجته)). هذا الحديث رواه الإمام البخاري وأصحاب السنن الأربعة ورواه الإمام أحمد.
عباد الله، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "عوّض رسول الله أمته بهذا الدعاء عما كان عليه أهل الجاهلية من زجر الطير والاستقسام بالأزلام الذي نظيره هذه القرعة التي كان يفعلها إخوان المشركين يطلبون بها علم ما قسم لهم في الغيب، عوضهم بهذا الدعاء الذي هو توحيد وافتقار وعبودية وتوكل وسؤال لمن بيده الخير كله، الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يصرف السيئات إلا هو، الذي إذا فتح لعبيده رحمةً لم يستطع أحد حبسها عنه، وإذا أمسكها لم يستطع أحد إرسالها إليه، من التطير والتنجيم واختيار الطالع ونحوه، فهذا الدعاء هو الطالع الميمون السعيد، طالع أهل السعادة والتوفيق الذين سبقت لهم من الله الحسنى، لا طالع أهل الشرك والشقاء والخذلان الذين يجعلون مع الله إلهًا آخر، فتضمن هذا الدعاء الإقرار بوجود الله سبحانه والإقرار بصفات كماله من كمال العلم والقدرة والإرادة وتفويض الأمر إليه والاستعانة به والتوكل عليه والخروج من عهدة نفسه والتبري من الحول والقوة إلا به سبحانه واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه وقدرته عليها وإرادته لها، وأن ذلك كله بيد وليه وفاطره وإلهه الحق" اهـ.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وتثبت في أمره، فقد قال تعالي: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمرن:159]".
عباد الله، لقد كان يعلم أصحابه رضي الله عنهم هذه الصلاة وهذا الدعاء كما يعلمهم سورة من القرآن، وما كان ذلك إلا لعلمه بحاجتهم لمثل هذا الدعاء، فكما أن القرآن يحتاج إلى مدارسة ومتابعة ومجاهدة فكذلك هذا الأمر، وأيضا كما أن القرآن لا يستغني عنه المؤمن فكذلك دعاء الاستخارة يحتاجه المرء في أموره كلها.
عباد الله، من أحكام هذه الصلاة أن المرء يستخير في كل أمرٍ من أمور حياته المباحة دون الواجبة والمندوبة والمحرمة والمكروهة، يقول ابن أبي جمرة رحمه الله: "الاستخارة في الأمور المباحة، وفي المستحبات إذا تعارضا في البدء بأحدهما، أما الواجبات وأصل المستحبات والمحرمات والمكروهات كل ذلك لا يستخار فيه" اهـ.
والأمور المباحة كثيرة، مثل السفر والعمارة واختيار الزوجة والتجارة ونحوها، وليس منها الأمور المعتادة كالأكل والنوم، فهذا عبث، جاء في بعض روايات الحديث من حديث أبي أيوب أن رسول الله قال: ((اكتم الخطبة ـ يعني النكاح ـ ، ثم توضأ فأحسن وضوءك، ثم صل ما كتب لك، ثم احمد ربك ومجده، ثم قل: اللهم...)) الدعاء السابق. رواه الطبراني وصححه ابن حبان والحاكم.
عباد الله، لم يعين رسول الله لصلاة الاستخارة وقتًا معينًا، فذهب جمع من أهل العلم إلى جوازها كل وقت، إلا أن الأكثرين على أنها لا تفعل في أوقات النهي.
والأولى أن يكون دعاء الاستخارة بعد صلاة ركعتين خاصتين به، لكن لا مانع من أن تكون بعد أي نافلة إذا دخلها ناويًا لذلك، يقول النووي رحمه الله: "لو دعا الدعاء بعد راتبة الظهر مثلاً أو غيرها من النوافل الراتبة والمطلقة سواءً اقتصر على ركعتين أو أكثر جاز، لكن بشرط أن يدخل الصلاة وفي نيته أن يستخير بعدها"، ويقول الشعراني في شرحه للأذكار: "دعاء الاستخارة له ثلاث حالاتٍ:
الأولى: أن يقوله بعد صلاته ركعتين بنية الاستخارة.
الثانية: أن يكون في موضع لا يستطيع معه الصلاة، فله أن يقول هذا الدعاء وحده.
الثالثة: أن يقول هذا الدعاء بعد أي صلاة نافلة إذا نواه ابتداء".
عباد الله، يقول ابن أبي جمرة رحمه الله: "الحكمة في تقديم الصلاة على الدعاء في صلاة الاستخارة أن المراد بالاستخارة حصول الجمع بين خيري الدنيا والآخرة، فيحتاج إلى قرع باب الملك، ولا شيء لذلك أنجع ولا أنجح من الصلاة؛ لما فيها من تعظيم الله والثناء عليه والافتقار إليه مآلاً وحالاً" اهـ.
عباد الله، إن خير العمل وأصوبه ما كان موافقًا لفعل الرسول ، فاعلموا أنه لم يرد في صلاة الاستخارة قراءة آيات معينة، كما أن تكرار صلاة الاستخارة غير ثابت عنه ، بل قال الحافظ العراقي عنه: "الحديث ساقط لا حجة فيه".
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من البرهان والحكمة، أقول هذا القول، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إن ربي غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبي الهدى وإمام الورى محمّد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فالتقوى هي أولى صفات المؤمنين، فاتقوا الله قولاً وعملاً.
أيها الناس، روى الإمام أحمد وحسن إسناده ابن حجر عن سعد رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من سعادة ابن آدم استخارته الله)) ، ويقول بعضهم: "ما خاب من استخار، وما ندم من استشار"، ويقال: "من أعطي أربعًا لم يمنع أربعًا: من أعطي الشكر لم يمنع المزيد، ومن أعطي التوبة لم يمنع القبول، ومن أعطي الاستخارة لم يمنع الخيرة، ومن أعطي المشورة لم يمنع الصواب".
عباد الله، الاستخارة دليل على تعلّق قلب المؤمن بالله في سائر أحواله، الاستخارة ترفع الروح المعنوية للمستخير، فتجعله واثقًا من نصر الله له، في الاستخارة ـ عباد الله ـ تعظيم لله وثناء عليه، فالاستخارة مخرج من الحيرة والشك، وهي مدعاة للطمأنينة وراحة البال، في الاستخارة امتثال للسنة النبوية وتطبيق لها.
عباد الله، إذا صلى الإنسان هذه الصلاة ودعا بعدها بهذا الدعاء فليمض لما بدا له، يقول ابن الزملكاني رحمه الله: "إذا صلى الإنسان ركعتي الاستخارة لأمرٍ فليفعل بعدها ما بدا له سواء انشرحت نفسه له أم لا، فإنّ فيه الخيرَ وإن لم تنشرح له نفسه، وليس في الحديث ما يدلّ على اشتراط انشراح النفس" اهـ.
إلا أن بعض الناس أحدثوا أمورًا جعلوها علامةً على الاختيار بعد الاستخارة من مناماتٍ وغيرها، يقول صاحب المدخل: "على المرء أن يحذر مما يفعله بعض الناس ممن لا علم عنده، أو عنده علم وليس عنده معرفة بحكمة الشرع الشريف في ألفاظه الجامعة للأسرار العلية؛ لأن بعضهم يختارون لأنفسهم استخارةً غير الواردة، وهذا فيه ما فيه من اختيار المرء لنفسه غير ما اختاره له من هو أرحم به وأشفق عليه من نفسه ووالديه العالم بمصالح الأمور المرشد لما فيه الخير والنجاح والفلاح صلوات الله وسلامه عليه، وبعضهم يستخير الاستخارة الشرعية ويتوقف بعدها حتى يرى مناما يفهم منه فعل ما استخار فيه أو تركه أو يراه غيره، وهذا ليس بشيء؛ لأن صاحب العصمة أمر بالاستخارة والاستشارة لا بما يرى في المنام، ولا يضيف إليها شيئًا. ويا سبحان الله!! إن صاحب الشرع قد اختار لنا ألفاظًا منتقاةً جامعة لخيري الدنيا والآخرة حتى إن الراوي قال في صفتها والحضّ عليها والتمسك بألفاظها: (كان يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن)، ومعلوم أن القرآن لا يجوز أن يغيّر أو يزيد فيه أو ينقص منه" اهـ.
عباد الله، إن مما يقال هنا: إن الأفضل أن يجمع بين الاستخارة والاستشارة، فإن ذلك من كمال الامتثال بالسنة، يقول الله: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159]، يقول أحد السلف: "من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العلماء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذّ ربما زلّ، والعقل الفرد ربما ضلّ".
ثم اعلموا ـ عباد الله ـ أن من خير الأعمال في هذا اليوم الصلاة على نبيكم محمدٍ.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3371)
حلاوة الإيمان
الإيمان
خصال الإيمان
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة انقضاء الأعمار. 2- عبر وعظات من انصرام الأعوام والأوقات. 3- ضرورة قياس الإيمان وتعاهده. 4- حلاوة الإيمان. 5- حب الله تعالى ورسوله. 6- الحب في الله والبغض في الله. 7- كراهية المعاصي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، فإنها خير الوصية، في كل وقتٍ وفي كل حالٍ، ((اتق الله حيثما كنت)) ، ليس هناك شيء أفضل من الوصية بها. إن تقوى الله تورث المرء في الدنيا انشراحًا وانبساطًا، وفي الآخرة فوزًا وسرورًا، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5].
عباد الله، انظروا إلى الشمس؛ كلَّ يوم تطلع من مشرقها ثم تغيب في مغربها، وفي ذلك أعظم العبرة، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:38-40].
إن طلوع الشمس ثم غيابها مؤذِن بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وإنما هي طلوع ثم غياب ثم زوال، ألم تروا هذه الشهور تهلّ فيها الأهلة صغيرةً كما يولد الطفل صغيرًا، ثم تنمو رويدًا كنمو الأجسام، حتى إذا تكامل نموها واشتدت قوتها وكبر جسمها بدأت النقص إلى الاضمحلال؟! وهكذا عمر الإنسان سواء بسواء، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم:54].
عباد الله، مضى عام وبدأ عام، والأيام تطوى والأعمار تقضَى، يبدأ العام وينظر أحدنا إلى آخره نظر البعيد، ثم تمر الأيام عجلى، فينتهي العام كلمح البصر، فإذا هو في آخره، وهكذا عمر الإنسان يتطلع إلى آخره تطلع البعيد، وما يدري إلا وقد هجم عليه الموت.
أيها الناس، إن في مرور الأيام وتصرّم الأعوام عبرا يجب أن تكون عظةً للمتعظين، كما أن العام تكون فيه مُثُل كريمة تبدو واضحة من مناهج الصالحين في دروسٍ رسموها ومناهج سلكوها ليصلوا بها إلى الغاية الكريمة من رضوان الله وكريم ثوابه.
عباد الله، أما العبر التي توجب عند المرء اعتبارًا فلا يحويها بيان ولا تقع في حدودٍ، كم من نكباتٍ للمسلمين وقعت، حروب طاحنه، وقتل وتشريد، انتهاك للحقوق وهضم للكرامات وإماتة للفضيلة. كم مرّ بالأسماع ـ أيها الناس ـ خلال العام المنصرم من أخبارٍ لزلازل عنيفة وفيضانات جامحة مروّعة، كلها مشعرة بعجز المخلوق وافتقاره إلى رحمة الخالق العظيم القادر. كم مر بالأسماع ـ عباد الله ـ من ظروف حرجة مرت بها الأمة الإسلامية كانت مختبرًا لصدق الإيمان وقوة العقيدة.
ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كل عام ترذلون)، يقول ابن كثير: "وهذا الكلام وإن كان لعائشة إلا أنه صحيح واقع يشهد له حديث الرسول : ((لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه إلى أن تقوم الساعة)) ".
يمر بالناس كلَّ عام ما يشهد لقول الله سبحانه: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة:126].
يمر بالناس كلَّ عام ما يشهد لقول الرسول الذي رواه البخاري عن مرداس الأسلمي قال: قال رسول الله : ((يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر، لا يعبأ الله بهم)).
عباد الله، أشد الناس حرصًا على تتبع أيام العام وانتظارها يومًا بعد يوم هو المزارع، يعيش كل عام حياة عجيبة، يحرث ثم يزرع ثم يهتمّ ويرعى ثم يحصد، وما ألذها من ساعةٍ تلك الساعة التي يحصد فيها ما زرع، وهكذا الواجب على المسلم أن تكون حياته كلّها ميدان عملٍ لا يضيع منها ساعة أو لحظة.
إن أشدَّ ما يحرص عليه بنو آدم الاهتمام بصحّتهم وسلامتهم، في الشتاء يدفّئونها ويحمونها من البرد وشدته، وفي الصيف يراعون أجسامهم حتى لا تتأثّر بحرارة الشمس، وهم فيما بين ذلك يمشون مع رغبات أنفسهم، لكن أفلا يكون لقلوبهم مقياس يقيسون به قوّة إيمانهم ليعرفوا به زيادته من نقصه؟!
عباد الله، إن فيما أثر عن الرسول حديث هو كالمعيار لإيمان المرء يقيس به مقدار الإيمان في قلبه، روى البخاري ومسلم أن رسول الله قال: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)). نعم، للإيمان حلاوة وطعم. حلاوة تجعل المؤمن دائمًا في سعيٍ لما يرضي الله سبحانه وسعي دائم في الابتعاد عما يسخطه، حلاوة الإيمان التي منعت ذلك الرجل من مواقعة الحرام فنال ما نال، جاء في الحديث الصحيح: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) ، وذكر منهم: ((رجل دعته امرأة ذات منصبٍ وجمال فقال: إني أخاف الله)).
حلاوة الإيمان ـ عباد الله ـ هي التي ذكرها الرسول لخباب حينما طلب منه أن يدعو الله أن يكشف عنهم أذى الكفار، فقال : ((إن كان الرجل ممن كان قبلكم ينشر بالمنشار ما بين جلده وعظمه ما يرده ذلك عن دينه)). حلاوة الإيمان هي التي تكون سلاحًا للمؤمن خلال أيامه ضد المغريات والشهوات والشبهات.
الخصلة الأولى عباد الله: ((أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)). إن العبادة الحقيقية هي التي تجعل علاقة العابد مع المعبود فوق كل شيءٍ، جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، والله إني لأحبك أكثر من كل شيءٍ إلا من نفسي، فقال: ((لا يا عمر، حتى من نفسك)) ، فقال عمر: والله، إني لأحبك أكثر من كل شيءٍ حتى من نفسي، فقال : ((الآن يا عمر)).
هذه المحبة التي متى ما خلت منها قلوب الناس فإن الله قد توعدهم بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54].
عباد الله، ما منكم أحد إلا وهو يقول: أنا أحب الله ورسوله، ولكن المصيبة ـ أيها الناس ـ أن مثل ذلك لا يكفي، فلا يكفي أن تكون محِبًّا، بل لا بد أن تكون محبوبًا.
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((يقول الله سبحانه: ما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيءٍ أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته)) ، ولقد جاء في حديث آخر عند البخاري: ((إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه جبريل، وينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)) فطوبى لعبدٍ نال هذه المنزلة.
أيها الناس، لا بد للمرء في حياته من تعامل مع الآخرين، وحب الناس بعضهم لبعض إما لدنيا أو وظيفة أو مكانة، ولكن قاعدةً عظيمة بناها لنا رسول الله في التعامل مع الناس في جميع حياتنا وهي الخصلة الثانية في الحديث: ((أن يحب المرء لا يحبه إلا لله)).
نعم أيها الناس، لو بنينا معاملاتنا وتعاملنا مع الناس على قاعدة الحب لله والبغض في الله لم نجد غشا ولا حسدًا ولم نر ظلمًا ولا اضطهادًا، إننا متى ما جعلنا الدنيا هي أساس علاقاتنا فإنما نبني على جرفٍ هارٍ ما أسرع ما يسقط، ولهذا وجدنا أصدقاء في الرخاء بعداء في الشدة.
إن المحبة في الله هي التي تنزل المرء منازل رفيعة، جاء في ذلك الحديث السابق في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه)).
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((خرج رجل يزور أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله بمدرجته ملكًا، فلما مر به قال: أين تريد؟ قال: أريد فلانًا، قال: لقربة؟ قال: لا، فلنعمة له عندك تربها ـ يعني تردّها ـ إليه؟ قال: لا، قال: فلم تأتيه؟ قال: إني أحبه في الله، قال: فإني رسول الله إليك أن الله يحبك بحبك إياه)). أترون شخصًا جعل مثل هذه المحبة مقياسًا له في معاملته يرضى لأخيه بنقص أو ظلم؟! أوَتظنونه يتكلم في عرض أخيه، أم تحسبونه سيؤذيه؟!
جاء في الحديث: ((أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)) ، وروى الإمام أحمد والطبراني بأسانيد صحيحة أن رسول الله قال: ((أيها الناس، اسمعوا واعقلوا واعلموا أن لله عز وجل عبادًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله)) ، فجثا رجل من الأعراب من قاصية القوم وألوى إلى النبي فقال: يا رسول الله، ناس من المؤمنين ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم!! انعتهم لنا يا رسول الله، فسرّ وجه الرسول بسؤاله فقال: ((هم أناس من بلدان شتى ومن نوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نورٍ فيجلسهم عليها، فيجعل وجوههم نورًا وثيابهم نورًا، يفزع الناس ولا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)).
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، يطلب القليل ويكافئ بالكثير، يتفضل على عباده وهو الغني الحميد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس.
إن جميع المخلوقات مهما بلغوا من القوة والصلابة فإنهم مجمعون على الخوف من النار، بل إن أحدًا قد يصبر على أنواع من العذاب إلا أن يعذَّب بالنار، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56].
إن الخوف من النار أمر مفطور عليه ابن آدم، وقد رسّخ هذه القاعدة رسول الله في الخصلة الثالثة، فقال: ((وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)).
عباد الله، كما يكره المرء النار ويبغضها ويخاف منها ينبغي أن يكره المعصية والرذيلة والكفر بالله، كما تخاف من النار خف من الوقوع في المعصية، ميزان دقيق وحكم عدل لو استشعره كل امرئ مقدم على معصية لما وقع فيها.
انظروا ـ عباد الله ـ إلى ذلك الحديث المعروف الدائر على الألسنة: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)). إن القلب الذي لا يجد تنكرًا للمعصية عديم من الإيمان، ولا يجتمع حب المعصية والإيمان أبدًا.
بنو إسرائيل كانوا إذا فعل أحدهم المنكر قالوا: يا عبد الله، اتق الله ودع ما تصنع، فإذا جاء من الغد لم يمنعهم ذلك أن يكون هذا العاصي أكيلهم وجليسهم، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم بعض ولعنهم، لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة:78].
إن الناس ـ عباد الله ـ متى ما استهانوا بهذه القاعدة وهي كراهية المعصية وكراهية أهلها، متى ما استهانوا بذلك فلا عليهم من الله أن يعاقبهم بما أراد، وإنك لتعجب من تعوُّد الناس على الجلوس مع أصحاب معاصٍ ومنكرات كنا في سالف من الزمن نعد الجلوس معهم من أكبر المعاصي، ومن جالسهم فهو منهم، وما وقع ذلك إلا لما انتزعت هذه القاعدة من القلوب.
عباد الله، هذا الحديث مقياس الإيمان في قلب كل مؤمن فلينظر كلٌّ ما قوة إيمانه.
اللهم صل على محمد...
(1/3372)
الإيمان بالقضاء والقدر
الإيمان
القضاء والقدر
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- افتراق الأمة. 2- الفرقة الناجية. 3- سبب الانحراف. 4- الأمور الغيبية توقيفية. 5- أركان الإيمان. 6- تنازع الناس في القضاء والقدر. 7- حقيقة الإيمان بالقضاء والقدر. 8- الإيمان بالقدر عقيدة جميع الأنبياء. 9- ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها الناس ـ وأطيعوه، وأخلصوا له العبادة ووحدوه، واعلموا أن أفضل ما وعظ به الواعظون وذكر به المذكرون معرفة الله تعالى بأنه رب العالمين الرحمن الرحيم المالك المتصرف ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وأن جميع الكون وكل ما فيه خلقه وملكه وعبيده وتحت ربوبيته وتصرفه وقهره.
عباد الله، لقد أخبر ـ وخبره صدق ـ عن افتراق أمته إلى ثلاث وسبعين فرقة كلهم ضُلال إلا فرقةً واحدةً، هي التي وافقت هدي الكتاب والسنة، وسارت على نهج المصطفى ونهج أصحابه من بعده، وإن هذا الافتراق شامل لكل أمور الدين والعبادة، ولكن عند إطلاقه يتبادر إلى ذهن قائله وسامعه التفرق في باب التوحيد والاعتقاد؛ لأن هذا الباب هو الباب الذي إذا كسر لا يمكن إصلاحه إلا بإعادته جديدًا كما كان، فلا يصلح فيه باب فيه ثقوب أو خلل، فأهل الزيغ والضلال في باب الاعتقاد طوائف شتى وفرق عديدة، وكل فرقةٍ فرحة بما عندها.
أما أهل السنة والجماعة الذين ساروا على النهج القويم فإنهم على خطٍ مستقيمٍ في هذا الأمر، بل وفي جميع أمورهم، ولكن باب العقيدة والتوحيد يخصونه بمزيد اهتمام ومزيد عناية؛ لأن الضلال فيه ضلال كبير ليس كالضلال في غيره، والخطأ في التوحيد والعقيدة ليس مثل الخطأ في غيره، وأكثر ما دخل الانحراف على طوائف شتى في هذا الباب بسبب أمرين:
أولهما: الجهل، فكثير هم الذين يجهلون أمور معتقدهم، وقليل من يتحدث عنها، ولو أن الناس إذا جهلوا شيئًا سألوا عنه لبلغوا مرادهم، ولكن على نفسها جنت براقش، ولا ينال العلم مستحٍ ولا مستكبر.
أما السبب الثاني: فهو أن فئامًا منهم أخذوا هذا العلم من غير مصدريه وهما الكتاب والسنة.
العقل ـ أيها الناس ـ لا دخل له في باب العقيدة؛ لأنها من باب الغيب، والغيب لا يُعلم إلا بوحيٍ.
إذا كان ذلك كذلك فاعلموا ـ أيها الناس ـ أن عليكم أن تعلموا أن دين المرء يقوم على ستة أصول، هي كالعمد للبنيان، لو سقط منها عمود سقط البناء أو لا يزال متخلخلاً.
ستة أصول ينبغي لكل مؤمنٍ ومؤمنةٍ الإيمان بها والإقرار بمضمونها، إيمانًا لا خلل فيه، وإقرارًا لا نقص فيه، لخصها رسول الله حينما جاءه جبريل عليه السلام في صورة أعرابيٍ غريبٍ فسأله عن الإيمان فقال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)).
الإيمان بالقضاء والقدر زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، وتحيرت فيه عقول، تنازع الناس في القدر منذ زمنٍ بعيدٍ حتى في زمن النبوة، كان الناس يتنازعون ويتمارون فيه، ولقد روي أن الرسول خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر فنهاهم عن ذلك، وأخبرهم أنه ما أهلك من قبلهم إلا تنازعهم فيه.
ولا يزال الناس إلى يومنا هذا يتجادلون فيه، ولكن الله هدى عباده وفتح على المؤمنين من السلف الصالح بالعدل فيما علموا وما قالوا؛ لأن الحق فيه واضح لا مراء فيه.
عباد الله، الإيمان بالقدر جزء من أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، فيندرج تحت توحيد الربوبية الإيمانُ بقدر الله، ولهذا قال الإمام أحمد: "القدر قدرة الله".
أيها المؤمنون، لا بد لكل مؤمنٍ بالقضاء والقدر الإقرار بأربعة أمورٍ هي معنى القضاء والقدر، من أقر بها فقد استكمل إيمانه بهذا الركن ولا عليه بعد ذلك من تفاصيل العلماء التي دعت إليها مجادلة أهل الباطل.
أول هذه الأمور: العلم بأن الله قد أحاط بكل شيءٍ علمًا، فيؤمن الإنسان إيمانًا جازمًا لا شك فيه بأن الله بكل شيءٍ عليمٍ، وأنه يعلم ما في السموات والأرض جملةً وتفصيلاً، سواء كان ذلك من فعله أو من فعل مخلوقاته، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم ما مضى وما هو حاضر الآن وما هو مستقبل، إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ق:16]، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة:283]، من أنكر هذا الأمر فقد كفر؛ لأنه ليس ضد العلم إلا الجهل، ومن قال: إن الله جاهل فقد دخل في أمرٍ لا خلاص له منه.
إذا أقر الإنسان بهذا الأمر فليعلم بعد ذلك أن كل شيءٍ من أمور الدنيا منذ خلقها الله إلى يوم القيامة مكتوب في اللوح المحفوظ عند الله سبحانه، يقول : ((إن أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن، فجرى القلم في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة)) ، يقول الله سبحانه: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70]، فكل شيءٍ معلوم عند الله، وهو مكتوب عنده في كتاب.
ولما سئل عما نعمله: أشيء قد مضى منه وفرغ؟ قال: ((إنه قد مضى وفرغ منه)) ، وقال له الصحابة: أفلا نتّكل على الكتاب المكتوب وندع العمل؟ فقال: ((اعملوا فكل ميسّر لما خلق له)) ، وتلا قوله سبحانه: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10]، رواه البخاري ومسلم.
روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو أنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)).
عباد الله، إذا أقر المرء بهذا الأمر فليعلم أن كل ما في هذا الكون فهو تحت مشيئة الله، فلا يكون شيء إلا إذا شاءه الله سبحانه، سواء من فعله أو من فعل مخلوقاته، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68]، وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]، ويقول سبحانه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:137]، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253]، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ [النساء:90].
أما آخر الأمور الأربعة التي من أقر بها فقد استكمل الإيمان بالقضاء والقدر فهو أن يقر بأن جميع الكائنات مخلوقة لله تعالى، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62]. فالله عز وجل هو الخالق وما سواه مخلوق، ما من موجودٍ في السماوات والأرض إلا والله خالقه، حتى الموت خلقه الله تبارك وتعالى، يقول سبحانه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]. فإذا علم المؤمن ذلك فليعلم أن خلقه أحكم خلقٍ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلْ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [لقمان:11].
الإيمان بالقضاء والقدر شريعة جاء بها جميع الأنبياء والمرسلين، فإبراهيم يقول لقومه: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، وموسى لما جادله فرعون قائلا: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:51، 52]، ونوح لما خاطب ابنه كي ينجو من الغرق قال الابن: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ [هود:43]، ولما تعجب زكريا كيف يأتيه الولد وهو طاعن في السن قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40]، ومريم البتول تقول: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:47].
اللهم اجعلنا ممن ييسَّرون لعمل أهل السعادة، اللهم اكتب لنا الصلاح في الدنيا والآخرة.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، خلق فسوى وقدر فهدى، له مقاليد السماوات والأرض وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، بيده الخلق والأمر، وإليه يرجع الأمر، لا راد لقضائه ولا دافع لأمره، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاعلموا ـ أيها الناس ـ أن المؤمن ما دام يسير في هذه الدنيا وهو متمسك بدينه قولاً وفعلاً فلا شك أنه سيجد السعادة في دنياه هذه ويوم القيامة، فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:123-126].
عباد الله، إن المؤمن إذا آمن بالقضاء والقدر اعتمد على الله عز وجل وحده عند فعله للأسباب بحيث لا يعتمد على السبب نفسه؛ لأن كل شيءٍ بقدر الله تعالى، فالمريض مثلاً يشرب الدواء ويترك الطعام طلبًا للصحة، فيعلم أن هذه الأمور لا دخل لها وأن الأمر كله لله وحده، هو المنزل له وهو الدافع، وأن المؤمن إنما يفعل الأسباب.
إذا أقر الإنسان بالقضاء والقدر لم يعجب بنفسه عند حصول مراده، لأن حصوله نعمة من الله تعالى بما قدره من أسباب الخير والنجاح، فعليه شكر هذه النعمة، وإعجابه بنفسه ينسيه شكرها، فالطالب إذا نجح والتاجر إذا ربح فالشكر لله أولاً لأنه هو الذي يسر لهما ذلك، لا دخل لأنفسهما إلا بسبب تقدير الله عز وجل، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشعراء:78-81].
أيها الناس، إذا اعتقد المؤمن عقيدة القضاء والقدر زال عنه القلق والضجر حين يفوت عليه مراده أو يحصل له ما يكره؛ لأنه يعلم أن ذلك مقدر عليه من ملك السماوات والأرض، وما قدر كائن لا محالة، عند ذلك يصبر ويحتسب، لو علم المرضى أن المرض إنما جاء بتقدير الله سبحانه ما جزع مريض من مرضه ولا اشتكى إلى الناس مما أصابه.
إذا آمن الإنسان بالقضاء والقدر حصل له راحة نفسٍ وطمأنينة قلبٍ، فلا يقلق بفوات محبوبٍ أو حصول مكروهٍ.
أيها الناس، لا أحد أطيب عيشًا ولا أريح نفسًا ولا أقوى طمأنينةً ممن آمن بالقدر، ويجمع الله سبحانه كل هذه الأمور فيقول: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:22، 23].
اللهم ثبتنا على عقيدة القضاء والقدر، اللهم حقق لنا ثمرتها، وزدنا من فضلك، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد...
(1/3373)
وصايا نبوية
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الهدف من الحياة. 2- أهمية السنة النبوية. 3- حاجة الناس إلى النصيحة. 4- وصية نبوية جامعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الوصية ـ أيها الناس ـ أن تتقوا الله في كل أموركم، فإن تقوى الله مفتاح كل خير في الدنيا، وهي الموصلة إلى الجنة في الآخرة، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5].
عباد الله، الإنسان في هذه الحياة بلا هدف أشبه بالحيوان، لا يمكن أن يستقيم أمره إلا إذا سار لهدف الخلق وهو إقامة دين الله والسير عليه. ما أجمل أن يعيش الإنسان في هذه الدنيا متقيِّدًا بالكتاب والسنة، يرعوي لأوامرهما، وينتهي عن نواهيهما، إن سمع حقًا استجاب له، وإن رأى باطلاً أعرض عنه، ضاعت عنده المقاييس إلا مقياس الإيمان الذي به يرتفع الشخص وبه يسمو، وبالإخلال به يهوي المرء في ظلمات الانحدار.
عباد الله، إن سنة المصطفى هي المنبع الثري للهدى والنور، هي معين لا ينضب، وحق لا يعطب، وإن وقوف المرء عند حديثٍ من أحاديث المصطفى الخارج من مشكاة النبوة يحمل النفس على أن تعرف أسراره وتستضيء بأنواره، فلا تنفك نفس المؤمن تأخذ الدروس والعبر من هذا الكلام، ثم هي بعد ذلك وقبله تؤمن بالنبي المصطفى وأن ما جاء به حق، وكأنما قيل الآن. كلامٌ صريح لا فلسفة فيه ولا تمنطق ولا تنطع، لأنه ينطق عن الله سبحانه، كلما أعاد المؤمن النظر في أحاديث محمدٍ عَلم عِلم اليقين أن هذا الدين صالح لكل زمان ومكان، وأن أي عمل لم يكن موافقًا لهدي محمدٍ فلا شك أنه ضلال، ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
أيها الناس، لخّص الرسول هذا الدين ووصفه وصفًا جامعًا فقال: ((الدين النصيحة)). إن الإنسان لا بد له من نصيحة غيره من الناس، يدلّونه على الخير ويحذّرونه من الشر، وفي حديثٍ آخر لمسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حق المسلم على المسلم ست)) ، قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: ((إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فسمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)) ، لكن إذا كانت النصيحة صادرةً من مشكاة النبوة فما أروعها وأصدقها وأنصعها.
عباد الله، روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذرٍ رضي الله عنه قال: أمرني خليلي بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل رحمي وإن أدبرت، وأمرني أن لا أسأل أحدًا شيئًا، وأمرني أن أقول بالحق وإن كان مرّا، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن من كنزٍ تحت العرش.
ما أجمعها من نصيحة صدرت من خير ناصح ، ويجتمع معها وصية أخرى قالها لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حيث قال: أوصاني رسول الله بعشر كلماتٍ، قال: ((لا تشرك بالله شيئًا وإن قتلت وحرّقت، ولا تعقّنّ والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك، ولا تتركنّ صلاةً مكتوبة متعمّدًا فإن من ترك صلاة مكتوبةً متعمدًا فقد برئت منه ذمة الله، ولا تشربن خمرًا فإنه رأس كل خطيئةٍ، وإياك والمعصية فإن بالمعصية حل سخط الله، وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس، وإن أصاب الناس موتان وأنت فيهم فاثبت، وأنفق على عيالك من طَولك، ولا ترفع عنهم عصاك أدبًا، وأخفهم في الله)) رواه الإمام أحمد وروى ابن ماجه بعضه.
عباد الله، ما أحوجنا جميعًا أن نعيش حياتنا على وفق هذه النصائح؛ فإنها ما تركت شيئًا إلا ذكرته.
أهم أمر في هذه الدنيا هو توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، ولا يستقيم الإيمان للمؤمن إلا بالصبر على هذا الطريق مما قد يصاب المتمسك به من الأعداء؛ إما من الشيطان أو من شياطين الإنس.
إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن أوقدت له نار ليس لها مثيل، كل ذلك لأنه آمن بالله، وجاء خباب إلى رسول الله وهو متوسد بردةً له في ظل الكعبة فقال: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو لنا؟! فقال: ((كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشقّ باثنتين وما يصده عن دينه، والله ليتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) رواه البخاري. إن بين تضاعيف التاريخ صورًا من محاولاتٍ للصد عن هذا الدين، ولكن ما أجمل وصية الرسول : ((لا تشرك بالله شيئًا وإن قتلت وحرقت)).
أيها الناس، أعظم الواجبات بعد توحيد الله إقامة الصلاة حق الإقامة؛ لأنها عمود الدين، وهي الفارقة بين الرجل والشرك، المتساهل بها محبط لدينه مردٍ لنفسه إلى الهاوية، ولقد صدق رسول الله : ((ولا تتركن صلاةً مكتوبةً متعمدًا؛ فإن من ترك صلاةً مكتوبةً متعمدًا فقد برئت منه ذمة الله)). والصلاة أكبر رابط بين المرء وبين ربه، فلا غرو أن يكون المرء محفوفًا برعاية الله ما دام محافظًا على الصلاة، فأما من تركها فقد نقض العهد، فآن لشياطين الإنس والجن أن تتخطفه.
عباد الله، من يخالط الناس عليه أن يعطي كل صاحب حقّ حقَّه، وأعظم الحقوق حق الوالدين اللذين هما سبب نشوئك ووجودك، وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]. إن حق الوالدين من أعظم ما يجب على الولد، بل لقد بلغ من ذلك أن يتخلى الإنسان عن أهله وماله لأجلهما، يقول : ((لا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك)).
لا يعيش المرء بدون علاقات وقراباتٍ، ولقد جاءت الرحم وتعلّقت بالعرش فقالت لله: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك. ويقول في وصيته هذه: ((وأمرني أن أصل رحمي وإن أدبرت)).
نعم أيها الناس، ما أكثر الأرحام المقطوعة؛ حين جعل الواصل هدفه ردَّ الصلة، جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إن لي رحمًا أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، فقال : ((لئن كنت كما تقول فكأنما تسفهم المل، ولا يزال عليك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك)).
إنّ الحياة الدنيا ـ أيها الناس ـ طبقات ودرجات، ومن رفع رأسه أكثر من قدره سقط، ومن طلب ما ليس له لم يدركه وفاته ما له، يقول أبو ذرٍ رضي الله عنه: (وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي). ما تراكمت الديون على الناس إلا حين نظروا إلى من فوقهم وطلبوا ما ليس لهم، وفي الحديث الآخر قال: ((فإن ذلك أجدر أن لا تزدروا نعمة الله)).
وإن من أعظم ما يثبت هذه القاعدة ـ عباد الله ـ الدنو من الضعفاء والمساكين بالعطف والإحسان والشفقة، فإن من عرف ما فيه حال من دونه أوشك أن يوصله الله إلى ما يريد.
أيها الناس، العقل ميزان الأمور، فإذا فقد الإنسان عقله صار خطؤه أكثر من صوابه. ألا وإن الخمر هي المفسدة للعقل والمتلفة له، يقول : ((ولا تشربن خمرًا فإنه رأس كل خطيئةٍ)) ، إذا تلف عقل المرء فقد ضيع دينه ووقع في المعاصي والموبقات، وما نزل سخط من الله ولا أرسل عقوبةً إلا بسبب هذه المعاصي والذنوب، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
فاتقوا الله أيها الناس، وتمسكوا بهدي نبيكم؛ تضمن لكم الحياة السليمة من المكدرات في الدنيا والآخرة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، واعلموا أن هذا الدين لا يقوم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما لم يتآمر الناس ويتناهوا فيما بينهم فقد آذنوا على أنفسهم بالعقوبة.
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى إيمانٍ يوجِد عند المرء خوفًا من الله يزيل عنده كل خوفٍ، يقول أبو ذرٍ في هذا الحديث: (وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائمٍ).
إن كلمة الحق لا بد من صدورها، فإنها إذا تركت ضاعت حقوق وأهدرت أموال وتجرأ الجهال على الله عز وجل، يقول أبو ذرّ رضي الله عنه: (وأمرني أن أقول بالحق وإن كان مرا). إنّ قول الحق أمر أوّله عند قائله مرارة، وآخره حلاوة وسعادة، ولا يصل إلى النهاية من لم يطأ في طريقه أشواكًا.
عباد الله، أشرف الأعمال أن يعمل الإنسان بيده، يأكل وينفق ويتصدق، وما أكل المرء أفضل من أكله من صنع يده، ولقد كان نبيّ الله داود لا يأكل إلا من عمل يده، ولقد رعى النبي الغنم لقريشٍ على قراريط يأخذها منهم.
إن الحاجة إلى الناس مذلة، ومن طلب من غيره أمرًا صغيرًا فيوشك أن يطلب منه أمرًا كبيرًا، ولقد كان صحابة رسول الله رضي الله عنهم يسقط السوط من أحدهم فينزل من دابته فيأخذه ولا يطلب من أحد شيئًا، كل ذلك امتثالاً لوصية الرسول لهم. يقول أبو ذرٍ: (وأمرني أن لا أسأل أحدًا شيئًا)، ويقول في حديث معاذٍ: ((وأنفق على عيالك من طولك)) أي: من كسبك وعمل يدك.
عباد الله، الأبناء زينة الدنيا، ويبقى ذكر المرء ما بقي له أبناء، يحملون خيرًا ويورثون خيرًا، وينشؤون بين الناس على الخير، ولا يكونون كذلك ما لم يجدوا أبًا مربيًا وأمًّا ناصحة، يقول معاذ في حديثه: ((ولا ترفع عن عيالك عصاك أدبًا)) ، وتأمّلوا قوله في آخر الحديث: ((وأخفهم في الله)). إن التربية مهما سمت وعلت وما لم تكن مربوطةً بالخوف من الله واستشعار عظمته وحقه فإنها على شفا جرفٍ هارٍ.
أيها الناس، إن هذه الوصايا التي صدرت من محمدٍ لا بد أن يعلم المرء معها أنه ما من شيءٍ في هذه الدنيا إلا وهو تحت مشيئة الله وقدرته وأنه لا قدرة للمرء على شيءٍ ما لم يقدره الله عليه، ولهذا ختم نصيحته لما ذكره أبو ذرٍ رضي الله عنه: (وأمرني أن أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن من كنزٍ تحت العرش). إن ارتباط المؤمن دائمًا بربه بذكره وحمده وثنائه يوجد عنده الصبر على ما أصابه وعدم الحزن على ما فاته.
اللهم صل على معلّم الناس الخير والناصح لهم نبينا محمد...
(1/3374)
القنوات الفضائية
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, الإعلام
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صلاح الإسلام لكل زمان ومكان. 2- حرص النبي على أمته. 3- سعي أعداء الإسلام في إفساد المسلمين. 4- النهي عن مخالطة الكافرين والسفر إلى بلادهم. 5- خطورة السفر إلى بلاد الكفر عبر القنوات الفضائية. 6- أضرار القنوات الفضائية. 7- زواجر عن إدخال القنوات الفضائية للبيوت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى, وخير الهدي هدي محمد , وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الناس، إن الوصية لكم جميعًا هي أن تتقوا الله تعالى حق التقوى, فإن التقوى هي خير لباس وأفضل زادٍ, وما علا شخص وارتفع إلا بتقوى الله تعالى، فاتقوا الله في جميع أوقاتكم وراقبوه, واذكروا نعمه عليكم، وإياكم وكفرها فإن كفرها من أسباب نقم الله, وإن نقم الله بعباده شديدة، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:53].
عباد الله، إننا مع مضيّ الليالي لا نزداد إلا رسوخا في صدق ما جاء عن الله وعن رسوله , ونزداد أيضا علما بأن ما جاء عن الله وعن رسوله صالح لتعاقب الأيام والدهور, وإنه ما من شيء إلا وقد بين الله حكمه وبينه رسوله.
وإن هناك قاعدة لا بد أن تكون راسخة في عقل كل مسلم، وهي أن خوف الرسول على أمته شديد، وأن الأوائل والأواخر من أمته سواء، حتى إنه أخبر أصحابه عن أشياء لم تكن لتقع في عهده هو, وحذر هو منها خوفا على الأمة, ومن ذلك سؤال حذيفة بن اليمان: هل بعد هذا الخير من الشر؟ فلما أخبره بما سيقع قال: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: ((كتاب الله وسنتي)).
إنه ما من أمر حذر منه رسول الله إلا وتحذيره عام لكل زمان ومكانٍ.
أيها الناس، إن ثمة أمرا ثبته الله ورسوله ليعلمه كل مؤمن ومؤمنة على طول الزمن, وهو أن أعداء الإسلام يخططون لسلب المسلمين دينهم وأموالهم والقضاء عليهم: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ [البقرة:109]، مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:105]، وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ [النساء:89].
إن مثل هذه الآيات ترسّخ قاعدة عظيمة وهي سعي المشركين لإفساد الدين وهدمه بأي طريق، لأجل هذا جاء النهي صريحًا من الله عز وجل ومن رسوله بتحريم كل ما قد يكون سببا لإزالة دين المسلم, ومن أعظم تلك الأسباب مخالطة المشركين وحبهم والتشبه بهم؛ لأن المخالطة تقتضي ولا شك امتزاجًا وتداخلاً.
عباد الله، إن من أعظم ما يفسد دين المسلم ويجعله رقيقا هو السفر إلى بلاد الشرك والوثنية, يقول : ((إنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، لا تراءى ناراهما)) رواه أبو داود والترمذي.
إن بلاد الكفار فيها من الكفر والإلحاد والانحطاط في الأخلاق والسلوك ما يجعل المرء يأنف من البقاء فيها, فكيف والنهى في ذلك ظاهر والدليل قائم؟! جاء جرير بن عبد الله إلى رسول الله وهو يبايع فقال: يا رسول الله, ابسط يدك حتى أبايعك, واشترط علي فأنت أعلم, قال رسول الله : ((أبايعك على أن تعبد الله وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتناصح المسلمين وتفارق المشركين)) أخرجه النسائي والبيهقي وأحمد بسند صحيح، وجاء عن سمرة أن رسول الله قال: ((لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فهو مثلهم)) ، وروى البيهقي أنه قال: ((من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة)) ، وروى النسائي وابن ماجه بسند حسن عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله قال: ((كل مسلم على مسلم محرم، أخوان نصيران، لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعدما أسلم عملا أو يفارق المشركين إلى المسلمين)).
إن مفاسد السفر إلى بلاد المشركين ليست بتلك الخفية حتى نحتاج إلى أن نعددها، ولكن في أحيان كثيرةٍ يكون السفر إلى بلاد المسلمين أشد ضررًا من السفر إلى بلاد الشرك وإن اجتمعا في الضرر، ذاك أنها بلدان يميع فيها الدين باسم التمسّك به، وضعوا لهم علماء سوءٍ يزيّنون لهم ما يريدون.
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة على النفس من وقع الحسام المهنّد
أيّها الناس، إنني أتكلم عن سفر ليس في أذهان الكثير, بل حتى إنهم لا يحسبونه سفرًا، إنه ليس السفر المعتاد الذي ينال المسافرَ فيه مشقة وتعب؛ ففيه حل وارتحال, وفيه غربة عن الأوطان. إنني أتحدث عن سفر لا يحتاج إلى جوازاتٍ ولا حجوزات, سفر لا يحتاج المسافر فيه سنا معينا, سفر لا يحتاج المسافر فيه إلى مرافق؛ بل مرافقه الشيطان ونفسه الأمارة بالسوء, سفر المسافر فيه أمير نفسه، يذهب كيف شاء, وينتقل بين البلدان كلما رغب عن بلد ذهب إلى بلد آخر, سفر يخلو الرجل فيه بمن شاء من نساءٍ كاسياتٍ عارياتٍ, يضحك معهن ويقلب بصره في حسنهن، قد انتزع منه حياؤه.
إنه ـ يا عباد الله ـ سفرٌ المرأةُ فيه تسافر لوحدها لا محرَمَ معها, تختلط فيه مع الرجال, تضحك لضحكهم وتحزن لحزنهم, ووالدها ينظر, وزوجها يبصر، وأخوها يعلم، ولكنهم لا يحركون ساكنًا.
الصغير في هذا السفر له متعة خاصة، ولكنها هادمة للعقيدة مفسدة للفطرة منافية للأخلاق, يتعلم الصغير في هذا السفر ما يستحي من الحديث عنه الكبار.
لا غرو إذًا ـ عباد الله ـ أن يعود الناس من هذا السفر بعقائد منحرفة وفطر منكوسةٍ وأخلاق فاسدة. إن الناظر فيما يستجد بين المسلمين اليوم من أعياد شركية أو بدع قوليةٍ أو فعليةٍ لو تأمله الإنسان لعلم أن مبتدأه تأثر الناس بالمشركين عن طريق هذا السفر, أما كان جديرًا بنا إذًا أن نتكلم عن أصل المشكلة قبل أن نتكلم عن أطرافها, أن نسدّ الباب من أصله؟!
ما تحدث الناس وفتحوا أفواههم في الحديث عن المرأة وحاولوا تغريبها إلا لأن أعداء الملة أظهروا لهم المرأة عبر هذا السفر في صورةٍ لها وجهان وجه ظاهر مزين أمام الناس, والخفي عارٍ من الأخلاق هي فيه سلعة رخيصة لا وزن لها.
إن السفر الذي أتحدث عنه هو سفر الإنسان بعقله وقلبه إلى بلاد الانحلال والشرك والمجون عبر القنوات الفضائية التي غزت بيوت فئامٍ من الناس.
إن السفر إلى هذه البلدان عبر القنوات الفضائية أشد ضررا وخطرا, وأقبح نتيجة من السفر إلى تلك البلاد بالجسم بالطرق المعروفة؛ لأن المسافر بجسمه يستطيع أن يقارع الحجة بالحجة والدليل بالدليل، لكن الناس الذين يقضون أوقاتهم أمام هذه القنوات هم فقط يلتقطون ويسمعون ليس إلا.
عباد الله، إن هذه القنوات الفضائية التي رضي ناس أن يدخلوها بيوتهم محرمة شرعًا، وإنه وإن تجوّز ناس بإباحتها إلا أنهم يقرون ولا بد بأن ما فيها من خيرٍ غارق في بحرٍ من الظلمات, قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، والحرمة تقدّم على الإباحة, ذلك لأنها وإن سلمت من الدعوة إلى الشرك الصريح فلن تسلم من الدعوة إلى الانحلال الخلقي والفكري والسلوكي, ولن تسلم من علماء سوء يزينون للناس ما أرادوا باسم السهولة والتيسير. وأكبر شاهد على ذلك أننا صرنا نسمع ونقرأ عمن يتحدثون ويشككون في أمور هي من مسلّمات العقيدة ويجادلون فيها, وما جاء ذلك منهم إلا تأثّرًا بمثل هذه القنوات.
أما جانب الأنباء والأخبار في هذه القنوات فحدث ولا حرج، كم قلبت من حقائق, وكم أثيرت من فتن, وكم كبر من صغير وعظم من حقير بسبب نشرة أو تحليل أخبار, ونسي الناس أن أكثر هذه القنوات قد سبحت في بحر الصهيونية أو خاضت في غمار الماسونية.
عباد الله، إذا وجد الحياء في نفس المرء منعه من الكثير, وحال بينه وبين الحقير من الأمور, وأما إذا خلع المرء برقع الحياء ولم يعد في وجهه للمروءة ماء أتى السيئات وهو يظن نفسه محسنًا, وتجرأ على المنكر الشنيع وهو يحسبه هينا, وقد قال : ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الصادق في وعده، المتصرف في خلقه، وأشهد أن لا إله إلا الله، هو سبحانه يعد المحسن فيوفيه وعده، ويتوعد المسيء فيوقع عليه وعيده، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، كان رفيقًا بأمته يبحث الخير لهم ما استطاع، ويخاف عليهم من الشر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإن التقوى هي الوصية لكل مؤمنٍ ومؤمنة، فاتقوا الله ـ أيها الناس ـ واحذروا عقابه.
أيها الناس، هذه ثلاثة أمور هي ذكرى لكل رجلٍ رضي أن يدخل مثل هذه القنوات في بيته:
الأولى: أن الله عز وجل قد أمر الناس أن يتقوا الله في أنفسهم، فأين تقوى الله في هذه المعصية حين تجول ببصرك بين أمورٍ محرمةٍ ومنكرة؟!
الثانية: أن الله أمرك بأهل بيتك وأن تقيهم من النار: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] أي: أنقذوا أنفسكم وأهليكم من نار الله الرهيبة الموجعة، وأنقذوا معكم أهليكم الذين تزعمون أنكم تحبونهم، فكيف تحبونهم وأنتم تلقون بهم في مجالاتٍ خطرةٍ وعفنٍ ماجنٍ وصورٍ منحلةٍ؟!
ألا يخشى من رضي لأولاده وأهل بيته بمثل هذه الأمور من مغبة حديث رسول الله الذي في صحيح مسلم؟! يقول عليه صلوات الله وسلامه: ((ما من مسلم يسترعيه الله رعيةً يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) ، ولا أدري هل من أحدٍ ينازع في أن مثل هذه الأمور من الغش للأهل والأولاد؟!
فإن أبيت إلا السير خلف هوى نفسك ومطاوعة الشيطان فأذكرك أمرًا ثالثًا: وهو أن أمامك أمرين لا محيص لك عنهما، وهي أنك تتقلب في نعم الله صباح مساء، ألا تخاف أن يفجأك الله بعقوبةٍ من عنده؟! فما أكثر العقوبات الدنيوية، هذه الزلازل ما بين طرفة عينٍ تنتهي بلاد كاملة، أتظن أنك في ملجأ من الله؟! إن كفر النعم وعصيان الله في أرضه هو سبب النقم من الله.
إنك إن أبيت إلا الإصرار على الذنب فإن أمامك أمرًا آخر لن تنجو منه وهو المبيت في حجرةٍ مظلمةٍ يملأ التراب فاك وينخر الدود عظامك، ثم تقف حافيًا عاريًا أمام الله يوم القيامة، ويزيد من ألمك وحسرتك أن أهلك وذويك سيتعلقون بك في ذلك اليوم يريدون حقوقهم، كيف خدعتهم وغششتهم؟! سيتعلق بك زوجك وابنك وبنتك وأخوك، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24]. فإلى كل شخص وضع هذا الجهاز في بيته أقول: ستقف والله بين يدي الله يوم القيامة وسيسألك، فماذا ستجيب أمام علام الغيوب؟!
أيها الناس، إن من يعلم بضرر هذه القنوات الفضائية وقبيح عاقبتها ثم لا يستجيب لنداءٍ ولا يرعوي لموعظةٍ فلا عليه إذًا أن يجد على رقبة ابنه ناقوسًا أو صليبًا، ولا عليه أن يرى أبناءه يترنحون من أثر المسكرات والمخدرات، ولا عليه أن يرى بنته ومحرمه تصادق فلانًا وتخرج وتدخل بلا حياءٍ ولا غيرةٍ، ولا عليه أن يسمع عن علاقاتٍ محرمةٍ بين نساءٍ متزوجات مع أخدانٍ وأصحاب.
إن ما يبصره المرء عبر هذه القنوات لا بد أن يتأثر به وإن طال الزمن، ولكن الشيطان يعمي ويصم. إن المرء قد يمضي سنواتٍ طويلةً في إصلاح أهله وأولاده ثم يفسدهم في لحظاتٍ إذا سمح لهم بمثل هذه الأمور.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
(1/3375)
الواسطة والشفاعة
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل حسن الخلق. 2- حاجة الناس بعضهم إلى بعض. 3- أعظم المعروف. 4- فضل قضاء حوائج الإخوان. 5- فضل الشفاعة الحسنة. 6- شفاعة الرسول. 7- آداب طلب الحاجة من الناس. 8- الشفاعة السيئة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
عباد الله، حسن اللقاء وطيب الكلام ومشاركة الأخ لأخيه في السراء ومواساته في الضراء كل أولئك من كريم الخصال وحميد الشيم، وهذه الأمور من المعروف الذي يجب على كل مسلم أن لا يقلل من شأنه أو يحتقر بذله، ((لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تفرغ دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط)).
الناس ـ عباد الله ـ لحمة لا يستغنون عن التعاون، ولا يستقلّون عن المضافر والمساعد، فإنما ذلك كله تعاون ائتلافٍ، يتكافؤون فيه ولا يتفاضلون، ولربما احتاج شخص إلى آخر، والمحتاج إليه أقل من المحتاج، كاستعانة السلطان بجنده والمزارع بعماله، فليس من هذا بد، ولا لأحد عنه غنى.
أيها الناس، أعظم المعروف ما ترك في نفسٍ أثرًا طيبًا تذكره فتشكره، وإذا كان انبساط الوجه للأخ يعتبره الإسلام معروفًا يؤجر عليه العبد، فكيف بما هو أكثر نفعًا وأعظم فائدةً تعود على الأخ المسلم، كبسط اليد إليه بالإنفاق، وكواسطة الخير في أمرٍ مشروع، وكتفريج الكرب عن المكروب أو دفع المكروه؟!
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من نفس عن أخيه كربةً من كرب الدنيا نفس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسرٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر على مسلمٍ ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)).
الواجب على المسلمين كافةً نصيحة المسلمين والقيام بالكشف عن همومهم وكربهم؛ لأن من نفس كربة من كرب الدنيا عن مسلمٍ نفس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن تحرى قضاء حاجته ولم يكتب قضاؤها على يديه فكأنه لم يقصّر في قضائها، وأيسر ما يكون في قضاء الحوائج استحقاق الثناء، والإخوان يعرَفون عند الحوائج، كما أن الزوجة تختَبر عند الفقر؛ لأن الناس في الرخاء كلّهم أصدقاء، وشر الناس الخاذل لإخوانه عند الشدّة والحاجة، كما أن شرّ البلاد بلدة ليس فيها خصب ولا أمن.
يقول الحسن البصري: "قضاء حاجة أخٍ مسلم أحبّ إلي من اعتكاف شهرين"، وجاء رجل إلى الحسن بن سهل يستشفع به في حاجة فقضاها، فأقبل الرجل يشكره فقال له الحسن: "علام تشكرنا ونحن نرى أن للجاه زكاة كما أن للمال زكاة؟!", وفي لفظ: "ونحن نرى أن كتب الشفاعات زكاة مروءاتنا؟!".
وروى البخاري ومسلم عن أبي موسي رضي الله عنه قال: كان رسول الله إذا أتاه طالب حاجةٍ أقبل على جلسائه فقال: ((اشفعوا فلتؤجروا، وليقض الله على لسان رسوله ما أحبّ)) ، وفي رواية: عن معاوية أن رسول الله قال: ((إن الرجل ليسألني عن الشيء فأمنعه كي تشفعوا له فتؤجروا)).
عباد الله، الإفضال على الناس والإحسان إليهم شرف عظيم جعله الله لكل صاحب مالٍ أو جاه، بل إن من أعطاه الله عز وجل نعمةً من مالٍ أو جاهٍ فقد وجب عليه الإحسان إلى الناس، روى الطبراني في معجمه وابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج بإسناد حسّنه الهيثمي عن ابن عباس أن رسول الله قال: ((ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه ثم جعل شيئا من حوائج الناس إليه فتبرم فقد عرض تلك النعمة للزوال)) ، وفي رواية: ((إن لله أقوامًا يختصهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم)).
حقيق ـ عباد الله ـ على من علم الثواب أن لا يمنع ما ملك من جاهٍ أو مال إن وجد السبيل إليه قبل حلول المنية فينقطع عن الخيرات كلها، والعاقل يعلم أن من صحب النعمة في دار الزوال لم يخل من فقدها، وأن من تمام الصنائع وأهنئها ما كان ابتداء من غير سؤال.
إذا ضاقت بالصحابة ضائقة ذهبوا إلى رسول الله يسألونه الشفاعة لهم فيها عند أصحبها، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: إن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقًا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله ليشفع له إليه، فكلم الرسول اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى... إلى آخر الحديث.
عباد الله، يقول الله سبحانه: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [النساء:85]. وروى الجماعة إلا الترمذي عن كعب بن مالك أنه تقاضى كعب بن أبي حدردٍ دينًا كان عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى: ((يا كعب)) ، فقال: لبيك يا رسول الله، قال: ((ضع من دينك هذا)) وأشار إليه أي: الشطر، قال: قد فعلت يا رسول الله، قال: ((قم فاقضه)).
أيها الناس، اسمعوا إلى ما أعده الله للقاضين للناس حوائجهم والكاشفين كروبهم، أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب قضاء الحوائج بإسناد حسن والطبراني وابن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله : ((أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينًا أو تطرد عنه جوعًا)) إلى أن قال في آخر الحديث: ((ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق يفقد العمل كما يفسد الخل العسل)).
عباد الله، الحاجة إلى الناس من أثقل الأمور، ألا فليعلم من ابتلي بمثل هذه أنه يجب عليه أن لا يحلف في السؤال، فإن شدة الاجتهاد ربما كانت سببًا للحرمان والمنع. ألا وليختر المكان المناسب والزمان المناسب، روي عن عمر أنه قال: (لا تسألوا الناس في مجالسهم ولا مساجدهم فتفحشوهم، ولكن سلوهم في منازلهم، فمن أعطى أعطى ومن منع منع). يقول أبو حاتم بن حبان بعد أن ذكر قول عمر: "هذا إذا كان المسؤول كريمًا، أما إذا كان لئيمًا فإنه يسأل في هذا الموضوع؛ لأن اللئيم لا يقضي الحاجة ديانة ولا مروءة، وإنما يقضيها إذا قضاها للذكر والمحمدة بين الناس، على أني أستحب للعاقل أن لو دفعه الوقت إلى أكل القديد ومص الحصى ثم صبر عليه لكان أحرى به من أن يسأل لئيمًا حاجة؛ لأن إعطاء اللئيم شين ومنعه حتف" اهـ. يقول خالد بن صفوان: "لا تطلبوا الحوائج عند غير أهلها، ولا تطلبوها في غير حينها، ولا تطلبوا ما لا تستحقون منها، فإن من طلب ما لا يستحق استوجب الحرمان".
عباد الله، إن صنائع المعروف لا تقف عند حد، بل تتسع إلى ما لا حد له، حتى يكون في نصيب كل مسلمٍ أن يأخذ منها بحظ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8].
يقول بعض الحكماء: "اصنع الخير عند إمكانه يبق لك حمده عند زواله، وأحسن والكرّة لك يحسن إليك والكرة عليك، واجعل زمان رخائك عدةً لزمان بلائك".
واعلموا ـ عباد الله ـ أن هناك أمورًا لا تحل الشفاعة فيها، روى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي : ((من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد لله في أمره)).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي وعد المحسنين بعظيم الثواب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإن تقوى الله هي المخرج عند الشدائد وهي المعين عند النكبات.
عباد الله، ينفر كثير من الناس عن الشفاعة لغيرهم خوفًا من عدم قبولها، ألا فليعلم أولئك أن سيد الخلائق وهو أعظم حقا وأولى بكل مسلم من نفسه ردت شفاعته، فما أصدر تحسرًا ولا ندمًا، ولا عاتب أحدًا.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: كان زوج بريرة عبدا يقال له: مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي للعباس: ((ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثًا؟!)) فقال لها النبي : ((لو راجعتيه؛ فإنه أبو أولادك)) ، فقالت: يا رسول الله، أتأمرني؟ قال: ((لا، ولكني أشفع)) ، قالت: لا حاجة لي فيه.
فلا يكونن نظر الشافع القبول وعدمه، إنما ينظر إلى الأجر، فإن الله قد قال: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا [النساء:85]، ولم يقل: من يشفع فيشفع.
جاء في ترجمة عبد الله بن عثمان شيخ البخاري أنه قال: "ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تم وإلا قمت له بمالي، فإن تم وإلا استعنت له بالإخوان، فإن تم وإلا استعنت له بالسلطان".
عباد الله، العاقل الفطن لا يتسخط ما أعطي وإن كان تافهًا؛ لأن من لم يكن عنده شيء يستفيده ربح.
ذكر ابن الجوزي قصة فقال: "كان هارون الرقي قد عاهد الله تعالى أن لا يسأله أحد كتاب شفاعة إلا فعل، فجاء رجل فأخبره أن ابنه أسير في الروم وسأله أن يكتب إلى ملك الروم في إطلاقه، فقال له: ويحك، ومن أين يعرفني؟! وإذا سأل عني قالوا: مسلم، فكيف يفي حقي؟! فقال له السائل: اذكر عهد الله، فكتب إلى ملك الروم، فلما قرأ الكتاب قال: من هذا الذي قد شفع إلينا؟ قيل: هذا قد عاهد الله لا يُسأل شفاعة إلا كتبها إلى أيّ مكان، فقال ملكهم: هذا حقيق بالإسعاف، أطلقوا أسيره".
أيها الناس، ليس الحديث عن مثل هذه الأمور هو دعوة للناس إلى السؤال، ولكن الحاجة ملحة والضرورة قاسية والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ولكن لا يكن الواحد كمثل ذلك الفقير الذي سمعه رجل وهو يدعو يقول: اللهم ارزق المسلمين حتى يعطوني، فقال له الرجل: أتسأل ربك الحوالة؟!
عباد الله، إن الشفاعة والوساطة متى ما كانت في أمرٍ مشروع فهي مندوب إليها، إلا أنه ينبغي أن لا تكون الشفاعة هي مسيرة أمورنا وباعث إنتاجنا، إننا مطالبون بإكرام القريب والصاحب، ولكن ليس على حساب تعطيل مصالح أناس لا يجدون مثل ما تجد، فمن أين لهم ما يرغبون؟!
عباد الله، لست أدعو هنا أن نأخذ حقوق غيرنا عن طريق الشفاعات، فإن الرسول قد قال: ((من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان)). أيما شفاعة أخذت حق شخص مسلم فهي شفاعة محرمة، ينال وزرها الشافع فيها حال علمه بذلك. الشفاعة التي توصل الغر إلى مراكز الأسود شفاعة لا خير فيها بل ضررها عظيم.
وما أجمل الشفاعة التي توصل الحق إلى صاحبه، يوصل بها بين متخاصمين، يوصل بها أرحام متقاطعة، تُزال بها منكرات، ينال بسببها خير للمسلمين أجمع، لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].
أيها الناس، لو أنجزنا الأعمال بمثل المسؤولية التي تحملناها أمام الله أولاً ثم أمام ولاة الأمر لما احتاج صاحب الشأن للبحث عن شفيع أو وسيط، ولما احتاج الشفيع إلى بذل شفاعته، ولما صار الناس رهائن الشفاعات يبحثون عنها دائمًا.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
(1/3376)
التعليم في الإسلام
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
3/8/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى التعلّم والتعليم. 2- سعي النبي لمحو الأمية. 3- لا غنى لأحد عن التعلم. 4- أهمية ميدان التربية والتعليم. 5- التربية في الإسلام. 6- مفاسد العلم بلا تربية. 7- ثمار التعليم في الإسلام. 8- أول خطوات التعليم في الإسلام. 9- قاعدة كبرى في التربية والتعليم. 10- القرآن أساس التربية والتعليم. 11- تعليم المرأة في الإسلام. 12- أهمية اللغة العربية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوَى الله، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
التّعلّم طلب العلم والمَعرفة، والتعليم إيصالُ العِلم والمعرفة وبذلُهما للآخرين. العِلم في الإسلام لا حَدَّ له ولا نهايةَ، قال الله تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85]. ومَن أمعنَ النظرَ وأحسَن التفكير وتتبَّع الأسبابَ المبثوثةَ في الكونِ دلّه الخالق سبحانه على بعضِ أسرار خلقِه، قال تعالى: عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:5]، وقال سبحانه: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53]، وقال سبحانه: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا [الزخرف:48]. وكلُّ علمٍ نافع فهو مطلوب شرعًا.
كان الرّسول أوّلَ من سعَى لمحو الأمّيّة حين جعَل فداءَ أسرى بدرٍ أن يعلِّم كلٌّ منهم عشرةً من المسلمين القراءةَ والكتابة [1]. ومهما كان مقامُ الإنسان عاليًا ومنصبُه ساميًا فإنّه لا يستغني عن التّعليم، فهذا نبيّ الله داود عليه السلام مع حصوله على الملك والنبوّةِ لم يستغنِ عن تعليم الله إيّاه، قال الله تعالى: وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ [البقرة:251]. وموسى عليه السلام يلتمِسُ من العبدِ الصالح مرافقتَه ليتعلّمَ منه، قال تعالى: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]، وطلبَ منه المزيدَ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]. قال سفيان بن عُيينة رحمه الله: "أوّل العلم الاستماع، ثمّ الفَهم، ثمّ الحِفظ، ثمّ العمَل، ثمّ النّشر" [2].
ميدانُ التربية والتعليمِ من أهمِّ الميادين، أثرُه كبير في تنشِئَةِ الأجيال الذين هم قاعِدةُ بناءِ المجتمعات والدّوَل، ولما كان التّغيير في المجتمعاتِ والأمم يسيرُ حسب سنّةٍ لا تتبدّل: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] فإنّ ميدانَ التغيير التربيةُ والتّعليم، وجيلُ المتعلِّمين اليومَ هم قادةُ مجتمَع الجيل القادم.
ولقد صارتِ التربية والتعليم في الواقعِ التاريخيّ للأمّة فكانت وسيلةَ هدايةٍ وطريقةَ خير للفردِ والمجتمع والنّاس أجمعين، فقد كان الرّسول هو المعلّم الأوّل للأمّةِ، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2].
التّربيةُ في الإسلام تؤسَّس على قِيَم الأمّةِ ومبادئها، وبهذا نعلَم أنّه لا يمكن لأمّةٍ من الأمم أن تستعيرَ مناهجَها التعليميّة من أمّةٍ أخرى.
التّربية الإسلاميّة تغدِّي العقلَ بالحقائقِ والمعارف والنفسَ بالتربية والأخلاق، فنحن أمّةُ نبيٍّ بُعِث بمكارِم الأخلاق.
وفي عصرِنا يظهر جليًّا أنّ التعليم بلا تربيةٍ ضررُه أكثر من نفعِه، فالتقدّم التقنيّ في الأطباق الفضائيّة مثلاً سُخِّر للعُريِ الماجن والمُجون الفاضح وقتلِ الحياء ووأدِ الفضيلة وتلويثِ العقول بالأفكار المنحرِفة، وكذا التقدّم العلميّ في الحضارةِ المادّية المعاصرة ولّدَ قوى عُظمى، لكنّها قوى همجيّة، لا أخلاقَ تردَعُها، ولا قيَم تهذِّبها، قوَى سيطرةٍ واستبدادٍ وامتصاصِ ثرواتِ الضعفاء وسَحق الأبرياء. هذه الحضارة المادّيّة ولّد عِلمُها الذي لم يهذِّبه دينٌ ولم يقوِّمه خُلقٌ جيوشًا جرّارة، ترتكِب المذابح، وتنحَر السلام، وتغتصِب الفتيات، ونَشأت في أحضانِ هذا العِلم عصاباتُ الاتِّجار بأعضاءِ البشر باعتبارها قِطَع غيارٍ عالميّة. إنّه علمٌ يجعلُ المنتمين له سَكرى، لا وازعَ لهم ولا حيَاء.
الثّورةُ العلميّة المادّية لم توفِّر للناس طمأنينةَ القلب وسكينةَ النفس وهدوءَ الأعصاب والأمنَ الشّامِل والسلامَ العادل، فالعالم ينزِف من ويلاتِ القتل الجماعيّ والتدمير الإباديّ والتفجير الذي ينشُر الأشلاء، العالَم يئنّ من موتِ الضمير وفقدانِ الأخلاق، فالسّرقة والاختلاس والغشّ والرّشوة والترويجُ والخيانات وغيرها شاعَ أمرُها وفشَا ضررُها في العالَم، والسّبَب هو غِياب التربية مع التعليم.
هذه مفاجأةُ ما يُسمَّى بالتّربية الحديثة، لا تقيم وزنًا لدِينٍ أو خلُق، تحرّكها المصلحةُ والمنفعة، تشعَل حروبٌ وتدمَّر قرًى من أجل المصالح والمنافع، إنّها قِوى لا تهتدِي بنور الله.
أمّا التعليم في الإسلام فأنموذجٌ فريد وتكاملٌ بديع مع التربيّة الإيمانيّة الراسخة، إنها تنشِئ جيلاً ربّانيًا، يعمِّر الحياة، يبني الأرضَ، يقيم العقيدةَ في القلب والمشاعِر والجوارح، يقوم بدَور الخِلافة لتحقيق العبوديّة لله، ولتكونَ سمةُ المُخرجات جسدًا طاهرًا، قلبًا مؤمنًا، عِلمًا نافعًا وحضارةً تستنير بهدَى الله.
التّعليم في الإسلامِ هو المنهَج الوحيد الذي يربِّي الفرد وينميّ شخصيتَه ويجعله يطلُبُ التعليمَ ويسعى للنّبوغ والرّيادةِ للبناء لا للهَدم، للخير لا للشرّ، للفضيلة لا للرّذيلة، إنه لا يعتدِي، لا يفسِد، لا يدمّر، يخشَى مِن إراقة قطرةِ دمٍ فضلاً عن تدميرِ قُرًى وبيوتٍ على الأطفال والنّساء والأبرياء كما تفعلُه جرّافات أدعياءِ التقدّم والحضارة.
إخوةَ الإسلام، أوّلُ خُطوات التعليم في الإسلامِ تهيئةُ القلب، تأديبُه بأدبِ النبوّة في الأمانةِ والصّدق والاستقامة والعَدل والإخلاص وصلاحِ الظاهر وطَهارةِ السريرة إلى غير ذلك من المثُل العُليا، والمناهجُ والنّصوص مهما كانت سامِيةً لا يكون لها تأثيرٌ فعّال إلاّ إذا تحوّلت إلى واقعٍ متحرِّك وترجمةٍ عمليّة في التصرّفات والسلوكِ والمشاعر والأفكار، فحاجتُنا إلى القلوبِ العامرة بالإيمان ليست دونَ حاجتنا إلى الرؤوس المشحونةِ بالمعلومات.
يخطئ كثيرًا من يحصُر التعليمَ في تكثيفِ المناهج وحشوِ المعلومات، ومع أهمّيّة ذلك إلاّ أنّ تقدّمَ الأمم يُقاس بقَدر التزامِها بالقيَم وتشبُّعها بالمبادئ وتمثُّلها بالأخلاقِ. إنّ أيَّ حضارةٍ وأمّةٍ لا تقوم مؤسَّساتها التعليميّة على التربيةِ الرشيدة واقعًا عمليًّا وسلوكًا واقعًا في محاضِن التربيةِ والتعليم لا يمكن أن تسيرَ طويلاً مهما ارتفَعت وتفنّنت في الوسائل والتّقنية، والذي يُعمِّق الأسى ويُفجِّر الحزنَ تتبُّع بعضِ أبناء المسلمين جُحرَ الضبِّ الذي نُهينا عنه وعدمُ الاعتبار بمآسي التعليم المادّي الذي لم يُصبَغ بنور الإيمان وهداية القرآن. وواقعُ الأمة يقتضِي تغذيةَ المناعةِ وتحصينَ الأجيال حذرًا من أخطار محدِقة بالعقيدة والفِكر والسلوك، وهذا يتطلّب من القائمين على التربيةِ والتعليم تقييمَ مسارِنا التربويّ لصناعة الشخصيّة المسلمة السّويّة، والإهمالُ في تقويم السلوك أعظمُ خطرًا وأشدُّ فتكًا من الإهمال في تقويمِ المعارف والعلوم، ذلك أنّ السلوكَ المنحرِف يتجاوز ضررُه الفردَ إلى المجتمع كلِّه.
هذه أمٌّ مسلِمة ومربّية واعيَة تجلّي لابنها وللأجيالِ الهدفَ من التعليم وقيمةَ التّربية، تقول أمّ سفيان الثوريّ الذي غدا في عصره علَمًا وبين أقرانه نجمًا ساطِعًا: "يا بنيّ، خذ هذه عشرة دراهم، وتعلّم عشرةَ أحاديث، فإذا وجدتها تُغيِّر في جلستِك ومِشيتك وكلامك مع الناس فأقبِل عليه، وأنا أعينُك بمِغزلي هذا، وإلاّ فاتركه، فإني أخشَى أن يكونَ وبالاً عليك يومَ القيامة" [3].
هذه المرأةُ المسلمة تؤسِّس في التربيّة والتعليم قاعدةً كبرى: لا نفعَ للعِلم بدون عمَل، ولا قيمةَ له بدون أثرٍ في السّلوك. نعم، إنّ الأمّة العظيمةَ وراءها تربية عظيمةٌ.
إخوةَ الإسلام، أساسُ التربيةِ والتعليم القرآنُ الكريم تفسيرًا وفهمًا وتجويدًا وحِفظًا، فهو النّبع الذي لا ينضَب والسعادةُ التي لا حدَّ لها والعِزُّ المشِيد والرقيّ الحميد، لم ترفعِ الأمةُ رأسًا إلا بالقرآن، ولم تنَل العزِّةَ والمنعةَ إلا بتطبيقِ أحكامه، وحريٌّ بأمّة الإسلام أن ترفعَ شأنَ القرآن في مناهِجها وتُعليَ قدرَه ومِقداره، تنتخِبُ له أكفأَ المعلِّمين وأفضلَ الأوقات.
لا يُتصوَّر ـ يا أمّةَ الإسلام ـ أن تكونَ مادّةُ القرآن جافةً جامدة لا روحَ فيها ولا أثرَ لها في الفكر والسلوك والأخلاق، والأدهَى أن نشهدَ ضعفًا عامًّا في القراءةِ والتلاوة، فضلاً عن الفهم والتدبّر.
عن عبد الله بن مسعودٍ قال: (كان الرّجل منّا إذا تعلّم عشرَ آيات لم يجاوزهُنّ حتى يعرفَ معانيهِن والعملَ بهنّ) [4] ، وقال الحسن البصريّ: "والله، ما تدبّرَه من حفِظ حروفَه وأضاع حدودَه حتى إنّ أحدَهم ليقول: قرأتُ القرآنَ كلَّه ولم يُرَ للقرآنِ عليه في خُلُقٍ ولا عمَل" [5] ، وقال عبد الله بن مسعود: (والذي نفسي بيدِه، إن حقّ تلاوته أن يحِلَّ حلالَه ويحرِّم حرامَه ويقرأَه كما أنزَله الله) [6]. وهنا نريد من طلاّبِ العِلم أن يزِنوا حالَهم على ضوءِ هذه النّصوص؛ أينَ موقِعهم من فَهم القرآن؟ وما هو حضُّهم مِن هدايتِه؟
ما أجملَ ـ إخوةَ الإسلام ـ أن تُربَط كلُّ العلوم في الإسلام بالقرآنِ الكريم، لتعيشَ الأجيال قلبًا وقالَبًا مع القرآن وقريبًا منه في كلِّ منهَجٍ شرعيّ أو عِلميّ، قال تعالى: أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً الآية [الحج:63]، وفيها إشارَةٌ إلى علم الفلَك والخلق البديع. وقال تعالى: فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا [فاطر:27]، وفيها إشارةٌ إلى علمِ النبات شكلاً ولونًا وحجمًا. وقال عزّ وجلّ: وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ [فاطر:27]، وفيها إشارة إلى عِلم طبقاتِ الأرض وما يتّصل به. وبهذا تُغذّي المناهجُ على مختلفِ تخصُّصاتها القلوبَ بعظمةِ الله وخشيتِه وإجلاله في كلّ وقتٍ وحينٍ وساعَة، قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53].
إخوةَ الإسلام، التعليمُ في الإسلام يجعَل للمرأةِ تميّزًا في المناهج، يتلاءم مع فطرتِها وأنوثتِها ووظيفتها، قال تعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36].
فإعدادُ الفتاة ليس كإعدادِ الفتى، المرأةُ لم تعَدَّ لتصارِعَ الرجل في المصنَع والمتجَر، ولتكونَ كادحةً ناصِبةً. إعدادُها بما يناسِب طبيعتَها ولينسجِمَ مع وظيفتِها. إعدادُها لتكونَ زوجةً تجعَل بيتَ الزوجية جنّةً وارفةَ الظلال، تتفيّأ ظلالَها أسرةٌ سَعيدة، وأُمًّا تغدِق حنانَها على أطفالها وتحسِن تربيةَ أولادها، وأيُّ خدمةٍ للأمّة والوطنِ أجلُّ وأعظم من صنعِ الرجال وتربيةِ الأجيال؟! فهذه هي الثّروة الحقيقيّة للأمّة.
تجاهلَت بعضُ المجتمعات طبيعةَ المرأة وتناسَت الفرقَ بين تركيبها وتركيبِ الرجل، فأودَى بها ذلك في مهاوِي التفكُّك والانهيار، نزَلت المرأةُ إلى ميادينِ الرجال، زاحمَته في ميادينِ العمل، تخلّت عن تربيةِ الأطفال، غفَلت عن أنوثتِها، ففسَد المجتمَع، وفسَد المنزِل، وتتشرّدَ الأطفال، وضاعَ الزوج، وتفكّكت عُرَى الأسرةِ، وساءتِ الأحوال، وفي هذا يقول ربّنا تبارَك وتعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونَفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] روى أحمد (1/247) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة)، قال الهيثمي في المجمع (4/96): "رواه أحمد عن علي بن عاصم وهو كثير الغلط والخطأ، وقد وثقه أحمد"، لكن تابعه خالد بن عبد الله عند البيهقي في الكبرى (6/124، 322)، وصححه الحاكم (2621).
[2] رواه أبو نعيم في الحلية (7/274)، والبيهقي في الشعب (2/289).
[3] رواه البيهقي في المدخل إلى السنن (528)، والسمعاني في أدب الإملاء والاستملاء (ص109).
[4] رواه البيهقي في الكبرى (3/119) نحوه، وانظر: سير أعلام النبلاء (1/490)، وتفسير ابن كثير (1/4).
[5] رواه عبد الرزاق (3/363-364)، وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (4/34).
[6] رواه الطبري في تفسيره (1/519، 520، 521).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانِه، والشكر له على توفيقِه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه وإخوانِه.
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوَى الله.
اللغاتُ من أعظمِ شعائرِ الأمم التي بها يتميّزون، ولغتُنا العربيّة رمزُ عِزِّنا وعنوانُ مجدنا وأصالتِنا وسيادَتنا، واللسانُ العربيّ شِعار الإسلام لارتِباطه بأهمّ مقدّساتِ المسلمين الكتابِ والسنة، واعتيادُ اللغةِ الفُصحى له أثرٌ على العقلِ والدّين والخلُق كما ذكر ذلك العلماء.
ويعاني جيلُنا المشهود ضعفًا لغويًّا، وهذا مظهرٌ من مظاهِر تخلّف الأمة، وحين تتهاوَى اللغة تسقُط معها أسُسُ العقيدةِ ومعالم التاريخ وسيادَة الأمّة، واللغة العربية مهدَّدٌ إشراقُها مع فشُوِّ العامّية وتعدُّد اللهجاتِ وسيطرة الإعلامِ الفضائيّ غير العربيّ ومزاحمة غيرها من اللغات.
والعلاجُ تعزيز اللّغة في مناهج ومحاضِن التعليمِ وإحياءُ محبّتها في نفوس الناشئة، مع أهمّية المساندة الإعلاميّة، ولن تعجزَ أمّةٌ حملت حضارةَ العالم أربعةَ عشر قرنًا ومهّدت لحضاراتٍ معاصرة، لن تعجزَ هذه اللغةُ عن تدريسِ العلوم كلِّها بلغتِها في مدارسها وجامعاتها، وتعريبُ التعليم أسلمُ للُغةِ الأمّة وأحفَظ لكرامتها وسيادتها، وما زال السّلف يكرهون تغييرَ شعائر العَرب حتى في المعاملات، ومنه التكلًُّم بغير العربيّة إلاّ لحاجة، بل قال الإمام مالك رحمه الله: "من تكلَّم في مسجدِنا بغير العربية أُخرِجَ منه".
ألا وصلّوا ـ عبادَ الله ـ على رسولِ الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابِه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم على عبدك رسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/3377)
توجيهات في ظل الأزمة الحالكة
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
خميس بن سعد الغامدي
الرياض
ذات النطاقين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العدوان السافر على الأمة الإسلامية. 2- ضرورة الجهاد في سبيل الله. 3- ضوابط للجهاد في سبيل الله. 4- التحذير من الاختلاف والتفرق. 5- النهي عن تكفير المسلمين. 6- خطورة الافتيات على أولياء الأمور. 7- تحريم سفك الدماء. 8- أهمية مطلب الأمن. 9- التحذير من الخوف واليأس والقنوط.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنّ الأمة اليوم تواجه تحالفًا على العدوان والبغي من أعداء الله، وقد اجتمع لذلك أشدّ الناس عداوة من اليهود والصليبيين لممارسة العدوان الظالم بمعايير انتقائية وحجج داحضة؛ كمكافحة الإرهاب ونزع أسلحة الدمار الشامل. ويعيش المسلمون محنة هذا الاعتداء في فلسطين والأفغان والعراق، إضافة إلى مصائبهم الأخرى في الشيشان وكشمير والسودان وغيرها.
وإن مما ينبغي علينا أن نفقهه في أوج هذه الأزمة وشدّة حلاكة ظلمتها أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، ماضٍ إلى قيام الساعة، قال : ((لا تزال طائفة من أمة محمد ظاهرين على الحق، لا يضرّهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)) ، وأن إقامته واجبة على الأمة ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة:41].
ومع هذا المبدأ الراسخ وهو ضرورة الجهاد في سبيل الله إلا أنه لا بد من استيفاء أسبابه وتحقيق شروطه، وأن يتمّ النظر فيه من قبل أهل الرسوخ في العلم، بعيدًا عن الاجتهادات الفردية الخاصة التي قد تمهد للعدو عدوانه، وتعطيه الذريعة لتحقيق مآربه، فإنّ كل ما يزعزع المجتمع ويحدث الخلل في الصف هو هدية ثمينة تقدم إلى عدوّ لا يرقب في المسلمين إلاً ولا ذمة.
عباد الله، يجب علينا في ظل هذه الظروف الخطيرة التي نعيشها أن نلزم التواصي بين سائر المسلمين بالبر والتقوى والتمسك بحبل الله والبعد عن التفرق والاختلاف الذي يقع به تمكين المتربصين بالأمة وتسليطهم على شعوبها وخيراتها، فإنه إذا انفك حبل الاجتماع وشاع الافتراق بين المسلمين فهذا نذير فتنة عامة. ولا شك أن قصد الاجتماع على البر والتقوى يوجب مقامات من أهمّها الصبر وترك العجلة، وتجنب الافتيات على أولي الأمر من الحكام والعلماء الربانيين بقول أو فعل يحرّك عدوّها إلى ميادينها العامة، ويسلّط عليها من ينتظر من بعض أبنائها صناعة المسوّغ لمزيد من بسط نفوذه وتعديه، وقد ذكر العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام أن أيّ قتال للكفار لا يتحقّق به نكاية بالعدوّ فإنّه يجب تركه؛ لأن المخاطرة بالنفوس إنما جازت لما فيها من مصلحة إعزاز الدين والنكاية بالمشركين، فإذا لم يحصل ذلك وجب ترك القتال لما فيه من فوات النفوس وشفاء صدور الكفار وإرغام أهل الإسلام، وبذا صار مفسدة محضة ليس في طيها مصلحة.
ولذا ـ يا عباد الله ـ فإن القيام العامّ لا يحقّ إلا لمن اجتمعت فيه الأحكام الشرعية المسوّغة لذلك من العلم والإمامة في الدين والاجتهاد والقدرة وتعيّن المصلحة واقتضائها، وإذا كان متحقّقًا تحريم القول في مسألة من النوازل إلا لمن تحقّق له الاجتهاد المناسب لها فهذا الباب أولى، ولذا فإن على من علم من حاله عدم التمكّن من هذا الباب أن يبتعد عن الافتيات على أهل العلم ولا سيما في المسائل العامة.
عباد الله، إن من أهم ما يجب الابتعاد عنه وعدم الخوض فيه في هذه الأزمة الحكم بالإسلام أو الكفر أو النفاق أو الردة أو الفسق على أحد من المسلمين، لا سيما ممن ليس من أهل العلم الشرعي الرصين العميق، فإن التكفير مزلق خطير، وقد قال فيما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر؛ فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال وإلا رجعت عليه)). والحديث يدل على منع إطلاق التكفير، حتى لمن يشتبه حاله أنه كذلك، ولهذا لم يعذره في الحديث، فكيف بمن يكفّر الأخيار والصالحين والأئمة والعلماء لمجرّد المخالفة؟! والمعنى: ما دام ثمّةَ مجرّد احتمال أن لا يكون الموصوف كافرًا فلا يحلّ لمسلم أن يطلق عليه هذا؛ لأنه يرجع عليه.
وفي الحديث المتفق عليه أيضًا عن أبي سعيد في قصة الذي قال: اعدل يا محمد، فقال عمر: ائذن لي فأضرب عنقه؟ فقال : ((لعله أن يكون يصلي)).
وهذه سيرة النبي وسيرة خلفائه الأربعة وأصحابه جميعًا وسير تابعيهم بإحسان، ومن بعدهم كالأئمة الأربعة وكبار أصحابهم، فلا ترى فيها ملاحقة للناس بالتكفير، ولا اشتغالاً بها، مع وجود الكفر والشرك والنفاق في زمانهم، بل كانوا يتأوّلون لمن وقع في شيء من ذلك من أهل الإسلام ما وسعهم التأويل، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90].
عباد الله، ويدخل في هذه المسألة وهي مسألة الافتيات على ولي الأمر والعلماء الربانيين مسألة حلّ الدماء، فضلاً عن تسويغ الفتك العام في المجتمع، فهذا مقام ضلّت فيه أفهام وزلت أقدام، ولا سيما أن كثيرًا مما يقع في زمن الفتنة يقع بنوع من التأويل الذي يظنه بعض الناس اجتهادًا مناسبًا لإذن الشارع، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما حصل بمثل هذا التأويل من الشرّ والفتن وأنه سفك به دماء قوم من المؤمنين وأهل العهد... وقد صح عن رسول الله أنه قال: ((الإيمان قيَّد الفتك، لا يفتك مؤمن)). قال صاحب عون المعبود: "مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الإِيمَان يَمْنَع مِنْ الْفَتك الَّذي هُوَ القَتل بَعْد الأَمَان غَدرًا كَمَا يَمنَع القَيْد مِنْ التَّصَرُّف".
ومعلوم عند سائر فقهاء المسلمين أن الكفر لا يوجب هدر الدم في كلّ الأحوال، بل يعصم الدّم بالعهد والأمان والجزية والصلح وغيره، ولذلك عند البخاري َعنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ قَال: ((مَنْ قَتَلَ مُعَاهدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا)). انظر مع أن المعاهد كافر إلا أن النبي حرم سفك دمه، بل إنه من المقرّر عند أئمة السنة أن حلّ الدم لا يوجب لزوم سفكه إذا اقتضت المصلحة العامة عدم ذلك كما ترك الرسول قتل عبد الله بن أبي لمصلحة عامة المسلمين؛ حتى لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه.
عباد الله، إن مما يدان للهِ به تحريمَ سفك الدماء المحرمة تحت أيّ تأويل، مما يلزم معه أنه يحرم نشر الفتنة وسفك الدم بالتأويل، وأن يعلم أن من الجناية على المسلمين جرهم إلى مواجهات ليسوا مؤهّلين لتحملها، وتوسيع رقعة الحرب بحيث تصبح بلاد المسلمين الآمنة ميدانًا لها، وأن هذا ربما كان هدفًا يقوم أعداء الملة لتحقيقه باستدراج البعض حتى يصبح ذريعة لتدخل أكبر وتقسيم للمنطقة وإضعاف للمسلمين أكثر ما هم فيه من ضعف، ولذا فلا بد من تدبر عواقب الأمور ونتائج الأعمال وآثارها.
نعم، يجب الموازنة بين المصالح والمفاسد كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشرّ الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك فقد يدع واجبات ويفعل محرمات ويرى ذلك من الورع" (مجموع الفتاوى 20/54، 10/514).
وقد ذكر العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام (ص8): "أن مصالح الدنيا ومفاسدها تعرف بالضرورة والتجربة والعادة والظنّ المعتبر، وأن من أراد أن يعرف المصلحة والمفسدة فليعرض ذلك على عقله ثم يبني عليه الحكم، ولا يخرج عن ذلك إلا ما كان من باب التعبد المحض".
وليعلم أن تحقيق الأمن من أخصّ مقاصد المرسلين، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]. نعم، هذا دليل ظاهر على أن المجتمع المستقر الآمن هو الميدان الفاضل لانتشار دعوة التوحيد ورسوخها.
عباد الله، نحن وإن كنا نعلم أن هذا كله من الأمور الواضحة الجلية عند الكثير، إلا أن مجريات الأحداث وتداخل الأفكار واضطراب الحال وربما كثرة الحماس مع عدم وضوح الرؤية عند البعض يوجب تأكيد هذا الأمر وتكرار النصح والتحذير والبلاغ حفظًا لعصمة الأمة وشأنها، ولئلا تزل قدم بعد ثبوتها ويذوق أهل الإسلام السوء من تسلط بعضهم على بعض فضلاً عن تسلط عدوهم عليهم، واغتنامه الفرصة بتحريض المسلم على أخيه، وأقلّ ما يهدف إليه أعداء الله في هذه الأزمة الراهنة خلخلة الجبهة الداخلية في بلاد المسلمين وضرب بعضهم ببعض، ومن ذلك ضرب الحكومات بالشباب وضرب الشباب بالعلماء، حتى يتّسع لهم الباب ليلجوا إلى عقر الدار ونحن مشغولون بالتناحر فيما بيننا.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، من الطبيعي عند اقتراب الحرب واشتدادِ الكرب أن يشعر الناسُ بشيءٍ من الخوف والقلق على أنفسهم ومصالحهم، ومثل هذا لا سبيل إلى رفعه ودفعه، وليس فيه كبيرُ خطر ما دام في درجته الطبيعية التي تناسب الحدث. فإذا كان لا سبيل إلى دفعه فمن الحكمة أن يُوظَّف التوظيف الصحيح، حتى يكون دافعًا للجد، دفّاقًا بالأعمال الإيجابية التي تلتقي في استشعار المسؤولية والدفاع عن مصالح البلاد ووحدة الصف والمحافظة على الأمن ورأب الصدع والقيام بمصالح المسلمين.
أما حين يخرج الخوف والقلق عن صورته الطبيعية التي تناسب الحدث فهو شرٌ وخطرٌ يتعيّن اجتثاثه ومقاومته، فهو في بعض صوره خطرٌ على العقيدة؛ لأنه يعارض أصلاً من أصولها، وهو الخوف من الله الذي لا يجوز أن يبلُغَ مبلغَه خوفٌ من أحد، إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ [المائدة:3]. وهذا الضربُ من الخوف يدفعه ويبعده تعزيز معنى التوكل على الله في القلوب، وملؤها باليقين والثقة بالله وحسن الظن به، وإحياءُ معاني الإيمان في النفوس، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، فلما صدقوا في توكّلهم على الله كفاهم شرّ أعدائهم، وتحققت لهم العاقبة المنتظرة التي وعدها الله المتوكلين عليه: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174]. ولك أن تنصت إلى قوله تعالى : أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:36]، ثم قال جل جلاله وهو يُلقِّن عباده الجواب الذي يطرح هذا التخويف: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر:38].
عباد الله، إن مما يجب علينا هو انتشال مشاعر القلق والتوتر والهزيمة النفسية من قلوبنا، وأنه مهما أصابنا بلاء فلا نسمح أن تتسرب الهزيمة إلى داخل نفوسنا، وأن نداوي الهلع الذي سكن في بعض النفوس بالتذكير بمقامات الصبر والاحتساب واليقين بموعود الله. إن في قلوبنا خللاً لا بد أن نتداركه بإفاضة معاني الثقة بموعود الله واحتساب الأجر عند نزول الضرّ، وإن أمر المؤمن كلّه له خير؛ إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر، وليس ذلك إلا للمؤمن.
(1/3378)
هل نحتاج للمولد؟
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
محمد بن إبراهيم النعيم
الهفوف
11/3/1425
جامع الصيهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إحياء الأمم لذكرى عظمائها. 2- أحداث ربيع الأول المهمة. 3- تمام المنة ببعثة النبي. 4- فضل النبي وعظم شأنه. 5- النبي أكثر من يذكر من الناس. 6- مواضع الصلاة على النبي في اليوم. 7- حقيقة محبة النبي. 8- استبدال القدوة السيئة بالقدوة الحسنة. 9- الاحتفال بالمولد ليس علامة حبه. 10- التحذير من مخالفة سنته. 11- فضل النبي وأمته.
_________
الخطبة الأولى
_________
لكل أمة عظماء سطّر التاريخ مآثرهم ومجّد أعمالهم وخلّد جزءا من سيَرهم وحياتهم ليكونوا نبراسا لمن بعدهم في علمهم وجهادهم وأخلاقهم. ولقد اعتادت كثير من الأمم والمِلل إحياءَ ذكرى عظمائها، فيخصّصون يوما يوافق يوم مولدهم أو يوم وفاتهم لتذكير شعوبهم وأتباعهم بسير هؤلاء العظماء أملا أن لا يموت ذكرهم ولا تنسى أسماؤهم طوال العام.
ويمرّ على المسلمين في هذا الشهر شهر ربيع الأول ثلاثة أحداث مهمّة، هي مولد النبي وهجرته إلى المدينة ووفاته. ولا ريب أنّ كلاً منها كان حدثًا مهمًّا في حياة المسلمين، بل وفي حياة الثقلين أجمعين، يقول الله تبارك وتعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].
أيها الإخوة في الله، ففي شهر ربيع الأول ولد أفضل خلق الله في هذا الوجود، ولد الرسول العالمي والنبي الأمّي العربي محمد بن عبد الله ليكون خاتم النبيين وإماما للمتقين والرحمة المهداة للعالمين والحجة على الخلائق أجميعن، فشرفت به الأرض واستبشر به من وفّقه الله للهداية. اصطفاه الله وربّاه ليكون قدوة لهذه الأمة وبشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله وسراجا منيرا، فبلّغ الرسالة، ونصح الأمة، وجعلها على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، حتى قال : ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)) ، فقالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟! قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) رواه البخاري.
ولقد أوذي وعودي وضرب وجرِح وهو يدعو الناس إلى الله، وقال عنه الظالمون: إن تتبعون إلا رجلا مسحورا. وما زال يتنزل عليه القرآن آية بعد آية وهو يرشد الأمة إلى أشرف مقصد وأسمى غاية فظهر الحقّ وزهق الباطل. وما إن استجاب العرب إلى نداء رسولهم حتى انتقلوا من حال خير من حالهم ومآل خير من مآلهم، فتحولوا من ضعف إلى قوة، ومن جهلاء إلى عُلَماء، ومن رعاة للغنم إلى قادةٍ للأمم. فلقد ألف بينهم هذا الرسول الكريم بعد أن كانوا أحزابا متناحرة وقبائل متعادية يأكل القوي منهم الضعيف، فجمع كلمتهم تحت راية الإسلام، وانتزع من قلوبهم الضغائن والأحقاد، فخرجوا خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. فخرجت الدولة الإسلامية الكبرى التي غمر عدلها ونورها نصف الأرض، فهل يحتاج المسلمون إلى إحياء ذكرى ميلاد نبيهم محمد أسوة بما يفعَل بالعظماء على مرّ التاريخ؟
إن شأن رسول الله عند الله لعظيم، وإن قَدرَه لكريم، فلقد اختاره الله تعالى واصطفاه على جميع البشر وفضله على جميع الأنبياء والمرسلين. وشرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وأعلى له قدره، لهذا تكفّل الله عز وجل بإحياء اسم خليله محمّد على ألسنة أتباعه من المسلمين حتى إن المسلم ليردّد اسم نبيه محمد في اليوم والليلة أكثر من مائة وسبعين مرة.
وإذا علمنا أن أمّة الإسلام قد فاق عددها المليارَ وربع المليار فمعنى هذا أن اسم محمّد يذكر في اليوم والليلة أكثر من مائة وسبعين مليار مرة، والمليار يعدل ألف مليون. دعونا نجرِي حسبة بسيطة باستعراض ما يقوم به المسلم كل يوم من أذكار فيها ذكر نبينا محمد ، لندرك هل نحتاج إلى إحياء مولده.
لقد دعا الله عز وجل عباده المؤمنين إلى الصلاة على نبيّه محمد في مواضع كثيرة هي في بعضها واجبة وفي بعضها الآخر مستحبة، فالمسلم يذكر اسم نبيّه محمد ثمانيا وثلاثين مرة في الصلوات الخمس وذلك في التشهد الأول والثاني من كلّ صلاة، وخمس عشرة مرة في الأذان والإقامة، وعشر مرات في الدعاء عقب الأذان، وعشر مرات في دعاء الدخول إلى المسجد والخروج منه، وخمس مرات عقب الوضوء، وثمانيا وأربعين مرة في السنن الرواتب، واثنتي عشرة مرة في الشفع والوتر، وستا وثلاثين مرة ضمن أوراد الصباح والمساء، فهذه بعض المواطن التي يشرع فيها ذكر نبينا محمد والصلاة عليه كل يوم، والتي يبلغ مجموعها مائة وأربعة وسبعين مرة. ولو اعتبرنا أن عدد المسلمين ليس مليار وربع المليار وإنما مليار واحد فقط فمعنى ذلك أن اسم محمد يذكر ويردّد في اليوم الواحد أكثر من مائة وسبعين مليار مرة، وهذا بغض النظر عن يوم الجمعة الذي أُمرنا فيه بالإكثار من الصلاة عليه ، فهل تجدون ملِكا أو رئيس دولة في العالم من يذكر اسمه بهذا العدد؟ ليس في اليوم الواحد، بل في العام الواحد؟ بل في عمر الزمان كله؟ هكذا رفع الله ذكر محمد وصدق الله حين قال: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4]، وما ذلك إلا لنجعله أسوة لنا في كافة شؤون حياتنا، قال تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
إن من أحبَّ النبي محمد واجبه أن يعمل بسنته المطهرة وأن ينشرها بين الناس ليزداد ذكر اسم النبي محمد. إن واجب المسلمين اليوم حكومات وشعوبا بمناسبة ذكرى مولد النبي أن يجددوا تأملهم في شخصية رسولهم وقدوتهم ويدرسوا سيرته ويتدبروا كلامه والقرآن الذي نزل عليه، وأن يتابعوا الطريقة التي بنى بها الأمة المسلمة، وأن يروا كيف ربى هذا النبي الكريم على تعاليم الإسلام جماعةً عاشت دهرا طويلا في أعماق الصحراء كانت منبوذة من بين الأمم، فإذا هي بالإسلام أرقى أمم الدنيا تقارع إمبراطورِيَتَي فارس والروم. وما ذاك إلا لأن سلف هذه الأمة جعلوا النبي قدوتهم في كلّ شيء ونبراسا لهم في كل طريق، فنصرهم الله على شياطينهم وعلى أهوائهم، فانتصروا بعد ذلك على أعدائهم.
أما في وقتنا المعاصر فقد استبدل كثير من الناس بقدوتهم وأسوتهم قدواتٍ زائفة لمعتهم بعض وسائل الإعلام المختلفة العربية والإسلامية، فسمّتهم نجومَ المجتمع وهم ليسوا أهلا لذلك، فقُلبت موازين الفضيلة عند كثير من الناس. وإذا أردت أن تتأكّد من ذلك فاسمع إلى أيّ مقابلة تجرَى مع فنان أو مغنٍّ أو ممثّل أو لاعب تجدهم يسألون هؤلاء أسئلة دقيقة عن حياتهم الشخصية كأنهم يقابلون أحد علماء الأمة وقدواتها فتراه يُسأل: من الذي هداك إلى هذا الفن؟ ومن قدوتك في عالم الفن؟ وما هوايتك المفضلة؟ وكيف تقضي إجازتك ووقت فراغك؟ وما اللون الذي تفضله؟ وما أجمل وردة تحبها؟ وما أفضل طبخة تأكلها؟ وما أحرج موقف مر بك في حياتك؟ وماذا تتمنى للشباب العربي؟ وغيرها من أسئلة لا تهمّ المسلمين ولا تحلّ قضاياهم، وإنما تزيدهم غفلة فوق غفلتهم ولهوا إلى لهوهم.
إننا نخطئ كثيرا في التعبير عن حبنا وتعظيمنا لرسولنا محمد ، فليس حبه بجعل يوم ميلاده عيدا رسميا أو فرحا شكليّا كما تفعله بعض الدول الإسلامية، إنما حبه يتمثل في امتثال أمره ونبذ كلّ ما يخالف شرعه، وأن يكون القدوة الحقيقية للمسلمين.
ها هي كثير من دول العالم الإسلامي قد جعلت يوم مولده إجازة رسمية تقام فيه احتفالات ومهرجانات زعما أنها تحيي بذلك ذكرى مولد النبي ، وفي المقابل تراها تجاهر بكبائر الذنوب ليل نهار وتحارب سنته وتسجن العلماء الذين يدعون إلى تعاليمه وترفض الاحتكام لشرعه وتحتكم بشرع غيره، فكيف يسوغ لهم أن يمدحوا ذات النبي ويذموا الشّرع الذي نزل عليه؟! إنها موازين مقلوبة.
إن الإيمان برسول الله وحبَه ليس مجرّد كلمات نردّدها ونتغنّى بها وننسج حوله القصائد والمدائح والأشعار ثم لا تتحوّل مقتضيات هذا الإيمان في حياتنا إلى واقع وسلوك. إن رسول الله لم يأمرنا أن نحتفل بيوم ميلاده تقليدا للنصارى، ولم يفعل ذلك من اختارهم الله لصحبة نبيه ولا العلماء الذين عاشوا في القرون المفضلة، وإنما أمرنا أن نطبّق المنهج الذي نزل عليه فقال جل وعلا: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
أيها الإخوة في الله، لقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه الكريم أنّ من رفع صوته فوق صوت النبي سيحبط عمله فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]. إن مجرّد رفع الصوت على رسول الله يحبط العمل، فكيف بالذين يخالفون أمره بل ويحاربون أتباعه ويسخَرون منهم ويغيّرون أنظمة حكمهم إرضاء لأعدائهم؟! فماذا سيقول هؤلاء الناس لرسولهم يوم القيامة؟! وبأي وجه سيقابلونه؟!
ولقد أخبر الرسول عن هذا الموقف الرهيب الذي سيطرد فيه أناس من أمته عن حوض الكوثر فقال : ((إني على الحوض أنظر من يرد عليّ منكم، وسيؤخذ ناس من دوني فأقول: يا رب، مني ومن أمتي! فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟! والله، ما برحوا يرجعون على أعقابهم)) رواه البخاري.
اللهم إنا نعوذ بك أن نفتَن في ديننا أو نردّ على أعقابنا، اللهم اجعلنا من جنود نبينا محمد ، واجعلنا من أتباعه وممن يقتدون بسنته ولا يخالفون أمره، إنك أنت الرؤوف الرحيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم من كلّ ذنب لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي منّ على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آيته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، أسبغ على عباده نعمَه ووسِعهم برحمته وهو أرحم الراحمين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أرسله ربّه ليكون قدوة للناس أجمعين، يخرجهم من الظلمات إلى النور المبين، صلى الله عليه وعلى آل بيته الطيبين وعلى صحابته الطاهرين من اتهامات المبتدعة والمنحرفين وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وأطيعوه، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم.
ثم اعلموا أن لرسول الله حقًّا في طاعته، فهو أسوة لكل المسلمين، فبكرامته وشرف منزلته عند الله عز وجل كنا خير أمة أخرجت للناس، فهو رسول رحيم بنا، توّج الله به الزمان وختم به الأديان، قضى كل وقته يدعو أمته إلى الهداية، ذلكم هو نبي هذه الأمة صاحب اللواء المعقود والحوض المورود الذي أخبرنا عن فضله وفضل أمّته فقال : ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما نبي يومئذ من آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر)) ، كما أخبرنا أيضا بأنه أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة، وأول نبي يقضى بين أمته يوم القيامة، وأولهم جوازا على الصراط بأمته، وأول من يدخل الجنة بأمته، وهو الذي يشفع في رفع درجات أقوام في الجنة لا تبلغها أعمالهم، ويشفع في أقوام قد أمر بهم إلى النار فيخرجهم منها.
نبيّ بهذه الصفات وبهذه المنزلة لجدير أن يقدَّم قوله على كلّ مخلوق، وأن يجعل حبّه فوق حبّ النفس والمال والولد، وأن تجنّد النفوس والأموال لنصرة شريعته ونشرها بين الناس كما فعل السلف الصالح.
إن سرّ انتصار المؤمنين الأولين هو امتثالهم لأوامر الله عز وجل وأوامر رسوله قولا وعملا، هذا هو الحب الذي يطلبه الله عز وجل منا، لا أن يكرَم بالمدح والثناء فقط والقلوب خاوية من حبّه وجوارحنا بعيدة عن اتباعه وألسنتنا بعيده عن ذكر أحاديثه. يقول القاضي عياض رحمه الله تعالى: "فالصادق في حب النبي من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها الاقتداء به واستعمال سنته واتباع أقواله وأفعاله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والتأدب بآدابه في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]".
أيها الإخوة في الله، برهنوا على الاقتداء بنبيكم، فتخلّقوا بأخلاقه، واعملوا بسنته، يكن لكم ما كان لأسلافكم، فمن أطاع رسول الله دخل الجنة، ومن عصاه فقد أبى، ومن أبى دخل النار.
اللهم إنا نعوذ بك من كل عمل يخزينا، ومن كل أمل يلهينا، ومن كل فقر ينسينا، ومن كل غنى يطغينا...
(1/3379)
وقفات مع مشكلة الطلاق
الأسرة والمجتمع, فقه
الطلاق, قضايا الأسرة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
3/8/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب قبول أحكام الله تعالى. 2- مشكلة الطلاق وما تحدِثه من مخالفات. 3- مشروعية الطلاق والحكمة منه. 4- مراحل الطلاق. 5- الترغيب في الرجعة للإصلاح. 6- حقوق المطلَّقة. 7- تصرفات وتصورات خاطئة. 8- مشكلة حضانة الأولاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعَالى حقَّ التقوى.
عِبادَ الله، إنَّ الواجِبَ على كلِّ مؤمِنٍ ومؤمِنَة قَبولُ أحكامِ الله والرِّضَا بها وانشِراح الصَّدرِ لها وعدَم الاعتِراض عليها بأيِّ عِبارةٍ كانت، فتَسليمُ العبدِ المؤمنِ والمؤمنة لله والرِّضَا بحكمِه والاطمِئنانُ بذَلك هذا أمرٌ يَدلّ على صحَّةِ الإيمان وقوَّته، يَقول الله جلّ جلاله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [الأحزاب:36].
أيّها المسلِم الكَريم، أيَّتها المؤمِنة، إنّ هناكَ قضِيّةً اجتماعيّةً يحصُل أحيانًا مِن وُقوعِها ضجَرُ بعضِ ضُعَفاءِ الإيمانِ مِن أحكامِ اللهِ واستِنقاصُهم لأحكامِ الله وعَدَمُ قناعتِهم ورِضاهم بحكمِ الله، فيتفوَّهونَ بكلماتٍ سيِّئة وألفاظٍ وقِحَة، لو عَادوا إلى رُشدِهم لعلِموا أنّ تلكَ الألفاظَ والأقوالَ مُنافيةٌ لكَمالِ الإيمانِ، لأنّ الوَاجبَ الرِّضا والتسليمُ، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
هذهِ المشكلةُ الاجتماعيّة تتمثَّل عندما يقَع الطَّلاق من الزوجِ لامرأتِه، فإذا وقَعَ الطّلاقُ منَ الزوجِ لامرَأَتِه عند ذلكَ تَسمَع من الزوجِ أو أهلِ الزّوجِ أو الزّوجةِ أو أهلِهَا تسمَع ألفاظًا وقِحَة واعتراضاتٍ على الشّرعِ، وربّما تسمَع سوءَ ظنٍّ بالله وندَمًا على ما حصَل، ويا ليتَ الزواجَ لم يتمّ، ويا ليتَنا لم نقبَل فلانًا، ويا ليتَنا لم نعرِفه، ويا ليتنَا لم نرتبِط به، وما أقبَحَ السَّاعةَ التي عرفَّتنَا بهذا أو بهذا. هذا يقَع من الزّوجِ أحيانًا وأهلِه، وقد يقَع من الزّوجةِ أو مِن أهلِها، وكلُّ ذلك خَطأٌ من الجمِيع.
هو لا شكَّ أنّ تطبيقَ الأحكامِ الشرعيّة أحيانًا يخِلّ به البعضُ، فيأتي الخطرُ لا مِن ذاتِ الحكمِ الشرعيّ، ولكن من سوءِ التّطبيق، يأتي الخطَر من سوءِ التّطبيق وقِلَّة العنايةِ بالأحكامِ الشّرعيّة، أمّا الأحكام الشرعيّةُ في حدِّ ذاتها فلا ضرَرَ ولا تناقُضَ ولا اضطرابَ فيها، بل هي عَدلٌ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115]، لكن سوءُ التّطبيقِ من أحَدِ الزّوجين الرّجلِ أو المرأةِ هو الذي يسبِّب المشاكِلَ ويحدِث الضَّغائنَ في النفوس، فيحصُل ما يحصُل.
أيّها الرَّجل المؤمِن، وأيّتها المرأةُ المؤمنة، الطلاقُ حكمٌ من أحكامِ الله، حكمٌ تشريعيٌّ من أحكامِ الله، عندما يطبَّق التَّطبيقَ الصحيحَ وتُلتَزَم فيه آدَابُ الشريعةِ فلن يحصلَ أيُّ اضطِرابٍ ولا أيّ قلَق، ولكن عندَما يكون السبَب المثيرُ للطّلاق أمورًا مِن قِبَل المرأةِ أو أمورًا من قِبَل الزّوج أو أهلِه عند ذلك يقَع هَذا الإشكالُ، نسأَل الله التوفيقَ لما يُرضيه.
أيّها الرّجل المؤمِن، أيّتها المؤمِنة، لنَعلم جميعًا أنَّ اللهَ جلّ وعلا حينَما شرعَ الطلاقَ شَرعَه لحِكَمٍ، شرعَه لمصالحَ، شرَعَه لتخليصِ الزوجين عندَما يتعذّر الوِئام ويَصعُب البقَاء في النّكاح، فجاءَ الإسلام بحلٍّ لهذِه المشكِلةِ بِشروطِه وقيودِهِ المبيَّنةِ في شرعِ الله.
أيّها المسلم، إذًا فعلَى المؤمِنةِ أن ترضَى بالطّلاقِ، وعَلى الرّجلِ أن يَرضَى، يَرضَى الجميعُ بحكمِ الله، والواجِبُ تطبيقُ أحكامِ الله والحِرصُ على تطبِيقِ الأحكامِ الشّرعيّة حتى تأخذَ مسَارَها الحقيقيّ وتسلَم البيوتُ من قيل وقالَ.
أيّها المسلم، أيّتها المسلِمة، إنّ الشارعَ عندما أذِن في الطَّلاق وجعَله على مراحِلَ ثلاث: الأولى والثانِية والثالثة يقصد منها علاجَ الوَضع، فإذا تعذَّر الأمرُ فإنّ الشّرعَ أذِن في الطلاق تخليصًا للمرأة من مُشكِلة وتخليصًا للرّجل من مُشكلة، فلم يمنَعِ الطلاق ليجعل المرأةَ غِلاًّ في عنُقِ الرجل، ولم يمنعِ الطّلاق ليجعلَ أيضًا الرّجلَ في قلقٍ وشَقاءٍ ويحول بينَه وبين الاستمتاعِ بما أباحَ الله له، بل جاءَ العلاجُ الشرعيّ لمن تبصَّرَ وتدَبَّر وتعقَّل.
أيّها المسلم، أيّتها المسلِمة، وعندَما أُذِن في الطّلاق لم يكن ذلك الإذنُ معناه مغلِقًا للرّجعة، لا، بل لما أُذِن في الطّلاق شُرِعت الرّجعة للرّجل على امرأتِه في أثناءِ العِدّة بلا حاجةٍ إلى قَضاءِ قاضٍ، وإنما إشهادٌ يُشهِد الرّجل على الرّجعةِ شاهدَي عدلٍ لأنّ الله يَقول: وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2]. وهذه الرجعةُ تكون باتِّفاق الزوجَين ما دامَت عدّةُ الطّلاق باقيةً، فإنِ انقَضَت عدّةُ الطلاقِ في الطّلقةِ الأولى أو الثانِية فلا بدَّ مِن عقدٍ جديدٍ، وإن وقعَتِ الطلقةُ الثالثة فلا بدّ من نِكاحِ زوجٍ آخَر نِكاحًا لا يُهدف منه تحليلُها، ولكن إن وقَع النّكاحُ اتِّفاقًا ثم طلَّقَها الزّوج الثاني جازَ لزوجِها الأوّل العَود إليها؛ لأنّ الله يقول: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [البقرة:230].
وشرَط الله للرّجعةِ أن يكونَ القَصد من الرّجعة الإصلاحَ، ولذا قال الله: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228]، فإذا أرادَ الزّوجُ الرجعةَ للمَرأة وقد نوَى أن يصلِحَ ويغيِّر مِن وضعِه إن كان الخطَأ منه أو تغيِّر المرأةُ مِن وضعِها إن يكن الخطَأ منها كانتِ الرّجعة مشروعةً، وإن راجَع الرجلُ لأجلِ الإضرارِ بالمرأَة كان آثمًا ومخالِفًا للشّرع.
وربُّنا جلّ وعلا عندما أذِن بالطلاق أمَر الزوجَ بأن يُبقِيَ المرأةَ المطلَّقةَ عندَه في منزلِهِ إذا كانَ الطّلاقُ الطلقةَ الأولى أو الطّلقةَ الثانية؛ عسَاه أن يعودَ إليها، وعسَى المياهُ أن تعودَ لمجارِيها، قال الله تعالى: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1]. فأمَر جلّ وعَلا المطلِّق أن يُبقيَ المرأةَ المطلَّقةَ في حالِ كونِ الطّلاق الطلقةَ الأولى أو الطّلقةَ الثانية أن تبقَى في بيتِ الزوج كإحدى زوجاتِه؛ ينظر إليها وتنظر إليه، ويخلو بها وتخلو به، فلعلّ نظرةً توجِب للقلبِ محبّةً وموَدّة كما قال الله: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ، أي: رَجعةً بعدَما وقعَ مِن طلاقٍ.
وأمرٌ آخر أنّ اللهَ جلّ وعلا شرعَ أيضًا للمطلَّقةِ أن تُمتَّع بمتعةٍ حسنة، بمعنى: أن يعطِيَها زوجُها إذا طلَّقَها شيئًا أو عِوَضًا ماليًّا تذكيرًا لما كان بينَهما من العلاقةِ، قال تعالى: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:241، 242]. وذكَّر تعالى الزّوجين ما بينَهما من صلاتٍ قديمة، فلا ينسى الرجل للمرأةِ مواقفَها، ولا تنسَى له أيامَهُ ولياليَه معها، قال تعالى: وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237].
أيّها المسلِم، أيّتها المسلمة، إنّ المصيبةَ اليومَ تقَع من بعض تصرّفات بعض أولياءِ الزوج أو بعضِ أولياء المرأة أو من أحدِ الزوجين، عندما تطلَّق المرأةُ من زوجِها يكون هناك تصرّفاتٌ خاطئة، إمَّا من الزّوجين بعضِهم مع بعض وأهلِ المرأة أو أهل الزوج، أو مِن أفرادِ بعض المجتمَع.
فمِنَ الأخطاء السيِّئة عندما يقَع الطلاق بين الزوجين ترى الزوجَ أو أهلَ الزوج يحاوِلون تبريرَ الموقف، فهنا تُنشَر الأسرار التي كانت غائبةً، فينشُر الرجل فضائحَ المرأة، إمّا صِدقًا وإما كذبًا، يبرِّر موقِفَه من طلاقها وينشُر عيوبَها ويقول: قالت وفعَلت وفعلت وإلى آخره، قد يكون مصيبًا فيما يَقول، وقد يكون مخطِئًا فيما يقول، وقد يكون حمَل المرأةَ على ما فعَلت نتيجةً لتصرّفِ الزوج الخاطِئ الذي ليس أهلاً لتحمُّل تلك المسؤوليّة، وربما تحدَّثتِ المرأة أو أولياؤها عن الزوجِ وأهلِه وقالوا عنه كذا وكذا، تكشَف الأسرار، وتنبسِط الألسنةُ بالغيبة، ويكون التشفِّي من أحدِهما بالآخر، وهذا ـ يا إخواني ـ من الأمور الخطيرة.
الله جلّ وعلا شرَع الطلاق، وهذا قضاءٌ وقدر، والمؤمِن والمؤمِنة يرضيان بقضاءِ الله وقدَره، مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22]. وقَع هذا الطلاقُ فهل معناه أنّ هذه المطلَّقةَ سيُرخَى الستارُ عليها وتُخفَى من الدّنيا ولا يرغَب فيها أحَد ولا يميلُ قلبُ أحَدٍ إليها؟ هذا كلُّه خطَأ، هي امرأةٌ طلِّقَت إمّا لمشكلةٍ منَ الزوج أو مِنها، والنبيّ يقول: ((الأرواحُ جنودٌ مجنّدة، فما تعارَفَ منها ائتلَف، وما تناكر منها اختلف)) [1]. قد تكون أخلاقُ هذا الزوجِ لا تتَّفق مع أخلاقِ المرأة، وأخلاقُ المرأة لا تتَّفق مع طباعِ الزوج ولو كان كلٌّ [من] الزوجَين على منهجٍ منَ الاستقامة والالتزام الشرعيّ، لكن اختلافُ الطبائع والأخلاقِ هذه أمورٌ بيَد الله جل وعلا.
إذًا فعَيب المطلَّقَة وإلقاءُ اللّوم عليها واحتقارُها أو اعتقادُ أنها المرأةُ التي فقدَت حياتها فيجِب أن تلزمَ البيتَ وأن تيأسَ منَ الزّواج هذا كلُّه تصرّف خاطئ، هي امرأةٌ مسلمة، هب أنّ الزّوجَ طلّقها، ربما يكون طلاقُه ناتجًا من سوءِ تصرُّفه، من قِلّة تحمّله، من عدَم مبالاتِه، من كونه إنسانًا ليس على المستَوَى المطلوبِ منه وليس مؤهَّلاً لتحمُّل المسؤوليّة، أيُلقى العيبُ على هذه المرأةِ المطلقة، وينظُر المجتمعُ إليها نظرةَ احتقارٍ وازدِراء؟! هذا كلُّه خطأٌ وكلّه مخالفةٌ، الله جلّ وعلا قال مسلِّيًا للزّوجين عند الفراق: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا [النساء:130]. وَإِنْ يَتَفَرَّقَا أي: الزوجان، يُغْنِ اللَّهُ كُلاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا. فيغني الله الزوجَ بامرأةٍ هي خيرٌ له من تلك، ويغني الله المرأةَ بزوجٍ هو خيرٌ لها من ذلكَ الزّوج، وسبحانَ الحكيم العليم فيما يقضِي ويقدِّر. المهمُّ من هذا أن لا نجعلَ الطلاقَ سببًا للعداء وسَببًا للبغضاءِ وسببًا للقطيعة.
خُذ مثلاً عندما يطلِّق الرّجل امرأتَه التي هي مِن أقاربِه؛ بنت عمّه، بنت عمّته، بنت خاله، بنت خالته، يكون هذا الطلاقُ سببًا لقطيعةِ الرّحم، فيبغِضون ذلك الزوجَ، ويكرهونه، ويعيبونه، وإذا سُئلوا عنه قالوا فيه أمورًا يعلَم الله براءَته منها، لماذا؟ لأنه طلَّق ابنتَهم. هذا الطلاقُ لا شكَّ أنّه وقع بقضاءٍ وقدَر، فهل يليقُ بنا أن نقطَعَ الرّحِم وأن نكرَهَ ذلك الزوج وأن نلفِّقَ به تُهَمًا هو بَرِيء منها أو يليق أن يتحدَّث أولياءُ الزّوج عن تلك المرأةِ ويقولون فيها ما يقولون؟! كلّ هذه أمورٌ يجب أن يُبتعَدَ عنها، وأن يرضى الجميعُ بقضاءِ الله وقدَره، ويسلِّموا للهِ حكمَه وتشريعَه.
أيّها المسلم، إنّ النبيَّ لمّا توفِّيَ زَوجُ أمّ سَلمَة قَال لها آمِرًا لها أن تقولَ: إنّا لله وإنّا إليه راجِعون، اللهمّ آجِرني في مصيبَتي واخلُف عليّ خيرًا منها، تقول أمّ سلَمة: قلتُها ثمّ قلتُ في نفسي: ومن خيرٌ من أبي سلمة؛ هاجر مع رسول الله وجاهد معه؟! قالت: فلمّا انقضت عدَّتي خطبَني رسولُ الله إلى نفسه، فكان رسولُ الله خيرًا لي من أبي سلمَة [2].
أيّها المسلم، لا نزهد في أحكامِ الله، ولا نجعل تنفيذَ أحكام الله سببًا لتفرُّق قلوبِنا وقطيعةِ أرحامنا، وأن نحفظَ للبيوتِ أسرارَها، فالزوج واجبٌ عليه أن يتّقيَ الله ويستُرَ على المرأة ما عَسى أن لا يكونَ موافِقًا له، هو ينصَح الزوجةَ ويحسِن إليها ويرعاهَا حقَّ الرعاية، وإذا تعذَّرتِ العَلاقةُ معها فإيّاه ونشرَ أسرارِها وكشفَ الأسرارِ وما جرى في البيتِ من قيل وقال. ليلزَمْ أدبَه ويمسِك لسانَه ويحمَدِ الله على العافِية ويَبحث وسَيَرى في النساءِ أخرَيَات. والمرأة أيضًا يجِب عليها وعلى أهلِها الإمساك عن قيل وقال والتحدّث وكشف الأسرارِ والأمور الخفيّة، فلا يجوز أن تظهَرَ على الساحةِ أسرارُ البيوت وما جرَى فيها، يجب أن يرخَى عليها السّتار وأن يُعتَبر أمرًا مضَى وانتهى، أمَّا التحدُّث والتكلّم بالقيلِ والقال والبحث عن المعائِبِ السّابقَة والتحدّث عن ذلك فكلُّها غيبَةٌ أحيانًا، وربما يكون بهتانًا إذا قيلَ خلافُ الواقِع، وربما أوقَعَ الإنسان نفسَه في حرجٍ عندما يعيبُ الزّوج ويتمنّى أنّه ما قبِل خطبتَه وأنّه ما زوّجه، أو يتمنّى الرجل أنّه ما خطَب تلك المرأة. كلُّ هذهِ الأمور لا ينبغِي التحدّث بها، بل ينبغي الرّضا والتسليمُ للهِ ومعالجة الوضعِ بأحسنِ سبيلٍ، حتى تضمَنَ الحياةُ السعيدة ويسلَم المجتمَع من هذه الأشياء التّافهة التي لا يحيِيها ولا يسير وراءَها إلاَّ السفهاءُ منَ الرّجال والنساء.
وفّق الله الجميعَ لكلّ خير، إنّه على كلّ شيء قديرًا.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمينَ من كلّ ذنبٍ، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه مسلم في البر (2638) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وورد عن عائشة رضي الله عنها أيضا.
[2] قصة أم سلمة هذه رواها مسلم في الجنائز (918) عنها رضي الله عنها بمعناها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كَما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورَسوله، صلّى الله عليه وعلى آلهِ وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تَعالى حقَّ التّقوَى.
عبادَ الله، ينتُج من الطلاقِ مشكلةُ حضانة الأطفال من بنينَ وبناتٍ، والشّرعُ المطهَّر حكَم على أنّ المرأةَ أحقُّ بولدَها ما لم تتزوّج، هذا حكمٌ شرعي لا إشكالَ فيه، لكن المشكلةُ تأتي من أنّ أحيانًا الزوجَ يسعَى في الإضرارِ بالمرأة، وذلك إذا كان تعلُّق أولادها الصغار بها وخوفها من أن يكونَ زواجُها يسبِّب أخذَ الزّوجِ لأبنائِه وبناتِه الصّغار فيقِف حجرَ عثرةٍ ويهدِّد المرأةَ ويقول: إن تزوّجتِ سأفعلُ وأفعَل، وهو يعلم أنّ أولادَه لن ينتسِبوا إلى غيره، ولا شكّ أنّ حكمَ الشّرع أنّ المطلَّقةَ إذا تزوّجت تسقُط حضانتها، لكن لا ينبغي أن يُتَّخذَ ذريعة في الضّغط عليها والحيلولةِ بينها وبين أن تتزوَّج بزوجٍ آخر، بإمكانِه السعيُ في الإصلاحِ والتّوفيق وأن لا يضيعَ الصغارُ لتصلّب الزّوجِ أو أهله أو تصلُّب المرأةِ أو أهلِها، فقد تبقَى المطلَّقَة عانسةً تعلَم أنّ بزواجِها سيتسلّط الزوج هذا على الأولادِ، وربما أخَذَهم، وليس المهمّ الأخذ لكن يمنعُهم من زيارَتها ويحولُ بينهم وبينَ رؤيَتِها إلاَّ بعد التّرافُعِ للمحاكِم والقيل والقال، وهذا التصرُّف خاطئ. أنت أحَقُّ بأولادِك حكمًا شرعيًّا بلا إشكال، لكن هذا الحقُّ هل يقتضِي أن يترتَّبَ عليه الضغطُ عليها ومنعُها من الزواجِ والحيلولةُ بينها وبين الزّواج؟! ثمّ إذا قُسِم أنها تزوَّجت صار في قلبِها ولعٌ على أبنائِها وبناتها، وأنت ـ يا قاسيَ القلبِ ـ لا تحبّ أن تفرِّحَهم بأمّهم ولو يومًا في الأسبوعِ أو نحو ذلك، بل يكونُ عندك تشدُّدٌ ومواقِف متصلِّبة لا تخدِم هدفًا، المضرّةُ إنما تقَع على الصغار من بنينَ وبنات؛ عقدٌ نفسيّة وحالةٌ محرِجة. الواجبُ على الجميعِ تقوَى الله والسعيُ في الخير، وأن لا نحملَ المرأة على ما لا يليق، هذا هو المطلوب منَّا جميعًا.
كما أنّ المرأةَ مطلوبٌ منها أيضًا تعاونُ أوليائها مع الزوج في سبيل رؤيةِ أبنائه والالتقاءِ بهم ونحو ذلك؛ حتى تعالَجَ الأمور بعلاجٍ شرعيّ هدفُه الإصلاحُ العامّ، لا التشفّي ولا الظلم ولا العدوان ولا المواقفُ التي ليسَ لها مبرِّر، وإنما هي قسوةُ قلبٍ وجفاءٍ وانتقام من أحدهما للآخر، وهذا أمرٌ لا يليق بالأمّة المسلِمة.
الواجبُ تقوَى الله في كلّ الأحوال والسعيُ في تربية النشءِ الصّغار تربيةً طيّبة، يعرِفون بها أباهم وشفقتَه وأمَّهم ومرحمتَها وحنانها عليهم، فيتبادَل الجميع المنافعَ، ويكون الأولاد لا يشعُرونَ بضَرَر ولا بفَقدِ الأمّ أو الأب، أما إذا تعصَّب أولياءُ المرأة ووقَفوا المواقفَ السيّئة أو أولياءُ الزوج أو الزوج فالضّحيّة العظيمةُ هم الأبناءُ والبنات. فالواجبُ تقوَى الله، والواجبُ على المطلِّق أو المطلّقة كفُّ الألسُن وعدَمُ التحدّث في الماضي والستر على كلِّ ما مضى، تلك أخلاقُ الكِرامِ. أسأل الله أن يعينَنا وإيّاكم على كلّ خير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هَدي محمّد ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجمَاعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومَن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صَلِّ وسَلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلَفائِه الرّاشدين...
(1/3380)
عناية الإسلام بحفظ الأنفس المعصومة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الكبائر والمعاصي, محاسن الشريعة
سعد بن أحمد الغامدي
الظهران
جامع الأمير محمد بن فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البشرية قبل بعثة النبي. 2- نبي الرحمة. 3- حفظ الإسلام للضرورات الخمس. 4- عناية الإسلام بحفظ الأنفس المعصومة. 5- عظم جرم قتل النفس بغير حق. 6- مفاسد التفجيرات في بلاد الحرمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
كانت البشرية قبل بعثة النبي محمد في ضلالة عمياء وجاهلية جهلاء، لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا، أحسنُهم حالا من كان على دين محرّفٍ مبدّل، التبس فيه الحقّ بالباطل، واختلط فيه الصدق بالكذب، فبعث الله سبحانه نبيّه ومصطفاه محمّدا بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وكانت الرحمة المطلقة العامّة هي المقصد من بعثته ، قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:7]، فحصر سبحانه وتعالى المقصد من بعثةِ النبيّ في تحقيق الرحمة للعالمين، والعالمون جميع الخلق.
ولقد كان أسّ هذه الرحمة وقطبها هو الفرقان بين الحقّ والباطل وبين الضلالة والهدى، فهو الرحمة المهداة، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله يسمّي لنا نفسه أسماء فقال: ((أنا محمد وأحمد والمقفّي والحاشر ونبيّ التوبة ونبيّ الرحمة)). وقد كان رحمة للناس في أحلك الظروف وأقساها وأشدّها، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي : هل أتى عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد؟ قال: ((لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملكَ الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلّم عليّ ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئتَ أن أطبق عليهم الأخشبين)) ، فقال النبي : ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا)).
بل كان أيضا رحمة للبهائم، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمّرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمّرة فجعلت تُفرِّش، فجاء النبيّ فقال: ((من فجَع هذه بولدها؟ رُدّوا ولدها إليها)) ، ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: ((من حرق هذه؟)) قلنا: نحن، قال: ((إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار)) ، وعن عبد الله بن جعفر أن رسول الله دخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبي حنّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي فمسح ذِفراه فسكت، فقال: ((من ربّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟)) فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: ((أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملّكك الله إياها؟! فإنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه)).
كما كان رحمة حتى للجمادات، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي كان يخطب إلى جذع، فلما اتخذ النبي المنبر حنّ الجذع حتى أتاه فالتزمه فسكن.
أيها المسلمون، وتتجلّى رحمة الإسلام في مقاصده العظيمة وقواعده الجليلة ونُظمه الفريدة وأخلاقه النبيلة، فهو رحمة في السلم والحرب، ورحمة في الشدة والرخاء، ورحمة في الوسع والضيق، ورحمة في الإثابة والعقوبة، ورحمة في الحكم والتنفيذ، ورحمة في كلّ الأحوال.
ولتحقيق هذه الرحمة جاء الإسلام بحفظ الضروريات الخمس التي لا بدّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجرِ مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج واضطراب وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين. وهذه الضروريات الخمس هي الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وأعظمها بعد مقصد حفظ الدين مقصدُ حفظ النفس.
فقد عُنيت الشريعة الإسلامية بالنفس عناية فائقة، فشرعت من الأحكام ما يحقّق لها المصالح ويدرأ عنها المفاسد، وذلك مبالغة في حفظها وصيانتها ودرء الاعتداء عليها. والمقصود بالأنفس التي عنيت الشريعة بحفظها الأنفس المعصومة بالإسلام أو الجزية أو العهد أو الأمان، وأما غير ذلك كنفس المحارب فليست مما عنيت الشريعة بحفظه، لكونِ عدائه للإسلام ومحاربته له أعظمَ في ميزان الشريعة من إزهاق نفسه، بل وقد تكون النفس معصومة بالإسلام أو الجزية أو العهد أو الأمان ومع ذلك يجيز الشرع للحاكم إزهاقها بالقصاص أو الرجم أو التعزير، ولا يقال: هذا مناف لمقصد حفظ النفس؛ لكون مصلحة حفظها والحالة هذه عورضت بمصلحة أعظم، فأخِذ بأعظم المصلحتين.
وقد وضعت الشريعة الإسلامية تدابير عديدة كفيلة بإذن الله بحفظ النفس من التلف والتعدي عليها, بل سدّت الطرقَ المفضية إلى إزهاقها أو إتلافها أو الاعتداء عليها, وذلك بسدّ الذرائع المؤدّية إلى القتل. فممّا جاءت به الشريعة لتحقيق هذا المقصد:
1- تحريم الانتحار والوعيد الشديد لمن قتل نفسه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجّأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلّدا فيها أبدا, ومن شرب سُمّا فقتل نفسه فهو يتحسّاه في نار جهنم خالدا مخلّدا فيها أبدا, ومن تردّى من جبل فقتل نفسه فهو يتردّى في نار جهنم )).
2- النهي عن القتال في الفتنة: عن الأحنف بن قيس قال: خرجت وأنا أريد هذا الرجل, فلقيني أبو بكرة فقال: أين تريد يا أحنف؟ قال: قلت: أريد نصر ابنَ عمِّ رسول الله ـ يعني عليًّا ـ قال: فقال لي: يا أحنف, ارجِع, فإني سمعت رسول الله يقول: ((إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) ، قال: فقلت أو قيل: يا رسول الله, هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: ((إنه قد أراد قتل صاحبه)). قال النووي: "معنى ((تواجها)) : ضرب كلّ واحد وجه صاحبه, أي: ذاته وجملته, وأمّا كون القاتل والمقتول من أهل النار فمحمول على من لا تأويل له, ويكون قتالهما عصبية ونحوها, ثم كونه في النار معناه: مستحقّ لها, وقد يجازى بذلك, وقد يعفو الله تعالى عنه, هذا مذهب أهل الحق".
3- النهي عن الإشارة بالسلاح ونحوه من حديدة وغيرها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم : ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه, وإن كان أخاه لأبيه وأمه)). قال النووي: "فيه تأكيد حرمة المسلم, والنهي الشديد عن ترويعه وتخويفه والتعرض له بما قد يؤذيه, وقوله : ((وإن كان أخاه لأبيه وأمه)) مبالغة في إيضاح عموم النهي في كل أحد, سواء من يتّهم فيه ومن لا يتّهم, وسواء كان هذا هزلا ولعبا أم لا؛ لأن ترويع المسلم حرام بكل حال؛ ولأنه قد يسبقه السلاح كما صرّح به في الرواية الأخرى, ولعن الملائكة له يدلّ على أنه حرام".
4- النهي عن السبّ والشتم المفضي للعداوة ثم التقاتل: قال تعالى: وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ كَانَ لِلإِنْسَـ?نِ عَدُوّا مُّبِينًا [الإسراء:53]. قال الطبري: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد : وقل ـ يا محمد ـ لعبادي يقل بعضهم لبعض التي هي أحسن؛ من المحاورة والمخاطبة, وقوله: إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ يقول: إن الشيطان يسوء محاورة بعضهم بعضا يَنزَغُ بَيْنَهُمْ يقول: يفسد بينهم, يهيج بينهم الشر، إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ كَانَ لِلإِنْسَـ?نِ عَدُوّا مُّبِينًا يقول: إن الشيطان كان لآدم وذريته عدوّا قد أبان لهم عداوته بما أظهر لآدم من الحسد وغروره إياه حتى أخرجه من الجنة". عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)).
وقد جاءت الشريعة الإسلامية لحفظ الضروريات الخمس، قال الله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [الإسراء:23-26]، فجاء ما يدل على حفظ الدين في مطلعها في قوله: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ ، وجاء حفظ المال في قوله: وَءاتِ ذَا ?لْقُرْبَى? حَقَّهُ وقوله: وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا ، وجاء حفظ النفس في قوله: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ وقوله: وَلاَ تَقْتُلُواْ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لحَقّ.
وتأملوا سنة النبي ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: ((الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)). قال عبد الله قادري: "وقد سمى الاعتداء على هذه الأمور موبقًا أي: مهلكًا، ولا يكون مهلكًا إلا إذا كان حفظ الأمر المعتدى عليه ضرورة من ضرورات الحياة".
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله قال وحوله عصابة من أصحابه: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه)) ، فبايعناه على ذلك. قال عبد الله قادري: "فقد بايع رسول الله أصحابه على حفظ هذه الضرورات، وهي حفظ الدين في قوله تعالى: أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا ، وحفظ النفس في قوله: وَلاَ تَقْتُلُواْ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لحَقّ ، وحفظ النسل والنسب والعرض في قوله: وَلاَ يَزْنِينَ وقوله: وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـ?نٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ، وحفظ المال في قوله: وَلاَ يَسْرِقْنَ ".
أيها المسلمون، ما عظم جرم قتل النفس بغير حق؟ جاءت نصوص الكتاب والسنة بتحريم الاعتداء على النفس وعدّ ذلك من كبائر الذنوب؛ إذ ليس بعد الإشراك بالله ذنب أعظم من قتل النفس المعصومة. وقد توعّد الله سبحانه قاتلَ النفس بالعقاب العظيم في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة، قال الله تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَـ?دَكُمْ مّنْ إمْلَـ?قٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151]، وقال تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لحَقّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَـ?نًا فَلاَ يُسْرِف فّى ?لْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا [الإسراء:33]، وقال تعالى: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:68، 69]، وقال تعالى: مِنْ أَجْلِ ذ?لِكَ كَتَبْنَا عَلَى? بَنِى إِسْر?ءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ?لأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ?لنَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَـ?هَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِ?لّبَيّنَـ?تِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مّنْهُمْ بَعْدَ ذ?لِكَ فِى ?لأرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة:32].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال: ((أكبر الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقول الزور)) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما)). والفسحة في الدين: سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول.
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي : ((أوّل ما يقضى بين الناس في الدماء)). قال النووي: "فيه تغليظ أمر الدماء, وأنها أوّل ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة, وهذا لعظم أمرها وكثير خطرها, وليس هذا الحديث مخالفًا للحديث المشهور في السنن: ((أول ما يحاسب به العبد صلاته)) لأنّ هذا الحديث الثاني فيما بين العبد وبين الله تعالى, وأما حديث الباب فهو فيما بين العباد, والله أعلم بالصواب".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: ((يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة, ناصيته ورأسه بيده, وأوداجه تشخب دما, يقول: يا ربّ, هذا قتلني, حتى يدنيه من العرش)). قال المباركفوري: "قوله: ((يجيء المقتول بالقاتل)) الباء للتعدية, أي: يحضره ويأتي به, ((ناصيته)) أي: شعر مقدّم رأس القاتل , ((ورأسه)) أي: بقيته بيده, أي: بيد المقتول, ((وأوداجه)) هي ما أحاط بالعنق من العروق التي يقطعها الذابح، واحدها ودَج بالتحريك, ((تشخب)) بضم الخاء المعجمة وبفتحها أي: تسيل دما, ((يقول: يا رب، قتلني هذا)) أي: ويكرّره, ((حتى يدنيه من العرش)) من الإدناء, أي: يقرب المقتولُ القاتلَ من العرش, وكأنه كناية عن استقصاء المقتول في طلب ثأره, وعن المبالغة في إرضاء الله إياه بعدله".
وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن نبي الله أنه قال: ((يخرج عنق من النار يتكلم يقول: وكِّلت اليوم بثلاثة: بكلّ جبار, وبمن جعل مع الله إلها آخر, وبمن قتل نفسا بغير نفس, فينطوي عليهم فيقذفهم في غمرات جهنم)).
ألا وإن حرمة دم المسلم عظيمة جدا عند الله، قال الله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]. قال ابن كثير: "هذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك بالله تعالى في غير ما آية في كتاب الله... والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدًا".
وقال في أكبر اجتماع للناس في عصره: ((ألا إن الله حرّم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟)) قالوا: نعم، قال: ((اللهم اشهد ـ ثلاثا ـ ويلكم انظروا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)). قال القاضي عياض: "قوله: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)) كلّ هذا تأكيد لحرمة الدماء والأموال والأعراض، وتحريم لمظالم العباد، كتأكيد حرمة يوم النحر من شهر الحج في حرم مكة". وقال النووي: "قوله : ((إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كرحمة يومكم هذا في شهركم هذا)) معناه: متأكدة التحريم شديدته".
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)) ،وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن رسول الله قال: ((لو أنّ أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار)). وقال ابن العربي: "ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حقّ والوعيد في ذلك، فكيف بقتل الآدمي؟! فكيف بالمسلم؟! فكيف بالتقي الصالح؟!".
وعن عبد الله بن عمرو قال: رأيت رسول الله يطوف بالكعبة ويقول: ((ما أطيبك وأطيبَ ريحك, ما أعظمَك وأعظمَ حرمتك. والذي نفس محمد بيده, لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك: ماله ودمه وأن نظن به إلا خيرا)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لا أحد يشكّ في شناعة حادث التفجير الذي حصل في مدينة الرياض، والذي راح ضحيتَه عدد من رجال الأمن وأصيب آخرون، وهذه الجريمةُ النكراء التي تنكرها الشرائع السماوية والقوانين الأرضية والعقول السوية إن كان قد قام بهذه الجريمة ممن ينتسب للإسلام فإن لها من المفاسد ما لا يمكن حصره، ومن أبرزها:
1- قتل النفس التي حرّم الله تعالى بغير حقّ كما بينا لكم من الأدلة.
2- زعزعة الأمن في بلاد الحرمين التي أصبحَت مضرِبَ المثل في استتباب الأمن واستقراره بين دوَل العالم، وكم في العبثِ بالأمن من مخاطرَ لا يعلمها إلا الله، فكيفَ تقوم الحياة دون أمنٍ واستقرار؟! وكيف تكون عبادةُ الله تعالى وارتياد المساجد وأداءُ الشعائر في حال الخوف والانفلات؟! ولكن كما قال تعالى: فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].
3- الخروج على ولاةِ الأمر بغيرِ حقٍّ، والذين نصَّ القرآن على وجوب طاعتهم بالمعروف، قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ [النساء:59]، وقد جاء في الحديث: ((من أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصى الأمير فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى الله)).
4- الانشقاق على جماعةِ المسلمين ومخالفةُ سبيلهم، قال تعالى: وَمَن يُّشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتِّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]. فما أحوجَنا إلى وحدةِ الصفّ وجمع الكلمة بعيدًا عن التفرّق والتنازع كما قال تعالى: وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا [الأنفال:46].
5- خدمة أعداءِ الإسلام في إيجاد الذرائع لهم في عالمنا الإسلاميّ، بل في أرض الحرمين، ليشنّوا حملاتهم المغرضةَ على المسلمين سياسيًّا واقتصاديًّا وإعلاميًّا وغير ذلك.
6- تشويه صورةِ الدين الإسلامي في أنظار غير المسلمين، وتشويهُ مذهب أهل السنة في أنظار المخالفين، فكيف يُحسَن الظنّ بمذهبٍ أو دين جعل الدماءَ أرخصَ ما لديه، وكأنّ إزهاقَ الأنفس وإراقةَ الدماء من الأمور اليسيرة السهلة؟!
7- إعاقة العمل الوطنيّ والإغاثيّ والدعويّ والإصلاحيّ، بل أقول والجهاديّ في مواطنِ الجهاد الحقيقيّة في فلسطين وغيرها.
وإن كان دبّرت من أعداء الدّين فاللهم عليك بهم.
أسأل الله تعالى أن يحفظَ على بلاد الحرمين أمنَها واستقرارها، وأن يوفّق ولاة أمرها لكلّ خير، وأن يرزقَهم البطانة الصالحة التي تعينهم على الحقّ وتدلّهم عليه، وأن يجنّب بلادنا الفتنَ ما ظهر منها وما بطن، وأن يصلحَ شباب المسلمين، إنّه سميع مجيب.
(1/3381)
فلسطين: جراح تتجدّد
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
24/2/1422
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضعف المسلمين وتشتت دولتهم. 2- غياب كثير من المسلمين عن قضايا أمتهم. 3- فلسطين جرح في جسد الأمة على مدى ثلاث وخمسين سنة. 4- تآمر الغرب النصارى مع اليهود ضد المسلمين. 5- إرجاع فلسطين التي أخذت بالقوة لن يكون إلا بالقوة. 6- اليهود قتلة الأطفال. 7- وجوب توحيد الصفوف لنصرة المستضعفين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يا عباد الله، اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
أيها الإخوة المؤمنون، ظل العالم الإسلامي بأسره مئات الأعوام وهو متجانس متماسك يشدّ بعضه أزر بعض، ويأرز إلى عقيدته الجامعة كلما هدد كيانه خطر أو ادلهم عليه خطب، ومنذ فقدان الأندلس ومن ثم ضعف وسقوط الخلافة العثمانية أخذت أرض الإسلام تنتقص من أطرافها، ففقدت أقطار وأمم وانتهكت محارم ومقدسات ودارت رحى الحرب على المسلمين وتداعت عليهم الأمم والشعوب، وصدق رسول الله : ((يوشك أن تتداعي عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها)) ، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير ولكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن)) ، قالوا: وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) أخرجه أحمد وأبو داود.
نعم إخوتي، إنه الوهن وهو سر الضعف الأصيل حين يعيش الناس عبيدًا لدنياهم، عشاقًا لأوضاعهم الرتيبة، تحركهم الشهوات، وتموج بهم وتسيّرهم الرغائب المادية. إنه الوهن حين يكره المسلمون الموت ويؤثرون حياة ذليلة على موت كريم، ويؤثرون حياة يموتون فيها كلّ يوم موتات على موت يحيَون بعده حياة سرمدية، جبن في النفوس والقلوب، وانفعالية في الإرادة والتصرفات، وغرام بالمتع الرخيصة في أدقّ الساعات وأحلك الأيام، وافتتان بالملاهي والرياضة والمعازف، وجبن عن المغامرة والإقدام، وشرع الحكم الإسلامي بالتراجع ومرتكزاته العلمية بالتداعي، فحلت البدع محلّ الإبداع، والتقليد محلّ التجديد، وزاحمت ظلمات الخرافة بدور التوحيد، وقامت رايات القومية العربية أو الاشتراكية أو الناصرية أو البعثية.
تلكم باختصار ـ إخوتي ـ وصف لحال أمتنا العربية الإسلامية التي تبلّد حسها بالرغم من كثرة مصائبها التي طالت شعوبها وأراضيها بل وحتى مقدساتها، وتغيب الأمة عن قضاياها لتفقد الخلق والإرادة، وتباع الأمة وحقها بمنافع سلطوية شخصية، وتزعزع روح التدين والأخلاق، فكيف كانت النتيجة؟! نعم كيف كانت النتيجة؟! لقد أصبحت الشعوب العربية الإسلامية غثاء وركاما لا تملك حولاً ولا طولاً ولا قوة في مواجهة أعدائها، هذا إن عرفت عدوها حقّ المعرفة.
تُرى ما أسباب تبلد الشعور العربي؟! أحداث مأساوية ودماء وأشلاء، أطفال تقتل في مهدها، ونساء تنتهك حرماتها، وبيوت تهدم ليلاً فوق أهلها، أشجار الزيتون تقتلع من أرضها، بل أعظم من كل ذلك مقدسات على وشك أن تهدم، بل قد دنست، وأما سبيل المقاومة أمام المدرعات والمجنزرات والجند المدججين فهو الحجر، نعم الحجر، لم يملك المسلمون بكل قواهم وثرواتهم سوى الحجر. إنها فلسطين حيث صور الدمار والدماء والجثث التي لا تملك وأنت تطالعها أو تسمع عنهم إلا أن تتساءل: أين غابت نخوة المسلمين؟! بل أين غابت نخوة العرب؟! أين غابت الثروات؟! هل تبلد الشعور في نفوسنا أم انطفأت جذوة الحماس في قلوبنا؟! تُرى هل أمتنا غير تلك الأمة التي نطالع مجدها ونقرأ تاريخها الحافل بالانتصارات والتي تغنّى بها الشعراء؟! إنها أسئلة بلا إجابة.
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم؟
أتلقاك وطرفي مطرق خجلاً من أمسك المنصرم
كيف أغضيت على الذل ولم تنفضي عنك غبار التهم؟!
رب وامعتصماه انطلقت ملءَ أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
أمتي كم صنم مجدته لم يكن يعرف طهر الصنم
لا يلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنم
إنها نكبة النكبات، إنها فلسطين في زمن التخاذلات، فلسطين التي يدمى جرحها كل يوم، فماذا فعلنا لها؟ ماذا قدمنا من تضحيات؟! ماذا فعلنا لها؟! وماذا فعلنا وحققنا بالتنازلات؟! حتى عواطفنا تجاه إخواننا هناك ما لبثت أن انكمشت كنار سعفة شبت ثم انطفأت، ثلاث وخمسون سنة من تاريخ صراعنا مع اليهود في نكبة فلسطين، ثلاث وخمسون سنة وفلسطين ومقدساتها تحت نيران احتلال الصهاينة اليهود، ثلاث وخمسون سنة وأمتنا العربية من نكبة إلى نكسة إلى تشرذم إلى خلاف، ثلاث وخمسون سنة وأمتنا الإسلامية تنهش من أطرافها وأوساطها ويستغيث بنا المسلمون ولا مجيب، ثلاث وخمسون سنة وإعلامنا العربي منشغل عن قضاياها المصيرية بالفن والرياضة ومسلسلات العهر والفجور والاستهزاء بمسلّمات ديننا الإسلامي، ثلاث وخمسون سنة وكل راية رفعت في مواجهة اليهود إلا راية الإسلام والجهاد في سبيل الله، حتى راية الفاتيكان وقساوستها وبابا الفاتيكان يستعان به وراية الفاتيكان ترفع في بلاد المسلمين وعلماء المسلمين يهمَّشون ويضيَّق عليهم، ثلاث وخمسون سنة وأبناء فلسطين في رباط دائم مطيّبين بالكفاح مثخنين بالجراح، ثلاثة وخمسون عامًا وبلد إسلامي في الأرض المباركة فلسطين يعيش آلامًا وجراحًا، يعيش نكبات لم ينكب مثلها المسلمون منذ قرون، يعيش طردًا وحشيًا لشعب آمن في أرضه وعمرانه، يعيش جريمة دولية تصلح لعصابة يهود أن تمارس القتل والتشريد بلا تمييز، ثلاث وخمسون سنة تعرت فيها الفدائيات المهترئة والمنظمات المتخاذلة وانكشفت فيها أكذوبة السلام وخداع أوسلو ومدريد وكل اللقاءات والمؤتمرات واللجان والمبعوثين ورعاة السلام المزعومين، ثلاثة وخمسون عامًا والحكاية ما تزال في بدايتها، غرب متآمر، جوار متخاذل، وأموال تتدفق على المعتدي الصهيوني، ثلاثة وخمسون عامًا والبرابرة اليهود مع الخونة والمتخاذلين من أعوانهم ينفذون نكبات جديدة من دير ياسين إلى دير البلح إلى كفر قاسم وإحراق المسجد الأقصى ومذبحة صابرا وشاتيلا وعناقيد الخضم في قانا، إنه حاضر يرتد إلى الماضي فكيف بدأت القصة؟!
أيها المسلمون، كان اليهود شراذم وأقليات في بقاع شتى من العالم، فعزموا على إعادة بناء أنفسهم بجدية، فأنشؤوا حركة صهيونية تعمل وفق خطة مدروسة واضحة المعالم بوصاية بريطانية، واجتمع هدف اليهود والنصارى الذين لم ينسوا الأحزاب وخيبر وبلاط الشهداء وحطين وبدعم من قادتهم كهرتزل ونوردن ووايزل، استطاعوا في فصل تاريخي أن يعقدوا مؤتمر باسل قبل حوالي مائة سنة الذي انبثقت عنه المنظمة الصهيونية التي نجحت بالتحالف مع الغرب بعد أن سيطرت على غالب ثرواته وتحكمت في إعلامه بأن كثفت الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومن ثم استصدار وعد وزير خارجية بريطانيا بلفور عام 1917م بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين المستعمرة حينذاك من بريطانيا، هذا الوعد لأرض مستعمرة في فلسطين لتجمع شتات اليهود، وزادت المصيبة وعظمت حين أسقطت دولة الخلافة الإسلامية في عام 1924م، وفي نهاية المطاف نجحت الصهيونية ليعلن ابن قريون إنشاء كيان دولة يهودية في فلسطين قبل 53 عامًا أي: سنة 1948م تسيطر حينذاك على 78 في المائة من أرض فلسطين، هذه الدولة النشاز التي سارع إلى الاعتراف بها عدد من دول العالم الكافر بمنظماته وهيئاته، وفي الوقت نفسه الذي يجتمع فيه اليهود شرّد من مسلمي فلسطين حينذاك حوالى 750 ألفًا الذين ما زال معظمهم يعيشون في مخيمات بائسة بعد أن أصبح تعدادهم ثلاثة ملايين ونصف لاجئ، وفي سنة 1967م استكمل الصهاينة احتلال باقي فلسطين مع عدد من الأراضي العربية، ثم أصبحت إسرائيل دولة اعترف بها حتى بعض دول العالم الإسلامي، وتعاملوا معها ووقعوا معها الاتفاقيات وتبادلوا معها السفراء والمكاتب التجارية في نفس الوقت الذي يقتل فيه المسلمون داخل فلسطين.
تلكم هي قصة ثلاثة وخمسين عامًا من الصراع مع يهود، كان عدد اليهود في بدايته قليلا، وكان مشروعهم صغيرا بإمكان المسلمين حينذاك القضاء عليه في مهده لو انتبهوا لهم وما انشغلوا عنه، لكن المشروع توسع ولعله من قدر الله جل وعلا أن يجعل هذه المنطقة في أتون الصراع لتجاهد في سبيل الله وتخرج العدو من الأرض المباركة.
لقد استنجد أهل فلسطين في بداية صراعهم مع اليهود بإخوانهم العرب والمسلمين، وقامت التجارب الجهادية لأمة ما زال فيها عرق ينبض ورجال لا يقبلون الضيم حينذاك، واشترك علماء وشباب ضحوا بأنفسهم في سبيل الله لمقاومة دولة يهود ودفاعًا عن المقدسات، لكن تلك التجارب أجهض أكثرها وحوربت من القريب قبل البعيد، وكان مسلمو فلسطين يصرخون ويستغيثون ويبينون المؤامرة تلو المؤامرة، فعقدت المؤتمرات الكثيرة، وناقشوا القضية، وأشبعوها نقاشًا، فتمخض الدعم بالمال فقط إن وجد، واستجاب العالم العربي بدوله ومنظماته بلجان تأتي وتذهب ولا تستطيع أن تفعل شيئا، لجان ومندوبون برعاية كافرة من هيئة الأمم أو مجلس الأمن، وكانوا يصدرون القرارات ويعدون ويحاورون ويناورون ويعِدون العرب ولا يوفون، والعرب لا يزالون ينتظرون، واليهود يماطلون، بل استفادوا تسليحًا وتدريبًا ونحن في غفلة ضائعون، وفي الوقت ذاته الذي كان العرب يزدادون فيه ضعفًا وتخاذلاً فإن اليهود الصهاينة يزدادون قوة وتمكينا، وضعفت المقاومة تجاه اليهود، بل أصبحت الشعوب العربية ممنوعة حتى من الهتاف ضدّ إسرائيل، وقد تقمع لذلك، ذلكم هو تاريخ القضية التي ما زالت تنتقل من نكبة إلى نكبة ومن نكسة إلى نكسة.
أيها الإخوة المؤمنون، إنها دعوة للتأمل ودراسة الحال بحثًا عن العلاج فإنّ المتأمل في مسيرة هذا الصراع تصدمه حقائق كبيرة يراد تصغيرها ومعالم خطيرة يراد تحقيرها، منها أن الكيان الصهيوني الذي جعل الدين ركيزة تنطلق منها السياسة ظل يتنقل خلال مراحل الصراع من إنجاز إلى إنجاز ومن قوة وانتشار إلى مزيد من القوة والانتشار في الوقت الذي ظلت فيه أكثر الكيانات العلمانية التي تصدرت للمعركة تتخبط في سيرها متنقلة من فشل إلى فشل ومن تنازل وخسارة إلى مزيد من التنازل والخسارة. إن اليهود رفعوا منذ بدأت معركتهم راية واحدة هي راية التوراة، واندفعوا وراء غاية واحدة هي أرض الميعاد، فأسموا دولتهم باسم نبي الله يعقوب عليه السلام إسرائيل، وجعلوا دستور دولتهم التوراة، وخاضوا معاركهم خلف الأحبار والحاخامات، وجعلوا لدولتهم بكل توجهاتها شعارًا واحدًا هو نجمة داود وقبلتهم هيكل سليمان الذي يريدون بناءه مكان المسجد الأقصى كما يزعمون.
إنها ثلاثة وخمسون عامًا على قيام دولة يهودية شاذة في أرض العرب، أثبتت كل الشواهد خلالها الفشل الذريع والهزائم المنكرة والتراجع المذهل للاتجاه العلماني بأثوابه المتعدّدة من اشتراكية وقومية وتقدمية أو بعثية أو ناصرية أو رافضية. إن الذي هزِم وتراجع أمام اليهودية ليس هو الإسلام، بل مسميات أخرى بعيدة عنه مشوهة له، والذي ألقى السلاح وطلب الاستسلام ليس هو الإسلام بل هي العلمانية، الإسلام الذي لم يمكن حتى الآن من التصدي لتلك المعركة العقائدية مع اليهود.
أيها الإخوة المؤمنون، بعد كل ذلك هل نستفيد من التاريخ؟ هل نرجع إلى الماضي لنقوّم الحاضر؟ هل لليل فلسطين من آخِر؟ وهل لفجرها من موعد؟ إن اليهود بما يملكون من قوى سياسية أو عسكرية أو اقتصادية أو إعلامية أو نظام مؤسسات هم أضعف بكثير مما يتصورهم عدد من الناس، لكننا لا نستطيع مواجهتهم والوهن كامن في نفوسنا والمهابة منزوعة من صدور أعدائنا وإعلامهم ونظامهم ينسج الحقيقة من وجهات نظرهم وحدهم. إننا لا نستطيع مواجهتهم إلا بالإسلام، وبالإسلام وحده ننتصر بإذن الله، وبالإسلام يتصحّح الخلل وتستمد أسباب النصر ومقومات الصمود، فليس الصراع مع اليهود صراعًا موسميا، بل بدأ صراعنا معهم منذ نبوّة محمد ، وجاهر بها أسلافهم بعد ذلك من بني قريضة وقينقاع وبني النظير وعبد الله بن سبأ وميمون بن ديسان القداح. إن قضية فلسطين قضية إسلامية بالدّرجة الأولى، وإن الصراع سيستمرّ وهو صراع بين الإسلام والتحالف الغربي الصهيوني، والجهاد الذي بدأه الشيخ يوسف الجرار وعز الدين القسام وعبد القادر المظفر وفرحان السعدي سيستمر بإذن الله. ويجب أن يعلم المسلمون أن لا ثقة بوعود الغرب وأمريكا راعية السلام المزعوم، وأنه من السذاجة وهزال الرؤية أن نستجدي الغرب ليساعدنا ضدّ اليهود أو يوقفهم عن ارتكاب المجازر في حق شعب عربي هم يعتبرونه همجيا أو إرهابيًا، وإن نكبة مثل فلسطين لا تستَردّ بالحلول السهلة أو بالمؤتمرات والخطب فقط أو بالجلوس مع يهود في مفاوضات سلام لا تبحث إلا عن إرضاء اليهود ومصالح يهود، وإن البحث عن مثل هذا الواقع المتردي هو أول الوسائل للنصر.
أيها الإخوة، لقد هانت هذه الأمة حين ظهر فيها تفرق الكلمة واختلاف الأغراض وتجاذب الأهواء، لقد برزت فيها الأحقاد، شغل بعضهم ببعض، انقسموا إلى قوميات وتفرقوا إلى دوليات، لهم في عالم السياسات مذاهب، ولهم في الاقتصاديات مشارب، استولت عليهم الفرقة ووقعت عليهم الهزيمة، بل نهش بعضهم بعضا وسلب بعضهم حقوق بعض حتى صيح بهم من كل جانب، فانصرفوا عن قضاياهم الكبرى، واستغل الأعداء الأجواء، وفي هذه الأجواء المظلمة والأحوال القاتمة يزداد الصهاينة في مقدساتنا عتوًا وفسادًا وتقتيلاً وتخريبًا، يريدون في زعمهم أن يبنوا هيكلهم المزعوم على أنقاض ثالث المسجدين الشريفين، أو أن يجهضوا انتفاضة الحجر لأطفال المسلمين ورجالها ونسائها، ألا ساء ما يزعمون، فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، والذلة والصغار والمسكنة لمن غضب الله عليه ولعنه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، أولئك شر مكانًا وأضل عن سواء السبيل.
أيها المسلمون، والله ثم والله ثم والله، لا عز لهذه الأمة ولا جامع لكلمتها إلا كتاب الله وسنة رسوله ، فليس بغير دين الله معتصم، به العز والمنعة، وعليه وحده تجتمع الكلمة، ولن يكون لهذه الأمة ذكر ومجد إلا به. لقد تبين لكل ذي لبّ أن النزاع مع هؤلاء الصهاينة نزاع هوية ومصير وعقيدة ودين، وأن حقوق الأمة لن تنال بمثل هذا الخور، لقد أوضحت الانتفاضة كما أوضحت أفغانستان والبوسنة والشيشان أن الجهاد في سبيل الله هو السبيل الأقوم والطريق الأمثل لأخذ الحق والاعتراف به، وأيقن المسلمون أن راية الدين إذا ارتفعت تصاغرت أمامها كل راية، بالجهاد ترد عاديات الطغيان ويكون الدين كله لله ويبقى دين محمد مصدقًا لما بين يديه من الحق ومهيمنًا عليه.
إن حقًا على أهل الإسلام أن تربيهم التجارب والوقائع وتصقلهم الابتلاءات والمحن، وإن بلوى نكبة فلسطين وتكرار ذكرها ينبغي أن يكون دافعًا لنا لا محبطا، محركًا للجهود لا جالبًا لليأس من عدم النصر، فلا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. ومن الابتلاء ما جلب عزًا وخلد ذكرًا وكتب أجرًا وحفظ حقًا، كيف تحمى الحياة لمن يضيع دياره؟! وإذا ضاع الحمى فهل بعد ذلك من خسارة؟!
ولتعلموا أن الكفاح في طريق مملوء بالعقبات الكؤود عند أصحاب الحق والكرامة والصرامة ألذّ وأجمل من القعود والتخلف من أجل راحة ذليلة وحياة حقيرة لا تليق بهمم الرجال، وإن صاحب الحق لا بد له من المدافعة عن حقه وتهيئة أسباب القوة لانتزاع حقه من أيدي الغاصبين، والانتصار لا يتحقق للضعفاء، فلا حلّ إلا بالجهاد، ولا بد من الإعداد، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ الآية [الأنفال:60].
فاتقوا الله رحمكم الله، وتناصروا بدين الله، وخذوا بعزائم الأمور، واعتصموا بأخوة الإسلام والولاء لله ولرسوله ولدينه، نسأل الله أن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين واليهود والنصارى والمنافقين، إنه سميع مجيب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الشدائد والنوازل التي أصيب بها المسلمون خلال ثلاثة وخمسين عامًا بل أكثر في فلسطين تستجيش مكمون القوى وكوامن الطاقات، وعندما تدلهم الخطوب والأحداث يتميز الغبش من الصفاء والثقة من القنوط، وإن التساؤلات التي تفرض نفسها في حال فلسطين ونكبتها لتبين لنا كيف جبنت الهمم وضعفت العزائم وخارت القوى عن تقديم أبسط وسائل النصرة لشعب فلسطين الذي يقصف صباح مساء على أيدي الصهاينة اليهود، والعرب لا يتكلمون، بل علقوا آمالهم على سلام مهترئ يسمى زورًا وبهتانًا سلام الشجعان، أو على مبادرات من هنا وهناك تؤخر ولا تقدّم وتعِد ولا تنجز، فأي سلام هذا الذي يهدم البيوت ويزرع المستوطنات ويشرّد من الديار ويحاصر الشعوب ويقتل الآلاف وينتهك المقدسات؟! سلام يلغي الكرامة ويولي مجرمي الحرب رؤساء ومفاوضين! إنها صور مأساوية للبغي على شعب فلسطين، يراها العالم بكل فئاته فلا يحرك ساكنًا، حتى الحس العربي تبلّد فما أصبح له من أثر.
محمد الدرّة، أمل الخطيب، وغيرهم في فلسطين، هل تعلمون من هم؟! إنهم الإرهابيون المتوحّشون كما يزعم شارون حين يقصفهم هو وجنوده في منازلهم وفي طرقاتهم وأولئك الأطفالُ على أسرّتهم بدعوى مقاومة الإرهاب، وإنما هم أطفال لم يحركوا ساكنًا والعالم صامت لا يتكلم. إيمان حجو ذات الأربعة أشهر يقصفها اليهود بقذيفة تشقّ صدرها من هنا وتخرج من هناك بدعوى مقاومة الإرهاب في فلسطين، فبأيّ ذنب قتلت وهي بطفولتها البريئة في مهد جنازتها؟! إنما ترينا جبننا وخورنا عن نصرة قضية فلسطين ونحن ما زلنا صامتين، إنها أسماء أطفال لم تحارب، بل حتى الحجر لم تقذف الحجر، بل ماتت بالسلاح الصهيوني الذي لا زال حتى الآن يهدم البيوت ويقصف الآمنين ونحن عابثون صامتون لاهون عن نصرتهم، إن الله سائلنا ولا شك عما قدمناه من نصرة لهؤلاء الضعفاء الذين خذلهم القريب قبل البعيد، أين أبسط أدوار المناصرة التي نقدمها إلى فلسطين؟! إنه ليس من عذر لأحد اليوم يرى مقدساته تنتهك ويرى أطفال أبرياء يقتلون في أسرتهم ويهود متسلّطين، ثم لا يدعم إخوانه هناك ولا يتأثر لمصابهم، بل قد يتلهى عنهم بالترَّهات والأباطيل، فأين أخوة الإسلام؟! أين نخوة عرب مضر وعدنان؟! ألم تروا جنائز الشهداء؟! ألم تسمعوا بكاء النساء؟! إنه لا عذر لأحد اليوم، إنه لا عذر لأحد اليوم، إنه لا عذر لأحد اليوم.
وفي المحيا سؤال حائر قلق أين الفداء؟ وأين الحب في الدين؟
أين الرجولة والأحداث دامية؟! أين الفتوح على أيدي الميامين؟!
ألا نفوس إلى العلياء نافرة تواقة لجنان الحور والعين
يا غيرتي أين أنت أين معذرتي؟ ما بال صوت المآسي ليس يشجيني؟!
إن أبسط أدوار المناصرة هي الدعم بالمال للمسلمين في فلسطين، هذا الدعم الذي بدأه قادة هذه البلاد وشجعوه في حملة نصرة انتفاضة الأقصى المباركة، ونحن نسينا هذا الدعم بل تغافلنا عنه، كذلك الشعور الدائم بالقضية عبر مقاطعة بضائع اليهود والنصارى التي تحمّس لها المسلمون زمنًا، ثم تغافلوا عنها بالرغم من أثرها الكبير عليهم، ومع ذلك فقد نسيها أكثر المسلمين.
إن أشد ما يواجهه إخواننا في فلسطين من قصف وقتل هو هذه الأيام فهم أشدّ ما يكونون حاجة إلى نصرة إخوانهم حتى الدعاء في القنوت الذي أمر به ولاة أمر هذه البلاد وفقهم الله بخل به بعض أئمة المساجد وتثاقله كذلك بعض الناس من المصلين في تلك المساجد، فأين الشعور بالجسد الواحد؟!
لقد طالعت قبل قليل بعض صور الدماء والقتلى من جراء القصف اليهودي فرأيتهم لم يستثنوا أحدًا، لا طفلاً ولا امرأة ولا عجوزًا ولا بيتًا، إنها صور مؤثرة تبكي الإنسان، وعجز الإنسان عن نصرة إخوانه هناك يقتله أكثر من هذه الصور التي يراها، إنها صور رأيت فيها شعب فلسطين يناشدوننا فيها النصرة، رأيتهم يبكون ويقولون: أين إخواننا العرب؟! ولكن لا مجيب، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
إن أملنا بالله عظيم في نصرة إخواننا في فلسطين، وأن يهيئ لهم النصر على سواعد الأبطال التي تقذف الحجارة.
إذا البغي يومًا طغى وانتشر فلابد من قذفه بالحجر
ولا بد للظلم أن ينجلي ولا بد للقهر أن يندحر
أيرضيك يا مبعث الأنبياء ومسرى الرسول الرحيم الأبر
نطأطئ ذلاً من الظالمين فمن ذلنا لا نطيق النظر
يعيث اليهود بأقدارنا ومن يغدرون عدو أشر
(1/3382)
صولة الباطل
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
3/8/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اشتغال نبي الله موسى عليه السلام برعي الغنم قبل نبوته كغيره من الأنبياء. 2- تكليم الله تعالى لموسى عليه السلام بعد قضائه الأجل في طريق عودته لمصر. 3- المقارنة بين أول كلمة نبِّئ بها موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. 4- أوجه الاختلاف بين فرعون بني إسرائيل وفراعنة هذا الزمان. 5- من أحوال الشباب ومشكلاتهم في هذا العصر. 6- صمود الصحوة الإسلامية في وجه حملات الأعداء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، يقول المولى تبارك وتعالى: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:29، 30].
عباد الله، نعيش وإياكم اليوم مع نبي الله موسى عليه السلام، لقد قضى موسى الأجل، وظل يرعى الغنم لشعيب عليه السلام عشر سنوات، عمل أجيرًا ليسدّ جوعته، ويعصم شهوته، وما من نبيّ إلا ورعى الغنم، ونبينا رعى الغنم، ولعل في رعي الغنم درسًا لا يُنسى؛ فرعي الغنم يعلّم الراعي الصبر والحلم والأناة، يعلّمه الرحمة بالضعفاء، ويعلّم الحكمة في الحياة.
ومن هنا فإن موسى جلس إلى شعيب عليهما السلام ذات يوم، وبعد أن مرت عشر سنوات، وقال له: ألا تأذن لي أن أعود إلى مصر لأطمئن على حال أمي وأخي؟ الله تبارك وتعالى ألقى في قلبه إلهامًا أن يعود إلى مصر، لأنه على موعد، مع مَن؟ مع حاكم؟! مع رئيس ليدخل في التشكيل الجديد؟! هل سيدرج اسمه في قائمة التشكيل الجديد ليتقن موسى فنّ النفاق؟! إذً على موعد مع مَن؟! اسمع إلى قوله تعالى: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40].
ويتحرك الكليم من مَدْين آخذًا طريقه في شبه جزيرة سيناء، ومعه زوجته وولده، وإذا بموسى يُقاسي ثلاث شدائد: الشدة الأولى: ظلمة الصحراء، الشدة الثانية: البرد القاسي، الشدة الثالثة: أن قدماه تاهتا في بحار سيناء. فماذا يفعل؟ وإذا بموسى ينظر على بعد، فيرى نارًا، ثم قال لأهله: امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا [القصص:29]. لم تكن في الحقيقة نارًا، إنما كانت نورًا، الكليم هناك في جبل المناجاة بسيناء، فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه:11، 12].
لا إله إلا الله، الله كلم موسى من وراء حجاب، ولكنه ليلة المعراج كلّم نبينا بغير حجاب. موسى يقول لربه: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه:25]، والله قال لنبيه: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الانشراح:1]. موسى يقول لربه: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]، والله قال لحبيبه: وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى [طه:130]، ويقول له: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5].
يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه:11-12]، اخلع ما في قدميك إكرامًا وتعظيمًا لملاقاة الملك، إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه:12-14].
هكذا بدأ الوحي لموسى عليه السلام، بدأ الوحي بلا إله إلا أنا، وبدأ الوحي على سيدنا محمد بقوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، لماذا؟ لماذا كانت أول خطوة على طريق الوحي لموسى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا ؟ ولماذا كانت أول خطوة على طريق الوحي لنبينا : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ؟ لماذا؟ لأن هناك فرقًا بين من أُرسِل إليه موسى، وبين من أُرسِل إليه سيدنا محمد ، فموسى أُرسِل إلى رجل قال: أنا ربكم الأعلى، وأُرسِل إلى رجل قال: يا أيه الملأ ما علمت لكم من إله غيري. رجل غرّه سلطانه، غرّته قوته، وغرّه جبروته، قال لوزيره هامان يومًا: فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ. أراد أن يبني بُرجًا عاليًا، لعله يطّلع إلى الله جل في علاه، لم يجد حوله أحدًا يقول له: لا إله إلا الله، لم يجد حوله أحدًا يقول له: اتّق الله. كلهم زبانية سوء، نفاق وغشّ وخداع، وأنانية الجاهلية.
أيها المسلمون، الفراعنة كثرت في هذه الأيام، إن فرعون موسى كان يستحي أن يعتقل النساء، أما فراعنة اليوم فقد ملؤوا السجون بالنساء والرجال. أحد فراعنة اليوم دخل جنوده ليعتقلوا رجلاً، فلم يجدوه في بيته، ووجدوا زوجته في حالةِ المخاض، فلم يرحموها، وأخذوها مع طفلِها يولوِل ويقول بلسان حاله: ربّ إني مغلوب فانتصر. لا إله إلا الله.
لا تظلمنّ إذا ما كنت مقتدرًا فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
فرعون موسى كان يتفاهم ويتناقش، أما فراعنة اليوم فلا تفاهم ولا نقاش. من قال: الشمس طالعة في النهار، قالوا له: على بصرك غشاوة فنحن بالليل، من قال: لا إله إلا الله كفّروه، من قال: محمد رسول الله كذّبوه، حتى ضاعت الأخلاق، حتى ضاعت القيم والمثل.
وأول بدء الوحي على رسول الله كان بقوله تعالى: اقْرَأْ ، لماذا؟ لأن الرسول بُعِث في أمة الجاهلية، أرسل في أمة أمّية، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ [الجمعة:2]، فناسب الوحي أن يبدأ بالعلم والقراءة والدراسة والمعرفة. ديننا هو دين العلم، ديننا هو دين الإصلاح، ديننا هو دين العدالة والأمن والقوة.
عباد الله، شبابنا اليوم أصبحوا يعانون من عُقدة نفسية جراء ذلك، معظم الشباب الآن مصاب بعُقد، ما من يوم يمر إلا ونلتقي ببعض الشباب، واحد كأنّ ساقيه لا تقويان على حمل جسمه، يجلس مُنهارًا باكيًا دامعًا، ماذا يشكو؟ يشكو لأنه إذا فتح الكتاب لا يطيق الدراسة، وإذا أوى إلى فراشه عيناه لا تنام، ما الذي جرى للشباب؟ كنا نرى شبابًا يختلفون إلى المساجد، لا تفوتهم تكبيرة الإحرام وراء الإمام، كنا نرى شبابًا أقوياء في عقيدتهم ودينهم، نرى شبابًا القرآن دستورهم والرسول قدوتهم. فما للشباب أصبح ذابل العود؟! ما للشباب أصبح يائس النفس؟! ما للشباب أصبح حائر اللب؟! أي شيء جرى لشبابنا في هذه الأيام؟!
شبابنا يُحارَبون من وسائل الإعلام، البيوت أصبحت لا يُقرأ فيها القرآن، ولا نجد فيها من يذكر الله، كتب الجنس أصبحت تباع علنًا، وسائل اللهو في كل مكان، فتيات كاسيات عاريات، أُسَر تسهر في الغي والضلال طوال ساعات الليل، الحفلات الساهرة والفراقيع المدمّرة، وبنفس الوقت وطن يباع ويشترَى ويقال: "فليَحيَا الوطن". رجال يضحّون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ورجال يبيعون حياتهم وكرامَتهم للشيطان، عجبًا لنا في هذه الأيام.
عباد الله، لم نسمع أنّ واحدا من أصحاب رسولنا الكريم أُصيب بالاكتئاب، أتدرون لماذا؟ لأن الرسول أقام في نفوسهم مملكة الرضا، يقول فيها : ((ارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس)) ، والاكتئاب لا يستطيع أن يقتحم مملكة الرضا أبدًا. كان الواحد منهم ينام على جوع، وليس في بيته شيء، ومع ذلك كنت تسأله كيف حالك؟ فيقول لك بلسان الرضا: أنا في سعادة، لو علمت بها الملوك لجالدتنا عليها بالسيوف. وهو لا يجد قُوت يومه!!
عباد الله، مشاكلنا يتلخص حلّها بكلمة واحدة: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأعراف:35].
العودة إلى الله يا شباب المسلمين، لا تقنطوا من رحمة الله. قبل أن تناموا حصّنوا أنفسكم بقراءة القرآن، حصّنوا أنفسكم بقراءة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1].
ولقد جاءني شاب بلغ اليأس به مبلغه، قلت له: يا أخي، قبل أن تنام اقرأ المعوذتين، قال لي: وما المعوذتان؟ لم يسمع عنهما، لم يسمع أنّ في القرآن سورتين تسمّيان المعوذتين: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]!!
يا لله ويا للمسلمين، أين قُرّاء القرآن؟! وأين علماء الإسلام؟! الشباب حائر لأن أولياء الأمور ما أرشدوهم إلى شيء يرضي الله تعالى، لأنّ العلماء ابتعدوا عن دروس العلم.
أيها المؤمن، مَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123].
أيها المعرض، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:124-126].
يا عباد الله، اتقوا الله، وأخلصوا قلوبكم لله، افتحوا قلوبكم لله، استعينوا بالله واصبروا، لا تنسوا ذكر الله، أصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
لما فتح أمير المؤمنين عمر بلاد كِسرى وجاءته الرسالة بالتّهنئة خَرّ ساجدًا لله، وبكى بكاء مريرًا، قالوا: أتبكي يا أمير المؤمنين وقد نصرك الله؟! قال: أبكي خشية أن تفتح عليكم الدنيا، فينكر بعضكم بعضًا، وينكركم أهل السماء.
فلا داعي ـ أيها المؤمنون ـ إلى الاحتفالات الغربية العجيبة، لا داعي للإسراف والتبذير؛ لأن الفرحة إنما تتمّ بعودة المسجد الأقصى، الفرحة محلّها القلب، يوم تصطلِحون مع الله فهذه هي الفرحة الكبرى. قيل للإمام الحسن البصري رحمه الله: أيّ الأيام عندك عيد؟ فقال: كلّ يوم لا أعصي الله فيه هو عيد.
عباد الله، كان لابن سيرين ابنة تعبدت فأقامت في مُصلاّها فترة من الزمن، وكانت تحيي الليل كله، فإذا كان وقت السحر نادت بصوت محزن: إليك قطع العابدون دجَى الليالي، يستبقون إلى فضل مغفرتك، وإلى رحمتك، فبك ـ يا إلهي ـ أسألك لا بغيرك، أن تجعلني في زمرة السابقين، وأن ترفعني في درجة المقربين، وأن تلحقني بعبادك الصالحين، فأنت أرحم الرحماء وأعظم العظماء وأكرم الكرماء، يا كريم. ثم تخر ساجدة فيسمع لها وجد، ثم لا تزال تبكي وتدعو حتى يطلع الفجر.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الأمة الإسلامية المفكّكة الأوصال الفاقدة لقيادات حاكمة مؤمنة مخلِصة لقضايا الأمة الفقيرة للمبادئ الإيمانية المستمدة من دستور الإسلام العظيم من كتاب الله تعالى ومن سنة الرسول قائد الأمة ومعلم البشرية قد مهّدت الطريق أمام القوى الاستعمارية لاحتلال أراضيهم واستغلال ونهب ثرواتهم وإذلال شعوبهم، فلم تَرَ الأمة الإسلامية يومًا تعتزّ به بعد سقوط الخلافة الإسلامية وتحويل تركيا أرض الخلافة إلى دولة علمانية تحارب الإسلام والمسلمين.
ومن المؤسف والمخزي أن بعض الحكام العرب قد ساهموا وتآمروا على إسقاط الخلافة ظنًّا منهم أن المستعمر سيعمَل على إنصافهم وإعطائهم حقوقهم وحرياتهم. إنه نفس السيناريو الاستعماري البغيض الذي تنتهجه الدول الاستعمارية حاليًّا بإيهام الشعوب بأنها تسعَى إلى تحريرها من قبضة حكامها الظلمة.
ثم كانت الطامة الكبرى والمؤامرة الصهيونية باغتصاب أرض فلسطين، والذي مهّد لهذا الاغتصاب وعد بلفور الذي أعطى بريطانيا التي كانت تتزعّم القوى الاستعمارية والهيمنة آنذاك بموجبه حقًّا لليهود بإقامة وطن قومي لهم على أرض فلسطين.
أيها المسلمون، إن الثورات والانقلابات العسكرية التي شهدتها الدول العربية والتي كانت تتمّ بتغطية من الدوائر الاستعمارية في أكثر من بلدٍ عربي هي نتيجة الإحباطات المتتالية من الشعوب العربية والإسلامية المقهورة وسياسة مدروسة لامتصاص نقمة الشعوب على الحكام التي كانت تبني الآمال على هذا الزعيم أو ذاك بقرب الخلاص وتحرير البلاد، ولكن مع استمرار الهزائم والنكسات في عالمنا العربي الذي ابتعدت فيه الأنظمة العربية عن تطبيق منهج الله واتخذت الاشتراكية والقومية أساليب ومسميات ونظام حكم لمواجهة العدوان الصهيوني على فلسطين أخذت الصحوة الإسلامية تتنامى بين الشعوب الإسلامية، وعندما شعرت الدول الاستعمارية بأن هذه الصحوة قد تُوحِّد الصفوف وتبعث الهمم وتجدد العزائم بالعودة إلى كتاب الله وتطبق شرع الله في الأرض انبرت الدول الاستعمارية لهذه الصحوة بطريقين متلازمين: الحرب الإعلامية والتي اتخذت طرائق عدة لتشويه صورة الإسلام، والدعوة إلى تغيير المناهج التعليمية واتهام الإسلام بالرجعية والتخلف والإرهاب. ولعل أحداث الحادي عشر من أيلول قد أعطت المبرّرات والذرائع لأعداء الإسلام بشنّ حرب لا هوادة فيها ضدّ الإسلام والمسلمين في أكثر من موقع، ومن أكثر من جهة استعمارية.
وكما تعلمون كان غزو أفغانستان ثم غزو العراق من قبل القوات الأمريكية والحرب ضد المسلمين في البوسنة والهرسك من قبل قوات الصّرب والحرب ضدّ المسلمين في الشيشان من قبل روسيا والمحاولات الجارية حاليًّا لتفتيت وحدة السودان بدءًا من قضية الجنوب، ومرورًا بقضية دارفور حاليًّا، وتخلّي ليبيا عن أسلحة الدمار الشامل بعد التهديدات الأمريكية المتواصلة لها، واستمرار التهديد لسوريا وإيران والسعودية.
أيّها المسلمون، من هنا نتوجه إلى الدول الاستعمارية العدوانية وإلى كل الذين ساهموا معها بشنّ عدوانها على الأمة الإسلامية بالسؤال الآتي: هل قضيتم على الإسلام؟ هل ساد الرفاه والاستقرار والأمن الدول التي غزوتموها وسلبتم خيراتها وثرواتها؟ والجواب: لا، وألف لا، فها هي أفغانستان تشهد عمليات عسكرية يوميًّا ضد الغزاة، وها هي العراق، أمريكا وحلفاؤها تشنّ كل يوم حربًا طاحنة لا هوادة فيها ضد المسلمين هناك على السواء، سنيين وشيعة. وفي كل يوم يقتل جمع من الأمريكان وغيرهم. وفي السودان خرق متواصل لكل اتفاقيات وقف إطلاق النار لإرغام الحكومة السودانية على تغيير دستور الدولة من الإسلام إلى نظام متعدّد الديانات. وها هي الشيشان تشهد تصعيدًا خطيرًا في العمليات العسكرية ضدّ الغزاة الروس. وها هو شعبنا الفلسطيني الصامد الصابر يعطي العالم بأسره دروسًا في الصمود والرباط رغم شدة المعاناة.
أيها المسلمون، لن يهنأ أعداء الإسلام ولن يفرحوا إذا اعتقدوا أنّ آلة الحرب العسكرية ستحقّق لهم الهدوء والاستقرار، ولن تدوم أنظمة القمع التي ساهمت في قهرِ الشعوب الإسلامية لخدمة الأعداء.
فالإسلام كبير، وسيبقى كبيرًا بإذن الله، والنصر آتٍ لا محالة، ودولة الخلافة قائمة بإذن الله، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.
أيها المسلمون، لا تزال الإجراءات الإسرائيلية المشددة تجاه المسلمين تقض مضاجعنا، إذ تصدر التصريحات من المسؤولين الإسرائيليين بتفريغ البلدة القديمة من سكانها المسلمين الأصليين عن طريق السماسرة والعملاء المجرمين، ونطالب كل المسلمين إلى المرابطة وعدم التفريط بأرض المسلمين، أرض الآباء والأجداد.
ومن ناحية أخرى نستنكر وبشدة ما قام به المستوطنون في الأسبوع الماضي من إجراء عقد زواج لهم في باحات المسجد الأقصى، ونحمّل الحكومة الإسرائيلية مسؤولية ما حدث، والتي تدعي أنها لم تعلم بالأمر، في حين أنها تشدد على الداخل والخارج إلى الأقصى من أبناء المسلمين والمصلين.
(1/3383)
حصاد المسلمين
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
علاء الدين بن محمود زعتري
حلب
9/4/1425
جامع الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة مشروع الشرق الأوسط. 2- الظروف العصيبة التي تمر بالأمة الإسلامية. 3- المخرج من الهوان. 4- التحذير من طلب العزة من غير الله تعالى. 5- ضرورة إصلاح ما بالأنفس. 6- أهمية الأمر بالمعروف والني عن المنكر وأدب ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
اتقوا الله عباد الله، واعلموا أن مشروع الشر أوسط يقتحم المنطقة نهارًا جهارًا، بعد أن كان يحاول التسلل خفية وإسرارًا. نعم، إنه الشر أوسط الجديد، ولا تلوموني فلم أخطئ في الكلمة، فغياب قوّة إيمان المسلمين قد أسقطت في طريقها (قاف) الشرق فأضحى المشروع (الشر أوسط).
يا أمة الحق والآلام مقبلة متى تفيقي ونار الشرّ تستعر
متى يعود إلى الإسلام مسجده متى يعود إلى محرابه عمر
أكلَّ يوم يُرى للدين نازلة وأمة الحق لا سمع ولا بصر
عباد الله، يقول تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:40، 41].
فيا أمة الإسلام أفيقي، ومن غفلتك فانتبهي، فلينصرن الله نصرًا عزيزًا مَن ينصر دينه، ويؤيد شريعته، ويعمل بكتابه، ويتّبع سنة رسوله. وفي المقابل يكون الخزي والعار والذل والهوان لِمَن يهمل شريعة الله. هذه سنة الله في عباده الذين ارتضوا لأنفسهم الإسلام.
إخوتي في الله، يعيش المسلمون اليوم زمنًا عصيبًا ووقتًا دقيقًا وجرحًا مميتًا وألمًا فظيعًا وجراحًا مذففة وجثثًا متفحمة وسيارات مفخخة وأشجارًا مقتلَعة وبيوتًا مهدمة وأسرًا مشرّدة وأطفالاً ميتّمة ونساءً ثكلى، وقد لا تسعفك الكلمات في القواميس عن وصف حال المسلمين التي لا تُسرّ صديقًا ولا تجعل العدو حاسدًا. مشاكل تستهدف الأمّة بتدمير مستقبلها وتدنيس حاضرها وتغييب ماضيها.
ويأتي السؤال: فماذا نفعل؟ ومن المنقذ؟ وما سبيل النجاة؟ ما درب السلامة مما نحن فيه؟
أقول: لا خلاص للأمة إلا بانقيادها لكتاب ربها واتباع سنة نبيها محمد ، فلقد كُتب لهذه الأمة حين تحيد عن الشرع أن تتقلب في الإهانات والمذلاّت، وأن تنتقل من هزيمة إلى هزيمة، كما كُتب لهذه الأمة حين تعتصم بحبل الله المتين أن ترتفع رايات نصرها وتعلو أبراج سؤددها. هذه حقيقة لا ينبغي أن تغيب عن الأذهان، ولا أن تُمنع عن سماعها الآذان، ولا أن تحجَب عن رؤيتها العينان.
فلنرفع الغطاء عن أنفسنا، ولنكشف الغشاوة عن أبصارنا، ولنفتح بالوعي أذهاننا، ولتكن حياتنا ملؤها التواصي بالحق والمصارحة، والتناصح في الله والمكاشفة، كفانا نكباتٍ تجرح مشاعرنا، كفانا كوارثَ تهزّ كياننا، كفانا نكسات تسوّد وجوهنا.
أما يئسنا من تلمّس النصر عند البشر من دون الله؟! ألم نتّعظ من استجداء النصر من مجلس الأمن؟!
قتل وتشريد وهتك محارم فينا وكأس الحادثات دهاق
وحشية يقف الخيال أمامها متضائلا وتمجها الأذواق
أين النظام العالمي؟! أما له أثر؟! ألم تنعق به الأبواق؟!
أين السلام العالمي؟! لقد بدا كذب السلام وزاغت الأحداق
يا مجلس الخوف الذي في ظله كسر الأمان وضيّع الميثاق
أوما يحركك الذي يجري لنا؟! أوما يثيرك جرحنا الدفّاق؟!
قالت:
أنا أيها الأحباب مسلمة طوى أحلامها الأوباش والفساق
أخذوا صغيري وهو يرفع صوته: "أمي" وفي نظراته إشفاق
ولدي ويصفعني الدعي ويكتوي قلبي ويُحْكِم بابي الإغلاق
أضافت:
أنا لا أريد طعامكم وشرابكم فدمي هنا يا مسلمون يراق
عرضي يدنس أين شيمتكم؟! أما فيكم أَبِيٌّ قلبه خفاق؟!
أجيبت:
أختاه أمتنا التي تدعينها صارت على درب الخضوع تساق
مدّي إلى الرحمن كف تضرع فلسوف يرفع شأنك الخَلاَّق
كفانا استعطافًا من مجلس الأمم الظالمة، ولنعمل بإسلام ربنا الذي يبني مجتمعات وأممًا عادلة. كفانا عن كتاب الله بعدًا، كفانا عن سنة رسوله حيادا؛ فإن الحق تبارك وتعالى أرادنا أن نكون مسلمين مؤمنين، وهو القائل: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].
هذه موازين تنزُّل الرحمات إن أردتموها أيها المسلمون، هذه مقاييس مَن يستحقّ الرحمة من الله إن رغبتم فيها. فيا مَن تطلبون الرحمة من الله والعنايةَ والرعاية، هل بذلتم أسبابها، أم تراكم زرعتم بذورًا تعطي عكس الرحمة من الغضب والنقمة؟! فما الرحمات الإلهية والعنايات الربانية وكذا السّخط الرباني والغضب الرباني إلا بسبب أعمالكم، فهو زرع قدمتموه تنتظرون حصاده، فماذا تتوقعون مما تفعلون؟!
قولوا بالله عليكم: ما نتيجة إقرار الناس على الجرائم والمنكرات؟! ما نتيجة سكوت الناس عن الفواحش والضلالات؟! ما نتائج تقديم العصاة في المسؤوليات وتأخير المؤمنين والمؤمنات؟! ما نتيجة ترك الصلوات وإهمال الزكوات؟! ما نتيجة تسهيل المسكرات وتعاطي المخدرات؟! ما نتيجة سماع الأغاني الماجنات والترويجِ للغانيات الفاسقات؟! ما نتيجة إطلاق العنان لإرواء الملذات والجري وراء الشهوات؟! ما نتيجة الركون إلى الذين فسقوا ومداهنة الذين كفروا وموالاة الذين ظلموا؟! وماذا تنتظرون بعد المجاهرة بكل أصناف المعاصي والمنكرات والفواحش والسيئات؟!
إن ما تمر به الأمة اليوم ما هو إلا حصاد زرعٍ سابق ونتيجة سلوك ماضٍ، والنتيجة يراها الناس بأم أعينهم؛ فالأمور قد اختلّت، والقيم قد تغيرت، والبركة قد نزِعت، والنقمة قد حلّت، مع أن القرآن قد حوى قصّة مماثلة وحكاية معبّرة عن أقوام فعلوا في الماضي ما وقع فيه المسلمون اليوم، ولكن للأسف جعلنا القرآن للموت والموتى، ولم نشعر به عملاً وسعادة ونجاة للحياة والأحياء.
اقرؤوا قول الله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79].
واليوم يُلاحظ كل مسلم أن المنكرات في حياة المسلمين ظاهرة للعيان، فالزنا قد انتشر، ودور الخمر قد فشت، وقطيعة الرحم قد ذاعت، والغش والتدليس والكذب قد استفحل، والموبقات قد عمت، والفجور رائحتُه فاحت، والمعاصي راياتها ارتفعت، فهل يستحقّ النصر مَن هذا حاله؟!
انظروا حولكم: أما انتشر الفحش وعم الفساد؟! أما استبدلت الأغاني بالقرآن؟! أما ضُيّعت الصلوات؟! أما أحيِيت الليالي على الماجنات من المغنّين والمغنيات بدل إحياء الليالي بالقيام والركعات؟! أما أُكل الميراث ومُنع من أصحابه وضاعت أموال الناس بالباطل؟! فهل يتحقّق نصرٌ والحالة هذه؟!
أمراض وعلل، وأوبئة أوصلت إلى الشلل؛ تعصف بجسد الأمة فتضعفه، وتنخر في إيمانه فتذيبه وتمحقه، وتنال من شموخ الأمة لتلّها. وفي المنطق السليم والعقل الرصين والفكر الرشيد أن المريض يبحث عن الدواء، وأن المعلول يفتش عن الاستشفاء.
فوالله، لا دواء للأمة إلا بشرع ربها، ولا شفاء إلا بكتاب بارئها، ومَن عرف الدواء استعمله، ومَن انتفع به نصح به غيره باستعماله.
وهذا هو أوان الاستشفاء، وهذا زمان أخذ الدواء، وهذا وقت التناصح، وميعاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].
أيها المسلمون، مَن يأمر بالمعروف إن لم تأمروا به أنتم؟! ومَن ينهى عن المنكر إن لم تنهوا عنه أنتم؟!
ألا واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الطريقة المحمدية؛ بالحكمة والرفق واللين، بالشفقة والرأفة والرحمة، ((اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)) ، فما هو إلا دواء يعطيه الطبيب للمريض. فلا ندعو لضرب المخطئين وإيذائهم، ولا لشتم المذنبين وسبهم، ولا لكسر خواطر العاصين وجرح مشاعرهم، ولا للتشهير بالفاسقين وتكفيرهم، بل ندعو إلى إنقاذ الناس من الضلالة، وإدخالهم إلى ساحة الرحمة والهداية، ندعو إلى أخذ الناس بمراكب النجاة، وإيصالهم إلى بر السلامة والأمان، فالدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونبهني الله وإياكم من نومة الغافلين، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3384)
عار فضائي
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, قضايا المجتمع
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
12/2/1425
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نهي القرآن عن الفساد والإفساد. 2- تحذير الدعاة من الغزو الفكري والثقافي. 3- طعنة في الظهر. 4- الاستغلال السيئ للقنوات الفضائية. 5- البرامج الفضائية السافلة. 6- أهداف هذه القنوات الهابطة. 7- المطلوب من عامة المسلمين تجاه هذه القنوات الفاسدة. 8- دعوة للتوبة والرجوع إلى الله. 9- كلمة للآباء وللشباب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى.
أيها الإخوة المؤمنون، إذا كنا قد تحدثنا عن شيخ على كرسيّ الإعاقة ارتفع بهمّته إلى الدعوة والجهاد وحرّك الأمة باستشهاده، فتعالوا لنتحدّث عن أمّة أضحت قعيدةً على كرسيّ الهوان، مشلولة الهمة، مسلوبة الإدارة، تتلهّى بالأباطيل.
أنقلكم اليوم إلى حديث عن مشكلة تؤرّق الأذهان، وتؤذي الأسماع، لا سيما أولئك الذين عافاهم الله من متابعة مثل هذه المنكرات ونجت بيوتهم من مثل هذا الفساد الذي عمّ وطمّ، لكننا نحاول بحديثنا إبراء ذمّتنا جميعا بإنكار هذا الأمر والتبرّؤ منه ومن أهله، علّ ذلك ينجينا من عقوبة الله وعذابه وفتنته التي قد لا تصيب الذين ظلموا منّا خاصة، وسعيًا لتحقيق معنى الإيمان وعدم لبسه بالظلم لنحصّل الأمن والهداية، والله وحده المستعان وعليه التّكلان.
أيّها الأحبة، عند تدبّر كتاب الله والتأمل فيه نرى فيه نهيا وتحذيرا عن الفساد، ومن أعظم الفساد إضلال الناس في أخلاقهم وتشكيكهم في دينهم، وهو خلق المنافقين وسبيل المجرمين الذين إذا قيل لهم: "لا تفسدوا في الأرض" قالوا: "إنما نحن مصلحون"، ألا إنهم المفسدون ولكن لا يشعرون.
أيها الإخوة، لطالما حذّر الدعاة والناصحون من خطورة البثّ المباشر والقنوات الفضائية التي تعبر حدودَنا وتغزو منازلنا، وركزوا على التحذير من مخاطر الغزو الفكري الصليبي والصهيوني عبر قنواتهم وإعلامهم الموجّه لمجتمعاتنا بنشر الإباحية والتنصير وأفكار التحرّر وترويج الفاحشة، لكن الذي حدث وبكل أسف أن ذلك الإفساد والتحلل جاء من قنوات عربية صرفة نعَم عربيّة التمويل واللغة والتفكير. ورحم الله المجاهد نور الدين محمود حين جلس عنده ذات مرة أحد رواة الحديث روى حديثا عن رسول الله متسلسلا بالتبسّم فقال له: تبسّم أيها السلطان، قال: والله، لا أتبسم والنصارى احتلّوا ثغر دمياط والمسجدُ الأقصى في الأسر.
الله أكبر يمتنع نور الدين رحمه الله عن التبسم في الوقت الذي أصبحت فيه دماء العلماء المجاهدين هدرًا للصهاينة، ودماء الشعوب رخيصة للأعداء بلا حساب، وفي الوقت الذي تعاني فيه الأمة انتكاسة في القيَم والمثل وضعفا في الدين، وتتجرّع مرارة الإغراق والتفكّك، وفي الوقت الذي تتذوّق فيه الأمة أنواعَ الهزائم النفسية والاقتصادية والسياسية، ويُشنّ عليها حرب لا هوادة فيها، وتحتل أراضيها وتنهب ثرواتها وتهدر دماء المسلمين رخيصة يوميّا في فلسطين وبلادِ الشيشان والأفغان والعراق مع ضعف وخور في المسلمين شعوبا وقادة.
في هذا الذي تحتاج الأمة فيه إلى إعلام يصلحها ويرفع من شأنها، فإذا بوسائل الإعلام في أمتنا تشن على الأمة حربا تقضي على ما تبقّى من خلق ودين. قنوات فضائية يملكها من يزعم أنه عربي مسلم، وقد ينتسب إلى هذا البلد، لكنهم يبثون فضائح أخلاقية ومسابقات غنائية، رقض على جراح الأمة النازفة ومآسيها المنتشرة التي تعرض صباح مساء، برامج فاسدة يباركها أعداء الأمة ومركّزة على الشباب والمراهقين؛ لأنها تريد إيجاد جيل مسلم متسامح مع أعدائه، غافل عما يصلح حاله، متناسٍ قضايا أمته ومقدساته التي تنتهك حرماتها. ويريد أولئك البغاة الذين يعتدون علينا في بيوتنا من خلال تلك القنوات الهابطة أن نميل إلى باطلهم عبر برامجهم التي تسحَق كل فضيلة عرفها أولادنا وتربّوا عليها، وتزيِّن في أعينهم الرذيلة، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27].
معاشر الإخوة، لا شك أنه من نعمة الله جلّ وعلا هذا التواصل في التقنيات الحديثة الذي نرى فوائده في عدد من المظاهر لا سيما الاتصالات، ولكن بدلا من شكر نعمة الله واستغلاها في الخير نرى سيطرةً للشر وأهله على تلك التقنيات، وتأكيدا على التفاهات، وتكريسا للتبعية للغرب الصليبي حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه وراءهم.
قنوات فضائية عربية تتنافس كلّ يوم في تقديم أنواع جديدة من الفساد، وفي بثّ حي للخلاعة والمجون، ولم يكفهم هذا بل ذهبوا يجمعون الشباب والشابات في برامج وأماكن واحدة لأغراض مختلفة لا جامع بينهما إلا الفساد والإفساد، وكثير من الناس عنهم غافلون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يجمعون الشباب والبنات ليصوّروهم طوال ساعات اليوم في مشاهد مخزية تصوّر أكلهم ورقصهم وغناءهم واختلاطهم ولهوهم غير البريء وتنافسهم على فعل المنكرات، ومن يبرز منهم في تلك الأعمال المشينة هو الفائز الذي يتسابق الناس للصويت له، ويضعون أسفل الشاشة شريطا مكتوبا للتواصل يحتوي أخبث الكلام وأسقطه.
عباد الله، إنني لا أحدثكم عن برامج في أمريكا أو أوربا، بل إنها في بلاد الإسلام وبأموال المسلمين ومدعومة من رجال أعمال من بلادنا، نسأل الله لنا ولهم الهداية والسداد.
إن ما يدعونا لذكر مثل هذه البرامج على حقارتها تلك الإحصائيات المبكية للاتصالات الهاتفية بهم من قبل أناس يعيشون بيننا في بلداننا العربية، متناسين هموم أمتهم وقضاياها، حتى فاقت الاتصالات الثمانين مليون اتصال تصوّت لنشر الرذيلة وقتل الفضيلة، منها أحد عشر مليون اتصال من هذا البلد فقط. ثم انظر للدعم اللامحدود من قبل بعض الجهاتِ المسؤولة في بعض البلدان العربية ودعوة مواطنيهم للمشاركة فيها والتصويت لهذا أو تلك.
أيها الأحبة، إنها أمور مبكِية محزنة حين ترى أنّ قضايا المسلمين المصيرية والتصويت لها والتعاطف معها لم ينل مثل هذا التصويت لدعمها. كذلك يحزنك حين ترى أن اهتمام بعض مسؤولي البلاد العربية موجّه لمثل ذلك، متناسين دعم قضايا أمتهم وبلادهم، في تضييعٍ واضح للأمانة وإشغالٍ للشعوب عمّا يهمها في دينها وحياتها، وامتدادا لهذا الاستهتار بالقيم وجراح الأمة ينبري البعض لافتتاح قنواتٍ غنائية على مدى ساعات اليوم لا تبثّ إلا كلّ ما يسيء إلى الخلق والمرأة ويبثّ الدعارة المجانيّة على الهواء، وقنوات أخرى للأفلام والمسلسلات المدبلجة، أو لبرامج حوارية تثير الفتن بين الشعوب، ولا هدف لها إلا الإثارة، ولو كان ذلك على حساب تكفير العلماء الصادقين وتبديع الدعاة الناصحين.
إنها قنوات تعبث بالأخلاق، وينشر هذا البلاء ليصبح همّ الكثيرين لا سيما المراهقين متابعة مثل هذه البرامج ومشاهدة ما يحدث لفلان أو فلانة، حتى وصل ذلك إلى حديث في دور العلم وهي المدار س بين الطلبة والطالبات. ويزداد العبث حين يعلنون كلّ يوم عن افتتاح برامج وقنوات أخرى لا تحمل إلا ذات الأهداف، وكأن الأمة بحالتها هذه وجراحها الدامية بحاجة إلى مثل ذلك.
إنها طعنة غادرة من القائمين على مثل هذه القنوات توجه للشعوب العربية بإيجاد هذه البرامج، إنها حرب على العفاف، حرب على العقيدة والأخلاق، وهدم للحياء، وحرب على المسلمين والمسلمات حينما يظهرون المراهقين والمراهقات وهم ينضمون لبرامجهم تلك، ويرقصون على ضفاف نشرات الأخبار المثقلة بهموم الاحتلال وقتل الشهداء، وترى البكاء والعويل على إخفاق أحدهم في تلك البرامج كما لو أنهم يبكون لاحتلال المسجد الأقصى وسقوط بغداد وقتل أحمد ياسين، نسأل الله السلامة والعافية وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
حرب إعلامية غير أخلاقية تشنّها هذه الفضائيات العربية على العرب والمسلمين في دينهم وأخلاقهم، تأخذ منحنى خطيرا لم يكن أشدّ المحذّرين منها ومن خطورتها يتوقّعه، فهذه القنوات تريد اختزال الإنسانية بالعري والفتون بالعلائق المحرمة. أما أهداف تلك الهجمات فلا تجد أبلغ بيانا من أنها إشاعة للفاحشة في الذين آمنوا وإباحة الباطل وتسويق الاختلاط بين الجنسين حتى يكون هو الحياة الطبيعية، وتقديم ذلك على أنه ثقافة الحاضر وجواز المرور إلى المستقبل عبر إيجاد أجيال يتخبّطها الشيطان من الجنس، أجيال حائرة هائمة على وجهها تتغذّى بفكر يهلك الحرثَ والنسل، والله لا يحب الفساد، أجيال تتناغم مع المشروع الصهيوني الصليبي لصياغة عقول شباب الأمة وحرف أخلاق المرأة.
إنما غرض مشروعهم أن يختزل الشباب حياتهم بالمتع الرخيصة، لاهين عما يراد بأمتهم من مشاريع تغريبية. غرض مشروعهم اختصار المرأة في جسدٍ كاس عار مبذول لمدمني المتَع المحرّمة والاتجاهات المغرضة، ويسمّون مشروعهم الصليبي هذا إصلاحا، قد ينبري من أزلامهم في المنطقة من يروّج له تزامُنا مع الهجمات الصليبية على المنطقة شعوبا وقادة، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
إنها برامج من أهدافها هدم المفاهيم الشرعية الصحيحة التي تربى عليها أولادنا؛ كالحجاب والاختلاء المحرّم وغيرها، ورسالة إعلامية موجهة في إظهار المرأة متبرّجة وإلغاء الحواجز بين الجنسين في العلاقات، ويكثرون من عرضها حتى يألفها الشباب فلا يستنكرونه، بل يريدون هذا التصويت الهائل له عبر الهاتف. هكذا تنحر الفضيلة في المجتمع، وتشهَر المنكرات، ويقع فيها أولئك المساكين المغرّر بهم.
إنها برامج تزخر بها فضائياتنا، تلهي الشباب وتخدّر طاقتهم التي تستطيع بالإيمان أن تخدم قضيّتها وتعلي شأن أمتها وتقاوم الغزاة وتخرج المحتلين من المقدّسات في فلسطين والعراق. برامج تفسد الرجولة وتكرّس في عقولهم التفاهة حتى لا يناصروا قضيّة ولا يطلبوا حقّا ولا يحفظوا شرفا. برامج تجعل من نجومها المعروضين قدوات تتأثّر بها أجيالنا، فهل نجوميتهم أنهم حرّروا بلدا أم اكتشفوا دواء أو اخترعوا عِلما جديدا أم لهم ميزة بالعلم والدعوة؟! وأين أسلافنا العظام كأبي بكر وعمر وسعد وابن الزبير ونور الدين وصلاح الدين؟! أينهم في عقول وقلوب أجيالنا التي انشغلت بسير هؤلاء التافهين؟! أي ضرر عظيم لهذه البرامج المعروضة على القناة المسلمة وهي تستهزئ بحجابها وتسهل تواصلها مع الشباب وأن حياءها الذي يعزّها إنما هو عقدة نفسية وتخفّف من رهبة ذلك المنكر في نفسها لتتخذ من رسائل الجوال وأحاديث الإنترنت متنفّسا لها في مثل هذه المحرمات؟! وبعض الآباء الغافلين لاهون عن بناتهم بعد أن وفّروا لهم أجهزة في غرفهم، نسأل الله أن يحفظ نساءنا من عوادي الغفلة ومكر السوء.
أيها الإخوة المسلمون، إن حديثنا هذا ليس بمبالغة أو تهويل، فإن مما يدمي القلب سقوط كثير من الشباب أمام تلك الإغراءات والشهوات التي لا يقرها شرع ولا تتماشى مع خلق، وهذا التنافس البائس المحموم بين هذه القنوات العربية في إيجاد هذه البرامج التي كما أنها تعكس أخلاق منتجيها ومروّجيها فإنها تعكس أيضا جمهورا صنعَه إعلام فعلي ينفق سحابة يومه على متابعتها، فيظهر بؤسه المعنويّ وفقره القيَميّ، وهكذا ضعُف الطالب والمطلوب، فأيّ خيانة لأمتهم من أصحاب هذه القنوات حين يكون هدفهم المادي هو المقدّم وهم الذين يستطيعون بأعمالهم الأخرى جني الأرباح الطائلة بدلا من ترويج هذا الفساد أم أنهم أشبهوا اليهود والنصارى الذين يعبدون المال ويتاجرون في المحرمات دون اهتمام بالمتضرّرين ولو كانوا من أهلهم؟! في التقليد الأعمى الذي أخبر عنه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه من التشبه بأهل الكتاب ولو تركوا بيوتهم العامرة ودخلوا جحر ضبّ لدخلوه وراءهم، بل قال عليه الصلاة والسلام كما في رواية الحاكم وأبي داود: ((حتى لو أن أحد جامع امرأته بالطريق لفعلتموه)) وصدق رسول الله.
ألا يتّقون الله ببذل أموالهم في هذا الفساد والتخريب والتغريب؟! ألا يتقون الله وهم أصبحوا أداة بيد الصهاينة والصليبيين لإفساد الأمة قصدوا ذلك أم لم يشعروا به؟! ألا يتقون الله وهم يرون حاجة الأمة إلى إعلامٍ هادف يوضّح الحقائق ويدافع عن المقدسات ويكشف الشبهات ويبني الأمة لا يهدمها؟! ثم ألا يتقون الله ببذل أموالهم هذه وهم يرون وصف الله لإنفاق الكافرين على مثل ذلك : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36]؟!
إننا حين نتحدث عن فساد عريض في تلك القنوات فمن العدل عدم تعميم ذلك، فهناك قنوات تحترم عقول مشاهديها وتلتزم بالضوابط الشرعية، لكنها نادرة نادرة أمام هذا الفساد الفاجر، وكما هي بحاجة إلى التطوير فهي بحاجة للدعم والمساندة.
أيها الإخوة المؤمنون، فبالرغم من جماهير المغشوشين والغافلين الذين ابتلوا بمتابعة مثل هذه المنكرات فإن مما يسرّ أن ترى فئاما من الناس ممن لديهم الغيرة والدين ينكرون مثل هذه البرامج والقنوات وتشمئز منها نفوسهم، لكن ذلك لا يكفي. نعم إخوتي، لا يكفي، فإن المطلوب كما أننا نستنكرها في نفوسنا أن ننكرها أمام من هم حولنا في بيوتنا وأصدقائنا وسائر مجتمعاتنا، لا بد أن نشدّ على أيدي المسؤولين لمنع مثل هذه الممارسات والأخذ على يد المشاركين بها والداعمين لها ومحاكمتهم وهم يشهدون منكراتهم في مخالفةٍ للدين واضحة ومجاهرة بالمنكر فاضحة. كذلك لا بد من الوعي بهذه الظواهر المؤلمة وما بينّاه من نتائج خطيرة على جيل المستقبل بدلا من الغفلة أو الثقة الزائدة عن حدّها لدى بعض الآباء. كما أننا إنكارا لمثل هذه المحرمات نقاطع من تميز بها والشركات الراعية والمموّلة مقاطعةً اقتصادية. نتواصى عليها ونحاربهم بها كما حاربونا في أخلاقنا وديننا، ونحذّر من التأجير المحرّم للمحلات التي تبيع أجهزة هذه المنكرات. ثم لا بد من دعواتٍ صادقة نلجأ بها إلى الله ليكفينا شرّ فتن هؤلاء، وأن يرزقنا ما يقوينا من الإيمان، وأن يجنبنا الكفر والفسوق والعصيان، وأن يشغل هؤلاء بأنفسهم عن المسلمين، وإن لم يرد بهم صلاحا وهداية أن يزيدَهم خسرانا في الدنيا وعذابا في الآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى.
إننا نذكّر من ابتلي بمشاهدة هذه المحرّمات والمداومة عليها بتقوى الله وطلب التوبة بإخلاصٍ حتى يعينه الله، وعليه بالدواء الناجع الذي تطيب به القلوب القاسية وهو ذكر الله تعالى وكثرة قراءة القرآن؛ فإنه سبب لحياة القلوب، وهجره سبب لخرابها، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]. كما أن صدق التضرّع واللجوء إلى الله ودوام الإنابة واستحضار عظم الجناية وذكر الموت وأهواله أسباب معينة على التوبة لمن أراد استدراك ما فاته.
أما أنت أيها الأب والولي، يا من جلب هذه الأجهزة إلى منزله أو استراحته بلا ضبط وتركها لتضيّع أهلَ بيته ويرضى لهم مثل هذه الخبائث التي تفسِد الدين والخلق وتتجاهل التوجيه الأبوي والتعلم المدرسي، ألا تتذكرون ـ معاشر الآباء والأمهات ـ حديث رسول الله : ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)). اتقوا الله فيمن تحت أيديكم من أولاد وزوجات، واعلموا أنها أمانة عظيمة أنتم مساءلون عنها يوم لا يجزي والد عن ولده، يومَ تذهل كلّ مرضعة عما أرضعت.
تذكر ـ أخي الأب ـ يوما تحتاج فيه إلى مثقال ذرّة من حسنة، فإذا بك تُسأل عن أسباب فسادِ أولادك، يومَ يتعلقون فيه بك ويأخذون بتلابيبك يقولون: يا ربّ، لقد أضاع الأمانة وتسبّب في ضياعنا، وأنت لا تستطيع المدافعة عن نفسك، فأقرب الناس لك خصماؤك الذين ظننت أنك تسعِدهم في الدنيا بجريمة عرض هذه المحرمات عليهم، يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى [المعارج:11-16]. نسأل الله أن يرزقنا العافية والنجاة لنا ولأهلينا وأولادنا ووالدينا.
البدار البدار ـ أيها الآباء ـ بتطهير منازلكم من كل هذه المنكرات.
أما أنتم أيها الشباب، فاعلموا أنكم مساءلون عن أوقاتكم وأعماركم وأموالكم التي تبذلونها في هذه المشاهدات وتلك الاتصالات، وإن الأمة تنتظر منكم الكثير، فهداكم في الحياة أسمى من هذا العبث. واعلموا أنكم مستهدَفون من أعدائكم لاختلالكم، وإن المرءَ يحشر يومَ القيامة مع من أحبّ، فهل تحبون أن تحشروا يوم القيامة مع نبيّكم وصحابته الكرام أم مع من أعطيتموهم محبّتكم وعِشقكم مع فسقةِ هذه القنوات، فتصبحوا كما وصف الله جل جلاله: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:22-24]؟!
إنها مطالبة للمسؤولين بمنع المشاركة وإلغاء أسباب هذه الاتصالات المحرمة والوسائل المفضية إليها، كما أنها دعوة للكتاب والمثقفين والدعاة الناصحين لحمل هموم مجتمعهم والكتابة عنها ونقدها وبيان زيف مثل هذه الممارسات الإعلامية وبيان خطرها وسوء تغريبها، ولا بد من السعي لإثارة البدائل المناسبة الموافقة للشرع والخلق. واعلموا أن العلاج ليس صعبا حين تصدق النفوس وتحسن النوايا في أمّة متكاتفة متعاونة على البرّ والتقوى.
اللهم احفظ أبناءنا وبناتنا وجميعَ المسلمين وأصلِحهم وردّهم إلى الحق ردّا جميلا. وصلّ اللهم وسلّم على نبيّنا محمد.
(1/3385)
الجار: حقوق وعقوق
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
فواز بن خلف الثبيتي
الطائف
14/6/1420
جامع الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم حق الجار. 2- أصول حق الجوار. 3- من مظاهر إيذاء الجار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الروابط بين الناس كثيرة، والصلاتِ التي تصلُ بعضَهم ببعض متعددة، فهناك رابطةُ القرابة ورابطةُ النسب والمصاهرة ورابطةُ الصداقة ورابطةُ الجوار، وغيرها من الروابط التي تقوم الأمم بها وتقوى بسببها، فمتى سادت هذه الروابط بين الناس على أساس من البر والتقوى والمحبة والرحمة عظمت الأمة وقوي شأنها، ومتى أُهملت هذه الحقوق وتفصّمت تلك الروابط شقيت الأمة وهانت وحل بها التفكك والدمار، من أجل ذلك ـ عباد الله ـ جاء الإسلام بمراعاة هذه الروابط وتقويمها وتمكينها وإحاطتها بما يحفظ وجودها ويعلي منارها بين المسلمين.
ومن بين هذه الروابط العظيمة التي دعمها الإسلام وأوصى بمراعاتها وشدّد في التقصير في حقوقها وواجباتها رابطةُ الجوار، تلك الرابطةُ العظيمة التي فرّط كثير من الناس فيها ولم يرعوها حق رعايتها؛ إما جهلاً منهم بحقوق الجوار وإمّا تناسيًا لها، أو لا مبالاة بأذى الجار والاعتداء عليه، مما سبب التنافر والتباغض بين المسلمين، بل والعداء والكيد فيما بينهم، أفرادًا وجماعات، وحتى دُولاً مسلمةً متجاورة!!
أيها الإخوة في الله، الجار هو من جاورك جوارًا شرعيًا، سواءً كان مسلمًا أو كافرًا، برًا أو فاجرًا، صديقًا أو عدوًا، محسنًا أو مسيئًا، قريبًا أو أجنبيًا. وله مراتبُ بعضُها أعلى من بعض، تزيد وتنقص بحسب قربه وقرابته ودينه وخلقه، فيُعطى كلٌ بحسب حاله وما يستحق.
فالجار الملاصق لك في الدار ليس كالبعيد، وله ما ليس للبعيد، والجارُ ذي القربى ليس كالجار الجُنب، وصاحبُ الدين ليس كالفاسق المؤذي. وكما يكون الجوار في المسكن فيكون في العمل والسوق والمسجد والسفر والدراسة ونحو ذلك، بل يشمل مفهوم الجوار التجاور بين الدول، فلكل دولةٍ على جارتها حقوق.
عباد الله، لقد أوصى الإسلام بالجار وأعلى من قدره، فللجار في الإسلام حرمة مصونة وحقوق كثيرة، لم تعرفها قوانين وشرائع البشر والدول، تلك القوانين والشرائع الوضعية التي تتنكّر للجار وتستمرئ العبث بحرمته.
فقد قرن الله حق الجار بعبادته وتوحيده وبالإحسان للوالدين واليتامى والأرحام، فقال عز من قائل: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ [النساء:36]. الجار ذي القربى: هو الذي بينك وبينه قرابة، أو مَن قرب جواره، وقيل: المسلم. والجار الجنب: الذي ليس بينك وبينه قرابة، أو غير المسلم.
هذه وصية الله عز وجل في كتابه، أما وصية رسول الله فجاءت في صورة جليلة وتعبير مستفيض لمعاني وحقوق الجار، والوصاية به، والصيانة لعرضه، والحفاظِ والسترِ لعورته، وغضّ البصر عن محارمه، والبعد عن كل ما يريبه ويسيء إليه، قال فيها رسول الله : ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورِّثه)).
معاشر المسلمين، إن حقوق جيراننا علينا كثيرةٌ عديدة، وكلُّها حقوق عظيمة، لا يجوز التساهلُ فيها أو الإخلال بها. وتَرْجعُ الحقوق بين الجيران في أصولها إلى أربعة حقوق:
الأول: كفّ الأذى، فقد جاء الزجر الأكيد والتحذير الشديد في حق من يؤذي جاره؛ لأن الأذى بغير حق محرم، وأذية الجار أشد تحريمًا، فعن أبي شريح رضي الله عنه أن النبي قال: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) ، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من لا يأمن جارُه بوائقه)). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جارُه بوائقه)). وفي الصحيحين قال رسول الله : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، إن فلانة تصلي الليل وتصوم النهار وفي لسانها شيء، تؤذي جيرانها، سليطة، قال: ((لا خير فيها، هي في النار)) ، وقيل له: إن فلانة تصلي المكتوبة، وتصوم رمضان، وتتصدّق بالأثوار ـ أي: القطعة الكبيرة من الأقط ـ وليس لها شيءٌ غيره، ولا تؤذي أحدًا، وفي رواية الإمام أحمد: ولا تؤذي بلسانها جيرانها، قال: ((هي في الجنة)).
بل جاء الخبر بلعن من يؤذي جاره، ففي حديث أبي جُحيفة قال: جاء رجل إلى النبي يشكو جاره، فقال له: ((اطرح متاعك في الطريق)) ، قال: فجعل الناس يمرون به فيلعنونه ـ أي: يلعنون من كان يؤذي جاره ـ فجاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، ما لقيتُ من الناس، قال: ((وما لقيتَ منهم؟)) قال: يلعنوني، قال: ((فقد لعنك الله قبل الناس)) ، قال: يا رسول الله، فإني لا أعود. أخرجه البخاري في الأدب المفرد وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. فهل بعد هذه الأحاديث وهذا الترهيب الشديد من أذى الجار يتساهل متساهل بحقه ويتعرض لأذيته؟!
فكم ـ وللأسف ـ بيننا من صورٍ مشاهدةٍ ملموسةٍ للإخلال بهذا الحق العظيم بين الجيران في مثل مضايقة الجار بإيقاف السيارات أمام بابه لتُضيّق عليه دخولَه وخروجه، ومِنْ تركِ المياه تتسرب أمام منزله، وإيذائه بالروائح الكريهة المنبعثة من مياه المجاري والزبائل ونحوها، ومن إيذائه بمخلفات البناء التي لا داعي لبقائها أمام منزل الجار، أو إيذائه بالاعتداء على حقوقه كأخذ شيء من أرضه والتعدي على حدوده بإزالةٍ أو تغيير، أو بالسرقة من الجار وأخذ شيء من متاعه، سواءً في العمل أو المدرسة أو السوق ونحو ذلك، فقد جاء عن المقداد بن الأسود قول النبي : ((فما تقولون في السرقة؟)) قالوا: حرمها الله ورسوله فهي حرام، قال: ((لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره)).
ومن صور الأذى للجيران التعدي على الجار بإيذاء أبنائه أو العبث بسيارته وممتلكاته، والإزعاج برفع الصوت المنكر، كصوت الغناء أو لعب الصبيان أو بالشجار، أو لعب الأولاد بالكرة، أو بطرق الأبواب، أو إطلاق منبّهات السيارات والإزعاج بها، وخاصة في وقت النوم والراحة، فكل هذه صورٌ من الأذى المحرم بين الناس وبين الجيران من باب أولى.
ومن صور أذية الجيران تأجير من لا يرغبون في إسكانه بينهم، كحال من يؤجر للعزّاب بين البيوت الآهلة بالحُرم، أو من يؤجر للفسقة المنحرفين الذين يخشى منهم إفساد أبناء الحي، أو كحال من يؤجر المحلات التي تجلب الضرر على الجيران، كقصور الأفراح ومحلات المقاهي والاستراحات ونحوها، قال ابن رجب رحمه الله: "ومذهب أحمد ومالك أن يمنع الجار من أن يتصرف في خاص ملكه بما يضرّ بجاره".
وقريب من هذا أن يبيع الرجل ما يملكه من منزل أو أرض دون عرض ذلك على جيرانه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((من كانت له أرض فأراد أن يبيعها فليعرضها على جاره)).
ومن أعظم وأخطر صور الأذية للجار الخيانةُ والغدر به، كالتجسس عليه، والوشايةِ به عند أعدائه، وتتبع عوراته، والنظر إلى محارمه عبر سطح المنزل أو النوافذ المطلّة، أو حال زيارةِ الجيران لأهله، فإنه من أقبح الخصال وأحطِّها، ولا يصنع ذلك إلاّ لئيم خسيسُ الطبع، فإن العرب على جاهليتها كانت تأنف من مثل هذه الخصال الدنيئة وتأباها وتفخر بالترفّعِ عنها كما قال عنترة:
وأغضّ طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
أين هذا من أخلاق وتصرفات بعض قليلي المروءة والحياء حين ينتظرون جاراتهم ويرقبونهن حال دخولهن وخروجهن من بيوتهن؟! وأين هذا من حال أولئك الغادرين الخائنين الذين نشاهدهم كل يوم وهم ينتظرون باصات الرئاسة ونحوها لنقل الطالبات؛ ليعاكسوا بنات الجيران ويؤذونهن؟! وأين هذا من فعل ذلك الغادر الخائن لجاره حين عاكس جارته عبر الهاتف أو جلس أمام منزلها مقابلاً لبابها، أمام دكانه أو مكتبه؟! فكم ـ وللأسف الشديد ـ تقع حالاتٌ من الخيانة والغدر والأذية في الأعراض بين الجيران، بل أغلبُ ما تكون هذه الأفعالُ الدنيئة صادرةً من جار على جاره ـ والعياذ بالله ـ أو جارة سيئة مع جارها، تُبدي له زينتها وتتبرج أمامه، مما قد ينتج عنه خيانةٌ وغدر بالأعراض عن طريق ارتكاب المنكرات والفواحش بين الجيران، وهذا في غاية الفحش والبشاعة؛ لأن فاعل ذلك قد جمع جرائم عدّة، كلُّ جريمة أكبرُ من أختها، من الاعتداء على حق الله، وعلى حق الزوج، وهتك حرمة الجار الذي ينتظر من جاره أن يصونه ويحافظ على عرضه حال غيابه.
ولهذا جاء الوعيد الشديد من النبي محذرًا كلَّ معاكسٍ وغادرٍ ومتطلع على عورات جيرانه ونسائهم، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك))، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تزاني حليلة جارك)) ، وعن المقداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما تقولون في الزنا؟)) قالوا: حرام حرّمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله : ((لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره)).
ألا فليتق الله أولئك الغادرون الخائنون الذين يتصيدون الفرص وينتهزون الأوقات؛ ليخونوا جيرانًا لهم ويؤذوهم ويغدروا بهم، عن طريق المعاكسات الحيّة والهاتفية، أو عن طريق النظر والمراسلة، فإن جُرْمَ ذلك عظيم وخطرَه جسيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، واقدروا الجار حق قدره، واحذروا أذيته، فهو أول حق لكل جار على جاره، أن يكفّ أذاه عنه، بأي صورة كان الأذى، حسي أو معنوي، في دينه أو ممتلكاته أو عرضه وهو أشدّ.
أيها الإخوة في الله، وثاني حقوق الجار على جاره: حمايتُه، فمن الوصاية بالجار ومن حقه حمايتُه، سواء كان ذلك في عرضه أو بدنه أو ماله، فقد كانت العرب تفاخر بحماية الجار حتى ملأت أشعارهم:
وإني لأحمي الجار من كل ذلةٍ وأفرح بالضيف المقيم وأبهج
أما ما يحدث اليوم من إخلال بهذا الحق بين الجيران فأمر لا يجوز، كالاحتقار له والسخرية به، إما لفقره أو لجهله أو بكشف أستاره؛ لأن الجار أقرب الناس إلى جاره، أو بتتبع عثراته والفرح بزلاّته، أو تنفير الناس من الجار إذا أرادوا خِطبة منه أو تعاملاً معه، كل ذلك دون ما مناسبة، وإنما لؤمًا وخسّةَ طبع وقلّة دين.
وثالث الحقوق بين الجيران: الإحسان، فلا يكفي الإنسان في حسن الجوار أن يكفّ أذاه عن جاره، أو أن يدفع عنه بيده أو جاهه يدًا طاغية أو لسانًا مفزعًا، بل يدخل في حسن الجوار أن يحسن إليه في كافة وجوه الإحسان، فذلك دليل الفضل وبرهانُ الإيمان وعنوانُ الصدقِ والعرفان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره))، وفي رواية: ((فليكرم جاره)).
فمن حسن الجوار أن تعزّي جارك عند المصيبة، وتهنئه عند الفرح، وتعودَه عند المرض، وتبدأه بالسلام، وتُطلق له وجهك عند اللقاء، وترشدَه إلى ما ينفعُه في أمر دينه ودنياه، وتواصلَه بما تستطيع من ضروب الإحسان، فقد يكون محتاجًا مُعدمًا، أو قد ركبته الديون، أو لديه مريض، أو في البيت أرامل وأيتام، وأنت لا تعلم عنهم شيئًا، وهم أولى بالإحسان من الأباعد.
ومن الإحسان للجيران تفقّدهم بالطعام، فمع أنه لا يكلف شيئًا إلا أن الغفلة عنه بين الجيران كبيرة، وآثاره في التآلف بينهم عظيمة، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي : ((إذا طبخت مرقًا فأكثر ماءه، ثم انظر إلى أهل بيت جيرانك فأصبهم منها بمعروف)) ، وقال رسول الله : ((ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع)).
ومن صور الإحسان بين الجيران التهادي بينهم، فقلّ أن يسلم الجيران من هفوات وزلاّت، فتأتي الهدية لتزيل وتذيب ما قد يحصل في نفوس من حزازيات وظنون سيئة.
إن الهدية حلوةٌ كالسحر تجتذب القلوبا
تدني البعيد عن الهوى حتى تصيّره قريبًا
وتعيد مضطعن العدا وة بعد بُغضته حبيبًا
تنفي السخيمة عن ذوي الشحـ ـنا وتمتحق الذنوبا
قال رسول الله : ((تهادُوا تحابُّوا)) ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارتين، فإلى أيهما أهدي؟ ـ دلالة على تواصل السلف والنساء بالهدايا ـ قال: ((إلى أقربهما منك بابًا)).
وينبغي أن لا يحقر الجار هديةً جاءته من جاره مهما كانت، فإن ذلك من الكبر المذموم، فإن الهدية لا تقدّر بقيمتها، وإنما تقدر بمعناها، قال النبي : ((يا نساء المؤمنات، لا تحقرنّ جارة لجارتها ولو فِرسن شاة)) أي: العظم قليل اللحم، وهو خفّ البعير. والمقصود به هنا حافر الشاة. ولعلّ النبي خصّ النساء هنا المتجاورات بالتهادي لأنه يكثر منهن الاحتقار للهدية أو للمُهدي، ولأنهن أكثر التصاقًا بالجيران من الرجال، ولأنهن موارد المودة أو البغضاء بالجيران.
عباد الله، ورابع الحقوق بين الجيران: احتمال أذى الجار، فللرجل فضلٌ في أن يكفّ عن جاره الأذى، وله فضل في أن يذودَ عنه ويحميه، وله فضل في أن يواصلَه بالإحسان إليه جهده. وهناك فضل رابع وهو أن يغضي عن هفواته، ويتلقى بالصفحِ كثيرًا من زلاّته وإساءاته، ولا سيما إن صدرت عن غير قصد. فاحتمال أذى الجار وترك مقابلته بالمثل من أرفع الأخلاق وأعلى الشيم، وقد فقه السلف هذا المعنى وعملوا به، روى المروذي عن الحسن: "ليس حسن الجوار كفّ الأذى، حسنُ الجوار الصبر على الأذى".
وكم نرى ونسمع في مخالفات لهذا الحق بين الجيران، فكم من الناس من هو كثيرُ الخصومة والملاحاةِ مع جيرانه، يشاجرُ على كل صغيرة وكبيرة، وربما وصل الأمر إلى الاشتباك بالأيدي، أو تطوّرَ إلى الشُرطِ والمحاكم، وعلى أمور لا تستدعي. وكم من جيران تهاجرُوا وتقاطعُوا عند أسباب تافهة أو ظنون سيئة، أو لخلافات يسيرة، لا تستدعي ما وصلت إليه.
ومما جعل هذه الأخلاق المبغوضة توجد بين بعض الجيران قلّة حرص الجيران على إصلاح ذات بينهم، بل ـ والعياذ بالله ـ قد يوجد من حمّالة الحطب من يغري العداوة ويذكي أوارها بين جيرانه.
فالواجب على الجيران احتمالُ بعضهم بعضًا، فإذا ما حصل نزاع أو خصومة سعى الأخيار في الإصلاح بين المتنازعين، وعلى الجار أن يقبل بالصلح ويفرح به ويشكرَ من سعى له، لا أن يرفض ويستعلي. فالجار أولى بالعفو من غيره، والتغاضي عن زلته، خصوصًا إذا كان ذا فضل وإحسان.
وإذا الحبيبُ أتى بذنب واحدٍ جاءت محاسنُه بألف شفيع
وليس من حق الجار على جاره أن يردّ الأذى بمثله والإساءة بأختها، فالله تعالى يقول: خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي يشكو جاره، فقال: ((اذهب فاصبر)) ، فأتاه مرتين أو ثلاثًا، فقال: ((اذهب فاطرح متاعك في الطريق)) ، فطرح متاعه في الطريق، فجعل الناس يسألونه فيخبرهم خبره، فجعل الناس يلعنونه: فعل الله وفعل، فجاء إليه جاره فقال له: ارجع، لا ترى شيئًا تكرهُه.
فالصبرُ واحتمالُ الأذى والعفوُ والصفحُ هو الأولى بين الجيران كما قال أحدهم:
أقول لجاري إذا أتاني معاتبًا مُدِلاًّ بحقٍّ أو مُدلاًّ بباطلِ
إذا لم يصل خيري وأنت مجاورٌ إليك فما شرّي إليك بواصل
قال رسول الله : ((ثلاثة يحبهم الله)) وذكر منهم: ((والرجل يكون له الجار يؤذيه جارهُ فيصبر على أذاه حتى يفرّق بينهما موتٌ أو ظعن)).
أيها المؤمنون المتحابون المتآلفون، هذه هي حقوق الجار على جاره، فكم فينا من تقصير، وكم في تعاملنا مع جيراننا من خلل ونقص، مع أن حقّه عظيم، ولا غرابة بعد هذه الحقوق أن يظن النبي أن الله سيورثُ الجار الجار.
عباد الله، هنيئًا لمن وفّقه الله لجار صالح، فإن الجار الصالح الذي يرعى هذه الحقوق مكسبٌ وسعادة فـ ((من سعادة المرء المسلم المسكن الواسع والجار الصالح والمركب الهنيء)) هكذا أخبر رسول الله. وللأسف تجد الكثير من الناس لا يبالي باختيار الجار الصالح، خاصة إذا أراد بناءَ منزل جديد أو شراءَه، فتراه يحرص على حسن الموقع وقربه من الخدمات، أما صلاح الجيران من عدمه فلا يهمه ذلك، وهذا خلل كبير، فالجار قبل الدار كما أُثر عن علي رضي الله عنه.
وقد كان السلف الصالح والكرامُ من الناس لا يؤثرون بالجار الصالح مالاً ولا عرضًا من الدنيا، فهذا أبو الجهم العدوي باع داره بمائة ألف درهم، ثم قال: بكم تشترون جوار سعيد بن العاص؟ قالوا: وهل يُشترى جوارٌ قط؟ قال: ردّوا عليّ داري، وخذوا مالكم، لا أدع جوار رجل إن قعدتُ سأل عني، وإن رآني رحّب بي، وإن غبتُ حفظني، وإن شهدت قرّبني، وإن سألتُه قضى حاجتي، وإن لم أسأله بدأني، وإن نابتني نائبة فرَّج عني، فبلغ ذلك سعيد بن العاص فبعث إليه بمائة ألف درهم.
فالجارُ الصالح له منزلةٌ عند العقلاء ومن يقدُرون المكارم قدرها، فهم يحرصون عليه، ولا يفرّطون في مجاورته إن أراد الانتقال عنهم، بخلاف جار السوء ـ أعاذنا الله وإياكم منه ـ فقد تعوذ منه النبي في دعائه فقال: ((اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقام، فإن جار الدنيا يتحوّل)) ، فهو إذًا من البلاء ومما يتعوذ منه، فقد لا يطيقُ الإنسانُ احتمال أذى الجار السيئ وإهانتَه ومذلتَه له أو مضرته له في دينه أو عرضه، فإن الحزم والحكمة يقتضيان أن يرتحل عن داره ما دام هذا وصف جاره.
وفي هذا يُحكى عن رجل أنه كان مجاورًا لجيران سوء، فصبر عليهم وصابر، إلا أنهم يزدادون سوءًا، فباع داره برُخصٍ وانتقل عنهم، فلامه أقاربُه ومعارفُه لومًا شديدًا فقال:
يلومونني إذ بعت بالرخص منزلاً ولم يعرفوا جارًا هناك ينغِّصُ
فقلت لهم: كفّوا الكلام، فإنها بجيرانها تغلو الديار وترخصُ
(1/3386)
أما آن للصائم المدخّن أن يتوب؟!
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
فواز بن خلف الثبيتي
الطائف
8/9/1417
جامع الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أضرار التدخين. 2- دعوة للمدخن. 3- وقفات صحية واقتصادية مع المدخنين. 4- العلاج النافع لترك التدخين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، فإن من اتقى الله كفاه، ومن توكل عليه ولجأ إليه حماه، ومن اعتصم بغيره أذلّه وأخزاه.
أيها الإخوة في الله، أيها الصائمون، أيها المسبّحون، حديثنا اليوم، حديث غير متوقّع لكم، ألفتم الحديث في مثل هذا الشهر عن الصيام وأحكامه، والقرآن وآدابه والقيام والدعاء، ولكن حديثنا اليوم عن داء عُضال، فتّاك مدمّر للأفراد والمجتمعات، إنه حديث عن مرض سيطر على الكبير والصغير، والجاهل والمتعلّم، والعاقل والمجنون، والسفهاء وشيوخ القبائل، إلا من رحم الله.
إنه بلوى لم يسلم منها حتى الفقير، يصيح ويشتكي الفقر، وما أفقره إلا هو، عديمٌ نفعه، بطيء قتلُه، كم فتك من إنسان، وأصاب الكثير بالإدمان. يموت بسببه مليونان ونصف المليون كل سنة في أنحاء العالم، قال عنه جماعة من العلماء المتخصصين في الغرب: "إنه عاملٌ قاتل للبشرية أكثر من المجاعات والحروب والكوارث".
وأنت ـ أخي الصائم ـ في شهر كريم وموسم مبارك، أنت الآن في عبادة لو تعرف أجرها لتمنيت الموت لو قبلها الله منك. إنك الآن ـ أخي ـ في بيت الكريم الوهّاب الذي لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى، وهو رب الأربا، ومسبّب الأسباب وخالق خلقِه من تراب.
أخي الصائم، إنني أخاطب فيك اليوم إيمانك، وأحدّث فيك قلبك الحيّ الذي استجاب لأمر الله بالصلاة والصيام، تركتَ الطعام والشراب ابتغاءَ مرضاة الله. إنني أخاطبك اليوم بالذّات؛ لأنك ذو عزيمة ثابتة وصبر قويّ.
أقف معك اليوم وفي هذا الشهر المبارك الذي أسأل الله أن يوفقنا وإياك فيه لتوبة نصوح. نعم، لقد أجّلت الحديث عن هذا الموضوع منذ زمن طويل، حتى جاءت هذه الأيام الفاضلة، فلأحدثك عن هذا البلاء الذي ابتليت به، إنه الدّخان والتدخين.
نعم أيها الإخوة الكرام، إن لم يكن حديثنا عن التدخين في رمضان فمتى يكون؟! إن لم يكن في شهر الصبر والمصابرة والجهاد والمجاهدة، فقل لي بربك: متى يكون؟! إن لم يكن حديثنا مع إخواننا المدخنين في شهر رمضان الذي يزداد فيه إيمانهم وتقوى عزيمتهم فمتى يكون إذًا؟! فرمضان فرصة عظيمة، إنه مدرسة للتربية على التقوى، إنه فرصة حُرِمها كثير من الناس، إما بموت أو مرض أو ضلال.
نعم أيها الأخ الصائم، نحن في شهر لم يعرف بعض المدخنين أو أغلبهم حرمته، ولم يقدروه قدره. فيا عجبًا لصائم أمسك عن الطعام والشراب وما أحلّ الله طيلة النهار، ثم هو يفطر أوّل ما يفطر على الدخان. ويا عجبًا ثم عجبًا لصائم نوى الصيام والتقرّب للملك العلاّم، وآخر سحوره سيجارة دخان، يختم بها ما أكل وشرب من الطيبات.
أيها الصائم، هل التدخين يرضي الله؟! سؤال لا أظن مدخنًا يجهل جوابه، ولكن وقفة معك يا من ابتليت به.
قل لي بربك واصدق في جوابك: في أيّ حزبٍ تضع الدخان؟ أمع الطيبات أم مع الخبائث؟! لا أشك وأنت عاقل مدرك ورجل رشيد إلاّ أن تقول: إنه من الخبائث.
إذًا أخي، أما علمتَ أو قرأتَ قول الله تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157].
ثم أسألك سؤالاً آخر وأجبني بصدق: هل في التدخين من فائدة؟! لا أريد فوائد، إنما فقط أريد فائدة واحدة، سواءً في دينك أو دنياك أو صحتك أو مالك؟ إن الجواب معروف.
والنبي يقول: ((لا ضرر ولا ضرار))، ويقول: ((من تحسّى سمًا فقتل به نفسه فسمّه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا)) حديث صحيح.
نعم، كلّنا وأنت أوّلنا تعرف أن التدخين سبب لأمراض السرطان بجميع أنواعه، وأمراض القلب والرئة، ومضعفٌ للقوى، ومهلك للخلايا، ومدمّر للشرايين.
وأسألك سؤالاً ثالثًا عن مالِك: المال الذي تملك مال من؟ من الذي أنعم به عليك؟ أليس الله؟! أليس هو القادر على أخذه من بين يديك؟! إذًا فلم تستعمله فيما يسخطه ويغضبه؟! ووالله ـ وأنت تعلم ـ إنه لن تزول قدماك يوم القيامة حتى تسأل عن مالك: من أين اكتسبته؟ وفيمَ أنفقته؟ فبماذا تجيب ربك إذا سألك وسيسألك؟ أتقول: يا رب، أنفقت مالي في هذا الخبيث؟! ما أخجله من جواب وما أسوأه من ردّ.
ثم لأقف معك وقفة اقتصادية، فكم تشرب في اليوم؟ علبة واحدة، ولنفرض أن قيمتها ثلاثة ريالات إذا كانت من الأنواع الرديئة. أتدري ـ يا أخي ـ كم تنفق في السنة على هذا الوضع؟ أكثر من ألف ريال، والبعض ضعف هذا المبلغ. إنك لا تدري أنك تنفق في عشرين سنة ما يقارب الثلاثة والأربعون ألف ريال، كلها في الدخان. أليس هذا المبلغ مهرًا لزوجة، أو قيمةَ شراءٍ لسيارة وبدون أقساط؟! هذا المال ألستَ أنت أولى به وأبناؤك وأهلك؟! هذا منك أنت فقط، فكيف بالآخر والثالث؟! كم مدخن في مجتمعنا؟ لنفرض على أقلّ تقدير أنهم لا يتجاوزون الثلاثة ملايين، مع أنهم أكثر بكثير، فكم في اليوم يكلفهم الدخان، إنه يكلفهم يوميًا تسعة ملايين ريال، وفي الشهر مائتان وسبعون مليون ريال، وفي العام الواحد فقط ينفقون ثلاثة آلاف ومائتان وأربعون مليون ريال، ميزانيات دول. كلّ هذا المبلغ الهائل في عام واحد فقط، أين يصبّ؟! إنه يصب في خزائن أعدائنا ونحن نشعر أو لا نشعر. إننا ـ يا مسلمون يا صائمون ـ نمكّن لليهود والنصارى في أرض المسلمين.
بل ويساهم المسلمون الراكعون المصلّون الصائمون أصحاب البقالات والتموينات في بيع هذا الخبيث، ويدعمون اقتصاد الأعداء، ويدمّرون اقتصاد وقوة المسلمين، أتعلمون أن شركات التبغ الكبرى يمتلك معظمَها اليهود، ويصنّعون يوميًا عشرة آلاف مليون سيجارة، أي: بمعدل سيجارة لكل فرد على ظهر البسيطة يوميًا. إنهم ينفقون أموالهم، بل وقد يخسرون، ولكنهم يعوّضون تلك الخسائر بزيادات كبيرة في المبيعات على ما يسمى بدول العالم الثالث، والذي نشكّل فيه نحن المسلمين أغلب سكّانه.
إن من يتعاون مع هذه الشركات اليهودية الصهيونية لهو من دعاة الفساد والضلال، إن من يبيع هذه المواد السامة من دخان وجراك وشيش ومعسّل ونحوها إنما يروّج لما يقتل المسلمين ويقضي عليهم، وهو عدوّ لكل مسلم؛ إذ كيف يرضى مسلم مؤمن أن يبيع لأخيه ما يضره ولا ينفعه؟! كيف يروّجها ويأكل ثمنها؟! ثمنها حرام وسحت، ((وأيما جسد نبت على سحت فالنار أولى به)).
إنها مسؤولية عظيمة كلنا عنها مسؤولون، ولذا أفتى علماؤنا الأجلاء بحرمة بيع الدخان أو شرائه أو إيجار محلات بيعه، ويا عجبًا لمحلات لا يباع فيها إلا الدخان، تجمع الخبث والنتن، وانتشرت محلات بيع الجراك والشيش ونحوها وأحيانًا بأسماء نساء. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل من مسلمين لا يعيش الواحد منهم لدينه وأمته، بل همّه جمع المال من أي طريق حلالٍ أو حرام.
أخي الكريم، أيها الأخ المبارك، ما هو وضع جسدك؟ لماذا اسودّ وجهك وشفتاك؟ بل لماذا احمرّت عيناك واصفرّت أسنانك؟
أخي، لماذا رائحتك دائمًا كريهة؟ ولماذا ثوبك دائمًا مخرّق؟ بل وأبناؤك يتضايقون منك. لا، بل وزوجك تكره قربك. لماذا يتضايق المصلّون من الصلاة بجانبك؟ أما سألت نفسك هذه الأسئلة؟! كلّ ذلك بسبب هذا الدخان. و((الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)) ، قاله عليه الصلاة والسلام لمن أكل ثومًا أو بصلاً، وهما مما أحلّ الله.
يا شارب التنباك ما أجراكا من ذا الذي في شربه أفتاكا
أتظن أن شرابه مستعذب أم هل تظن بأن فيه غذاكا
هل فيه نفع ظاهر لك يا فتى كلا فما فيه سوى أذاكا
ومضرة تبدو وقبح روائح مكروهة تؤذي به جلساكا
وفتور جسم وارتخاء مفاصل مع ضيق أنفاس وضعف قواكا
أو حرق مال لم تجد عوضًا له إلا دخانًا قد حشا أحشاكا
آثرته وتركت جهلاً غيره تبّا لمن قد آثر التنباكا
ورضيت فيه بأن تكون مبذرًا وأخو المبذر لم يكن يخفاكا
يكفيك ذمًّا فيه أن جميع من قد كان يشربه يودّ فكاكا
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين وحجة على الخلق أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أخي الصائم، يا من ابتليت بهذا البلاء، إني أعلم أنك لست راضيًا عن التدخين، بل تتمنى دائمًا أن يخلصك الله منه، وكم سمعتك تقول: والله إن الدخان خبيث وإثم وحرام، وإني أعلم أنه يضرّ ولا ينفع، وكم حاولت أن أتركه ولكني أرجع إليه.
فيا صاحب العزيمة والإرادة، أنت مؤمن، رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبينا ورسولاً. أنت من أحفاد أبي بكر وعمر وخالد ومصعب والقعقاع وحمزة. أنت في شهر الفتوحات والانتصارات. نعم، انتصر أجدادي وأجدادك في رمضان على أعدائهم، وكانت أغلب الفتوحات الشهيرة في رمضان، ألا تنتصر أنت على شيطانك ونفسك وهواك؟!
لا تقل: لا أستطيع تعوّدتُ عليه، فهل الخمر أعظم أم الدخان؟! هل من تعوّدها وأدمنها كمن تعوّد على الدخان وأدمن أم أشدّ؟ فلِمَ إذًا لمّا سمع الصحابة مناديَ رسول الله ينادي: (ألا إن الخمر قد حرّمت) قالوا: انتهينا، انتهينا. فمن كانت في منزله أخرجها وسكبها، ومن كانت في يده رماها وكسرها، ومن كانت في فمه مجّها، أليسوا بشرًا كالبشر أم إنهم ملائكة؟!
أخي، اعلم أنت إذا نويت وصدقت في النية فإن الله آخذٌ بعزيمتك، ((ومن ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه)).
ثم لا تنس الدعاء، فإنه السلاح الذي لا غنى عنه، والسهم الذي لا يخطئ، والعلاج الذي لا يندم صاحبه، فأكثر من دعاء الله، وخاصة في هذه الليالي المباركة أن يخلّصك منه، ارفع يديك بإخلاص وصدق في وقت السحر: يا ربّ، يا ربّ، عصيت أمرك، وارتكبت نهيك، أهلكت نفسي، وأضعت مالي، ودعمت أعدائي، فتب علي توبة من عندك، تمحو بها ذنبي، وتغفر بها خطئي، وتقوّم بها حالي، يا أرحم الراحمين. ووالله، لو علم الله منك صدق الدعاء والعمل واللجأ لا يردّك خائبًا.
ثم أخي، اعلم أن من أعظم أسباب العلاج كذلك ترك أماكن التدخين وكلّ ما يذكرك به، من أصحاب أو أكل معين أو شراب أو وقت أو مكان، فإن أردت لنفسك النجاة فاهجر المدخنين؛ لأنك كيف تريد ترك الدخان وأنت تجالس أهله وشاربيه؟! بل كيف تريد تركه وأنت لا يحلو لك الجلوس إلا في استراحات الشيش والدخان؟! اصدق في التوبة إلى الله تكن من الفائزين.
أما علمت قصة الذي قتل مائة نفس، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُلّ على عالم، فقال: هل لي من توبة؟! قال له العالم: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة؟! ولكن، واستمع لما بعد لكن: اخرج من الأرض التي أنت فيها فإنها قرية سوء، واذهب إلى الأرض الفلانية فإن فيها قومًا صالحين يعبدون الله، فاعبد الله معهم. فلما خرج الرجل وعلم الله صدق توبته وهجر قرية السوء وأخذ متاعه على ظهره أتاه الموت في الطريق، فاختصمت فيه ملائكة العذاب وملائكة الرحمة، كلٌّ يقول: هو من نصيبي، حتى بعث الله لهم ملكًا أن قيسوا ما بين القريتين، فإلى أيّهما أقرب فهو لها. فقاسوا فوجوده أقرب إلى القرية الصالحة بشبر، فأخذته ملائكة الرحمة.
نعم أيها الأخ الصائم، إنه شرط لكل تائب أن يترك مجتمع العاصين إلى مجتمع الطائعين إن أراد أن يكون من المفلحين. ثم انشغل عنه بالسواك الذي هو مرضاة للرب ومطهرة للفم، وإن احتجت إلى زيارة عيادات مكافحة التدخين فلا تتردّد.
عباد الله، أيها الصائمون، أنتم في شهر كريم ويوم فضيل، فنسأل الله تعالى الحيّ القيوم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعافي كلّ من ابتلى بالتدخين، اللهم عافه منه، وخلّصه من إثمه، اللهم طهّر قلبه ولسانه ونقِّ جوارحه وأركانه، اللهم ارزقه تقواك، وكن عونًا له ونصيرًا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ارزقه صدق العزيمة، ولا تجعله يخرج من بيتك الطاهر إلا بنية أكيدة على تركه وهجره، يا حيّ يا قيوم.
(1/3387)
صنائع المعروف
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال, قضايا المجتمع
فواز بن خلف الثبيتي
الطائف
5/4/1421
جامع الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مصائب الدنيا. 2- حق المسلم على أخيه المسلم. 3- فضل تفريج الكرب وقضاء الحوائج. 4- علاج الكرب والهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل.
أيها الإخوة في الله، إن أعباءَ الدنيا جسام، والمتاعبَ تنزل بالناس من اليتامى والأرامل والغرباء والضعفاء والمعسرين. والإنسانُ بمفرده أضعف من أن يصمد طويلاً تجاه هذه الشدائد، ولئن صمد فإنه يبذل من الجهد ويقاسي من المعاناة ما كان في غنًى عنه لو أن إخوانه التفتوا إليه وهرعوا لنجدته وأعانوه في مشكلته، فالمرء قليل ضعيف بنفسه كثيرٌ قوي بإخوانه.
ومن حق المسلم على أخيه المسلم أن يتألم لألمه، ويحزن لحزنه، ويعينه على دفع كربته، أما موت العاطفة وقلّة الاكتراث وكأن الأمر لا يعنيه فهو تنكّر لهذه الأخوة، فضلاً عن أنه جفاء في الخلق وجمود في الطبع.
والتألم الحق هو الذي يدفعك إلى كشف ضوائق إخوانك، فلا تهدأ حتى تزول الغمة وتنكشف الظلمة، ((المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)).
عباد الله، إن من رحمة الله حين خلق المعروف أن خلق له أهلاً فحببه إليهم وحبب إليهم إسداءه، ووجههم إليه كما وجّه الماء إلى الأرض الميتة فتحيا به ويحيا به أهلها، وإن الله إذا أراد بعبده خيرًا جعل قضاء حوائج الناس على يديه، ومن كثرت نعم الله عليه كثر تعلّق الناس به، فإن قام بما يجب عليه لله فيها فقد شكرها وحافظ عليها، وإن قصّر وملّ وتبرّم فقد عرّضها للزوال، ثم انصرفت وجوه الناس عنه.
ورد في الحديث: ((إن لله أقوامًا اختصهم بالنعم لمنافع عباده، يقرّها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحوّلها إلى غيرهم)) أخرجه الطبراني وابن أبي الدنيا. وعن ابن عباس مرفوعًا: ((ما من عبد أنعم الله عليه نعمة وأسبغها عليه ثم جعل حوائج الناس إليه فتبرّم فقد عرّض تلك النعم للزوال)) رواه الطبراني بسند جيد.
وفي الصحيح عن النبي قال: ((من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)). وفي صحيح مسلم: ((من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه، ومن أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)).
فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا، وأحب الخَلق إلى الله أنفعهم لعباده، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء، والجزاء من جنس العمل، فكما تعامل الخلقَ في الدنيا يعاملك الخالق سبحانه في الآخرة، فاختر لنفسك.
ولما سئل نبينا عن أحب الناس إلى الله وأحبِّ الأعمال إلى الله، قال عليه الصلاة والسلام: ((أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس، وأحبُّ الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخلُه على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخٍ في حاجة أحبّ إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهرًا ـ أي: المسجد النبوي الذي الصلاة فيه بألف صلاة ـ ، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظمَ غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزولُ الأقدام)) وصدق رسول الله.
وخيرُ عبادِ الله أنفعهم لهم رواه من الأصحاب كلُّ فقيه
وإن إله العرش جلّ جلالُه يُعينُ الفتى ما دامَ عون أخيه
فهنيئًا لمن يسارعُ في صنائع المعروف وقضاءِ حوائجِ الناس، وهنيئًا للموظف الذي يسعى لذلك ولو لم يكن من صميم عمله، وهنيئًا لمن توسّط في قبول طالبٍ أو مساعدة محتاج أو تنفيس كربة مكروب مهموم، هنيئًا لمن شفع شفاعة حسنة له أجرها وبرّها في الدنيا والآخرة، قال حبيبنا : ((صنائعُ المعروف تقي مصارع السوء))، وقال: ((وكلُّ معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة)).
والغبطة ـ أيها الأحبة ـ فيمن يسّر الله له خدمةَ الناس وأعانه على السعي في مصالحهم، فعن عبد الله بن مسعود قال قال النبي : ((لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)).
إن دروب الخير ـ أيها المسلمون ـ كثيرةٌ وحوائجُ الناس متنوعة: إطعامُ جائع وكِسوةُ عاري وعيادةُ مريض وتعليمُ جاهل وإنظارُ معسر وإعانةُ عاجز وإسعافُ منقطع، تطردُ عن أخيك همًا وتزيلُ عنه غمًا، تكفُل يتيمًا وتواسي أرملة، تُكرمُ عزيزَ قوم ذلّ وتشكرُ على الإحسان وتغفرُ الإساءة، تسعى في شفاعة حسنة تفكّ بها أسيرًا وتحقن به دمًا وتجُرُّ بها معروفًا وإحسانًا، وشهادةُ حق تردُّ وتحفظُ بها حقًا لمظلوم. كلُّ ذلك تكافلٌ في المنافع وتضامنٌ في التخفيف من المتاعب، تنفيسٌ للكروب ودفعٌ للخطوب، وتصبيرٌ في المضائق وتأمينٌ عند المخاوف، وإصلاحٌ بين المتخاصمين، وهدايةٌ لابن السبيل، فإن كنتَ لا تملكُ هذا ولا هذا فادفع بكلمة طيبة وإلا فكفَّ أذاك عن الناس، فإنه صدقةٌ منك على نفسك.
أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرُكَ بالمعروف ونهيُكَ عن المنكر صدقة، وإرشادُكَ الرجلَ في أرضِ الضلال لكَ صدقة، وإماطتُكَ الحجرَ والشوكَ والعظمَ عن الطريق لك صدقة، وإفراغُكَ من دلوك في دلو أخيك صدقة)).
نعم أيها الإخوة، كلُّ معروف صدقة، وأهلُ المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، والصدقةُ تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيدُ في العمر، والمال إن لم تصنع به معروفًا أو تقضِ به حاجة أو تدّخر لك به أجرًا فما هو إلا لوارثٍ أو لحادث، وصنائعُ البر والإحسان تستعبدُ بها القلوب.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبَهم فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
والشحيحُ البخيلُ كالحُ الوجه، يعيشُ في الدنيا عيشةَ الفقراء، ويحاسَبُ يوم القيامة حسابَ الأغنياء، فلا تكن ـ أيها الموسِرُ القادرُ ـ خازنًا لغيرك.
أيها الإخوة الأحباب، إن صفوَ العيش لا يدومُ، وإن متاعب الحياة وأرزاءَها ليست حِكرًا على قوم دون قوم، وإن حسابَ الآخرة لعسير، وخُذلانُ المسلم شيءٌ عظيم.
المسلمون اليوم هانوا أفرادًا وهانوا أُممًا، حين ضعفت فيهم أواصِرُ الأخوة، ووهتْ فيهم حبالُ المودة، استحكمتْ فيهم الأنانيات، وساد حب الذات، فوقعت الآفات، ومحقت البركات، ((وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)).
بل إن بعض غِلاظِ الأكباد وقُساةِ القلوب ينظرون إلى الضعيف والمحتاج وكأنه قذى في العين، يُزلقونه بأبصارهم في نظرات كلُّها اشمئزازٌ واحتقار. ألا يعتبر هؤلاء بأقوام دار عليهم الزمان وعدتْ عليهم العوادي واجتاحتهم صروفُ الليالي فاستدارَ عزُهم ذلاً، وغِناهُم فقرًا، ونعيمُهم جحيمًا؟!
فاتقوا الله رحمكم الله، وأصلحوا ذات بينكم، ولتكنِ النفوسُ سخيةً والأيدي بالخير ندية، واستمسكوا بعرى السماحة، وسارعوا إلى سداد عَوَز المُعْوزين، ومن بذَلَ اليوم قليلاً جناه غدًا كثيرًا. تجارةٌ مع الله رابحة، وقرضٌ لله حسن مردودٌ إليه أضعافًا مضاعفة، إنفاقٌ بالليل والنهار والسر والعلن، لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي رسوله الكريم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، له الملك وله الحمد، هو المتفضل وصاحب الفضل، هو الكريم وصاحب الكرم، خلق عباده وفضّل بعضهم على بعض، وجعل بعضهم فوق بعض درجات، يعزّ ويذل، يغني ويفقر، يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، الذي وصفته زوجه خديجة رضي الله عنها لمّا بُعث: (كلا والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق) فكان المصطفى يفرج كرب المعدم ومن أصابته النوائب، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فالمعروف أيمن زرع وأفضل كنز، ولا يتم المعروف إلا بثلاث: تعجيله وتصغيره وستره، فمن وفق لبذل المعروف والإحسان إلى الناس فليكن ذلك بنية صالحة ووجه طلق ومظهر بشوش، وليحرص على كتمان معروفه وإحسانه مراعاة للإخلاص وحفظًا لكرامة أخيه المسلم.
أيها الإخوة في الله، ويبلغ الأدب غايته حين يعلم باذل المعروف أن ما يقدمه من المعروف هو حق لمن قدمه لهم، ساقه الله على يديه، فلا ينتظر منهم جزاءً ولا شكورًا، بخلاف من يتبع معروفه بالمنّ والأذى، فإنه يمحق أجره ويُبطل ثوابه، ويُعرّض ما أنعم الله به عليه للزوال. فالمال والجاه والمنصب وغيرها كلّها من الله، هو واهبها، وهو القادر أن يسلبها من العبد في لحظة.
فيا من جعل الله حوائج الناس إليه، ابذل المعروف لهم، صدقة وإحسانًا، مساعدة وشفاعة، فقد كان السلف رحمهم الله يفرحون بقضاء حوائج الناس أيما فرح، يقول حكيم بن حزام: "ما أصبحت وليس ببابي صاحب حاجة إلا علمت أنها من المصائب".
وأنت أخي المحتاج، يا صاحب الحاجة، ويا أيها المكروب، لا يكن اعتمادك فقط على من هم مثلك من البشر، فربُّ من تستشفع بهم هو القادر، وإلهُ من تسألُهم هو الناصر، والبشر لا يملك أحدهم لنفسه فضلاً عن غيره نفعًا ولا ضرًا، إلا أن يشاء الله. فلا تكن عن الله غافلاً أو معرضًا، ولا تكن على غيره معتمدًا أو متوكلاً، فربّما وكلك الله إلى نفسك أو إلى من سألتهم قضاء حاجتك فتخسر الدين والدنيا.
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت)) حديث صحيح، وعن علي رضي الله عنه قال: علّمني رسول الله إذا نزل بي كرب أن أقول: ((لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله وتبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين)) رواه أحمد وهو صحيح. وكان نبينا صلوات الله وسلامه عليه إذا كربه أمر يقول: ((يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث)).
فالله هو فارج الهمّ وكاشف الكرب وميسّر العسير ومسهّل الأمور، والناس ـ إلا من رحم الله ـ عن دعاء ربهم غافلون، وعن سؤاله والإلحاح عليه معرضون، وبغيره من البشر متعلّقون، وعليهم معتمدون، وهذا نقص في التوحيد وكماله، وخلل في التوكل وصدقه، قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26].
أيها الإخوة المؤمنون، ليس للمعروف حدّ، بل لا يقتصر بذل المعروف على بني آدم، فحتى البهائم والحيوان في بذل المعروف لها أجر، فالرحمة في ديننا شملت البهائم حتى القطط والكلاب، قال رسول الله : ((دخلت امرأة النار في هرّة؛ حبستها لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)) ، وفي صحيح مسلم: ((إن امرأة بغيًا رأت كلبًا في يوم حار يطيف في بئر قد أدلَعَ لسانه من العطش، فنزعت له موقها ـ أي: خفها ـ فسقته فغُفر لها)).
فيا عباد الله، إن كانت الرحمة وبذل المعروف لكلب من امرأةٍ بغي أوجب لها ما أوجب، ألا تكون الرحمة وبذل المعروف والإحسان للمسلمين أعظم وأنفع؟! فالمعروف وصنائع المعروف تثمر حتى مع البهائم العجماوات.
يذكر الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عند حديثه عن الإمام القدوة العالم الجليل شيخ الإسلام في زمانه سفيان الثوري رحمه الله قال: يقول أبو منصور: بات سفيان الثوري في هذا البيت، وكان هنا بُلبل لابني، فقال سفيان: ما بال هذا محبوسًا؟! لو خُلّي عنه، قال: فقلت: هو لابني وهو يهبه لك، قال سفيان: لا، ولكن أعطيه دينارًا، قال: فأعطاه دينارًا وأخذ البلبل وخلّى عنه. يقول أبو منصور: فكان البلبل يذهب يرعى فيجيء بالعشي ـ آخر النهار ـ فيكون في ناحية البيت، فلمّا مات سفيان الثوري تبع البلبل معنا جنازته ـ سبحان الله العظيم ـ فكان البلبل يضطرب على قبره، ثم اختلف بعد ليالٍ إلى قبره، فكان ربما بات عند القبر، وربما رجع إلى البيت، ثم وجدوه ميتًا عند قبر سفيان الثوري رحمه الله، فدفن عنده.
هكذا يصنع المعروف مع الطير والبهائم فكيف مع بني الإنسان؟! كيف مع إخواننا المسلمين؟! إنه لأعظم أجرًا ومثوبة ونفعًا في الدنيا والآخرة.
(1/3388)
عظمة الله
الإيمان
الله عز وجل
فواز بن خلف الثبيتي
الطائف
4/5/1421
جامع الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله عز وجل يحب أن يمدح. 2- وما بكم من نعمة فمن الله. 3- مظاهر عظمة الله. 4- تعظيم الله في القلوب داع إلى مراقبته والخوف منه. 5- من مظاهر ضعف مراقبة الله تعالى. 6- آثار ضعف مراقبة الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: أيّها الإخوة، فيقول عزّ من قائل عن نفسه: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91] أي: ما عظّمه حقَّ تعظيمه من عَبَدَ غيره، أو توكّل على سواه، أو أحبّ أحدًا فوق حبّه.
روى البخاري رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله فقال: يا محمد، إنا نجد أنّ الله عز وجل يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله : وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]. فهذا الكون بما فيه من ضخامة واتساع إنما هو على أصابع القويّ القهّار يومَ القيامة.
فسبحان من أتته السماء والأرض طائعة، وتطامنت الجبال لعظمته خاشعة، ووكفت العيون عند ذكره دامعة، عبادته شرف، والذلّ له عزّة، والافتقار إليه غنى، والتمسْكن له قوة.
سبحان من أحاط علمه بالكائنات، واطّلع على النيات، عالمٌ بنهايات الأمور، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، علم ما في الضمير، ولا يغيب عنه الفتيل والقطمير، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]. يبدئ ويعيد، وينشئ ويبيد، وهو فعّال لما يريد، لم يخلق الخلق سُدى، ولم يتخذ من المضلين عضدًا.
دخل موسى وهارون على رأس الكفر والطغيان فهابا وخافا، فناداهما ربهما: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]. لما التجأ رسول الله ومعه الصديق إلى الغار وأحاط بهما الكفار قال أبو بكر: يا رسول الله، كيف لو رأونا ها هنا؟! قال: ((لا تحزن، إن الله معنا)).
شكت خولة بنت ثعلبة للرسول أمرها، وأخبرته سرّها، وعائشة في طرف البيت لم تسمع همسًا، ولم تعلم حِسًا، فأنزل الله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1].
اجتمعت عائشة وحفصة وتفاوضتا في شأن الرسول وأخبرت إحداهما الأخرى بسره، وكشفت شيئًا من أمره، فأنزل علاّم الغيوب: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ [التحريم:3].
وصدق الله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، وقال سبحانه: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس:60].
فسبحان من علم ما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وسع علمه كل شيء، وأحاط بكل شيء، فالورقة تسقط بعلمه، والهمسة تنبس بعلمه، والكلمة تقال بعلمه، والنية تعقد بعلمه، والقطرة لا تنزل إلا بعلمه، والخطوة بعلمه، علم الحيَّ والميت، والرطب واليابس، والحاضر والغائب، والسر والجهر، والبادي والخافي، والكثير والقليل.
النجوى عنده جهر، والسرّ عنده علانية، سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [الرعد:10].
تتكتّم الضمائر على مستودعات الأفكار، فلا يعلمها ملك مقرّب ولا نبي مرسل ولا عالم جهبذ ولا شيطان مارد، ويعلمها علاّم الغيوب. تتستّر الصدور بخواطر وواردات ومقاصد ونيات، لا ينفذ إليها سمع، ولا يصل إليها بصر، ويطّلع عليها الحكيم العليم.
يُلفّ الجنين بغشاء إثر غشاء في رحم أمه في ظلمات ثلاث، فلا يُدرى أحيّ أم ميت، أذكر أم أنثى، أشقي أم سعيد، ولا يدرى ما أجله ولا رزقه ولا عمره، ويعلم ذلك الذي أحاط بكل شيء علمًا.
فسبحان من لا تقع قطرة ولا تسقط ورقة ولا تُقال كلمة ولا تطلق نظرة ولا يخطّ حرف ولا تُمشى خطوة ولا تُسكب دمعةولا تُهمس همسة إلا بعلمه، وهو العليم الخبير.
يعلم السرائر، ويطلع على الضمائر، ويحيط بالأمور، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا غالب لحكمه، ولا راد لقضائه، كلَّ يوم هو في شأن. عنده علم الليالي والأيام، والزمان والمكان، والإنس والجان، والنبات والحيوان، لا إله إلا هو اللطيف الخبير. إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54].
روى البيهقي بسند حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وغِلَظُ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وما بين الكرسي والماء خمسمائة عام، والكرسي فوق الماء، والله سبحانه فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم). مستوٍ على عرشه، ويسمع ويرى كلّ شيء في ملكوته، ولا يخفى عليه شيء من أحوال خلقه، لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:103].
عباد الله، إن تعظيم الله في القلوب داعٍ إلى مراقبته والخوف منه والعمل بمرضاته. تعظيم الله في القلوب طريق للتقوى، ((اتق الله حيثما كنت)) من ليل أو نهار، في بر أو جوّ أو في أقصى البحار، يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لقمان:16]. فمن كان لله معظمًا كان له أخوف ومنه أقرب وعن معاصيه أبعد، ومن كان للمعاصي مرتكبًا وعن الطاعات والواجبات متوانيًا متكاسلاً كان لتعظيم ربّه ومراقبة مولاه مقصّرًا ومفرّطًا.
أيها الإخوة في الله، ما جاهر مجاهر بمعصية إلا لما ضعفت مراقبته لله وقلّ تعظيمه له. ما ترك الصلاة تارك ولا تخلّف عنها جماعة في المساجد متخلّف إلا لما ضعفت مراقبة الله في قلبه وقلّ تعظيمه لله وخوفه منه، ولو راقب العبد ربه لما تخلّف عن الصلاة، ولما نام عنها وتركها.
الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه، فرضها الله على الذكر والأنثى، الحر والعبد، المقيم والمسافر، الصحيح والمريض، الآمن والخائف، ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)). الصلاة التي فرضت من فوق سبع سماوات، الصلاة التي إذا صلحت صلح سائر عمل العبد، وإذا فسدت فسد سائر أعمال العبد، وهي أول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة، الصلاة التي من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة من عذاب الله تعالى، فالله مطّلع عليك يا عبد الله، مراقبٌ لأفعالك، عالمٌ بحركاتك وسكناتك، مشاهد لصلاتك وعبادتك أو تفريطك وغفلتك، الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء:218، 219].
قال العلماء: تارك الصلاة كافر، يعامل معاملة الكفار، لا يسلَّم عليه، ولا تؤكَل ذبيحته، ولا يزوَّج، ولا يجالس، ولا يؤاكل، ولا يُساكن، وإن مات لم يغسل ولم يصلَّ عليه، لماذا؟ لأنه قطع الصلة فيما بينه وبين الله بتركه الصلاة، فكان من الحق أن يقطع المسلمون الصلة معه وبه؛ لأنه متكبرٌ على الله، يأبى السجود لله.
أيها المسلمون، لما ضعفت مراقبة الله في قلوب كثير من الأخوات المسلمات، خرجن متبرجات سافرات متبذّلات مستهترات بالعرض والشرف، ولو استشعرن نظر الله إليهن ـ وهو الذي أمرهن بالستر والحجاب والبعد عن الرجال ـ لكُنّ كأمهات المؤمنين، الواحدة فيهن محجبة ولو كانت لوحدها في الصحراء، عفيفة طاهرة لأنها تعبد الله بالحجاب، فهو الذي أمرها به، وهو الذي يحاسبها عليه، ولكن ـ وللأسف ـ قد تستحي المرأة اليوم من الناس أعظمَ من حيائها من الله، أو قد تخاف زوجَها أو أباها وتراقبه أعظم من خوفها ومراقبتها لله؛ لأنها ما قدرت علاّم الغيوب حقّ قدره، وما عظّمته حق تعظيمه.
فمراقبة الله وتعظيمه صمّام أمان في نفوس الناس، وازع خيرٍ ومانع شرٍ إذا غُرس في قلب العبد. وما قلّت وضعفت مراقبة الله في قلوب الناس إلا وانتشرت فيهم المعاصي والمنكرات، وجاهروا بالخطايا والمخالفات، واعتدوا على الحقوق والواجبات، فما غشّ غاشٌّ أخاه المسلم إلا لما ضعفت مراقبة الله، ولا اعتدى معتد على حقّ غيره من مالٍ أو أرض إلا لما ضعفت مراقبة الله واستشعار نظره وعظمته، ما تبرجت من تبرجت ولا سفرت عن وجهها من تبرجت ولا تبذّلت من تبذّلت إلا لما غفلت عن مراقبة علاّم الغيوب ولم تقدره حقَّ قدره. وما توارى متوارٍ ولا غمز غامز ولا عاكس معاكسٌ ولا خان خائن ولا زنى زانٍ ولا سرق سارق ولا وشى واشٍ إلا لما ضعفت مراقبة الله في القلوب وقلّ تعظيمه فيها. وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67].
معاشر المسلمين، اعلموا أن مراقبة الله في السرّ والعلن وتعظيمه واستشعارَ كبريائه وجلاله يريحُ البال ويُطمئنُ الفؤاد ويُصلحُ الحال وينجي يوم المآل، ومن خشي الناس أعظم من خشية الله أو راقب الناس ولم يراقب الله ندم يوم لا ينفع الندم، وخسر يوم لا يجدي التحسّر، ففي الحديث عن النبي : ((يأتي أناس يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، يجعلها الله هباءً منثورًا)) ، فقال أبو أمامة: من هم يا رسول الله؟ صفهم لنا، جلّهم لنا، علَّنَا أن نكون منهم ونحن لا ندري، فقال عليه الصلاة والسلام: ((إنهم قوم مثلكم، يصلّون كما تصلون، ويصومون كما تصومون، ويأخذون حظّهم من الليل، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)) ، رحماك ربي، رحماك ربي. لم يراقبوا الله، ولم يقدروه حق قدره، ولم يجعلوا أعمالهم له جل وعلا، نعوذ بالله أن نكون منهم، نعوذ بالله أن نكون منهم. يقول أحد السلف: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت". لا تقلْ: هذه نظرة، هذه كلمة، هذه أغنية، هذه صغيرة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت. وقال آخر: "لا تجعل الله أهون الناظرين إليك".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [فصلت:19].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3389)
منكرات الأفراح
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
فواز بن خلف الثبيتي
الطائف
12/4/1421
جامع الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مشروعية الزواج وفضائله. 2- عقبة تكاليف الزواج. 3- البركة حاصلة في قلة تكاليف النكاح. 4- معالجة ظواهر منكرات الأفراح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الإخوة في الله، إننا في زمن عصفت فيه الفتن، وماجت فيه المنكرات، واندفق علينا سيل جارف من الشهوات والملهيات والمغريات، من مجلات وأفلام وقنوات وأغنيات ومنكرات، فجّرت في النفوس براكين الشهوات، وكانت ـ وللأسف ـ سببًا في سقوط بعض الشباب والفتيات في حمأة الرذيلة والفاحشة.
ولا سبيل لنيل الفضيلة وحفظ العرض إلا بما شرع الله وأباح من الزواج، الذي لا يشك مسلم أنه من الواجبات وخاصة في هذا الزمان، وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله: ما تقول في التزويج هذا الزمان؟ أي: في زمانه هو، زمان الإمام أحمد العفيف الطاهر، فقال رحمه الله: مثل هذا الزمان ينبغي للرجل أن يتزوج، ليت أنه إذا تزوج اليوم ثنتين يسلم، ثم قال: ما يأمن أحدكم أن ينظر النظرة فيحبطَ عمله؟! إذا كان هذا زمن الإمام أحمد فماذا نقول نحن في زماننا هذا؟!
أيها الإخوة الكرام، الزواج سنة الأنبياء والمرسلين، وهو سبيل المؤمنين، ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج)).
الزواج تلبية لما في الرجل والمرأة من غريزة النكاح بطريق نظيف مثمر، ولذا نهى الله عن عضل البنات ومنع تزويجهن فقال: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [البقرة:232]، ولذا عظّم الله شأن الزواج وسمّى عقده مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21].
في الزواج حفظ العرض وصيانة الفرج وتحصيل الإحصان والتحلّي بفضيلة العفاف عن الفواحش والآثام. في الزواج حفظ النسل وتكثير الأمة المسلمة. في الزواج تحقيق السكن والاطمئنان والراحة من كدر الحياة وشقائها وعناء الكدّ والكسب. والزواج من أسباب الغنى ودفع الفقر والفاقة، إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]. والزواج يرفع كل واحد من الزوجين عن عيشة البطالة والفتنة إلى معاش الجد والعفة بطريقها المشروع. وبالزواج يستكمل كل من الزوجين خصائصه، فيستكمل الرجل رجولته، ويتحمل مسؤوليته، وتستكمل المرأة أنوثتها وتشعر بمسؤوليتها تجاه بيتها وزوجها وأبنائها ومجتمعها.
معاشر المسلمين، هذا الزواج، وهذه فضائله، فهو نعمة من نعم الله العظيمة، وآية من آياته الكريمة، ولكن ـ وللأسف ـ نرى هذه النعمة قد أحيطت هذه الأيام بأمور تحوّلها إلى بلاء ونقمة، قد أحيطت بمنكرات تُمحق بركتها وتُذهب لذّتها، وتحدّ من انتشارها وأثرها.
ومن أعظم الجهل أن نقلب السعادة بأيدينا نحن إلى شقاء، والسرور إلى تعاسة، من أجل عادات ممقوتة أو تقاليد بالية أو شُهرةٍ زائفة أو مفاخرة مذمومة. والنتيجة تطاول العمر بكثير من الشباب عاجزين عن توفير تكاليف الزواج، وانتشار العنوسة وتأخر زواج الفتيات، فلا غرابة عندها أن يحلّ الشر والفتنةُ والفسادُ العريض، لقول رسول الله : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)).
لقد أصبح الزواج الذي كان في السابق وإلى عهد قريب من أيسر الأمور، أصبح من أشق الأمور وأعسرها؛ لأننا ألزمنا أنفسنا بأعرافٍ وشكليات، وأثقلنا كواهلنا ببدع ورسميات ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يقرها شرع ولا يقبلها عقل.
لقد أحيط الزواج في هذه الأيام بأسلاك شائكة جعلت الحلال عسيرًا، بينما شياطين الإنس والجن قد جعلوا الحرام مبذولاً يسيرًا. أصبح الزواج اليوم محاطًا بأغلال الفخر الزائفة والخيلاء الكاذبة، والآباء والأمهات والقدوات في المجتمع بأيديهم القضاء على كثير من المشاكل والعادات والتقاليد التي جعلت العزوبة تفشو في شبابنا والعنوسة تغزو بناتنا.
وأول العقبات في الزواج المغالاة في المهور، الذي أصبح عند البعض رمزًا للمفاخرة، إما تقليدًا للغير، ففلان زوج بكذا، وفلانة بكذا، وابنتنا ليست بناقصة، وماذا يقول الناس عنّا إذا زوجناها بكذا؟! وقد يكون الطمع والجشع من بعض الآباء والأمهات سببًا في ارتفاع المهر، وتدخّل النساء يجرّ المتاعب ويفسد أكثر مما يصلح إلا من رحم الله.
لقد ظن بعض الناس أنه كلما زاد المهر كلما زاد شرف وقدر ابنته، والعكس هو الصحيح لفعل النبي الكريم الذي ما أصدق امرأة من نسائه ولا بنتًا من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية ونصف، أي: ما يعادل اليوم 116 ريالاً. ولقوله صلوات الله وسلامه عليه: ((أعظم النساء بركة ـ وماذا يريد الزوج وأهله وأهل الزوجة سوى البركة؟! ـ أيسرهن مؤونة)) ، فكلما زادت المهور والتكاليف قلت البركة والخير، وكلما كان الاقتصاد والتيسير عظمت البركة بإذن الله، ولو تتبعنا بعض حالات الطلاق لوجدنا الزواج كان قائمًا على الكلفة والتعسير والمبالغة مما أفقده بركته حتى وقع الطلاق، وقال : ((خير الصداق أيسره)).
وقد زوج النبي على خاتم من حديث، وزوج على وزن نواة من ذهب، وزوج ابنته فاطمة سيدة نساء هذه الأمة لعلي على درع حطمية، وزوج على وسادة من أدم حشوها ليف ودقيق وسويق، وزوج رجلاً بما معه من القرآن، فالمهر رمزٌ ولم يكن في الإسلام يومًا ثمنًا.
أيها الإخوة المؤمنون، ومن الظواهر الغريبة التكلّف والسرف في عقد القران والملكة، حتى أصبحت كالزواج، تحجز من أجلها القصور وتذبح الذبائح الكثيرة، وكان الأولى هو التيسير والتواضع.
ومن العادات عند البعض ما يسمى بالكساوي لأم الزوجة ووالدها وبعض أقاربها، إما مالاً أو هدايا ونحوها، وقد يعدّ من عيوب الزوج ومناقصه عدم دفع هذه الكساوي، بل قد لا يتمّ العقد لو أصرّ على عدم تقديمها.
ومن المنكرات خلوة الخاطب بالمخطوبة وخروجها معه قبل العقد بحجة التعرف على الأخلاق والطباع، مما أوحت به الشاشة والأفلام، وهذا منكر وحرام، فما لم يتم العقد فلا تجوز الخلوة بها لأنها أجنبية عنه، ولا تجوز مصافحتها، ولا النظر إليها ولو بوجود محرم لها حتى يتم العقد.
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: خطبت امرأة، فقال لي رسول الله : ((أنظرت إليها؟)) قلت: لا، قال: ((انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما))، قال المغيرة: فأتيتها وعندها أبواها وهي في خدرها، فقلت: إن رسول الله أمرني أن انظر إليها، قال: فسكتا، قال: فرفعت الجارية جانب الخدر، فقالت: أحرّج عليك إن كان رسول الله أمرك أن تنظر إليّ لما نظرت، وإن كان رسول الله لم يأمرك أن تنظر إلي فلا تنظر، قال: فنظرت إليها ثم تزوجتها فما وقعت عندي امرأة بمنزلتها.
ومن المنكرات أن يستبدل بعض الناس النظرة الشرعية بالصور الشمسية، وهذا مع حرمته لا يرضى به إلا قليل الغيرة والحياء، وفي المقابل تعجب من أناس قد تبرج بناتهم ونساؤهم ونزلن الأسواق لوحدهن وخالطن الرجال فإذا ما جاء الخاطب تمنّعوا أن ينظر إليها لأن عادتهم ترفض ذلك وتأباه.
ومن المنكرات دبلة الخطوبة، تلكم العادة النصرانية الوافدة على المسلمين، وقد تكون من ذهب يلبسه الرجل، وهذا إثم على إثم، ومنكر على منكر؛ لما فيها من الاعتقاد الباطل والتقليد المُضرِّ.
ومن المنكرات قراءة الفاتحة ونحوها بعد الموافقة أو عند العقد، فإنه من البدع المحدثة في الدين.
ومن المنكرات عدم التحري في اختيار الزوجة أو الزوج، كالزواج من امرأة لا تصلي، أو تزويج من لا يصلي، فإنه منكر عظيم، إذ الصلاة ركن الإسلام وعموده، وتاركها كافر لا يحل تزويجه ولا معاشرته، ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) ، ((بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة)).
ولو علم ولي المرأة أن خاطبها لا يصلي ولو بعد العقد وجب عليه فسخ هذا النكاح ومفارقة هذا الزوج، ولأن تبقى الفتاة في بيت أهلها معززة مكرمة مصونة محفوظة خير من أن تتزوج برجل لا يصلي أو فاسدٍ في دينه وأمانته مرتكبٍ للموبقات والكبائر مجاهرٍ بها.
ومن العظائم إجبار الفتاة على رجل لا تريده، أو تزويجها بغير إذنها، فمن الواجب أخذ رأيها فيمن تقدّم إليها، وموافقتها على ذلك أو رفضها. فهذا من حقوقها التي أعطاها إياه رسول الله.
ومن المنكرات دخول الزوج على زوجته أمام النساء الأجنبيات، فهذه الظاهرة وإن كانت قد تلاشت كثيرًا إلا أنها قد بدأت في الظهور والانتشار، وهو منكر عظيم، أن يدخل الرجل على النساء وقد يدخل معه بعض أقارب الزوجة أو إخوانها، وقد تُلتقط لهم الصور التذكارية والعياذ بالله، يدخل على النساء وهن في كامل زينتهن، ومَنْ فيها حياء قد تتغطّى أثناء دخوله. فأي منكر أعظم من هذا؟! وأي وقاحة وسوء أدب وقلّة غيرة واعتداء على أعراض المسلمين واستهانة بها أكثر من هذا؟!
ومن المنكرات المبالغة من النساء في ثوب الزفاف الذي قد يصل سعره إلى عشرات الآلاف، كل ذلك مفاخرة وشهرة وإسراف وتبذير، والنبي يقول: ((من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة)).
ومما يترتب على هذا الثوب أن بعض النساء لكبر حجمه لا تستطيع أن تلبس العباءة فوقه، فتخرج من الزفاف لتركب مع زوجها بلا عباءة، وبحجّة أن السيارة مُستّرة والزجاج مغطّى! فأين الستر والحياء؟! وأين الحشمة والفضيلة التي تربّت عليها هذه الفتاة؟!
ومن العادات القبيحة اتّباع الزوج وزوجته وهما خارجان من القصر بموكبٍ من السيارات مع تصفيق وغناء وضرب لمنبهات السيارات في أوقات متأخرة من الليل والناس نيام، وأحيانًا مع أذان الفجر، أو أثناء صلاة الفجر والعياذ بالله، وصدق المصطفى : ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
ومن المنكرات الظاهرة وجود التصوير إما بالفيديو أو الكاميرات العادية، فكم جرّت هذه الصور والأفلام من مصائب وآفات، وكم أفسدت من أسر وبيوت، وكم تسببت في طلاق وشقاق وفراق، وكم هُتك بسببها من ستر وعفاف وفضيلة.
ومن المنكرات العظيمة ـ وقد سبق الحديث عنها في جُمع ماضية ـ ظاهرة الأغاني وأشرطته والحكم فيها بين واضح، فالمباح المشروع لا يرفضه أحد، والمحرم الممنوع لا يبيحه أو يرضاه مسلم يخاف الله ويرجوه.
وللأسف فبعض الناس عن آيات الله معرضون، وللمحرم والمنكر مستمعون ممارسون، وكأنهم لا يسمعون ولا يعلمون ولا يعقلون ولا يفقهون، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:9، 10].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ [النور:51، 52].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل واتباع مرضاته ولو أسخط ذلك الناس، فمن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أسخط الله برضا الناس سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.
أيها الإخوة الفضلاء، ومن المنكرات والآفات الظاهرة المنتشرة في الأعراس والحفلات ما تظهر به بعض أخواتنا المسلمات من طيب يشمّ من مسافات، والنبي يقول: ((أيّما امرأة استعطرت فمرّت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية))، وكان بإمكانها أن تؤخّر التعطّر إلى حين دخولها مكان الزفاف أو غيره.
ومما عمّت به البلوى ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ تلك الملابس الفاضحة العارية التي يلبسها كثير من المسلمات في صالات الأفراح وغيرها، ملابس يندى جبين المؤمن الغيور والمؤمنة الغيورة التقية من سماع وصفها، فكيف برؤيتها؟!! كل ذلك بحجة أنه يجوز لبسها عند النساء وأمامهن!
ملابس وأزياء في غاية العري والسفالة، ولولا الحياء لوصفت لكم بعض هذه الملابس وما فيها من تعرّي، إنها أزياء وموديلات جاءت ووفدت إلى نسائنا من لدن البغايا اللائي خسرن أعراضهن بعرض أجسادهن عبر هذه الأزياء المتعرية المتجددة التي شُحنت بها الأسواق وتبارى في السبق إلى شرائها النساء، ولو علموا مصدرها المتعفّن لتباعد عنها الذين فيهم بقية من حياء.
تقول إحدى النساء مصوّرة ومعبرة عن بعض ما رأته في الأفراح من منكرات: بدأت أكره الذهاب إلى حفلات الزفاف لشيء يزلزل كياني، إلى متى تظل فتياتنا شماعة يعلّق عليها أباطرة مصممي الأزياء سخافاتهم تحت مظلة الموضة والتقدم والتطوير؟! إني لأغمض عيني خجلاً لما أرى تلك الوجوه المثقلة بوسائل التزوير العالمية، وتلك الأجساد الطاهرة المسلمة وهي عارية مبتذلة.
نعم أيها الإخوة، إن المنكر لعظيم، وإن ما عليه بعض المسلمات اليوم من ملابس لا يرضاه الله ورسوله ولا يقبله غيور ولا تلبسه مؤمنة.
إن من أعز ما يملكه الإنسان هو الحياء والعفاف والفضيلة، والمرأة إذا تعرّت وتبذّلت ـ ولو أمام النساء ـ فماذا بقي لها من الحياء والعفاف والفضيلة؟!
إن المرأة عورة، هكذا قال الرسول بدون استثناء شيء منها، فجميع بدنها عورة على الصحيح من أقوال أهل العلم إلا ما جرت العادة بكشفه أمام المحارم في البيت وحال المهنة، أما أن تظهر المرأة فخذها وثدييها وظهرها وأجزاء من بطنها ولا ترى في ذلك بأسًا فهذا محرم لا يجوز.
ألا فليتق الله امرؤ من أب أو ابن أو أخ أو زوج ونحوهم ولاّه الله أمر امرأة أن يتركها تنحرف عن الحشمة والفضيلة والحياء والستر والاحتشام والأدب. وليتق الله نساء المسلمين، وليسلمن الوجه لله والقياد لمحمد بن عبد الله ، ولا يلتفتن إلى الهمل دعاة الفواحش والأفن، وليتق الله الأمهات فإنهن مسؤولات ولبناتهن ملاصقات ولملابسهن مشاهدات، وعليهن الدور الأكبر والحمل الأعظم.
أيها الإخوة في الله، ومن المنكرات العظيمة الإسراف في الولائم والذبائح ونحوها، وهذا موضوع له خطورته وله حديث مستقل بإذن الله.
عباد الله، ما أجمل أن تكون الأفراح إسلامية، ليس فيها لمنكر ظهور، ولا لعادات وتقاليد سيئة وجود، وإنما هو التيسير والسماحة والستر والصيانة. فالمسلم والمسلمة ـ وخاصة في هذه الأيام ـ يربأ بنفسه عن حضور مناسبة يُعصى الله فيها بأمر من الأمور. وإننا جميعًا لنشعر بالمسؤولية تجاه هذه المنكرات، وخاصة من هم في محل القدوة أو لديهم القدرة على المنع أو التغيير.
فلنتق الله في أنفسنا وفي أفراحنا، فما تُشكر نعم الله بمعاصيه أبدًا.
(1/3390)
يا من تريد الطلاق
الأسرة والمجتمع, فقه
الطلاق, قضايا الأسرة
فواز بن خلف الثبيتي
الطائف
جامع الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحكام النشوز بين الزوجين. 2- الرد على شبهات حول الأحكام المترتبة على نشوز الزوجة. 3- وضع المرأة الغربية. 4- وسائل علاج نشوز الزوجة. 5- أحكام الخلع في الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، فبتقوى الله يصلح الفرد والمجتمع، وعليكم بتعلّم أحكام دينكم وشرعكم، فمن يرد الله به خيرًا يفقه في الدين.
أيها الإخوة في الله، سبق لنا الحديث في خطب ماضية عن أسباب الطلاق وآثاره وعواقبه، وبقي لنا وقفة هامة مع أحكام النشوز بين الزوجين وعلاجه، وأخرى عن الطلاق وأحكامه.
فإذا ما نشزت الزوجة وعصت زوجها ولم تقم بحقوقه عليها فإنها تداوى بما في القرآن والسنة من علاج ودواء، يقول الله تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34].
يقول الإمام القرطبي رحمه الله عند هذه الآية: "اعلم أن الله عز وجل لم يأمر في شيء من كتابه بالضرب صُراحًا إلا هنا، وفي الحدود العظام كالزنا والقذف، فساوى معصية المرأة لزوجها بمعصية الكبائر العظام" اهـ.
فإذا عصت ونشزت فإنه يبدأ بوعظها وتخويفها بالله عز وجل والآخرة والحساب، ويذكر لها ما أوجب الله له عليها من حقوق وطاعة، وما يلحقها من الإثم بمخالفته وعصيانه، ويذكرها بفضل الزوجة الصالحة وما لها من الأجر عند الله، كل هذا من وعظها وتذكيرها بالله. فإن ارعوت وأطاعت وإلا هجرها، بأن لا يضاجعها ولا يأوي إلى فراشها ولا يُقبِلْ عليها، وإن رأى أن لا يحادثها ولا يكلّمها فله ذلك، ولكن دون ثلاثة أيام، لقوله : ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال)). وقد اعتزل النبي نساءه شهرًا في مشرُبته، وللزوج أن يختار من الهجر ما يراه مناسبًا ما لم يُحدث مفسدة أعظم.
وأقصى مدَّة للهجر في المضجع أربعة أشهر، وهي مدّة الإيلاء الذي قال الله فيه: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226، 227].
فإذا ما انصلح حالها ولان قيادها فالحمد لله، وإلا فليضربها ضربًا غير مبرح، مما لا يُدمي ولا يُخشى معه تلف نفس أو عضو أو كسر أو تشويه أو جروح أو إصابات تأديبًا لا عقوبة وتعذيبا، وليتجنب الوجه؛ فإن الضرب عليه لا يجوز، ولا يزيد في ضربها عن عشرة أسواط لقوله : ((لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله))، وقال النبي : ((لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يضاجعها في آخر اليوم)).
فالضرب غير المبرح هو الضرب الخفيف وبآلة خفيفة، ولا يُلجأ للضرب إلا عند الضرورة، وعند تعذُّر الإصلاح بالوعظ والهجر. وإذا لجأ إليه الزوج فليكن بعيدًا عن الأبناء؛ مراعاة لمشاعرهم ومشاعر أمّهم، وليكن بعيدًا عن سمع الجيران أيضًا.
عباد الله، هذه الوسائل تشريع الله، وقد أساء بعض المتحضرين من أبناء المسلمين فهمَ هذا النوع من العلاج، فوصفوه بأنه علاج صحراوي جاف، لا يتفق وطبيعة التحضّر القاضي بتكريم الزوجة وإعزازها، وهذا من الجهل بالإسلام وبحِكَمِ شرع الله الذي ارتضاه لعباده في كل زمان ومكان ولكل بيئة وجيل، ونسي هؤلاء المغرضون أن الله تعالى قبل أن يأمر بضرب الزوجة الناشز أشاد بأولئك النساء اللاتي يترفعن بخلقهن وإيمانهن وصلاحهن عن النزول إلى درك المستحقات للهجر فضلاً عن الضرب: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34]، قدّم ذكرهن على وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ... الآية [النساء:34].
ثم إننا نقول لأولئك الذين يتأففون من تشريع تأديب الزوجة سواء بالهجر أو الضرب، نقول: هل من كرامة الرجل أن يهرع إلى طلب محاكمة زوجته كلَّما انحرفت أو عصت أو خالفت؟! المرأة العاقلة لا ترضى أن ينشر زوجها سرّها، ويكشف للناس أفعالها، ويفضحها في المحاكم أو حتى عند أبيها.
إذًا هل تُترك الأسرة بمشاكلها حتى يتصدع البيت ويتشرد الأولاد بسبب الطلاق، أم تقبَل المرأة وهي هادئة راضية أن يردّها زوجها إلى رشدها بشيء من التأديب المادي الذي لا يتجاوز المألوف في تربيتها هي لأبنائها وصغارها؟!
إن المتأففين من تشريع التأديب للزوجة الناشز يحاولون دائمًا إثارة هذه القضية في الصحف والمجلات ونحوها، لماذا؟ لكسب ودّ النساء لأغراض لهم سيئة، فتجدهم يستكبرون مشروعية التأديب، ولا يستكبرون أن تنشز الزوجة على زوجها وتترفع عليه وتحقره، فكيف يريد هؤلاء أن تعالج مثل هذه الناشز؟! ولكن صدق الشاعر الجاهلي الشنفرى لما خاطب امرأته قائلاً:
وإذا ما جئتِ ما أنهاك عنه ولم أنكرْ عليك فطلقيني
فأنت البعل يومئذ فقومي بسوطك لا أبا لك فاضربيني
ونقول لهؤلاء المغرضين المعجبين بحضارة الغرب وبالمرأة الغربية وما تتمتع به من حرية مزعومة: ألم تسمعوا عن حال المرأة المتحضرة في دول الغرب؟! ألم تسمعوا عن حال من تدعون نساءنا أن يحذين حذوها؟!
نُشِر بالولايات المتحدة الأمريكية في مجلّة التايم تحقيقًا عن حوادث الضرب التي تتعرّض لها الزوجة الأمريكية في العصر الحديث بدرجة هائلة، وتشير الإحصائيات إلى أن ستة ملايين امرأة يتعرضن لحوادث الضرب من أزواجهن كلّ عام، وأن ما بين ألفين إلى أربعة آلاف زوجة يتعرّضن للضرب الذي يفضي إلى الموت كل عام، ويضيع ثلث وقت رجال الشرطة في الردّ على المكالمات الهاتفية للإبلاغ عن حوادث العنف المنزلي. وكشفت دراسة جرت في إحدى المستشفيات الكبرى بالعاصمة الأمريكية واستغرقت الدراسة أربع سنوات وتم الانتهاء منها قبل أعوام قليلة وذلك سنة 1992م تبين أن 25 بالمائة من حالات الانتحار التي تقدم عليها الزوجات يسبقها تاريخ من حوادث الضرب من الزوج. ووُجد أن ضرب الزوجة من زوجها هو السبب الرئيس والوحيد في حدوث إصابات لهن أكثر من حوادث السيارات أو الاغتصاب أو السرقة ونحوها. وتبين أن 50 في المائة من اللاتي تعرضن للقتل قام بقتلهن أزواجهن إما الحاليون أو السابقون.
ولكم أن تعرفوا أن ما تلقاه الزوجة الغربية من ضرب مبرّح يشمل الكدمات والخدوش والجروح وكدمات حول العين أو صدمة أو ارتجاج في المخ وكسور في العظام وأحيانًا فقد للسمع أو البصر.
هذه نماذج مما تعانيه المرأة الغربية من زوجها، وما خفي كان أعظم، فهي مجتمعات تعيش العنف بكل صوره وألوانه، فهل من مدّكر؟! هل حامد لله على شرعه القويم ودينه الحكيم؟! فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين.
أيها الإخوة المسلمون، ليس حديثنا عن ضرب الزوجة دعوة إليه أو استحبابًا له، لا، ولكنه دفاع عن أمر من أوامر الشرع والدين، تعدّى عليه بعض من لا يقدّرون الله حق قدره.
وقد اتفق العلماء على أن ترك الضرب والاكتفاء بالتهديد أفضل، فعن يحيى بن سعيد أن رسول الله استؤذن في ضرب النساء فقال: ((اضربوا ولن يضربَ خياركم)) فأباح وندب إلى الترك، وقال : ((لا تضربوا إماء الله)) ، فأتاه عمر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، ذئر النساء ـ أي: اجترأن ونشزن ـ على أزواجهن، فأذن في ضربهن فضُربن، فأطاف بآل محمد نساء كثير، كلُّهن يشكون أزواجهن، فقال النبي : ((لقد طاف بآل محمد سبعون امرأة كلُّهن يشكون أزواجهن، ولا تجدون أولئك خياركم)). بل هو ما ضرب خادمًا ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئًا إلا أن يجاهد في سبيل الله.
والضرب إنما أبيح لأنه أخف من التأديب بالطلاق، فضرب المرأة أهون وأفضل من طلاقها ولا شك، وليس كل امرأة تحتاج إلى الضرب، فهناك من هي قانتة صالحة، وهناك من هي ناشز ينفع فيها الوعظ ويؤثر، والبعض قد ينفع فيها الهجر، وأخريات لا يتأدبن إلا بالضرب، ونساء لا ينفع معهن إلا الطلاق.
فالنساء يختلفن في طبائعهن، كما أن الرجال أيضًا يختلفون في أساليب حياتهم وتأديبهم، فهناك من الرجال من هو ضرّاب للنساء، بل من الصحابة من كان كذلك، منهم أبو جهم الذي خطب فاطمة بنت قيس فاستشارت رسول الله فقال: ((أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه)) وفي رواية: ((فضرَّاب للنساء)). وكان الزبير بن العوام رضي الله عنه مشهورًا بضربه للنساء، تقول عنه زوجته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: كنت رابعة أربعة نسوة عند الزبير بن العوام، فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها، وقالت: كان يكسر علينا أعواد المساحيب. وهناك من الرجال من لا يضرب زوجته ولو نشزت عليه وعصته وهؤلاء هم أنصار القائل:
رأيت رجالاً يضربون نساءهم فشلَّت يميني يوم أضرب زينب
وللأسف فهناك جهلة في بعض القبائل ـ وخاصة كبار السن وإلى اليوم ـ يتصوّرون أن ضرب المرأة من علامات الرجولة والكمال، فلا يتورَّع أحدهم عن جلد امرأته جلد العبد دون عذر يستدعي، والمرأة مسكينة وليس أمامها إلا الصبر والسكوت والرضوخ؛ لأن أباها أقسى وأشد عليها من زوجها، وهذا ظلم للمرأة أيّ ظلم، وعلى الزوج الغليظ الضّراب لأهله أن يتذكر أن قدرة الله عليه أعظم من قدرته على من تحت يده.
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله عن ختام آية ضرب النساء، وهو قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34] قال: "تهديدًا للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب، فإن الله العلي الكبير وليُّهن، وهو المنتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن" اهـ.
أيها الإخوة في الله، هذه هي وسائل علاج النشوز من الزوجة، وعظ بلا هجر ولا ضرب، ثم هجر بلا ضرب، ثم ضرب غير مبرح.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، أما إن أفلست جميع تلك السبل من الوعظ والهجر والضرب في العلاج، فإن الله تعالى يقول: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا [النساء:35]. ولإخلاص الحكمين وصدق نيتهما أثر بالغ وعظيم في الإصلاح بين الزوجين، إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35].
عباد الله، وقد يكون النشوز من الزوج والزوجة متضررة منه، إما بعلوه عليها، أو بتقصيره في حقوقها، فهل تعظه وتذكره وتنصحه؟ نعم، ولكنها لا تهجره ولا تضربه. وإن لم ينفع فيه الوعظ والتذكير فتدخل من يصلح بينها وبين زوجها الناشز، يقول تعالى: وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128].
وقد يصل الحد بالمرأة إلى كراهة زوجها وبغضه وعدم تحمله في خُلُقه أو هيئته وخِلقته، وتخشى أن لا تؤدي حق الله فيه، فلها أن تخلع نفسها منه، وتفتدي بشيء من مال أو منفعة ونحو ذلك، وهذا من إكرام الله للمرأة وتشريفه لها، فقد تطلب الفراق هي، وقد جعله الله حقًا للمرأة في مقابل حق الزوج في الطلاق، فهو مشروع في حالة خوف الزوجين أن لا يقيما حدود الله، فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229].
فقد جاءت حبيبة بنت سهل الأنصارية رضي الله عنها إلى النبي تشتكي زوجها ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، وكان قد شهد معركة أحد وبيعة الرضوان، وكان خطيبا مفوها، وكان من نجباء محمد ، إلا أنه كان دميمًا، فقالت: يا رسول الله، ما أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، وكانت تبغضه، فأمره النبي بطلاقها وقال: ((خذ الحديقة، وطلقها تطليقة)) ، وفي رواية أخرى: أنه ضربها فكسر بعضها، فأتت رسول الله بعد الصبح، فاشتكته إليه، فدعاه النبي فقال: ((خذ بعض مالها وفارقها))، فقال: ويصلح يا رسول الله؟! قال: ((نعم)) ، قال: فإني أصدقتها حديقتين وهما بيدها، فقال النبي : ((خذها وفارقها)) ، ففعل رضي الله عنه وعنها. وكان هذا أول خلع في الإسلام.
ومن أحكام الخلع: أن لا يأخذ الزوج أكثر من المهر، وإذا انفسخ عقد الزوجية بالخلع فلا يعدّ طلاقًا إلا إذا نواه طلاقًا أو تلفظ بلفظ الطلاق، والمرأة لا بأس أن تطلب الخلع ولو كانت حائضًا أو في طهر جامعها فيه بخلاف الطلاق؛ لأن النبي لم يسأل أو يشترط ذلك على امرأة ثابت بن قيس لما جاءته، وعدة المختلعة حيضة واحدة، وليس للزوج بعد المخالعة أن يعيد زوجته إلى عصمته في عدتها، وإن رغبا في العودة فلا بد من عقد جديد ومهر جديد، ويحرم على الزوج المضارةُ بزوجته حتى تفتدي نفسها ببعض مهرها أو ترك بعض حقوقها عليه، فهذا من الظلم والاعتداء، قال تعالى: وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ [الطلاق:6]، ولتعلم المرأة أن النبي قال: ((المنتزعات والمختلعات هن المنافقات)) فعلى المرأة أن تصبر على زوجها إذا كان ذا دين وأن لا تتعجل مفارقته.
اللهم أصلح أحوال المسلمين والمسلمات...
(1/3391)
أهمية المراكز التربوية
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
10/8/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الوقت. 2- خطورة الفراغ. 3- ضرورة الحديث عن حسن استغلال الوقت. 4- وسائل محكمة لبناء العقول والشخصيات. 5- منافع المراكز التربوية والدورات العلمية. 6- ضرورة مضاعفة البرامج التربوية والدورات العلمية. 7- فضل الإنفاق على المراكز التربوية. 8- التحذير من منع هذه الفعاليات والمناشط. 9- الرد على أعداء المراكز التربوية. 10- فضل صيام شعبان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتّقوا الله رحِمكم الله، ابتَدَأكم بإحسانِه، وأتمَّ عليكم نِعمَه وإفضاله، حلُم مع الاقتدار فلا يغترَّنَّ عبدٌ بالإهمال، ولا يغفَلنَّ مِن خوف الاستدراج، عافانا الله وإيّاكم مِنَ الاغترار بعدَ الإمهال والاستدراجِ بالإحسان، واعلموا ثمّ اعلموا أنّ من الغفلةِ السّفرَ من غير زادٍ والذهابَ إلى القب الموحشِ بغير أنيس، ومن التّفريط القدوم على الحكمِ العدل بغير حجّة. مَن وقف في غير بابِ الله طال هوانُه، ومَن أمَّل غيرَ فضل الله خابت آماله، ومن ابتغى غيرَ وجه الله ضاعَت أعمالُه، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80].
أيّها المسلمون، الوقتُ مادّة الحياة، والزّمنُ وِعاء الأعمار، والأوقات خزائنُ الذّخائر، والأعمال الصالحة هي أعلَى ذخائر، والوقتُ أغلى ما عُنِي الإنسانُ بحفظه، وتصرُّم الزمان أعظمُ واعظ، وانقضاء الأيّام قِصَر في الأعمار، والعُمر أثمنُ بضاعة، والحسرةُ والخَسار لمن قصَّر فيه وأضاعَه، ومِن علامات المقتِ إضاعةُ الوقت، ومَن حفِظ وقتَه فقد حفِظ عمرَه، وإذا أحبّ الله عبدَه بارك له في عُمره ووفَّقه لحُسن عِمارة وقته، والخيرُ والتّوفيق في بركة العمر، لا في طولِه ولا في قصَره، فكم مِن إنسانٍ أمّل الحياةَ وطولَ البقاء فعاشَ إلى زمنٍ بكت فيه عيناه وتقرَّح فيه قلبُه ورأى من شدائدِ الفتَن وصروفِ المحَن ما لا يكادُ يُطاق، والأقدارُ مغيَّبة، والليالي من الزمانِ حُبالى، وكما يعوذُ المسلم بربِّه من فتنة الممات فإنّه يعوذ به من فتنةِ المحيا.
يا عبد الله، الوقتُ كالسيف، وكم لهذا السّيف من ضحايا وصرعَى، تراهم في الأسواق يتسكَّعون وأمامَ الشاشات متسمِّرون وبين يدَي شبكاتِ المعلومات مستَسلمون، كم ندِم المفرِّطون، وكم تحسَّر المقصِّرون، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100]. فمن أصحَّ الله له بدَنه وفرَّغ له وقتَه ولم يسعَ لصلاحِ نفسِه فهو المغبون، بذلِك أخبر الصادِق المصدوق حين قال: ((نِعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحّةُ والفراغ)) [1]. وحين يحُلّ المرض وتشتدّ العلّة تنكمِش الأعوام حتى كأنها لحظاتُ برقٍ وامض.
أيّها المسلمون، يحسُن التذكير بهذا والشّباب والأسَر تعيش استقبالَ عامٍ دراسيّ في كثيرٍ من الديار والبلدان، والحديثُ عن التعليم والمناهِج والتوجيهِ والإرشاد وحسنِ استغلال الوقتِ والاستفادةِ منه حديثٌ يطول، تحدّث فيه المربّون، ووعظ فيه الواعِظون، ونبّه إلى أساليبِ استغلالِه المصلِحون، في حديثٍ للآباء والأمّهات والمربّين والمربّيات في برامجَ علميّة ومناشطَ ترفيهيّة في فنِّ إدارةِ الوقت وخدمةِ المجتمع وتنميةِ المهارات وصلاحِ الدين والدنيا.
أيّها المسلمون، الإبداعُ واكتشاف المواهِب وتنمية الملكات مطالبُ مهمّة ووسائل محكمَة لبناء العقول وبناءِ الشخصية وشغلِ الأعمارِ والأوقاتِ بالمفيد النافع من العلوم والأعمال. ومن جانبٍ آخر فإنّ توفيرَ الجوّ الصالحِ المكشوف المعلَن في مزاولةِ النشاط وممارسةِ العبادات الصحيحةِ والخلُق السليم كلّ ذلك جديرٌ بصياغةِ الشّباب والناشئة صياغةً صالحة مستقيمة متوازِنة في صلاح الدين والدنيا معًا، مناشِطُ معلَنَة تؤهِّل للصّلاح والنّجاح لينفَعوا أنفسَهم وأهليهم وأمّتَهم وأوطانهم.
معاشرَ الأحبّة، وإنّ مِن أفضل ما تصرَف فيه الأوقات وتصقَل المواهِب ويبني ويُصلِح وبخاصّةٍ في هذهِ الظّروف مراكز خدمة المجتمَع والدّورات العلمية وحلقات تحفيظ كتابِ الله وتعليمه، فهي فرَصٌ تربويّة وتجمُّع للشّباب حميد، عظيمٌ نفعُه، ثريّة معلوماته، يحفَظ الأوقات، ويعين على الخير وتوثيق الصلاتِ. برامجُ مُعَدَّة إعدادًا حسَنًا في دروسٍ مفيدة بحُسن السّلوك وصلاح الدّين وتصليحِ الأخطاءِ وتقويم المعوَجّ على نهج السّلف الصالح. محاضِن تربويّة على قِصَر مدّتها فيها منافِع يعزّ تحصيلها في غيرها. هذه المراكزُ والدّورات والحلَقات والمناشط تربِّي على مكارِم الأخلاق ومعاليها وتنهَى عن سيِّئها وسفسافها، تشارِك في البناء وروح الإبداع.
إنَّ هذه المراكزَ والمناشط والدّوراتِ والحلقات وأمثالَها تعلِن أنّ الشبابَ بحاجةٍ إلى اليدِ الحانية الرحيمةِ التي تقدِّم لهم النصحَ والتوجيه والإرشادَ والهداية في قوالِب من الودّ والشّفقة والملاطَفَة تُشعِرهم بدَورهم في الحياةِ وأثرِهم في المجتمع وأهمّيّتهم في أمّتهم وإشعارهم بالأخطار التي تهدِّدهم وتهدِّد دينَهم وأوطانهم، تذكِّرهم بالقُدوات الصالحة من سلَف الأمّة وخلَفِها من قياداتها وحكّامِها وعُلمائها ورِجالاتها؛ ليتعمَّق فيهِم الشّعورُ الحقّ بالانتماءِ لدينهم والاعتزازِ بأمتِهم والغيرة على ديارهم والاستعصاء على حَمَلات التّغريب والتذويبِ والاختلاط وألوانِ التطرُّف والغلوّ والتشدّد.
إنَّ من المؤكَّد أنَّ هذه المراكزَ والدوراتِ والحلقات وأمثالَها كلُّ أولئك محاضن تربويّة، تحفظ أوقاتَ الشباب فتيانا وفتياتٍ، ترشِدُها وتُرَشِّدُها في مناشطَ علميّة وتربويّة ومَسلكية ومِهنيّة وحِرفيّة، تربيةً على الصلاحِ والإصلاح والخلقِ الفاضل وترسيخِ الانتماء لدين الله وأخوّة الدين والولاء لولاةِ الأمور وحبِّ العلماء وتقديرِ رِجالات الأمّة والاحترام والحبّ للصّغير والكبير وإِكسابِ المهاراتِ واكتشافِ المواهب والملكات وحُسن التعامل مع المشكِلات والإسهام في تشخيصِها وحلِّها وبثّ روحِ التعاون والعمل الجماعيّ والمثمِر وتحمُّل المسؤوليّة وغَرس عُلوّ الهمّة وتكوين الاتِّجاهات الإيجابيّة نحو العمَل والتدريب والإتقان والابتِكار والتجديد بِطُرقٍ تقنيّة متقدِّمة والتدرُّب بأسلوبٍ مشوِّقٍ مبتَكَر والتّدريب على تقديم الخدمات العامّة والحِفاظ على المرافق وصيانة الممتَلَكات العامّة والخاصة والالتزام بالآدابِ العامّة والانخراط في دوراتٍ علمية وندواتٍ فكريّة تعلِّم أدبَ الحوار وحسنَ الاستماع للرّأي الآخر وحسنَ التعامل مع الآخرين وقبولَ الحقّ ممّن جاء به.
مراكزُ وندَوات وحلقات ودورات تضمّ المئاتِ والآلاف منَ الفِتيان والفَتَيات، في مناشطَ وفعاليّات لا تقدِّمها المدارس والجامعات والمعاهِدُ، ولا يتضمّنها كتابٌ مدرسيّ ولا منهَج دِراسيّ. مراكزُ يكتشِف فيها الشابّ قدراتِه ومواهبَه ويجرِّب ملكاتِه وإمكاناتِه، يكتشِف كلَّ ذلك ويمارِسه على مرأَى ومسمَع من مشرفين ومعلِّمين ومدرِّبين وموَجِّهين موثوقِين مِن أهل الفضلِ والصّلاح والخِبرة والاعتدال والعِلم والاختصاص. نعم، إنهم معلِّمون وموجِّهون ومرشدون ومدرِّبون وعلماءُ مؤهَّلون علميًّا وعمليًّا وتربويًّا، وموثوقون في آرائِهم واعتدالهم وحُسن فهمِهم للأحوال والمتغيِّرات والظروفِ والمستجدّات.
أيّها المسلمون، معاشرَ الإخوة، إنَّ الحقَّ والمصلحةَ والحِكمة وبُعد النظر والرؤية والروِيّة تقتضي مضاعفةَ هذه البرامج والتوسُّع فيها لتشمَلَ نشاطاتٍ وإبداعات لم تكن موجودةً ولا ممارسةً مِن قبل؛ مثل التعليم الفنّي والتدريب المهني وتعميقِ مفهوم التديُّن الصّحيح والمواطَنَة الصّالحة ومكافحةِ الإرهابِ وتصحيح المفاهيم وإزالة ما قد يلتبِس حول مفاهيمِ الجهاد والولاءِ والبراء وغيرِها من بعضِ المصطَلَحات والتحذير من الجفاءِ وضَعف التديُّن والمُيُوعة والانحلال؛ ليتربَّى النشء على ممارسةِ حياةٍ هادِئةٍ مستقِرّة ملِيئةٍ بالحيَوِيّة والجدِّية والنافِع المفيد، بعيدًا عن فضولِ النّظرات والكلِمات والتصرّفات، وحُسنِ استخدام المنجَزَات التقنيّة مِن هواتِف وحاسِبات وآلاف وأدواتٍ وشبكات معلومات، بل إنَّ هذه المراكزَ والدوراتِ من الممكِن أن تزيدَ في الإبداع والجاذبيّة والتجديد فتعمِّق وتدقِّق حتى تجعلَ من برامجها ومناشِطها ما يشمَل التوجُّه نحوَ ترشيدِ نشاطاتِ التسوّق والتنزّه والسياحةِ؛ لتجعلَ مِن كلّ ذلك متعةً عائليّة أو فردِيّة تعتمِد الانضباطَ والذوقَ الرفيع والخلُق الكريم والأدب الجمّ.
أيّها المسلمون، إنّ من المأمول مِنَ الجامعات والمعاهدِ والقطاعات التعليمية والمهنية والتدريبيّة ومراكزِ خدمة المجتمع أن تعِدّ خُططًا محكَمَة لمراكزَ وبرامج ونشاطات تقدَّم للطلاب والشّباب، برامجُ تعينهم على مواجهةِ التحدّيات الكبرى في الفِكر والسلوك في الحاضِر والمستقبل، خططٌ حصينة محكَمَة تحُول دونَ وقوعِ هؤلاءِ النّاشِئَة ضحيّةَ أهوالٍ جِسام من الإرهابِ والتزمُّت والمخدِّرات والميوعةِ والتحلُّل والتفسّخ، تقيهم من غُثاءِ القنواتِ وشبكاتِ المعلومات وقرناءِ السوء والمقاهي الموبوءَة والاستراحاتِ المسوَّرة والشُّقَقِ المغلَقَة. هذا الغثاء الذي انساقَ إليه فِئاتٌ من الشّباب في غفلةٍ من المصلِحين والمسؤولين.
كما ينبَغِي أن تفتحَ الأندِيَة الرياضيّة والأدبيّة أبوابَها وتستنفرَ طاقاتها وإمكاناتِها لترسمَ وتخطِّط وتستعدَّ لاحتواءِ الشبابِ في برامجَ جذّابةٍ نظيفة رياضيّة وثقافيّة واجتماعيّة ومهنيّة ومناشطَ سياحيّة منضبِطة، مع التّأكيد على ضرورةِ دَعم كلِّ هذه المرافِق بما تحتاجُه من دعمٍ مادّيّ ومعنويّ لتقومَ بهذه المهمّة العظيمة.
إنّ الإنفاقَ على هذه المراكزِ والمعاهِد والأنديةِ والدورات والحلقاتِ والبذلَ السّخيّ مِن أجلها من أهمّ وجوهِ الإنفاق، يجب أن يتوجَّه إلى ذلك ويدعمَه الحكوماتُ ورجال الأعمالِ والقادرونَ النّاصحون المصلِحون.
عبادَ الله، إنّ من الحكمةِ والعقل وحصافةِ الرّأي أن تُفتَحَ كلّ هذه الميادينِ وتُملأ بذوِي الفكرِ السوِيّ، تُفتَح الأبواب وتشرَع النوافِذ وتهبَّ التّيّارات والنّسائم لتطردَ الروائحَ الكريهة والأجواءَ الرّاكدة والترسُّباتِ الآسنةَ؛ ليدخلَ الهواءُ الطّيِّب والتّيّارات الصّالحة الزّكيّة.
إنَّ من المؤكَّد أنّ هذا الفتحَ والانفِتاح هو سبيلٌ مستقيم لجلبِ كلِّ صالح ودفعِ كلّ سيّئ؛ ذلك أنّ ما يُنسَب مِن إساءاتٍ أو سلبيّات لبعض المنتسِبين لهذه المراكِز والدّورات أو المنخَرِطين فيها هي سلبياتٌ محدودَة موجودة في كلِّ مرفقٍ ومَنشط. يجِب النّظرُ والتدبّر: هل منَ الحكمة منعُ هذهِ الفعاليّات؟! وهل إذا مُنِعت أو أقفلَت سيكفُّ المسيئونَ عن إساءَتهم، أم أنهم سيَبحثون عن قنواتٍ ومجالات أخرى أكثرَ فاعلية وأشدّ أثرًا وتأثيرًا لسوئِهم في أجواء سريّةٍ وأماكنَ مغلَقَة في شُققٍ وخلَواتٍ برّيّة ومواقع بعيدةٍ عن الأنظار والمراقَبَة؟!
إنَّ الانكفاءَ والحذَرَ السّلبيّ ما هو إلاَّ هروبٌ عن حلِّ المشكلة يزيد من انتشارها ويضاعِف في سلبيّاتها، بل يزيد من العتُوّ والتجبّر والانفِلات. إنَّ فتحَ هذه الأبوابِ خيرٌ من إغلاقها، وقَفلُ أبوابِ الخير من أجلِ فئةٍ قليلةٍ شاذّة ليس من الحكمة ولا من الرّشد، وهل المسؤول وصاحبُ القرار من العَجز وقلّةِ الحيلة أن يمنَعَ الكثرةَ الكاثرة من الخير من أجلِ فِئةٍ شاذّة لا يمنَع من سوئِها وإيذائها مثلُ هذه المواقف والقرارات. إن هذه القلّةَ الشاذّة يجب أن تواجَهَ في ميدانِ واضِحٍ فَسيحٍ.
وبَعد: فإنّ كلمةَ الحقّ إن شاء الله أنّ هذه المراكزَ والبرامجَ والأندية وأمثالها سدودٌ ضخمَة أمام كلّ فكرٍ منحرِف أو توجّهٍ متطرِّف أو نهجٍ منحلّ، أمّا الأخطاء أو النقص فيظلُّ أمرًا بَشريًّا في كلِّ جهدٍ وعمَل، محكومًا عليه من قِبَل أفرادِه ومن باشرَه مِن مدرِّبٍ أو متدرِّبٍ أو معلِّم أو متعلِّم، ولا يكون حُكمًا على المشروعِ كلِّه أو على المنشأةِ كلِّها، فهذا ظُلمٌ وتعدٍّ ومجافاةٌ عن سبيلِ الحقّ والعدل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبهدي محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئةٍ فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الرقاق (6412) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، وفّقَ من شاءَ مِن عباده لطاعته، ويسّر له سبيلَ توفيقه وهِدايتِه، أحمده سبحانه وأشكره أفاضَ علينا مِن فضله ومزيدِ نِعمته، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريك له في ألوهيّتهِ وربوبيّته، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محَمدًا عبد الله ورسوله المجتبَى مِن رسُلُه والمصطفى من خليقتِه، صلّى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى الطيِّبين والطّاهرين من آلِه وذريّته، والغرّ الميامين من صحابته، والتابعين ومَن تبعهم بإحسان وسار على هديه وسنّته، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فإنّ الذين يثيرون الشكوكَ والاتِّهاماتِ حولَ هذه المناشطِ والبرامج والمراكز والنشاطات الصّفِّيّة وغيرِ الصّفّيَّة لا يوردون دليلاً ولا بُرهانًا، فكلُّ ما يُثار هو تَضخيمٌ في العباراتِ وتهويل في التصوير واستنتاجاتٌ لا تستنِد إلى استدلالات وتوظيفٌ غيرُ حَسَن للظّروف وانتهازٌ غيرُ حميدٍ للأحداث.
إنَّ المسلَكَ الحقّ وطريق الإنصاف الاستنادُ إلى الدلائِلِ والبراهين مِن خلال الزّيارات الميدانيّة وفَحص البرامج واستقراءِ الإحصائيات وغيرِها من وسائل الفحصِ والتحرّي؛ ولهذا فإنّ إقحامَ بعضِ التصرّفات المنكَرَة التي تصدُر من بعضِ الشّباب والفئات ثمّ تلصَق تُهَمًا جائرَة جاهزة لكلّ الأخيار والصّلَحاء وأعمالهِم وجهودِهم وعلى كلّ منهَجٍ صالح في الدين والتعليم والدعوة ظلمٌ وبهتان وجِناية.
ألا فاحذَروا ـ رحمكم الله جميعًا ـ التّهَمَ وموارِدَ المهالك وسوءَ المسالِك، ولْيكُن مِن دنوِّ مواسِمِ الخيرات وأيّام النّفَحات باعثًا وهاديًا إلى محاسَبة النفس والسعي نحوَ الزكاء والطُهر، إنها أيّام شهرُ رمضانَ المبارك، يقدَمُه شهرُ شعبان، والذي كان يكثِر فيه نبيّكم محمّد من الصّيام حتى قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يصوم شَعبانَ إلاَّ قليلاً، وفي رواية: لم أرَه صائمًا من شهرٍ قطّ أكثرَ من صيامه من شعبان [1].
غيرَ أنّ بعضَ الناسِ يعتقِدون في شعبانَ اعتقاداتٍ باطلةً، وبخاصّةٍ ليلة النّصف منه، فلهم فيها معتقداتٌ وعبادات مبتَدَعة، لا أصلَ لها من كتابٍ ولا سنّة؛ كتخصيصِها بدعاءٍ خاصّ أو بقراءاتٍ فرادى وجماعاتٍ أو تحديد سُوَر من القرآن بعَينها كسورة ياسين مرّةً بنيّة طولِ العمر ومَرّةً بنيّة دفعِ البلاء أو يخصّها بعمرة، فكلُّ ذلك ممّا لم يقُم عليه دَليل ولم يثبُت فيه نصّ. أمّا الصيام فمَن كان يصوم بعضَ شعبانَ أو كثيرًا منه أو يصوم أيّامَ البيض أو وافقَ يوم اثنين أو خميس فليصُمه على عادتِه واتباعًا للسنّة كما سبق في حديثِ عائشةَ وغيره.
ألا فاتّقوا الله رحمكم الله، وليلتَزِمِ المسلم بالسنّة، وليجتَنِب مسالكَ البِدعة، فالبدعَة إحداثٌ في الدّين وتغييرٌ في الملّة وآصارٌ وأغلاَل تُضاع فيها الأوقاتُ وتُتعَبُ فيها الأجسادُ وتصرَف فيها الأموال واتّباعٌ لغير طريقِ رسول الله ، ينشَط الكَسول فيها ويعجَز عن السّنَن، ولا تكادُ تقام بِدعة إلاَّ وتهجَر سنّة، فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
هذا، وصلّوا وسلِّموا على الرّحمة المهداة والنّعمة المسداة نبيِّكم محمّد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم جلّ في علاه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وعلى آله وأزواجه وذرّيّته، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدرن...
[1] أخرجه البخاري في الصوم (1969)، ومسلم في الصيام (1156) واللفظ له في الروايتين.
(1/3392)