خطوات عملية في أوقات المحن (1)
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
علي بن عمر بادحدح
جدة
سعيد بن جبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهم الصفات الواجب توفرها في مقام الخطابة. 2- لا بد أن يكون المسلمون في أوقات المحن على بصيرة واعتصام بثوابتهم. 3- على قدر اليقين والقوة الروحية يكون تحقق النصر. 4- المصارحة ومواجهة الذات أهم سبل الإصلاح. 5- أثر الذنوب والمعاصي. 6- المعنى الصحيح للأخوة. 7- الإيمان يبقى دائمًا أعلى وأجل من أي قوة مادية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون، خطوات عملية في أوقات المحن، ذلك ما يسأل عنه الناس، ويريدون معرفته، ويعزمون على الأخذ به وهو موضوع حديثنا اليوم.
لأننا في هذا المقام ينبغي أن نُذّكر أنفسنا، ونُذّكر إخواننا، لأن مقام الخطبة مقامٌ عظيم، لا بد من أن تتوفر فيه كثير من الصفات، ولكننا نُشير إلى أهمها:
أولاً: المقصد الأعظم، فإن هذا المنبر ليس لمناورة سياسية ولا لمظاهرة إعلامية، إنما أصله الأعظم ومقصده الأكبر الإخلاص لله عز وجل، وابتغاء رضوانه، وإن سخط الناس، وقصد وجهه سبحانه وتعالى دون الالتفات إلى الناس.
وثانيًا: الهدي الأقوم والاقتداء بسيد الخلق ، كيف كان في خطابته، وفي تأثيره، وفي وضوحه، وفي صراحته، وكيف كان في علاجه لأمراض الأمة، وتناول شؤونها العامة والخاصة، وكيف كان ذلك دائمًا ناشئًا عنده من معايشته لأصحابه وأمته، ومن معرفته العظيمة الواضحة الجلية لحاجتها، أي: لحاجة الأمة.
وأمرٌ ثالث: مراعاة المصالح والمفاسد، والأخذ بالحكمة والبصيرة.
أمّا والناس يريدون كما يقولون كذا وكذا، فليس هذا المنبر مثل وسائل الإعلام، يُقدم ما يطلبه الجمهور، فنسأل الله عز وجل أن يجعل لهذه المنابر إخلاصًا لله كاملاً، ومتابعة لرسوله تامة وحكمة فيها بالغة.
هذه الخطوات:
أولاً في الجانب الفكري، حتى نفهم ونفقه، وربما نؤكد ونكرر، ونزيد ونعيد لأهمية مثل هذه المعاني.
ولست أُطيل ولكن أؤكد وأرّكز على المهم من هذه المعاني التي لابد لنا منها:
أولاً: وضوح الرؤية وقوة العصمة، لابد أن نكون على بصيرة واعية ووضوح تام، وبيّنة فاصلة من أمر ديننا وكتاب ربنا وسنة نبينا.
لسنا في شكٍ من أي قضية وحقيقة إيمانية قرآنية أو نبوية، لسنا نبحث هنا وهناك، لسنا نقبل ما يروج من الشائعات، وما يكون له صدىً واسع ودوي كبير من الأخبار أو الأقوال أو المقالات، لأننا كما قال الحق عز وجل في خطابه لنبيه : قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57].
بيّنة من الله واضحة، آيات أنوارها ساطعة، أحكام أدلتها باهرة، لابد أن تكون معرفتنا بذلك واضحة، حتى في سنن الله الماضية، وفي حكمته البالغة، التي نقرأها في آيات كتابه، ونرى تطبيقها في واقع الحياة، كل ذلك له أهميته.
ولذلك لا يُمكن حينئذٍ أن يكون شكٌ ولا ارتياب، ولا حيرة ولا اضطراب، ولا ترددٌ وتشكك، إذ هذه هي البيّنة الواضحة، والرؤية التي ليس فيها غبشٌ مطلقًا: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [يونس:105].
قال الله جلّ وعلا في خطابه لرسوله ليُخاطب البشرية كلها والناس أجمعين: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ [يونس:104-106].
ثم من بعد آياتٍ قليلة، يعود الخطاب إلى رسول الله، ليصبح بها أمام الناس كلهم والخليقة جمعاء: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يونس:108، 109].
نبقى على ثوابتنا، ونعرف عاقبتنا وخاتمتنا، لأن الله جلّ وعلا قد قال: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49].
ونوقن ـ أيضًا ـ في وضوح رؤيتنا أن الدائرة على الكافرين، كما كُسر الكياسرة، وقُصر القياصرة، وأُغرق فرعون، فإن ظَلَمة اليوم من الغزاة المعتدين ـ أمريكيين أو بريطانيين ـ عاقبتهم ـ ولو بعد حين ـ إلى ذل وهوان، فلا ينبغي أن تكون هناك عجلة، ولا ينبغي أن تكون هناك حيرة، قد تكون لهم جولة، وقد يكون لهم نصرٌ في دائرة أو ميدان، فهل يعني ذلك أن يَدِب اليأس في النفوس؟ وهل يعني ذلك أن الكفر ظهر على الإيمان؟ وهل يعني ذلك أن نتشكك في حقائق القرآن؟ وهل يعني ذلك أن تضطرب الآراء وتحتار؟
لقد رأى رسول الله ذلك ببصيرته النافذة، وكان قد أعلن عن نتائج كثير من معاركه وغزواته قبل بدئها، ألم يكن في يوم بدرٍ قد قال: ((هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله، هذا مصرع أبي جهل، هذا مصرع عُقبة بن أبي مُعيط، هذا مصرع أمية بن خلف)) ، لماذا؟ لأن يقينه بالله كان عظيمًا، ولأنه يعرف أن سنة الله ماضية في نصر من نصر الله، إن تخلّف وعدٌ فلم يكن تخلّفه لذات الوعد، وإنما لتخلّف شروط تحقق الوعد.
فلا ينبغي أن نُسرف في عواطفنا، وأن نُجاري هذه الموجات الإعلامية، التي تتلاعب بعواطف الناس، ثم لا يكون لهم من بصيرتهم، ورؤيتهم، ويقينهم، ومعرفتهم القرآنية والإسلامية ما يكشفون به ذلك.
ولقد كان في يوم أُحد ألم لرسول الله ومن معه، فأي شيء صنع عليه الصلاة والسلام؟ هل استسلم لليأس؟ وهل شك أصحاب محمد في نبوّته؟ وهل ظنوا أن الإسلام قد ذهبت ريحه، وانقضت أيامه، وزالت دولته؟ لم يكن من ذلك شيء، في اليوم الذي يليه خرج بهم رسول الله ليلحقوا عدوهم، ليُثبتوا أن الهزيمة لم تصل إلى القلوب، وأنها لم تبلغ النفوس، وأنها لم تُخالط العقول، وأنها لم تُغيّر الشعور.
ذلك هو الذي كان يقصده رسول الله ، لم يكن يقصد مجرد المواجهة المادية، بقدر ما كان يريد تثبيت الروح والقوة، والفهم المعنوي لأصحابه رضوان الله عليهم.
وهكذا كان في كل واقعة عليه الصلاة والسلام، يوم بدأت حُنين بما بدأت به من ارتداد بعض الأصحاب في أول الأمر، واختلاط الرؤية، وتضارب جيش المسلمين، ونزول السهام والنبال عليهم كوقع المطر، ثبت عليه الصلاة والسلام وأي شيء كان يقول؟
بعض الذين كانوا من مُسلمة الفتح، لم يثبت الإيمان في قلوبهم، قال بعضهم: بطُل اليوم سحر محمد، لم تكن عندهم وضوح رؤية، لم يكن عندهم صدق إيمانٍ بعد، فهل نقول مثل ذلك إن وقعت واقعة أو حلّت كارثة؟ كلا ينبغي أن لا يكون ذلك، لقد قالها عليه الصلاة والسلام:
((أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)).
رفع بها صوته، ثبت في موقعه، تقدّم في مواجهة عدوه، ثابت العقول إلى رشدها، رجعت العزائم إلى قوتها، انعطفت الجيوش إلى مقدّمتها، فعادت الجولة والنصر إلى أهل الإسلام والإيمان.
ويوم كُسر المسلمون في بغداد في محرم من عام 656هـ، وكان ما كان من قتل 800 ألف، أو 800 ألف وألف ألف، كما ذكر ابن كثير في تفسيره، واستمر القتل 40 يومًا، وسالت الميازيب من دماء المسلمين، وبلغ نتن جيافهم إلى بلاد الشام، أمرٌ عظيم، قامت الأمة من كبوتها، ونهضت من وهدتها، واستعادت عزيمتها، لأن كتابها بين يديها، لأن سنة نبيها أمامها، لأن القوة الموّلدة موجودة، بقي أن نوصلها بنا، وأن نرجع إليها لنشحن أنفسنا بها.
في الخامس والعشرين من شهر رمضان، في يوم الجمعة عام 658هـ، بعد أقل من 3 أعوام، نهض المسلمون، وواجهوا التتار وكسروهم وهزموهم وتتبعوهم، حتى لم يبق منهم أحد.
وذلك ما ينبغي أن نعرفه، ليست مواجهتنا لأهل الكفر والعدوان في ميدان واحد، ولا في جولة واحدة، ولا في دولة واحدة، فإن رأينا ذلك كذلك وخسرنا الجولة أو ذهبت الدولة، كأنما نسينا كل شيء، كلا ينبغي أن نُدرك أننا نؤسس ونواجه أعداءنا على مدىً طويل من الزمان، كما فعلوا، وكما يفعلون، وأننا نواجههم في كل الميادين، قتالية، وفكرية، وخُلقية، وعقدية، كما يفعلون.
قطفوا الزهرة قالت: مِن ورائي برعمٌ سوف يثور.
قطعوا البرعم قالت: غيره ينبني في رحم الجذور.
قلعوا الجذر من التربة قالت: إنني من أجل هذا اليوم خبأت البذور.
كامنٌ ثأري بأعماق الثرى.
وغدًا سوف يرى كل الورى.
كيف تأتي صرخة الميلاد من صمت القبور.
تبرد الشمس ولا تبرد ثارات الزهور.
وذلك ما ينبغي أن نستحضره في رؤيتنا، أن يبقى ولاؤنا لله، ولعباد الله، ولدين الله، وأن يبقى بُغضنا وبراؤنا لأعداء الله، وتربصنا بهم الدوائر، وشحذ هممنا للقائهم، وتغذية أبنائنا ورضاع ذلك مع لِبانهم، فإنها ليست جولة واحدة.
إن اغتصاب الأرض لا يُخيفنا.
فالريش قد يسقط عن أجنحة النسور.
والعطش الطويل لا يُخيفنا.
فالماء يبقى دائمًا في باطن الصخور.
هزمتم الجيش إلا أنكم لم تهزموا الشعور.
قطعتم الأشجار من رؤوسها وظلّت الجذور.
أبقوا الجذور للإيمان في قلوبكم، فسوف تبسق شجرته، وتَينَع ثمرته، ويعظم ظله ويشمخ بإذن الله عز وجل، رغم أنف كل قوى الأرض قاطبة، وإن عظمت، وإن تضخّمت، وإن هوّل الناس هولها، وعظّموا أمرها.
ثانيًا: معرفة الخلل وطريق العمل، لا ينبغي أن نُخادع أنفسنا، ما الذي آل بنا إلى هذا الأمر؟ ما الذي جعل عجزنا واضحًا فاضحًا؟ ما الذي جعل ذلنا ظاهرًا بيّنًا؟ ما الذي جعل خلافنا مؤسفًا محزنًا؟ ما الذي حلّ بنا؟
نعم ذلك كيد من أعدائنا، وهل يُتصور من الأعداء إلا ذلك؟ لكننا نريد أن نُكاشف أنفسنا، أن نضع النقاط على الحروف، أن نقرأ آيات القرآن الكريم: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
انتبه إلى هذه المعاني، ولقد جاءت صريحة واضحة، ليس فيها مداراة ولا مجاملة، خطب بها سيد الخلق ، وصفوة البشر من أصحابه رضوان الله عليهم، في حادثة واحدة، في معصية، ومخالفة واحدة، في يوم أُحد جاء الخطاب الربّاني: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165].
كيف وقع هذا؟ كيف حلّ بنا هذا؟ كيف وبيننا رسول الله ؟ كيف ونحن ننصر دين الله؟ لقد كان ذلك والرسول معهم، وصحبه والصفوة المختارة، فهل تجاوزتهم سنة الله؟ وهل لم يمضِ عليهم قدر الله؟
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ.
كلامٌ واضح، ومباشرة صريحة، نفتقدها ونداري أنفسنا ونُغالطها، ونقول هنا وهناك، ونرمي بالتبعة على الحكام، أو نُلّبسها على الحكام، أو ندفع بها نحو الأعداء، وكأننا من كل ذلك براء، وكأننا مُطّهرون ليس فينا نقصٌ ولا عيب، وكأننا لسنا سببًا من أسباب هذا البلاء، وكأننا لسنا طريقًا من طرق تسلط الأعداء.
إن لم يكن هذا هو وقت المصارحة والمواجهة، ولقد تنزّلت الآيات يوم أُحد والجراح ما زالت نازفة، والحزن ما زال في القلوب يعصرها، وفي النفوس يثريها ويؤلمها، ومع ذلك جاء الوضوح القرآني والمنهج الرّباني، فهل نحن قادرون على أن نقول: نحن أصحاب الأخطاء، ونحن جزء من البلاء، ونحن الذين مكنّا في بلادنا وديارنا وأوضاعنا وأحوالنا للأعداء.
هل نقولها؟ ينبغي أن نقولها؟ وينبغي أن لا ننظر يمنة ويسرة، بل أن ننظر إلى ذوات أنفسنا، أن ننظر في المرآة إلى أحوالنا، أن نكشف خللنا، إذا عرفنا مصدر الخلل، يُمكن أن نعرف مصدر الإصلاح والعمل، وذلك أمره بيّن.
إذا شكا أصحاب النبي وقالوا ما قالوا، وهم مَن هم من أمرٍ يسيرٍ، ومخالفة واحدة، فكيف نحن نسأل اليوم: لِم يجري ذلك؟ ولِم يحل بنا ذلك؟
ألسنا نرى معاصي تبلغ إلى درجة الكفر؟ بنبذ دين الله، والاستهزاء بكتاب الله، والتعدّي على شخص رسول الله ، تقع في ديار المسلمين، وبلسانٍ عربي مبين، ألسنا نرى فسقًا وفجورًا؟ ألسنا نرى غير ذلك مما تعلمون؟
وهذه مرة أخرى في وصف أُحد: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران:152].
تقتلونهم قتلاً قويًا سريعًا أي في أول المعركة: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:152].
لابن القيّم كلمات كثيرة انتخبت منها واحدة يقول فيها: "من آثار المعاصي والذنوب: قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الوقت، ونفرة الخلق، والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم، ولباس الذل، وإهانة العدو، وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء، وطول الهم والغم، وضنك العيش، وكسف البال".
كل ذلك يتولّد عن المعصية والغفلة عن ذكر الله، كما يتوّلد الزرع عن الماء، لِم لا نبحث في ذلك، كما كان يعرفه ويتشّربه سلفنا الصالح.
عن ثوبان رضي الله عنه، عن رسول الله قال: ((وإن الرجل ليُحرم الرزق بالذنب يُصيبه)).
كانوا يرون أن خفاء المسألة، أو أن نسيان النص، إنما هو بسبب الذنب، ومن مقالات السلف: "كان أحدنا يجد أثر الذنب في خُلق زوجته ودابته".
إذا رأى في زوجته خُلقًا سيئًا اتهم نفسه أنه قد قصّر وأساء، فابتلاه الله بذلك في أدّق الدقائق، وفي أبسط الأمور، كانوا يعرفون ويوقنون أنهم من الأسباب، فيبدؤون أولاً بعلاج أنفسهم.
لله در أبي هريرة رضي الله عنه صاحب رسول الله وهو يقول لنا: (ما بالك تُبصر القَذَى في عين أخيك، ولا تُبصر الجَذَع في عين نفسك).
نحن بصيرون بالبحث والتنقيب والاستخراج لعيوب الناس، ونحن أعمى الناس عن عيوبنا، وأغفل الناس عن تقصيرنا.
إن كنّا نريد في هذه المحن والفتن، أن نخرج منها بخير، فلتكن معرفة تقصيرنا وتفريطنا أول ما نبدأ به، ونحن نعلم أن طريق العمل كما قال الله جلّ وعلا: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
الجانب النفسي، وهو مهم جدًا أيضًا، ونذكر فيه أمرين:
المشاركة الشعورية العميقة الصادقة، أين أخوة الإيمان؟ أين آصرة الإسلام؟ أين الصورة المثالية العظيمة الفريدة والمثل، الحي الكامل الذي ضربه سيد الخلق : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمى)).
لقد كنت أُحدّث نفسي، وحدّثت بذلك بعض الناس، قلت: إني أُنكر من نفسي أن حزنها ما زال قليلاً، لا يكافئ المصاب والخطب العظيم، وإن ألم القلب ما زال دون المطلوب بكثير، وإننا ما زلنا نستطيع أن نضحك، وأن نفرح، وأن نلهو، وأن ننام، وأن نطعم، وأن نشرب، وكأن خنجر لم يُطعن في قلوبنا، أو لم يدخل وينفذ إلى ظهورنا، وكأننا لسنا مصابين بذلك المصاب الضخم الهائل، كأننا لن يكون منا هذا الأثر النفسي، حتى يكون المصاب في أنفسنا، وفي أعراضنا، وفي بيوتنا وحرماتنا.
لقد كان صلاح الدين لا يضحك ولا يتبسّم، فلما قيل له في ذلك قال: "كيف أضحك وبيت المقدس في أيدي النصارى؟".
ذلك كان همهم وحزنهم، قد خالط شغاف قلوبهم، وجرى مع دمائهم، في عروقهم، لم يملكوا معه أن يناموا، وأن يهجعوا، ولا أن يلهوا، ولا أن يضحكوا.
لا بد أن نُعمّق هذا الشعور، وأن نجعله عظيمًا في قلوبنا.
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلام وإيمان
لا بد أن نستشعر هذه المعاني، وأن نُعمّقها في نفوسنا ونفوس أبنائنا، أن لا يتبلّد الإحساس ونحن نشاهد المناظر أمامنا، كم طفل رأيناه مشّوه الوجه قد قُتلت براءته؟ كم أمٍّ رأيناها وهي تبكي على رضيعها وصغيرها؟ كم رأينا ممن فقدوا دُورهم وأموالهم؟ ليس اليوم، ليس في العراق وحسب، بل في فلسطين على مدى 50 عامًا، وفي كشمير مثلها، وفي غيرها، وفي غيرها، وما زال الحزن في نفوسنا قليلاً.
ولقد قلت هذا لأني أعني به نفسي، وأرى أننا إن لم يكن ذلك حُرقة نشعر بها، تقض مضاجعنا، تؤرق نومنا، تجعلنا لا نهنأ بعيشنا، إن لم يكن ذلك كذلك، فلنتهم أخوتنا، ولنتهم صدق مودتنا، ولنتهم تلاحمنا كالجسد الواحد، الذي أخبر عنه رسول الله.
قلبي يفيض أسىً وعيني تدمعُ والجسم من فرط الضنى متضعضعُ
نار تمور بها الحشا وتألمٌ يثري نياط القلب فهي تقطّعُ
حرٌ يُسام أذىً ويُهتك عِرضه قهرًا فيا لله كم ذا مُفزعُ
وفتاة طُهرٍ بالحجاب تلّفعت عنها حجاب الطُهر قهرًا يُنزعُ
وبيوتهم فوق الرؤوس تهدّمت والطفل مات وأمه تتوجعُ
أفليس في قلوبنا رحمة إنسانية، وأخوة إيمانية، وعاطفة إسلامية؟ لا، لم نُذكها ما لم نُحركها، ما لم نقصد بذلك أن نقويها، فلن تكون لنا تلك الحركة الإيجابية التي نرجوها ونأملها.
ثانيًا: القوة والعزة، فلسنا نريد لهذه الأحزان أن تنال من عزيمتنا، ولا أن تُوهن من قوتنا، ولا أن تُضعف من عزتنا، كلا نريدها وقودًا يتّفجر قوة، ويتطاير عزة، نريد أن نؤكد في كل الظروف والأحوال، بل في ظروف المحن والفتن على وجه الخصوص، أننا نستعلي بإيماننا، وأننا نشرف ونفخر بإسلامنا، وأننا نرفع رؤوسنا، وأننا سادة الدنيا، وأننا نُعلّم البشرية، وأننا قادة الإنسانية، وأننا دعاة الحرية، نحن أمة محمد ، نحن الأمة التي اختارها الله عز وجل لتكون الأمة الباقية إلى قيام الساعة، ولتكون الأمة الشاهدة على الأمم يوم القيامة: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].
ما بالنا في نفوسنا وهنٌ، في قلوبنا ذلٌ، في أحوالنا تقهقرٌ، ما لم يكن ذلك كذلك، فإنه لا يُرجى أن يتوّلد لنا عملٌ، وأن تكون لنا حركة، لا بد أن نستحضر قول الحق سبحانه وتعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
أقدامنا فوق كل الرؤوس، وإن علت وشمخت بقوتها المادية، فإن قوتنا الإيمانية أعظم، وإن جولتنا معهم أوسع وأشمل، وإن نصرنا عليهم مؤزّرٌ مؤكد، ليس في ذلك أدنى شكٍ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ينبغي أن نُدرك ذلك، وأن نستحضر موقف رِبعي بن عامر ـ وكلكم يعرفه، وقد قلناه وكررناه لأنه موقفٌ يدل على ما ينبغي أن يعمر قلوبنا ونفوسنا ـ يوم دخل على أبهة المُلك عند رستم، قائدٌ عظيمٌ من قادة الفُرس في بهرج الدنيا، وزُخرف الحضارة، وقوة الجُند، وهيبة المُلك، هل لفت نظره شيءٌ من ذلك؟ هل أضعف شيءٌ من ذلك قوته وعزيمته؟ هل نال من فخره وعزته؟ دخل يُخرّق الطنافس برمحه، ويسير إلى أن يجلس على سرير مُلكه، ثم يُخاطبه عندما سأله ذلك السؤال: ما الذي جاء بكم؟ قال: جئنا لنُخرج العباد من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
لله درك نموذجًا من نماذج العزة ووضوح الرؤية، نفتقده ونفتقر إليه، كن مسلمًا قويًا عزيزًا.
فإنك لا تُلين لهم الجنابا وإنك لا تُقيم لهم حسابا
ولا تُبدي لهم ملقًا وزُلفا ولا تهدي لشيبهم خضابا
وغيرك ينسج الألفاظا عُهرًا يدغدغ في عهارتها الرغابا
وغيرك لا يُجيد الرقص إلا على أوتارهم ولها استجابا
ورأسك يا أمير القوم قاسٍ ومن قبل المشيب أراه شابا
لأنك مسلمٌ ستظل حربًا على الأشرار تُرهقهم عذابا
تذكروا وصيحوا دائمًا بأن الإيمان أعلى وأجلّ، ويوم قال أبو سفيان بعد أُحد، وقد رأى شيئًا من نشوة انتصارٍ عابر، أو جولة قليلة، صار يُصيح ويُنادي: أين محمد ؟ أين أبو بكر؟ أين عمر؟ ويقول الرسول : ((لا تُجيبوه)) حكمة وحيطة، فلما قال: اعْل هُبل، أراد أن يفتخر بعقيدته، أراد أن يُعلي عقيدته، فقال الرسول : ((أجيبوه)) فانتدب الفاروق عمر، فلما قال أبو سفيان: اعْلُ هُبل، قال: الله أعلى وأجّل، فقال: يومٌ بيوم بدر، قال: لا سواءً، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
يبقى راشد العقل، قوي العزم، رابط الجأش، لا تنال الأحداث من قوته وعزته.
نسأل الله عز وجل أن يُقوّي قلوبنا، وأن يُعز نفوسنا، وأن يربطنا به.
لا بد لنا أن نستحضر هذه المعاني، وأن نتواصى بها، ولقد كنت أريد ـ أيضًا ـ أن أُضيف إلى حديثي هذا الجانب العملي، وهو جانب فيه كثير من الخطوات، وكثيرٌ من الميادين، ولكن المقام يقصر عنه.
لعلنا ـ أيها الإخوة الأحبة ـ أن نُكثر من التجائنا إلى الله عز وجل ودعائنا إليه سبحانه وتعالى، وسأجعل حديث الجانب العملي في لقائنا وجُمعتنا القادمة، إن مد الله في الأعمار.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرد كيد الكائدين، وأن يدفع شر المعتدين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3212)
خطوات عملية في أوقات المحن (2)
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
علي بن عمر بادحدح
جدة
سعيد بن جبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاستزادة من الطاعات أهم خطوات الإصلاح. 2- التهاون في الصلاة سبب طول النقم. 3- الصيام تهذب شهوات النفس ويصلحها ويُربيها. 4- في البذل والإنفاق تمحيص النفوس. 5- المداومة على الدعاء من أسباب تنزل النصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، قد يكبر الجرح، ويكثر النزف، وتعظُم البلية، وتتضاعف الرزية، ولكننا ينبغي أن نعي أن البكاء لا يشفي، وأن الدمع وحده لا يروي، وأن الحزن ـ وإن عظُمَ ـ لا يُغني، وأنه لا بد من أن نعود إلى نفوسنا لنشحذها همةً وعزيمة، وإلى قلوبنا لنملأها إيمانًا ويقينًا، وإلى عقولنا لحشوها رشدًا وبصيرة وهداية، وإلى أحوالنا لنُشيع فيها إصلاحًا وإحسانًا واستقامة.
لا بد أن لا نكون متأثرين بردود الأفعال، ويكون كل حدثٍ يمر وكل مصيبة تحل سحابة صيفٍ، تنقشع فتعود العقول إلى غيها، وتعود الألسنة إلى لغوها، وتعود النفوس إلى لهوها، وتعود الأوضاع إلى حالها، لا يتغيّر من ذلك شيءٌ، فلا يحصل من أثر الخير الذي نرجوه ما نأمّله من رحمة الله، وما ننتظره من نصر الله، وما نتوق إليه وندعو به من هزيمة أعداء الله، لأن سنن الله جلّ وعلا ماضية، ولأن قدره غالبٌ سبحانه وتعالى.
نقف اليوم مع خطوات عملية لنهضة الأمة، ولئن طال حديثنا فيه فإنه أمر جديرٌ بذلك.
إن مشكلتنا الكبرى أننا نُغالط أنفسنا ولا نصارحها، ونجاملها ولا ننصحها، وأننا كثيرًا ما نبحث عن الأخطاء هنا وهناك، ونُعلّق المسؤوليات على هذا وذاك، ونرمي أعداءنا بفاحش القول وعظائم التُهم، ولا ننظر إلى أنفسنا لنرى قصورنا، ولنعرف الوهن الذي يأتي من قِبلنا، ولننظر إلى الثغرات التي يجوس الأعداء من خلالها عبرنا.
نحن نريد كما أسلفت مرات وكرّات، أن يكون ما يمر بنا من قدر الله عز وجل محرّكًا لنا نحو ما يريده الله جلّ وعلا منّا.
وقد ذكرنا ما يتعلّق بالفكر والنفس، لأنه أساس المنطلق، ولأنه قاعدة الارتكاز، ولأنه نور المستقبل الذي يُبصّرنا للطريق الهادي، والموصل لمرضاة الله سبحانه وتعالى.
وأما الخطوات العملية في الجانب العملي فكثيرة، ولكنني أوجز المهم منها في هذه القواعد، التي أحسب أننا نحتاج إلى مزيد من الحديث عنها.
أولاً: كثرة الطاعات، ونحن نعرف أن الخير إنما يُستجلب من الله بالتقرّب إليه، وأن من أراد رحمته تعرّض لها بطاعته، وأن من أراد مغفرته سعى إليها بمناجاته، وأنه لا يُمكن أن ننال من رحمة الله، ولا من نصره، ولا من عزه شيئًا ما لم ننصر الله جلّ وعلا، ما لم نُقبل عليه، ما لم نُحسن صلتنا به، ما لم نُعلّق حبالنا به، ما لم نُنزل توكلنا عليه، ما لم نُفضي بحوائجنا وذلنا وتضرّعنا بين يديه.
ما لم يكن أمرنا كذلك، فستظل قلوبنا مشرّقة ومغرّبة، وستظل آمالنا مخيّبة ومضيّعة، مرةً نعلّقها بمجرمين يتحدثون بألسنتنا، وفسقة يتصدرون في ديارنا، ومرةً نعلّقها بأعدائنا من اليهود أو النصارى، ومرةً قد نظن أن في أنفسنا قوة، وأن بين أيدينا أسبابًا تُغنينا عن صلة الله عز وجل، فحينئذٍ نؤتى كما أُتينا هنا وهناك.
ليست بغداد ولا أفغانستان، وليس ما قبلها وما بعدها، وإنما هو هذا الأمر الذي ينبغي أن نحرص عليه.
وأقولها في البدهيات وفي الأصول والأساسيات، لأنها التي جاء بها محمد ، لا يقل أحدٌ منّا: هذا نعرفه، فإن تقصيرنا فيه ظاهرٌ، وأقولها من بدايتها ومن أولها، ومن ألفها وبائها، حتى ننتهي إلى يائها، حافظ على أداء الفرائض من الصلوات.
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238].
هذه العبادة والشريعة والركن والفريضة، التي هي صلة العبد بربه، كما أخبرنا النبي بالمبادرة والمحافظة، استجابةً لأمر الله عز وجل، كما روى مسلمٌ في صحيحه من حديث المصطفى : ((ما من امرئٍ مسلمٍ تحضره صلاةٌ مكتوبة، فيُحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، إلا كانت كفّارة لِما قبلها من الذنوب، ما لم تؤتِ كبيرة، وذلك الدهر كله)).
ولعلّي أقولها صريحة: من أعظم أسباب ضعفنا وذلنا، أنه قد كثر فيما بيننا هجر الصلوات، وعدم أدائها بالكلية، فضلاً عن التفريط والتقصير والتأخير، وغياب القلب وذهاب العقل في أثناء أدائها.
فإذا كانت هذه الركيزة وتلك الفريضة، التي أخبر النبي أنها من آخر ما يُحلُ من عُرى الدين، فكيف بنا بعد ذلك نسأل: أين نصر الله الغائب المرتقب؟ أين الخير والعز والتمكين الذي تتوق إليه النفوس؟ إنه أمرٌ واضحٌ وبيّن.
احرص على شهود الجماعات، أين هذه الجموع الغفيرة في الصلوات؟ أينها مع النداء والأذان؟ أينها في الصفوف الأولى؟ كيف نريد أن نتقدم لمواجهة أعدائنا ونحن لا نُبادر ونتقدّم لطاعة ربنا؟ كيف نتنافس في ميادين الجهاد لقتال عدونا، ونحن لا نتنافس في السبق إلى مرضاة ربنا وأداء فرائضه سبحانه وتعالى؟
إنه لا بد لنا أن نعي وعيًا عميقًا أن هذا مرتبطٌ بذاك، وأنه مقدمة له، وأنه سببٌ مُعينٌ عليه، وأنه الذي يكون بإذنه سبحانه وتعالى بداية لِما يأتي بعده من الخير: قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:31].
والله جلّ وعلا قال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النور:56].
والمقيمين الصلاة بصيغة الجمع والجماعات، التي هُجرت إلا من رحم الله.
حتى قال ابن مسعود ـ مقالته في عهده وزمانه، مُحذرًا ومنبهًا ومذكرًا ومُرجِعًا إلى العهد الأول، الذي بناه وعلّمنا إياه رسول الله فماذا يقول ابن مسعود؟ يقول ـ: (من سرّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا، فليحافظ على هؤلاء الصلوات، حيث يُنادى بهن، فإن الله تعالى جعلهن لنبيكم من سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يُصلي هذا المتخلّف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم).
ويُخبرنا عن العهد الأول: (ولقد رأيتنا وما يتخلّف عنها إلا منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادَى بين الرجلين حتى يُقام في الصف).
كيف نواجه أعداءنا، ونستنزل نصر ربنا، وفينا نفاقٌ، أخبر ابن مسعود بأنه كان أمرًا واضحًا جليًا معروفًا معلومًا عند جيل الصحابة: (وما يتخلّف عنها إلا منافق معلوم النفاق)، ويخبرنا أنها من سنن الهدى، التي بها الهداية، وأن تركها تركٌ لسنن الهدى، وأن ترك سنن الهدى مقدمة للضلال والغي والانحراف، الذي تلّفعت به أمتنا ردحًا من الزمن، وما يزال فئامٌ من أبناء الإسلام يعيشون في ظلامه وغياهبه، ويدرجون في ضلالاته ومتاهاته، بعيدًا عن هدى الله، بعيدًا عن الصلة بالله، بعيدًا عن طاعة الله، بعيدًا عن بيوت الله، بعيدًا عن الأخوة في الله، بعيدًا عن استماع آيات الله.
كيف نرشد؟ كيف نصلح؟ كيف نستطيع أن نقوى ونعز؟ كيف نستطيع أن نجابه ونقاوم، وفينا مثل هذا الخلل الأعظم الكبير؟
إنه خطابٌ قد قاله الله جلّ وعلا في كتابه، وأخبر به رسوله في سنته، وتواصى ويتواصى بذلك كل أهل الإسلام في كل زمانٍ ومكان.
ولعلّي أعيد ما قلته، قد يقول القائل: مالنا نتحدث في هذه الأصول، وتلك البدَهيات المعروفة، وأقول: هل أغنى عرفانها والعلم بها عن التحقق والالتزام بها؟ أين نحن من ذلك؟ ونحن لا نرى إلا خللاً وضعفًا وتقصيرًا وتفريطًا وابتعادًا وإغرابًا، عن كل هذه الأمور الأساسية المهمة.
ولعلّي أشير إشارةً قد أكثرت من الحديث فيها من قبل، لئن لم يقو أحدنا أن يُغالب راحته، وأن يجاهد نفسه، ويخرج في غلس الليل ليشهد صلاة الفجر، مبكرًا إليها، مقدمًا بين يديها سنتها التي هي خيرٌ من الدنيا وما فيها، فكيف نزعم أننا نسطيع أو أننا نريد أن نجاهد أعداءنا، وأن نصنع كذا وكذا: أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78].
تشهده الملائكة، وينام عنه لا أقول الآلاف ولا مئات الآلاف، بل أحسب أنهم ملايين من المسلمين.
يصب الأذان سمعه في ضوء الفجر، ولا يُصب في آذانٍ كثيرة، قد بال فيها الشيطان، كما قال رسول الهدى عندما أُخبر عن ذاك الذي لا يُصلي حتى يصبح قال: ((ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه)).
أخبر أهل العلم في شرح هذا الحديث، بأن المراد بأنه تمّكن منه تمكنًا، حتى جعله موضعًا لقاذوراته ونفاياته.
نحن قد نكون ـ أنا وأنت ـ من هذا الصنف في بعض الأحوال، وبعض من المسلمين لم يعد في قائمة حياته وبرنامجه اليومي أن يُصلي صلاة الفجر في وقتها، فضلاً عن أن يؤديها في جماعة، بل صار وقت الدوام والعمل أو السفر والارتحال أعظم عند كثيرٍ من الناس من طاعة الله، وعبادة الله وأداء فريضة الله.
ثم نشكو من بعد ذلك، ولا نطلب الشفاعة التي نلتمسها في طاعة الله عز وجل، ولا نطلب الوقاية والحماية التي أخبر بها رسول الهدى في حديث جندب بن عبد الله عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((من صلّى صلاة الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه، ثم يَكُبّه على وجهه في نار جهنم)) رواه مسلم.
ثانيًا: صيام التطوع: وهذا بابٌ واسع من الصيام، فإنه عبادةٌ وتربية وطهارةٌ وتزكية، إنه قوة إيمانية، إنه قدرة على مواجهة صعوبات الحياة، وتهذيب شهوات النفس، إنه ضربٌ من ضروب القوة المعنوية المهمة، والاستعلاء الإيماني الفريد، والقدرة على حزم الأمر، وإمضاء الإرادة، وشحذ الهمة في أمرٍ من الأمور.
ونحن نحتاج إلى ذلك حاجةٌ عظيمة، لأن الصيام جُنة كما أخبر النبي ، ولأنه شفيعٌ لأصحابه يوم القيامة مع القرآن، ولأنه كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: ((ما من عبدٍ يصوم يوم في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا)).
لِم لا يجعل هذا ديدنًا لنا، لِم لا نجعل من هذه الأحداث ردًا لنا إلى مزيدٍ من الطاعات، أليس قد أخبر النبي بهذا، وقام به، وعمله، وانتدب إليه، واتبعه عليه أصحابه، فكان كثير منهم يدمنون ويديمون ويواصلون الصوم في كثيرٍ من الأيام، وخاصةً الأيام الفاضلة فكانوا حينئذٍ خِفافًا لينطلقوا إلى طاعة الله، وليلحقوا بالصفوف في الجهاد في سبيل الله.
ونحن إذا جاء هذا النداء، وقد مُلئت بطوننا، وقد ثقلت أجسامنا، وقد عظُمت شهواتنا، وقد شُغلت بهذه الملذات أفكارنا، فلا نكاد ننطلق: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة:38].
ينبغي أن نُدرك أن ضعفنا من قلة عبادتنا، والصوم عبادةٌ فيها الخفة والقوة المُحلّقة نحو مرضاة الله سبحانه وتعالى، في حديث عثمان بن أبي العاص عن رسول الله : ((الصيام جُنة من النار، كجُنة أحدكم من القتال، وصيامٌ حسنٌ ثلاثة أيام من كل شهر)) رواه ابن خزيمة في صحيحه.
فلا أقل من أن نحرص على هذا، فيكون لنا منه زاد.
وثالث ما نذكره في كثرة الطاعات: الإنفاق في مصالح المسلمين ونُصرتهم.
ولئن كان هذا الإنفاق سببًا من أسباب المادة، فإنه قبل ذلك سببٌ من الأسباب المعنوية الإيمانية، التي يُمحّص بها الإيمان، والتي تُبتلى بها النفوس، حتى قال النبي كما روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة: ((شر ما في رجل شُحٌّ هالِع، وجُبنٌ خالِع)).
وأخبر النبي أنه لا يجتمعان في قلب عبدٍ الإيمان والشُح، وقال الله جلّ وعلا: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
إنها النفوس المرتبطة بالأموال، المتعلّقة بالملذات، كيف نستطيع تهذيبها؟ كيف نستطيع أن نجعل فيها تعظيم أمر الله، ونُصرة دين الله، وإعانة عباد الله، قبل أن تكون مُسّخرة لشهوات البطون والفروج والملّذات والترف والنعيم؟
ما بالنا ننفق أموالنا في شهواتنا، ولا يكاد أحدنا تجود نفسه إلا بأقل القليل على مضضٍ وتردد، إذا دُعي للإنفاق في سبيل الله، ويقول: أريد الجهاد في سبيل الله، ولا يُجاهد بماله ليكون ضربًا من ضروب الجهاد، كما روى أبو داود والنسائي في سننهما من حديث رسول الله : ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)).
ونعلم كثيرًا من الآيات التي تُقدّم الأموال على الأنفس، فهل جاهدنا بأموالنا؟ وهل أدينا ما هو فرضٌ علينا أولاً، وما هو زائد على الفرض، لننصر ديننا، ونُعلي راية ديننا، أم أننا ما زلنا نبخل بذلك؟
هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
ليس أحد بأعز على الله عز وجل من أن يمضي فيه أمره، وأن تجري عليه سنته.
إن الله جل وعلا اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم.
والرسول عليه الصلاة والسلام أخبرنا كما في الصحيح أنه: ((من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا)) رواه مسلم.
ألست تكفل يتيمًا قد مات والده مجاهدًا مستشهدًا في سبيل الله؟ ألست تعين حينئذٍ على مواجهة أعداء الله؟ ما بالنا ننفق أموالنا لنقوي أعداء الله، ولنجعل الأموال في أيديهم، ليستعينوا فيها على حرب الإسلام وأهله؟
نداء نقوله بالعقل والقلب، وقبل ذلك بالدين والشرع، المدخنون كم ينفقون من الأموال؟ هذا ينفق قليلاً، وهذا ينفق قليلاً، وإذا بنا نقول وتقول الأرقام: إن عشرات الملايين من الريالات تنفق في بلدنا هذا على الدخان، أفهذا عقل عند من يرون أنهم مستهدَفون من أعدائهم؟! أفهذا تصرف حكيم عند من يقولون: إنهم يريدون أن يصلحوا أحوالهم، وينصروا أمتهم، أفهذه حكمة أو عقل يدل عليه؟! وانظر إلى ما وراء ذلك من السرف والترف في الزواج وفي غيره، وانظر إلى الإنفاق في البذخ وفي غير هذه الأبواب المعروفة، التي يشعر المرء كأن شيئًا منها لم يتغير، وكأنما ما جرى وما قد يجري لا يخصنا بشيء، ولا يغير من واقعنا شيئًا.
هل نحن غيّرنا بعض ما نصرفه على كماليات لا فائدة منها، ولا حاجة إليها، فضلاً عن محرمات ومكروهات وموبقات، نصرف فيها الأموال لندفعها إلى أيدي الأعداء، ولنشتري منهم، ولنأخذ منهم هذه المهلكات والمدمرات؟ ثم نقول بعد ذلك: إننا أمة مستهدفة، ونريد أن نواجه، وأن نقاوم، ذلك أمر عجيب، بخل في الطاعات وسرف في المحرمات!
ولسنا نريد أن نقول ما كان عليه أسلافنا، لسنا نريد أن نذكر، وإن كان التذكير معروفًا ومهمًا، فعثمان يوم جهز جيش العسرة، يوم جعل كل ما في يده في خدمة دينه ونصرة أمته، وإعلاء إسلامه ومواجهة أعدائه، يوم نعرف ذلك فينا، يوم نغيّره في واقعنا، ننتظر أن يكون وراء ذلك ما وراءه.
لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ [الحديد:10].
مجرد التقدم في هذا الباب، يجعل هناك فرقًا في المراتب، واختلافًا في الدرجات، وينبغي لنا أن ندرك هذا وأن نعرفه.
ولعلّي هنا أختم بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهي تجمل لنا في حديث النبي الذي ترويه هذه الجوانب التي ذكرتها: ((ثلاث أحلف عليهن: لا يجعل الله عز وجل من له سهم في الإسلام، كمن لا سهم له، فأسهم الإسلام ثلاثة: الصلاة، والصوم، والزكاة..)) رواه أحمد.
هذه الأسهم أين حظنا منها؟ وأين نصيبنا؟ أول هذه الخطوات العملية كثرة الطاعات في هذه المجالات والفرائض، فإنها بداية التصحيح.
رابعًا: استدامة الدعوات، وليس الدعاء إذا حلّت المصائب ولا إذا نزلت النكبات، بل كما ورد في حديث النبي الذي رواه أبو هريرة عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء عند الرخاء)) رواه الترمذي والحاكم وصححه.
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ [النمل:62].
إنه الله سبحانه وتعالى الذي قال لنا: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
أين نحن من دعائنا قبل الصلوات، وفي أثناء الصلوات، وبعد الصلوات؟ أين دعاؤنا في المجتمعات والمنتديات، أن تفتتح بالدعوات، وأن تختم بالدعوات؟ أين نحن من دعائنا في السكون والخلوات، في جوف الليل وقبيل الفجر، وفي الساعات الأخيرة من هزيع الليل الأخير، يوم ينزل ربنا إلى السماء الدنيا فيقول: ((هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من داعٍ فأجيبه)) ، ليس في يوم النكبة، ولا في زمن المحنة، في كل يوم، فأين الغافلون، ونحن إلا من رحم الله منهم؟ وأين الداعون المتضرعون، ونرى كيف كان اليقين بهذا الدعاء، يوم كان الإيمان في القلوب راسخًا، ويوم كان الصلاح والاستقامة في الأحوال الباطنة والظاهرة بيّنًا، فكان أحدهم يدعو جازمًا وموقنًا بإجابة الله للدعاء، حتى اشتهر من بين الصحابة رضوان الله عليهم من كان مجاب الدعوة، كما في قصة سعد بن أبي وقاص.
وسعيد بن زيد، أحد العشرة المبشرين بالجنة، ادَّعت عليه امرأة زورًا وبهتانًا أنه أخذ شيئًا من أرضها، فلما كُلِّم في ذلك قال: كيف هذا، وأنا سمعت رسول الله يقول: ((من أخذ شبرًا من الأرض بغير حقه طُوِّقه في سبع أراضين يوم القيامة)) ثم قال: اللهم إن كانت كاذبة فأعمِ بصرها، واجعل قبرها في دارها، فعمي بصرها، وسقطت في بئر لها في دارها فماتت.
وأبو معاوية الأسود في مواجهة مع الروم، خرج علج من علوجهم، فكان من أشدهم أذىً على المسلمين، فجاء إليه بعض المسلمين فقالوا: هذا فعل كذا وكذا، فادع الله عليه، فأخذ حربته ودعا فقال: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، ثم قال: أين تريدون؟ قالوا: المذ كير، فرموا بها فما أخطأ موضعهم الذي قالوه، فقتل الله عدوه سبحانه وتعالى.
إن بعض الناس ما زلوا يقولون: وما نفع الدعاء، دعونا فلم يجب الله دعاءنا، وما علموا أنهم ما استوفوا شروط إجابة الدعاء، وأنهم قد دنسوا طريق الدعاء والقبول إلى الله عز وجل بكثير من ضعف اليقين وخور الإيمان، إضافة إلى الإعراض عن الطاعات، والوقوع في المعاصي والسيئات، ونحن نقول هذا حتى نعظم الإيمان في قلوبنا، ثقة بالله سبحانه وتعالى، وإفضاء إليه في مكنون نفوسنا وضعف حالنا، كما كان رسول الله يفعل عند كل مواجهة لعدوه، وعند كل خطب يحل به، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرفع عنا البلاء.
ولعلّي ـ أيها الإخوة الأحبة ـ أؤكد أننا نحتاج إلى مثل هذه المعاني، بالأصول والقواعد والأركان والفرائض، أن نكون صرحاء مع أنفسنا، فلسنا في غنى عن التذكير بهذا والتواصي به، بل نحن في حاجة إلى التقريع عليه، والتوبيخ على التقصير فيه، بل نحن في حاجة إلى أن يحزم الأمر، ولو بشيء من الشدة والغلظة، حتى نؤدي هذه الواجبات، ونقوم بتلك الأركان، وليس هذا هو الأمر العملي الذي نتحدث عنه فحسب، فإن الذي ذكرناه الآن إنما هو الدائرة الأولى، الدائرة الأولى في ذات نفسك، ولنا دوائر من بعد دائرة الدعوة والتربية والإصلاح لعموم الأمة.
ودائرة رابعة مهمة، وهي دائرة الوقاية والمقاومة لأعداء الله، وينبغي أن نأخذ الأمور أولاً بأول، فإذا عجزنا عن الأصول، فنحن في الفروع أعجز، وإذا تركنا الواجبات فنحن للتطوعات أترك.
وهكذا، ولئن كنا نريد لأنفسنا الخير، فلنكن على أهبة الاستعداد لنعرف ونصارح أنفسنا بواقعنا، حتى لا يقال: إنه قد كان منا ما كان، ونحن نطلب النهايات، ولم نأتِ بالبدايات، ونرجو النتائج، ولم نأتِ بالمقدمات، ونريد المسببات، ولم نأخذ بالأسباب، فلعلّ الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه ردًا جميلاً.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3213)
معالم العصمة عند وقوع الفتن
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, مكارم الأخلاق
علي بن عمر بادحدح
جدة
سعيد بن جبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من سنته تعالى وقوع الفتن وحصول البلاء. 2- ظهور الفتن في هذا العصر وفشوها. 3- أحوال الناس عند وقوع الفتن. 4- تكالب الأعداء على الأمة المسلمة. 5- الاعتصام بكتاب الله تعالى أول ما ينجي عند الفتن. 6- تقوى الله عز وجل تثبت المرء أمام الابتلاء. 7- دأب الصالحين الدعاء عند حلول البلاء. 8- الغلبة والنصر حليف الصابرين الثابتين. 9- حقائق لا بد من الإيمان بها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمر مهم، وموضوع خطير، نحن في أمس الحاجة إليه مع تعاظم البلية، وتفاقم الرزية، وكثرة الاختلاف والتنابز بالألقاب، والتباعد والتجافي في الآراء، والافتراق والانقطاع في الصفوف، وغير ذلك مما نمر به ونشهده. نسأل الله سبحانه وتعالى العصمة من الفتنة.
والفتنة: الابتلاء والامتحان والاختبار، ثم صارت تطلق على المكروه، أو كل ما يول إليه من أمر من المكروه والسوء والشر والفساد. ونسأل الله عز وجل السلامة.
وقد اقتضت سنة الله سبحانه وتعالى وقوع الفتن، وجريان المحن؛ تمحيصًا للإيمان، تمييزًا للصفوف، وابتلاءً يصدق به الصادقون، ويظهر به الكاذبون، ويختم به ويصرف المنافقون، وقد قال سبحانه وتعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2، 3].
قال ابن كثير في تفسيره: "هذا استفهام استنكار، أي هذا سؤال على صيغة الإنكار، ومعناها: أن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان".
وقال السعدي رحمه الله: "سنته تعالى وعادته في الأولين وفي هذه الأمة، أن يبتليهم بالسراء والضراء، والعسر واليسر، والمنشط والمكره، والغنى والفقر، وإدالة الأعداء عليه في بعض الأحيان ومجاهدة الأعداء بالقول والعمل، ونحو ذلك من الفتن، التي ترجع كله إلى فتنة الشبهات المعارضة للعقيدة، وفتنة الشهوات المعارضة للإرادة". أما من صدق وثبت فأولئك هم المؤمنين.
ثم بين الله سبحانه وتعالى عاقبة هذا الابتلاء، فقال رحمه الله: "فمن كان عند ورود الشبهات لا تؤثر في قلبه شكًا وريبة، وعند اعتراض الشهوات تصرفه إلى المعاصي، أو تصدّه عن الواجبات دل ذلك على عدم صحة إيمانه وصدقه"، وقد نراه من تحير شكه في ثابت المقطوع به من دين الله، بل من غيره وبدله، وصار مخالفًا ومخالفًا واضحًا تمامًا للمقصد الظاهري البين مما جاء في آيات الله، وثبت في سنة رسول الله.
إنه ينبغي أن نعلم الإيمان ليست كلمة تقال، وإنما هو حقيقة ذات تكليف وأمانة، وذات أعباء وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال، والفتنة هي دلالة على أصل الإيمان، وهي سنة الله جل وعلا الجارية، ونحن لا نشك أبدًا أننا في زمن فتنة وأحداثٍ عظيمة وجليلة، لكننا عندما ننظر بنور الله، وعندما نستهدي بهدي رسول الله ، تنكشف لنا حقائق الأمور، وتتبدل ظلمات الشبهات، ونعزف بإذن الله سبحانه وتعالى عن إغراء الشهوات.
ولعلنا نصف واقعنا المعاصر وحالتنا الراهنة، التي يتكالب فيها الأعداء، وتفترق فيها الآراء، ليس بوصف من عندنا، وليس بقول من زماننا، وإنما بما ذكره المصطفى فيما صح عند الشيخين، من حديث أبي هريرة عن الرسول فيما وصف به أواخر الزمان، قال عليه الصلاة والسلام: ((يتقارب الزمان، ويُقبض العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرج)) قالوا: وما الهرج؟ قال: ((القتل)).
وهل ترون صورة أوضح وأدق في وصف أحوالنا اليوم، في تقارب هذا الزمان واختصاره، كما يطلقون عليه اليوم: قرية صغيرة، وقبض العلم بموت العلماء، وذهاب المخلصين الصادقين منهم إلا من رحم الله.
وظهور الفتن أي: كثرتها واشتهارها، كما ذكر الشراح، كلما ظهرت فتنة عظيمة ترقق التي قبلها، فتنة في شرق، تنسى فتنة الغرب، وفتنة في عقر داري، وبعد فتنة في الديار، حتى يرى الإنسان هذا الظهور والاشتهار والكثرة وراء الأعين، لا يحتاج إلى بيان، ولا إلى شرح، ويلقى الشر أي يغرس في النفوس.
وكم نراه ظاهرًا الهرج والقتل، وما أدراك ما هو؟ وكم أعداده؟ وما هي أسلحته الفتاكة؟ وما هي الجرائم والقوة العظمى التي تتولى كبره، وتحمل عاقبته وإثمه؟
ثم كذلك تنظر إلى ما بينه النبي في صورة توضحه أكثر، كما ورد في الصحيحين عند البخاري ومسلم أيضًا من حديث ابن زيد رضي الله عنه، أن رسول الله أشرف على أُطُم من آطام المدينة ـ أي: مرتفع من المرتفعات ـ ثم قال: ((هل ترون ما أرى؟ إني أرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القَطْر)).
قطر المطر يصيب كل شيء، فكل قطعة من الأراضي، وكل مكان من الأمكنة، وذلك بكثرة شيوعه، وعموم البلوى بمثل هذه الفتن.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن الرسول : ((بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، ويبيع دينه بعرض من الدنيا)) رواه مسلم في صحيحه.
والله لكأنا نرى ذلك رأي العين، ونرى من اسمه اسم المسلمين، وسمته سمتهم، ثم نرى حاله ومقاله وفعله لا يختلف عن فعل الكافرين، بل ربما كان أشد، ولأجل أي شيء يفعل ذلك؟ لا ترى سببًا ولا تستطيع أن تبحث عن علة، إلا أمرًا يتعلّق بدنياه، حفاظًا على روحه، ورعايةً لمصالحه، أو حفظًا لمطامعه، أو خوفًا على شيء من عرض هذه الدنيا.
قال الحسن البصري في تعليقه وبيانه في هذا الحديث، وهو من أفصح البيان وأوضحه: "يصبح الرجل مُحرمًّا لدم أخيه وعرضه وماله، ويُمسي مستحلاً له، ويمسي مستحلاً له، ويصبح محرمًا له".
أهواء تعبث، ومصالح تحكم، ودين يذوي، وإيمان يرق، ويقين يضعف. نسأل الله عز وجل السلامة.
ثم يقول الحسن رحمه الله عندما ذكر قوله : ((يبيع دنياه بعرض من الدنيا قليل)) ، قال: "فوالله لقد رأيناهم صورًا لا عقولاً، وأجسامًا لا أحلامًا، فراش نارٍ، وذباب طمع، يغدو يبيع دينه بدرهمين، يغدون بدرهمين ويروحون بدرهمين، يبيع أحدهم دينه بثمن العنز، والله لقد رأيناهم".
من القائل؟! الحسن البصري! في أي زمن؟! في زمن التابعين، ووجود بعض الصحابة الغُر الميامين، والله لقد رأيناهم صورًا لا عقولاً، وأجسامًا لا أحلامًا، ثم بيّن حالهم، أفلسنا نرى من ذلك ما هو أظهر، وما هو أشهر، وما هو أكثر، وما هو أخطر؟ بلى والله، ومن لم ير ذلك، فربما لم تكن حينئذٍ له عينٌ بصيرة. نسأل الله عز وجل السلامة.
واستمع إلى هذه الومضات الإيمانية القرآنية، التي تبيّن الافتراق بين المؤمنين الصادقين، والمنافقين الزائغين، والكافرين المعتدين الظالمين، التي تُبيّن كيف تُمحّص الفتن الناس، وكيف تُظهر مكنونات ما في قلوبهم، وتخرج دخائل نفوسهم، وتُظهر خواطر عقولهم، وتكشف ذلك في فلتات ألسنتهم في كثير من أحوالهم وأفعالهم: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10].
بمجرد الابتلاء اليسير والمحنة العارضة، نجد من ينسلخ من دينه، ويتجرّد من إيمانه، ويمسخ حتى من فطرته وخُلقه، وأي شيء؟ لأجل عذاب دنيوي، أو لأجل رهبة بشرية، وينسى عذاب الآخرة، وينسى قوة الله عز وجل، رب الأرباب، وملك الملوك، وجبّار السماوات والأرض، وينسى أن أمر الله جلّ وعلا بين الكاف والنون، وأن كل قوى الأرض لا يمكن أن يكون لها أثر ولا ذكرٌ ولا خبر إذا أراد الله سبحانه وتعالى إفناءها، وإذا أراد الله عز وجل ردها في نحور أربابها، وإذا أراد الله عز وجل أن تكون شِقوة لمن يأخذون بها، ويؤذون بها ويعتدون بها: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ [الحج:11].
أليس هذا حال نراه؟ أليست هذه صورة ينبغي أن تمتلئ قلوبنا رهبة وخوفًا من أن نكون من أربابها، أو نكون من أصحابها؟ إنها الفِتن التي تُقلِّب القلوب، وتعبث بالآراء، فإن لم يكن لنا من ذلك عصمة بالله، سنضيع مع الضائعين، ونزيغ مع الزائغين، ونهلك مع الهالكين. نسأل الله عز وجل أن يعصمنا، ونسأله سبحانه وتعالى أن يُنجينا وأن يجعلنا أوثق بما عنده مما في أيدينا.
إننا إذا تأملنا وجدنا حالاً تُصوّره الآيات، يشبه حالنا اليوم، وقد تكالب الأعداء وقد اختلفت آراء الأولياء والأحباء، بل تضاربت مصالحهم، بل وقد تهيأت أسباب ظهور صراعهم وعدائهم جلية واضحة، أي شيء في كتاب الله يُصوّر لنا ذلك؟
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:141].
سبحان الله، كأن الآيات تنطق بألسنة كثير ممن يقع منهم ذلك في هذا اليوم، فالله سبحانه وتعالى كما قال: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141].
قاعدة مطّردة، لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً، أينما وُجدوا، فلن يكون للكافرين عليهم سبيل، قد تكون جولة، ولكن الدولة تعود إلى أهل الحق إلى قيام الساعة، ولكن كثيرًا من الناس لا يوقنون، وعند الشدة لا يثبتون، وذلك هو أثر الفتنة التي يقضيها الله عز وجل، فإن ثبت الثابت، واعتصم بالله عز وجل، يوشك عمّا قريب أن تنكشف الغمة، وأن تُفرج هذه المُلمة، وأن يكون للناس من وراءها خير عظيم وفرج كبير ونصر عظيم، ولكن كثيرًا من الناس لا يوقنون، ولكن كثيرًا من الناس لا يصبرون، ولا يثبتون. نسأل الله عز وجل أن لا يجعلنا من أولئك.
وعندما نتلو هذه الآيات نجد ما بعدها مباشرة: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142].
ثم تُبيّن مواقف المنافقين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، أي شيء أوضح من بيان أن هذه المواقف هي مواقف النفاق، الذي لا يصدق معه الإيمان، إنما يكون ظاهرًا لا باطنًا، إنما يكون صورة لا حقيقة، إنما يكون مداهنة لأغراضٍ وليس صدقًا لحقيقة، كما هو الأصل في هذا الإيمان.
ولسنا نريد أن نفيض في الحديث عن الفتنة، فإنها مما يراه الناس ويعرفونه، ولكننا نريد أن نقف مع معالم العصمة من هذه الفتنة، والنجاة من هذا الهلاك، والخروج من هذا المأزق، سيما وأن الأحداث تتوالى، وأن البلايا تتعاظم، قد منّ الله عز وجل علينا بكثير مما نحتاج إليه، ونحتاج إلى التبصر به، حتى نسلم بعون الله عز وجل.
وهذه بعض المعالم، أولها: الاعتصام بكتاب الله وسنة رسول : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].
قال الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: "يعني بذلك جلّ شأنه وثناؤه وتعلّقوا بأسباب الله جميعًا، يريد بذلك تعالى ذكره تمسكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عهد إليكم في كتابه، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله".
قال ابن كثير: "وقد ضُمنت لهم العصمة عند اتفاقهم من الخطأ".
يُعصمون من الخطأ إذا ائتلفوا واتفقوا، ويُنجون من الآراء الزائغة والمواقف الحائرة والمواقف الخاطئة كذلك، وقد بيّن الله سبحانه وتعالى ذلك في آياتٍ كثيرة: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج:78].
عندما تأتي الفِتن وتشتد المحن، تجد الناس يلجؤون ويفزعون إلى ما يظنونه مستمسكًا ومستعصمًا وملجأ وملاذًا، فبعضٌ يرجع إلى قوة من قوى أهل الدنيا، وإن كانت قوى كافرة باغية ظالمة، يلتمس الأمن في ظلالها، والحماية في جوارها، والنصرة في طريقها أو في مسيرها، وذلك من أعظم الزيغ وأشد الفتنة وعظمة الارتداد عن دين الله سبحانه وتعالى، نسأل الله عز وجل السلامة.
والله جلّ وعلا يُبيّن أن لا عصمة إلا لمن اعتصم به: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ [النساء:146].
وغير أولئك لا ينجون، وغير أولئك لا يُصيبون، وغير أولئك لا يكون لهم ما يقع به أمنهم من الخوف، ولا نجاتهم من الهلكة، ولذلك لا بد أن نتأمل الآيات، وكثيرًا غيرها، وكثيرًا كذلك من أحاديث النبي : فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:175].
لا شك أن المسائل مختلطة، وأن الأمور محيّرة، فكيف تنكشف الطريق؟ وكيف يُعرف المسار؟ وكيف تنجلي الغمة؟ وكيف تُكشف الظُلمة؟ إنه لا كاشف إلا بنور الوحي، ولا بصيرة إلا ببصيرة الإيمان، ولا معرفة إلا بمعرفة اليقين، فكلما اعتصمنا بكتاب ربنا اعتصامًا حقيقيًا، عن وعي وإدراك، وعن إيمانٍ ويقين، وعن ثباتٍ وصبر، فإن ذلك هو العون الأساسي.
المعلم الثاني: تقوى الله، ونعني به ذلك التعلّق الذي يزداد عند الفِتن والمحن، والذي يعظُم عند الشدائد والكرب والبلاء.
مع أن كثيرًا من أحوال الناس إذا ازدادت الشدة ذهلت عقولهم، وفزعت قلوبهم، فانصرفوا عن حياض التقوى، وخرجوا من دائرة العبادة، لم يكن ذلك دافعًا لهم لمزيد من التعلّق، وكثيرًا من الارتباط بالعبادة والطاعة، لأن الناس في وقت الفِتن يُذهلون وينشغلون بأمور أنفسهم، وينصرفون كثيرًا عن أمور تعلقهم بطاعة ربهم وعبادته سبحانه وتعالى، أليس قد قال الحق جلّ وعلا: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2].
كُن مع تقوى الله سوف تجد ـ بإذن الله عز وجل ـ كل عسير يسير، وكل صعب سهلاً، وكل مغلق مفتوحًا، وذلك وعد الله القاطع، الذي لا يتخلف بإذن الله عز وجل.
وتأمل كيف يبيّن النبي أثر العبادة في وقت الفتنة على وجه الخصوص، وفي ذلك أحاديث كثيرة، عندما تتأملها تدرك أنه كلما ما زادت الفتنة، ينبغي أن تزيد العبادة والطاعة، هذا حديث مَعْقِل بن يسار رضي الله عنه، يقول فيه عن رسول الله كما روى مسلم: ((العبادة في الهرج كهجرة إليّ)).
وفي رواية أخرى عند الطبراني وهي صحيحة: ((عبادةٌ في الهرج والفتنة كهجرةٍ إليّ)).
قال الشُرّاح: لما كانت فتنة الدين كانت النجاة منها في زمنه الهجرة إليه، وإلى دار الإسلام، لتثبيت الإيمان وإعلاء رايته العبادة لله عز وجل.
فلما كانت الفِتن بعد وفاته ، كان المنجى هو العودة إلى العبادة والطاعة والاستكثار منها، فهي هجرة من المعاصي إلى الطاعات، ومن الفِتن إلى الثبات، ومن كل سوء إلى كل خير بإذن الله سبحانه وتعالى.
حتى أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: ((أن السجدة في زمن الفتنة تعدل الدنيا وما فيها)).
كم نرى من الناس انصرافًا وذهولاً، كلما اشتد الخطب، كلما زاد الشرود والبعد والغفلة عن الطاعة والصلة بالله سبحانه وتعالى.
والأمر الثالث: دعاء الله جلّ وعلا، وقد يكون ذلك مندرجًا فيما قبله، لكن التفصيل مهم، ولكن ذكر الآحاد والأفراد مهم.
أيها الإخوة الأحبة، وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].
أفليس وقت المحن هو وقت الدعاء المهم الخالص، الذي ينطرح فيه المؤمنون بين يدي الله؟ أليس رسولنا قد ضرب به المثل في سيرته، في كل شدة ومحنة، كانت يداه الكريمتان تُرفع تضرعًا إلى الله، وعينه تذرف تبتلاً وخضوعًا وتضرعًا إلى الله، وقلبه يخفق ولسانه ينطق؟
إنها صورة لا بد أن تعظم وتكثر في حياتنا الذاتية عمومًا، وعند هذه الفِتن خصوصًا، والله سبحانه وتعالى بيّن لنا أثر هذا الدعاء، وبيّنه لنا في سيَِر الرسل والأنبياء في آدم وزوجه: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].
عندما وقعت الفتنة بالأكل من الشجرة، كان المخرج الدعاء والتبتل والتضرع لرب الأرض والسماء، فكان الفيض، وكانت التوبة، وكانت النعمة من الله سبحانه وتعالى على آدم.
وفي قصة يونس عليه السلام نعرف ـ جميعًا ـ ماذا كان يقول في جوف الحوت، وماذا كان دعاؤه وذكره الذي كان سببًا من أسباب تفريج همه وكربه، ونجاته مما ألمّ به: أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].
وفي مثل هذا الدعاء إقرارٌ بالخطأ، واعترافٌ بالذنب، ورجاءٌ وابتهالٌ وتضرعٌ بالسلامة من الآثار الوخيمة.
ولذلك ورد كذلك في حديث النبي في هذه اللفظة: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، قال عليه الصلاة والسلام: ((لم يدع بها رجلٌ مسلم في شيء قط، إلا استجاب الله له)) رواه الترمذي في السنن.
ومن الدعاء الاستغفار، وهو من أسباب النجاة، كما قال الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33].
والإكثار من الذكر كما في قصة يونس، فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143، 144].
والله سبحانه وتعالى جعل لنا أنواعًا من ذكره ودعائه والتبتل إليه، من اعتصم بها، وأدمن عليها، وأكثر منها، أحيا الإيمانَ في قلبه، وعظمت التقوى في نفسه، وانكشفت البصيرة في عقله، وأصبح له من نور الله، ومن اعتصامه به، ومن الدعاء له، ومن تضرعه إليه، ما يفيء به إلى خير كثيرٍ بإذن الله.
ومن ذلك: الاستعاذة والتعوذ من هذه الفِتن، من شرورها وضلالها وزيغها، فقد قال رسول الله : ((تعوّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن)) رواه مسلم.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه في هذا التعوّذ: (لا يقولنّ أحدكم: إني أعوذ بالله من الفِتن، فإنه ليس أحد منكم إلا وهو مشتملٌ على فتنة، إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مُضلات الفِتن).
نسأل الله عز وجل أن يعيذنا من مُضلات الفتن، وأن يصرفنا عنها، وأن يفيء بنا إلى الحق والثبات والاعتصام بكتابه وسنة النبي.
ومن معالم العصمة الصبر والثبات، ولا بد من ذلك، فإنها محن لا بد أن تصيب بالأذى، ولا بد أن يشعر بما فيها من البلاء، ولكنّ الصابرين بإذن الله عز وجل تكون لهم الغلبة والمخرج السالم من أثر وخيم على إيمانهم ويقينهم، وعلى سلوكهم وأخلاقهم.
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].
هذه آية ناطقة بأثر هذا الصبر في مثل تلك المحن، وقد قال جل وعلا: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120].
لا يضرنا كيد الكايدين، ولا ظلم الظالمين، ولا عدوان المعتدين، وأهم شيء أن لا يضرنا في ديننا واعتقادنا وإسلامنا وثوابتنا، والتزامنا شرع الله سبحانه وتعالى، وهدي رسوله ، والله جل وعلا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153].
وكان المصطفى إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ما أعطي أحدًا عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر)) متفق عليه.
وقال في دلالة هذا الصبر عند المحن: ((يأتي على الناس زمان، الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر)).
ومن هذا الصبر ـ كما ذكر العلماء ـ الصبر في كف اللسان، والمنع من الخوض في الفتن من غير بصيرة وعلم وبيان، ونحن نعلم أن كثيرًا من القول في مثل هذه الأحوال باندفاع وعواطف ومجاراة لمن يقول، وخوض مع الخائضين، إنما تعظم به الرزية، ويكثر به الاختلاف، وتعظم به الحيرة والاضطراب، وأكثر ذلك ليس له أساس يثبت، وإنما هو محض هذه الاضطرابات والاختلافات، وكذلك التنابز بالألقاب، والاختلاف بين الناس، يعظم أثره بما يكون من قول اللسان في هذه الفتن.
وذلك أمر مهم، ولعلنا نختم هذه المعالم بحقائق الإيمان وأباطيل الكفر الواجب معرفتها في ضوء هذه الثوابت، فإننا نعرف من حقائق الولاء والبراء، ومن حقائق معرفة الظلم والاعتداء، ومن حقائق وجوب نصرة أهل الإيمان والإسلام، ومن حقائق الولاء لهم والبراء من أعدائهم، ما ينبغي أن لا يتغير، لأن آيات القرآن لا تتغير، ولأن الحقائق الإيمانية الثابتة المقطوع بها لا تتبدل، والله عز وجل قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [الممتحنة:1].
وبين سبحانه وتعالى حقيقتهم وقال: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2].
وقال سبحانه وتعالى لأهل الإيمان: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ [الممتحنة:4].
وهذا أمر واضح، هو الإيمان والكفر، من آمن بالله ربًا، وبرسوله نبيًا، وبالإسلام دينًا، فهو الذي نواليه، ومن برئ من ذلك بل وحاربه وعاداه، فنحن أعداؤه إلى يوم الدين، بدل من بدل، وغير من غير، سيما إذا اجتمعت حقائق أخرى من الظلم والبغي والعدوان.
إن الله عز وجل قد قال: لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8].
إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الممتحنة:9].
وأولئك قوم قد عرفنا أنهم أصحاب كل قتال لأهل الإسلام في كل ميدان، قد شهدت بذلك أدغال أفريقيا، كما شهدت به مواطن الضياء التي يزعمونها في أوربا، كما شهدت به مواقع شرق وغرب كثيرة.
ولا ننسى أنه لا بد لنا من معلم مهم، وهو النظر الشامل الكامل في الأحداث، فإنها ليست قضية واحدة، وإنها ليست مسألة عارضة، وإنها ليست مصلحة عابرة، وإنما هي قضية شاملة، ومواجهة كاملة، نحن لن ننسى، ولا يمكن أن ننسى، ولا ينبغي أن ننسى قضيتنا الأولى في حرب أهل الإسلام والإيمان مع اليهود وأحلافهم من الصليبين والنصارى، وقضية فلسطين ليست مما يجري ببعيد، هي أساسها وجوهرها، وهي هدفها وغايتها، وهي طريقها ومعبرها.
ينبغي أن ندرك حقائق كلية شاملة، لا أن نسير مع السائرين، إن تحدثوا غربًا نظرنا غربًا، ولم يكن لنا إلا الغرب، وإن جاؤوا شرقًا ذهبنا معهم، واهتممنا بما يقولون، وما يفعلون، وننسى أن وراء ذلك الحقائق الثابتة، والتاريخ الذي تشهد به لا الأيام ولا الأعوام، بل العقول والدهور والقرون.
ولذلك ينبغي أن نعرف ذلك، وأن نحرص عليه. وأخيرًا لا بد من الحرص فيما بيننا على أن نكون على قلب رجل واحد، وأن نسد أبواب الفتن والاختلاف التي تعظم الفرقة وتزيد الفتنة، حتى نبرأ بإذن الله عز وجل، وتنكشف الغمة، وتنجلي هذه الملمة، ولا بد لها من أن تكون كذلك، وليس لها من دون الله كاشفة.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3214)
القرآن نور الأنوار (2)
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
علي بن عمر بادحدح
جدة
سعيد بن جبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفهم والتدبر هو الغرض الأول من إنزال القرآن الكريم. 2- المفهوم الحقيقي للخشوع. 3- حال السلف الصالح مع القرآن الكريم. 4- السبيل إلى فهم وتدبر كتاب الله تعالى. 5- الأثر الذي يحصل من فهم وتدبر كتاب الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، حديثنا عن منبع الهداية ومعلم النور، الذي به حياة القلوب، وسكينة النفوس، ورشد العقول، واستقامة الجوارح، وطيب الحياة الدنيا، ونجاة الحياة الآخرة.
كتاب الله سبحانه وتعالى كلامه العظيم، حكمته البالغة، شريعته النافعة، ذلكم في سياق حديثنا عن المبادئ التي هي أعظم أسباب القوة، وأول أسباب النهوض، وعندنا مبادؤنا وعقاؤدنا وشرائعنا مصدرها الأول ومنبعها الأعذب، كتاب الله سبحانه وتعالى.
وقفنا لننظر ما السر في نكوصنا وهزائمنا وضعفنا، رغم ثبات مبادئنا ورسوخ عقائدنا، وحفظ كتابنا، ذلكم أن الصلة بيننا وبينه، وأن الأمر المطلوب منا له، ومعه، وبه، وفيه، يشهد نقصًا عظيمًا، وخللاً كبيرًا.
إن المهم الذي ينبغي أن نحرص عليه، والواجب الذي نركز فيه، هو الفهم لكتاب الله واليقين بما جاء فيه.
ونحن ما نزال في حاجة ماسة إلى قضية الفهم والتدبر، حتى نأخذ منها حظًا وافرًا، يقودنا إلى قوة اليقين، وعظمة الاعتقاد بكل ما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى من غير شك ولا اضطراب، ومن غير حيرة ولا تردد، الفهم والتدبر، والخشوع والتأثر، والخضوع والتمثل، هذه الثلاثة مدخلها الفهم والإقبال على القرآن إقبالاً صحيحًا، فهم يقود إلى تدبر، وخشوع يقع به التأثر، وخضوع واستسلام يقع به الاستجابة والتمثل لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ، أما الفهم والتدبر فآياته وأحوال رسول الله وصحابته فيه عظيمة.
كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].
والتفكر في آياته المسموعة وآياته المشهودة، ولهذا أنزل الله القرآن ليُتدبر ويتفقه فيه، ويُعمل به، لا لمجرد التلاوة مع الإعراض عنه، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله.
وأما مسألة الخشوع والتأثر، فنستمع إلى آية من كتاب الله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23].
ووصف الله عز وجل للمتأثرين الخاشعين بقوله: وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:109].
قال ابن تيمية رحمه الله: "إن خشوع القلب للقرآن واجب، ولابد أن نستحضر ذلك الوصف الذي وصفته أسماء في المتفق عليه، عندما قالت رضي الله عنها: (كان أصحاب رسول الله إذا تليت عليهم الآيات، كان وصفهم كما جاء في كتاب الله، تدمع أعينهم، وتخشع قلوبهم، تصديقًا لما جاء في هذه الآيات العظيمة).
وأما الخضوع والتمثل، فهو الغاية النهائية، الاستجابة الحقيقية، الامتثال الصادق، يقول فيه جل وعلا: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155].
الخشوع الحقيقي هو الانقياد للحق، ومن موجبات الخشوع الاستجابة والعمل، وفي حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه، قال النبي : ((يؤتى بالقرآن يوم القيامة، وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه البقرة وآل عمران)) ثم وصفهما النبي عليه الصلاة والسلام وقال: ((تحاجان عن صاحبهما)).
وشاهدنا قوله: ((أهل القرآن الذين يعملون به)) أولئك هم المنتفعون، أولئك هم المستحقون لشفاعة القرآن، أولئك الذين حييت به قلوبهم، وقويت به عزائمهم، ورشدت به عقولهم، واستقامت به أحوالهم، وكان حكمًا فيما بينهم، وفصلاً فيما يقع منهم من خلاف، تصديقًا لكتاب الله سبحانه وتعالى.
قال القرطبي رحمه الله: "فما أحق من علم كتاب الله أن يزدجر بنواهيه، ويتذكر ما شرح له فيه، ويخشى الله ويتقيه، ويراقبه ويستحييه، فإنه قد حمل أعباء الرسل، وصار شهيدًا في يوم القيامة على أهل الملل".
ليس أمرًا هينًا كلام الله عز وجل، كتابه وهدايته الأخيرة للناس، الذي تكفل بحفظه، فلذلك ينبغي أن يكون هذا هو الأصل الذي نتعامل به مع القرآن، حتى يحدث في نفوسنا أولاً التأثير المنشود، ثم يفيض على قلوبنا ومن قلوبنا ونفوسنا إلى واقع حياتنا، لنتحرك به ولنحرك به واقعنا، ونقوم به اعوجاجنا، ونستدرك به نقصنا، ونكمل به ما وقع من خلل في حياتنا، وذلك هو التأثير المنشود، الذي عندما فقدنا كثيرًا منه، ظل القرآن في حياتنا كأنما هو غائب شاهد، وكأنما هو قد عطل في واقع نفوسنا وقلوبنا، فتعطل في واقع حياتنا وأحوالنا.
وذلك ما كان أصحاب النبي يحذرون منه، ويستحضرونه دائمًا، روى الإمام أحمد في كتاب الزهد، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وهو من أرق الصحابة وأكثرهم مواعظ، كانت مواعظ قلبه تفيض على لسانه، فإذا بها تلج إلى القلوب وتأثر في النفوس يقول في معاني الصلة بالقرآن الكريم رضي الله عنه وأرضاه: (أخوف ما أخاف أن يقال لي يوم القيامة: يا عويمر، أعلمت أم جهلت؟ قال: فإن قلت: علمت، لا تبقى آية آمرة أو زاجرة إلا أخذت بفريضتها، الأمر هل ائتمرت؟ والزجر هل ازدجرت؟ وأعوذ بالله من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع).
هكذا كانت قلوبهم ونفوسهم، هكذا أدركوا أنه لابد من فهم وتدبر، يحصل به خشوع وتأثر، ينطبق ويليه استجابة وتمثل، وذلك الذي نحتاج إليه، ولعلنا هنا ونحن نريد أن نيسر الأمر على أنفسنا، وأن نعين أنفسنا على أن نبلغ مثل هذه الغايات، سيما في هذا الزمان الذي كثرت فيه الملهيات، وعظمت فيه المشغلات، وكثرت فيه الفتن، وتعاظمت فيه المحن، وصرفت القلوب بالشهوات، وضلت العقول بالشبهات إلا من رحم الله، أفلسنا في حاجة إلى عصمة نعتصم بها، وإلى ملجأ نلجأ إليه، فأي ملجأ أعظم من الله؟ وأي عصمة أعظم من عصمة كتاب الله؟ وأي نور يبدد الظلمات أعظم وأقوى وأبلج من نور الله عز وجل، ونور كلامه سبحانه وتعالى؟ كم نحن في حاجة ماسة إلى أن نعيد القول، ونردده ونكرره ونزيده في مثل هذه المعاني، ومهما زاد فإنه قليل، لأن البون شاسع، والهوة سحيقة، والفرق عظيم وهائل بين ما تنزلت به الآيات، وما دعت إليه الشريعة، وما هو واقع في الحياة، بل ما هو مستقر في القلوب والنفوس.
ولعلنا هنا نذكر بعضًا بما يعيننا على ذلك، ويؤدي بنا إليه في خطوات ميسورة بإذن الله عز وجل، لأننا لا نريد أن نلقي القول على عواهنه، ولا نريد أن يكون حديثنا مجرد كلمات عظيمة أو ضخمة أو بليغة، أو ربما يكون فيها شيء من التعظيم والتأثير المؤقت، الذي لا ينبني عليه عمل، ولا نخرج به إلى تغيير واقع، ولا نبدأ فيه في تغيير أحوالنا، علّ الله عز وجل أن يتداركنا برحمته، ويغير إذا غيرنا ما في نفوسنا وما في واقعنا، كما وعدنا الحق.
خطوات: أولها: حسن الاستماع والإصغاء لكتاب الله عز وجل. كم نسمع من نشرات الأخبار؟ كم يسمع كثيرون من الأغنيات؟ وكم نسمع من الأخبار والأحوال والأقوال، وكل ذلك يصب في قلوبنا كدرًا يخلط صفاء الإيمان، وظلمة تطفئ نور اليقين، وأحوالاً تقسو بها القلوب؟ كم نسمع من غيبة ونميمة؟ كم نسمع من لعن وشتيمة؟ أليس لنا حظ نطهر به القلوب، من إصغاء يفيض على قلوبنا الخير والنور والهدى والتقى؟ كم نستمع قبل أن نتلو؟ كم نستمع من الآيات والقرآن قد سجل في أشرطة ويبث عبر موجات الأثير، ويتلى حتى على الشاشات، ونستطيع أن نسمعه إذا واظبنا على الصلوات في الجماعات، وهو يتردد في المحاريب آناء الليل وأطراف النهار.
ما حظ آذاننا من هذا الإصغاء، وما حظ قلوبنا من هذا الإصغاء، حسن الاستماع هو الأول والمبدأ والفاتحة والبداية، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:18]، وتأمل بلاغة القرآن المعجزة الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ وليس يسمعون، فالاستماع أعظم من السماع، السماع كلام عابر يمر على أذنك، تكون سائرًا في طريقك، فهذا يتكلم لقد سمعته لكنك لم تستمع له، لم تلق له بالاً، لم تعطه أذنًا واعية، لم تعطه قلبًا حاضرًا، فذلك أمر آخر، إنما المقصود الاستماع الذي تتوجه له بكليتك، وتقصده بعنايتك، وتفرغ له من وقتك، وتهيئ له نفسك، وتستحضر له كل الأسباب التي يقع بها أثره.
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ، والفاء للتعقيب السريع، إن كان استماع حقيقي فثمة بإذن الله عز وجل استجابة صادقة، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ والله سبحانه وتعالى أمرنا بذلك، وبين أنه سمة هدايته: فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ [الزمر:18].
والحق جل وعلا يقول: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204].
وكذلك تأمل: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا ثم حينئذ تتنزل الرحمة، وتغشى النفوس والقلوب، ونرى حينئذ آثار الخشوع والسكينة، والتدبر والتأمل، عندما نحسن هذا السماع والإصغاء.
ومن كلام وهب بن منبه رحمه الله قال: "من أدب الاستماع سكون الجوارح، وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور القلب، والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى".
ومن كلام سفيان الثوري رحمه الله: "أول العلم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر"، فما أحرانا أن نبدأ بهذا، وهذا ليس لأحد فيه عذر، حتى الأمي الذي لا يقرأ، عنده فرصة سانحة لينهل من هذا الكتاب العظيم، المشغول الذي لا يفرغ، ليست له حجة، عنده وقت في سيارته، عنده وقت وهو مستلق على فراشه، أن يستمع هذه الآيات، عنده وقت لأن هذه الأسباب قد توفرت وتيسرت، لكنها الصوارف المشغلة، لكنها الاهتمامات المنافسة، لكنها الدنيا التي استولت على قلوب الناس إلا من رحم الله.
الثاني: حسن النية: وقد أخرتها وحقها التقديم، لننظر أنها فاعلة فيما قبلها وبعدها، ونعني بذلك أن نُقبل بصدق، وأن نستمع، وأن نتلو، وأن نتعلق بالقرآن في كل أحواله وأحوالنا معه، بنية خالصة، بنية نبتغي بها وجه الله تعالى، بنية نتلمس بها علاج أدواء قلوبنا، وبرء علل نفوسنا، وذلك ما نحتاج إليه، نحتاج إلى هذه النية الخالصة حتى تتحقق لنا النتائج المثمرة، فإننا نعلم أن كل أمر وعمل بلا إخلاص لا ثمرة له.
قال ابن القيم رحمه الله: "العمل بلا إخلاص كالمسافر يملأ جرابه رملاً، يُثقله ولا ينفعه، يحمل حملاً كثيرًا لكنه تراب، ليس له منه إلا ثقل الوزن دون النفع والفائدة، ومن هنا قال القرطبي: "إذا استمع العبد إلى كتاب الله تعالى، وسنة نبيه بنية صادقة، ما الذي يحصل له؟ عامله الله سبحانه وتعالى بما يحب الله له، أفهمه كما يجب، وجعل له في قلبه نورًا".
ومن كلام ابن تيمية: "من تدبر القرآن طالبًا الهدى منه، تبين له طريق الحق، والله عز وجل قد وعد من أقبل، أقبل الله عليه، ومن صدق وأخلص، أثاب الله عليه، ومن تجرد لله سبحانه وتعالى، أعطاه الله عز وجل بقدر إخلاصه" وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
وذلك أمر نحتاج فيه إلى مجاهدة نفوسنا.
والثالث: حسن التلاوة: وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل:4].
((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) كما أخبر المصطفى فيما رواه البخاري. قال النووي رحمه الله: "اعلم أن التلاوة أفضل الأذكار، ليس هناك شيء أفضل من ذكر الله عز وجل، وأفضل ذكر الله كلامه سبحانه وتعالى، وتلاوة كتابه، فما بالنا كذلك منقطعين عن ذلك إلا نزرًا يسيرًا، نقرؤه بلا روية، وبلا حسن ترتيل، وبلا استحضار معان، كما ينبغي أن يكون الأمر".
ولذلك قال العلماء: المطلوب شرعًا إنما هو تحسين الصوت، الباعث على تدبر القرآن وتفهمه، والخشوع والخضوع، والانقياد والطاعة.
كما ذكر ذلك ابن كثير، ومن هنا قال النووي: "الترتيل مستحب للتدبر ولغيره"، فكم حظنا من ذلك؟ وقد أشرنا من قبل إلى أنه ينبغي أن لا ننقطع عن هذا، وأن يكون لنا حظ من تلاوة متأنية، نحيا بها، ونحيا فيها، ونحيا معها، ونستعيذ الله سبحانه وتعالى في أولها، لتنصرف عنا شرور الشياطين، ومضلات العقول، وصوارف النفوس الأهواء: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل:98].
وذلك كله تهيئة للمقصد الأعظم، من بعد في حسن التفكر والتدبر، الذي لا يمكن أن يكون إلا بمثل هذه الأمور السابقة، وهو أمر عظيم وخطواته كثيرة، ونحن نشير إلى قليل، حتى يكون عونًا لنا، ونسأل الله أن لا يكون حجة علينا:
اجعل لنفسك حظًا من تلاوة على الصفة السابقة، في الأوقات التي تستحضر فيها فكرك، وتحيي فيها قلبك، بعيدًا عن الناس، وعن دنيا الناس، وعن شواغل وصوارف الدنيا.
وأفضل ذلك الليل؛ أوله وأوسطه وآخره، في أي وقت منه، عندما تخلد إلى بيتك، وتسكن إلى راحتك، وتنعزل وحدك، اجعل أنيسك كتاب الله، فإن هذه التلاوة أعظم ما يفيض بها على قلبك النور والهدى، وعلى عقلك الفهم والإدراك بإذن الله سبحانه وتعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً [المزمل:6].
قالوا: هي أشد مواطأة بين القلب واللسان، يتفق القلب مع اللسان ويندمج معه، ويكون معه؛ لأنه لا صوارف تصرف، ولا شواغل تشغل، فحينئذ يكون الأثر أعظم، والطريق إلى التفكر والتدبر أيسر بإذنه سبحانه وتعالى، ومدارسة جبريل عليه السلام لسيد الخلق إنما كانت في الليل، وفي ليالي رمضان العظيمة، لماذا؟ لهذا المعنى الذي تشير إليه هذه الآيات العظيمة، قال ابن حجر رحمه الله: "المقصود من التلاوة الحضور والفهم، ومظنته الليل؛ لأن الليل مظنة ذلك، لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية، وكم في هذا من أثر عظيم".
ثم كذلك أمر آخر: الوقوف مع دلالات الآيات، كما روى حذيفة عن سيد الخلق عندما قال: (صليت مع النبي ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المئة، ثم مضى، فقلت يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران، يقر مترسلاً، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأله، وإذا مر بتعوذ تعوَّذ) رواه مسلم.
أحضر ذلك في نفسك وطبقه عندما تتلو، كلما مر تسبيح سبح، كلما مر وعد اسأل الله عز وجل، فإن ذلك يعين على ولوج هذه المعاني، وتعلق القلب بها، وحياة النفس معها، وذلك ما كان يفعله النبي ، كما روى ذلك كثير من أصحابه رضوان الله عليهم، ومن المعين على ذلك استحضار أحوال النزول، وذلك عندما نعرف بعض أسباب النزول ونعرف الوقائع.
ألسنا قد مر بنا كثيرًا ما جاء من الآيات بشأن غزوة الأحزاب، كيف كان هذا الوصف مؤثرًا، لمن كان عالمًا وعارفًا بهذه الأحداث وما مر فيها؟
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزاب:10، 11].
عندما نتذكر كيف كان النبي يربط على بطنه حجرين من شدة الجوع في ذلك الوقت، عندما نتذكر حادثة حذيفة عندما قال : ((ألا رجل يأتيني بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة)) فلم يقم أحد من الصحابة، عندما نعرف تلك الملابسات، نعرف كم كان لهذه الآيات من عظمة، ويكون لها في نفوسنا تأثير.
الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران:173].
أصحاب النبي في يوم أحد وبعد أحد: فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].
وكثيرة هي الأحوال التي إذا عرفنا شيئًا منها، أصبح للقرآن في قلوبنا أثرًا غير ما نقرأ بلا تمعن ولا فهم ولا معرفة، ولعلنا نستعين على ذلك بأمرين اثنين أختم بهما:
أولاً: استحضار عظمة المتكلم سبحانه وتعالى، فهذا كلام رب الأرباب وملك الملوك، جبار السماوات والأرض، خالق الخلق وواهب الرزق، ليس كلامًا له مثيل في الحياة كلها، ليس له نظير فيما تسمعه وتقرؤه من كلام الدنيا وأهلها كلهم، فإذا استحضرت ذلك كان له أثر.
الأمر الآخر وهو: استحضار عظمة الخطاب، إنه خطاب لك، إنه كما قال الحسن: "رأوها رسائل من ربهم، كانوا يتفكرون بها ويتدبرونها بالليل، وينفذونها ويعملون بها في النهار".
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا حسن الفهم لكتابه، وحسن العمل بأوامره ونواهيه، ونسأله أن يحيي به قلوبنا، ويرشد به عقولنا، ويحسن به أحوالنا. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الأخوة المؤمنون، أوصيكم ونفسي ـ الخاطئة ـ بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وإن ثمرة مثل هذه الخطوات، نراها في سيرة النبي ، وسيرة أصحابه، أذكر بعضًا منها في هذه الومضات.
أولها: الاستجابة الدائمة ليست المؤقتة ولا العارضة، ولا التي تنشأ عن تأثير محدد، بل دائمًا، يكون حينئذ هذا الإنسان المؤمن قرآنيًا كما كانت عائشة تقول رضي الله عنها، ليس في قولها: (كان خلقه القرآن) فإن هذا معروف، ولكن قالت: ما صلى النبي صلاة بعد أن نزلت عليه: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [العصر:1].
إلا يقول فيها: ((سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)) لأنه جاءه الأمر فسبح بحمد ربك واستغفره فجعلها النبي في صلاته. وروت عائشة قالت: كان النبي يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)) يعني: أن يطبقه ويمتثله.
ثانيًا: الاستحضار للاعتبار، إن هذه الخطوات تقودنا إلى هذا الاستحضار، الذي يقع به الاعتبار، ومثل ذلك في قصة أبي بكر وعمر يوم خرج هذا وخرج ذاك فلقيهما رسول الله فقال: ((ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟)) قال: الجوع يا رسول الله، قال: ((وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما)).
رسول الله يخرج من بيته من شدة الجوع، يلقى صاحبيه جائعين، يمضي إلى رجل من الأنصار فلا يجده في بيته، ثم يأتي الأنصاري فيفرح بهذه الغنيمة، برسول الله وصاحبيه رضوان الله عليهم، فيذبح لهم، ويستعذب لهم الماء، فيأكلون وجبة شهية هنية، فيقول النبي والقرآن حي في قلبه: ((والذي نفسي بيده، لتسألنّ عن هذا النعيم يوم القيامة)).
نعيم يوم عابر، مر بعد جوع شديد، ومع ذلك استحضر النبي : ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ [التكاثر:8].
لم تغب عنه الآيات، لم تغب عنه ذكراها، لم تغب عنه موعظتها، وإن كانت الحالة عابرة، فكم نحن في حاجة إلى مثل هذا، إذا أخذنا بذلك والعودة بعد الغفلة.
مثلها قصة أبي بكر، لما أوقف نفقته على مسطح بن أُثاثة عندما تكلم في عائشة مع المتكلمين، وخاض مع الخائضين، فقال أبو بكر: (والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا) فتنزلت الآيات: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22].
قال أبو بكر: (بلى والله أحب أن يغفر الله لي)، فأعاد النفقة وقال: (والله لا أنزعها منه أبدًا) تلك القلوب العائدة، تلك القلوب المتذكرة، تلك الراجعة إلى الحق والآخرة، المرتقية إلى ذرا المعالي، عندما يحيا القرآن في قلوبها، كلنا نعرف قول الحق جل وعلا: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92].
نقرأ الآية مرارًا وتكرارًا، نرددها في صلواتنا، أي شيء أحدثت في واقعنا؟
أنس يروي عن أبي طلحة، وكان من أثرياء الصحابة، وكان له بستان قبالة مسجد رسول الله اسمه "بيرحاء"، فيه شجر كثير وماء عذب، لما نزلت الآية، تحركت في نفسه معانيها، اشتاقت إلى ثوابها نفسُه، فجاء إلى رسول الله: إن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فأثنى النبي وقال: ((بخ، ذلك مال رابح)) ثم قال: ((أرى أن تجعلها في الأقربين)) ورواية ابن عمر قال: لما نزلت هذه الآية، بحثت عن أنفس شيء عندي، فكانت له جارية رومية هي نفيسة ومحبوبة لديه، قال: فأعتقتها لوجه الله، ولو كنت راجعًا في شيء لرجعت فيها، فأنكحتها نافعًا. ذلك الذي كان يحركه إلى المعالي.
نسأل الله عز وجل أن يحرك قلوبنا بالقرآن، وأن يقوي به عزائمنا، وأن يرشد به عقولنا، وأن يصلح به أحوالنا، وأن يؤلف به قلوبنا، وأن يجمع به صفوفنا، وأن يقوي به عزائمنا.
(1/3215)
صور حزينة ومخاطر جسيمة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
علي بن عمر بادحدح
جدة
سعيد بن جبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مأساة تسلط الأعداء. 2- الصراع بين الإسلام والكفر. 3- مقاصد العدو وأهدافه. 4- صور مأساوية. 5- سقوط بغداد. 6- تغيير المناهج. 7- ضرورة اليقظة والانتباه. 8- الدروس والعبر المستفادة من هذه الحرب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، صورٌ حزينة وأحداثٌ أليمة ربما حيّرت العقول وربما بثّت في النفوس وهنًا ويأسًا مشوبًا بالحزن والألم.
وما من شكٍ أن كل ذي قلبٍ مؤمن وكل ذي نفسٍ حية وكل ذي عقلٍ بصير يؤلمه ما جرى من هذه الأحداث وما انتهت إليه من صورةٍ أدخلت إلى النفوس صورة الذل بالقهر والتسلّط وصورة الضعف بالخيانة والاستسلام وصورة الانخداع بالأوهام والشعارات.
ولكن الأمر المهم الذي كنا ولا زلنا وسنظل نُعنى به أصولنا الثابتة التي لا تتغيّر، قرآننا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هدي رسولنا المعصوم من كل خطأ، سيرة أمّتنا التي تضمنت من سنن الله عز وجل عزها ونصرها وقوّتها إذا ارتبطت بدينها، وذلها وضعفها وشتاتها إذا أعرضت عن نهج ربها.
السنن القرآنية الإلهية الماضية ينبغي أن لا يُفقدنا هول ما يجري ولا عظمة ما قد يُداخل النفوس من حزنٍ تلك الحقائق ولنعلم وقد أسلفت هذا الحديث من قبل لأن الأمور قد تؤدي إلى مؤداه التي انتهت إليه.
لا بد أن نعلم أن مواجهتنا مع الكفر وأهله وأن استهداف أعداء الإسلام للإسلام وأهله ليس في جولة واحدة وليس في دولة واحدة وليس في ميدانٍ واحد.
ولا يُعد ما جرى في بغداد أو قبل ذلك في أفغانستان أو قبل ذلك من أمورٍ وأحداث وما جرى ويجري ولا زال يجري في أرض فلسطين الحبيبة من تسلّط للأعداء وتمكّنٍ لهم لا يعني ذلك أن الأمر قد انتهى وأن نرى ما نرى من تلك الصور الحزينة التي داخلت كثيرًا من النفوس.
وأنا أعلم أن كلاً منّا لا شك أنه قد مرّت به الأيام الماضية وهو كسيف البال وهو عظيم الحزن وهو شديد الاستغراب وهو متحيّر اللب وهو يضرب أخماسًا بأسداس، لكننا بحمد الله ما زلنا نُصلي في المحاريب، ما زلنا نسجد بين يدي الله، ما زلنا نتلو القرآن، ما زلنا نعرف أن خير البشرية هو محمد ، ما زلنا كذلك وينبغي أن نظل على ذلك، فإنه ليس نصر الأعداء ـ وهم يعرفون ـ بزوال نظام أو بانتهاء طاغية أو بالتآمر معه والاتفاق على الخيانة ولا بتسلّطهم على الثروات التي يريدونها ويريدون من خلالها التحكم في بلاد الإسلام وشعوبه، ولكن هدفهم الأعظم كما أخبر الحق سبحانه وتعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]، وكما أخبرنا الحق جلّ وعلا: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2]، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
العَق أحذيتَهم وافِق سياستَهم أعطِهم ملّذاتهم مكِّنهم من الثرواتِ لا يعني ذلك أنهم قد بلَغوا منتهى أملهم ولا غاية مقصدهم حتى وهم الآن في عتوِّهم وبغيهم وطغيانهم حتى يدخلوا إلى أفكار العقول فيغيروها وإلى مشاعر النفوس فيبدلوها وإلى ما يُقرأ في المحاريب والمساجد لتُقرأ من بعده أو معه أو في أثنائه التوراة والإنجيل، لا أقول ذلك مبالغة، بل إنه حقٌ واقع نطقت به الألسنة وأُعدت له الخطط ونُشرت على أعين الناس.
ولعلّي قبل ذلك ونحن في هذه الأجواء أُشير إلى ومضات من هذه الصور الحزينة، ولا بد أن نخرج منها بدروسٍ ثمينة، لا بد أن تُرشد العقول وأن تنتبه وتلتفت الأنظار لجميع أمة الإسلام من أصغر صغير إلى أكبر كبير ومن الفرد العادي إلى الحاكم الذي يسوس الأمور ويُدبّر الأحوال في أمته أو دولته.
هذه الصور التي رأيناها رأينا معها عجبًا كيف وقعت هذه الواقعة، ولا شك أن بعض النفوس بعواطفها الجامحة ما زالت لا تُصدق ما جرى، وأن بعض العقول التي أصابتها لوثة العَظَمَة الفارغة دون أن تُدرك حقيقة المخالفة الصريحة للقرآن وللسنة ولمنهج الإسلام ما زالت تقول أقوالاً عجيبة وغريبة، ولا تكاد تُبصر الأمر الذي يُوشك أن يُرى بالعين المجردة، إنه الطغيان والظلم الذي مكّن له الأعداء والأولياء، وكان على رؤوس الضعفاء والبؤساء، من الذي مكّن لهذا النظام ابتداءً؟! من الذي أعانه بالأسلحة؟! من الذي أمّده بالقوة؟! من الذي غض الطرف عن جرائمه؟! ليس في يوم ولا يومين ولا عامٍ ولا عامين ولا عقد ولا عقدين، بل لأكثر من ذلك، أليسوا هم المحررون اليوم؟! ومن يُطالع يقرأ هذا ويراه رأي العين في صورٍ واضحة تُمثّل علاقات قديمة وفي عقود مبرمة قد أظهرتها اليوم الأخبار والأحوال.
ثم أين، أين الدول العربية والإسلامية التي لا زالت وهي إلى اليوم في قولها هذا محقة؟! إنه قد كان ظلم وبغي وعدوان وقد وقعت إزاحته لكن من الذي أزاحه؟! وأين العرب والمسلمون؟! ولماذا خرست ألسنتهم وعميت أبصارهم وصُمت آذانهم وشُلت أيديهم وتعطلّت مسيرتهم؟! بل كانوا مُسهمين في مثل هذا الظلم بصورة أو بأخرى، إما مشاركة له أو سكوتًا عنه أو تغطية عليه أو أي صورة من الصور الأخرى.
أليس حزينًا ما رأيناه مما فعله بعض أهل العراق؟! وربما يكون لهم عذرٌ في كثير مما جرى لهم وجرى منهم، لكنه مشهدٌ مؤلم أن يهتف المسلم العربي بحياة الكافر الأمريكي، وأن يتمنى عزه ورخاؤه وأن يطلب نجدته ومروءته وأن يٌقبله وأن وأن وأن إلى آخر ما رأينا من الصور.
وغير ذلك أيضًا كيف ذهبت تلك الجعجعة وتلك الأصوات التي صمّت آذان الناس حتى ظنوا أن وراء الجعجعة طحنًا؟! فإذا بهم يسمعون جعجعة ولا يرون طحنًا، وأين اختفى القادة والزعماء والأبطال والشرفاء؟! أتُراهم قد ماتوا مثل الضعفاء تحت الأنقاض؟! أتُراهم قد ذهبت أموالهم وأُهدرت ثرواتهم وضاع مستقبلهم مثل الملايين المُضيَعة؟!
أحسب وليس عندي ولا عندكم علم يقين أن مثل هذا لم يحدث، وأن غيره بعد سكون دام اثنتي عشرة ساعة في ليلة واحدة ثم أصبح الصباح وكأنه يومٌ من غير أيام الدنيا، كيف تمّ ذلك ووقع؟! إن كل ذي لب لا يكاد يفهم هذا إلا أن يدخله في دائرةٍ من دوائر الاتفاقات والخيانات من كلّ الأطراف التي لا تُريد إلا مصلحتها على حساب كل شيء بعد ذلك.
ولعلّي هنا أنقل صفحة مكتوبة منذ قرون طويلة أنقلها بنصها لعلّنا نرى بعض صور التشابه، تلك الصفحات من البداية والنهاية لابن كثير في الوقائع التي وقعت في سقوط بغداد سنة 656 هـ يقول ابن كثير: "استهلت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل يُساعدونهم على البغاددة وكل ذلك خوفًا على نفسه من التتار ومصانعة لهم قبّحهم الله، وقد سُترت بغداد ونُصبت فيها المجانيق والعرّادات وغيرها من آلات الممانعة التي لا ترد من قدر الله شيئًا كما ورد في الأثر: لن يُنجي حذرٌ من قدر وكما قال الله تعالى: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ [نوح:4]، وكما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11].
قال: وكانوا مائتي ألف مقاتلٍ وصلوا بغداد في الثاني عشر من شهر الله المحرم، ووصل التتار بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأقاموا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة".
ولا أريد أن أُعلَّق على هذه الصورة والصفحة فهي غنية عن ذلك التعليق، ونود أن ننتبه وأن نلتفت إلى كثيرٍ مما ينبغي أن نتنبه له، إن هذه الصور الحزينة ينبغي أن لا تمر فقط لتكون شيئًا من ألم يُمكن أن يُخفف بعد قليل من الوقت ولا شيءٍ من حزنٍ يُمكن أن يُسرّى عنه بشيءٍ من اللهو، إنها لا بد أن تغوص وأن تتعمق في أصول الفكر والنفس على قاعدة المنهج الواضح البيّن في كتاب الله وسنة رسوله.
ألسنا نسمع اليوم بشكلٍ مفصّل وواضحٍ عن ظلم نظام بغداد وما صنعه وأن الأسباب التي أدّت إلى ذلك هي كيت وكيت وكيت؟! ويعجب المرء، أليست هذه الأسباب موجودة هنا أو هناك بصورة قد تقل أو تكثر؟! أفلا ينطق لسانٌ ليقول: بيدي لا بيد عمرو؟!
ليكن تغييرنا بأيدينا وليكن إصلاحنا من ذواتنا ولتكن مراجعتنا قبل أن تأتينا الدواهي مرة أخرى، ونحن نعرف ونوقن أنها حربٌ لم تنته، وأنها مرحلة في بدايتها، وأن وراءها من الأحداث والخطط والأعمال ما وراءها مما يستهدف كل واحد منّا في عقر بيته وفي فراشه الذي ينام عليه.
إنها ليست قضية هيّنة ولا حادثة عابرة ولا أسابيع ثلاثة ولا قليل من هدمٍ أو قتلٍ أو تدمير، وإن كان المرء يعجب في فرح أولئك الذين فرحوا وبجوارهم دماء إخوانهم وأقربائهم وبجوارهم وعلى مرأى أعينهم دمار بلادهم، ولكنها المشاعر المتناقضة والأحوال المُحيّرة التي أحاطت بأولئك.
ولعلّي هنا أيضًا أستحضر ما أسلفت القول فيه مرارًا وتكرارًا الذين كانوا يقرؤون أحاديث وأخبار الفتن والذين كانوا يُخدّرون الناس بذلك الذي سيبطش بجيوش الروم وسيُنهيها ويقع كذا ويحصل كذا ويرسمون صورة من خيالٍ مريض وفهمٍ سقيم ونفسٍ منهزمة ويُضيفون إليها من رؤى الأحلام وأخلاط وأضغاث الأقاويل ما يُضيفون ليكشفوا عن صورة من صور ضعفنا؛ لأننا تركنا ما بين أيدينا من كتاب ربنا وسنة نبينا وأردنا أن نبحث ونُلفّق مع بعض الروايات الصحيحة كثيرًا من الروايات الضعيفة بل والموضوعة، بل ويُضاف إلى ذلك أخبارٌ من التوراة ومن الإنجيل والعهد القديم والجديد؛ لنقول: إن هذا هو الذي سيحدث رجمًا بالغيب وتوهينًا للنفوس ولعلّها ليست المرة الأولى بل قد سبقتها مرات، فهل ستعي الأمة وتعود من بعد لترسم صورًا أخرى وتُحدد تواريخ أخرى وتُعيد مرة أخرى غياب العقل وغياب القلب وغياب المنهج وغياب العمل الصحيح نحو ما ينبغي أن نواجهه في اتجاه أعدائنا بدلاً من البحث والتشقيق حتى جاؤوا بأمورٍ ليس هذا مقام ذكرها؟!
ولعلّي أُذكّر أيضًا بالقضية الكبرى التي تُثار الآن وهي قضية الشعوب وآرائها وحرياتها وقدرتها على فعل ما ينفعها وقدرتها على المشاركة في مصيرها وكل الناس يتحدثون عن غيابٍ دام نحو ثلاثة عقود في العراق وأدّى إلى مثل هذه المأساة أو كان سببًا فيها، فأين هذا أيضًا من أمرٍ أساسي في ديننا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر الإصلاح للحاكم والمحكوم أمر: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)؟!
أمر الإسلام والإيمان الذي يوجد عزة لا تقبل ذلة وقوة لا تقبل ضعفًا وغير ذلك مما أسلفناه وذكرناه.
ولا أود أن أستطرد في هذا فإن فيه بعض الأحزان والجراح، لكنها يقظة إن لم تكن كاملة تامة فيوشك أن يقول كل أحدٍ وكل مجتمعٍ وكل بلدٍ: أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض. وما ذلك عنّا ولا عن غيرنا ببعيد ولعلّي أُذكّر الآن بالحقائق التي قيلت قبل هذه الأحداث وبعدها وأثناءها.
ما هي الأهداف؟ هل هي هذه الأسلحة التي لم يرها أحد؟ وهل هي هذه الأنظمة التي لم يقبض عليها أحد ولم يُقدمها للمحاكمة أحد ولم يُثبت أحد قتلها وإنهاءه؟ا وهل كل الذي جرى لأجل هذا؟ يقول كاتب أمريكي قبل هذه الحرب بنحو شهرين مما هو منشورٌ في صحفنا العربية يقول: "تُعلن قيادتنا أن هذه الحرب لأجل تدمير أسلحة الدمار الشامل. ويقول: ولكننا نقول: إنه ليس كل ذلك ما نسعى إلى تحقيقه، إذ إننا نريد نفط العراق بكل ما يتأتى إلينا منه من فوائد كبيرة، كما أننا نعمل على إحداث تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية في دول عربية كثيرة. ثم يقول ويكشف عن التهديد الأكبر ليس هذا النظام وليس جعجعته الكاذبة وليس أسلحته التي لا وجود لها إنما يقول: إن ما يُهدد المجتمعات الغربية الحرة فعلاً ليس الرئيس العراقي الذي يُمكن تجنبه وردعه فهو يُحب الحياة أكثر من كرهه لنا. إذًا ما هو الخطر؟ يقول: إن الخطر الحقيقي الذي يُواجهنا والذي لا يُمكننا تجنبه وردعه هم أولئك الشباب العرب الذين يكرهوننا أكثر مما يُحبون الحياة ويُشكّلون فعلاً صواريخ بشرية تُعتبر جزءًا من أسلحة الدمار الشامل والقادرون على تدمير مجتمعاتنا الغربية المفتوحة. ثم يقول: كيف يُمكن تنشئة هؤلاء الشباب؟ وما هي الآلية التي تنتهجها هذه الدول لتنشئتهم؟ ثم يُضيف: الحرب ضد العراق بمثابة رسالة قوية إلى هذه المنطقة مفادها أننا لن نترككم وحدكم بأي حالٍ من الأحوال لتلعبوا بالكبريت؛ لأنكم حين قمتم بذلك في المرة الأخيرة احترقنا".
أظننا نفقه اللغة العربية ونعرف أن هذا الكلام واضحٌ وفاضح ولا يحتاج إلى إثباتٍ وأدلة، ومن أراد فلأخبره بما نُشر بالأمس وليس قبل الحرب واستمعوا إلى هذا الخبر الذي يقول: إن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية قد طلبت قبل شهرين عروضًا لتجديد نظام التعليم العراقي بمبلغ وقدره خمسة وستون مليون دولار، يشمل تأهيل الأساتذة وإصدار كتب مدرسية جديدة ويضع الأساس لممارسات ومواقف ديموقراطية سواءً لدى الأطفال أو لدى الأساتذة آخذًا بعين الاعتبار التوازن الإثني وتوزيع اللوازم المدرسية ويقولون مثل ما حصل في أفغانستان حيث قُدّمت العروض وفازت شركة بها بمبلغ ستة عشر مليون ونصف، وقد قامت بإعداد ذلك وتُوزع في هذا العام عشرة ملايين كتاب مدرسي بتصميم منهجي أمريكي لنُعلَّم ذلك.
وفي هذه الفترة أيضًا نُشر ما قد سبق أن ذكرناه من قبل اللجنة اليهودية الأمريكية قامت بدراسة شاملة للمناهج في المملكة العربية السعودية، وقدمت قبل نحو أسبوعين أو ثلاثة تقريرًا مفصّلاً في مائة صفحة، مما جاء فيه: إن هذه المناهج تُدرّس أن القرآن كتاب الله وأنه هو المحفوظ وأن التوراة والإنجيل فيهما تحريف وتغيير، وتُدرّس أن القرآن يقول: إن اليهود والنصارى كفار، وتُدرّس أيضًا أن المسلمة لا يجوز لها أن تتزوج من كافر أو كتابي والمسلم يجوز له أن يتزوج من كتابية، وتُدرّس كذلك أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة وأن الجهاد له غايتان إما النصر على الأعداء أو الاستشهاد في سبيل الله وتُدرّس وتُدرّس.
واقرؤوا هذا التقرير منشورًا في بعض الصحف والمجلات لنعرف أن القضية لم تعد أقوالاً، لقد دُرست وبُحثت وهي في العراق وأفغانستان قد قُدمت عروضًا، وهي في أفغانستان قد طبقت تطبيقًا هذه هي القضية الخطيرة.
ولعلنا أيضًا نقف وقفة أخرى مهمة، كنت ولا زلت أكرر القول فيها وأريد ولا زلت أريد أن نفقهها وأن تكون أساسًا ثابتًا: الصراع الأكبر مع اليهود عليهم لعائن الله والذين يحركون هذه الحرب ومن قبلها ما جرى في الحرب ومن غير ذلك من المواقف هم اليهود، وعندما نطق بذلك سياسي منتخب في المجلس الشعبي الأمريكي لمدة نحو ربع قرن سبع مرات متتالية ونطق بهذه الحقيقة: إن الذين يأزون نحو الحرب هم اليهود في أمريكا كان مصيره أن يستقيل من منصبه وأن يقدم اعتذارًا، ثم جرد من جميع المشاركات في جميع اللجان ثم وثم.. وبالأمس هذا بعض ما جاء في صحافة اليهود مرتبط بهذه الأحداث.
يقولون: إن نجاح هذه الحرب في فرض نظام جديد في العراق يتمتع بالاستقرار سيعنى توجيه ضربة قوية للقوى الرادكالاية الإسلامية بالمنطقة.
ولن ترسل هذه القوة مرة أخرى قواتها العسكرية إلى دول أخرى، ولكن في حال انتهت هذه الحملة بنجاح فإن الضغوط التي تمارسها على الدول تؤتي ثمارها وستفعل فعلها، وهي معركة حقيقية أيضًا ضد التنظيمات الإرهابية في إسرائيل، وهذا ما هو الجوهر المهم في هذا، وإن هذا الإنشاء للنظام الجديد جعلوا هذا النظام متفقا مع إسرائيل وعاقدًا للسلام معها ومتحالفًا معها ضد غيرها، ومعروف هذا الغيظ الذي سيكون بين فكي كماشة العراق والدولة اليهودية الغاصبة.
ونحن عندما نقال هذا ـ أيها الإخوة الأحبة ـ لا نقوله لنفتَّ في العضد ولا لنحدث اليأس، ولكن لنوجد اليقظة ولنشحذ الهمة ولنوقد نار الحماسة ولنأسِّس انطلاقة العزم والحزم والجزم والحيطة والحذر والمقاومة الحقيقية والوقاية الشاملة والإصلاح الجذري الذي ينبغي أن نسعى إليه في أعماق نفوسنا وفي بيوتنا وفي واقع مجتمعاتنا وفي أنظمة تعاملنا وفي سائر أحوال أمتنا ودولنا. نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رد جميلاً.
وإننا ونحن نذكر هذه الأحداث ينبغي لنا أن نعي الدروس والعبر فالحرب على الإسلام لم تكن بنت اليوم أو بنت الأسابيع الثلاثة الماضية ولا بنت ما بعد أحداث سبتمبر الشهيرة كما يقولون، إنها حرب كانت منذ أزل طويل، وهي اليوم في أشد أوقاتها، ولكن ما بعد هذه الحرب العسكرية هو الأخطر والأشد.
ولذلك لا ينبغي أن نقول: وضعت الحرب أوزارها لا عسكريّا ولا غير عسكري، بل ينبغي أن نشحذ هممنا وعزائمنا وأن نعرف خللنا وقصورنا، وكنت قد تحدثت من قبل ووعدت أن يكون حديثًا اليوم عن الخطوات العملية التي ينبغي أن نأخذ بها بعد أن أسسنا القول في الخطوات الفكرية والخطوات النفسية غير أن تجدد الأحداث أوجب أن يكون لنا حديث لعله يجمع بين ما نشعر به من حزن وما ينبغي أن نشحذ به النفس من عزم.
وكذلك قلت مرارًا: ليس مقامنا في مثل هذه المنابر أن نصرخ ولا أن نعيد ما يكرره الإعلام مما يلعب بالعواطف أو يبلبل العقول أو يسير بالناس وفق ما تقتضيه الصنعة الإعلامية والسبق الصحفي، وليس من مهمتنا كذلك أن نؤثر تأثيرًا عاطفيًا مؤقتًا فتذرف دموعنا، وليذرف كل واحد منا دمعه بينه وبين نفسه وليذرف على حاله وعلى حال أمة الإسلام، وما أشك أن كثيرا من الدموع قد جرت وهي ترى ذلك في صور ما عرضته الشاشات من هذه الأحداث، لكن هل البكاء هو حلنا؟! وهل مثل هذا المقام نأتي فيه لنبكي؟! فليبك كل منا حقيقة لا صورة، وإنما يكون مقامنا هذا مقاما طويل الأمد.
وقد ذكرت من قبل أن مواجهة الأعداء ليست في ميدان واحد، وذكرت أن كلا منا على ثغرة، أنت على ثغرة في تربية أبنائك، وأستحضر هنا سبعين عامًا من الشيوعية المهلكة الكافرة الملحدة كيف انقشعت ووجدنا بعض المسلمين كانوا يعلّمون أولادهم القرآن تحت الأرض في منتصف الليل على أضواء الشموع.
فهل نستطيع أن نواجه لنكون متشبثين حتى آخر رمق من حياتنا لا بتراب ولا ببناء ولا بحضارة وحتى وإن زعموها حضارة مغرقة في التاريخ، وإنما لنحافظ على دين الله والإسلام العظيم وعلى هدي رسول الله على تاريخ أمة أرادها الله عز وجل لتكون خير أمة أخرجت للناس.
أن نعرف بأننا مستهدفون لأننا أمة محمد ، لأن بين أيدينا كتابا محفوظا وعندهم كتب محرفة يعرفون تحريفها، وعندنا نبي معصوم وعندهم أنبياء أدخلوا على سيرهم وألحقوا بهم بل وفعلوا بهم ما لا يليق أن يفعل بسقط الناس وأراذلهم، ولدينا شريعة صالحة لكل زمان ومكان وعندهم قوانين وضعية تلعب بها الأهواء وتغيرها الآراء، وعندنا تماسك أسَري وترابط أخلاقي وعندهم مجتمع قد تصدع بنيانه، وقد ولج في كثير من الآثار السلبية، لكن ذلك لم يكفهم لكنهم رأوا أن بقية باقية وسنة ماضية: لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
رأوا كيف كان الأبناء وكيف كان الشرفاء والأبطال والمجاهدون في فلسطين بعد أكثر من خمسين عامًا من التهويد ومن البطش ومن التهديد والتعذيب والتشريد رأوهم وهم يعودون خارجين من المساجد بأيد متوضئة وبألسنة مكبرة وبجباه ساجدة وبنفوس عزيزة.
يقف أحدهم أمام دبابة لا يأبه بها ولا يكترث لها، ورأوا من بعد ذلك مثلكم وكثيرين غيركم وهم يفيئون إلى رحاب الله وهم يستمعون إلى كلام الله وهم يستحضرون تأريخ أمتهم وهم يعودون إلى مصادر قوتهم وعزتهم، وهم في أفول نجمهم، أعدادهم تتناقص، مواليدهم أقل من موتاهم، وقد ألف أحدهم كتابًا حديثًا منذ نحو عام سماه موت الغرب، وأشار فيه إلى أن سبع عشرة دولة غربية أعداد الجنائز فيها أكثر من أعداد اليهود.
ثم ذكر بعد ذلك صورا من الموت في الأخلاق والأنظمة والعرقية والعنصرية، كيف يرضون ذلك وبأيديهم قوة عسكرية واقتصادية وسياسية، وذك مؤشر ببداية مواجهة عظيمة ينبغي أن يوطن الناس أنفسهم لها، وأعظم توطين أن نربط القلوب بخالقها وأن نعلق النفوس ببارئها وأن نرشد العقول بمنهج الله.
وكذلك وهو أمر لا بد منه أن يعظم تآزرنا وأن تقوى روابطنا وأن تترسخ أخوتنا عل مستوى الأفراد والمجتمعات وعلى مستوى الدول فإنّ الدول العربية والإسلامية التي ما زالت نائمة غير مدركة في حقيقة الأمر وفي حقيقة الفعل لهذه الوقائع معنية اليوم بأن تمد أيديها إلى بعضها وأن تتناسى خلافاتها وأن تلتقي على أساس الوحدة الإسلامية والمنهج الرباني، فإن هي فعلت ربما أنقذت أنفسها وأممها وشعوبها من هذه الأخطار المحدقة، وإن هي غفلت عن ذلك فيوشك أن يكون ما لا تحمد عقباه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3216)
العزة الغائبة
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
المسلمون في العالم, معارك وأحداث
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
2/4/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استعلاء الكفر. 2- سبب الهزيمة والنصر. 3- نداءات الرحمن في سورة الأنفال. 4- معاملة المسلمين للأسرى. 5- مآسي المسلمين. 6- الجرائم الصهيونية ودلالاتها. 7- الانتهاكات الأمريكية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، ماذا جرى في دنيا المسلمين؟ لقد اجترأت الذئاب على الأسود، وديس عرين الأسد، عندما فرطنا في حقوق الله تبارك وتعالى، إن الله عز وجل عندما أراد أن ينصح الأمة وجّه لها ستة نداءات في سورة الأنفال، لو عملت الأمة بهذه النداءات الستة ما اجترأ علينا أحد، ولا استطاع سافل أن يرفع رأسه وأن يتجرأ على أحد من المسلمين، وقبل أن ينزل الله هذه النداءات الستة تبارك وتعالى في عليائه نادى على المؤمنين وأمرهم بقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، أتعلمون لماذا أيها المؤمنون؟ لأن الذئب لا يأكل من الغنم إلا القاصية.
فتعالوا ـ أيها المؤمنون ـ إلى هذه النداءات الستة لنتعلم منها مرادَ الله تبارك وتعالى.
أما النداء الأول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ [الأنفال:15].
عباد الله، متى هزم جيش المسلمين؟ والله، ما هزم جيش المسلمين إلا بعد أن تخلينا عن دين الإسلام، فجيش الإسلام الذي خاض أصعب المواقف في سنة خمسمائة وثلاث وثمانين للهجرة، وقف جيش الإسلام وليس معه إلا الله، وفي شهر رجب وبقيادة الناصر صلاح الدين الأيوبي وقف أمام ستة جيوش في أوروبا، أمام جيش إنجلترا وفرنسا وألمانيا والمجر وإيطاليا وبلجيكا، وقف ثابتًا لا يتزعزع. وفي اليوم السابع والعشرين من رجب كان صلاح الدين يخطب على علياء هذا المنبر الشريف في رحاب المسجد الأقصى المبارك، بعد أن أسره الصليبيون إحدى وتسعين سنة.
إحدى وتسعون سنة قضاها المسجد الأقصى تحت ضربات الصليبيين، ودخل الفاتح صلاح الدين غداة إسراء الرسول ومعراجه إلى السماوات العلى، فحمد الله تبارك وتعالى، وسجد لله سجود شكر على هذه النعمة العظيمة.
عباد الله، متى هُزم جيش المسلمين؟! ومتى تجرأت الذئاب على أن ترفع رؤوسها في وجه المسلمين؟!
في سنة ست وخمسين وستمائة زحف التتار من مرتفعات منغوليا في الشرق الأوسط إلى أن استطاعوا أن يسقطوا الخلافة العباسية في بغداد، واستسلمت المدن السورية، وظل هولاكو يزحف بجيشه إلى حدود مصر وفلسطين، وأرسل إلى حاكم مصر إنذارًا شديد اللهجة قال فيه: "إذا قرأتَ رسالتي فسلِّم، فلو كنت معلّقًا في السماء لطرنا إليك أو لأنزلناك إلينا، جيوشنا دواسر، وخيولنا سواتر".
ولما وقع الإنذار في يد حاكم مصر آنذاك المظفر سيف الله قطز، أمسك الإنذار ومزقه، وقام فصلى ركعتين لله تبارك وتعالى، ثم كتب ردًا على هذا الإنذار، أتدرون ـ يا عباد الله ـ كيف كان الرد؟ هل كان الرد كما تعوّدنا من التهريج والكلام الفارغ؟ هل كان الرد: سنرميهم في البحر الأبيض، إذا لم يعجبهم البحر الأبيض فليشربوا من البحر الأحمر؟! وأنتم تعرفون أنهم ما شربوا من الأبيض ولا من الأحمر، وإنما نحن الذين شربنا من الماء الآسن أجلَّكم الله، لقد كان الرد كما يلي: "بسم الله الرحمن الرحيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة:38]".
أتعرفون ـ يا عباد الله ـ من الذي قرأ هذا الرد؟ إنه سلطان العلماء العز بن عبد السلام، فقد كان إمامًا ورعًا أمّارًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم، إنه عَلم من أعلام الأمة الكبار، لا يعرف الاستغلال، كان نجمًا يضيء كما تضيء الشمس في رابعة النهار.
وبعد قراءة الردّ أعلن السلطان التعبئة في الأمة، وقاد الجيش إلى حدود فلسطين، ولما كان اليوم الخامس والعشرون من رمضان يوم جمعة قال قائد الجيش: لا نخوض المعركة حتى نصلّي الجمعة وندعو الله تبارك وتعالى بالنصر.
هكذا ينتصر جيش المسلمين، صلاة ودعاء، وطهر ونقاء، وتقوى وصفاء، لا نساء ولا خمر ولا ميسر ولا مخدرات ولا غناء ولا ليالي حمراء، لا نخوض المعركة حتى نصلي الجمعة.
وصلّى الجمعة، ودارت رحى الحرب، وكان الجيش قلبُه معلق بالله تبارك وتعالى، كان معتمدًا على الله، ما دام الجيش يقول: يا رب فلا بد أن يكون هناك مدد من الله، فجند الله تبارك وتعالى لا تحتاج إلى تدريب، صفوفهم ليست مخترقة، وهم على أُهبة الاستعداد التامّ لتنفيذ الأوامر الإلهية، إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [الأنفال:12]، فجنود الله تبارك وتعالى موجودون، وهم على أتم الاستعداد أن ينزلوا إلى ساحة المعركة، والله حي لا يموت، متى شاء يصدر الأوامر إلى الملائكة الكرام لتخوض المعركة، ما دمنا نقول: يا الله، ما دمنا نقول: يا رب، ما دمنا صادقين مع الله.
وقُتِل هولاكو، وانكسر جناحه، وولى جنوده الأدبار أمام جيش الإسلام والمسلمين.
أما النداء الثاني يا عباد الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ [الأنفال:20].
النداء الثالث: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24].
النداء الرابع: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
النداء الخامس: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29].
النداء السادس: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
نداءات لو عمل المسلمون بها ما حل بنا مثل الذي يحل بنا في هذه الأيام.
عباد الله، كيف كان المسلمون يتعاملون مع الأسرى؟ كيف تعامل المسلمون على مر الزمان مع أسراهم؟ هل أذاقوهم أصناف العذاب؟ هل مثّلوا بهم ومزّقوا أجسامهم؟ هل رأيتم الصور التي صوِّرت في تعذيب المسلمين على أيدي جنود مجرمين لا يعرفون للإنسانية معنًى؟
جاؤوا إلى ديار المسلمين لينشروا سمومهم، بلاد الإسلام بلاد طاهرة نقية، لا تعرف هذه المعاني التي جاؤوا بها.
لما انتهت معركة بدر جيء بسهيل بن عمرو، وكان يومها مشركًا، وأطلق النبي سراحه بعدما وقع في الأسر، فلقيه عمر رضي الله عنه فقال له: من أين وإلى أين يا سهيل؟ قال له: يا عمر، لقد أطلق محمد سراحي، وأنا في طريقي إلى مكة، فأخذه عمر إلى رسول الله ، وقال عمر والغضب قد فعل بوجهه ما تفعل الشمس عن احمرارها: هل أطلقتَ سراح هذا يا رسول الله؟ قال له: ((نعم يا عمر)) ، قال: يا رسول الله، لا تطلق سراحه حتى أكسر له أسنانه التي في مقدمته، ((لماذا يا عمر؟)) قال: يا رسول الله، لكي لا يكون خطيبًا عليك يشتمك ساعة وساعة، وإذا ما كسرت له أسنانه وحاول أن يشتمك بعد اليوم اندلع لسانه من فمه، فلا يقوى على الكلام.
اسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ كلام الرؤوف الرحيم الذي خاطبه الله تبارك وتعالى بقوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، عمر يطلب أن يسمح له بكسر أسنان رجل مشرك لأنه يسب الرسول ، وعمر لم يطلب قتله، إنما طلب كسر أسنانه، اسمعوا أيها المحتلون في أرض العراق، اسمعوا رأفة الإسلام ورحمة المسلمين بالأسرى والمعتقلين، ماذا قال نبي الإسلام ورسول البشرية أجمعين؟ قال له: ((يا عمر لا تمسسه بسوء، والله لا أمثل به، كي يمثل الله بي، ولو كنت نبيا)).
عباد الله، إن حزننا شديد على أمة الإسلام لأنها تحولت إلى أمة كلام، حكامهم يحكمون بالنار والحديد، مواقفهم سلبية، يبيعون الكلام بيعًا، أين موقف الأمة مما حصل في غزة ورفح وحي الزيتون؟
الدولة الفلانية تأسف لما حدث، وتلك تعرب عن أسفها، والأخرى حزينة، وهذه تسجل بمداد الأسى والأسف، قوم يطلقون النار والصواريخ، وينسفون البيوت، ويشردون الآلاف، وقوم يتكلمون بلغة المداد.
وأنتم ـ يا أمتنا ـ في مشارق الأرض ومغاربها، الله تبارك وتعالى يقول في محكم كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]، ويقول كذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].
وصدق نبينا وهو يقول: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا ووصب ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)) ، أو كما قال.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الذي نوّر بجميل هدايته قلوب أهل السعادة، وطهر بكريم ولايته أفئدة الصادقين فأسكن فيها وداده، سبحانه أهلك القرون الأولى من قوم نوح وعاد وثمود، وزعزع ملك فرعون، وأخمد نار أبي لهب، فسبحان من أعطى ومنع، وخفض ورفع، ووصل وقطع. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة وُعِد قائلُها بالحسنى وزيادة، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أقام به منابر الإيمان، وأزال به سنان البهتان، ودفع وساوس الشيطان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه ومن سار على منهاجه واقتدى بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، في الذكرى السادسة والخمسين لاغتصاب فلسطين شنت إسرائيل عدوانًا واسع النطاق على شعبنا في قطاع غزة بمنتهى القسوة والضراوة والحقد، هدم للمنازل بشكل عشوائي، وتشريد الآمنين الذين باتوا يلتحفون السماء ويفترشون الأرض، في سابقة خطيرة من نوعها، جريمة حرب، ألفا عائلة فلسطينية دُمرت منازلها، وبعض هذه المنازل دمّرت على من فيها، وهم أحياء وتتجدّد المأساة بين ماضي وحاضر، وبنفس أساليب القمع، ويتصاعد العدوان، وقد بلغ عدد المنازل التي هدمت ما يقارب ثلاثة آلاف منزل في قطاع غزة فقط.
ويأتي هذا العدوان بعد أن رفض الحزب الحاكم في إسرائيل الاقتراح الذي عرضه زعيم الحرب ورئيس الحكومة الحالية بفك الارتباط والانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة.
هذا التصعيد الخطير يأتي بعد أن وجدت الحكومة الإسرائيلية نفسها في مأزق حرج بين الانسحاب تحت الضغط الفلسطيني، وبين الرفض اليميني المتطرف لخطة رئيس الحكومة، إن رفض الأحزاب اليمينية المتطرفة لخطة رئيس دولتهم لها دلالات هامة وانعكاسات خطيرة، منها:
أولاً: إن الأرض المحتلة بالآلة العسكرية لا يمكن أن تعود بمائدة المفاوضات، من خلال ما يسمى خارطة الطريق أو اللجنة الرباعية، فالمفاوضات العقيمة وصلت إلى طريق مسدود، والذي يجبر الجانب الفلسطيني على التمسك بالمفاوضات هو تخلي الزعامات العربية عن مبدأ تحرير الأرض.
ثانيًا: إن المتطرفين اليهود يتمسكون بفلسطين باعتبارها أرض الميعاد، ويدافعون عنها من منطلق ديني، وهم على باطل، بينما نحن نفرط فيها ونحن على حق.
ثالثًا: إن أي استفتاء يجري عندنا تكون نتائجه عالية وفي التسعينات، وهذا دليل عدم مصداقية النتائج وحالة القمع التي تمارسها الحكومات ضد شعوبها، وفي نفس الوقت دليل عجز الشعوب عن مواجهة الباطل وقول كلمة الحق الذي تربى عليه سلفنا الصالح، فمتى تدرك أمتنا الإسلامية أن عزتنا وكرامتنا لا تكون إلا بكلمة الحق، فلا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها.
عباد الله، عندما شنت أمريكا عدوانها السافر على العراق أعربت عن حقيقة تعطشها للدمار والخراب تحت ستار الحضارة والحرية لشعب العراق، وبهذا النسق قام الجنود الأمريكيون بارتكاب أبشع أنواع التعذيب والاضطهاد للمعتقلين والأسرى، وكشفت الصور التي التقطت من وسائل التعذيب ما يندى له الجبين وتقشعر له الأبدان، لقد أُميط اللثام عن الوجه الأمريكي الحقيقي البشع القبيح، فهناك انتهاكات مماثلة بحق المعتقلين في أفغانستان, وليس كما يقولون ممارسات أفراد, إنما هي سياسة ونهج وفكر وممارسة استعمارية حاقدة.
فعندما زار وزير الدفاع الأمريكي بغداد وعمل على إطلاق سراح بعض السجناء العراقيين كان الهدف من زيارته امتصاص النقمة العارمة ضد سياسة الإرهاب الأمريكي، لا لتعذيبهم العراقيين, وإنما لسماحهم بالتقاط الصور وتسريبها لوسائل الإعلام التي كشفت للعالم بشاعة الحقد الأمريكي، والتي تتباكى على حقوق الحيوان أجلّكم الله، الرئيس الأمريكي دافع عن وزيره دفاعًا مريرًا، أيده في غزوه للعراق وأفغانستان، وهذا ما يؤكد أن سياسة أمريكا وممارساتها القمعية نهج، وليس تجاوز أفراد.
أفيقوا ـ أيها المسلمون ـ من سباتكم، فقد طال نومكم، واعملوا على إقامة دولتكم، دولة الإسلام، وتطبيق منهج الله تبارك وتعالى في الأرض، وحِّدوا صفوفكم فالخطر الداهم آت، فإلى متى هذا الذل والهوان، وتيقنوا دائمًا وأبدًا أنكم إذا كنتم مع الله فإن الله تبارك وتعالى سيكون معكم، كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21].
(1/3217)
حتى لا نفقد التوازن مع أحداث العراق
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من تعميم الأحكام دون مراعاة الإنصاف. 2- وجوب التثبت في القول والحذر من الظلم. 3- تذكير بمفهوم الولاء والبراء في الإسلام. 4- تقديم بعض المصالح على بعض من أسس الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، ها هي القوات الصليبية الغازية لا زالت تحاول بكل شكل إنزال الهزيمة بالعراق، وقد فقدت صوابها، وبدأت في التدمير والتقتيل بصورة همجية وحشية، بعد ما رأت من قوة التصدي التي أبداها العراقييون، وبعد أن شعرت بشيء من الإخفاق في تحقيق أهدافها في الأيام الأولى، التي وعدت من قبل بأنها ستنهي هذه الحرب خلالها، وهاهم إخوان لنا يواجهون آلة حربية مدمرة فتاكة. نسأل الله جل وعلا أن ينزل بها الهزيمة الماحقة، وأن يردها على أدبارها، وأن يكشف ظهورها للمسلمين، وأن يجعل من آلتها وعددها وعدتها غنيمة للمسلمين.
دك العراق بذنب غير مقترف وأَصْعر الخصم خديه من الصلفِ
فيا عراق دموع الحزن نسكبها على ثراك بدمع هاطل وكفِ
ويا عراق بديع الشعر نُنشده على رباك بلحنٍ والهٍ أسفِ
ويا عراق حشود الساخطين مشوا وأضربوا عن لذيذ النوم في الغرفِ
فهل ترى يا عراق الحزنَ نجدُتنا وهل ترى حزننا في النائبات يفي
قال العراق وقد جفت محاجره يا ضيعة العمر خاب الظن في الخلف
يامسلمون دموع الحزن لو بلغت هام السماء فلن تحمي حمى شرفي
يا مسلمون خطيب العرب قد رقصت على صدى قوله الغيداء في هيفِ
يا مسلمون قوافي الشعر لو جمعت في ألف ملحمةٍ لن ينطفي لهفي
عباد الله، ونحن نعيش قلب المعركة، لا بد لنا من التنبه إلى منعطفات خطبرة تمر بنا، علينا أن نحذر منها حتى لا نفقد التوازن، الذي يبحر بنا إلى شاطئ آمن في هذه المعامع. وإليكم ـ عباد الله ـ هذه النصائح التي تحفظ توازننا بين طرفين في العلم والعمل:
النصيحة الأولى: حذار ثم حذار ـ يا عباد الله ـ من تعميم الأحكام على طوائف المسلمين من أهل السنة، سواء كانت تلك الطوائف تنتمي إلى بلدان معينة، أو إلى أصول معينة.
وأعني بالتعميم هذا أن نسحب حكمًا واحدًا على فئات هذه الطائفة كلها، صغيرها وكبيرها، ذكرها وأنثاها، بسبب خطأ بعض أفرادها أو حتى كثير من أفرادها.
عباد الله، ومن أمثلة هذا التعميم أن يقول القائل بعد أن رأى أن دولة الكويت مثلاً فتحت أرضها، وأحلت سماءها للمعتدي الأجنبي حتى ينطلق منها في إهلاك المسلمين، حيث لا خيانةَ أعظم من هذه الخيانة، ولا جرم أبلغ من هذا الجرم، إذ هي مظاهرة للكفار على المسلمين، وقد عد العلماء مظاهرة الكافر على المسلم كفر مخرج من الملة، قال الله جل وعلا: بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:138، 139].
وقال جل من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:51، 52].
قال ابن جرير الطبري: "لا تتخذوا ـ أيها المؤمنون ـ الكفار ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:28]، يعني بذلك: فقد برئ من الله، وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر. إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]، إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل"، والآيات في حكم المظاهرة متواردة، وكلام أهل العلم أكثر من أن يحصى.
عباد الله، فلو قال قائل مثلاً: الكويتيون كلهم خونة، أو الكويتيون أولياء الصليبين، أو الكويتيون أعداء لله أو نحو ذلك، فهذا التعميم حكم جائر، وذنب عظيم، ويزداد جرم هذا الفعل إذا بنى عليه صاحبه أحكامًا دنيوية أخرى، كأن يبغض كلّ من كان كويتيًا، أو يعاديه ونحو ذلك.
أيها المؤمنون، نحن نعلم والكل يعلم أن الكويتيين ليسوا كلهم كذلك، فمنهم المجاهدون الصادقون الذين ضحوا بأموالهم، وأهلهم، ودمائهم وكل ما يملكون في سبيل الله جل وعلا، فهل ينطبق على مثل هؤلاء ينطبق عليهم ذلك التعميم الجائر؟
أيها المسلمون، ونعلم كذلك، والجميع مثل ذلك يعلم أن من الكويتين من هم أصحاب علم ودعوة، جهروا بكلمة الحق، ولم يخشوا في الله لومة لائم، مع أنهم في أحرج المواقف وأصعبها، فهم يسبحون في عكس تيار بلادهم، بل قد يتهمون بالخيانة والتواطؤ مع العدو بسبب هذه المواقف الجريئة الشجاعة في هذه المحنة.
ومثل هذه الحال ـ أيها الإخوة ـ تنطبق على الشعب الكردي المسلم، ذلك الشعب الذي أخرج يومًا من الأيام قاهر الصليبين، وداحر المعتدين صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
نحن نرى ويرى الجميع خيانة جماعات كردية تعيش في شمال العراق، ونرى تواطؤها القذر مع الولايات المتحدة الأمريكية، لذبح العراق، وإحكام السيطرة عليه من الشمال والجنوب، لخنقه وإزهاق روحه، خابوا وخسروا.
لكننا نعلم ـ يا عباد الله ـ أن الأكراد ليسوا كلهم كذلك، ففيهم طوائف مجاهدة، ظاهرة على الحق، تدافع عن بيضة الإسلام، بل نرى منهم طوائف تقاتل خونة الأكراد، وتحاول دفع شرهم ومنع خطرهم حتى يأتي الله بفرجه.
أيها المؤمنون، وحينما نتحدث عن تعميم الأحكام على طائفة معينة، لا ينبغي أبدًا أن نقصر هذا المنع على الأحكام السالبة، بل تعميم الأحكام سلبًا وإيجابًا أمر خاطئ، فتعميم الأحكام الموجبة كتعميم الأحكام السالبة أمر مخالف للشرع والعقل، وذلك كأن يمتدح الإنسان أهل بلد معين، ويعمم حكم المدح عليهم جميعًا، فمثلاً نحن نرى العراقيين في هذه الأيام يقاومون الغازي المعتدي، ويقدمون كل يوم شهداء أو قتلى، ونرى هذا الشعب يتضرج بدمائه كل يوم بل كل ساعة، فهل كل العراقييين هكذا؟ هل كل العراقيين يضحون بأنفسهم من أجل مقاومة الصائل الذي اعتدى على بلادهم؟ هل كل العراقيين أهل نخوة وشرف وإباء، يرفضون الضيم، ويأبون الذل؟
لقد شاهدنا، وشاهد الجميع ـ يا عباد الله ـ ثللاً من خونة العراقيين، لا سيما أولئك الذين تلقوا تدريبات في معسكرات أجنبية على خيانة بلادهم وأهلهم، ولا نستبعد أيضًا أن يظهر خونة ممن يعيشون في العراق نفسها.
عباد الله، تعميم الأحكام بهذه الصورة مصيبة ابتلي بها المسلمون في هذه الأيام، ففرقت وحدتهم، وزرعت الأحقاد فيما بينهم، وولدت في صفوفهم نزاعات سرطانية خبيثة، استفحلت حتى صعب علاجها، هذا التعميم من شأنه أن يزيدنا فرقة فوق الفرقة، ويزيدَنا وهنا في وقت نحن أحوج ما نكون إلى توحيد الصف، ولملمة القوى.
أيها المؤمنون، هذا التعميم بهذه الصورة يتضمن الظلم والبغي، وهو من أعظم ما نهى الله تبارك وتعالى عنه، ثبت في الحديث القدسي عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: (( يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا)) رواه مسلم [1].
قال أبو الليث السمرقندي: "ليس شيء من الذنوب أعظمَ من الظلم، لأن الذنب إذا كان بينك وبين الله تعالى فإنّ الله تعالى كريم يتجاوز عنك، فإذا كان الذنب بينك وبين العباد فلا حيلة لك سوى رضا الخصم، فينبغي للظالم أن يتوب من الظلم ويتحلّل من المظلوم في الدنيا، فإذا لم يقدر عليه فينبغي أن يستغفر له، ويدعو له، فإنه يُرجى أن يحلّله بذلك" [2].
أيها المؤمنون، إن من أسباب تعميم الأحكام هذا، ذلك الوثن المنتن الذي عبده كثير من الناس من دون الله جل وعلا، إنه وثن القومية والعصيبية للعرق والبلد.
في مسند الإمام أحمد وغيره عن الحارث ابن الحارث الأشعري أن النبي قال: ((ومن دعا بدعوة الجاهلية فهو من جُثاء جهنم)) ـ أو حثاء وفي بعض الروايات من جمر جهنم ـ قالوا: يا رسول الله، وإن صام وإن صلى؟ قال: ((وإن صام وإن صلى وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم، بما سماهم الله عز وجل، المسلمين المؤمنين عباد الله عز وجل)) [3].
يجب علينا ـ أيها المسلمون ـ أن نوازن بين بغضنا لتصرفات أفراد أو طوائف معينين، وقفوا موقفا مخزيًا ينتمون إلى بلد أو قبيلة، وبين تعميمنا حكم البغض وتوابعَه لجميع أفراد ذلك البلد وتلك القبيلة.
فكل إنسان يعامل بحسب ما صدر منه، لا ما صدر من غيره، يعامل بذلك وفق الشريعة الإسلامية، لا وفق عواطفنا المندفعة والمنعتقة من أوامر الشريعة، قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8].
النصيحة الثانية: عباد الله، نحن نشاهد بأم أعيننا راعية الظلم والإرهاب وربيبتها بريطانيا تفتك بهذا البلد المسلم، وتحاول جاهدة تدمير أكبر قدر من بنيته التحتية، وهاهي تسفك دماء مئات الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، دون أن يردعها عن إراقة هذه الدماء رادع، وقد شاهدنها من قبل كيف فعلت في أفغانستان، ونحن نصحو كل يوم، ونغفو على مشاهد الظلم الصارخ والقتل الفظيع، والتدمير والقهر الذي يجري على إخواننا في فلسطين على يد أبغض الخلق، وأحقر البشر إن كانوا من سلالة البشر أصلاً، اليهود الصهاينة، وبغطاء أمريكي متطرف.
نصبح على صور جديدة من العنجهية الأمريكية، ونضحي على غطرسة نتنة، ونتجرع غصص الحنظل بدل أن نأكل الطعام الشهي، حينما نشاهد الحقير بوش يتحدث بكل استعلاء ووقاحة، منتفشًا كالطاوس ومتبخترًا كقارون.
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:79-83].
ثم نشاهد من جهة أخرى وقاحة منقطعة النظير من قادة البلاد الإسلامية، فقد تعاون بعضهم علانية مع مصاصي الدماء من أجل مزيد من القتل والتدمير، وكان للبعض الآخر شيء من الخجل، فتعاون مع المعتدي سرًا ومن وراء الكواليس، ووالله ما هو بخجل بل هو مُرود على النفاق، وطعن في الظهر، ومظاهرة سافرة للكافر على المسلم، نسأل الله أن يكفينا شرهم، وأن ينتقم لجراحات المسلمين منهم.
ومن سلم من التعاون بشتى صوره فقد أُلجم الحجارة في فهمه، وصمت عن قول الحق، فهو شيطان أخرس، فخذل المسلمين، وأصابهم في مقتل.
ثم نشاهد ـ يا عباد الله ـ بعد هذا كله الرئيس العراقي وقد ظهر في مظهر البطل، الذي يقاوم هذه الغطرسة الأمريكية، ويقف بكل صلابة متحديًا آلتها المدمرة، وتصوره أمريكا أنه عدوها الأول، وخصمها الكبير.
بعد كل هذا نندفع بعواطفنا التي تأججت بكره الظلم الأمريكي، والمحبطة من صنيع قادتنا، إلى حب الرئيس العراقي، ونظامه، ورجاله.
ثم لا نلبث بعد ذلك أن نتحيل بكل وسيلة لإقناع أنفسنا بأنه البطل المغوار، والمجاهد البطل، والرجل الشهم، وربما الصادق المجاهد الذي وقف حينما ركع الباقون، وصمد حين انخنس الجبناء.
عباد الله، علينا الحذر كل الحذر من فقدان التوازن بهذه الصورة في هذا المزلق الخطير، فبغضنا لأمريكا وظلمها لا يعني أبدًا حبنا لصدام ونظامه.
إن القاعدة التي تقول: عدو عدوي صديقي، والتي يبني عليها كثير من الناس ولاآتهم، شعروا أو لم يشعروا خاطئة وخاطئة جدًا.
إن المسلم متوازن في جميع الأحوال، متماسكٌ حتى في أوقات الفتن، لا يحمله الهوى، ولا تجرفه العاطفة، يزن الأمور بميزان الشرع.
إن ولاء المسلم وبراءه، وحبه وبغضه مبني على قاعدة الشرع الحكيم، فيحب من أطاع الله وسار في مرضاته كائنًا من كان، ويبغض من حارب الله وعاداه ولو كان من أقرب المقربين، ولو ظهر على أنه البطل المغوار، والفارس الكرار.
لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22].
[1] صحيح مسلم: كتاب البر والصلة (4674)
[2] تنبيه الغافلين (277).
[3] انظر حديث رقم (1724) في صحيح الجامع.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله القوي المتين، الحمد لله الذي أعز عباده المؤمنين، الحمد لله الذي وعد عباده بالنصر والتمكين، وتوعد الكفار بالعذاب المهين. والصلاة والسلام على النبي الأمين، المبعوث رحمة للعاملين، وحجة على المعاندين، ونكالاً على الجاحدين. والصلاة والسلام على الغر الميامين، خير المجاهدين، الذين حملوا راية هذا الدين، وعلى من تبعهم من السابقين، من الأولين والآخرين.
وبعد: أما النصيحة الثالثة: فيا أمة الإسلام، ويا عباد الله، نحن وإن كنا نعلنها صريحة، أن بغضنا لأمريكا لا يعني أبدًا حبنا لصدام البعث، فإننا يجب كذلك أن نكون متوازنين في طرحنا لهذه القضية في هذه الأيام العصيبة.
نحن نعيش ـ أيها المؤمنون ـ أياما عصيبة، لها ما بعدها، تكالبت قوى الشر على غزو المسلمين، واتحدت على اختلافها، وتضافرت على كل التنافر بينها، هذا الرئيس الروسي سيء الطلعة والذكر يصرح اليوم الجمعة، بعد أن صرح مفتي المسلمين في روسيا بضرورة جهاد الأمريكان، يصرح بأنه لن يسمح للعواطف المندفعة من التأثير على علاقة الصداقة التي تربط بين أمريكا وروسيا، وهاهو الاتحاد الأوربي في لقائه مع وزير الخارجية الأمريكي اليوم، لم يطالب ولو لمجرد المطالبة الولايات المتحدة الأمريكية بإيقاف الحرب، كل ما فعله أن تمنى أن تنتهي الحرب في أسرع وقت، بل إنه أعلنها صريحة مدوية، أنه يتمنى أن يكون النصر حليف الولايات المتحدة الأمريكية.
هذا التكالب والتآزر على حرب المسلمين، يوجب علينا نحن أن نتآزر ونتكاتف، والله جل وعلا قال: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].
لست هنا بصدد الحديث عن ضرورة الوحدة الإسلامية، فهذا موضوع يطول، والحديث عنه أشهر من أن يذكر به، لكنني هنا أشير إلى أمر هام جدًا، وهو أننا يجب أن لا نثير دواعي الفرقة في الصف الذي يقف ضد العدوان الأمريكي، فمصلحة دفع الكافر الصائل المعتدي على بلاد المسلمين، أعظم من مصلحة بيان انحراف بعض الذين تخندقوا مع المسلمين في صف واحد ضد هذا الكافر، الذي لن يكتفي باجتياح تلك البلدة، ولكنه سيجتاحها، وسيجتاح معها مأزر الإسلام ومهبط الوحي، وأرض الرسالة.
عباد الله، إننا ونحن نقول أنه يجب علينا أن لا يدفعنا بغض أمريكا واعتدائها إلى حب صدام وعقيدته، فإننا نتحدث عما يعقد عليه القلب من ولاء وبراء، وحب وبغض، لكن العمل بقانون المصلحة والمفسدة الذي أقرته الشريعة إقرارًا ماله مثيل، يوجب علينا النظر بكل روية وتعقل قبل الحديث عما من شأنه أن يثير الخلاف بين المدافعين عن بيضة العراق، ويمزق صفهم ويوهن وحدتهم.
نحن نعلم ـ يا عباد الله ـ أنه يشترك في الدفاع عن العراق في هذه الأيام البعثي والسني والشيعي، ونحن أول من يكره البعث والشيعة ويحذر منهم، لكن ينبغي أن نكون حذرين، فبغضنا للبعث وللشيعة لا يجوز بحال من الأحوال أن يحركنا لإثارتهم ضدنا، وشق الصف في هذه المعركة المصيرية.
(1/3218)
لا مكان للإحباط حتى بعد سقوط بغداد ثانية
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
المسلمون في العالم, معارك وأحداث
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سقوط بغداد في المرة الأولى على يد التتار. 2- وصف الأهوال التي أحدثها التتار في بغداد. 3- دور الرافضة في سقوط بغداد في يد التتار. 4- مقارنة بين سقوط بغداد في المرة الأولى والثانية. 5- حال المسلمين بعد هجمة التتار.
_________
الخطبة الأولى
_________
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:196-198].
الله أكبر، الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ما أعظم هذه الخطوب التي نعيشها، الله أكبر ما أفدحَ هذه المصائب التي نكابدها، أحزان وغموم، قهر وذل، ألم يقطع نياط القلوب تقطيعًا، وهّم يفتت كبد الحُرِّ تفتيتًا.
حال مهين ووضع مزرٍ، رحماك ربناك رحماك.
اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيرًا منها، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيرًا منها.
هل شهد التاريخ مثل هذا؟ هل سطر تاريخنا صفحات من بؤس كتلك التي نعيشها؟
نعم سطر وسطر، بل سطر ما هو أشد من هذا، كتب التاريخ يومًا فظائع حلت بهذه الأمة، لم تحل قبلها، ولن تحل بعدها، ومن الغريب أن هذه الفظائع حلت بنفس البلد الذي ننعى فيه اليوم مصابنا، ونحتسب فيه مصيبتنا.
يا مسلمون قوافي الشعر لو جمعت في ألف ملحمةٍ لن ينطفي لهفي
لن تُعذروا من قرى بغداد إذ نكبت لن تعذروا من ربا كركوك والنجفِ
لن تعذروا من سهول الفاو إذ سقطت وقد شغلتم بجمع المال والتحفِ
في أم قصرٍ دماء العز قد سفكت وأنتم في نعيمٍ وارفِ الترفِ
يا مسلمون ألا فاحموا عقيدتكم وسطروا نخوة الإسلام في صحفي
سيهزم الجمع يا بغداد فاصطبري إن يصرف الله عنك السوء ينصرفِ
يصف ابن الأثير تلك الفترة العصيبة التي مرت بها الأمة في ذلك الوقت، والتي تشبه حال أمتنا في هذه الأيام فيقول: "ولقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب، لم يبتل بها أحد من الأمم، منها هؤلاء التتر قبحهم الله، أقبلوا من المشرق، ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها، ومنها: خروج الفرنج لعنهم الله من المغرب إلى الشام، وقصدهم ديار مصر، وملكهم ثغر دمياط منها، حتى أشرفت ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها، لولا لطف الله تعالى ونصره عليهم.
ومنها: أن الذي سلم من هاتين الطائفتين ـ أي التتر والفرنج ـ فالسيف بينهم مسلول، والفتنة قائمة على ساق، فإنا لله وإنا إليه راجعون. نسأل الله أن ييسر للإسلام والمسلمين نصرًا من عنده، فإن الناصر والمعين والذاب عن الإسلام معدوم، وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال" انتهى كلام ابن الأثير.
في تلك الحقبة من التاريخ، والتي ابتدأت مع ولوج القرن السابع الهجري، كان حال المسلمين من التشرذم والضياع شبيهًا إلى درجة كبيرة بحال الأمة الإسلامية في هذه الأيام، ولهذا حل بها من الفظائع ما يحل بنا في هذه الأيام.
أيها المؤمنون، ثم يصف المؤرخ ابن الأثير في كتابه: الكامل، خروج التتر سنة سبع عشرة وستمائة على بلاد المسلمين، بوصف مؤثر يصور حجم المأساة، ويصف عمق المصيبة، وفداحة الخطب، وتأمل ـ أيها السامع ـ وانظر إلى هذا الكلام، وكأن ابن الأثير يصف حال بلاد المسلمين في هذه الأيام، وتسلط هذه الدولة الظالمة على رقابهم، قال رحمه الله: "لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فياليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعًا، فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى، التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن، لم يبتلوا بمثلها لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.
ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بختنصر ببني إسرائيل، من القتل وتخريب لبيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعينُ من البلاد، التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا، فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة، إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج.
وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة. فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح".
ثم يصفهم قائلاً: "وأما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها، ولا يحرمون شيئًا؛ فإنهم يأكلون جميع الدواب حتى الكلاب والخنازير وغيرها، ولا يعرفون نكاحًا، بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال، فإذا جاء الولد لا يعرف أباه..." انتهى كلام ابن الأثير.
أيها المؤمنون، هذا وصف ابن الأثير لهؤلاء التتر، ولم يكن قد رأى ما فعلوه عندما اجتاحوا بغداد وأسقطوا الخلافة العباسية، وقتلوا الخليفة، لكن ابن كثير الذي عاش بعد تلك الفترة وصف اجتياح تلك القوى الهمجية بلاد المسلمين، واحتلالهم لعاصمة الخلافة بغداد فيقول: "وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات، ويغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة، فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة. فإنا لله وإنا إليه راجعون".
ثم يقول: "وكذلك في المساجد والجوامع والرُّبُط، ولم ينج منهم أحد سوى أهلِ الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم، وإلى دار الوزير ابن العلقمي الشيعي الرافضي"، ثم يقول ابن كثير: "وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس. فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
ثم يقول رحمه الله: "وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يومًا، وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين، وقتل معه ولده الأكبر أبو العباس أحمد، ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن، وأسر ولده الأصغر مبارك، وأسرت أخواته الثلاث، وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل. والله أعلم. فإنا لله وإنا إليه راجعون".
ثم قال ويا لهول ما قال: "وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة من بني العباس، فيخرج بأولاده ونسائه فيُذهب به إلى المقبرة، فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه، وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجُمُعات مدة شهور ببغداد.
وأراد الوزير ابن العلقمي ـ قبحه الله ولعنه، وكان شيعيًا جلدًا رافضيًا خبيثًا ـ أن يعطل المساجد والمدارس والربط ببغداد، ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون علمهم بها، فلم يقدره الله تعالى على ذلك، بل أزال نعمته عنه، وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة، وأتبعه بولده فاجتمعا ـ والله أعلم ـ بالدرك الأسفل من النار. نسأل الله أن تكون هذه عاقبته، وعاقبة أحفاده من الشيعة الرافضة الذين خانوا المسلمين، ووالوا أعداء الدين، وسلموا البلاد طواعية للمعتدين".
ثم يقول ابن كثير: "ولما انقضى الأمر المقدر، وانقضت الأربعون يومًا، بقيت بغداد خاوية على عروشها، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس والقتلى في الطرقات، كأنها التلول وقد سقط عليهم المطر، فتغيرت صورهم، وأنتنت من جِيفهم البلد، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء، والوباء، والفناء، والطعن والطاعون. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما نودى ببغداد بالأمان، خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقُنِيّ والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضًا، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد، فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى".
لسائل الدمع عن بغداد أخبار فما وقوفك والأحباب قد ساروا
علا الصليب على أعلى منابرها وقام بالأمر من يحويه زنار
هذا الذي جرى ـ أيها المؤمنون ـ في ذلك الحدث الجلل، وما أشبه الليلة بالبارحة!
في البارحة جاءت هذه الجحافل للاستيلاء على بلاد المسلمين، بعدما آنست منهم ضعفًا وخورًا، وجبنًا عن الجهاد، وبذل النفوس والمهج من أجل إعلاء كلمة الله، فاحتلت ذلك البلد المسلم، وأعملت فيه السفك والنهب والخراب.
واليوم أقبلت هذه الجيوش الجرارة، بقضها وقضيضها لاحتلال بلد من بلاد المسلمين، بعد أن علمت علم اليقين أن المسلمين أولوا زمامهم لمن خان الله ورسوله، فنكس رايات الجهاد، وعطل الأمر بالمعروف، ونشر الرذيلة، وأباح الفسوق.
بغداد يا صرح الحضارة في الورى فلتسلمي والخائنون لك الفدا
بغداد يا دار الرشيد تجلدي لا هنت بل هان العميل ومن غدا
نعلاً لأمريكا وشرطيًا لها متذللين وبعضهم صاروا يدا
يتسابقون لنصرها حتى غدا رمز الجهاد مطاردًا ومشردًا
فلقد ذكرت أبا رغال بفعلهم والعلقميّ أراه عاد مجددا
في البارحة سجل التاريخ مواقف الخزي، التي سودت صفحات تلك الحقبة، يوم أن حفظ أن رجالات من المسلمين ذبحوا كما تذبح النعاج، دون أن يصدر منهم أي مقاومة للمعتدي المحتل، وأن نساءهم أخذن سبايا يلعب بهن علوج التتر، ويهتكون أعراضهن.
واليوم يسجل التاريخ وقد امتلأ كرهًا لما سجل في صحائفه، أن أشباه الرجال من المسلمين قاموا إلى علوج أهل الصليب، يباركون لهم هذه الفعلة، ويقبلون وجوههم ويبادؤونهم بالورود.
في البارحة سقطت بغداد، ونحر المسلمون في أزقتها، ليتلذذ بتلك المشاهد الوزير ابن العلقمي الرافضي الخبيث، في خيانة وقحة، سجلها التاريخ بمداد من دم، وأحرف من ظلام، وكلمات من بؤس.
واليوم سقطت بغداد وذبح المسلمون على أبوابها، ليرشف الرافضة كؤوسًا من دماء أهل السنة هناك، فيشعروا بنشوة السُّكر، التي أعمت بصائرهم عن عقاب رب شديد العقاب.
يا عباد الله، يا أمة الإسلام، كفانا بكاءا على موتانا، كفانا نحيبًا على ما جرى، هل انتهى كل شيء؟ هل أسقط في أيدينا؟ هل دارت الدائرة علينا؟ هل أشرفت هذه الأمة على الهلاك؟ أيتركنا التاريخ ويمضي؟ هل نستسلم حتى تذبح الأمة من الوريد إلى الوريد؟ هل نحني رقابنا؟ هل ننكس رؤوسنا؟ هل نجر خيبة ذلنا؟ هل نستمرئ عارنا؟ لا، لا، وألف لا.
أسمعتم يا مسلمون؟! أسمعتم يا مسلمون؟! أسمعت أيها العالم؟! أسمعتم أيها العلوج؟! أسمعتم يا عباد الصليب؟! أسمعتم أيها المجرمون؟! أقولها لا، لا، وألف لا. لن أركع أبدًا لن أركع، إن سلبوا أرضي لن أركع، إن هدموا بيتي لن أركع، إن قتلوا طفلي لن أركع، إن سفكوا دمي لن أركع، لن أركع أبدًا لن أركع.
سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا
ونفس الشريف لها غايتان ورود المنايا ونيل المنى
وما العيشُ ـ لا عِشْتُ ـ إن لم أكن مخوف الجناب حرام الحِمَى
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
استغفروا ربكم يا عباد الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله بيده الخير والشر، وعنده النفع والضر، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المؤمنون، فلو إن إنسانًا عاش تلك الفترة، لظن أن تاريخ المسلمين قد انتهى، وأن نجمهم أفل، وأن شمس المشرق غربت بلا رجعة، محنة عظيمة مرت بهم، سقطت خلافتهم التي هي رمز وجودهم، وعنوان عزتهم، قتل آلاف مؤلفة من أبنائهم، ودمرتهم مدائنهم. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم ماذا؟ ما هي إلا سنتين اثنتين فقط ويفيق المسلمون من غفلتهم، وتنهض عزائمهم، وتثور حميتهم، فتدور رحى معركة طاحنة بين المسلمين وبين من؟ بين هؤلاء الوحوش الضارية التي أكلت الأخضر واليابس في بغداد، ليهزمهم المسلمون هزيمة ساحقة، ويكسروا شكوتهم إلى أبد الآباد، فلم تقم لهم بعد ذلك قائمة البتة، إلا ما كان من مناوشات صغيرة، هزموا كذلك على إثرها، هزمهم المسلمون في معركة عين جالوت سنة ثمان وخمسين بعد المائة السادسة، بقيادة القائد المظفر قطز رحمه الله، ورحم من مات معه من المسلمين، ولعل الله ييسر لنا خطبة عن هذه المعركة التي أنارت وجه التاريخ، ولمعت في ثنايا المجد.
ملكنا هذه الدنيا القرونا وأتبعها جدود خالدونا
وسطرنا صحائف من ضياء فما نسي الزمان وما نسينا
عباد الله، إن مما يؤسف له أن كثيرًا من المسلمين الآن يرون ما يحيق بالمسلمين، ها هي ثلاث دول مسلمة محتلة احتلالاً عسكريًا، فلدينا فلسطين المحتلة، ثم أفغانستان المحتلة، وفي قلبنا وبين جوانحنا العراق المحتل، ناهيك عن الاحتلال المعنوي والثقافي الذي تعاني منه كل بلاد المسلمين.
كثير من المسلمين ـ أيها الإخوة ـ أصيب بالإحباط وأسقط في يده، حتى كأنه يرى أنها نهاية العالم، لقد اختزلوا تاريخ العالم الإسلامي كله، ومجده كله، وعزه كله، في سنوات عجاف تمر بها الأمة الإسلامية في هذه الأيام نتيجة لما كسبت أيدينا.
ارجعوا إلى التاريخ أيها المسلمون، واستقرؤوا التاريخ، كم من السنين حكمنا العالم؟ وكم من السنين حكم أعداؤنا العالم؟ خلافة راشدة، ثم دولة أموية، يتلوها دولة عباسية حتى منتصف القرن السابع الهجري ثم مرت بنا مراحل ضعف، لكن سرعان ما قام المارد، وأنشأ دولة حكمت المشرق والمغرب على يد العثمانيين، حتى سقطت الخلافة العثمانية سنة 1917 هـ، أي قبل أقل من مائة سنة فقط.
اعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أن هذه الدول التي أمسكت بزمام العالم الآن، إنما هي أورام سرطانية خبيثة، لن يكتب لها البقاء، فلا تملك من مقومات البقاء إلا ضعف هذه الأمة، فإذا ما قويت هذه الأمة فلن يكون لأمة غيرها غلبة ولا منعة.
أيها المؤمنون، لنعلم جميعًا وليعلم العالم كله أن النصر لنا مهما طالت الهزيمة، وأن الفجر آت مهما امتد الظلام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:139-142].
(1/3219)
مصيبة بغداد
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإيمان بالقدر سبيل اطمئنان النفس. 2- هدف الأعداء أن يفتنوا المسلم في دينه ويزعزعوا إيمانه. 3- أهداف الحملة الأمريكية على العراق. 4- المعركة مع أعداء الإسلام لا تنحصر في الميدان العسكري فقط. 5- النصر في نهاية المطاف للإسلام تحقيقًا لوعده سبحانه.
_________
الخطبة الأولى
_________
إذا أصيب العبد بمصيبة فليحمد الله وليصبر وليحتسب وليرجع إلى ربه، فإن الله هو الذي قدرها وشاءها، فيجب على العبد الصبر، فحينئذ ينشرح صدر المصاب ويطمئن ويسكن قلبه، وهو مع ذلك يؤجر أجرًا كبيرًا، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11].
قال علقمة: "هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم"، وقال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
وإذا لم يصبر المصاب على المصيبة، فإنه يتحسر ويشقى، وتزداد مصيبته، ويخشى عليه أن يتسخط على القدر، ويعترض على تقدير الله فيقع في محذور عظيم، ففي المسند والسنن عن ابن الديلمي قال: أتيت أبيّ بن كعب فقلت له: قد وقع في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي، فقال:... ولو أنفقت مثل أحد ذهبًا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار.
فالإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان، التي لا يتم إيمان عبد حتى يؤمن بها كلها، فإذا آمن الإنسان بالقدر إيمانًا كاملاً لا يعتريه شك، اطمأن في حياته، فإذا أصابه شيء علم أنه بقضاء الله وقدره، فيطمئن قلبه.
يقول الحق جل وعلا: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12]، فرحمة الله بعباده هي الأصل، حتى في ابتلائه لهم أحيانًا بالضراء، فهو يبتليهم ليُعِدَّ طائفة منهم بهذا الابتلاء لحمل أمانته، وليَمِيْز الخبيث من الطيب في صفوف المسلمين، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيّ عن بينة.
إن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو، ليُكسب المؤمن الطمأنينة بما قدّر له ربه؛ حتى وهو يمر بفترات الابتلاء التي تزيغ فيها القلوب والأبصار, إلا أنه يعلم أن ربه معه بنصره وتأييده، فتنقلب المحنة إلى منحة، وينقلب الخوف إلى رجاء، وينقلب القلق إلى طمأنينة.
ومن حكمة الابتلاء والمصيبة أنها تذكر العبد بذنوبه، وتزيل قسوة القلب، وترجع العبد إلى الله، ليقف ببابه ويتضرع إليه ويستكين، وتقطع قلب المؤمن عن الالتفات إلى المخلوقين، فيقبل على الله وحده. والمصيبة تعرف المصاب قدر نعمة العافية، لأن النعم لا تعرف أقدارها إلا بعد فقدها.
إن ما حصل في العراق من احتلال بغداد قد فاجأ الجميع، ولكن السبب لا يزال غامضًا! وهذا مما يزيد من حالة الذهول، ويعمق الشعور بالإحباط والأسى، ويوسع دائرة التأثير. وهذا ما يريده العدو!
قال رامسفيلد عن هذه الحرب: "إنها حرب إعلامية نفسية". ولقد رأينا التضليل الإعلامي الذي مارسته وتمارسه أمريكا، وكيف أنها قتلت الإعلاميين المنصفين بالصواريخ والدبابات!
والنتيجة أن الحرب ليست صراع أبدان، بل صراع إرادات وعقول، يريدون كسر الإرادة الإسلامية سواء كانت عراقية، أو جميع الشعوب الإسلامية.
لقد جاء سقوط بغداد أسرع مما تخيلته أفلام الهوليود، ومعلوم أن الهوليود سهم حاد من السهام النفسية لمحاربة الإرادة الحرة، تحارب بالوهم والتخييل نفسيًا، وتبسط الهيمنة الأمريكية، ومعروف تعاون الأجهزة الأمريكية الثلاثة: المخابرات CIA ، والبنتاغون، والهوليود.
وهذا الأسلوب من وجهة نظر العدو له الأفضلية، وأكثر فاعلية، لأنه يحفظه من المخاطرة في ميدان المعركة، ويخفي وجهه الوحشي العنجهي القبيح، إذا ما استخدم الآلة العسكرية.
نقول هذا من باب التشخيص، حتى نصل إلى خطورة ما يريده العدو بنا، وهو إيصال الطعنة إلى القلب، وهي أعظم تأثيرًا من الطعن في الجوارح والأبدان. فيفتن المسلم عن دينه، ويسيء الظن بربه، ويرى أنه لا منقذ له إلا أمريكا، ولا يمكن له بأية حال أن يواجه القوة العظمى الأمريكية، وأنها بلغت مبلغ الإله الذي يُدعى رغبًا ورهبًا.
ومن مظاهر ذلك: الشعور بالإحباط، واليأس من روح الله ـ وهو خطير مآله إلى الكفر ـ وتجد الشخص يعترض على القدر، ويجزع فلا يصبر، ويعجز فلا يعمل، عدا أنه يتنازل عن معاداة أمريكا والبراء منها، وقد ينقلب إلى موالاتها، وهذا تحطيم للعقيدة الإسلامية، وتفتيت لها وهي بحق الفتنة، الفتنة عن الدين التي قال الله فيها: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ [البقرة:191]، فمن يفتن عن دينه ينال ذل الدنيا وخزي الآخرة. أما الذي يقتل مؤمنًا فإنه يغادر الدنيا عزيزًا، ويستقبل الفردوس الأعلى في الآخرة.
هذا ما يراد بنا ولنا، وهذه هي الشباك التي تنصب لنا، فهل نستجيب لها؟! ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله؟! والعياذ بالله.
نعم، إن المصيبة قد حصلت، أولاً: بشن الحرب على العراق، ثانيًا: بوقوع الاحتلال.
والمصيبة بعد الاحتلال أخطر، إنها تفتح أبواب الفتن. وهذا ما يؤدي بنا إلى أن نعي طبيعة المعركة والصراع، وأنها في كل الميادين والمجالات وليس في المجال العسكري فحسب.
إن أمريكا تريد أن تغير المنطقة، هكذا قال كولن باول في الكونجرس، قال: "إننا بعد الانتصار على صدام، سنعيد ترتيب المنطقة ترتيبًا جذريًا، سنرسم خارطتها من جديد، سنبنيها على أسس جديدة لمصلحة أمريكا". هم يريدون تغيير هوية المنطقة، يريدون تغيير هوية التعليم الديني، يريدون أن يحذفوا من القرآن ما يريدون، ويحذفوا من التاريخ ما يحذفون، ويحذفوا من أبواب الفقه أبواب الجهاد، ويحذفوا من التاريخ خالدًا وأبا عبيدة وصلاح الدين وعمر المختار وكل هؤلاء، إنهم يريدون أن يغيرونا ويسلخونا من جلدنا، ولكنا نقول لهم: إنهم يريدون أن يدمروا القوة المادية للعراق، القوة العسكرية للعراق، القوة البشرية للعراق، فمن المعروف أن العراق كوّن قاعدة علمية بشرية طوال هذه العقود من السنوات، وهم لا يريدون أن يبقى للعراق أي قوة، ولذلك هم يريدون أن يلتقوا بالعلماء، وأن يروا العلماء، يريدون نزع الأدمغة، نزع العلم من الأدمغة لا نزع الأسلحة فقط، هذا هدف، وتطال الأهداف المجاهدين في فلسطين، وإخراج الكيان الصهيوني من أزمته الخانقة بسبب الانتفاضة، ثم تعقب ذلك بتغيير جذري في كل البلاد الإسلامية، يسمح باجتثاث كل ماله علاقة بإسلام الجهاد والعزة، وفرض إسلام أمريكاني مشوه خانع، مستعد للتنازل لليهود عن كل حقوق الأمة، ومقدساتها، خاصة القدس.
إن المعركة بيننا وبين أهل الكتاب وأعداء هذا الدين مستمرة، لم تهدأ ولم تنقطع، وربما تكون لها أولويات في مكان دون آخر، ولكنها مستمرة إلى أن تقوم الساعة.
فلا ترتبط قضية الواجب بأن يحدث العدو عدوانًا جديدًا، أو يهاجم بلدًا أو عاصمة إسلامية كما قد نظن، وإن من الخطأ الشديد حصر المعركة في ميدان واحد.
إن المعركة شاملة الميادين، معركة في الميدان الثقافي، وفي الميدان الإعلامي، والميدان الاجتماعي والاقتصادي، وكل ميدان يخدم بعضًا من هذه الميادين ويرتبط به. وما دمنا نعلم أن العدو بهذه الشراسة، والمعركة بهذه السعة، فلا بد أن نستعد للمواجهة في كل هذه الميادين، ونواجه العدو مواجهة عامة، وتحتاج المواجهة إلى الصدق مع الله، والبعد عن الترف واللهو، والبعد عن الوهن ((حب الدنيا وكراهة الموت)).
وبقدر طردنا للوهن من قلوبنا، فإنه ينقلب في قلوب أعدائنا، وبقدر ما نتلبس به، يستأسد أعداؤنا علينا،
وسيأتي اليوم الذي يقول فيه الذين خذلوا العراق: أكلت يوم أكل الثور الأبيض، ولا أقول تؤكل دنياهم، فالدنيا عرض زائل، يأكل منه البر والفاجر، بل أقول: يؤكل دينهم الذي هو عصمة أمرهم وعزهم وشرفهم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
وإنهم يمكرون مكرًا كبارًا، مكر الليل والنهار، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
_________
الخطبة الثانية
_________
إن مما ينبغي التأكيد عليه أن سقوط بغداد لم يكن بسبب القوة الأمريكية أو قدرتها وحدها ولا شك في ذلك، إنما ينبغي ربط السقوط والهزيمة بالسنن الربانية التي تحكم النصر والهزيمة.
أما وإن سبب غياب واختفاء القيادة العراقية المفاجيء في أحرج الأوقات، ما زال غامضًا، فيصعب تعيين أي السنن الربانية التي خُولفت فحصل الخلل، حصل فيها الخلل هل هي:
سنة وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]؟
أم سنة وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154]؟ أم سنة وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ... [التوبة:25]؟
وأسباب وسنن أخرى في النصر والهزيمة، بينتها سورة آل عمران في تحليل أحداث ومصيبة غزوة أحد وغيرها من السور.
ومع ألم المصيبة، لا ننسى الآية التي خفف الله بها على الصحابة مصيبتهم في أحد، حيث قال: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:139، 140].
ولنتذكر أنه من الجحود لنعم الله: أن نعيش في ألم المصيبة لتسيطر علينا، ونقول: أنَّى هذا؟ ولا نتذكر نعم الله علينا الكثيرة: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]. نِعم قريبة، أليس من النعم الصمود، تدميرهم في تدبيرهم، كشف زيف القوة الأمريكية، والرعب الذي في قلوبهم، ومشاعر النصر والعزة والتمكين أثناء الصمود في أول المعركة أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165]، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120].
إذا ابتليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو الله
إذا قضى الله فاستسلم لقدرته ما لامرئ حيلة فيما قضى الله
اليأس يقطع أحيانا بصاحبه لا تيأسن فنعم القادر الله
أيها المحزونُ لهذه الأمّة، أيّها المكلوم لهذه الغمّة، مهما حاولَ أعداءُ الإسلام، ومهما سعَوا من إنزال أنواعِ الفشَل، وألوان الشلل بالإسلام والمسلمين، فلن يستطيعوا أن يطفِئوا نورَ الله، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8]. وعن تميم الداري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله يقول: ((ليبلغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مدَرٍ ولا وبَر إلا أدخله الله هذا الدينَ، بعزِّ عزيزٍ أو بذلّ ذليل، عزًا يعزُّ الله به الإسلامَ، وذلاّ يذلّ الله به الكفر)) أخرجه أحمد، وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنَّ الله زوى ليَ الأرض، فرأيتُ مشارقَها ومغاربها، وإنَّ أمّتي سيبلغ ملكُها ما زُوِي لي منها)) أخرجه مسلم.
هذا وعد الله، إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا [مريم:61]، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً [الأحزاب:37]، وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [الكهف:98]. هذا وعد الله، فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ [البقرة:80]، إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:9]، فَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ ذُو ?نتِقَامٍ. هذا وعدُ الله، قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا [الإسراء:51].
(1/3220)
تدبروا القرآن
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل القرآن. 2- رمضان شهر القرآن. 3- فضل قراءة القرآن. 4- أسباب الانتفاع بالقرآن. 5- هل الأفضل قراءة القرآن بتدبر أم الإكثار منه من غير تدبر؟ 6- وسائل تعين على تدبر القرآن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده إنزال هذا الكتاب الكريم، كتاب الهداية والراحة، كتاب الطمأنينة والسعادة، كتاب النصر والتوفيق، كتاب التسلية والترويح، كلام ربي كلام ربي، خرج من الله، وإليه يعود.
ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاء لِمَا فِي ?لصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ ?للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:57، 58].
وشهر رمضان ـ يا عباد الله ـ هو شهر القرآن، بل هو شهر الكتب السماوية كلها، ففضل هذا الشهر بإنزال كلام الله فيه، شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِي أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ [البقرة:185]، وقوله: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِي لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ [القدر:1]. ولذلك فقد كان جبريل عليه السلام يدارس النبي القرآن كل ليلة من ليالي رمضان، كما ثبت ذلك في الصحيح.
ولهذا كان السلف الصالح إذا جاء رمضان تركوا الاشتغال بغير القرآن، وأقبلوا على القرآن، قراءة وتدبرا وعملا؛ لما لقراءته في هذا الشهر الكريم من المزية العظيمة والأجر المضاعف.
في سنن الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنةٌ، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرفٌ، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) ، وفي سنن الدارمي ومسند الإمام أحمد واللفظ للدارمي عن سعيد بن المسيب أن نبي الله قال: ((من قرأ: قُلْ هُوَ ?للَّهُ أَحَدٌ عشر مرات بني له بها قصرٌ في الجنة، ومن قرأ عشرين مرة بني له بها قصران في الجنة، ومن قرأها ثلاثين مرة بني له بها ثلاثة قصور في الجنة)) ، فقال عمر بن الخطاب: والله يا رسول الله، إذًا لتكثرن قصورنا، فقال رسول الله : ((الله أوسع من ذلك)).
نعم السمير كتاب الله إن له حلاوة هي أحلى من جنيك الضرب
به فنون المعاني قد جمعن فما تفتر من عجب إلا إلى عجب
أمر ونهي وأمثال وموعظة وحكمة أودعت في أفصح الكتب
لطائف يجتليها كل ذي بصر وروضة يجتنيها كل ذي أدب
عباد الله، أيها المؤمنون، هذا الكتاب العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه من خلفه تنزيل من عزيز حميد، هذا الكتاب لا ينفع قارئه إلا إذا كان يعمل به، ولا يمكن أن يعمل به إلا إذا تدبره، ولا يمكن أن يتدبره إلا إذا فهم معانيه، وهذا هو الذي نريد أن نقف عنده في هذه الخطبة.
قال الله جل وعلا: كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [ص:29]، قال ابن جرير الطبري: "ليتدبروا حجج الله التي فيه، وما شرع الله فيه من الشرائع، فيتعظوا ويعملوا به".
ولهذا فإن التدبر لا يحدث إلا إذا تمت للقارئ أربعة مراحل: الأولى: معرفة معاني الألفاظ وما يراد بها، الثانية: تأمل ما تدل عليه الآيات مما يفهم من السياق أو من تركيب الجمل، الثالثة: اعتبار العقل بحججه وتحرك القلب بزواجره وبشائره، الرابعة: اليقين بأخباره والخضوع لأوامره.
وقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا [النساء:174]، قال الآجري في آداب حملة القرآن: "فالمؤمن العاقل إذا تلا القرآن استعرض القرآن، فكان كالمرآة، يرى بها ما حسن من فعله وما قبح فيه، فما حذره مولاه حذره، وما خوفه به من عقابه خافه، وما رغب فيه مولاه رغب فيه ورجاه، فمن كانت هذه صفته أو ما قارب هذه الصفة فقد تلاه حق تلاوته، ورعاه حق رعايته، وكان له القرآن شاهدا وشفيعا وأنيسا وحِرزا، ومن كان هذا وصفه نفع نفسه ونفع أهله، وعاد على والديه وعلى ولده كل خير في الدنيا والآخرة".
وقال تعالى: لَوْ أَنزَلْنَا هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ عَلَى? جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـ?شِعًا مُّتَصَدّعًا مّنْ خَشْيَةِ ?للَّهِ وَتِلْكَ ?لأَمْثَـ?لُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21]، قال ابن القيم رحمه الله: وبالجملة فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل والرضا والتفويض، والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله. وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة، والتي بها فساد القلب وهلاكه.
فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة، ولو ليلة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن.
وهذه كانت عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصباح، وقد ثبت عن النبي أنه قام بآية يرددها حتى الصباح وهي قوله: إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ [المائدة:118]. ـ ثم قال واستمع لما قال ـ: فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب.
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا كفى لمطايانا بنورك هاديا
روى أبو أيوب عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث، قال: (لأن اقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كما تقرأ).
كان أبو حنيفة شديد الخوف من الله، صلى العشاء الآخرة فقرأ بهم الإمام: إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا [الزلزلة:1]، فلما قضى الصلاة وخرج الناس نظرت إلى أبي حنيفة وهو جالس يفكر ويتنفس، فقلت: أقول لا يشتغل قلبه بي، فلما خرجت تركت القنديل ولم يكن فيه إلا زيت قليل، فجئت وقد طلع الفجر وهو قائم قد أخذ بلحية نفسه، وهو يقول: يا من يجزي بمثقال ذرة خير خيرا، ويا من يجزي بمثقال ذرة شر شرا، أجر النعمان عبدك من النار، وما يقرب منها من السوء، وأدخله في سعة رحمتك. قال: فأذنت فإذا القنديل يزهر وهو قائم، فلما دخلت قال: تريد أن تأخذ القنديل؟ قال: قلت: قد أذنت لصلاة الغداة، قال: اكتم علي ما رأيت، وركع ركعتي الفجر، وجلس حتى أقمت الصلاة وصلى معنا الغداة على وضوء أول الليل.
يا عباد الله، يا أمة القرآن، لقد ذم الله الذين لا يتدبرون كلامه، ومثلهم بأقبح الأمثلة وأبشعها، فقال تعالى: مَثَلُ ?لَّذِينَ حُمّلُواْ ?لتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ?لْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ ?لْقَوْمِ ?لَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَـ?تِ ?للَّهِ وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الصف:5].، قال الطرطوشي رحمه الله: "فدخل في عموم هذا من يحفظ القرآن من أهل ملتنا ثم لا يفهمه، ولا يعمل به".
أما نبينا فقد جعل من أوصاف الخوارج تلك الفرقة المارقة أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، أي: أنهم يأخذون أنفسهم بقراءة القرآن، وهم لا يتفقهون فيه ولا يعرفون مقاصده. قال النووي رحمه الله: "المراد: أنهم ليس لهم فيه حظ إلا مروره على لسانهم، لا يصل إلى حلوقهم، فضلا عن أن يصل إلى قلوبهم، لأن المطلوب تعقله وتدبره، بوقوعه في القلب".
وهنا سؤال قد يطرحه بعض الإخوة، وهو أنه قد رتب الله الأجر عند قراءة القرآن، بكل حرف حسنة، وهذا يعني أنه كلما ازداد الحروف التي يقرأها الإنسان ازدادت الحسنات، الأمر الذي يدل على أن المطلوب لحصول الأجر الكثير هو الإكثار من القراءة، قالوا: ويدل على ذلك ما ورد عن السلف الصالح رحمهم الله في ذلك، فالشافعي مثلا اشتهر عنه أنه كان يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة، وكذلك ورد عن أبي حنيفة، بل ورد عن غيرهم من السلف نحو ذلك.
فالجواب والله أعلم هو:
أولا: لا نسلم بأن هذا الأجر العظيم يحصل لقارئ القرآن بمجرد القراءة ولو كان قلبه غافلا لاهيا، بل على الأقل لا بد من أصل حضور القلب في القراءة، ومعرفة المعنى على وجه الإجمال.
قال بعض العلماء: "إن من عمل بالقرآن فكأنه يقرؤه دائما وإن لم يقرأه, ومن لم يعمل بالقرآن فكأنه لم يقرأه وإن قرأه دائما, وقد قال الله تعالى: كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لألْبَـ?بِ [ص:29]. فمجرد التلاوة والحفظ لا يعتبر اعتبارا يترتب عليه المراتب العلية في الجنة العالية".
ثانيا: قال بعض العلماء في بيان هذه المسألة: إن من رتل وتأمل كمن تصدق بجوهرة واحدة ثمينة، ومن أسرع كمن تصدق بعدة جواهر لكن قيمتها قيمة الواحدة، وقد تكون قيمة الواحدة أكثر من قيمة الأخريات، وقد يكون العكس.
وأما الجواب عن ختم السلف هذه الختمات الكثيرة، فيتضح بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما الأفضل في حق الشخص فهو بحسب حاجته ومنفعته، فإن كان يحفظ القرآن وهو محتاج إلى تعلم غيره فتعلمه ما يحتاج إليه أفضل من تكرار التلاوة التي لا يحتاج إلى تكرارها، وكذلك إن كان حفظ من القرآن ما يكفيه وهو محتاج إلى علم آخر، وكذلك إن كان قد حفظ القرآن أو بعضه، وهو لا يفهم معانيه، فتعلمه لما يفهمه من معاني القرآن أفضل من تلاوة ما لا يفهم معانيه، وأما من تعبد بتلاوة الفقه فتبعده بتلاوة القرآن أفضل، وتدبره لمعاني القرآن أفضل من تدبره لكلام لا يحتاج إلى تدبره".
فالشافعي ـ أيها الإخوة ـ وكذلك غيره من السلف فهموا كتاب الله فهما عميقا، وتدبروه غاية التدبر، فكان شهر رمضان في حقهم فرصة لتكثير الحسنات، فإذا وصلنا إلى درجتهم في العلم والتدبر والفهم حق لنا عندئذ أن نفعل ما يشبه فعلهم، مع أن هدي الرسول أكمل وأعلم وأحكم.
أيها المؤمنون، وبسبب خطأ كثير من الناس في فهم المقصود من قراءة القرآن نجد البون الشاسع بين حال المسلمين وبين ما يقرؤونه في كتاب ربهم، الأمر الذي يدل على أنهم لم ينتفعوا بما يقرؤون.
أين من صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله وهو يقرأ صباح مساء في اليوم والليلة سبعة عشرة مرة قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]؟! ولم يقل: نعبد ونستعين بك، بل قدم المفعول، أي: نعبدك ولا نعبد سواك، ونستعين بك، ولا نستعين بمن سواك، فأين الذين يستعينون بغير الله ويعتمدون على غيره ويتوجهون إلى غير الله من هذه الآية؟!
أين الذين يذهبون إلى الغرب والشرق طالبين عونهم من دون الله، ونسوا أن يمدوا أيديهم بطلب العون من الله، وأن تتوجه قلوبهم لطلب العون من الله؟! أين هم من قول الله جل وعلا: فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:175]؟!
أين الذين يؤخرون الصلاة؟! أين الذين يستهزئون بآيات الله؟! أين الذين يسرفون على أنفسهم بالمعاصي؟! أين هم مما يقرؤونه من عذاب الله الذي أعد الله لمن خالف أمره؟! أين هم وهم يقرؤون قول الله جل وعلا: إِنَّ شَجَرَةَ ?لزَّقُّومِ طَعَامُ ?لأَثِيمِ كَ?لْمُهْلِ يَغْلِى فِي ?لْبُطُونِ كَغَلْي ?لْحَمِيمِ خُذُوهُ فَ?عْتِلُوهُ إِلَى? سَوَاء ?لْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ ?لْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ?لْعَزِيزُ ?لْكَرِيمُ [الدخان:43-49]؟!
فلا إله إلا الله ما أحلم الله، ولا إله إلا الله ما أعظم عفوه، ولا إله إلا الله ما أوسع فضله.
أين الذين يأكلون الربا؟! أين الذين يشرون المساكن بالربا من قول الله جل وعلا: ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ ?لرّبَو?اْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ?لَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ?لشَّيْطَـ?نُ مِنَ ?لْمَسّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا ?لْبَيْعُ مِثْلُ ?لرّبَو?اْ وَأَحَلَّ ?للَّهُ ?لْبَيْعَ وَحَرَّمَ ?لرّبَو?اْ فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ فَ?نتَهَى? فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى ?للَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [البقرة:275]؟!
أين أصحاب الأخلاق السيئة والطبائع الذميمة من قول الله جل وعلا: وَقُل لّعِبَادِي يَقُولُواْ ?لَّتِي هِي أَحْسَنُ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ كَانَ لِلإِنْسَـ?نِ عَدُوّا مُّبِينًا [الإسراء:53]؟!
أين المتكبرون على إخوانهم المسلمين؟! أين هم وهم يقرؤون قوله جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ?للَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ يُجَـ?هِدُونَ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ يَخَـ?فُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذ?لِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54]؟! هل يقرؤون وهم غافلون؟! هل يقرؤون وهم ساهون؟!
قال الله جل وعلا: وَأُوحِىَ إِلَيَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانُ لأنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ [الأنعام:19]، قال محمد بن كعب القرظي: "من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله".
فلا حول ولا قوة إلا بالله يا عباد الله، يكلمك الله يقول لك: كف عن الربا، ولا تكف. يكلمك الله فيقول لك: امتنع عن شرب الخمر، فلا تفعل، يأمرك الله بإحسان أخلاقك واللين مع المسلمين، فتتمرد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أيها المؤمنون، هناك أمور تعين على تدبر القرآن:
أولها: تعلم اللغة العربية، وهنا نحن نقول: تعلمها للعرب، وتعلمها لغير العرب، فالقرآن نزل بلسان عربي مبين، فمن لا يفهم العربية، فإنه غير قادر على تفهم الكلام العربي. إلا أننا نزف بشرى هنا للإخوة الذين لا يتحدثون العربية، بأنهم إذا قرؤوا الترجمات لمعاني القرآن الكريم وتفكروا فيها وتدبروا تلك المعاني، ثم عملوا بمقتضاها، مع محاولتهم لتعلم العربية، فإنه يرجى لهم الأجر العظيم، حيث حصل لهم جزء كبير من التدبر والعمل.
الثاني: أن لا يكون هدف الإنسان وهمّه هو تكثير الصفحات التي يقرأها، أو زيادة الختمات التي يختمها، بقدر ما يكون له همّ في تدبر ما يقرأ ويفهم كما تقدم آنفا، وقد ذكرنا كيف يكون الآجر لمكثر القراءة بدون تدبر، ولمقلها مع التدبر والفهم. قال ابن مسعود: (لا تهذوا القرآن هَذّ الشعر، ولا تنثروه نَثر الدَقل ـ أي: يرمون بكلماته من غير روية وتأمل، كما يُرمى الدَقل وهو رديء التمر، فإنه لرداءته لا يحفظ ويلقى منثورا ـ، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة).
ألفاظه كعقود الدر ساطعة وآية لظلام الجهل أقمار
رقت معانيه إذ دقت لطائفه فأمعنت فيه ألباب وأفكار
كفى به لأولي الألباب تبصرة أن أنصفوا وبحكم العقل ما جاروا
به هدى الله أقواما وأيدهم فأصبحوا وعلى المنهاج قد ساروا
الثالث: أن يقرأ القرآن بحضور قلب، فكثير من الناس يقرأ القرآن وهو غافل لاه، يقرأ بلسانه، وعقله وفكره وقلبه في واد آخر، وهذا لا ينتفع من القرآن البتة، لكن يثاب على نيته قصد القراءة والتقرب إلى الله جل وعلا.
عباد الله، إن المرء ليحزن حينما يرى أن كثيرا ممن يقرؤون القرآن يقرؤونه على هذه الصفة، ومما يدل على ذلك أنك لو استمعت لبعض من يقرأ القرآن لوجدته يخطئ في القرآن أخطاء تحيل المعنى بل ربما تقلبه، وهم مستمرون في القراءة دون انتباه.
الرابع: أن يتعلم تفسير القرآن ولو باختصار شديد، فعلى قارئ القرآن أن يقرأ بعض الآيات، ثم يذهب إلى تفسير القرآن فيتعلم تفسيرها، ولو أن قارئ القرآن اصطحب معه نسخة من القرآن التي بهامشها تفسير للقرآن الكريم لكان ذلك نافعا جدا.
الخامس: أن يحاول تذكر آيات القرآن الكريم في دقائق يومه، وأن يربط بين تلك الآيات والتوجيهات القرآنية لما يواجهه، فمثلاً: حينما ينزغه الشيطان لمعصية، فليتذكر قول الله جل وعلا: إِنَّ ?لَّذِينَ ?تَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ ?لشَّيْطَـ?نِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:]، وإذا أراد القيام بعمل ما فليحاول جهده أن يتذكر الآيات القرآنية الواردة بخصوص هذا العمل، فالمصلي منا لو تذكر عند صلاته قول الله جل وعلا: قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون:1، 2].
وكذا لو تذكر قول الله جل وعلا: ?تْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ ?لْكِتَـ?بِ وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ?للَّهِ أَكْبَرُ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، وإذا أصابته مصيبة صبر واحتسب، وتذكر قول الله جل وعلا: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لأمَوَالِ وَ?لأْنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].
وهكذا، يعيش الإنسان بالقرآن، ويحيا بالقرآن، ويموت على القرآن، وعندئذ يكون من أهل القرآن وخاصته، وكما ورد في مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه والدارمي عن أنس قال: قال رسول الله : ((إن لله أهلين من الناس)) ، فقيل: من أهل الله منهم؟ قال: ((أهل القرآن هم أهل الله وخاصته)).
ولن تنتصر الأمة حتى تكون أمة قرآنية، تعكف على كتاب الله قراءة وتدبرا وعملا.
(1/3221)
السحر (2)
التوحيد
نواقض الإسلام
أحمد حسن المعلم
المكلا
10/4/1420
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسباب لجوء الناس إلى السحر. 2- أنواع خوارق العادات. 3- العلاج بالسحر. 4- التداوي بالقرآن. 5- الوقاية من السحر. 6- العلاج من السحر. 7- التحذير من قبول قول المسحور فيمن سحره.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الإخوة ـ ونفسي بتقوى الله وطاعته.
عباد الله، علمنا في الجمعة الماضية عن السحر وتلونا قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:102]. وقد علقنا على هذه الآية.
وقال الله تعالى: قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ [يونس:77]، وقال سبحانه: فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81].
في الآية الأولى نفى الله الفلاح عن الساحرين، وفي الثانية سمى السحرة مفسدين.
عباد الله، إذا كان هذا الذم وهذا الوعيد وهذه العقوبات في الدنيا والآخرة معدة للساحر فلِم يقدِم الناس على السحر؟!
الجواب: إنه البحث عن الغريب والشاذّ، إنه البحث عن الشهرة والظهور، إنه البحث عن المال والكسب المادي، إنه البحث عن الشهوة المحرمة، إنه البحث عن الجاه والمنزلة عند الناس، إنه جلب التعظيم والتقديس لكون الجهال يجعلون السحرة من الأولياء.
وقد ذكر الشعراني أن بعض ضعاف النفوس يلجؤون إلى السحر والكهانة لإظهار الخوارق حتى يحسّوا أنفسهم من الأولياء، وخير مثال على ذلك الحلاج الذي قدم روحه فداءً للشهرة والجاه.
ويذكر ابن خلدون أن بعض المتصوفة خاضوا في نوع من السحر هو علم أسرار الحروف، وهذا النوع هو المسمى بالسيمياء. ويذكر ابن خلدون أن هذا العلم حدث في الملة بعد صرفها وعند ظهور الغلاة من المتصوفة وجنوحهم إلى كشف حجاب الحس وظهور الخوارق على أيديهم.
عباد الله، لا تغترّوا بكلّ من أظهر الخوارق وتحدث عن المغيبات وزعم الكشف والأخبار بما في الضمير؛ فإن كثيرًا من ذلك هو من باب السحر والكهانة.
ونحن نعتقد ونصدق بكرامات الأولياء غير أنا نقول: إنه كما يوجد أولياء للرحمن يكرمهم الله، ويجري على أيديهم الكرامات، فإن للشيطان أولياء منهم السحرة والكهنة والعرافون، تجري كذلك على أيديهم بعض الخوارق، وهي دليل على ولايتهم للشيطان.
لذا قال الإمام الشافعي رحمه الله: "لو رأيت إنسانًا يمشي على الماء أو يطير في الهواء فلا تعجب به حتى تعلم استقامته".
وقد سبق التحذير من الذهاب إلى هؤلاء، وأكثر من يزعمون العلاج العربي هم من أجل هذا الشأن، خصوصًا الذين يطلبون آثارًا من آثار المريض، أو يسألون عن اسمه واسم أمه.
وأما التداوي بالقرآن فلا حرج فيه إذا علم أنه يقرأ القرآن فقط، أو رقى شرعية فقط، وأما إذا كان القارئ يقرأ كلامًا لا يفهم فإنه لا يجوز الذهاب إليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
يقول الرسول : ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله)).
وإن لنا مع السحر طريقان:
الأولى: الوقاية منه، وذلك بأمور:
1- الاستعاذة والالتجاء إلى الله سبحانه منه، فقد أرشدنا الله إلى ذلك في آيات كثيرة.
2- تقوى الله سبحانه.
3- صدق التوكل على الله.
4- تجريد توحيد الله تعالى وعدم الالتفات إلى سواه.
5- المداومة على الأذكار الواقية من الشرور.
الثانية: إزالته بعد وقوعه وذلك بما يلي:
1- الرقى والتعاويذ.
2- التعرف على موطن السحر وإزالته.
3- استعمال الأدوية المباحة.
عباد الله، أما الذهاب إلى السحرة لحل السحر فإنه لا يجوز في أصح أقوال العلماء.
ويجد التنبيه إلى أنه لا يقبل قول المسحور أن فلان سحرني، ولا كلام الجني على لسان المسحور أو غيره أن الذي فعل ذلك هو فلان إلا بالبينة الشرعية.
(1/3222)
التشبه بالكفار
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, الولاء والبراء
فيصل بن عبد الرحمن الشدي
الخرج
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كمال الإسلام. 2- افتتان كثير من المسلمين بالكفار. 3- ظاهرة التشبه بالكفار. 4- من مظاهر التشبه بالكفار: العصبية الجاهلية، التبرج والسفور، أعياد الكفار، التقليد في الملابس، التحدث بلغتهم، قصات الشعر، حلق اللحى، التاريخ الميلادي، تربية الكلاب، الغناء. 5- أسباب التشبه بالكفار. 6- المخرج من هذه الفتنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيّها المسلمون، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
عباد الله، دينكم الذي تدينون به قد أكمله ربكم وبه أتم نعمته عليكم، ورضيه لكم شرعة ومنهجًا وسلوكًا، وجرت نواميس الكون وتقلبات التاريخ ليثبت بكل وضوح وجلاء أن من تمسك بهذا الدين أعزه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، ومن تركه ورغب عنه قصمه الله.
وكتب الله على عباده أن كل أمة تستبدل الضلال بالهدى وتتخلى عن خصائصها وتخجل من مبادئها أنها أمة لا تزال في تقهقر وانحطاط وتلاش واضمحلال في فكرها وقوتها وسلوكها.
معاشر الإخوة، وإنه مما ابتلي به السواد العظيم من أمة الإسلام في هذا الزمن أنها أصبحت تأخذ كل ما يساق إليها، وتعبُّ من كل وارد يأتيها، ناسية أو متناسية أن لديها ثوابت عقدية وقواعد شرعية وضوابط ربانية، تضبط ما يؤخذ من الأمم الأخرى ويُقبل، وما يحذر منه ويعرض عنه ويُهمل.
ومما يزيد الظلام ظلمة والعقدة عُقَدًا أن يكون ميل الآخذين من الغير إلى التافه الحقير من فنون ما يسلب الأخلاق ويدمر القيم ويُذل الأمة ويكرّس العبودية، أما أن يأخذ من غيرنا سرّ التفوق وإكسير القوة والنافع المفيد فذاك القوم عنه غافلون.
عباد الله، إنه التشبه بالكفار وتقليدهم والسعي وراءهم في استعباد فكري وخنوع معنوي وتبعية مهينة، والله سبحانه ينادي: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]، ولكن صدق رسول الله كما في الصحيحين: ((لتتبعنَّ سنن الذين من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو سلكوا جُحر ضبّ لسلكتموه)) ، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!)).
لله درك قلت ـ يا رسول الله ـ حقًا، وتلفّظت صدقًا، خرجت أجيال من المسلمين لا تفكّر إلا بعقول الأعداء، ولا تبصر إلا بأعينهم، راسخٌ في نفوسها ـ شعرت أم لم تشعر ـ أن الحق ما جاء من عند عدوها، والباطل لا يكون عندهم، مقاييس الحق والصدق والأدب ما قررته نظريات الغرب ومناهجه.
وحتى لا يكون كلامنا هذا ضربًا من القيل والقال ولا تلاعبًا بالأقوال فهلمَّ إلى شارع حياتنا لنلقي الضوء على شواهد ظاهرة وخواطر شاهدة على انسياق بعض بني جلدتنا خلف تقليد الكفار والتشبه بهم، فمنها:
1- العصبية إلى قوم أو إلى مذهب أو إلى بلد أو قبيلة، وهذه العصبيات البغيضة جعلت المسلمين في هذا الزمن يرفعون لواء القوميات المقيتة والوطنيات الضيقة التي جعلت المسلمين شعوبًا وفرقتهم أممًا، ناهيك عمّن يشمخ بأنف الكبر والخيلاء لأنّه من قبيلة كذا وكذا، يوالي ويعادي على ذلك، وفي الحديث الصحيح في سنن أبي داود وغيره يقول : ((ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل لعصبية، وليس منا من مات على عصبية)).
2- تبرج النساء والافتتان بهن، وهذا ـ وربي ـ من أفتك الأمراض الخلقية التي تبتلى بها الأمم وتنهار بسببها الحضارات، وتبرّجُهن سمة الكفار، وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]، والفتنة بهن سنة بني إسرائيل، ((فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) ، ولا يخفى على من له أدنى بصر السباقُ المحموم الذي تتسابقه كثير من النساء لهثا وراء تقليعات الغرب وركضًا في كشف ما أمرت بستره، رويدًا رويدًا حذو القذة بالقذة.
3- الاحتفال والاحتفاء بأعياد الكفار وكذا الأيام والأسابيع التي ابتدعوها، وهي من أشد وأخطر ما تساهل فيه المسلمون، فمن الاحتفال بالمولد النبوي إلى الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، وهذه كلها أحدثت محاكاة للكفار، وكذلك الأعياد الوطنية والقومية التي تزداد يومًا بعد يوم بين المسلمين، وكذا أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية وعيد الحب وهو من آخر ما ابتليت به أمة الإسلام، الذي يحتفي به قِطاع من شباب الأمة وفتياتها، يرتدون فيه الملابس الحمراء ويتبادلون الورود الحمراء، سبحان ربي، تشبّه ظاهر، وتفرنج معلن، يقول سبحانه: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان:72]، قال جمع من السلف: "أي: لا يحضرون أعياد الكفار"، بل وبعضهم يستسهل تهنئتهم، يقول ابن القيم رحمه الله فيمن هنأهم بأعيادهم: "إنه إن سلم من الكفر قائله فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئهم بسجودهم للصليب".
4- تقليد الكفار بلباسهم، ويا لله هذا ـ وربي ـ بحر لا ساحل له، ألوانه شتى، ونماذجه هنا وهناك، نرى بأم أعيننا محاكاتهم للكفار وتقليدهم فيها. إنك لتأسى أشدَّ الأسى ويُكلم فؤادك عندما ترى عددًا من شباب الأمة الذين هم أملها يرتدون ملابس الكفار، بل يشهرونها ويعدّونها تحضرا ومدنية وأناقة وتقدمية. انظر إلى قبعاتهم التي يرتدونها على رؤوسهم بل حتى مع الثياب، ألا فليعلموا أن هذه من خصائص بني يهود في لباسهم، انظر إلى فنايلهم التي تعجّ بالكلمات الأعجمية وقد يكون منها ما هو دعوة للزنا أو الحرام وهو لا يعلم، بل يعلق بعضهم على صدره صور أهل الشذوذ الجنسي والعفن الفني، ووالله إنّ قلبك ليتقطع مرارة عندما ترى إمعان هؤلاء الشباب في ذلك، سلاسل حول رقابهم، وأشكال مراكبهم، فأين العزة يا مسلمون؟! إنا لله وإنا إليه راجعون.
وكذا النساء، وكفاك أن مجلات الأزياء اللاتي يسمرن أعينهم فيها تؤخذ موديلاتها من الغرب والله المستعان، فأين هؤلاء من رسول الله كما في صحيح مسلم عندما رأى على رجل ثوبين معصفرين قال له: ((إن هذه ثياب الكفار فلا تلبسها)). وهذا فاروق الأمة عمر بن الخطاب كتب للمسلمين المقيمين ببلاد فارس: (إياكم وزي أهل الشرك) رواه البخاري.
5- تعلم لغة الكفار من أجل الشهرة لا من أجل الدعوة، وسبحان ربي أصبح بعض المسلمين يحيي بها ويختم لقاءه بها، بل بدأت بعض كلماتهم تتخلل بعض كلمات المسلمين، ولكأنه يرى هذا تمدّنا وتقدما، بل تجده يتكلم الأعجمية مع بعض أهلها الذين يجيدون العربية، ولكن يتحدث بها فخرًا وإعجابًا بها وإظهارًا لمعرفته بها.
سبحان الله أين هؤلاء من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إياكم ورطانة الأعاجم)؟! والسلف رحمهم الله كانوا يكرهون التكلم بغير العربية أشدّ الكراهية وينهون عنه إلا إذا كان في تعلمها مصلحة وحاجة فهذا جائز، ويتبع تعلم لغتهم والتحدث بها التسمّي بأسماء الغرب والتكني بكناهم والتلقب بألقابهم.
6- وصل الشعر وتقليد الكفار بتسريحات الشعر. فيا مسلمون، من منّا يرى نساءه وبناته وأهل بيته ماذا يتعلق بشعورهن؟! قصات عجيبة وتسريحات غريبة تُعدّ لهن بمال كثير، وما علمن ـ والله ـ أنهن يحصدن الذنوب بها، رؤوسهن كأسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، ناهيك عن شباب الأمة الذين يفترض فيهم الخشونة، والله إنك لترى أشكالاً غريبة من قصات رؤوسهم، حتى إنك لتشكّ هل هذا من أبناء البلد أم من غيرها.
7- تقليد الكفار بما يحصل في حفلات الزواج، وقد سبق الحديث عن هذا في خطب ماضية.
8- حلق اللّحى وإعفاء الشوارب، وهذا تشبه بالمشركين والمجوس وغيرهم، وفي صحيح مسلم يقول : ((جزّوا الشوارب وأرخوا اللحى)) ، يقول الشيخ ابن باز رحمه الله: "إن إعفاء الشوارب واتخاذ الشنبات ذنب من الذنوب ومعصية من المعاصي، وهكذا حلق اللحية وتقصيرها من جملة الذنوب والمعاصي التي تنقص الإيمان وتضعفه ويخشى منها حلول غضب الله ونقمته" اهـ.
9- الاعتماد في التاريخ على الميلاد والأشهر الإفرنجية أي: ميلاد عيسى عليه السلام متابعةً للنصارى، وإن أعداءنا يسعون لذلك سعيًا حثيثًا، وقد نجحوا في كثير من بلاد الإسلام، لماذا؟ يريدون أن ننسى الأشهر الهجرية لأنها تاريخنا وجهادنا وعبادتنا، يريدون أن ننسى المحرم وصفر ورمضان شهر القرآن وذو الحجة شهر الحج والنسك وغيره.
10- تربية الكلاب واقتناؤها لغير حاجة، ولا شك في حرمة ذلك إلا كلب الصيد والماشية أو الحرث،كفاك أن من رباه لغير حاجة ينقص من أجره كل يوم قيراط، كما في الصحيحين.
11- الموسيقى والغناء، ولا يشك شاك في حرمتها لتوافر الأدلة في ذلك، سواء كانت عربية أم عجمية، وإنك لا تدري أتضحك أم تبكي عندما ترى شابًا يرفع صوت مسجله على أغنية غربية لا يعلم معناها ولكن الشيطان يحركه، بل قد يكون فيها سب لدينه وأهله وهو لا يعلم.
أصلح الله الحال، وهدى النفوس لطاعته والجوارح لمرضاته، إنه ذو العزة والقدرة والجلال.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل الضلال، وأشهد أن لا إله إلا الله الكبير المتعال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله شريف النسب وكريم الخصال، صلى الله عليه وآله وصحبه خير صحب وآل.
ثم أما بعد: لو تفحّصنا تلك المظاهر الماضية وغيرها لعلمنا منشأ أدوائنا وأسباب عللنا ولوجدناها عدّة كثيرة ولكن من أهمها:
1- الانحراف العام عن الكتاب والسنة، ولقد ذاق المسلمون ـ والله ـ ويلات ذلك من الذل والعبودية والهزائم المتتالية والتفرق والتبعية.
2- جهل المسلمين وعدم تفقههم في الدين، فيقعون في التشبه من حيث علموا أم لم يعلموا، بل وبعضهم يستسهل القضية.
3- انبهار المسلمين بالتقدم المادي مع جهلهم بحقيقة الحضارة الغربية، فظاهرها بريق ولمعان، وباطنها دمار للأخلاق والقيم، ومن عاش هناك ولو يسيرًا عرف ذلك وأيقنه.
4- ضعف التربية والتوجيه للأجيال المسلمة الناشئة، نعم إذا تخلّى المربون الصادقون والدعاة المخلصون عن مِقود التربية بدأت فئام عريضة من شباب الأمة تتجه إلى القنوات الفضائية وشلل الفساد لتربيها وتخرّج جيلا يتنكر لدينه، ويدين بالولاء والحب لعدوه.
5- القنوات الفضائية، فهذه أسطح كثير من المسلمين تستقبل لوثات الشرق والغرب لتخرج جيلاً ممسوخًا في خلقه وعقيدته، وغيرها كثير.
ولكن إخوة الإسلام، من أجل عودة صادقة وأوبة حقيقية علينا أن نربي نفوسنا وأجيالنا على الاعتصام بالكتاب والسنة وجعلهما حقًا لا رسمًا منهاج حياتنا، علينا أن نعرف حقيقة الحظيرة الغربية ونكشف عوارها لأمة الإسلام، علينا أن نربي أنفسنا ومن تحت أيدينا على العلم والتفقه في الدين، علينا أن نعيش مع شباب الأمة تربية وتوجيهًا وتعليمًا وتأديبًا، وفطرةُ الخير ما زالت ولكن أين من ينميها ويحييها؟! علينا أن نربي أنفسنا وأجيالنا على عزة الإسلام وعظمته، وعلى كره الكفار وبغضهم والتبصر بما يحيكونه ضد أهل الإسلام، والله المستعان.
(1/3223)
الرؤى والأحلام: أخطاء ووقفات
موضوعات عامة
الرؤى والمنامات
فيصل بن عبد الرحمن الشدي
الخرج
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى. 2- ولوع الناس باستطلاع الغيب. 3- فشو ظاهرة الرؤى. 4- خطورة الرؤيا ومنزلتها في الشرع. 5- أنواع الرؤى والموقف الشرعي من كل نوع. 6- أخطاء منتشرة تجاه الرؤى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد مات محمد ، وقد مات أبو بكر وعمر والصحابة الكرام، وقد وافت المنية الأئمة الأعلام، وقد داهم هادم اللذات الملوك والأمراء والوزراء والأغنياء، وبيديك هاتين واريتَ أحبابًا وإخوانًا وأمهاتٍ وآباء، تالله لقد احتضنتهم الأرض فشقيٌّ معذَّب وسعيد مكرَّم، وإن في المقابر لحفرا قد حفرت فلا نعلم والله أيّنا يكون صاحبها.
أمرّ على المقابر كل حين ولا أدري بأيّ الأرض قبري
ألا فاتقوا الله حقّ تقاته، ألا فاتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون.
عباد الله، إن الله سبحانه وتعالى قد اختصّ بعلم الغيب: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65]، لكن الناس اليوم وفي مثل هذه العصور المتأخرة تولّعوا تولّعًا شديدًا بالحديث عن الغيبيات، وتاقت نفوس ضعيفة إلى مكاشفتها، ما بين مؤمنٍ بالخرافة وراض بالكهانة، وآخرين سادرين في السجع والتخمين، يقذفون بالغيب في كل حينٍ، والناجون من هذا وذاك تطلعت نفوسهم إلى أمرٍ آخر، واشرأبت نفوسهم إليه، ألا وهي تلك المنامات التي يرونها، وقُل في بعضهم: يتراءونها، مما أصبحت اليوم هي حديث الناس وسؤالهم.
وتكالبت همم كثير من الناس عليها، وتعلقت النفوس بهذه الرؤى والمنامات، وأصبحت شغل الناس الشاغل عبر المجالس والمنتديات والمجامع، بل أصبحت سوقًا رائجة لها زبائن كثر في القنوات الفضائية، فأجلبت الفضائيات بخيلها في ذلك، وعقدت مجالس للرؤى والمنامات لما رأت تهافت الناس السريع لذلك.
وأصبحت ترى اليوم إن كان السائل عن الأمور الشرعية واحدًا فالسائل عن الرؤى والمنامات عشرة، ورأيت مهمومين مغمومين يكلمك أحدهم أنه لم ينم ليالي عددًا، لمه؟ لرؤيا مقلِقة رآها، وقد يكون عبّرها له جاهل بسوء، وأصبحتَ ترى فرحين سعداء، لكأنهم يترقبون بيوتهم تنقلب بساتين وقصورًا، أو وسائدهم تنقلب ذهبًا، بسبب رؤيا رأوها.
من أجل ذلك كلَّه كان لزامًا علينا أن نسلّط الضوء على المنهج الشرعي والهدي النبوي تجاه الرؤى والأحلام، قال تعالى في كتابه الكريم: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس:62-64].
قال عددٌ من الصحابة والتابعين عند هذه الآية: " لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو تُرى له"، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات)) ، قالوا: وما المبشرات؟ قال: ((الرؤيا الصالحة)) رواه البخاري.
وهذه الرؤيا ـ يا عباد الله ـ هي التي قال عنها الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه: ((إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة)) رواه البخاري ومسلم.
لذلك فإن الرؤيا لها منزلة عظيمة ومكانة رفيعة في الإسلام، ولا ينكرها إلا جاهل، وتعجّب كثيرون من حقيقتها، وكيف تأتي الإنسان، وخاض علماء النفس وأصحاب الفلسفة في ذلك كثيرًا، لكن أجاب عن حقيقتها أحد علمائنا وهو المازري رحمه الله إذ قال في حقيقتها: "والصحيح ما عليه أهل السنة أن الله يخلق في قلب النائم اعتقادات، كما يخلقها في قلب اليقظان، وهو سبحانه يفعل ما يشاء، لا يمنعه نوم ولا يقظة، فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنه جعلها علمًا على أمور يخلقها في ثاني الحال أو كان قد خلقها".
والرؤى ـ يا رعاكم الله ـ ثلاثة أنواع، جلاَّها لنا رسول الله كما رواه ابن ماجه في سننه وصححه الألباني أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((إن الرؤيا ثلاث: منها أهاويل من الشيطان ليحزن بها ابن آدم، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة)).
يقول البغوي رحمه الله: "في هذا الحديث بيان أنه ليس كل ما يراه الإنسان في منامه يكون صحيحًا ويجوز تعبيره، إنما الصحيح منها ما كان من الله عز وجل، وما سوى ذلك أضغاث أحلام لا تأويل لها".
إذًا النوع الأول هي الرؤيا السيئة التي من الشيطان، وهناك آداب شرعية تجاهها، فقد روى مسلم في صحيحه أن أبا سلمة قال: كنتُ أرى الرؤيا فأمرض منها، حتى لقيت أبا قتادة فذكرت ذلك له فقال: سمعت رسول الله يقول: ((الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلمًا يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثًا ويتعوذ بالله من شرها، فإنها لن تضره)) ، قال أبو سلمة: إن كنت لأرى الرؤيا أثقل عليَّ من الجبل، فما هو إلا أن سمعت بهذا الحديث فما أباليها.
لذلك جاء أعرابي كما في مسلم إلى النبي فقال: يا رسول الله، رأيت في المنام كأن رأسي ضُرب فتدحرج فاشتددت على أثره!! فقال رسول الله للأعرابي: ((لا تحدّث الناس بتلعُّب الشيطان بك في منامك)).
لذلك للسنة تجاه مثل هذه الرؤى السيئة آداب: أن يتعوّذ بالله من شر ما رأى ثلاث مرات، وأن يتعوذ بالله من شر الشيطان ثلاث مرات، وأن يتفل عن يساره ثلاث مرات، وأن لا يحدّث بها أحدًا ولا يطلب تفسيرها، وقد صح في مسلم أيضًا أن يتحوّل عن الجنب الذي كان عليه، وأن يصلي عقبها.
وأما النوع الثاني من الرؤى فهو ما يحدّث به المرء نفسه في يقظته، كمن يكون مشغولاً بسفر أو تجارة أو نحو ذلك، فينام فيرى في منامه ما كان يفكّر فيه في يقظته، وهذا من أضغاث الأحلام التي لا تعبير لها.
وأما النوع الثالث فهو الرؤيا الصادقة الصالحة التي تكون من الله، قال : ((إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها وليحدث بها)) أخرجه البخاري، وعند مسلم: ((ولا يخبر بها إلا من يحب)) وجاء عند ابن عبد البر أنه يطلب تفسيرها.
وكثيرون هم في هذا الزمان الذين يتهافتون على المفسرين للرؤى ويشغلون أهل العلم بأحلام سيئة أو أخلاط مواقف لا رابط لها، لذا شرع أهل العلم في بيان علامات لأضغاث الأحلام أو الرؤيا السيئة، وعلامات للرؤيا الصادقة حتى يفرق الناس.
فمن علامات أضغاث الأحلام أو الرؤى الفاسدة أن النائم يرى في منامه مناظر متناقضة ومتداخلة، لا يعرف أولها من آخرها، ومن علاماتها أن بعض الناس يمرض فيرى في منامه ما يوافق مرضه، ومن علاماتها كأن يرى مستحيلات لا يمكن أن تقع، أو يرى ما تحدّث به نفسه في اليقظة، ومن علامات الرؤيا الصادقة انتفاء جميع ما تقدم من علامات الرؤيا الفاسدة، ومن علاماتها أن يكون الرائي معروفًا بالصدق في كلامه، كما قال : ((أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا)) وهذا في الغالب، وإلا فقد يرى غير الصادق رؤيا صادقة يكون فيها إيقاظ لغفلته، ومن علامتها أن يعرف أولها وآخرها، فلا تكون متقطعة لا ترابط بينها، ومن علاماتها أن تكون تبشيرًا بالثواب على الطاعة أو تحذيرا من المعصية.
والرؤيا الصالحة قد تكون واضحة لا تحتاج إلى تأويل كما رأى إبراهيم عليه السلام أنه يذبح ابنه في المنام، وقد تكون خافية برموز تحتاج فيها إلى عابر يعبرها كرؤيا صاحبي السجن مع يوسف عليه السلام.
اللهم أرنا في منامنا ما يسرنا، وأرنا في يقظتنا ما ينفعنا، وزدنا علمًا وعملاً يا رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: فإن الرائي لحال كثير من الناس اليوم يرى أخطاء فادحة تجاه الرؤى وجهلاً ذريعًا بسنة المصطفى في ذلك، لذا فهذه تنبيهات على بعض أخطاء الناس في ذلك.
أولاً: انشغال الناس بهذه الرؤى وتقديسها، وصرف الأوقات الكثيرة في تذاكرها والسؤال عنها، ولو سألت كثيرين من أولئك عن صلواتهم وبعض أحكام دينهم لرأيت ما يحزنك، ولا أدل على ذلك من واقع الناس اليوم، انظر إلى مجالس المعبرين ولقاءاتهم كم يحضرها، ومجالس تعلم أحكام الشرع والدين، ألا فاقدروا للأمر قدره فلا إفراط ولا تفريط.
ثانيًا: إقامة المجالس واللقاءات الطويلة في تعبير الرؤى، مما زاد في إشغال الناس بهذا أكثر وأكثر، ويتبجح بعضهم بما جاء في صحيح مسلم من أن رسول الله كان كثيرًا ما يسال أصحابه بعد الفجر: ((من رأى منكم رؤيا؟)) ، فيجاب عن هذا بأن هذا رسول الله ، ولا يقاس عليه غيره، وكان في طور تنزّل الوحي، ومن ثم فإنه لم يثبت عن أحدٍ من الصحابة كالخلفاء الأربعة ولا من بعدهم أنهم كانوا يقيمون المجالس من أجل تعبير الرؤى، لا سيما أبو بكر الصديق وقد شهد له النبي بأنه عارف بتعبير الرؤى.
ثالثًا: من الأخطاء في الرؤيا خطورة الكذب فيها، ففيه إثم عظيم، أخرج البخاري في صحيحه أن النبي قال: ((من تحلم بحلم لم يره كلَّف ـ أي: يوم القيامة ـ أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل)) ، قال الإمام الطبري رحمه الله: "الكذب في المنام كذب على الله أنه أراه ما لم يره".
رابعًا: بعض الناس إذا رأى رؤيا لم يترك أحدًا إلا وقد سأله عنها، وقد يسأل أحيانًا جهالاً لا يفقهون فيها شيئًا. تفسير الرؤى ـ يا رعاكم الله ـ علم ليس لأي أحدٍ أن يتكلّم فيه، سئل الإمام مالك رحمه الله: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال مالك: أبِالنبوة يُلعب؟! والنبي يقول: ((إذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحًا أو عالمًا)) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وهنا تعلم خطورة نصب الإنسان نفسه مفتيًا في الرؤى، يتكلم بتخمينه وظنونه، فأينه من قول الله: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36]؟!
خامسًا: يخطئ بعض الناس في اقتنائه لكتب الرؤى والاعتماد عليها، فكلما رأى في منامه شيئًا فتح كتابه، ألا فليعلم أن الرؤى يعبرها أهل العلم باعتبارات مختلفة، وقد تكون الرؤيا واحدة لشخصين لكن التأويل مختلف. جاء رجلٌ صالح لابن سيرين فقال: رأيت أني أؤذن في المنام، فعبرها له بأنه سيحج لقوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج:27]، وجاء بعده آخر رأى أنه يؤذن في المنام، فعبرها له بأنه يسرق لقوله تعالى: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف:70].
سادسًا: تنتشر بين الفينة والأخرى ورقةٌ مذكور فيها رؤيا للرجل الصالح أحمد خادم الحجرة النبوية، وفيها بعض الوصايا، وكذلك ورقة أخرى أن فتاة رأت في المنام أمَ المؤمنين زينب أو بنت رسول الله فاطمة تأمرها بأن تقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] كذا مرة وسيحصل لها كذا وكذا، وكل هذه خزعبلات وأكاذيب لا تنشر إلا عند الجهلاء، وقد نبهت عليها اللجنة الدائمة، وتكلم عنها الشيخ ابن باز رحمه الله في إيضاح قبل أكثر من خمسة عشر عامًا، ألا فليُعلم أن رسول الله ما مات إلا والدين قد كمل، وأن أيّ مدّعٍ يدعي أنه اكتشف سنة عبر منام فهو كاذب، فليس هناك سنة إلا وقد بينها ، وانتهى التشريع بموته.
وختامًا من أراد الرؤيا الصالحة فعليه بالصدق في أقواله وأفعاله، وأن لا ينام إلا على وضوء، وينام على جنبه الأيمن، ويأتي بالأوراد الثابتة عند النوم، ويسأل الله الخير، ولا يغترّ بما يرى ولو عبر بما عبر فالإمام أحمد رحمه الله يقول: "الرؤيا تسرّ المؤمن ولا تغرُّه".
(1/3224)
إنها النار
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
فيصل بن عبد الرحمن الشدي
الخرج
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إنذار النبي من النار. 2- خوف السلف من النار. 3- صور من عذاب النار. 4- وجوب اتقاء النار.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد: عباد الله، عليكم بتقوى الله، فإن تقواه عُروة ما لها انفصام، وقدوة يأتمّ بها الكرام، والحذر الحذر من دار فُرقة ما لها أسلاف، وقرار حُرقَة ما لها انصراف، فانهضوا ـ عباد الله ـ فيما يقرّبكم من دار القرار، واتركوا ما يدنيكم من دار البوار.
ثم أما بعد: ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة لما نزل قوله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] دعا رسول الله قريشًا فاجتمعوا فعمَّ وخصّ فقال: ((يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة، أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا)).
إنها النار يا عباد الله، والذي لا إله حقّ غيره إنّ كلاًّ حتمًا واردها، وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:72]. إنها النار التي نسيها كثيرون والمصطفى يقول: ((لا تنسَوا العظيمتين: الجنة والنار، فوالذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، ولخرجتم إلى الصعيد، ولحثيتكم على رؤوسكم التراب)). ويصعد رسول الله ذات يوم على المنبر ليصدَح بكلمة هلعت منها القلوب وارتجفت منها الأبدان يقول: ((أنذرتكم النار، أنذرتكم النار)) ، فلو أن أحدًا في السوق لسمعه.
إنها النار لطالما تقرّحت عيون الصالحين من البكاء خوفًا منها، ولطالما لجّوا إلى ظلم الليالي بالدعاء فرَقًا منها، أقضَّت مضاجع، وأسالت مدامع، كم أحزن ذكرها من فرح، وكم كدّر حديثها من مرح.
إنها النار التي قال فيها صدّيق الأمة أبو بكر رضي الله عنه: (يا ليتني كنت شجرة تعضَد ثم تؤكل، أخاف أن يلقيني في النار ولا يبالي). إنها النار التي قال فيها فاروق الأمة عمر: (لو نادى منادٍ يوم القيامة بالناس جميعًا أن اذهبوا إلى الجنة إلا واحدًا لخشيت أن يكون هو عمر).
إنها النار التي أبكت أبا هريرة في مرضه فقيل له: ما يبكيك؟ قال: (ما أبكي على دنياكم هذه، ولكن على بُعد سفري وقلّة زادي، وإني أمسيت في صعود ومهبطة على جنة أو نار، فلا أدري إلى أيهما يؤخذ بي).
إنها النار التي جعلت سفيان الثوري ينتفض من نومه في الليل فزعًا خائفًا مرعوبًا ينادي: "النار، النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات"، ثم يتوضأ ويقول: "اللهم إنك عالم بحاجتي غيرُ معلَّم، وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار".
عباد الله، إنها النار، نسوق اليومَ حديثها ونتذاكر وعيدها ونسمع وصفها ولهيبها علَّ نفوسًا عن الذنوب ترتدع، وعلَّ قلوبا لذكرها تتصدّع، وعلّ أفئدة لحديثها تنتفع، وعل الأرواح لفكاكها من النار تندفع.
عبد الله، تأمّل إذا ما الناس في موقف القيامة في كروب وأهوال وشدائد طوال، الشمس تدنو منهم، والعرق يلجمهم، إذا بالجبار جل جلاله يأمر أمره ويطلب طلبه أن ائتوا بجهنم، فيؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر:23]، ترى العصاةَ من بعيد فعندها تغيّظ وتزفر، إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان:12]، يرونها من مسيرة مائة عام أو تزيد، عندها تجثو الأممُ على الرّكَب، ويوقن المجرمون بالعطَب، ويتبين للظالمين سوء المنقلب، عندها يقال لهم: انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنْ اللَّهَبِ [المرسلات:30، 31]، فيسمعون الزفيرَ والجرجرة، وينظرون التغيظ والزمجرة، فيخرج المنادي من الزبانية قائلاً: أين فلان بن فلان المسوّف نفسه في الدنيا بطول الأمل المضيّع عمره في سوء العمل؟ والله ينظر إليه وهو عليه غضبان، فيقول: خذوه، فيبادره ملائكة غلاظ شداد يجمعون بين ناصيته وقدميه غضبًا منهم لغضب الله تعالى، فيسحبونه على وجهه إلى النار، وإنه ليتفتت بين أيديهم ويصيح: ألا ترحمون؟! ألا ترحمون؟! فيقولون: كيف نرحمك ولم يرحمك أرحم الراحمين.
يبادرونه بمقامع من حديد، ويستقبلونه بعظائم التهديد، ويسوقونه إلى العذاب الشديد، فإذا دخلها الكفرة والمجرمون ووافوها وولجوها وشاهدوها إذا هي دار سوداء مظلمة، دهماء محرقة، حرها شديد، وقعرها بعيد، يهوي الحجر من شفيرها سبعين عامًا فما يصل قعرها، مسالكها ضيقة، ومواردها مهلكة، يوقد فيها السعير، ويعلو فيها الشهيق والزفير، أبوابها مؤصدة، وعمدها ممدَّدة، يرجع إليها غمّها، ويزداد فيها حرها، تشكي ربها أكل بعضها بعضًا، فينفس عنها، عريضة عميقة، ذات شعب، الحيّات في سرادقها، والعقارب في نواصيها.
ويلتفت حينها أهل النار ذات اليمين وذات الشمال، إذا بالسلاسل والأغلال والقيود والمطارق قد أعدت، إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلاً وَأَغْلالاً وَسَعِيرًا [الإنسان:4]، إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ [غافر:71]، وها هم يريدون الخروج منها فتطوِّح بهم المطارق مرة أخرى إلى سواء الجحيم، وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج:21]، كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:22].
فيها السلاسل والأغلال تجمعهم مع الشياطين قسرًا جمع منقهر
فيها العقارب والحيات تلسعهم ما بين مرتفع منها ومنحدر
ينظرون إلى النار وهي تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ [المرسلات:32، 33]، ماؤها أسود قاتم، ودخانها أسود مظلم، وأهلها سود الوجوه، وحجارتها يأكل بعضها بعضًا.
يشكون شدّة الجوع، فلا يجدون إلا شجرة الزقوم، قبيحة المنظر، خبيثة الطلع، إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:43-46]، صح عن النبي أنه قال فيها: ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه؟!)).
يملؤون بطونهم منها، حتى إذا امتلأت أخذت تغلي في أجوافهم، فيندفعون إلى مائها ليشربوا منه، فإذا هو الحميم الذي يقطّع أمعاءهم، والصديد الذي ينتن أجوافهم، وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:16، 17]، وها هي ملابسهم قد قطِّعت وجهزت فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ [الحج:19]، سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ [إبراهيم:50]، من قطران سريع الاشتعال بالنار، نتن الرائحة، موحش اللون.
وأعدَّت لهم أسرّة عليها ينامون، وهيهات هيهات أن يناموا، لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41]، لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر:16].
وتحيط بهم النار حتى تنضج جلودهم، فيبدَّلون غيرها ليقاسوا العذاب، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56]، ويؤتى بالحميم ليصب فوق رؤوسهم لتذوب منه أمعاؤهم، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج:19، 20].
أوما سمعتَ بأغلال تناط بهم فيسحبون بها سحبًا على النار؟! أوَما سمعت بأجساد لهم نضجت من العذاب ومن غلي النار؟! أوما سمعت بما يُكلَّفُون من ارتقاء جبال النار في النار؟!
يشوي الوجوهَ وجوها ألبست ظلَمًا بئس الشراب شراب ساكني النار
ولا ينامون وإن طاف المنام بهم ولا منامَ لأهل النار في النار
عندها يتلفّتون علَّ أحدًا يُنجدهم أو يشفع لهم، فلا يرون معهم إلا الشياطين وأصحاب الحطمة وفرعون وهامان والكفرة الفجرة والطغاة الظلمة والمنافقون الخونة، الزبانية تقمعهم والهاوية تجمعهم، يصيحون في سرادقها ويستغيثون في نواحيها، وخزنة النار بهم مقبلين ومدبرين، قد شُدّت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي، ينادون ويصيحون: يا مالك قد حق علينا الوعيد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود، فتقول الزبانية: هيهات لاتَ حين أمان، ولا خروج لكم من دار الهوان.
ويُنادون من دركات النار أهل الجنة: يا معشر الآباء والأمهات، يا أولادنا يا أبناءنا، خرجنا من قبورنا عطاشًا، ووقفنا في الحشر عطاشًا، ونحن اليوم في جهنم بلغنا من العطش منتهاه، أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله، ارحمونا، أغيثونا، أكلتنا النيران، قطعتنا الأغلال، فلا يجيبهم أحد، عندها يبتهلون إلى ربهم الذي طالما عصوه، وفي نهارهم وليلهم أغضبوه، ينادونه: ربنا ظلمنا أنفسنا، ربنا أخرجنا منها، ربنا غلبت علينا شقوتنا، ربنا اكشف عنا العذاب، فبعد هذه الصيحات يتركون أعوامًا لا يجيبهم وهم ينتظرون، ولجوابه يتلهفون، ثم يرد عليهم: اخسؤوا فيها ولا تكلمون، فينزلون إلى آخر الدركات، فيرفعهم اللهيب إلى أعلاها، فتردهم الملائكة إلى أعماق الجحيم.
من فوقهم النار، ومن تحتهم النار، وعن أيمانهم النار، وعن شمائلهم النار، فهم غرقى في النار، يعلو شهيقهم، ويزداد زفيرهم، وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون، فيعظم يأسهم، ويرجعون إلى أنفسهم: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص.
نعوذ بالله من النار، نعوذ بالله من النار، نعوذ بالله من النار، واستغفروه إنه الرحيم الغفار.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الغني الحميد، المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الحميد، شهادة نرجو بها النجاة من نار أخذها شديد، ونؤمّل بها من فضله المزيد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم من صالح العبيد.
ثم أما بعد: إخواني، نارٌ هذا وصفها وحرّها وقعرها لهي ـ وربي ـ عبرة أيّ عبرة.
إخواني، الله ربنا إن كنَّا نخشى ناره ونخاف عذابه فلماذا نحن على الذنوب عاكفون وللمعاصي فاعلون وعن طاعة ربنا غافلون؟! نمنا وتوانينا عن الطاعات، وقارفنا وارتكبنا السيئات، كذبنا واغتبنا وسبَبنا وشتمنا وغفلنا عن مناجاته.
إخواني، ألستم تشكون حرَّ صيفكم؟! فلحرُّه الذي ترون هو من فيح جهنم ونفَسِها، فما بالكم بها؟! إنها النذُر والعبر.
إخواني، أما تعتبرون بهذه الأحوال؟! أما تشفقون من نار جهنم وما فيها من العذاب والأنكال؟! أما تحذرون سلاسلها والأغلال؟! واعجبًا لمن يقرع سمعه ذكر السعير وهو من عذابها غير مستجير.
أخي، يا سامعي، أفيك جلَد على الحميم والزمهرير؟! أفيك جَلَد على نار وقودها الناس والحجارة أم قد رضيت لنفسك بهذه الخسارة؟! فيا ويح من كانت هذه الدار داره، ألا إنها النار وقودوها الناس والحجارة، إنها النار، إنها النار، إنها النار.
(1/3225)
رسالة المسجد
فقه
المساجد
فيصل بن عبد الرحمن الشدي
الخرج
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بلاد حبيبة إلى الله تعالى. 2- أول مشروع في المدينة. 3- عمارة المساجد. 4- آداب المسجد. 5- أخطاء ومحذورات. 6- دور المسجد في عهد السلف الصالح. 7- ضرورة إحياء دور المسجد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: تالله، ما قيمة الحياة إذا خلت من السعي المشكور؟! تالله، ما قيمة الحياة إذا لم تعمر بالعمل المبرور؟! وما تغني الدنيا كل الدنيا بأيامها المعدودة وأعوامها المحدودة إذا لم يقدم المرء بين يديه أو يخلّف من ورائه من الصالحات ما يشفع له عند مولاه إذا انتقل إليه؟! ألا فأبعدوا وجوهكم عن النار، واحذروا سبلها، والله الله بالطاعة واسلكوا طرقها، تلك لعمرو الله هي التقوى التي دوما حثًّا عليها تسمعون، وفي كتاب ربكم في غير ما آية تقرؤون.
إخوة الإسلام، حديثنا اليوم عن بلاد حبيبة إلى الله، حبيبة إلى رسول الله ، حبيبة إلى الصحابة بل إلى المؤمنين كلهم في أصقاع الدنيا، ذاك أنها مهد الإسلام، وموئل الصالحين من عباده الكرام، وانطلقت منها جحافل النور لتنير للعالم كله حالكات الظلام، إذا ضاقت على المؤمن الأرض اتجه لتك البلاد اتجاه الشاكي الباكي ليخرج منها وإذا بهمه بل همومه قد تفرجت، وغمه بل غمومه قد تنفست، لكَم اشتاق إليها المشتاقون، وبكى بين جنباتها الباكون، لكَم صدح فيها بآي القرآن، وجأر على أرضها بالدعاء بل الدعوات للواحد الديان، نعم إنها الحبيبة إلى الله، روى الإمام أحمد وأخرجه الحاكم بسند صحيح أن النبي قال: ((أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)).
ها هو عليه الصلاة والسلام يقدم مهاجرًا من مكة إلى المدينة، ليصل إلى قباء خارج المدينة، فيجعل أول عمل يقوم به تأسيس مسجد قباء، وبعدها بأيام يتجه للمدينة، ليكون أول مشروع يقوم بها في دولته الجديدة بناء المسجد، لماذا؟! ليعلن للأمة كلها ولتعلم الأجيال المتعاقبة أن مؤتمرنا العالمي العظيم هو المسجد، وأن مرتكزنا القوي هو المسجد، منه تنطلق الدعوة الإسلامية، وفي رحابه تُربّى الأرواح الزكية، وبالنداءات التي تصدح بين جنباته تهتدي القلوب التقية.
قام مسجده ليكون روضة من رياض الجنة، شيخه: من عقمت الأرحام أن تأتي بمثله محمد ، وتلاميذه: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة الأجلاء، وأما مواده المقررة فهي الوحي السماوي الخالد، وأما الشهادة المطلوبة للتخرج فهي أن تكون كلمة الله هي العليا.
ألا فليعلم ـ يا رعاكم الله ـ أن عمار المساجد هم أولياء الله عز وجل وأحباؤه من خلقه، يقول سبحانه: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18]. وعمارة المسجد نوعان:
النوع الأول: العمارة الحسية وذلك ببنائها وتشييدها، ففي الصحيحين من حديث عثمان أن النبي قال: ((من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة)) ، فيا لبشرى من بنوا مساجد أو ساهموا فيها، فالقصور العظيمة لبنة من ذهب ولبنة من فضة، تنتظرهم في جنات النعيم ما أخلصوا النية لله تعالى فيما عملوا، نعم ذاك الموعد عند ربهم ينتظرهم، وليس هذا فحسب، بل هاك الحديث الصحيح عن النبي : ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا)).
الله أكبر ما صلى مصل في هذا المسجد وما دعا داع وما قرأ قارئ وما ذكر ذاكر إلا وتلك الأجور العظيمة والحسنات الكبيرة في ميزان من بنى هذا المسجد وأقامه، وهيأ لهم مكانه، من غير أن ينقص من أجر المصلين شيئًا، هل بعد هذا الفوز من فوز؟! هذا ـ وربي ـ ما جعل كثيرًا من الصالحين على مرّ التاريخ وتعاقب سنين الدهر يدفعون الأموال العظيمة في بناء المساجد، لا يراهم في ذلك إلا الذي خلقهم، لا يرجون من الناس شكورًا، وإنما يرجون من ربهم جنة وحبورًا.
النوع الثاني من عمارة المسجد: والتي ما الأولى إلا وسيلة لها وطريق إليها، وهي الهدف الأعظم والمقصود الأهم، ألا وهي العمارة المعنوية، وذلك بالصلاة والذكر والدعاء وقراءة القرآن الكريم، وتلك العبادات وغيرها هي مراد الشارع في بناء المساجد وإقامتها، ويا كم وكم من الأجور العظيمة.
عباد الله، إن المساجد بيوت الله قد عظمها ربها، وقدرها نبينا محمد ، فسَنّ لها آدابا وأحكاما وفضائل يحسن بنا أن نذكّر بها، فمن آداب المساجد:
1- التنظف والتطهر والتطيب عند الإتيان إلى المساجد، قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ... [الأعراف:31]، وروي عن الحسن بن علي أنه إذا قام للمسجد لبس أحسن ثيابه وأجودها، فسئل عن ذلك فقال: إن الله جميل يجب الجمال، وإني أتجمّل لربي وهو يقول: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.
أين هذا الأدب اليوم ممن يأتون للمساجد بثياب النوم، أو بالألبسة الرياضية ولو كان في مناسبة لما لبسها؟!
2- تنظيف المسجد وتطييبه، نعم فكما أن المسلم مستحب له أن يأتي للمسجد متطهرًا نظيفًا، فكذلك ينبغي أن يكون المسجد مهيّأً للمصلين بنظافته وصيانته عن كل ما يؤذيهم، ألا والله ما أعظم أجر ذلك عند الله، كفاك أن النبي حزن على المرأة السوداء التي كانت تقمّ المسجد عندما ماتت، وطلب الوصول إلى قبرها، وصلى عليها ودعا لها، وأثنى عليها خيرًا كما رواه البخاري، وعند أبي داود والترمذي أن عائشة رضي الله عنها قالت: أمر رسول الله ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيَّب. وإنه ليُعاب قوم بيوتُهم حول المسجد نظيفة، فيها أرقى الأطياب وأحسنها، ومسجدهم من ذلك خالٍ يشكو القذى والأذى لمن صلى فيه، ألا ما أجمل أن يتكاتف كلّ جماعة مسجد على ذلك، ويدعمون ذلك بأموالهم وأبدانهم، والأجر محفوظ عند الله يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
3- ولعظم المسجد ومكانه فإن الماشي إليه ينبغي أن يتحلى بالسكينة والوقار، فلا يسرع في مسير، ولا يزعج الناس. ألا وإن من سوء الأدب أن يوقف الرجل سيارته أمام باب المسجد مباشرة بحيث يسدّ على الناس باب المسجد أو يضايقهم في الخروج منه، والسير بالأقدام إلى المسجد أفضل ما أمكن ذلك، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((من تطهر في بيته ثم مضى إلى بيتٍ من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداهما تحطّ عنه خطيئة والأخرى ترفع درجة)).
4- الدخول إلى المسجد بالقدم اليمنى، والخروج بالقدم اليسرى، وذكر الدعاء الوارد في ذلك، وهي سنة تكاد تفقد عند كثير من الناس.
5- المسجد بيت الله العظيم، فلا بد لداخله الذي يريد الجلوس فيه من تحيته وهي ركعتان، فعن أبي قتادة قال: قال النبي : ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)) رواه البخاري، وهو من السنة المؤكدة جدًا التي يتساهل فيها بعض الناس.
6- فضيلة الصف الأول في المسجد، جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي قال: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لا ستهموا)) أي: لو يعلمون كم من الأجر العظيم في الصف الأول لتنازعوا عليه حتى تجعل بينهم القرعة، فأين هذا اليوم ممن يرون الغنيمة أمامهم، الصف الأول فيه أماكن عدة ويتلمّسون الصفوف الأخيرة بحثًا عن المساند ونحوها وهم ليسوا بحاجة، أما المحتاج فمعذور كالكبير والمريض وغيره.
7- يتبع الأدب السابق ترتيب الصفوف وتسويتها، ففي الصحيحين يقول : ((لتسوّنّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)) ، لذا ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن التسوية واجبة وأن تاركها آثم، وكان النعمان بن بشير يقول: كان يسوي صفوفنا كأنما يسوي بين القداح. وهذه رسالة لأئمة المساجد بالاهتمام بهذا الأمر، وليست هي عادة تقال فقط.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وأتباعه.
أما بعد: فإن هناك أمورًا يحذَّر من الإتيان بها في المساجد صيانة لبيوت الله وحفاظًا عليها، ننبه عليها لما يرى الرائي من تساهل الناس في ذلك.
1- دخول المساجد بالرائحة الكريهة كالثوم والبصل ونحوهما، ففي صحيح مسلم يقول : ((من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)). وفي مثله رائحة الدخان. وقد يكون أشدّ منه وأعظم إثمًا الدخول بالجوال مفتوحًا لتسمع الرنين هنا وهناك، فإن كلا من صاحب البصل أو الثوم قد آذى اثنين وهما مَن بجانبه فكم يؤذي صاحب الجوال من العشرات من المصلين ويبوء بإثمهم؟! والأمر أخبث إذا كان نغمة موسيقية، فلطفك اللهم بنا ورحمتك نرجو، آخر الزمان تدخل الموسيقى المساجد! اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا.
2- تخطي الرقاب في المسجد وما فيه من الأذية للناس، وصح عن النبي أنه غضب على المتخطي رقاب الناس وقال له: ((اجلس فقد آذيت وآنيت)).
3- البصاق في المسجد والتفل ونحوه وما في معناه عندما يتسوّك المصلي فيتفتت السواك في فمه فيتفله في المسجد.
4- الصلاة بين السواري وهي الأعمدة التي في المسجد، ففي صحيح ابن خزيمة عن قرة قال: كنا نُنهى عن الصلاة بين السواري ونطرد عنها طردًا. فيكره الصلاة بينها لأنها تقطع الصف إلا في حالة ضيق المكان فيجوز للحاجة.
5- إنشاد الضالة في المسجد إذا ضاع له شيء بدأ برفع صوته طالبًا لها، فهذا دعا عليه النبي كما في مسلم بقوله: ((لا ردها الله عليك)).
6- العبث واللهو واللعب في المسجد، وهذا يحصل كثيرًا من الأطفال، بل قل: إنه يحصل في بعض الأحيان من فتيان ناهزوا الاحتلام، ووالله إنه لخطأ جسيم، ما أكثر المساجد التي تشتكي منه اليوم، فإن كان الولد سفيهًا فبالله عليكم أين وليه؟! وأين أبوه عنه؟! تالله إن الإثم ينال أباه إذا هو فرط وتركه، ولا بد أن نربي أبناءنا على تعظيم المساجد واحترامها، وإلا أفسدوا علينا عبادتنا وطاعتنا.
7- رفع الصوت في المسجد حتى ولو كان بقراءة القرآن، فإذا كان مؤذيا ومشوشًا على المصلين فلا ينبغي.
إخوة الإسلام، ثمة وقفة أخيرة أرجأتها في الختام لأهميتها، ولتكون أقرب ما يكون إلى الأذهان.
أحبتي في الله، المسجد في عهد سلفنا الصالح وصدر هذه الأمة الوضاء كان منطلَقًا للجيوش والمجاهدين في سبيل الله، الخطط والتدابير والأمر العسكري ينطلق من المسجد، لأن انطلاقه من المسجد له قوة لا تدانيها قوة. المسجد في عهد سلفنا الصالح كان ملاذًا لهم، إذا ضاقت بهم الهموم واشتبكت الغموم أتوه وانطرحوا بين يدي ربهم، فتنفرج لهم الدنيا. المسجد في عهد سلفنا الصالح كان منارة هدى ومعهد تعليم ومدرسة تربية، لكَم تعلم فيه الجاهل، واتّعظ فيه الغافل، واسترشد فيه الضال، واهتدى فيه المنحرف. المسجد في عهد سلفنا الصالح كان مكانًا لإطعام الجائع ومواساة الفقير، فبالله أهل الصفة في عهد رسول الله أين كانوا؟! كانوا في المسجد. المسجد في عهد سلفنا الصالح كان يضجّ بالبكاء، وتتعالى فيه أصوات التكبير والتسبيح والثناء والألسنة الصادقة بالدعاء، فما أن يدخله الداخل حتى يزداد إيمانه، ويشتدّ في الحق بنيانه. المسجد في عهد سلفنا الصالح كان مدرسة الأجيال وملتقى الأبطال، خرج من بين جنباته المفسر للقرآن العالم به والمحدث والفقيه والخطيب والمجاهد والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والداعي إلى سنة رسول الله ، فأخرجت رحاب المساجد آنذاك قادة الدنيا الذين غيروا وجه التاريخ وأصبحت سيرتهم غُرّة في جبين الزمن وأنموذجًا لم تعرف البشرية مثله.
ولكم أن تسألوا: وما هي تلك المساجد العظيمة التي أخرجت هؤلاء العظماء؟ إنها مساجد بنيت من الجريد وسعف النخيل، إنها مساجد بنيت من الطين، قد تجد فيها سراجًا ضعيفًا وقد لا تجده، إنها مساجد لم تكن مكيفة ولا منمقة ولا مزخرفة. لا، لكن أخرجت أولئك العظماء لأن العبرة بأهل الدار وليس بالدار.
فهل من نظرة بعين العبرة لحال مساجدنا ومساجدهم، ما عرف التاريخ في مساجد فيها وسائل الراحة كمساجد الناس اليوم، ولكن أين الخريجون منها؟!
أمة الإسلام، حقًا والله، علينا أن نعيد للمسجد دوره، أن نعيد له رسالته، أن نعيد له مهمته وكيانه، والله ما ضعفت الأمة وما ذلت وما استكانت إلا يوم أن ضعفت مساجدها، مساجد اليوم لا يمكث فيها الناس أكثر من ساعة ونحوها، وثلاثة وعشرون ساعة قد عطل فيه المسجد ودوره، ونسيت وظيفته، إنها دعوة لكم جميعًا وبالأخص أئمة المساجد وطلاب العلم وممن له حظ ولو يسير فيه، اعمروا بيوت الله بالحلقات، للقرآن وللتعليم وللفقه وللتوحيد وغيرها، ليكن جماعة المسجد إخوة مترابطين متعاونين، بينهم لقاءات خير وبركة وتفقد وإعانة، قوموا بالواجب عليكم، أحيوا مساجدكم بعدما مات كثير منها، فقلما تسمع فيها حديثا إلا في رمضان، وأحد عشر شهرًا يعلو سبات الغفلة أهل المسجد وإمامهم، أصلح الله الحال، وهدى القلوب، وأنقذها من الضلال، إنه سبحانه عزيز حكيم ذو العزة والجلال.
(1/3226)
صِدِّيق الأُمَّة والمواقف العظام
سيرة وتاريخ
تراجم
فيصل بن عبد الرحمن الشدي
الخرج
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أفضل جيل في التاريخ. 2- حاجة الأمة إلى القدوات الصالحة. 3- فضائل أبي بكر ومناقبه. 4- مواقف عظيمة وقفها أبو بكر رضي الله عنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله، فإنّ تقوى الله خلف من كلّ شيء وليس من تقوى الله خلف.
أيها المسلمون، ما كان تزويق ألفاظ، وما كان حديثا يفترى، ذلك الحديث الذي روى به التاريخ أنباء أعظم ثلّة ظهرت على وجه الأرض في دنيا الناس، إن التاريخ الإنساني بطوله وعرضه لم يشهد من الصدق والتوثيق وتحرَّي الحق والحقيقة مثل ما شهد تاريخ الإسلام في سير رجاله السابقين.
إن التاريخ الإنساني لم يشهد رجالاً اشتدت بالله عزائمهم وصدقت لله نواياهم ولرضاه نذروا حياتهم، إنه لم يشهد كما شهد الرجال الأبطال صَحبَ رسول الله رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
نعم، فتحوا الفتوح في بضع سنين، وشادوا بالقرآن وكلماته نظاما جديدًا وعالمًا فريدًا، راع روعته الدنيا كلها من أقصاها إلى أدناها، كل هذا يدعونا دعوة مُلحة إلى أن نغوص في أعماق حياة أولئك الرجال، ونتمثل سيرهم وحياتهم التي صاغ الدين فضائلها وهذَّب بالقرآن سجاياها.
اقرؤوا التاريخ إذ فيه العبر ضلّ قومٌ ليس يدرون الخبر
سائلوا التاريخ عنا كيف كنا نحن أسّسنا بناءً أحمديا
وإن أمر هذه الأمة ـ يا رعاكم الله ـ لن يصلح إلا بما صلح به أولها، ما أحوجنا إلى دراسة السير والتاريخ لسلفنا الصالح، لنقدم رجالاته ونساءه للجيل الناشئ وللأمة كلها لتعلم تاريخها، ومن هم آباؤها وأجدادها، وعلى أكتاف من قام تاريخها ومجدها.
ما أحوجنا إلى ذلك في زمن قلت فيه القدوات التي تحتذى، بل لمَّعت أبواق الشرّ أعدادًا من المغنين والمغنيات والتافهين والتافهات، ليكونوا قدوات للشباب الصاعد والجيل الواعد.
أيها الإخوة، إننا اليوم أمام سيرة رجلٍ من هؤلاء الرجال، رجل حقٌّ للأمة أن تفاخر بسيرته الأمم، وأن تبز بحياته سائر متّبعي الملل، رجلٌ انتصر الإسلام بإسلامه، وأعز الله الدين بإيمانه، كاد عمود الدين أن يسقط فأقامه، يوم أن علّق قلبه بالله وجعله أمامه، إنه رجلٌ عظيم القدر، رفيع المنزلة، لكَمْ وكم جعل روحه فداء لرسول الله قولاً وفعلاً، إنه من نصر الرسول يوم خذله الناس، وآمن به يوم كفر به الناس، وصدّقه يوم كذبه الناس، إنه عبد الله بن عثمان بن عامر أفضل الصحابة، إنه أبو بكر الصديق ، ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على خير من أبي بكر، إنه أوّل من آمن من الرجال على الصحيح، إنه من لو وضع إيمان الأمة في كفة وإيمان أبي بكر في كفة لرجحت كفة أبي بكر، إنه الورِع الحييّ الحازم الرحيم، التاجر الكريم، لم يؤثر عنه أنه شرب خمرًا قط، ولم يؤثر عنه أنه سجد لصنم قط، ولم يؤثر عنه كذبٌ قط، دُعي إلى الإسلام فما كبا ولا نبا ولا تردد، وإنما بادر وما تلبّث ولا تلعثم، هو الصاحب في الهجرة والغار، ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة:40]، وهو العتيق من النار، كلّ باب يغلق إلا بابه، يعلنها من على المنبر خطيبًا بها: ((إن من أمَنّ الناس على في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقى بابٌ في المسجد إلا باب أبي بكر)) ، مكافأته يوم القيامة يقولها : ((ما لأحد عندنا يدٌ إلا وكافيناه بها ما خلا أبا بكر، فإن له يدًا يكافئه الله بها يوم القيامة)).
يقدم أبو بكر يوم القيامة وفي ميزان حسناته ستة من العشرة المبشرين بالجنة قد أسلموا على يديه.
يقدم أبو بكر يوم القيامة وفي كفة درجاته عشرون صحابيًا أعتقهم من ربقة العبودية بأربعين ألف دينار هي لله وفي الله.
يقدم الجمع يوم القيامة أبو بكر فيدعى من أبواب الجنة كلها، كما أثبت له ذلك رسول الله كما في الصحيحين.
عُذرًا رحمنى الله وإياكم، فإني أقف عاجزًا عن أن أوفيه حقه، أو أن أتكلم بفضائله التي طفحت بها كتب السنة.
عُذرًا فأنا أمام بحرٍ لا يدرك غوره، وكنزٍ لا تنفد دُرره، ولكنها مواقف ودُرر وصورٌ ذات عبر، نسلط الضوء عليها في حياة صديق الأمة، فيها الذكرى لمن تذكر والعبرة لمن اعتبر.
الموقف الأول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما اجتمع أصحاب النبي وكانوا قرابة تسع وثلاثين رجلاً ألحّ أبو بكر على رسول الله في الظهور وعدم الاختفاء، فقال : ((يا أبا بكر إنا قليل)) ، فلم يزل أبو بكر يلحّ حتى وافقه ، وكان رسول الله والمسلمون تفرقوا في نواحي المسجد، وقام أبو بكر خطيبًا في الناس، فكان أول خطيب دعا إلى الله ورسوله، فثار عليه المشركون، وثاروا على المسلمين معه، فضربوا أبا بكر ضربًا شديدًا، حتى أن عتبة دنا منه وجعل يضرب وجهه بنعلين مخصوفتين، ثم نزوا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه ، حتى جاء بنو تيم قوم أبي بكر وأجلوا عنه المشركين، ويحمل رضي الله عنه مغمى عليه إلى بيت أهله وقد سالت دماؤه، واشتكت أعضاؤه، ولم يفق من غشيته إلا آخر النهار، وأمه عند رأسه تبكي بيدها الطعام والماء، وتفتح عينا أبي بكر وهو يرى أمه وجراحه وآلامه، فأول ما قال: أماه ما فعل رسول الله ؟ فتغضب أمّه: والله ما أوقعك فيما أنت فيه إلا صاحبك، ما لي علم به، فيقول: أماه، اسألي لي عن خبره، فأرسلت إلى أم جميل فاطمة بنت الخطاب، فقدمت وبشرته بأنه سالم بحمد الله، فأقبلت عندها أمه بطعامها وشرابها عله يشرب أو يأكل، فقال: يا أماه، لله علي أن لا أذوق طعامًا ولا شرابًا حتى آتي رسول الله وأراه.
يا لله، أيُّ حبٍ هذا؟! هل سمع التاريخ مثله؟! فلتر الأمة كلَّها كيف الإيمان العظيم والحب الكبير لرسول الله ، ويحمل أبو بكر رجلاه تخطّ في الأرض إلى أن يدخل على النبي ، فما أن يراه رسول الله ويرى جراحه ودماءه إلا وينكبُّ عليه ويقبله، فينكب عليه المسلمون يقبلونه.
نُلام على محبتكم ويكفي لنا شرفًا نلامُ وما علينا
إذا اشتبهت دموعٌ في خدودٍ تبين من بكى ممن تباكى
فماذا يقول عندها أبو بكر لحبيبه وصفيه ؟ يقول له: بأبي أنت وأمي، ليس بي من بأس إلا ما ناله الفاسق من وجهي يا رسول الله، ثم قال: يا رسول الله، هذه أمي برّة بولدها وأنت مبارك فادع الله لها وادعها إلى الله أن يستنقذها من النار، فدعا لها ودعاها، فما أن رأت ذلك الحب وذاك المشهد إلا أن قالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمدٌ رسول الله.
الله أكبر، همه الدعوة، همه هداية الناس، يريدُ برها، وأعظم البر أن يدعوها لدين الله، إنه أبو بكر لطالما اقترب المشركون من رسول الله يريدون أذيته فما يقف أمامهم إلا أبو بكر يدافع ويناضل عنه، إنها الشجاعة والبطولة، يعترف بها علي بن أبي طالب إذ قال يومًا: أخبروني بأشجع الناس، قالوا: أنت، قال: أما إني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه، ولكنه أبو بكر ، لقد رأيت رسول الله وقريش تشده وتجره، يقول علي: والله، ما دنا منا أحد إلا أبا بكر يجاهدهم ويقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، ثم رفع علي عنه بردة كانت عليه وبكى حتى اخضلت لحيته ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون أفضل أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال علي: والله، لساعة من أبي بكر خير منه، ذلك رجل يكتم إيمانه وهذا يعلن إيمانه. رواه البزار وأصل القصة في البخاري.
الموقف الثاني: من الذي له الشأن الأعلى والقدح المعلى في هجرة رسول الله إلا أبا بكر، يعرض الرسول الهجرة فيبكي فرحًا، يا لله أيبكى لأنه سيسير في موكب مهيب؟! لا وربي، بل موكب مطارد مهدر دمه، ولكنها الصحبة والمحبة، يدخل الغار قبله ويمشي عن يمينه وشماله، فداءٌ وتضحية، وإقدامٌ بلا إحجام، فاللهم ارض عنه وجازه عن الإسلام خير الجزاء، واحشرنا معه، وأقر أعيننا برؤياه في جنات النعيم.
أقول ما تسمعون...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رفع قدر أولي الأقدار، وأشكره على فضله المدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الأطهار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القرار.
أما بعد: الموقف الثالث: جاء في صحيح البخاري عن أبي الدرداء قال: كنت جالسًا عند النبي إذ أقبل أبو بكرٍ آخذًا بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي : ((أما صاحبكم فقد غامر)) ، فسلَّم وقال: يا رسول الله، إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى عليَّ، فأقبلت إليك، فقال: ((يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثًا)) ، ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثمّ أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى النبي فجعل وجه النبي يتمعَّر، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله, والله أنا كنت أظلم، مرتين، فقال النبي : ((إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟!)) مرتين، فما أوذي بعدها.
يا لله، إنه درسٌ عظيم في العفو والتسامح، إنه درس في صفاء القلوب، إنه درس في عظم منزلة الصديق عند رسول الله، وفي الحديث فوائد لمن استفاد، وذكرى لمن تذكر.
الوقفة الرابعة: في يوم عسير من أيام المسلمين، كادت فيه قاعدة الإسلام أن تموج، لكن رجل المواقف الصديق لها، ذاك يوم أن توفي رسول الله ، وهاج الناس وماجوا وتضاربت الأقوال، وأغلق باب النبي فلا يفتح حتى يأتي أبو بكر، ويأتي والناس ينتظرون، ويتيقن الخبر، ثم يخرج والعبرة تخالج حلقه، والدمعة بعدما رقأت من عينه، لكن يخرج ليقول كلمات الحق وإن كانت مُرّة، وإن كانت في أحب الناس إليه، لكنه دين الله ورضاه فوق كل الناس، ويصدع: (من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)، ويعز الله الدين وينصره ويثبته بأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
الموقف الخامس: وبعد وفاة رسول الله يأمر أبو بكر الصديق بإنفاذ جيش أسامة الذي عقد لواءه رسول الله في آخر حياته، وأمره أن يتجه إلى الشام لحرب الروم، فيأتيه الصحابة يراجعونه في ذلك لما رأوا ردة العرب، فيجيب أبو بكر بحزم وثبات: والله، لو علمت أن السباع تجرّ برجلي إنه لم أرده ما رددته، ولا حللت لواءً عقده رسول الله. ويأتيه عمر ويقول عن الأنصار: أمروني أن أبلغك لو وليت أمر الجيش من هو أقدم سنًا من أسامة حيث كان أسامة قريب الثمان عشرة سنة، فوثب أبو بكر وكان جالسًا وأخذ بلحية عمر وقال: ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب، استعمله رسول الله وتأمرني أن أنزعه؟! وأمر بالجيش فجمع وأوصاهم بوصاياه العظيمة في الحرب، ويركب أسامة فرسه وأبو بكر تحت عنقها يمشي معه يودعه ويوصيه، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله، والله لتركبن أو لأنزلن، قال: والله لا تنزل، ووالله لا أركب، وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة. لله دره من حزم وثبات وشجاعة وإقدام.
ومثل هذا حرب المرتدين يوم أن فرقوا بين الصلاة والزكاة، والصحابة يراجعون أبا بكر، وعمر يأتيه ويقول: علام نقاتلهم؟! دعهم ما أقاموا الصلاة، وأبو بكر يرفض، ويجأر بأعلى صوته: لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة، ولو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه، ومضى جيش المسلمين لحرب المرتدين كما أراد أبو بكر، ويعود مظفرًا منصورًا، فما كان من عمر بعدها إلا أن قبّل رأس أبي بكر وقال: وجدتك ـ والله ـ أحسم مني وأمضى.
الموقف السادس: روي في السير عن عمر بن الخطاب قال: كنت أفتقد أبا بكر أيام خلافته ما بين فترة وأخرى، فلحقته يومًا فإذا هو بظاهر المدينة ـ خارجها ـ قد خرج متسللاً، فأدركته وقد دخل بيتًا حقيرًا في ضواحي المدينة، فمكثت هناك مدة، ثم خرج وعاد إلى المدينة، فقلت: لأدخلن هذا البيت، فدخلت فإذا امرأة عجوز عمياء وحولها صبية صغار، فقلت: يرحمك الله يا أمة الله من هذا الرجل الذي خرج منكم الآن؟ قالت: إنه ليتردّد علينا، ووالله إني لا أعرفه، فقلت: فما يفعل؟ فقالت: إنه يأتي إلينا فيكنس دارنا، ويطبخ عشاءنا، وينظف قدورنا، ويجلب لنا الماء، ثم يذهب، فبكى عمر حينذاك وقال: الله أكبر، والله لقد أتعبتَ من بعدك يا أبا بكر.
وتنتهي هذه الحياة الحافلة بالعطاء، ويمرض أبو بكر الصديق خمسة عشر يومًا، يثقل يومًا بعد يوم، ولما حضرته الوفاة إذ بالصدّيقة عائشة عند رأسه تبكي وتقول:
لعمروك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر
فيقول أبو بكر: لا تقولي هكذا يا بنية، ولكن قولي: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]. ويموت ويدفن بجانب إمامه رسول الله ، وتأتي عائشة ابنته، فتقف على قبره والدموع في عينيها وتقول: نضّر الله وجهك يا أبتاه، وشكر لك صالح سعيك، فلقد كنت للدنيا مذلاً بإعراضك عنها، وللآخرة مغرًا بإقبالك عليها، ولئن كان أجلّ الحوادث بعد رسول الله رزءك وأعظم المصائب بعده فقدك إن كتاب الله ليعد بالعزاء عنك حسن العوض منك، فأنا أنتجز من الله موعده فيك بالصبر عليك، وأستعيضه منك بالدعاء لك، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون، وعليك السلام ورحمة الله، توديع غير قالية لحياتك، ولا زارية على القضاء فيك.
(1/3227)
عالم الملائكة
الإيمان
الملائكة
فيصل بن عبد الرحمن الشدي
الخرج
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحديث عن الملائكة. 2- الإيمان بالملائكة. 3- عظم خلق الملائكة. 4- صفاتهم وعددهم. 5- وظائفهم وعبادتهم. 6- علاقتهم ببني آدم وبالمؤمنين. 7- واجبنا تجاه الملائكة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمن، خف ربَّك واخش مولاك، واقنع بما هو سبحانه أعطاك، واستعد لصالح العمل قبل أن تداهمك ساعة الموت وتفجأك، واعمل بما قد أمِرت به في القرآن وأتاك بتلك الأربع تكن عبدًا لله تقيًا، صالحًا نقيًا، الجنة إذا أتيت بذلك فهي لك لا لغيرك، تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].
أيها المسلمون، حديثنا اليوم عن عالم من عوالم الكون العظيمة، وعن جُندٍ من جنود الله العجيبة، صادق الإيمان لا يملك ـ والله ـ إلا أن يحبهم وينزلهم قدرهم ومكانهم، ناصَروا الدين وحموه، وقاموا بالحق وبذلوه، يصرف الله بهم حادثات البشر، ويسوق سبحانه بأفعالهم الحوادث والعبر، من سمع عنهم بصدق لهج لسانه بالتسبيح والتعظيم ليس لهم، بل للذي خلقهم، وبإبداع محكم سوّاهم، ولك أن تعجب إذا علمت أنهم في النار، نعم في النار لا تخف وهم في الجنة كذلك، وهم في السماء، وهم في الأرض، وهم عند النطفة في رحم المرأة، ومع الميت في قبره، وما بينهما في الحياة، هم معه لا يفارقونه، شهدت لهم أراضي الجهاد، ولأمر الله دوما في انقياد، إنهم رسل الله، قل معي: عليهم الصلاة والسلام، إنهم عالم الملائكة، فأعظم به ـ وربي ـ من عالم، عالم كريم، كله طهر وصفاء، كرام أتقياء، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
الإيمان بوجودهم وبما صح من أعمالهم وإنزالهم منازلهم أصل أصيل من أصول الإيمان، بل لا يصح إيمان العبد ما لم يؤمن بهم، قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285].
جاء في صحيح مسلم أن خلقهم من نور وأكرِم به من نور، ما لك إلا أن تسبح وتمجّد الخالق سبحانه إذا علمتَ عن خلقهم، فهذا أمين الوحي جبريل عليه السلام جاء في وصفه في مسند الإمام أحمد بإسناده جوَّده ابن كثير عن عبد الله بن مسعود قال: رأى رسول الله جبريل وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه التهاويل من الدرر واليواقيت. وإن كان حملة العرش ثمانية فهاك وصفًا لواحدٍ منهم، روى الطبراني في معجمه الأوسط بإسناد صححه الألباني عن أنس قال: قال رسول الله : ((أُذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش، رجلاه في الأرض السفلي ـ السابعة ـ، وعلى قرنه العرش، وبين شحمة أذنيه وعاتقه خفقان الطير سبعمائة عام، يقول ذلك الملك: سبحانك حيث كنت)).
فلا إله إلا الله سبحانه ما أعظمه! هذا خلق من خلقه، فكيف به سبحانه جل في علاه وتقدس وعظم كبرياؤه في أرضه وسماه، لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:103].
أودع الله سبحانه فيهم قوة تغنيهم عن الطعام والشراب، فلا يأكلون ولا يشربون، وما قصة أضياف إبراهيم من الملائكة عنا ببعيد، خير شاهد على ذلك.
أما عددهم فأنى لبشر أن يعدِّدهم أو يعلم ذلك؟! وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر:31]، كفاك أن تعرف أنه جاء في الصحيحين أن في السماء البيتَ المعمور، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم. فيا لله ما أعظم عددهم وأكثرهم.
جاء في آيات القرآن وكتب السنة وظائف بعضهم، فمنهم الروح الأمين جبريل عليه السلام رسول الله لرسله من البشر ومبلغ الوحي، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ [الشعراء:193-194]. ومنهم إسرافيل الذي ينفخ في الصور، ومالك خازن النار، وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77]، ورضوان خازن الجنة، وملك الموت الموكل بقبض الأرواح، والملك الموكل بالقطر والمطر، وحفظة بني آدم، والكتبة للحسنات والسيئات، وملك العذاب، وملك الجبال، وغيرهم وغيرهم، عز سبحانه كيف نظمهم وعلّمهم.
ولله ما أعظم عبادتهم، ديدنهم ذكر الله، وأعظم ذكره تسبيحه، لذا وصفهم ربهم: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، وما كثرة تسبيحهم إلا لأن التسبيح أفضل الذكر، روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر قال: سئل رسول الله : أي الذكر أفضل؟ قال: ((ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحانه الله وبحمده)).
وما أعظم تقربهم بالسجود له سبحانه، فها هي السماء تثقل بسجداتهم للعظيم سبحانه، صح في الحديث: ((أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك ساجد)).
وها قد سمعت آنفًا عظم خلقهم وكُبرهم، وسعة جسمهم ومع ذلك هم أمام ربهم في خشية وخضوع وذل وخنوع، قال ربهم فيهم: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28]، وجاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كالسلسة على صفوان)).
ويصف جبريل ليلة الإسراء يوم أن مرّ به كأنه ثوب بالي من خشية الله جل جلاله رواه الطبراني وصححه الألباني، فما أظلم الإنسان بعد هذا وأجهله! ما أعتاه وأطغاه! عجبًا لك من نطفة حقيرة وجسم ضعيف، الشوكة تؤذيك، والحجر يطرحك، ومع هذا تتألى على ربك، وتجاهر بمعصيته، في زهو وتكبر وتغطرس وتجبر، ألا ترى ملائكته؟! رحماك ربي بنا رحماك.
وعلاقة الملائكة بابن آدم وثيقة، من يوم أن يمرّ على النطفة في الرحم ثنتان وأربعون ليلة، والله يبعث إليها ملكًا يصورها ويخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها، وبعد أربعة أشهر يبعث الله الملك فيكتب بإذن الله عمله ورزقه وشقي أو سعيد وينفخ فيها الروح، وها هي المعقبات تلازم الإنسان من أمامه وورائه طيلة حياته لتحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، إلا إذا جاء القدر خلَّت بينه وبينها ليصيبه ما شاء الله ذلك، وها هم واحدٌ عن اليمين يكتب الحسنات، وآخر عن الشمال يكتب السيئات، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، ولكأنّ حال هذين الملكين يعظان ابن آدم، صحيفتك قد بسطت لك، فالله الله املأها بالحسنات والصالحات الباقيات، وحذار من أن تلطّخ سجلاتك بالسيئات الطالحات، فكل شيء مكتوب، إما هنا أو هناك. رحمة الله على الإمام أحمد كان في مرض موته، وكان يئن من شدة حرصه على سلامة صحيفته ولو مما يكره، يأتيه من يبلغه أن طاووس رحمه الله يقول: "يكتب الملك كلّ شيء حتى الأنين"، فلم يئن أحمد بعدها حتى مات رحمه الله.
وها هي الملائكة تحضر يومَ موتك ورحيلك، ولها معك شأن أيما شأن، فملائكة تقبض الروح بإذن ربها وباريها، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61]، وملائكة تنزل عليه تبشره وتثبته، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت:30، 31]، الله أكبر تتنزل ومعها كفن من الجنة وحنوط من الجنة، بيض الوجوه، حسان المنظر، ما إن يراهم المؤمن عند الموت إلا ويفرح ويُسرّ، وملائكة أخرى تتنزل على الكفار والمجرمين، لتبشرهم بالنار وغضب الجبار، وتقول لهم: أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ [الأنعام:93]، ينزلون ومعهم كفن من النار، سود الوجوه، وما إن يذهب الإنسان إلى قبره حتى يأتيانه فيسألانه تلك الأسئلة الثلاث، فاز بها من أجاب، وخاب من تاه لسانه عن الجواب، فالمؤمن الموفّق يفرشون له من الجنة، ويفتحون له بابًا إلى الجنة، والكافر يفرش له من النار، ويفتح له بابٌ إلى النار، نسأل الكريم سبحانه من فضله، ونعوذ به من عذابه.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، خلق فأبدع، وحكم فشرّع، وخفض من خلقه من شاء ورفع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أكرمُ من أعطى وأحكم من منع، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الشافع المشفع، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه السجَّد الركع، ومن تبعهم بإحسان وإفضال إلى يوم معاذير الظالمين فيه لا تنفع.
وبعد: العلاقة بين الملائكة وبين عباد الله المؤمنين وثيقة، فالملائكة تحبّ المؤمنين، في الصحيحين من حديث أبي هريرة يقول : ((إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحبّه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)).
وأنت راءٍ هذا في الأرض بين الناس، من الناس من تحبه الناس وتألفه، وهو لم يعطها يومًا درهما، وقد لا يعرفهم، لكنها محبة السماء ومحبة الأرض، نسأل الكريم من جوده وبره.
والملائكة تصلي علينا، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الأحزاب:43]، وصلاتها بمعنى الدعاء للناس والاستغفار لهم، فصح عند الترمذي أنها تصلي على معلم الناس الخير، وهي تصلي على المبكرين للمساجد المنتظرين للجماعة كما في مسلم وتقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه. وتصلى على الصفوف الأول منها كما صح عند أبي داود.
وروى أبو داود في سننه وصححه الألباني عن علي بن أبي طالب عن النبي قال: ((ما من رجل يعود مريضًا ممسيًا إلا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة، ومن أتاه مصبحًا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يمسي، وكان له خريف في الجنة)).
وها هي الملائكة تبحث عن مجالس العلم وتشهدها، في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال النبي : ((إن لله ملائكة يطوفون في الطرق، يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم ـ قال ـ: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا)).
وها هي الملائكة الكرام تحضر يوم الجمعة وخطبتها، في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد، يكتبون الأول فالأول، فإذا خرج الإمام طووا صحفهم، وجلسوا يستمعون الذكر)) ، فيالله كم من سابق قد كتب في أول صحفهم، هنيئًا له والله، وكم من المحرومين التي تطوى الصحف كثيرًا ولم يدركوها بتأخرهم وتباطئهم.
والملائكة تحبّ القرآن وسماعه، ومنهم من يتنزل من السماء حين يقرأ القرآن، في صحيح مسلم عن البراء بن عازب قال: قرأ رجل سورة الكهف وفي الدار دابة، فجعلت تنفر، فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته، قال فذكر ذلك للنبي فقال: ((اقرأ القرآن، فإنها السكينة تنزلت عند القرآن)).
والملائكة تقاتل مع المؤمنين وتثبتهم في الحروب، وشهودها لبدر وأحد والخندق وغيرها أثبتها القرآن وصحت بها السنة.
والملائكة تناصر الصالحين من العباد بإذن الله، ويأمرها الله بتفريج كربهم، جاء في السير أن أحد الصالحين كان في سفرٍ له، ومعه رجل قد أركبه خلفه بأجر، فلما انتهوا إلى مكان عميق ووعر غدره الراكب وسلّ سكينه وقصده، واستسلم الصالح بين يديه، وقال له: خذ الدابة وما عليها ودعني، فأبى إلا أن يقتله، قال: إذًا دعني أصلي ركعتين، فقال: عجل، قال الصالح: فقمت أصلي، فارتجّ علي القرآن ولم يحضرني منه حرف واحد، فبقيت واقفًا متحيرًا وهو يقول: عجّل، فأجرى الله على لساني: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]، يقول: فإذا بفارس قد أقبل من فم الوادي وبيده حربة فرمى بها الرجل فمات، فتعلقت به، وقلت: من أنت؟ فقال: أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.
والملائكة تشهد جنائز الصاحين، روى النسائي عن ابن عمر وصححه الألباني أن رسول الله قال في سعد بن معاذ: ((هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفًا من الملائكة)).
وأخيرًا ما هو واجبنا تجاه الملائكة؟
واجبنا عدم إيذائهم، وقد شدد العلماء في سبهم، وبعضهم حكم بقتله، وعدد منهم قال بكفره. وعلينا البعد عن الذنوب والمعاصي لأنها مما تتأذى منه الملائكة، فالملائكة لا تدخل الأماكن والبيوت التي يعصى فيها الله سبحانه، أو التي يوجد فيها ما يبغض الله كالصور والكلاب، صح عن رسول الله قال: ((لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة ولا كلب)). ولعل قائلاً يقول: أين البيت اليوم الذي لا يخلو من صورة؟! أجاب عن ذلك الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "إن هذا مما عمت به البلوى، ويشق التحرز منه، لكن المقصود أن لا تكون بارزة ظاهرة".
وكم هي آلات اللهو والعبث التي تمتلئ بها بيوت المسلمين اليوم مما يمنع دخول الملائكة، ويجعلها مرتعًا للشياطين.
والملائكة تتأذى مما يتأذى به بنو آدم من الروائح الكريهة والأوساخ، فينبغي إكرامهم، وينبغي للمؤمن في الجملة موالاة الملائكة جميعًا ومحبتهم.
(1/3228)
غزوة تبوك وواقع الأمة
سيرة وتاريخ
غزوات
فيصل بن عبد الرحمن الشدي
الخرج
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحديث عن سيرة المصطفى. 2- عظم غزوة تبوك. 3- شيء من تاريخ الغزوة. 4- بلاء الصحابة الحسن. 5- افتضاح المنافقين. 6- شدة الغزوة. 7- من معجزات النبي في هذه الغزوة. 8- دروس وعبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، فتقوى الله جماع الخيرات ومعدن البركات.
عباد الله، الحديث عن سيرة المصطفى حديثُ تحبُّه النفوس المؤمنة، وتأنس به قلوب بالإيمان مطمئنَّة، فحبه في شغاف الأفئدة مغروس، وتوقيره مشربة به النفوس، بأبي هو وأمي.
وإن الناظر بعين البصيرة يرى صورًا من سيرته تتبدى أمام الناظرين، وعبرًا من حياته وجهاده تتراءى أمام المعتبرين، وفي مثل أيام هذا الصيف اللافح وشدة الحر وطيب الثمار كانت سيوف الصحابة ظاهرة جلية، وأسنة رماحهم مرفوعة عليَّة، في واقعة من مواقع الجهاد النبوي الميمون، في واقعة من أعسر المواقع وأشدها على صحابة رسول الله ، في واقعة كشفت فيها أستار النفاق وأضحى المرجفون والمخذلون ينفخون التخذيل في التخذيل عنها الأبواق، وضرب الصحابة فيها أعظم دروس الإنفاق.
في واقعة استنهض فيها الرسول عزائم الرجال بحفنات من المال؟! كلاَّ، فوالذي لا إله حق غيره لم يبايعوه على ذلك، وإنما على جنات عدن وطوبى والفردوس وأعظم به من مآل، في واقعة أخذت من القرآن سورة كاملة من سوره الطوال، وبوب فيها البخاري وغيره بابًا كاملاً، وحفلت بها كتب السنة وسطرت أحاديثها ومجرياتها كتب السيرة بافتخار وإكبار، تلكم ـ يا رعاكم الله ـ غزوة القوة، غزوة البلاء غزوة العسرة، إنها غزوة تبوك.
ويعظم الحديث ويحسن عن هذه الغزوة في مثل هذا الزمن الذي تشابكت بأمة الإسلام حلقات من المحن، وتقاذفتها أمواج من الفتن، وصيح بهم من كلّ جانب وتداعى عليهم الأكلة، يجمُل الحديث عن هذه الغزوة في مثل هذه الأوضاع العالمية المتلاحقة التي تكرّس لدى المسلمين جميعًا كل يوم أن رزق هذه الأمة وعزها تحت ظل رمحها وجهادها، وذلتها وصغارها في تركها لجهاد أعدائها وإخلادها لشهواتها ودنياها.
معاشر المسلمين، استقر الإسلام في الجزيرة، وفتحت مكة، وانطلقت الأنوار من الجبال والصحاري، وأخذت الأفواج تلو الأفواج تدخل في دين الله، وتلقى أعداء الله من الروم وغيرهم أنباء تلك الانتصارات وما كانوا عنها غافلين، فصاروا يجمعون جموعهم ويمكرون مكرهم، فكانت بداية التحرش بدولة الإسلام الفتية في واقعة مؤتة، والتي كان سببها قتل مبعوث رسول الله إلى عظيم بصرى، فقابل ثلاثة آلاف من المسلمين مائتي ألف من الروم وأعوانهم، أيّ عزة هذه؟! وأي قوة تلك؟! دولة ناشئة تقف أمام دولة وهي في أوج قوتها.
إن مواجهة الأعداء لا يشترط فيها دائمًا تكافؤ القوى الظاهرية بين المؤمنين وأعدائهم، كفانا قوله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ [الأنفال:60]، والنصر بيد الله، يقول عبد الله بن رواحة لأصحابه في غزوة مؤتة: (والله، ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور ـ أي: انتصار ـ وإما شهادة)، ولنا في الشيشان عبرة وفي أطفال الحجارة تذكرة.
أيها الإخوة، لم تهدأ ثائرة الروم بعد هذه الغزوة، بل بدؤوا يحشدون الحشود، فهذا هرقل يجيّش جيشًا عظيمًا قوامه أربعون ألف مقاتل، ويجلب معه قبائل من متنصرة العرب، ويعد العدة لغزو المسلمين، فيبلغ رسول الله تلك الاستعدادات والجموع، ويأمر بالخروج إليهم ولم ينتظر حتى يداهموا المدينة، فندب عليه الصلاة والسلام أصحابه وكان الوقت صيفًا بلغ فيها الحر مداه، والناس في عسر من العيش وقلة قد بلغ عند بعضهم منتهاه، وثمر المدينة قد طاب جناه، ولم يكن من عادته إذا همّ بغزوة إلا ورّى بغيرها إلا ما كان من هذه الغزوة، فقد أعلنها وبين وجهتها ليتأهبوا أهبتهم ويأخذوا عدتهم، فإنهم يستقبلون سفرًا بعيدًا ومفازًا شديدًا وعددًا كثيرًا.
وبدأت مظاهر الابتلاء والامتحان تظهِر سوءات المنافقين، ويتجلى بها صدق الصادقين وإيمان المؤمنين، فلقد استجاب المؤمنون لنداء رسولهم ، وضرب الصحابة رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في بذلهم وعطائهم، فهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه جاء بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وبألف دينار استرخصها وبذلها عندما لامست أذناه صيحات رسول الله في الصحابة: ((من جهز جيش العسرة فله الجنة، من جهز جيش العسرة فله الجنة)) ، وأعظم به ـ وربي ـ من مهر، فطالما في سبيل دخولها ركعوا، ولطلبها دعوا وتضرعوا، حتى أكبر رسول الله ما فعل عثمان رضي الله عنه فقال: ((ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم)).
وجاء أبو بكر بماله كله وكان أربعة آلاف درهم، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله وأنفق ألفي درهم، وجاء العباس بمالٍ كثير، وتتابع الناس بصدقاتهم بعد ذلك، ورأى فقراء المسلمين ما بذل أغنياؤهم فاشتاقوا إلى أن يبذلوا ويدفعوا، ما اعتذروا بفقرهم، وما تذرعوا بضعفهم، بل قدموا جهدهم من النفقة على استحياء، فهذا أبو عقيل يأتي بنصف صاع من تمر، وهذا أبو خيثمة الأنصاري غاية ما يملك صاعان من تمر، فصاع جعله لعياله والصاع الآخر شارك به في هذه الغزوة.
وهناك آخرون قد بلغوا من الفقر غايته، فهم ضعفاء لا يملكون شيئًا، ولكنهم بذلوا ما بأيديهم، وقدموا ما بوسعهم، فهذا عُلبة بن زيد بن حارثة لم يجد ما يتصدق به فرفع يديه إلى ربه والله يعلم صدقها، فقال: (اللهم إنه ليس عندي مال أتصدق به، اللهم إني أتصدق بعرضي على من ناله من خلقك)، فعندما جاء الصباح أمر رسول الله مناديًا ينادي: ((أين المتصدق بعرضه البارحة؟)) فقام عُلبه فقال الرسول : ((إن الله قد قبل صدقتك)).
وجاءت النساء بما قدرن عليه من صدقات وحليّ وخلاخل وقروط وخواتم، وألقينه بين يدي رسول الله ، آثروا جنة عرضها السموات والأرض على تجملهن وتحليهن.
ويأتي سبعة من صحابة رسول الله من بينهم عُلبة الآنف ذكره ليطلبوا من رسول الله ما يركبون عليه معه في هذه الغزوة، فلا يجد ما يحملهم عليه، فيتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا أن لا يجدوا ما ينفقون، فيهم قال الله قرآنًا يتلى: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ [التوبة:92].
رضي الله عن صحابة رسول الله وجزاهم الله خيرًا عن الأمة، وهم كما قال ابن القيم رحمه الله:
أولئك أتباع النبي وحزبه ولولاهم ما كان في الأرض مسلم
ولولاهم كادت تميد بأهلها ولكن رواسيها وأوتادها هم
ولولاهم كانت ظلامًا بأهلها ولكنهم فيها بدور وأنجم
مواقف مؤثرة وصور معبرة من البذل والعطاء والجهاد والفداء، كل هذا استجابة لنداء ربهم: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة:41]، وطمعًا في موعود نبيهم: ((من جهز جيش العسرة فله الجنة)).
والذي لا إله حق غيره، إن لفي ذلك عبرة أي عبرة، إنه متى صدق المسلمون مع ربهم ووحدوا صفهم وبذلوا وسعهم غنيهم وفقيرهم فإن الله ناصرهم وبالحق مؤيدهم.
وأين البخلاء بأموالهم والشحيحون بيسير أرزاقهم عن محبة رسول الله ؟! ولكن: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ [محمد:38].
ومع ما مضى من الصور العظيمة إلا أن ثمة أناسًا لم يرقهم ذلك، ألا إنهم المنافقون، فأخذوا يرجفون ويخذلون: لا تنفروا في الحر، فيأتي الجواب من الله سبحانه مباشرة: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81].
ويلمزون فقراء الصحابة في صدقاتهم ويسخرون منهم، يتضاحكون ويقولون: إن الله الغني عن صاع هذا، وما يفعل صاع تمر في قتال الروم، ويستهزئون، الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79].
ويأتون بالأيمان الكاذبة ليبدوا أعذارهم بين يدي رسول الله في تخلفهم عن الغزوة، ورسول الله يقبل علانيتهم ويعذرهم، فيعاتبه ربه بقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة:43]، بل تصل بهم الجرأة لأن يبنوا مسجد الضرار يدبّرون فيه حلقات التآمر على المسلمين، ولكن يأبى الله إلا أن يكشف عوارهم ويظهر خواءهم، وما أشبه الليلة بالبارحة، فها هم المنافقون يرجفون بين المسلمين ويخذلون، لا طاقة لنا بجهاد الأعداء، الأزمنة تغيرت، الأحوال تبدّلت، بل وحتى في جانب الإنفاق والدعوة يحتقرون ويثبطون ويشكّكون، يجيدون فن الكلام، وإذا دعوا للبذل تمنعوا، وإن طلبوا للمشاركة تعذروا وتذرعوا، ولكن صدق الله: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، نصر عبده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده، وصلى الله وسلم على إمام المجاهدين وقدوة الناس أجمعين محمد بن عبد الله النبي الأمي الصادق الأمين.
أما بعد: وتبدأ قافلة الجهاد والمجاهدين بقيادة رسول الله في السير إلى تبوك، ويتخلف بعض الصحابة من أهل الأعذار، وثلاثة لم يكن لهم عذر منهم كعب بن مالك وله في ذلك قصة وعبرة نرجِئها إلى حين، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بأمر رسول الله استخلفه في المدينة على النساء والصبيان، ولكن لم يطق صبرًا فلحق برسول الله وأمره رسول الله بالرجوع وقال له: ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟! غير أنه لا نبي بعدي)) ، وهذا أبو خثيمة الأنصاري يصارع نفسه بين البقاء والخروج، فيدخل لبستان له وقد رش بالماء وزوجه فيه، فيقول: ما هذا بإنصاف، رسول الله في السموم والحرور وأبو خيثمة في الظل والنعيم!! فلحق برسول الله ، ففرح به ودعا له، وأبو ذر يبطئ به بعيره، فيأخذ متاعه ويحمله على ظهره ويلحق برسول الله.
ولقد عانى المسلمون في هذه الرحلة جهودًا شاقة وأتعابًا جسيمة حتى كان الثلاثة يتعاقبون على بعير واحد، أصابهم عطش شديد حتى نحروا بعض إبلهم ليشربوا ما في بطونها، بل وأكلوا أوراق الشجر حتى تورمت شفاههم.
وتأييد الله لنبيه بالمعجزات في هذه الغزوة يتوالى، تثبيتًا للمؤمنين وتخفيفًا لمصابهم، فيدعو رسول الله بجلل ويبسطه ويأمر الناس أن يأتوا بأزوادهم وطعامهم وهم في طريقهم، وبعضهم لا يملك إلا تمرة أو اثنتين يمصهما، فيجتمع زاد قليل، فيدعو له الرسول بالبركة ثم يقول لهم: ((خذوا أوعيتكم)) ، فيأخذون حتى ما تركوا في المعسكر وعاءً إلا ملؤوه، وأكلوا حتى شبعوا وزاد عنه، فعندما رأى ذلك رسول الله قال كما في مسلم وغيره: ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بها عبد غير شاك فتحجب عنه الجنة)).
ويأتون عين تبوك وبها قليل من الماء، فيغرف لرسول الله منها، فيغسل يديه ووجهه، ثم يعاد الماء المغسول إليها، فتجري العين بماء منهمر كما في مسلم، ويصل النبي تبوك ومعه ثلاثون ألفًا من المسلمين، ولكن لم يلق كيدا، واندحر الروم إلى داخل ديارهم، وضرب الجزية على أهل تلك الديار، وأهدى له أكيدر دومة الجندل حلّة عجيبة، تعجب منها الصحابة، فقال رسول الله لصحابته مزهدًا إياهم في الدنيا: ((أتعجبون من هذه؟! والذي نفسي بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه)).
ويعود وصحبه إلى المدينة منتصرين مظفرين، تلكم ـ يا رعاكم الله ـ هي الغزوة، والعبر فيها كثيرة، والدروس فيها عظيمة، والدرس الجامع في ذلك والمسلمون يمرون بالظروف المعاصرة والمتغيرات المتسارعة الدرس الجامع يكون محراب الجهاد.
من محراب الجهاد تنطلق قوافل المجاهدين والشهداء، وبالجهاد تردّ عاديات الطغيان فيكون كلّه لله، جهاد بالمال والنفس وباللسان والسّنان، ويبقى دين محمد مصدقًا لما بين يديه من الحق ومهيمنًا عليه، ولقد كان فرار الروم في تبوك وهم البادئون ولجوؤهم إلى التحصن داخل بلادهم وهم أعظم قوم في عالمهم ذلك اليوم لأعظم دليل على أن قوافل المجاهدين المؤمنة الصادقة منصورة بالرعب من مسيرة شهر، ولهو ـ وربي ـ أقوى دليل على أن أيّ قوة لعدو المسلمين مهما عظمت فلا تقف في طريقهم متى صدقوا الله، نعم متى صدقوا الله.
(1/3229)
مع العام الدراسي
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
فيصل بن عبد الرحمن الشدي
الخرج
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وقفة مع انقضاء الإجازة. 2- أصناف الناس مع بداية العام الدراسي. 3- رسالة إلى الطلاب والطالبات. 4- رسالة إلى المعلمين والمعلمات. 5- رسالة إلى الآباء وأولياء الأمور. 6- رسالة عامة للجميع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: اتقوا الله ـ معاشر المسلمين ـ في سرَّكم وعلانيتكم، فغدًا تبلى السراء، وتكشف الخبايا، والناجون هم الصادقون المتقون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
عباد الله، انقضت الإجازة، وطويت فيها صحائف، ورحل فيها عن الدنيا من رحل، وولد فيها من ولد، وأطلّ على الدنيا خلالها جيل جديد وعمّر من عمرّ، وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر:11].
وإن المتأمل للمسافة التي بين امتحانات الفصل الماضي وبدء الدراسة في هذا الفصل الحالي وإن كانت قصيرة في عمر الزمن إلا أنها طويلة في حساب المكاسب والخسائر.
أجل، لقد غنم فيها قومٌ وخسر آخرون. وعملة الزمن تدور على الجميع، لكنهما لا يستويان، ذاك يطوي صفحات من الحسنات في الصالحات الباقيات، في خطوات تقربه إلى روضات الجنات، وذاك يعبَّ فيها من سجلات السيئات في الطالحات الموبقات، في استدراج يدنيه من دركات النار عياذًا بالله.
وليعُد كل منا بذاكرته إلى الوراء قليلاً، إلى بداية إجازته، وليحاسب نفسه: ماذا جنى؟ ماذا قدم؟ هل تقدم للخير أم تأخر؟ هل ازداد من الصالحات أم قصّر؟ تالله، لتسعدنَّ أقوام عندما تذكر أنها حفظت في إجازتها من القرآن جزءًا وقرأت شيئًا كثيرًا واستفادت علمًا عظيمًا ووصلت رحمًا وزارت بيته الحرام فأكثرت من طاعاته وصالحاته، وأقوام أخرى لا تذكر من صيفها إلا سهرًا وصخبًا، ليلها نهار، ونهارها ليل، غارقة في بحر شهوتها، منغمسة في نشوة سكرتها، ثم الحسرة والندامة في الدنيا قبل الآخرة، والآخرة أشد وأنكى.
إخواني في الله، ويوم غدٍ يوم بدء الدراسة، مشهَد حافل وملتقى هام، في هذا اليوم تستأنف رحلة العلم، وتبدأ مسيرة الفكر، وتفتح حصون العلم، وتهيأ قلاع المعرفة، يبرق فجر غد والناس أمامه أصناف، والمستقبلون له ألوان، بين محب وكاره، ومتقدم ومحجم، ومتفكر ومتحير، ومتفائل ومتشائم.
كم من محب لهذا اليوم يترقب قدومه بفارغ الشوق، وكم من كاره له يتمنّى لو أن بينه وبينه أمدًا بعيدًا. وإني بهذه المناسبة المهمة أوجه رسائل عدة، علها تكون نذر خير ورقاع إصلاح ومشاعل هداية تضيء لقائلها وسامعها الطريق، وتهدي جميعنا السبيل:
الرسالة الأولى إلى الطلاب والطالبات: أُخيّ يا رعاك الله، إنه ليتألم الفؤاد ويضيق العقلاء ذرعًا عندما نراك حزين القلب كسير النفس، لمه؟ لأن الدراسة غدًا. يا لله ألا ترى أمم الكفر شرقيها وغربيها تفاخر الأمم بصناعتها وتعلمها وأجيالها؟! وأنت تتبرم كثيرًا، وتعطي الدعة والكسل والراحة من وقتك شيئًا كبيرًا، قل لي بالله عليك: ماذا تتعلم في مدرستك؟ ألست تدرس كتاب الله وتتعلم توحيد خالقك وتتفقه في دينه وتقرأ شيئًا من تفسير خطابه وتسمع لطرف من سنة نبيه وغيرها من المواد والتجربة التي تبصرك في أمر دنياك؟! أأنت تكره هذا؟! لكنها الحقيقة يوم تغيرت النيات، وأصبح العلم لينال به الرتب وتستلم به الشهادات ويرتقى به في درجات الوظائف والمرتبات، أصبح العلم هنا ثقيلاً، وإلا أسلافنا طلبوه في حرّ الرمضاء وفي الليلة الظلماء، لحاف بعضهم من أديم السماء، وفراشه الغبراء، ومع ذلك لذته فيه لا توصف، ونهمهم منه لا ينتهي، لمه؟ لأنهم طلبوه لله، نعم لا لغيره، طلبوه ليكشفوا عن وجوههم أقنعة الجهل، ويخلعوا عن أكتافهم أردية الجهالات.
اسمع لأحدهم وهو يصفه، ولكأنه يصف لك ما أحسّه وهو ابن القيم رحمه الله إذ يقول: "العلم هو حياة في القلوب ونور البصائر وشفاء الصدور ورياض العقول ولذة الأرواح وأنس المستوحشين ودليل المتحيرين، به يعرف الله ويُعبد ويُذكر ويوحّد ويحمد ويمجّد، به اهتدى إليه السالكون، ومن طريقه وصل إليه الواصلون، ومنه دخل عليه القاصدون، به تعرف الشرائع والأحكام وتمييز الحلال والحرام، وبه توصل الأرحام، وبه تعرف مراضي الحبيب، وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب، هو الصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والأنيس في الوحشة والكاشف عن الشبهة، مذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه قربة، وبذله صدقة، ومدارسته تعدل الصيام والقيام، والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب والطعام" انتهى كلامه.
أخي يا رعاك الله، أبعد هذا تزهد في عظيم هذا شأنه وكبير هذا شيء من وزنه؟!
فالله الله، اطلب العلم بإخلاص وتجرّد، والله يسدّدك ويؤيدك، ومن ثم إن كنت تريد فهو عزيز المنال، يلزم أن تحسن فيه المقال، وأن تزين بأخلاق العلم، وأن ترتدي لبوس العلماء، كن صبورًا، ذا خلق رفيع، فلن ينال العلم مستكبر ولا أحمق، ولتعلم بل ليعلم الجميع أن الأمة والأجيال الناشئة إذا لم تقدر معلميها ومربيها فعلى الأمة السلام.
اجعل أمام ناظريك قول حبيبك : ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة)) ، واجعل في سويداء قلبك قول ربك وخالقك: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ [البقرة:282]، جدّ واجتهد، ولا يغرنك كثرة البطالين؛ فإن ابن عطاء الإسكندري يقول: "من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة".
الرسالة الثانية إلى المعلمين والمعلمات: إلى رعاة الجيل وأمنة التعليم ورواد العلم وسُلّم الرقي، أنتم بيت القصيد ومحط الركب، بين أيديكم عقول الناشئة وعدة المجتمع وأمله، عليكم تعقد الآمال، ولسنوات عدة تحط عندكم الرحال، نبيكم أكبر شأنكم وأعلى مقامكم، ألم يقل فيما صح من سنته: ((إن الله وملائكته ليصلون على معلم الناس الخير حتى النملة في جحرها)) ؟!
فجملوا عملكم بالإخلاص، فأجر الدنيا آت، وإلا فأجر الآخرة أعلى وأبقى. كم هدى الله بكم من ضال، وكم أنقذ بكم من عمى، وكم بصر بكم من جهل. أنتم مشاعل الهدى ومصابيح الدجى، كلاَّ ليس هذا خيالاً أو تلاعبًا بالأقوال، بل هو الحق ـ وربي ـ أقوله.
يُكدر الخاطر ويكسر الناظر عندما نراكم تتبرمون من الأجيال وتتضجرون من الناشئة، نسمع هنا وهناك بعض صيحاتكم أن الأجيال تغيرت، الملهيات كثيرة، لكن قولوا لي بربكم: ماذا ينفع تضجركم؟! وماذا يجدي تبرمكم؟! اليأس والقنوط سمة الكفار، إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، ابذلوا ما تستطيعون، وقدموا ما تطيقون، زاحموا الشر الذي ترون، واعلموا أن الله يؤيدكم ويسددكم، والحق أبلج، والزبد جفاء.
اجتهدوا في تعليمكم، وضعوا رقابة الله دائمًا نصب أعينكم قبل رقابة البشر عليكم، ولا يكن شبح الامتحان همكم الوحيد. تخلقوا بالخلق الحسن، اصبروا وارحموا واعطفوا، فإن من المعلمين من تبقى ذكراه عاطرة في أذهان طلابه، ومنهم من لسان حال طلابه ومقالهم مستريح ومستراح منه. واعلموا أن الدارسين يسمعون بأعينهم أكثر من سماعهم بآذانهم، فالقدوة الحقة في الفعال قبل الأقوال.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: وثمة رسالة ثالثة إلى الآباء وأولياء الأمور أقول فيها: معاشر الأولياء، أنتم شركاء للمدرسة في مسؤوليتها، وإننا نشكو مِن قِصر نظر بعض أولياء الأمور، تسأله عن ابنه فيبادرك أن قد أكمل الجوانبَ الفنية والوسائل الحاجية، فقد أمّن له الأدوات المدرسية، بل وبالغ فيها وأسرف وشكّل ولون، حتى إنك لتجد بين يدي الطلاب غرائب الأدوات مما لا حاجة لهم بها، بل وربما كسر قلوب الفقراء الذين لا يجدون ما يوفرون به هذه المتطلبات، وإني بهذه المناسبة لأدعوك عندما تذهب تشتري حاجيات أبنائك الدراسية أن تنظر إلى طفل أو ولد في عمر أبنائك، بل ولربما كان يدرس مع أبنائك في مدرسة واحدة، أبناؤك قد سعدوا بحقائبهم وأدواتهم، وهو حسير الطرف كسير النظر، فينظر إليهم وهو محروم مما في أيديهم، لمه؟ لفقره وقلة ما بيده، لذا فإن من تمام نعم الله أن قامت جمعية البر الخيرية في هذا البلد بمشروع جميل وعظيم ألا وهو الحقائب المدرسية، توزع على أبناء الفقراء، وفيها ما يحتاجونه من أدواتهم، فلا تحرمنّ نفسك المشاركة في الأجر، فقلَم يكتب به مِن صدقتك كفى به أجرًا كثيرًا.
ويأتي السؤال مرة أخرى للأولياء: هل تابعت أبناءك دراستهم؟ هل زرت مدارسهم وسألت عن حالهم؟ إن من الآباء من آخر عهده بالمدرسة تسجيل أبنائه فيها! هل اخترت جلساء ابنك؟ هل عرفت ذهابه وإيابه؟ اصحبه للمسجد ومجامع الخير، علمه مكارم الأخلاق، صوِّب خطأه واشكر صوابه، واعلم أن تربيتهم جهاد، وأعظم به من جهاد تؤجر عليه، علَّك إذا كنت في قبرك وحيدًا فريدًا تأتيك أنوار دعواتهم في ظلَم الليالي تنير لك قبرك، وتسعدك عند ربك.
وأما الرسالة الرابعة والأخيرة فأفردتها لعظمها وهي موجهة للجميع طلابًا كانوا أم معلمين أم آباء، أقول فيها: إن الأمة مقبلة على مستقبل مخيف، تتناوشه أطروحات غريبة ومطالب عجيبة، أهل الشرّ فيه أجلبوا بخيلهم ورجلهم على إفساد شباب الأمة بما أوتوا من قوة، ولست أقول هذا تشاؤمًا، بل والله إني متفائل، ولكن هذا الطوفان لا بد له من رجال، لذا فعلينا جميعًا أن نتكاتف لنحقّق الهدف الأسمى والمطلَب الأعلى من التعليم، ألا وهو العمل. فما قيمة العلم بلا عمل؟!
إن رسالة التعليم لا تعني في أهدافها أن يحمل الطلاب على عواتقهم كمًّا من المقررات طيلة فصل أو عام ثم يتخففون منها بأداء الامتحان، إن رسالة التعليم لم تبلغ غايتها إذا حفظ الطالب أو الطالبة نصوصًا في أهمية الصلاة وكيفيتها وشروطها وواجباتها وهو لا يصلي إلا قليلاً أو يصليها على غير ما تعلمها، إن رسالة التعليم لن تحقق هدفها إذا كان الطالب يقرأ في المدرسة موضوعًا في مادة المطالعة وغيرها عن الصدق وبعده بهنيهة يكذب على معلمه وزملائه، إن رسالة التعليم لن تحقق غايتها إذا كان الطالب في المدرسة يكتب موضوعًا في التعبير مثلاً عن الوالدين ويحليه ويجمله ثم هو يخرج من المدرسة ليرعد ويزبد على أمه ويعرض عن أمر أبيه. وهذا ـ والله ـ فِصام نكِد نعانيه في حياتنا، لكن التقصير من الأطراف كلها حاصل، فلا بد من تلافيه، المدرسة والمعلمون يسعون بالتوجيه والتربية بالأسلوب الأمثل، ويكونون قدوة في فعالهم قبل مقالهم، والآباء والأمهات يسعون لأن يكون البيت خالٍ من وسائل الانحراف وفساد الأخلاق، ويسعى للصحبة الصالحة لهم ما استطعنا لذلك سبيلاً، وقبل هذا وبعده دعاء ربّ العالمين والله يقول: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].
(1/3230)
منكرات الأعراس
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الكبائر والمعاصي, النكاح, قضايا المجتمع
فيصل بن عبد الرحمن الشدي
الخرج
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفرح بكثرة الزواجات. 2- الأمر بالوليمة. 3- انتشار المنكرات في الأفراح. 4- مخالفات في الزينة واللباس. 5- مخالفات في حفلة الزفاف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، اتقوا الله واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
عباد الله، تُسَرّ العين وتأنس الأذن وينشرح القلب وتطيب النفس عندما نسمع ونرى ذلك البناء العظيم الذي سيبدأ بنيانه، وأهله يعدّون العدة لإقامته وإتيانه، وكيف لا يكون عظيمًا والله سبحانه قد تفضّل به منة وإنعامًا؟! بل حثّ عليه، ونبيه وجَّه إليه صيانة للإنسانية وإكرامًا، به يقطع الشر ويشيع الطهر ويحفظ الفرج ويُغض البصر، علكم عرفتموه، وما رُمته فهمتموه، إنه الزواج، آية من آيات الله: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
وفي مثل أيام الإجازات تكثر الزيجات، فلله الحمد والمنَّة، لكن المقام وحال كثير من الأنام في مثل هذه الأيام، يستوجِب العظة والذكرى، نصحًا وتذكيرًا لأولى الأحلام والنهى.
ذاكم ـ يا رعاكم الله ـ مما نشاهده بأمّ أعيننا، وأخباره تملأ أسماعنا، بل ولربما صنعته أيدينا ومن غيرنا وأهلينا من منكرات وخطيئات، تعجّ بها أفراحنا وتمحق بركة أعراسنا، دعونا ـ يا عباد الله ـ نتحسّس الداء، علّنا نتوب ونستغفر ونعرف وننكر ونجانب ونحذر، علَّ الله أن يرحمنا ويسبغ نعمه علينا ولا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
إن وليمة العرس ـ يا رعاكم الله ـ سنة مؤكدة وحثّ عليها الإسلام ورغّب، ففي الصحيحين أن النبي قال لعبد الرحمن بن عوف: ((أولم ولو بشاة)) ، ولا خلاف بين أهل العلم في شرعية إجابة الدعوة لها، بل بعضهم يرى وجوب إجابتها لأمر الرسول بذلك، والناس في هذا الزمان ولله الحمد أولموا ولم يقصّروا، وأجاب كثيرهم ولم يتمنعوا، ولكن السؤال: كيف وضع هؤلاء عرسَهم؟ وما حدث فيه؟ وكيف أولئك أجابوا؟ وما صنعوا فيه؟
لقد عمت في هذا الزمان والعياذ بالله منكرات الأفراح وطمّت، وما منشأ ذلك إلا الجهل بدين الله وقلة الخوف من الله والأمن من مكر الله وتقليد الآخرين والتفاخر والرياء والسمعة وعدم القيام بالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وضعف كثير من الرجال وتسليم القيادة والقوامة للنساء والتهاون واحتقار المعصية، كل واحدة مما مضى تسهم بسهمها في إشاعة منكرات الأعراس وكثرتها.
أما منكرات الأعراس فهي قسمان: مخالفات في الزينة لها، ومخالفات في ليلة الزفاف نفسها، أما مخالفات الزينة فهي كثيرة، من أهمها ما يلي:
أولاً: لبس غير الكاسي من الثياب بالنسبة للنساء حتى إن الداخل لأسواقنا ليرى ألبسة عجيبة يستنكر العقلاء فضلاً عن ذوى الإيمان أن تلبسها النساء، ثياب رقيقة وأخرى عارية تبدي جزءًا من المرأة، وألبسة مخرمة وكذا القصيرة والمفتوحة من الجوانب والضيقة التي تصف حجم الأعضاء، وحدث ولا حرج عن البناطيل والصدور والنحور بادية وأسافلها مفتحة، والحجة: موديل العصر ونحن أمام النساء. يا سبحان الله، أين هنّ مما جاء في مسلم يقول : ((صنفان من أهل النار لم أرهما قط)) ، وذكر: ((نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)) ؟! ورد في تفسير كاسيات عاريات أنها تستر بعض بدنها وتكشف بعضه، أو تلبس ثوبًا رقيقًا تصف بدنها.
وفي جواب اللجنة الدائمة للإفتاء لمن تلبس ما شاءت مما سبق وتحتج أنها أمام النساء قالت اللجنة: وقد دل ظاهر القرآن على أن المرأة لا تبدي للمرأة إلا ما تبديه لمحارمها مما جرت العادة بكشفه في البيت كانكشاف الرأس واليدين والعنق والقدمين، وأما التوسع في الكشف فعلاوة على أنه لم يدل دليل على جوازه، فهو طريق لفتنة المرأة وتشبه بالكافرات والبغايا الماجنات في لباسهن، وقد ثبت عن النبي : ((من تشبه بقوم فهو منهم)).
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "لابسة البنطلون تدخل في حديث: ((صنفان من أهل النار)) الآنف الذكر حتى ولو كان واسعًا فضفاضًا".
2- عدم التزام الحجاب الشرعي، بل أصبح الحجاب ذاته عند بعضهن تجمّل ومباهاة، وذلك بلبس العباءات المطرّزة وأغطية الوجه المخالفة للشرع والنقابات الواسعة ووضع العباءة على الكتف ولبس الكاب وغيرها، وما سبق فتاوى العلماء فيه ظاهرة واضحة بالحرمة، لا يعرض عنها إلا المكابرون الذين يستمدون تحليلها من أهوائهم ورغباتهم والحجة: لا أظن أنه حرام، وماذا فيها؟!
3- ما تفعله كثير من المتزوجات من لبس ثياب بيضاء تسمّى التشريعة، وربما كانت طويلة ولا تستطيع المشي بها حتى يحمله معها عدد من النساء، وتلبس معها شرّابًا أبيض وقفازين أبيضين، وهي من الأعراف الفاسدة الدخيلة على المسلمين، ناهيك ما فيها من الرياء والسمعة والإسراف والتبذير، تُشرى بغالي الأثمان من أجل أن تلبس مرة واحدة ولمدة ساعات، وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141].
4- المبالغة في تفصيل الثياب من الحاضرات والمباهاة بها لمجرد أن تلبس مرة واحدة في إحدى المناسبات، والراقية من تلبس الأغلى ونسيت حساب العلي الأعلى.
5- ومن المخالفات بالنسبة للرجال إسبال الثياب والمشالح إلى أسفل الكعبين، وقد أخرج مسلم في صحيحة أن النبي قال: ((ثلاث لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) منهم المسبل إزاره.
6- لبس الباروكة وهي حرام فهي واصلة، وصح عن النبي : ((لعن الواصلة والمستوصلة)).
7- الذهاب إلى محلات تصفيف الشعر ووضع المساحيق وهي ما تسمّى بالكوافيره، فتدخل المرأة في مكان لا يؤمَن عليها فيه، بل قد تصوَّر وهي لا تعلم، بل بعضهن تبدي من جسدها ما لا يحلّ بحجة التنظيف، والله المستعان.
8- قص الشعور أو تسريحها على وجه يشبه ما عليه الكافرات وهذا محرم، أو تجمع الشعر بطريقة مائلة فوق رأسها فتدخل في وعيد نبيها: ((رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة)).
9- حلق ما يحرم حلقه من الشعر، فتحلق المرأة حواجبها وهذا هو النّمص، وقد صح عن النبي لعن النامصة والمتنمصة، وكذلك حلق الرجل لحيته يريدون الجمال زعموا، وهل عرفت الدنيا أجمل من محمد ؟! كان كث اللحية، وهو القائل: ((جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى)). ومن ذلك أيضًا تخفيفها أو تحديدها ونحو ذلك.
10- صبغ اللحية بالسواد، وهذا ما يفعله بعض كبار السن في المناسبات، وعند الإقدام على الزواج خاصة، فأين هم عما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: قال رسول الله : ((يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة)). وقد أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء برئاسة الشيخ ابن باز رحمه الله بحرمته. ألا فليتق الله أولئك، وحجتهم: فلان يعمله وفلان يعمله، ألا إن كل نفس بما كسبت رهينة، ولن يحاجّ أحدٌ عن أحد.
11- خروج النساء من بيوتهن متعطرات ومرورهن أمام الرجال، وقد نهى النبي المرأة إذا مست بخورًا أن تأتي إلى المسجد، فكيف بالله إذا خرجت لغيره؟!
12- لبس الكعب العالي، وقد أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء بحرمته.
13- إطالة الأظفار، فإن كان تشبهًا فلا شك في حرمته، وإن كان هوى فهو خلاف الفطر المستقيمة.
حفظ الله أعراضنا وأعراضكم، ووقاني الله وإياكم الشر وأسبابه والحرام وبابه، إنه سميع قريب سريع الاستجابة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله رب العالمين، يقص الحق وهو خير الفاصلين، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين.
أما بعد: عباد الله، نأتي نحن وإياكم الآن إلى حفلة الزفاف نفسها، وفي جعبتها ما فيها من مخالفات وحَيْدة عن تعاليم دين ربها، فمن ذلك:
1- الإسراف في حفلات الزفاف ابتداءً من بطاقات الدعوة والمغالاة فيها شكلاً ومضمونًا وعددًا وطباعة، والوريقة اليسيرة بل والمكالمة تجزئ عنها، ولكنه التباهي والتفاخر، وانتهاءً بقصور الأفراح والمباهاة فيها، بل تطور الأمر ببعضهم إلى إقامة حفلات الزفاف في الفنادق بمبالغ طائلة، وكذلك الإسراف في المطاعم والمشارب، وذاك عند النساء خاصة، ومن بعدهن الرجال، فلم تكتف النساء بطعام الوليمة، بل انظر إلى ما قبلها عند الاستقبال وبعدها من لذائذ الأطعمة، وصرف مئات بل آلاف الريالات عليها، ناهيك عن رؤوس المواشي ثم أين مصيرها؟ لقد رأيته ـ والله ـ بأم عيني هاتين والبُخار الحار يتعالى منها وهي مرمية في حاوية كبيرة للنفايات، فرحماك يا إله العالمين، وعفوك يا أرحم الراحمين، أمم تتباهى بأطعمتها نوعًا وكمًّا، وترمي بزائدها، وإخوانها في العقيدة والدين في مشرق الأرض ومغربها يبحثون عن فتات الخبز، ألم تروا ألم تقرؤوا عن النساء المسلمات في تشاد وهن يبحثن في بيوت النمل عن حبة القمح ليأكلوها؟! أين نحن؟! وأين هم؟! وبماذا سنجيب ربنا عنهم؟!
اخشوا عقوبة الله وغضب الله، فأمره بعد الكاف والنون، وما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال. اثنان وعشرون آية في القرآن يعيب الله فيها المسرفين وكفاك: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر:43].
تفننوا في عرض حلوياتهم وعرض أصناف مطعوماتهم، ألم يفكروا في أسر مسلمة قريبة منهم تحتاج الواحدة منهم لقمة لتسدّ جوعتها أو بعض نقود لتفك عوزتها؟! استرخصوا الآلاف في ولائمهم، وشحّوا بالمئين، بل ما دونها فيما يدعوهم إليه ربهم، فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
2- تخصيص الدعوة إلى الوليمة للأغنياء دون الفقراء، والنبي قال كما في الصحيحين: ((شر الطعام طعام الوليمة؛ يدعى إليه الأغنياء ويترك الفقراء)).
3- حضور النساء إلى حفلات الأعراس وغيرها بلا محرم، بل مع السائق وخروجهن معه، فوليها لا طاقة له بانتظارها، فالعرض العرض.
4- التصوير وهذا حرام بلا شك، ولا يرضى عاقل أن تلتقَط صور لمحارمه ونسائه فضلاً عن ذي إيمان ومروءة، ويزيد الأمر قبحًا إذا صوّر لقاء النساء ورقصهن بكاميرات الفيديو، فالعار العار والشنار الشنار.
5- جلوس الزوج وزوجته على المنصّة أمام النساء، بل ولا تتحجّب كثير من النساء عند دخوله، ولكأن التكليف رفع تلك الساعة، قلة حياء، وهذا ـ وربي ـ شر البلاء.
6- دخول بعض الرجال كإخوة العريس عند النساء ورقصهم وإنشادهم الأشعار، أو دخول خدم الفنادق وقصور الأفراح من الرجال لخدمة النساء، ومثله دخول بعض المراهقين والحجة صِغر سنه وهو ابن الخامسة عشر بل وإلى الثامنة عشر وتزيد، فأين الغيرة يا رعاكم الله؟! والحجة: نحن في ليلة فرح، ولكأن ذلك من الضرورات، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
7- والبلية العظمى والطامة الكبرى إحياء حفلة الزفاف زعموا بالغناء الماجن المصاحب لآلات العزف المحرمة، بل وتستقدم بعضهم الفرق الغنائية لذلك، كلمات ماجنة وعبارات ساقطة، دعوات مبطنة للرذيلة، وإخلال على رؤوس الأشهاد بالفضيلة، ومكبرات أصوات تسمع صوتها يخرق الجدران ويدوي في الآذان بكلمات الهوى والحب والشيطان. ألا فاعلموا ـ رحمكم الله ـ أن ما أباحه دينكم هو الطار وهو المختوم من وجه واحد، وإنشاد بكلام شريف لا وضيع، ولا يكون فيه أذى للجيران وغيرهم.
8- الرقص الماجن الخليع من النساء، إثارة للشهوة وتحريك للغرائز، والحجة: أمام النساء. ألا فليتقوا فاطر الأرض والسماء.
9- السهر الطويل ليلة الزفاف، بل ولربما صلى الناس وهم في لهوهم سادرون، وإن ذهبوا فقرب الفجر فهم في فرشهم خامدون، وعن صلاة الفجر معرضون.
10- النثار وهو طرح النقود ونحوها في الزواج، كتبت إحدى الصالحات في مجلة الدعوة أن امرأة كانت ترقص وفي يدها عشرة آلاف ريال، وبعد انتهاء شوطها مزقتها ورمتها على الأرض. فاللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
11- إطلاق الأعيرة النارية في الهواء، ولا يخفى ما فيه من تعريض أرواح الناس للخطر.
12- تزاحم الرجال أمام بوابة النساء عند خروجهن بطريقة مزرية.
13- تهنئة الجاهلية وهو قولهم: بالرفاء والبنين. والسنة قول: بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير.
وختامًا لدي رسالتان:
أولاها للآباء وأولياء أمور النساء أن يتقوا الله في رعيتهن، في لباسها وحجابها وسترها وعن الشر ردعها والأخذ على يدها، والذي لا إله حق غيره لتسألن عنه، وحينئذ يعظم الخطب ويشتد الكرب، وربَّ بنيات وأولاد ونساء جروا آباهم إلى النار.
الثانية: إلى كل مؤمن ومؤمنة، إلى ذوي الغيرة على محارم الله، قوموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مروا واصبروا وانهوا واحتسبوا، فإن لم تفعلوا فالشر سيستطير، والحساب بين يدي العلي الكبير عسير.
(1/3231)
حماية الشريعة
أديان وفرق ومذاهب, الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
حقيقة الإيمان, محاسن الشريعة, مذاهب فكرية معاصرة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
9/4/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب التمسك بشريعة الإسلام. 2- حقائق إيمانية. 3- وجوب الدفاع عن الشريعة. 4- ظاهرة الانهزامية. 5- خطر المتنكّرين لشريعتهم. 6- تأثر العامة بطروحات المتنكرين للشريعة. 7- أسباب ظهور المتنكرين للشريعة. 8- واجب الولاة والعلماء. 9- وجوب تحكيم الكتاب والسنة والتسليم لهما.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، واقدُرُوا الله حقَّ قدره، وآمنوا بالله ورسوله، يؤتِكم كِفلين من رحمته، ويجعل لكم نورًا تمشون به، ويغفر لكم، ومن تولَّى عن ذلك فإنما يتَّبع هواه، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50].
أيها الناس، إنَّ المسلمين بحكمِ شريعتِهم ونصوصِها الناصعَة الصريحة لمطالبون عند الله بالتمسُّك بها والعَضِّ عليها بالنواجذ وحمايةِ جنابها عن أن يُخدَشَ أو يُثلَم، أو أن تتسَلَّل إليها أيدي العابثين لِواذًا، يقلِّبون نصوصَها وثوابتَها، ويتلاعبون بأحكامها ومسلَّماتها كيفَ شاؤوا، على حين غفلةٍ عن استشعار هيبَة القرآنِ في النفوس، وإبّانِ غيابٍ غيرِ قليل لما يَزعُه الله بالسّلطان من القوّة والتأديب؛ لأنّ مَن أمنِ العقوبةَ أساء الأدَب، ومَن عَدِم النورَ والهداية تخبَّط في دياجير الظّلَم، ولا عاصمَ حينئذٍ من أمر الانزلاق بعدَ الله إلا بالتمسُّك بوصيّة المصطفَى حيث يقول: ((عليكم بسنّتي وسنّةِ الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي، تمسَّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كلّ محدثةٍ بدعة)) رواه أحمد [1].
عبادَ الله، إنَّ للمسلمين شدّةً في دينهم وقوّةً في إيمانهم، يباهون بهما من عداهم من أهلِ المِلَل، وإنّ في عقيدتهم ونصوصِ الوحيين عندهم أوثقَ العُرى لارتباط بعضِهم ببعض ودفاعِ بعضهم عن بعض تحت جامعة الإسلام الحقَّة.
وإنّ مما رسَخ في نفوس المسلمين أنَّ في الإيمان بالله وما جاء به رسوله على وجه الانقياد والتسليم كفالةً لسعادة الدارين، وأنّ من حُرِم ذلك التمسُّكَ والانقياد فقد حُرِم التوفيقَ والسعادة، ولقد صدق رسول الله إذ يقول: ((ذاقَ طعم الإيمان، من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً)) رواه مسلم [2].
إنه لا طعمَ بلا إيمان، ولا إيمانَ بلا رضًا بشريعة الله ورسوله ، وبلا عملٍ بها في جميع شؤونِ الحياة بلا استثناء.
إنّ المسلمين جميعًا مأمورون ببذل كلِّ ما مِن شأنه المحافظةُ على شريعَتهم الغرّاء عن أن يزلُّوا بتهميشها بعد ثبوتهم عليها، ويذوقوا السوءَ بما صَدّوا عنها، كما أنه في الوقتِ نفسه إن لم يقوموا بالحمايةِ عن حَوزة الشريعة فإنهم سيأثمون جميعًا، إن لم يقُم بهذا الفرض الكفائيّ مَن يكفي في ترسيخ تحكيم الشريعة وصَدِّ الأيدي العابثة بها بين الحين والآخر.
أيها المسلمون، إنّ المدلهمَّاتِ الحثيثةَ والخطوبَ التي اعترَت حِياضَ المسلمين وقوَّضت روابطَهم استطاعت أن تكوِّن في أنفسهم شيئًا من الذُّعر والفَرَق اللَّذين أفرزَا في نفوس بعضِ المسلمين إحساسًا بالانهيار وتردُّدًا في القناعات ببعض الجوانب في الشريعة واستحياءً في التمسُّك بالدِّين والاعتزاز بالشريعة الحيَّة، بل لقد تعدّى الأمر إلى أكثرَ من ذلك حيث نبتت نابتةٌ تريد عزوَ أسبابِ الانهيار والضعفِ لدى المسلمين إلى ما يحملون في أنفسِهم من تطبيقٍ لشريعةِ الإسلام في عصرِ العَولمة وتصارُع الحضارات، فأخذوا يُلفِّقون التُّهمَ لعقيدة الأمّة ولأصالتها وعالمية رسالتها، ورأوا أنَّ في تطبيق الشريعة على ما عهِده المسلمون في القديم والحديث مانعًا من تعانُق الحضاراتِ ونوعَ تخلُّفٍ ورَجعية لا تُرضي شعوبَ الكفر ودُوَله، والتي لن ترضَى عن أمَّتنا حتى تتَّبع مِلّتهم، فلا تسألوا حينئذٍ ـ عبادَ الله ـ عن البدء في النَّقضِ للعُرى والتشكيك في المسلَّمات والأصول وتعميم الفوضىَ في المرجعيّة الشرعية والتشويش في إثارة مراجعاتٍ وتبديل القناعات بأنّ ما كان حرامًا بالأمس يُمكن أن يكونَ اليومَ حلالاً، وما كان بالأمس اعتزازًا فخرًا يُمكن أن يكونَ اليومَ خِواءً وانكسارًا.
لقد اختلطت مصادِر التقرير في صفوف المتحدِّثين حتى تحوّل الصَّحفيُّ فقيهًا ومرجعيةً دينية تضَع المعايير للمصيب والمخطئ كيفما اتّفق، وانقلَب السياسيّ مشرِّعًا والعامِّي ناقِدًا، وفُقِدت المرجعيّة الشرعيّة بعد تهميشها بين أوساطِ الناس، وذلك كلُّه بسببِ بُعد العلماء وغياب قُوّةِ السلطان وترفُّع الوُضَعاء والجهّال والمتفيهقين؛ ليُبرِزَ لنا الواقعُ المرير صورةً جليّةً من الوصف النبويّ الكريم لِما يكون في آخر الزَّمان على حدِّ قول المصطفى : ((إنَّ الله لا ينزع العلمَ من الناس انتزاعًا، ولكن يقبض العلماء، فيُرفَع العلمُ معهم، ويبقى في الناس رؤساء جهّال، يفتونهم بغير علم، فيَضلّون ويُضلّون)) خرّجاه في الصحيحين وهذا لفظ مسلم [3] ، وعلى حدِّ قول النبي في الحديث الآخر: ((إنها ستأتي على الناس سِنون خدّاعة، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذّب الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، وينطِق فيها الرُّويبضة)) ، قيل: وما الرويبضة؟ قال: ((السفيه يتكلَّم في أمر العامّة)) رواه أحمد [4].
عبادَ الله، إننا لنُشاهد في هذه الآونة تأثُّرَ كثيرٍ من الناس بكثرةِ المطارحات والمجادلات التي تمسُّ أصولاً في الدين ومسلَّمات، وذلك من خلالِ المطارحات المتكرّرة عبرَ وسائلَ متعدّدة، كالفضائيات المرئية أو الصحافة المقروءة أو الإذاعة المسموعة أو عبرَ منتدياتٍ وندوات نشيطةٍ في هذا المجال.
وإن تعجَب ـ أيها المسلم ـ فعجبٌ ما يظنّه أصحابُ تلك المطارحات مِن أنهم أتَوا للأمة بما لم يأتِ به الأوّلون، وأنهم بذلك قد فاقوا السلفَ الكرام، اغترارًا بما رأَوه من حركةٍ إعلامية تنشِّط مثل هذه المجادلات والمحاورات، وتنوِّع أساليبَ التأويل والصَّرف لمعاني النصوصِ الشرعية وضربِ بعضها ببعض وتقديمِ العقل والتعايُش العالمي والمصلحة الدَّولية والوطنية على النصّ الشرعيّ. وإنما أُتي بعضُ هؤلاء الذين يُدلون بهذا الطَّرح من خِلال الإعجابِ بطريقتهم؛ حيث ظنّوا أنها خيرٌ من طريقة السلف؛ لأن طريقةَ السلف في زعمهم هي مجرّدُ الإيمان بألفاظِ القرآن والحديث من غيرِ فقهٍ ولا فَهم لمراد الله ورسوله منها، واعتقدوا أنهم بمنزلة الأمِّيِّين الذين قال الله فيهم: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [البقرة:78]، وأنَّ طريقةَ هؤلاء المتفيهقين هي استخراجُ معاني النصوص وصرفُها عن حقائقها التي فهِمها السلف الصالح بأنواع المجازات وغرائب اللُّغات ومستنكَر التأويلات، فهذا الظنُّ الفاسِد أوجَب حال المتشبِّثين به أن يكون مضمونه نبذ الكتاب والسنة وأقوالِ الصحابة والتابعين وراءَ ظهورهم، فكانت النتيجة الحاصِلة بفِعلهم إثارةَ الشبهات وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم. ونتج من هذا المنطلق دعواتٌ وشِعارات لاقت رجعَ الصدَى في غيرِ ما قطر إسلاميّ وعربيّ عمّا يُسمَّى بالعولمة الثقافية المعرِفيّة التي مفادُها تهميش هَيمَنة الشريعة الإسلامية وحجبُ الثقَة عنها لتتلاقَح المعارف والثقافاتُ دون قيودٍ ولا حدود، حاملين خلالَها شعاراتِ التجديد والإصلاح وتطوير الشريعة وتصحيح الخطاب الدينيّ وإصلاحه ونشر ذلك كلِّه عمّا يُسمَّى بالجمود النصِّي، والواقعُ أن البلاءَ لا يكمن خطرُه في تلك الشِّعارات المرفوعة فحسب، وإنما يكمُن أيضًا في الرؤى والمضامين، وقديمًا قيل: تحت الرّغوةِ اللبنُ الصَّريح [5].
ثم إنّه ما صار الذي صَار إلا بضَعف الهيمنةِ العلمية الموثوقةِ والمرجعية الشرعيّة النزيهة، ولسانُ حال المرجعيّة المهمَّشَة وسطَ هذه الزّوابع والشِّعارات والمتنكِّبة يردِّد قولَ القائل:
وكان بنو عمِّي يقولون: مرحبًا فلمّا رَأوني مفلِسًا ماتَ مَرحبُ [6]
ورحِم الله ابنَ القيم وهو يصفُ مثلَ هذه الحال بقوله: "فلو رأيتَ ما يُحرِّف إليه المحرِّفون أحسنَ الكلام وأبينَه وأفصحَه وأحقَّه بكلِّ هدًى وبيان وعلم مِن المعاني الباطلة والتأويلات الفاسِدة لكِدتَ تقضي من ذلك عجبًا وتتَّخذ في الأرض سَربًا، فتارةً تعجَب، وتارة تَغضب، وتارة تبكِي، وتارة تضحَك، وتارةً تتوجَّع بما نزل بالإسلام وحلّ بساحةِ الوحي" انتهى كلامه رحمه الله [7].
وبعد: أيها المسلمون، فإنّ الواجبَ على الولاةِ والعلماء والدّعاة أن يكونوا حماةً لجناب الشريعة، وأن يتصدّوا لكلِّ غارةٍ على حِماها، وأن يقِفوا في وجوهِ العابثين بها وبأحكامها وثوابِتها، وبيان الحقّ لهم ودعوتهم إليه بالحكمة والموعظة الحسنة ومجادلتهم بالتي هي أحسَن، كما أنه لا ينبغي أن يتسلّل شيءٌ من التهوينِ مِن شأنِ أولئك، أو أن يقال: إنَّ الردَّ عليهم والتصدِّي لهم فيه نوعُ تنزُّل وإعطاءٌ للشَّخص أكثر من حقِّه؛ فإنّ الدفاعَ عن الشريعة أعمّ من أن يُحَدَّ بشخص دون آخر؛ إذِ الحقّ هو الضّالّة التي ينشدُها المؤمن، وللإمام عثمان الدارمي كلامٌ حولَ هذا يقول فيه: "وقد كان من مضَى من السَّلف يكرَهون الحوضَ في هذا وما أشبَهه، وقد كانوا رُزِقوا العافيةَ منهم، وابتُلينا بهم عند دروس الإسلام وذهابِ العلماء، فلم نجد بدًّا من أن نردّ ما أتوا به من الباطل بالحقّ" [8] ، ولأبي الحسَن الأشعريّ رحمه الله كلامٌ جيِّد في معرض ردّه على الجبّائي المعتزلي، يقول فيه: "ورأيتُ الجبائي ألّف في تفسيرِ القرآن كتابًا أوّلَه على خلافِ ما أنزل الله عزّ وجلّ، وما روى في كتابه حرفًا عن أحدِ المفسِّرين، ولولا أنه استغوَى بكتابه كثيرًا من العوامّ واستزلّ به عن الحقّ كثيرًا من الطّغام لم يكن للتّشاغُل به وجه". ويتحدّث ابن القيّم رحمه الله عن الوقوف في وجوه المحرّفين والعابثِين بنصوص الشريعة والحاطّين من هيبتها قائلاً: "فكشفُ عوراتِ هؤلاء وبيان فضائحِهم وفساد قواعدهم من أفضلِ الجهاد في سبيل الله، وقد قال النبي لحسّان بن ثابت رضي الله عنه: ((إنَّ روحَ القدُس لا يزال يؤيِّدك ما نافحتَ عن الله ورسوله)) [9] " [10].
ألا فاتّقوا الله معاشرَ المسلمين، واحفظوا شِرعةَ الله ومنهاجه في واقعِ حياتكم، وذودوا عن حِماهما، فلا نجاةَ لسفينةِ الإسلام الماخِرة إلاّ بالتمسُّك بهما على وجهِ الانقياد والتسليم والتعظيم والطاعة، فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسِي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفّارًا.
[1] مسند أحمد (4/126-127) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95)، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
[2] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (34) عن العباس بن عبد المطلب.
[3] صحيح البخاري: كتاب الاعتصام (7307)، صحيح مسلم: كتاب العلم (2673) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[4] مسند أحمد (2/291) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا ابن ماجه في الفتن (4036)، وصححه الحاكم (4/465)، ووافقه الذهبي، وقد تُعقِّبا، لكن للحديث طريق أخرى وشواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1887).
[5] هذا المثَل يضرَب للأمر تظهر حقيقته بعد خفائها. والرّغوة بكسر الراء وفتحها وضمها: الزبدة. انظر: جمهرة الأمثال (1/270)، موسوعة أمثال العرب للدكتور إيميل يعقوب (3/376).
[6] انظر: روضة العقلاء لابن حبان (ص226).
[7] الصواعق المرسلة (1/300-301).
[8] الرد على الجهمية.
[9] أخرجه مسلم في فضائل الصحابة (2490) عن عائشة رضي الله عنها.
[10] الصواعق المرسلة (1/301).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: فاتقوا الله أيّها المسلمون، واعلموا أنّ الدين عند الله الإسلام، وأنّ الله جلّ وعلا يقول: وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]. وقد أمرنا الله سبحانه أن نخلِصَ طاعتَنا لله ولرسوله ولورثةِ الأنبياء مِن العلماء الربانيين حيث يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59].
وإنّ مِن صحَّة الإيمان تعظيمَ الشريعة واحترامها لأنها من الله ورسوله ، فلا يجوز العبثُ بها ولا الاعتداء على مسلَّماتها ولا الخوضُ فيها بغير عِلم لأنّ الله جل وعلا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1]، والمعنى: لا تقولوا خلافَ قول الله وقول رسوله ، ولا تفتاتوا عليهما بشيء، ولا تقضوا أمرًا دونَ الله ورسوله من شرائعِ دينكم.
ويشتدُّ الأمرُ تأكيدًا ـ عبادَ الله ـ حينما تأتي الملمّات وتحُلّ الفِتن والبلايا كما قال تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83].
إنه بمثلِ هذا سار السلفُ الصالح، فكُتب لهم التوفيقُ والتمكين، وما ذاك إلاّ لتعظيمهم لنصوص الوحيين والأخذ بها وعدم التقديم بينها، فقد صحَّ عن أبي حنيفةَ ومالك والشافعيّ وأحمد رحمهم الله قولُ كلِّ واحدٍ منهم ما مفادُه: إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي، وقد جاء رجل للشافعيّ فسأله مسألةً فقال: قضَى رسول الله كذا وكذا، فقال الرجل للشافعيّ: ما تقول أنت؟ فقال: سبحان الله! تراني في كنيسة؟! تراني في بيعة؟! ترى على وسطي زنّارًا؟! أقول: قضى رسول الله كذا وكذا وأنت تقول لي: ما قولُك أنت؟!
فالواجبُ على كلِّ مسلم كمالُ التسليم لشريعةِ الله والانقياد لما فيها وتلقِّي ذلك بالقبولِ والتصديق دونَ معارَضتها بخيالٍ باطلٍ ولو سمّاه الناس معقولاً أو مصلحةً أو ضغطًا حضاريًّا. كما لا يجوز لأحدٍ أن يحمِّل الشريعةَ شبهةً أو شكًّا أو يقدِّم عليها آراءَ الرجال وزُبالةَ أذهانهم، فلا يصحّ إلاّ التحكيم والانقياد والتسليم والإذعان للشريعة، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [الأحزاب:36].
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشريّة محمد بن عبد الله بن عبد المطّلب صاحبِ الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد...
(1/3232)
السنة النبوية
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
9/4/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة بعثة النبي. 2- حفظ الله تعالى للقرآن والسنة. 3- رسول الله القدوة في كل خير. 4- فضل السنة النبوية. 5- المراد بالسنة في اللغة والشرع. 6- سبب ضعف المسلمين في العصر الحاضر. 7- المخرج من الهوان. 8- واجب الدعوة للسنة. 9- موانع اتِّباع سنة المصطفى. 10- ظهور الفِرَق وسبب ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ أيّها المسلمون ـ وأطيعوه، فإنّ طاعتَه خيرٌ لكم في الدّنيا وذُخر لكم في الأخرى.
واعلموا ـ عبادَ الله ـ أنَّ الله تفضَّل وتكرَّم على الخلقِ ببعثة سيِّد ولَد آدم محمد ، قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. فالمسلمُ مرحومٌ رحمةً خاصّة برسالةِ محمّد ؛ لأنه اتَّبعها وعمِل بها، والكافِر مرحومٌ رحمةً عامّة برسالةِ الإسلام؛ لأنَّ تمسُّكَ المسلمين بدينهم يكفُّ شرَّ الكافرين ويجَفِّف منابعَ فسادهم في الكون العريض، قال الله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251].
وقد أنزل الله على نبيّه أعظمَ كتاب، وأنزلَ عليه أعظمَ تفسيرٍ للقرآن وهو السنّة النبويّة، وحفِظَ الله القرآن والسنة من التغيير والتّبديل، وحفظهما من فاسِدِ الآراء والتأويل، وأقام الله الحجّةَ على العالمين بسيِّد المرسَلين عليه أفضل الصلاة والتسليم، وهدَى الله محمَّدًا إلى أحسَن الهَدي ويسَّره لأحسنِ السّبل وأسهل المناهج، قال الله تعالى لنبيّه: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8]، وروى مسلمٌ من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((وشرّ الأمور محدثاتها، وكلُّ بدعة ضلالة)) [1].
وقد وفَّى النبيّ مقاماتِ العباداتِ ومراتبَ الدّين وفضائل الأعمال والخصال في الدارين، قد وفَّى هذه الأمورَ حقَّها وأتى بالغايةِ في ذلك كلِّه، فرسول الله هو القدوةُ للعابد، والقدوةُ للداعية، والقدوة للمعلِّم، والقدوةُ للحاكم، والقدوة للقائد، والقدوةُ للجنديّ، والقدوةُ للزّوج وللأب، والقدوةُ في المعاملات وفي كلِّ حالٍ يتقلّب فيه الإنسان، قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، وقال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، قالت عائشة رضي الله عنها: كان خلقُه القرآن [2] ، أي: يعمَل به في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، ويتَّصف ويعمَل بما يدعو إليه القرآن، ويجانبُ ما ينهى عنه القرآن.
وسنّة رسول الله معالمُ هُدَى في الصراط المستقيم، يقتدي بها المسلمون، ولقد جمعت سنةُ رسول الله الفضائلَ والخيراتِ والكمالاتِ كلَّها، فمن عمل بالسنَّة فقد جمَع الله له الخيرَ كلَّه، ومن ترك السنةَ فقد حُرم الخيرَ كلَّه، ومن ترك بعضَ السنة فقد فاتَه من الخير بقدرِ ما ترك من سنة المصطفى.
وإذا كانت هذه منزلة السنة النبوية وهذا فضلها ومكانُها السَّنيّ وشرفها العليّ فما معنى هذه السنة؟
السنة ـ يا عباد الله ـ معناها في اللغةِ الطريق المسلوك والعادة المتَّبعة، قال تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً [الإسراء:77]. ويرادُ بالسنة في الشرع: التمسّكُ والعمل بما كان عليه رسول الله هو وخلفاؤه الراشدين وصحابتُه المؤمنون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، كما يُرادُ بالسنة أقوالُ رسول الله وأفعالُه وتقريراته؛ لأن ذلك أصلُ الاعتقاد والعمل.
أمةَ الإسلام، إنَّ الحالَ التي وصَل إليها المسلمون يَحزَن لها قلبُ كلِّ مؤمن، وتدمع العين، وتأسى النفس، فقد تكالب عليهم الأعداءُ، وساموهم سوءَ العذاب، وانتهَكوا أعراضَهم في كثير من الأقطار، وأهانوا كرامتَهم وأذلّوهم، ومزَّقت المسلمين التعصباتُ المذهبية والمناهجُ الحزبية والقوميات الجاهلية والبدَع المحدثة، أضعَفَ المسلمين تناحُرهم وتفرُّقُهم والأهواءُ الضالّة واتِّباع الشهوات المحرّمة، وليس ذلك الضعفُ والانحطاط والذِّلة لقلَّة عَدد المسلمين، فهم أكثرُ أهلِ الأديان عددًا، وإنما مُصابُ المسلمين بالتقصير في العمل بدينهم، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11].
وإنّ الوضعَ الذي عليه المسلمون اليومَ من اجتماع أعدائهم عليهم وإنزالِ أنواع البلايا والمِحَن بالمسلمين إنّ تِلك الحالَ وذلك الوضع قد أيقظَ الهِمَمَ العالية، وأطلق الصيحاتِ المُنذِرة والنصائحَ الصادِقة أنِ ارجعوا ـ أيها المسلمون ـ إلى ربِّكم، وتوبوا إلى بارئكم، وتمسَّكوا بدينكم، واعملوا بكتابِ ربِّكم وسُنَّة نبيكم ، يرحمكم ربُّكم ويرفَع ما نزل بكم.
وإنَّ أمراضَ المسلمين قد كثُرت وأسبابَ انحطاطِهم قد تعدَّدت ومصائبهم قد توالت والعقوبات قد عظُمت، وقد يزداد الأمرُ سوءًا على أكثر ممّا هو عليه، ولكنَّ العاقبةَ الإسلام.
إنَّ أدواءَ المسلمين ليس لها دواءٌ إلاَّ العمل بسنَّة رسولِ الله ، إنَّ اتباعَ سنةِ رسول الله والتمسّك بمنهج السلف الصالح عِلاجُ الأمراض وزوالُ المكروهات ونزُول البركات والخيرات، والتمسُّك بالسنة هو الاجتماع ونَبذ الخلافات وتوادُّ القلوب واتفاق النيات، والتمسُّك بالسنة هو النصرُ على أعداء الحقِّ وأهلِ الغيّ والشهوات، قال بعض أهل العلم: "ما مِن بلدٍ يعمَل أهلُه فيه بالسنّة وتظهر فيه أنوارها إلاَّ كان منصورًا ظاهرًا على عدوِّه، وما مِن بلدٍ تنطفئ فيه أنوارُ السنة إلاَّ غلَب عليه عدوُّه"، وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((جُعِل رزقي تحتَ ظلِّ رمحي، وجُعلت الذِّلَّة والصّغار على من خالف أمري، ومن تشبَّه بقوم فهو منهم)) [3] ، وروى أبو داود والترمذي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله موعظةً وجلت منها القلوبُ وذرَفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظةُ مودِّع فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمعِ والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبد، فإنّه من يعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتيّ وسنةِ الخلفاء الراشدين المهديّين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كلّ بدعة ضلالة)) [4].
إنّ الدعوةَ للسنّة النبوية هي للناس كلِّهم، فرضٌ على كلّ مسلم أن يقومَ بذلك، فدعوةُ المسلم لأخيه المسلم بتكميل نقصِ تمسُّكِه بالسنة واستدراكِ ما فاته مِن العمل بالسنة وجَبر تقصيرِه بدينه وتذكيره بغفلته وتعليمه ما يجهله ومعاونته على الخير وتحذيره من الشر، ودعوةُ المسلم للكافر ببيان محاسنِ الإسلام وإقامة الحجّة عليه، وأن يكونَ المسلم قدوةً صالحة في دينه.
وأنتم ـ أيها المسلمون ـ في هذه البلاد عافاكم الله مما ابتُلِيت به بعض البلدان من كثير من الشرور، فاحمدوا الله على ذلك، ولكن احذَروا أن تفتَحوا على أنفُسكم أبوابَ الشرِّ الذي فُتِح على غيركم، واحذروا التهاونَ بالذنوب، فإنها سببُ العقوبات، وليكُن المسلم في يومِه خيرًا منه في أمسِه، وفي غدِه خيرًا منه في يومه، ولا يرضَى لنفسِه بالتأخُّر في الطاعة والتساهل في المعصية.
وإياكم ـ معشر المسلمين ـ والموانعَ من اتّباع منّة المصطفى ، وأعظمُ مانعٍ من اتّباع سنةِ المصطفى اتباعُ الهوى، قال الله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50]. وأهلُ البدَع يُسمِّيهم السلفُ أهلَ الأهواء لمجانبتهم سنةَ المصطفى. وإياكم وفتنةَ الدنيا وركوبَ الشهواتِ، فإنَّ ذلك يصدُّ عن السنة النبوية، قال الله تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16، 17]، وقال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59].
وممّا يصُدُّ عن سنَّة المصطفى تقليدُ الضالّين المُضِلِّين من ذوي التعصُّب المحرَّم وأربابِ الطُرُق الضالّة والأهواء المبتدعة، قال الله تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [الأعراف:3].
وممّا يصُدُّ عن سنّةِ المصطفى الجهلُ بها، وفي الحديث عن النبي : ((من يُردِ الله به خيرًا يفقّهه في الدين)) [5].
فلا يحُلْ بينك وبين السنّة ـ أيها المسلم ـ حائل، ولا يصدَّنَّك عنها شيء، فإنه لا يأمَن من الشر ولا يأمن من العقوبات ولا يفوز بالخير والجنات إلاَّ من تمسَّك بما كان عليه رسول الله وأصحابُه، قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:20-23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الجمعة (867).
[2] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين (746) من حديث سعد بن هشام بن عامر في قصة طويلة، وفيها: فقلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله ، قالت: ألستَ تقرأ القرآن؟! قلت: بلى، قالت: فإن خلق النبي كان القرآن.
[3] أخرجه أحمد (2/50)، وابن أبي شيبة (4/212)، وعبد بن حميد (848)، والطبراني في مسند الشاميين (216)، والبيهقي في الشعب (1199)، قال الهيثمي في المجمع (5/267): "فيه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وثقه ابن المديني وأبو حاتم وغيرهما، وضعفه أحمد وغيره، وبقية رجاله ثقات". وعلق البخاري بعضه بصيغة التمريض في الجهاد، باب: ما قيل في الرماح. وأخرج أبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031) جزأه الأخير، قال ابن تيمية كما في المجموع (25/331): "هذا حديث جيد"، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/342): "سنده صحيح"، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (10/271). وله شاهد أخرجه ابن المبارك في الجهاد (105)، وابن أبي شيبة في المصنف (4/216) عن طاوس مرسلا، قال الحافظ في تغليق التعليق (3/446): "إسناده حسن". والحديث صححه الألباني في الإرواء (1269).
[4] سنن أبي داود: كتاب السنة (4607)، سنن الترمذي: كتاب العلم (2676)، وأخرجه أيضا أحمد (4/126-127)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95)، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
[5] أخرجه البخاري في العلم (71)، ومسلم في العلم (1037) عن معاوية رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ العالمين، وليِّ الصالحين، أحمد ربِّي وأشكُره، وأثني عليه الخيرَ كلَّه، لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له إله الأولين والآخرين، وأشهد أنّ نبينا وسيِّدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ بامتثال أمره واجتناب نهيه.
أيها المسلمون، إنَّ أدواءَ المسلمين وأمراضهم وسببَ العقوبات في الدنيا والآخرة هي التفريطُ في العمل بسنّة نبينا محمد وهديه القويم، قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
وإنَّ اختلافَ الأهواء واختلافَ الأقوال والتنافُر بين القلوب سببُ ذلك الجهلُ بالسنة والتفريط في العمل بها، وفي الحديث عن النبي : ((تركتُ فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا بعدي: كتابَ الله وسنتي)) [1] ، ويقول النبيّ : ((افترقتِ اليهود على إِحدى وسبعين فِرقة، وافترقتِ النصارى على اثنتَين وسَبعين فرقة، وستفترق هذه الأمّة على ثلاثٍ وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلاَّ واحدة)) ، قلنا: من هي يا رسول الله؟ قال: ((من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي)) [2].
والفِرَق الإسلامية التي ظهرت عبرَ تاريخ الإسلام منشأُ ضلالها من الجهلِ بسنة المصطفى وأقواله والابتعادُ عن العمل بها، كالخوارج والمُرجئة والقدريَّة والجهمية وغيرهم، ضلُّوا في فهمهم لسنة المصطفى ، وضلّوا في تفسيرهم للقرآن وبُعدهم عن العناية بهذه السنة وعدم أخذ تفسيرها من العلماء.
وما أشبَهَ الليلةَ بالبارحة، فالخوارجُ في هذا الزمان ضلّوا في فهم السنة، وبعُدوا عن العلماء الذين هم أعلمُ بسنة رسول الله ، فظهر هؤلاء الخوارج، يكفِّرون المسلمين، ويستحلّون دماءَهم وأموالهم، كما فعل أسلافُهم، ويستحلّون دماءَ المستأمَنين من غير المسلمين، وينفِّذون مخطَّطاتِ أعداءِ الإسلام، ويلتقون معها في أهدافِها، شعروا بذلك أو لم يشعروا، فجلَبوا بهذه الأفكار شرًّا عظيمًا على البلاد والعباد والعياذ بالله.
فارجِعوا ـ معشر المسلمين ـ إلى سنة نبيّكم محمّد تعلُّمًا وتعليمًا وعملاً، وتمسَّكوا بما كان عليه السلفُ الصالح رضي الله عنهم، فإنّ ذلك هو الدواءُ لكلّ داء في الأمة، وخُذُوا ـ معشرَ الأمة ـ على يدِ كلّ مفسِد مخرِّب ممّن يريد أن يفسدَ الدين أو يفسِد الدنيا على المسلمين، واتّقوا الله ـ أيها المسلمون ـ في كلِّ ما تأتون وتذَرون، إنّ الله تبارك وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
عبادَ الله، إنّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه فقال عزّ من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
فصلُّوا وسلِّموا على سيّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليماُ كثيرا...
[1] أخرجه مالك في الموطأ (1619) بلاغا، ووصله الدارقطني (4/245)، والبيهقي (10/114)، والحاكم (1/172) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/331): "وهذا محفوظ معروف مشهور عن النبي عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد"، وقواه الألباني بشواهده في السلسلة الصحيحة (4/361).
[2] أخرجه الترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة (2641) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما نحوه، وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2129). وفي الباب عن عدد من الصحابة.
(1/3233)
وفي أنفسكم أفلا تبصرون
التوحيد, موضوعات عامة
الربوبية, مخلوقات الله
محمد بن عدنان السمان
الرياض
22/3/1424
جامع الجهيمي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة الله الإنسان للتفكر في نفسه. 2- فائدة التفكر في النفس. 3- عجائب خلق الإنسان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.
أيها المسلمون، تأمّلوا في هذه الآيات، قال الله تعالى: فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق:5]، وقال جل وعلا: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، وقال سبحانه وبحمده: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [الحج:5]، وقال تعالى: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:36-40]، وقال جل ذكره: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ [المرسلات:20-23]، وقال: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس:77]، وقال جل وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:12-14].
إنّ المتأمل في تلك الآيات يلحَظ ندبَ الله تعالى إلى التفكر في ذلك المخلوق وخلقِه، نعم أنت ـ أيها الإنسان ـ من يدعوك الله لأن تتفكّر في نفسك، وكثيرًا في القرآن ما يدعَى العبد إلى النظر والتفكر في مبدأ خلقه ووسطِه وآخره، إذ نفسه وخلقه من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره، وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه، وفيها من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه فضلاً عن كله، وهو غافل عنها معرِض عن التفكّر فيها، ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره قال الله تعالى: قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ [عبس:17-22]، فلم يكرر سبحانه على أسماعنا وعقولنا ذكر هذا لنسمع لفظ النطفة والعلَقة والمضغة والتراب، ولا لنتكلم بها فقط، ولا لمجرد تعريفنا بذلك، بل لأمر وراء ذلك كله، هو المقصود بالخطاب وإليه جرى ذلك الحديث.
واليوم أنتم على موعد مع رحلة إيمانية في خلق الإنسان، وإنّ جل ما سأذكره من كلام الإمام المسدّد ابن القيم رحمه الله تعالى.
فانظر الآن إلى النطفة بعين البصيرة، وهي قطرة من ماء مهين ضعيف مستقذر، لو مرت بها ساعة من الزمان فسدت وأنتنت، كيف استخرجها ربّ الأرباب العليم القدير من بين الصلب والترائب منقادة لقدرته مطيعة لمشيئته مذلّلة الانقياد على ضيق طرقها واختلاف مجاريها إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها، وكيف جمع سبحانه بين الذكر والأنثى، وألقى المحبة بينهما، وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه، وكيف قدّر اجتماع ذينك الماءين مع بعدِ كل منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء، وجمعهما في موضع واحد جعل لهما قرارا مكينا، لا يناله هواء يفسده، ولا برد يجمده، ولا عارض يصل إليه، ولا آفة تتسلط عليه. ثم قلب تلك النطفة البيضاء المشربة علقة حمراء تضرب إلى سواد، ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها، ثم جعله عظاما مجردة لا كسوة عليها مباينة للمضغة في شكلها وهيأتها وقدرها وملمسها ولونها، وانظر كيف قسم تلك الأجزاء المتشابهة المتساوية إلى الأعصاب والعظام والعروق والأوتار واليابس واللين وبين ذلك، ثم كيف ربط بعضها ببعض أقوى رباط وأشده وأبعده عن الانحلال، وكيف كساها لحما ركبه عليها وجعله وعاء لها وغشاء وحافظا، وجعلها حاملة له مقيمة له، فاللحم قائم بها، وهي محفوظة به، وكيف صورها فأحسن صورها، وشق لها السمع والبصر والفم والأنف وسائر المنافذ، ومد اليدين والرجلين وبسطهما، وقسم رؤوسهما بالأصابع، ثم قسم الأصابع بالأنامل، وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء، كل واحد منها له قدر يخصه ومنفعة تخصه.
ثم انظر الحكمة البالغة في تركيب العظام قواما للبدن وعمادا له، وكيف قدرها ربها وخالقها بتقادير مختلفة وأشكال مختلفة، فمنها الصغير والكبير والطويل والقصير والمنحنى والمستدير والدقيق والعريض والمصمَت والمجوّف، وكيف ركّب بعضها في بعض، وكيف اختلفت أشكالها باختلاف منافعها كالأضراس، فإنها لما كانت آلة للطحن جعلت عريضة، ولما كانت الأسنان آلة للقطع جعلت مستدقة محددة، ولما كان الإنسان محتاجا إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه للتردد في حاجته لم يجعل عظامه عظما واحدا، بل عظاما متعددة، وجعل بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة، وكان قدر كل واحد منها وشكله على حسب الحركة المطلوبة منه، وكيف شد أسر تلك المفاصل والأعضاء، وربط بعضها ببعض بأوتار ورباطات أنبتها من أحد طرفي العظم، وألصق أحد طرفي العظم بالطرف الآخر كالرباط له، ثم جعل في أحد طرفي العظم زوائد خارجة عنه وفي الآخر نقرا غائصة فيه موافقة لشكل تلك الزوائد ليدخل فيها وينطبق عليها، فإذا أراد العبد أن يحرك جزءًا من بدنه لم يمتنع عليه، ولولا المفاصل لتعذر ذلك عليه.
وتأمل كيفية خلق الرأس وكثرة ما فيه من العظام حتى قيل: إنها خمسة وخمسون عظما مختلفة الأشكال والمقادير والمنافع، وكيف ركبه سبحانه وتعالى على البدن، وجعله عاليا علو الراكب على مركوبه ، ولما كان عاليا على البدن جعل فيه الحواس الخمس وآلات الإدراك كلها من السمع والبصر والشم والذوق واللمس، وجعل حاسة البصر في مقدّمه ليكون كالطليعة والحرس والكاشف للبدن، وركب كل عين من سبع طبقات، لكل طبقة وصف مخصوص ومقدار مخصوص ومنفعة مخصوصة، لو فقدت طبقة من تلك الطبقات السبع أو زالت عن هيئتها وموضعها لتعطلت العين عن الإبصار، ثم أركز سبحانه داخل تلك الطبقات السبع خلقا عجيبا وهو إنسان العين بقدر العدسة، يبصر به ما بين المشرق والمغرب والأرض والسماء، وجعلها من العين بمنزلة القلب من الأعضاء، فهو ملكها وتلك الطبقات والأجفان والأهداب خدم له وحجاب وحرّاس، فتبارك الله أحسن الخالقين، فانظر كيف حسن شكل العينين وهيئتهما ومقدارهما، ثم جملهما بالأجفان غطاء لهما وسترا وحفظا وزينة، فهما يتلقيان عن العين الأذى والقذى والغبار، ويكنانهما من البارد المؤذي والحار المؤذي، ثم غرس في أطراف تلك الأجفان الأهداب جمالا وزينة ولمنافع أخر وراء الجمال والزينة، ثم أودعهما ذلك النور الباصر والضوء الباهر الذي يخرق ما بين السماء والأرض ثم يخرق السماء مجاوزا لرؤية ما فوقها من الكواكب، وقد أودع سبحانه هذا السر العجيب في هذا المقدار الصغير بحيث تنطبع فيه صورة السماوات مع اتساع أكنافها وتباعد أقطارها.
وشق له السمع، وخلق الأذن أحسن خلقه وأبلغها في حصول المقصود منها، فجعلها مجوفة كالصدفة لتجمَع الصوتَ فتؤديه إلى الصماخ ـ ما يسمى الآن الطبلة ـ، وليحسّ بدبيب الحيوان ـ يعني الحشرة ـ فيها، فيبادر إلى إخراجه، وجعل فيها غضونا وتجاويف واعوجاجات تمسك الهواء والصوت الداخل فتكسر حدّته، ثم تؤديه إلى الصماخ، ومن حكمة ذلك أن يطول به الطريق على الحيوان، فلا يصل إلى الصماخ حتى يستيقظ أو ينتبه لإمساكه، وفيه أيضا حكم غير ذلك.
ثم اقتضت حكمة الرب الخالق سبحانه أن جعل ماء الأذن مرّا في غاية المرارة فلا يجاوزه الحيوان ولا يقطعه داخلا إلى باطن الأذن، بل إذا وصل إليه أعمل الحيلة في رجوعه، وجعل ماء العينين مِلحا ليحفظها فإنها شحمة قابلة للفساد، فكانت ملوحة مائها صيانة لها وحفظا، وجعل ماء الفم عذبا حلوا ليدرك به طعوم الأشياء على ما هي عليه إذ لو كان على غير هذه الصفة لأحالها إلى طبيعته، كما أن من عرض لفمه المرارة استمرّ طعم الأشياء التي ليست بمرة كما قيل:
ومن يك ذا فم مر مريض يجد مرا به الماء الزلالا
ونصب سبحانه قصبة الأنف في الوجه فأحسن شكله وهيأته ووضعه، وفتح فيه المنخرين، وحجز بينهما بحاجز، وأودع فيهما حاسة الشم التي تدرك بها أنواع الروائح الطيبة والخبيثة والنافعة والضارة، وليستنشق به الهواء فيوصله إلى القلب، فيتراوح به ويتغذى به، ثم لم يجعل في داخله من الاعوجاجات والغضون ما جعل في الأذن لئلا يمسك الرائحة فيضعفها ويقطع مجراها وجعله سبحانه مصبا تنحدر إليه فضلات الدماغ فتجتمع فيه ثم تخرج منه، واقتضت حكمته أن جعل أعلاه أدقّ من أسفله لأن أسفله إذا كان واسعا اجتمعت فيه تلك الفضلات فخرجت بسهولة.
وشق سبحانه للعبد الفم في أحسن موضع وأليقه به، وأودع فيه من المنافع وآلات الذوق والكلام وآلات الطحن والقطع ما يبهر العقول عجائبه، فأودعه اللسان الذي هو أحد آياته الدالة عليه، وجعله ترجمانا لملك الأعضاء مبيّنا مؤديا عنه كما جعل الأذن رسولا مؤديا مبلغا إليه، فهي رسوله وبريده الذي يؤدّي إليه الأخبار، واللسان بريده ورسوله الذي يؤدي عنه ما يريد، واقتضت حكمته سبحانه أن جعل هذا الرسول مصونا محفوظا مستورا غير بارز مكشوف كالأذن والعين والأنف؛ لأن تلك الأعضاء لما كانت تؤدي من الخارج إليه جعلت بارزة ظاهرة، ولما كان اللسان مؤديا منه إلى الخارج جعل له سترا مصونا لعدم الفائدة في إبرازه لأنه لا يأخذ من الخارج إلى القلب، وأيضا فلأنه لما كان أشرف الأعضاء بعد القلب ومنزلته منه منزلة ترجمانه ووزيره ضرب عليه سرادق تستره وتصونه، وجعل في ذلك السرادق كالقلب في الصدر، وأيضا فإنه من ألطف الأعضاء وألينها وأشدها رطوبة، وهو لا يتصرف إلا بواسطة الرطوبة المحيطة به، فلو كان بارزا صار عرضة للحرارة واليبوسة والنشاف المانع له من التصرف ولغير ذلك من الحكم والفوائد.
هذا جزء مما أردت، وسنكمل الجزء الآخر في الخطبة الثانية إن شاء الله تعالى.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الكريم الوهاب، أحمده سبحانه لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، دعا الناس إلى الهدى فاستجاب له كل صالح أواب، اللهم صل وسلم على عبدك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فاتقوا الله إخوة الإسلام.
معاشر المسلمين، وإتمامًا لما بدأنا به من عظيم خلق الله للإنسان نقول: ثم زين سبحانه الفم بما فيه من الأسنان التي هنّ جمال له وزينة، وبها قوام العبد وغذاؤه، وجعل بعضها أرحاء للطحن، وبعضها آلة للقطع، فأحكم أصولها وحدّد رؤوسها وبيّض لونها ورتب صفوفها، متساوية الرؤوس، متناسقة الترتيب، كأنها الدر المنظوم بياضا وصفاء وحسنا، وأحاط سبحانه على ذلك حائطين، وأودعهما من المنافع والحكم ما أودعهما وهما الشفتان، فحسن لونهما وشكلهما ووضعهما وهيأتهما، وجعلهما غطاء للفم وطبقا له، وجعلهما إتماما لمخارج حروف الكلام ونهاية له، كما جعل أقصى الحلق بداية له، واللسان وما جاوره وسطا، ولهذا كان أكثر العمل فيها له إذ هو الواسطة، واقتضت حكمته أن جعل الشفتين لحما صِرفا لا عظم فيه ولا عصب؛ ليتمكن بهما من مصّ الشراب ويسهل عليه فتحهما وطبقهما، وخص الفكّ الأسفل بالتحريك لأن تحريك الأخف أحسن، ولأنه يشتمل على الأعضاء الشريفة فلم يخاطر بها في الحركة.
وخلق سبحانه الحناجر مختلفة الإشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة والصلابة واللين والطول والقصر، فاختلفت بذلك الأصوات أعظم اختلاف، ولا يكاد يشتبه صوتان إلا نادرا.
وكذلك خلقه سبحانه لليدين اللتين هما آلة العبد وسلاحه ورأس مال معاشه، فطولهما بحيث يصلان إلى ما شاء من بدنه، وعرض الكف ليتمكن به من القبض والبسط، وقسم فيه الأصابع الخمس، وقسم كل إصبع بثلاث أنامل، والإبهام باثنتين، ووضع الأصابع الأربعة في جانب والإبهام في جانب لتدور الإبهام على الجميع، فجاءت على أحسن وضع صلحت به للقبض والبسط ومباشرة الأعمال، ولو اجتمع الأولون والآخرون على أن يستنبطوا بدقيق أفكارهم وضعا آخر للأصابع سوى ما وضعت عليه لم يجدوا إليه سبيلا، فتبارك من لو شاء لسواها وجعلها طبقا واحدا كالصفيحة فلم يتمكن العبد بذلك من مصالحه وأنواع تصرفاته ودقيق الصنائع والخط، وانظر إلى ما يصيبك عند إصابة أحد أصابعك من تعطّل بعض مصالحك، وركّب الأظفار على رؤوسها زينة لها وعمادا ووقاية، وليلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا ينالها جسم الأصابع.
إخوة الإسلام، هذا قليل من كثير، وهو يدعو للعلم بالله سبحانه وتعالى وبوحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله وكمال حكمته ورحمته وإحسانه وبره ولطفه وعدله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار:6، 7].
(1/3234)
يدًا واحدة مع ولاة أمرنا وعلمائنا
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي, قضايا المجتمع
محمد بن عدنان السمان
الرياض
18/3/1425
جامع الجهيمي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسلام دين الاجتماع. 2- طاعة ولاة الأمر. 3- كلام العلماء في ذلك. 4- أهمية الالتفاف حول العلماء. 5- مفاسد ازدراء أهل العلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى.
إخوة الإسلام، ديننا العظيم دين الإسلام جاء ليجمع القلوب ويوحّد الصفوف ويلمّ الفرقة، جاء الإسلام ليبني الجسد الواحد والبنيان المرصوص، وليقطع أسباب الاختلاف وطرق التفرق والتنازع، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كالجسد الواحد؛ إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) متفق عليه. فتجتمع القلوب فبل الأبدان في بناء متماسك ويد واحدة وجسد واحد في مجتمع تسوده المحبة والإخاء والإيثار والصفاء والنقاء.
ما أحوجنا ـ معاشر المسلمين ـ وبلادنا مستهدفة من أعدائها أن نصفّي قلوبنا ونتآلف ونتوحد ونكون يدًا واحدة مع ولاة أمرنا وعلمائنا.
إن السمع والطاعة لولاة أمر المسلمين أصل من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة، قلّ أن يخلو كتاب فيها من تقريره وشرحه وبيانه، وما ذلك إلا لبالغ أهميته وعظيم شأنه، إذ بالسمع والطاعة لهم تنتظم مصالح الدين والدنيا معا، وبالتعدي عليهم قولاً أو فعلاً فساد الدين والدنيا.
وقد عُلم بالضرورة من دين الإِسلام أنه لا دين إلاَّ بجماعة، ولا جماعة إلاَّ بإمامة، ولا إمامة إلاَّ بسمع وطاعة.
لقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يولون هذا الأمر اهتمامًا خاصًا، لا سيما عند ظهور بوادر الفتنة، نظرًا لما يترتب على الجهل به أو إغفاله من الفساد العريض في العباد والبلاد، والعدول عن سبيل الهدى والرشاد. يقول شيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى: "فلا ريب أن الله جل وعلا أمر بطاعة ولاة الأمر والتعاون معهم على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]، هذا هو الطريق طريق السعادة، وطريق الهداية، وهو طاعة الله ورسوله في كل شيء، وطاعة ولاة الأمور في المعروف من طاعة الله ورسوله، ولهذا قال جل وعلا: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، فطاعة ولي الأمر تابعة لطاعة الله ورسوله، فإن أولي الأمر هم الأمراء والعلماء، والواجب طاعتهم في المعروف"، حتى قال رحمه الله: "ويقول الله عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ [التغابن:16]، فالله أمر بالتقوى والسمع والطاعة، يعني في المعروف، لذا فإن النصوص يشرح بعضها بعضا، ويدل بعضها على بعض، فالواجب على جميع المكلفين التعاون مع ولاة الأمور في الخير والطاعة في المعروف وحفظ الألسنة عن أسباب الفساد والشر والفرقة والانحلال، ولهذا يقول الله جل وعلا: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، أي: ردوا الحكم في ذلك إلى كتاب الله، وإلى سنة رسوله في اتباع الحق والتلاقي على الخير والتحذير من الشر، هذا هو طريق أهل الهدى، وهذا هو طريق المؤمنين".
ويقول شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: "فالله الله في فهم منهج السلف الصالح في التعامل مع السلطان، وأن لا يتَّخذ من أخطاء السلطان سبيلاً لإِثارة الناس وإلى تنفير القلوب عن ولاة الأمور، فهذا عين المفسدة وأحد الأسس التي تحصل بها الفتنة بين الناس، كما أن ملءَ القلوب على ولاة الأمر يحدث الشر والفتنة والفوضى، وكذا ملء القلوب على العلماء يحدث التقليل من شأن العلماء، وبالتالي التقليل من الشريعة التي يحملونها، فإذا حاول أحد أن يقلّل من هيبة العلماء وهيبة ولاة الأمر ضاع الشرع والأمن؛ لأن الناس إن تكلم العلماء لم يثقوا بكلامهم، وإن تكلم الأمراء تمرّدوا على كلامهم، وحصل الشر والفساد. فالواجب أن ننظر ماذا سلك السلف تجاه ذوي السلطان، وأن يضبط الإنسان نفسه، أن يعرف العواقب. وليعلم أن من يثور إنما يخدم أعداء الإسلام، فليست العبرة بالثورة ولا بالانفعال، بل العبرة بالحكمة".
أيها المسلمون، إن كلام الإمامين الجليلين رحمهما الله تعالى يضع النقاطَ على الحروف، ويوضح المنهج الحق الذي يسير عليه المسلم، ويكفل بإذن الله للمجتمع المسلم أمنه وسلامته.
وكما نكون يدًا واحدة مع ولاة أمرنا فنحن بإذن الله كذلك مع علمائنا، العلماء وما أدراك ما العلماء، أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، أهل الرحمة والرضا، بهم يُحتذى ويُهتدى ويُقتدى، كم طالب علم علموه, وتائه عن صراط الرشد أرشدوه، وحائر عن سبيل الله بصّروه ودلّوه، بقاؤهم في العباد نعمة ورحمة، قال : ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبضه بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) أخرجه البخاري ومسلم.
إن النصوص الكثيرة التي بينت فضل العلم وأهله لا تكاد تحصر، وإنك لتعجب من بعض حدثاء الأسنان وقليلي العلم كيف يتطاولون على كبار علماء الأمة ويطعنون في أقوالهم. كنت في درس لأحد العلماء فإذا بسائل يلمز أحد العلماء الكبار ممن اشتهر بطلب علم الحديث حتى أصبح إمامًا فيه، لم يستطع هذا العالم أن يكمّل السؤال فقد سبقت عَبراته عِبارتِه، وقالها كلمة حقّ: "لقد بدأ هذا الإمام في طلب العلم علم الحديث قبل أن يخلَق أكثركم في أرحام أمهاتكم". لا نقولها غلوًا أو ادعاءً لعصمة هؤلاء العلماء، لكن الحقيقة والتاريخ بينت رسوخ هؤلاء العلماء وصدقهم ومكانتهم وإخلاصهم، ولا نزكي على الله أحدًا.
لقد أثبتت لنا الأيام أنّ الالتفاف حول هؤلاء العلماء والأخذ عنهم وعما يستنبطون من كتاب الله ومن سنة رسول الله هو العاصم لهذه الأمة وهو المعين لها أمام الفتن والمدلهمات، وأن العاطفة المجرّدة والحماس غير المنضبط لا يزيد الأمة إلا تقهقرًا وتراجعًا.
ولنأخذ مثالاً واحدًا نعايشه واكتوينا بلسعاته بين فترة وأخرى، ما وقع من قتل وتخريب وتفجير من فئة ضلّت عن الدرب القويم والصراط المستقيم، اتخذت لها رؤوسًا جهالاً يفتونهم ويزيّنون لهم باطلاً من القول، لا يعجَب المرءُ مِن سفكِ أعداءِ الإسلام والمسلمين لدماءِ الأبرياء في فِلسطين والعراقِ وغيرها مِن البقاعِ والأصقاع، فذلك دينُهم ودَيدَنهم، وتلك شَهوتهم ونَشوتهم، وإنما العجبُ مِن سفكِ الدّمِ المسلم في البلدِ المسلم مِن رجلٍ مسلم، ولكن إذا عُرِف السّبب بطَل العجب، إنها أجسادٌ ملئت أحقادًا، ورؤوس تحكّمت فيها أهواء النفوس، إنه الجهل القاتِل والهوى المضِلّ والعاطفة العمياء. ألم يكفِ هؤلاء دماءُ المسلمين التي تسفَك صباحَ مساء من قبل أعداء الإنسانية؟! أيريد هؤلاء أن يكْفوا أعداءَ الإسلام مؤونةَ إفساد البلاد فيخربون بيوتهم بأيديهم؟! أفلا يعتبر هؤلاء بما جرّته هذه المسالك النكراء من المفاسد والويلات والفتن والبليات؟! أولم يرَ هؤلاء أنّ المستفيد الأولَ والأخير من هذه العمليات الإجرامية هم شياطين الجن والإنس؟! لقد زيِّن الباطل في أعين هؤلاء من قوم ادّعوا العلم وسفّهوا العلماء الحقيقيين، ومنُّوا هؤلاء المخدوعين بالجنة إن هم فعلوا ما يقولون لهم من قتل وتخريب وتدمير وتفجير.
أقول ما تسمعون...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والصلاة والسلام على نبيه ورسوله وخليله وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله إخوة الإسلام.
أمّا بعد: فيا عباد الله، ثَمّ محور آخر ناتج أيضًا عن قلة البضاعة في العلم الشرعي ونفور هؤلاء القوم من علماء الأمة الموثقين، أنهم يستمعون لكل ناعق، ويصدّقون كل مجهول، إنّ سوق ما يسمى بالإنترنت أصبح اليوم محطًا لرحال هؤلاء، يستقون منه أحكامهم وآراءهم، حتى باتت عندهم في الصحة والمصداقية ككلام الثقة الثبت العدل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6].
واذكروا أنَّ الله تعالى قد أمَرَكم بالصلاة والسلام على خاتم النبيّين وإمام المتّقين ورحمة الله للعالمين، فقال سبحانه في الكتاب المبين قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...
(1/3235)
معرفة النبي بربّه
الإيمان, سيرة وتاريخ
الشمائل, خصال الإيمان
محمد بن عدنان السمان
الرياض
25/3/1425
جامع الجهيمي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية التعرف على الله تعالى. 2- أعظم الناس معرفة بالله تعالى. 3- كثرة ذكر النبي لربه. 4- تفكر النبي في آيات الله ومخلوقاته. 5- تدبر النبي للقرآن الكريم. 6- إتقان النبي في عبادته. 6- خشية النبي لله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله إخوة الإسلام.
معاشر المسلمين، حديثنا اليوم سيكون عن أعظم رجل في التاريخ، عن إمام المرسَلين، عمّن أرسله الله رحمة للعالمين، عمّن عبد ربه حتى أتاه اليقين، عن محمد بن عبد الله. لن نتحدّث عن رسول الله في بيته ولا في حربه أو سلمه، ولن نتحدّث عن رسول الله لا في مسجده ولا مع أصحابه ولا مع زوجاته ولا مع بناته، بل سنتحدّث عن رسول الله مع ربّه، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
أيها المسلمون، إن التعرفَ على الله من أعلى المنازل وأرفعها، ولن تصلح القلوب إلا بمعرفة الله تعالى، جاء في جامع العلوم والحكم للإمام ابن رجب ما نصه: "وقال الحسن لرجل: داو قلبك فإنّ حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم، يعني أن مراده منهم ومطلوبه صلاح قلوبهم، فلا صلاح للقلوب حتى يستقرّ فيها معرفة الله وعظمته ومحبته وخشيته ومهابته ورجاؤه والتوكل عليه ويمتلئ من ذلك، وهذا هو حقيقة التوحيد وهو معنى قول: لا إله إلا الله، فلا صلاح للقلوب حتى يكون إلَهُها الذي تألهه وتعرفه وتحبه وتخشاه هو إله واحد لا شريك له، ولو كان في السموات والأرض إله يؤلَه سوى الله لفسدت بذلك السموات والأرض كما قال تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، فعلم بذلك أنه لا صلاح للعالم العلوي والسفلي معا حتى تكون حركات أهلها كلّها لله، وحركات الجسد تابعة لحركات القلب وإرادته، فإن كانت حركته وإرادته لله وحده فقد صلح وصلحت حركات الجسد كله، وإن كانت حركة القلب وإراداته لغير الله فسد وفسدت حركات الجسد بحسب فساد حركة القلب" اهـ.
إن معرفة الله بأسمائه وصفاته من أجلّ العلوم، فهذا العلم ـ وهو العلم المتعلق بالله تعالى ـ أشرف العلوم وأجلها على الإطلاق، فالاشتغال بفهمه والبحث التام عنه اشتغالٌ بأعلى المطالب، وحصوله للعبد من أشرف المواهب، فمعرفة الله تعالى تدعو إلى محبته وخشيته والخوف منه ورجائه وإخلاص العمل له، وهذا عين سعادة العبد.
عباد الله، إن أعظم الناس معرفة بالله هم رسل الله، ومن هنا فهم أكمل الناس عبادة وطاعة لله رب العالمين، يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58]: "هذه الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته المتضمنة لمعرفته ومحبته والإنابة إليه والإقبال عليه والإعراض عما سواه، وذلك متوقف على معرفة الله تعالى، فإن تمام العبادة متوقّّف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة بربه كانت عبادته أكمل".
أيها المصلون، بعد هذه المقدمة دعونا الآن نبحِر لنغوص في أعماق السنة النبوية لنستقي شيئا يسيرًا من درر تلك السيرة العطرة على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم تبين معرفة النبي بربه.
كان كثير الذكر لربه سبحانه، يذكر الله قائمًا وقاعدًا وعلى جنب، يذكر الله وهو مستشعر لمن يذكر، غفر له ما تقدم له من ذنبه ويقسم ويقول: ((والله، إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) رواه البخاري. أتعجبون؟! فاسمعوا إذًا إلى ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن الأغر المزني رضي الله عنه أن النبي قال: ((إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم أكثر من مائة مرة)). ما معنى الحديث؟ وما مراده بقوله: ((إنه ليغان على قلبي)) ؟ يقول الإمام ابن الأثير رحمه: " ((ليغان على قلبي)) أي: ليغطّى ويغشى، والمراد السهو، لأنه كان لا يزال في مزيد من الذكر والقربة ودوام المراقبة، فإذا سها عن شيء منها في بعض الأوقات أو نسي عدّه ذنبًا على نفسه، ففزع إلى الاستغفار".
إخوة الإسلام، ذكر الله تعالى من أعظم المسببات على التعرف على الله، فانظر معي ـ يا رعاك الله ـ إلى أنواع الذكر تجدها كلها دالة على توحيد الله وتعظيمه، فلا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله وغيرها من الأذكار تجعل في قلب المسلم وعلى لسانه ذكرا لصفات الله وأسمائه وأفعاله وتقديسه عن النقائص. إن ذكر الله بالقلب واللسان هو الذكر الذي يثمر معرفة الله ومحبته وكثرة ثوابه كما قال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].
ثم أيها المسلمون، طرف آخر من معرفة النبي لربه تفكُّره في آياته ومخلوقاته، أخرج البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بتّ عند خالتي ميمونة، فتحدث رسول الله مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الآيات [آل عمران:190]، ثم قام فتوضأ واستنّ، ثم صلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذّن بلال فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى بالناس الصبح.
السماوات والأرض آيتان عظيمتان من آيات الله التي لا تحصَى، وهاتان الآيتان كم فيهما من آيات الله ومخلوقاته، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أي: هذه في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات وثوابت وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان ومعادن ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أي: تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا ويقصر الذي كان طويلا، وكل ذلك تقدير العزيز العليم.
قال السعدي رحمه الله متحدثًا عن آيتي السماء والأرض: "ثم أخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن وما بينهن، وأنزل الأمر وهو الشرائع والأحكام الدينية التي أوحاها إلى رسله لتذكير العباد ووعظهم، وكذلك الأوامر الكونية والقدرية التي يدبّر بها الخلق، كل ذلك لأجل أن يعرفه العباد ويعلموا إحاطة قدرته بالأشياء كلها وإحاطة علمه بجميع الأشياء، فإذا عرفوه بأسمائه الحسنى وأوصافه المقدسة عبدوه وأحبوه وقاموا بحقه، فهذه هي الغاية المقصودة من الخلق والأمر".
لقد تعرف النبي على ربه من خلال التفكر في آياته المتلوة أيضًا في القرآن العظيم، فإذا وقف أمام ربه في صلاته وجدت الخشوع والخضوع والتدبر في أتم وجوهه وأرفع منازله، يتلو الآيات يرتلها ترتيلاً، قال الله تعالى مخاطبًا نبيه : تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ [الجاثية:6]، قال صاحب أضواء البيان رحمه الله: " تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أشار جل وعلا لنبيه إلى آيات هذا القرآن العظيم، وبين لنبيه أنه يتلوها عليه متلبسة بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه".
لقد كان يقرأ القرآن ويتدارسه مع جبريل عليه السلام، ويحب أن يسمعه من غيره، ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال له رسول الله : ((اقرأ علي)) ، قال: فقلت: يا رسول الله، أأقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: ((نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري)) ، قال: فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، فقال: ((حسبك الآن)) فإذا عيناه تذرفان.
قال الإمام ابن رجب رحمه الله: "فلا طريق إلى معرفة الله وإلى الوصول إلى رضوانه والفوز بقربه ومجاورته في الآخرة إلا بالعلم النافع الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، فهو الدليل عليه، وبه يهتدَى في ظلمات الجهل والشبه والشكوك، ولهذا سمى الله كتابه نورا يهتدى به في الظلمات، وقال الله تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:15، 16]"، وقال الشيخ السعدي رحمه الله: "فكلما ازداد معرفة بربه ازداد إيمانه، وكلما نقص نقص، وأقرب طريق يوصله إلى ذلك تدبر صفاته وأسمائه من القرآن، والطريق في ذلك إذا مرّ به اسم من أسماء الله أثبت له ذلك المعنى وكماله وعمومه ونزهه عما يضاد ذلك".
أُخيّ، ثم إذا أنت نظرتَ إلى عبادة النبي وجدتَ الكمال والاتقان وتمام المعرفة بالله الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه، فقالت له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال : ((يا عائشة، أفلا أكون عبدا شكورا)) أخرجه مسلم في الصحيح.
لقد كانت عبادة الله تعالى عند رسول الله تعني السكينة والطمأنينة، كان يقول لمؤذنه بلال: ((أرحنا بالصلاة)) ، كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. معرفة النبي بربه هي التي جعلته يتلذّذ بالعبادة ومناجاة ربه سبحانه وتعالى.
اللهم اجعلنا لك ذاكرين لك شاكرين لك عابدين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا معاشر المسلمين.
إخوة الإسلام، ومن صوَر معرفة النبي بربه خشيتُه لله سبحانه وتعالى، أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا عصفت الريح قال: ((اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسِلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسِلت به)) ، قالت: وإذا تخبّلت السماء تغيّر لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سرِّي عنه، فعرفت ذلك عائشة رضي الله عنها فسألته فقال رسول الله : ((لعله ـ يا عائشة ـ كما قال قوم عاد: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [الأحقلف:24] )).
وجاء الحديث عند البخاري بلفظ: قالت أي: عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رسول الله ضاحكا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسّم، قالت: وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرِف في وجهه، قالت: يا رسول الله، إن الناس إذا رأوا الغيمَ فرحوا رجاءَ أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية! فقال: ((يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، عذّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا)).
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/3236)
معرفة النبي بربّه
الإيمان, سيرة وتاريخ
الشمائل, خصال الإيمان
محمد بن عدنان السمان
الرياض
25/3/1425
جامع الجهيمي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية التعرف على الله تعالى. 2- أعظم الناس معرفة بالله تعالى. 3- كثرة ذكر النبي لربه. 4- تفكر النبي في آيات الله ومخلوقاته. 5- تدبر النبي للقرآن الكريم. 6- إتقان النبي في عبادته. 6- خشية النبي لله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله إخوة الإسلام.
معاشر المسلمين، حديثنا اليوم سيكون عن أعظم رجل في التاريخ، عن إمام المرسَلين، عمّن أرسله الله رحمة للعالمين، عمّن عبد ربه حتى أتاه اليقين، عن محمد بن عبد الله. لن نتحدّث عن رسول الله في بيته ولا في حربه أو سلمه، ولن نتحدّث عن رسول الله لا في مسجده ولا مع أصحابه ولا مع زوجاته ولا مع بناته، بل سنتحدّث عن رسول الله مع ربّه، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
أيها المسلمون، إن التعرفَ على الله من أعلى المنازل وأرفعها، ولن تصلح القلوب إلا بمعرفة الله تعالى، جاء في جامع العلوم والحكم للإمام ابن رجب ما نصه: "وقال الحسن لرجل: داو قلبك فإنّ حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم، يعني أن مراده منهم ومطلوبه صلاح قلوبهم، فلا صلاح للقلوب حتى يستقرّ فيها معرفة الله وعظمته ومحبته وخشيته ومهابته ورجاؤه والتوكل عليه ويمتلئ من ذلك، وهذا هو حقيقة التوحيد وهو معنى قول: لا إله إلا الله، فلا صلاح للقلوب حتى يكون إلَهُها الذي تألهه وتعرفه وتحبه وتخشاه هو إله واحد لا شريك له، ولو كان في السموات والأرض إله يؤلَه سوى الله لفسدت بذلك السموات والأرض كما قال تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، فعلم بذلك أنه لا صلاح للعالم العلوي والسفلي معا حتى تكون حركات أهلها كلّها لله، وحركات الجسد تابعة لحركات القلب وإرادته، فإن كانت حركته وإرادته لله وحده فقد صلح وصلحت حركات الجسد كله، وإن كانت حركة القلب وإراداته لغير الله فسد وفسدت حركات الجسد بحسب فساد حركة القلب" اهـ.
إن معرفة الله بأسمائه وصفاته من أجلّ العلوم، فهذا العلم ـ وهو العلم المتعلق بالله تعالى ـ أشرف العلوم وأجلها على الإطلاق، فالاشتغال بفهمه والبحث التام عنه اشتغالٌ بأعلى المطالب، وحصوله للعبد من أشرف المواهب، فمعرفة الله تعالى تدعو إلى محبته وخشيته والخوف منه ورجائه وإخلاص العمل له، وهذا عين سعادة العبد.
عباد الله، إن أعظم الناس معرفة بالله هم رسل الله، ومن هنا فهم أكمل الناس عبادة وطاعة لله رب العالمين، يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58]: "هذه الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته المتضمنة لمعرفته ومحبته والإنابة إليه والإقبال عليه والإعراض عما سواه، وذلك متوقف على معرفة الله تعالى، فإن تمام العبادة متوقّّف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة بربه كانت عبادته أكمل".
أيها المصلون، بعد هذه المقدمة دعونا الآن نبحِر لنغوص في أعماق السنة النبوية لنستقي شيئا يسيرًا من درر تلك السيرة العطرة على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم تبين معرفة النبي بربه.
كان كثير الذكر لربه سبحانه، يذكر الله قائمًا وقاعدًا وعلى جنب، يذكر الله وهو مستشعر لمن يذكر، غفر له ما تقدم له من ذنبه ويقسم ويقول: ((والله، إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) رواه البخاري. أتعجبون؟! فاسمعوا إذًا إلى ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن الأغر المزني رضي الله عنه أن النبي قال: ((إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم أكثر من مائة مرة)). ما معنى الحديث؟ وما مراده بقوله: ((إنه ليغان على قلبي)) ؟ يقول الإمام ابن الأثير رحمه: " ((ليغان على قلبي)) أي: ليغطّى ويغشى، والمراد السهو، لأنه كان لا يزال في مزيد من الذكر والقربة ودوام المراقبة، فإذا سها عن شيء منها في بعض الأوقات أو نسي عدّه ذنبًا على نفسه، ففزع إلى الاستغفار".
إخوة الإسلام، ذكر الله تعالى من أعظم المسببات على التعرف على الله، فانظر معي ـ يا رعاك الله ـ إلى أنواع الذكر تجدها كلها دالة على توحيد الله وتعظيمه، فلا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله وغيرها من الأذكار تجعل في قلب المسلم وعلى لسانه ذكرا لصفات الله وأسمائه وأفعاله وتقديسه عن النقائص. إن ذكر الله بالقلب واللسان هو الذكر الذي يثمر معرفة الله ومحبته وكثرة ثوابه كما قال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].
ثم أيها المسلمون، طرف آخر من معرفة النبي لربه تفكُّره في آياته ومخلوقاته، أخرج البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بتّ عند خالتي ميمونة، فتحدث رسول الله مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الآيات [آل عمران:190]، ثم قام فتوضأ واستنّ، ثم صلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذّن بلال فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى بالناس الصبح.
السماوات والأرض آيتان عظيمتان من آيات الله التي لا تحصَى، وهاتان الآيتان كم فيهما من آيات الله ومخلوقاته، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أي: هذه في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات وثوابت وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان ومعادن ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أي: تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا ويقصر الذي كان طويلا، وكل ذلك تقدير العزيز العليم.
قال السعدي رحمه الله متحدثًا عن آيتي السماء والأرض: "ثم أخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن وما بينهن، وأنزل الأمر وهو الشرائع والأحكام الدينية التي أوحاها إلى رسله لتذكير العباد ووعظهم، وكذلك الأوامر الكونية والقدرية التي يدبّر بها الخلق، كل ذلك لأجل أن يعرفه العباد ويعلموا إحاطة قدرته بالأشياء كلها وإحاطة علمه بجميع الأشياء، فإذا عرفوه بأسمائه الحسنى وأوصافه المقدسة عبدوه وأحبوه وقاموا بحقه، فهذه هي الغاية المقصودة من الخلق والأمر".
لقد تعرف النبي على ربه من خلال التفكر في آياته المتلوة أيضًا في القرآن العظيم، فإذا وقف أمام ربه في صلاته وجدت الخشوع والخضوع والتدبر في أتم وجوهه وأرفع منازله، يتلو الآيات يرتلها ترتيلاً، قال الله تعالى مخاطبًا نبيه : تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ [الجاثية:6]، قال صاحب أضواء البيان رحمه الله: " تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أشار جل وعلا لنبيه إلى آيات هذا القرآن العظيم، وبين لنبيه أنه يتلوها عليه متلبسة بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه".
لقد كان يقرأ القرآن ويتدارسه مع جبريل عليه السلام، ويحب أن يسمعه من غيره، ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال له رسول الله : ((اقرأ علي)) ، قال: فقلت: يا رسول الله، أأقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: ((نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري)) ، قال: فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، فقال: ((حسبك الآن)) فإذا عيناه تذرفان.
قال الإمام ابن رجب رحمه الله: "فلا طريق إلى معرفة الله وإلى الوصول إلى رضوانه والفوز بقربه ومجاورته في الآخرة إلا بالعلم النافع الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، فهو الدليل عليه، وبه يهتدَى في ظلمات الجهل والشبه والشكوك، ولهذا سمى الله كتابه نورا يهتدى به في الظلمات، وقال الله تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:15، 16]"، وقال الشيخ السعدي رحمه الله: "فكلما ازداد معرفة بربه ازداد إيمانه، وكلما نقص نقص، وأقرب طريق يوصله إلى ذلك تدبر صفاته وأسمائه من القرآن، والطريق في ذلك إذا مرّ به اسم من أسماء الله أثبت له ذلك المعنى وكماله وعمومه ونزهه عما يضاد ذلك".
أُخيّ، ثم إذا أنت نظرتَ إلى عبادة النبي وجدتَ الكمال والاتقان وتمام المعرفة بالله الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه، فقالت له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال : ((يا عائشة، أفلا أكون عبدا شكورا)) أخرجه مسلم في الصحيح.
لقد كانت عبادة الله تعالى عند رسول الله تعني السكينة والطمأنينة، كان يقول لمؤذنه بلال: ((أرحنا بالصلاة)) ، كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. معرفة النبي بربه هي التي جعلته يتلذّذ بالعبادة ومناجاة ربه سبحانه وتعالى.
اللهم اجعلنا لك ذاكرين لك شاكرين لك عابدين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا معاشر المسلمين.
إخوة الإسلام، ومن صوَر معرفة النبي بربه خشيتُه لله سبحانه وتعالى، أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا عصفت الريح قال: ((اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسِلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسِلت به)) ، قالت: وإذا تخبّلت السماء تغيّر لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سرِّي عنه، فعرفت ذلك عائشة رضي الله عنها فسألته فقال رسول الله : ((لعله ـ يا عائشة ـ كما قال قوم عاد: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [الأحقلف:24] )).
وجاء الحديث عند البخاري بلفظ: قالت أي: عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رسول الله ضاحكا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسّم، قالت: وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرِف في وجهه، قالت: يا رسول الله، إن الناس إذا رأوا الغيمَ فرحوا رجاءَ أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية! فقال: ((يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، عذّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا)).
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/3237)
معرفة النبي بربّه
الإيمان, سيرة وتاريخ
الشمائل, خصال الإيمان
محمد بن عدنان السمان
الرياض
25/3/1425
جامع الجهيمي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية التعرف على الله تعالى. 2- أعظم الناس معرفة بالله تعالى. 3- كثرة ذكر النبي لربه. 4- تفكر النبي في آيات الله ومخلوقاته. 5- تدبر النبي للقرآن الكريم. 6- إتقان النبي في عبادته. 6- خشية النبي لله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله إخوة الإسلام.
معاشر المسلمين، حديثنا اليوم سيكون عن أعظم رجل في التاريخ، عن إمام المرسَلين، عمّن أرسله الله رحمة للعالمين، عمّن عبد ربه حتى أتاه اليقين، عن محمد بن عبد الله. لن نتحدّث عن رسول الله في بيته ولا في حربه أو سلمه، ولن نتحدّث عن رسول الله لا في مسجده ولا مع أصحابه ولا مع زوجاته ولا مع بناته، بل سنتحدّث عن رسول الله مع ربّه، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
أيها المسلمون، إن التعرفَ على الله من أعلى المنازل وأرفعها، ولن تصلح القلوب إلا بمعرفة الله تعالى، جاء في جامع العلوم والحكم للإمام ابن رجب ما نصه: "وقال الحسن لرجل: داو قلبك فإنّ حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم، يعني أن مراده منهم ومطلوبه صلاح قلوبهم، فلا صلاح للقلوب حتى يستقرّ فيها معرفة الله وعظمته ومحبته وخشيته ومهابته ورجاؤه والتوكل عليه ويمتلئ من ذلك، وهذا هو حقيقة التوحيد وهو معنى قول: لا إله إلا الله، فلا صلاح للقلوب حتى يكون إلَهُها الذي تألهه وتعرفه وتحبه وتخشاه هو إله واحد لا شريك له، ولو كان في السموات والأرض إله يؤلَه سوى الله لفسدت بذلك السموات والأرض كما قال تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، فعلم بذلك أنه لا صلاح للعالم العلوي والسفلي معا حتى تكون حركات أهلها كلّها لله، وحركات الجسد تابعة لحركات القلب وإرادته، فإن كانت حركته وإرادته لله وحده فقد صلح وصلحت حركات الجسد كله، وإن كانت حركة القلب وإراداته لغير الله فسد وفسدت حركات الجسد بحسب فساد حركة القلب" اهـ.
إن معرفة الله بأسمائه وصفاته من أجلّ العلوم، فهذا العلم ـ وهو العلم المتعلق بالله تعالى ـ أشرف العلوم وأجلها على الإطلاق، فالاشتغال بفهمه والبحث التام عنه اشتغالٌ بأعلى المطالب، وحصوله للعبد من أشرف المواهب، فمعرفة الله تعالى تدعو إلى محبته وخشيته والخوف منه ورجائه وإخلاص العمل له، وهذا عين سعادة العبد.
عباد الله، إن أعظم الناس معرفة بالله هم رسل الله، ومن هنا فهم أكمل الناس عبادة وطاعة لله رب العالمين، يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58]: "هذه الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته المتضمنة لمعرفته ومحبته والإنابة إليه والإقبال عليه والإعراض عما سواه، وذلك متوقف على معرفة الله تعالى، فإن تمام العبادة متوقّّف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة بربه كانت عبادته أكمل".
أيها المصلون، بعد هذه المقدمة دعونا الآن نبحِر لنغوص في أعماق السنة النبوية لنستقي شيئا يسيرًا من درر تلك السيرة العطرة على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم تبين معرفة النبي بربه.
كان كثير الذكر لربه سبحانه، يذكر الله قائمًا وقاعدًا وعلى جنب، يذكر الله وهو مستشعر لمن يذكر، غفر له ما تقدم له من ذنبه ويقسم ويقول: ((والله، إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) رواه البخاري. أتعجبون؟! فاسمعوا إذًا إلى ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن الأغر المزني رضي الله عنه أن النبي قال: ((إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم أكثر من مائة مرة)). ما معنى الحديث؟ وما مراده بقوله: ((إنه ليغان على قلبي)) ؟ يقول الإمام ابن الأثير رحمه: " ((ليغان على قلبي)) أي: ليغطّى ويغشى، والمراد السهو، لأنه كان لا يزال في مزيد من الذكر والقربة ودوام المراقبة، فإذا سها عن شيء منها في بعض الأوقات أو نسي عدّه ذنبًا على نفسه، ففزع إلى الاستغفار".
إخوة الإسلام، ذكر الله تعالى من أعظم المسببات على التعرف على الله، فانظر معي ـ يا رعاك الله ـ إلى أنواع الذكر تجدها كلها دالة على توحيد الله وتعظيمه، فلا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله وغيرها من الأذكار تجعل في قلب المسلم وعلى لسانه ذكرا لصفات الله وأسمائه وأفعاله وتقديسه عن النقائص. إن ذكر الله بالقلب واللسان هو الذكر الذي يثمر معرفة الله ومحبته وكثرة ثوابه كما قال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].
ثم أيها المسلمون، طرف آخر من معرفة النبي لربه تفكُّره في آياته ومخلوقاته، أخرج البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بتّ عند خالتي ميمونة، فتحدث رسول الله مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الآيات [آل عمران:190]، ثم قام فتوضأ واستنّ، ثم صلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذّن بلال فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى بالناس الصبح.
السماوات والأرض آيتان عظيمتان من آيات الله التي لا تحصَى، وهاتان الآيتان كم فيهما من آيات الله ومخلوقاته، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أي: هذه في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات وثوابت وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان ومعادن ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أي: تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا ويقصر الذي كان طويلا، وكل ذلك تقدير العزيز العليم.
قال السعدي رحمه الله متحدثًا عن آيتي السماء والأرض: "ثم أخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن وما بينهن، وأنزل الأمر وهو الشرائع والأحكام الدينية التي أوحاها إلى رسله لتذكير العباد ووعظهم، وكذلك الأوامر الكونية والقدرية التي يدبّر بها الخلق، كل ذلك لأجل أن يعرفه العباد ويعلموا إحاطة قدرته بالأشياء كلها وإحاطة علمه بجميع الأشياء، فإذا عرفوه بأسمائه الحسنى وأوصافه المقدسة عبدوه وأحبوه وقاموا بحقه، فهذه هي الغاية المقصودة من الخلق والأمر".
لقد تعرف النبي على ربه من خلال التفكر في آياته المتلوة أيضًا في القرآن العظيم، فإذا وقف أمام ربه في صلاته وجدت الخشوع والخضوع والتدبر في أتم وجوهه وأرفع منازله، يتلو الآيات يرتلها ترتيلاً، قال الله تعالى مخاطبًا نبيه : تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ [الجاثية:6]، قال صاحب أضواء البيان رحمه الله: " تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أشار جل وعلا لنبيه إلى آيات هذا القرآن العظيم، وبين لنبيه أنه يتلوها عليه متلبسة بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه".
لقد كان يقرأ القرآن ويتدارسه مع جبريل عليه السلام، ويحب أن يسمعه من غيره، ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال له رسول الله : ((اقرأ علي)) ، قال: فقلت: يا رسول الله، أأقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: ((نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري)) ، قال: فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، فقال: ((حسبك الآن)) فإذا عيناه تذرفان.
قال الإمام ابن رجب رحمه الله: "فلا طريق إلى معرفة الله وإلى الوصول إلى رضوانه والفوز بقربه ومجاورته في الآخرة إلا بالعلم النافع الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، فهو الدليل عليه، وبه يهتدَى في ظلمات الجهل والشبه والشكوك، ولهذا سمى الله كتابه نورا يهتدى به في الظلمات، وقال الله تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:15، 16]"، وقال الشيخ السعدي رحمه الله: "فكلما ازداد معرفة بربه ازداد إيمانه، وكلما نقص نقص، وأقرب طريق يوصله إلى ذلك تدبر صفاته وأسمائه من القرآن، والطريق في ذلك إذا مرّ به اسم من أسماء الله أثبت له ذلك المعنى وكماله وعمومه ونزهه عما يضاد ذلك".
أُخيّ، ثم إذا أنت نظرتَ إلى عبادة النبي وجدتَ الكمال والاتقان وتمام المعرفة بالله الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه، فقالت له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال : ((يا عائشة، أفلا أكون عبدا شكورا)) أخرجه مسلم في الصحيح.
لقد كانت عبادة الله تعالى عند رسول الله تعني السكينة والطمأنينة، كان يقول لمؤذنه بلال: ((أرحنا بالصلاة)) ، كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. معرفة النبي بربه هي التي جعلته يتلذّذ بالعبادة ومناجاة ربه سبحانه وتعالى.
اللهم اجعلنا لك ذاكرين لك شاكرين لك عابدين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا معاشر المسلمين.
إخوة الإسلام، ومن صوَر معرفة النبي بربه خشيتُه لله سبحانه وتعالى، أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا عصفت الريح قال: ((اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسِلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسِلت به)) ، قالت: وإذا تخبّلت السماء تغيّر لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سرِّي عنه، فعرفت ذلك عائشة رضي الله عنها فسألته فقال رسول الله : ((لعله ـ يا عائشة ـ كما قال قوم عاد: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [الأحقلف:24] )).
وجاء الحديث عند البخاري بلفظ: قالت أي: عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رسول الله ضاحكا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسّم، قالت: وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرِف في وجهه، قالت: يا رسول الله، إن الناس إذا رأوا الغيمَ فرحوا رجاءَ أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية! فقال: ((يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، عذّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا)).
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/3238)
ومن أعرض عن ذكري
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
محمد أحمد حسين
القدس
9/4/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حياة الذلّ. 2- سبب عزة السلف الصالح. 3- مفاسد الإعراض عن حكم الله تعالى. 4- تسلط العداء على الأمة الإسلامية. 5- سبيل الخلاص.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذّركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره، لقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، يعيش المسلمون اليوم في مشارق الأرض ومغاربها البلاء واللأواء وضيقَ الحياة وشدتها في جميع مناحي حياتهم، السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية، ومردّ ذلك يعود إلى إعراضهم عن هداية الله في كتابه العزيز ودستوره العظيم وابتعادهم عن هدي رسولنا الكريم ونهجه المستقيم، عليه وعلى رسل الله أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ألم يخاطب الله تعالى رسوله المصطفى بقوله: طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى [طه:1-3]؟! لقد أقبل سلفكم الصالح على هذه التذكرة، وقبلوا هدى الله، ونفذوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، وطبقوا أحكامه قولاً وعملاً في جميع شؤون الحياة، ففازوا بسعادة الدارين رضي الله عنهم ورضوا عنه، ذلك لمن خشي ربه.
أيها المسلمون، ألم تكونوا خير أمة أخرجت للناس يوم اتبعتهم هداية الله وأقبلتم على هذا الذكر الحكيم الذي جمع شتات العرب بقبائلهم المتحاربة تحت راية واحدة، شعارها التوحيد، ونشيدها التكبير والتهليل، في ظل دولة الإسلام، التي أقامها نبينا وقائدنا عليه أفضل الصلاة والسلام، وسار على هديه الخلفاء الراشدون ومن تبعهم من الخلفاء والأمراء والسلاطين الذين حافظوا على دولة الإسلام وعلى دستورها الخالد، يصدرون عنه في جميع الأحكام، لا يحيدون عن هديه، ولا يتجاوزون نصه، شعارهم: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم"، وتردّ الرعية على الخليفة الذي طلب تصحيح اعوجاجه بقولها: "والله لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بحدّ سيوفنا".
إنه الفاروق عمر الخليفة العادل، نصر الله بإسلامه هذا الدين، وهاجر على مرأى من صناديد قريش وفرسانها، وهو قاهر القياصرة والأكاسرة، والفاتح الذي ما عرف التاريخ أعدل ولا أرحم منه، يوم تسلّم القدس من بطريركها، وأعطى الأمان بعهدته المشهورة لأهلها، فلو قبِل حكام المسلمين بعد العصور الزاهرة للحكم الإسلامي تقويمَ اعوجاجهم لما وصل المسلمون لهذا الحال من العجز والفرقة والضعف والهوان والشقاء، وغدوا مع هذا الحال عاجزين عن فعل ما يمكن أن يقودهم إلى رحاب القدس تحت راية العزّة والمجد التي استظل بها فاتح القدس، والتي رفعها ثانية محرر القدس من دنس الصليبيين، الملك الناصر صلاح الدين الذي اتبع هدى الله، فجمع به شمل الأمة ووحّدها، قادها إلى سبيل العزة والكرامة، لتعيش حياة النصر، مسترشدة بهداية الله ونوره المبين وبرهانه الحكيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:174، 175].
إذًا كيف نواجه هذه الفتن لنجتنبها، يقول ابن عباس رضي الله عنهما عن الرسول : ((كتاب الله تبارك وتعالى فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله)).
نعوذ بالله من الضلال بعد الإيمان ومن الغواية بعد الهداية، ونسأله الثبات على الإيمان والوفاة على الإسلام، إنه المنان ذو الفضل والإحسان.
فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، خصه الله بالشفاعة وبلواء الحمد يوم القيامة.
وأشهد أن لا إله إلا الله، أحب لعباده أن يعملوا لدينهم ودنياهم، حتى يفوزوا بنعم الله وينالوا رضوانه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أقام الدين، وأوضح السبيل، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما بارك على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العلمين، إنك حميد مجيد.
وبعد: أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ماذا جنت الأمة جراء إعراضها عن ذكر الله وابتعادتها عن هدايته؟! إن حالها اليوم يعطي الدليلَ الواضح لكل ذي بصر وبصيرة، لا بل لكل من له أدنى اطلاع على تاريخ الأمة، لأن أمتكم تتجرّع عقاب الله بضيق الحياة وذهاب الهيبة والسلطان، لقد تداعت عليها الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وأمعنت في السيطرة على مقدراتها والعبث في ثقافتها في غزو عسكري استعماري، يرافقه ويسير في ركابه غزو ثقافي أشدّ فتكًا بقيَم الأمة وأخلاقها، يعمل جاهدًا على طمس معالم حضارتها، لتعيش شعوب الأمة حالة من ذوبان الشخصية وميوعتها، وهي تلهث وراء سراب المدنية الزائفة وشعاراتها الخادعة.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لو استعرضنا جانبًا من جوانب حياة الأمة بقياس حالها اليوم وتشخيص دائها لوجدنا الفرق الشاسع بين ماضيها وحاضرها، الماضي الذي أقبلت فيه الأمة على ذكر الله وهدايته، فاستحقت وصف الله لها: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ [آل عمران:110]، والحاضر الذي انكفأت فيه الأمة عن هذه المنزلة، وأصبحت تعيش فيه على هامش الأحداث، تتأثر ولا تؤثِّر، مع أنها ساهمت فيما وصلت إليه البشرية اليوم بفاعلية في مجالات العلوم التدريبية والكونية التي أسّست لها التقدم العلمي الجبار الذي نرى آثاره في الحياة العلمية لدى الأمم الغربية، هذه الأمم التي غزت وتغزو بلاد المسلمين اليوم، في حرب لا تخفى أهدافها، للقضاء على الإسلام والسيطرة على ديار المسلمين.
إن ما يجري في العراق وأفغانستان وهنا في فلسطين من قتل وتشريد وتنكيل بأبناء شعوب هذه الأقطار داخل السجون وخارجها أوضح دليل على استهداف هذه الأمة ممن يروّجون لحقوق الإنسان ويمنّون الشعوب المستضعَفة باستقرار في أوضاعها السياسية والاقتصادية، فهيهات للمستجير من الرمضاء بالنار، فهل من معتبر؟! وهل من مدّكر؟! فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2].
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، أما آن لأمتكم أن تفيق من سباتها وتنهض من غفلتها وتعود إلى رحاب هدي ربها؟! فإنه سبيل الخلاص من هذا الواقع المُرّ والحال الضنك الذي وصلت إليه الأمة اليوم، أما آن الوقت بعد كل هذا الهوان أن تبحث الأمة وأن تتلمس شعوبها سُبل العزة باستئناف الحياة الإسلامية في ظل حكم الإسلام ودولة المسلمين؟! هذه الدولة التي تأخذ الإسلام عقيدة راسخة وشريعة حياة، تنظم الحياة والأحياء، وترعى شؤون الرعية وفق دستور القرآن ومنهج المصطفى عليه الصلاة والسلام، والله يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، فنحن أمة أعزنا الله بالإسلام، ولا عزة لنا بغيره.
اللهم يسّر لأمتنا من يقودها إلى حمى الإسلام وعزة الإيمان، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، فقد سدّت السُبُل إلا إليك، وانقطع الرجاء إلا منك.
يا من يرى ما في الضمير ويسمَع أنت المعَدّ لكل ما يتوَقَّع
أنت المرجى للشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزَع
يا من خزائن رزقه في قول كن امنُن فإن الخير عندك أجمع
(1/3239)
عقبات في طريق العفّة
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
9/4/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الترغيب في النكاح وبيان فوائده. 2- مشكلة غلاء المهور وتكاليف الزواج. 3- ضرورة تعاون المجتمع وتكاتفه. 4- آفة التقليد. 5- ظاهرة الإسراف والمباهاة. 6- مشروعية الصداق وسنية تخفيفه. 7- الزواج الشرعي في الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ الله جلّ وعلا أمر بالنِّكاح ورغَّب فيه ورتَّب عليه الجزاءَ العظيمَ، قال تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32]. وأمَر الفقيرَ العاجز بالعِفّةِ عن محارِم الله رجاءَ أن يسهِّل الله أمره: وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33]. وأخبر أنَّ قاصدَ النكاح والجادَّ في طلبِه أحدُ الثلاثةِ الذين يعينُهم الله، ففي الحديث عنه : ((ثلاثةٌ حقّ على الله عونُهم)) ذكر منهم: ((المتزوّج يريد العفاف)) [1]. وفي الزواجِ غضٌّ للبصر وتحصينٌ للفَرج وطمأنينة للنفس، ((يا معشر الشباب، منِ استطاع منكم الباءةَ فليتزوّج؛ فإنه أغضّ للبصر وأحصنُ للفرج)) [2] ، وفيه طمأنينةُ النفس وسكونها، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189]، وفيه حصولُ الولد وامتداد حياةِ بني الإنسان إلى أن يأذنَ الله بآخِر نسمةٍ من صُلب آدم.
أيها المسلم، وهذا النكاحُ الذي رغّب فيه الشرع وحثَّ عليه ورتَّب على حصوله المنافعَ العظيمة، هذا الأمر قد يعرِض له ما يعيقه ويسبّب عدمَ شيوعه ويقلِّله بين بعض أفراد المجتمع المسلم، ذلكم ـ يا إخواني ـ مشكلةُ ما يترتَّب على الزواج من تكاليفَ متعدّدة، أنواع مختلفة، منها: غلاء المهور أوّلاً، فغلاء المهور وكثرتها وتنافُسُ الناس فيما يدفَعون سبَّب عزوفَ بعض الشبابِ المسلم عن الإقدام على هذا الزواج؛ لأنه يرى نفسه عاجزًا وغيرَ قادر مهما بذل، ثم ما يُضاف إلى ذلك من التكاليفِ المتعدِّدة والولائم الكبيرة والتبعات التي بإمكان المجتمع المسلم التخفيف والتيسير فيها.
أيّها المسلم، مشكلةُ غلاءِ المهورِ أو مشكلةُ تكاليفِ الزواج عمومًا هي لا شكَّ مشكلة، ولا شكَّ أنها نازلة، وعلاج هذا لا يكون إلا بتعاونِ أفرادِ المجتمع المسلم فيما بينَهم ليحقِّقوا لمجتمَعهم السعادةَ والهناء. المجتمع المسلم مِن خُلُقه أن يشعر كلٌّ بمصالح الآخرين، وإذا كان كلٌّ إنما ينظر لواقعه وشخصيّته ومحيطِه الخاصِّ به دون أن يكون هناك نظرة للعموم فهناك البلاء والعياذ بالله. الله جلّ وعلا أرشدَنا بقوله: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2].
إنّ مِن التعاون على البرِّ سعيَ المجتمع المسلم في تخفيضِ التكلفاتِ في الزواج بأيّ أنواعها، إذا شعَر المسلم أن له أبناءً يريد تزويجَهم وأنّ له بناتٍ يريد أن يتزوَّجنَ ويعفّهن الله عن الحرام، إذا شعر المسلم بذلك دعاه إلى التيسير وسَلك طرق التيسير وإشاعة هذا الزواج وانتشاره.
أيّها المسلم، إنَّ المجتمعَ المسلم عندَما يتكاتف على الخيرِ ويشعُر كلّ فرد بمصلحة الآخرين فعند ذلك يقع الخير بتوفيق من الله، أمّا أن يتغاضَى الإنسان عن الآخرين وإنما ينظر لواقعه الخاصّ دون نظر إلى واقع الآخرين فتلك مصيبةٌ عظمى.
أيها المسلم إذا فكَّرت قليلاً ونظرتَ إلى بعض شبابِ من شبابنا وبعض الفتيات، بعضُ الشبابِ يريد الزواج، وبعضُ الفتيات والكل يريد الزواج، كلٌّ يريد الزواج من ذكورٍ أو إناث، علِمتَ أن هذه الفئةَ تحتاج إلى من يعينها ويلفِت النظرَ لها، ويساعد الجميع، فإنّك إذا نظرتَ هذا النظرَ الخاصّ دعاك إلى أن تبذلَ جهدَك وتدلي برأيك وتساهِم في تخفيف هذه التكلفات، لأنَّ إشاعة الزواج في المجتمع عنوان سعادتهِ وسلامتِه، إذ بقاءُ من لم يستطعِ الزواجَ ما بين عفيفٍ يبقى مكبوتًا في حياته، يعيش حسرةً وتألُّما، وما بين منحدر في رذائله، لا يلوي على شيء، وربما استلذَّ المعصية وأنس بالفساد وانتقل هنا وهناك، وأمضى وقته ومضى بعضُ عمره وما تحقَّقت له أمنيته.
أيها المسلم، ليس علاجُ التكلفات بنظامٍ يفرَض على الأفراد لا يتجاوزونه، فتلك الأنظمةُ ربما يتخطّاها الناس سرًّا، ويتغلّبون عليها ولا يبالون بها، لكن إذا كان الأمرُ نابعًا من ضميرِ مسلم حيّ يحبّ الخيَر لأمته ويكره الشرَّ لمجتمعه ويسعى في تحقيق الصلاح والاطمئنان والقضاء على وسائل الجريمة والانحراف، كان هذا الأمر أمرًا نافعًا بتوفيقٍ من الله.
أيّها المسلم، طبيعةُ المجتمعاتِ أن يقلِّد بعضهم بعضًا، ويحاكيَ بعضهم بعضًا، فالطبقةُ الوسطى تريد أن تماثلَ الطبقةَ التي أعلى منها، ومَن دونهم يريدون أن يحاكوا من فوقهم، وأصبحتِ المسألة تقليدًا ومباهاة ومجاراة، كلٌّ عسى أن يكون يظهر بالمظهر اللائق به من هذه التكلفات الزائدة التي لا تهمّ كثيرًا من الناس لكثرةِ ما عنده، ولا يبالي بما ينفق، فيكونُ البعض مقلّدًا للبعض على هذه التّكلفات الزائدة، حتى في الغالبِ لا تكادُ أن تفرِّق بين ولائمِ مَن كان متوسّط الحال وولائمِ مَن فوقه؛ لأنّ المجاراة والمحاكاة حكمت على المجتمع بهذا الأمر الخطير.
أيّها المسلم، يكون البعضُ ذا ثراءٍ وغِنى وجِدة وسَعة، لو ينفق في الليلة الواحدة كذا ألفًا لا يهمّه ولا يكترث به، لأنّ الله قد أعطاه وأغناه، لكن هذه النفقةُ التي لا يبالي بها وتسهُل في يده لأنّ الله أوجد له الخير، هذه النفقة التي ينفِقها لو فكّر قليلاً وتدبّر أنَّ جزءًا منها لو صُرف لزواجِ العاجِز وإعانة العاجز لكان هذا خيرًا له ولشباب الأمة مستقبلاً.
إن مَن ينفق الأموال الطائلة لكون أمواله كثيرةً لا ينقصه أن ينفقَ كذا ألفًا في ليلةٍ واحدة، ولا أن ينفق المئات الألوف في الليلة الواحدة، بينما الآخرون عاجزون لا يستطِيعون ولا يقوَون على هذا الأمر. فمِن واجب المجتمع المسلم أن ينظرَ إلى هذا الأمر نظرةً جدِّية فيها التعاونُ والتكاتف والتساعُد، وأن يكونَ لدى الناس تعاون على الخير وتشجيعٌ لمن يظهر هذا الأمر وإعانته والثناء عليه، حتى تأخذَ الأمّة هذا الطريقَ المستقيم، فتسهل عليهم المهمّة. إنّ الأمر يتعلَّق بالمجتمع المسلم، لا بد أن ينبعَ الأمر من قلوبٍ مستنيرة وقلوب حريصة على الخير، ونفوس يهمّها ما يصيبُ الآخرين من نقصٍ وأذى.
أيها المسلمون، الصَّداق في القرآنِ والسنّة هو عِوَض يدفَع للزوجة، ليس عوضًا أنه قيمة لذاتها، فهي أغلى من ذلك، ولكنّه رمزُ المحبّة والاستئناس، فما يدفعه لها مقابلَ استمتاعه بها وارتباطه بهذا العقد الموثَّق العظيم الذي قال الله فيه: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21]. هذا الصداقُ واجب للمرأة بنص القرآن والسنة، قال تعالى: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4]، فهو واجبٌ بلا إشكال بنصِّ القرآن وفعلِ النبي وتقريرِه وإجماعِ المسلمين على ذلك، لكن سنّةُ محمّد التي سارَ عليها من جهة نسائِه أو بناتِه كانت سيرةً عادلة وكانت سيرةً نبيلة، إذ هو قدوةُ المسلمين وهو إمامهم، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
فهو ضَرَب أروعَ الأمثال في ذلك، فزوجاتُه ما كانَ يدفع للواحدةِ منهن إلاّ اثنتي عشرةَ أوقية من الفضة، وما كان يقبّل لصدقات بناتِه إلا اثنتي عشرة أوقيّة من الفضة، أي: ما يقارب خمسمائة درهم بالدرهم الإسلامي، هكذا كان صداقُه لنسائه، وهكذا كان صداقُ بناته. هو ملتزمٌ بذلك، فما واحدة من نسائه أعطاها أكثرَ من ذلك، ولا واحدة من بناتِه أعطِيَت أكثرَ من ذلك، كان ملازمًا لهذا التيسير؛ لأنه قدوةٌ للمسلمين يتأسَّون به في الخير والهدى صلوات الله وسلامه عليه.
بل الأمرُ في السنة جاء بالتيسير بما هو أعظم من ذلك، فإنّ امرأةً في عهد النبيّ طلبت ممن خطبها أن يسلِم، فلمَا أسلم تزوَّجته وجعلت مهرَها منه إسلامَه ودخولَه في الإسلام [3]. وامرأة زوَّجها النبيّ برجلٍ على أن يحفِّظها ما معَه من القرآن [4]. وقال لعبد الرحمن بن عوف: ((ماذا أصدقت امرأتَك؟)) قال: وزنُ نواةٍ من ذهب [5]. ثم يقول عمر رضي الله عنه مخاطبًا للناس يحثُّهم على عدم التغالي في المهور ويقول: (لو كان تقوًى للهِ أو مكرمةً للناس لكان أولى به منكم رسولُ الله )، وذكر أنَّ رسول الله ما أصدق امرأةً من نسائه أكثرَ من اثنتي عشرة أوقية، ولا أُصدِقت أحدٌ من بناته بأكثر من اثنتي عشرة أوقية [6].
كلُّ هذا تيسير للناس وتسهيل، هو لا شكَّ أنه حقٌّ للمرأة، لكن ينبغي للمجتمعِ المسلم أن يترَبى على الخير وروح التعاون والمحبة بين المسلمين، ولذا قال العلماء: إنَّ من يريد الزواجَ إذا كان فقيرًا يعطَى من زكاة المال ما يعينه على مهمَّته. هو فقير أمامَه تكلفاتٌ كثيرة، وأمامَه وأمَامه.. فيصلُح أن يعطَى من الزكاة ما يعينه على هذه المهمّة، ليتخطَّى تلك العقبات الكأداء.
إنَّ المجتمع المسلم متى شاع فيه هذه الروحُ الطيبة روح التعاون والمحبة والنظر إلى الفقيرِ والمسكينِ والعاجز ورحمتِه والإحسان إليه ومساعدته بكلّ ممكن، هذا الذي يحقِّق للمجتمعِ الخيرَ والصلاح ويقضِي على الجريمة والانحرافِ الخلُقي الذي يبتلَى به من يبتلَى به، فإنَّ هذه الغرائزَ إن لم تكافَح بالخير ويعان أهلُها على الخير يوشك أن يتسلَّط الشيطان على أولئك، فيزيِّن لهم الفواحشَ ويغريهم بالمنكرات، فتمضي أعمارُهم من باطل إلى باطل، تقسى القلوب، وتنفر النفوس عن هذا الأمر العظيم، وتستلذّ الراحةَ بهذه المعصية، فيخسَر المسلمون شبابهم، ويخسروا فتياتهم، تعنس النساء، ويذهَب الشباب، وتبقى الأمّة في نقصٍ عظيم. فلا بدَّ للمجتمع المسلم أن يعالجَ تلك علاجًا شرعيًا؛ تعاوُنًا وتساعدًا وحرصًا على القضاءِ على مظاهر السرَف والبذخ مظاهر السرَف والتجاوز أو التبذير بالإنفاق في الحرامِ مِن جلبِ المغنِّيات ونحو ذلك، فالمسلمون مطلوبٌ منهم أن يكونوا يدًا واحدة متآمرين بالمعروف متناهين عن المنكر، والله يقول: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]. ولا شكّ أن مِن الأمر بالمعروف أن يسعَى المسلمون في تيسير أمر الزواج، وأنّ من المنكر أن يترَك الناس في هذا التنافُس الزائد والمجاراة العظيمة التي كلَّ عام تأتينا بشكلٍ ما كان عليه من قبل؛ إسرافًا ومجاوزة ومبالغة في الحدِّ، فالمسلمون مطلوبٌ منهم أن يتعاوَنوا على الخير والتقوى، أسأل الله للجميع التوفيقَ والسداد، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/251، 437)، والترمذي في فضائل الجهاد (1655)، والنسائي في الجهاد (3120)، وابن ماجه في الأحكام (2518) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (979)، وابن حبان (4030)، والحاكم (2678)، وحسنه الألباني في غاية المرام (210).
[2] أخرجه البخاري في النكاح (5065)، ومسلم في النكاح (1400) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[3] هذه المرأة هي أم سليم رضي الله عنه، وزوجها الذي أسلم هو أبو طرحة رضي الله عنه، والقصة أخرجها عبد الرزاق في المصنف (6/179)، والنسائي في النكاح (3341)، والطبراني في الكبير (5/90، 25/105)، وأبو نعيم في الحلية (9/59) عن أنس رضي الله عنه، وصححها ابن حبان (7187)، والضياء في المختارة (1607)، وابن حجر في الفتح (9/115)، وهي في صحيح سنن النسائي (3133).
[4] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5029)، ومسلم في النكاح (1425) عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في النكاح (5072، 5148، 5153، 5155، 5167)، ومسلم في النكاح (1427) من حديث أنس رضي الله عنه.
[6] أخرجه أحمد (1/40-41، 48)، وأبو داود في كتاب النكاح (2106)، والترمذي في كتاب النكاح (1114)، والنسائي في كتاب النكاح (3349)، وابن ماجه في كتاب النكاح (1887) ولفظه: (ألا لا تغالوا بصدُق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها النبي ، ما أصدَق رسول الله امرأةً من نسائه ولا أصدِقت امرأة من بناته أكثرَ من ثنتي عشرَة أوقية)، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4620)، والحاكم (2/175-176)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1852). قال الترمذي: "الأوقية عند أهل العلم أربعون درهما، وثنتا عشرة أوقية أربعمائة وثمانون درهما".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربُّنا ويرضى، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صَلّى الله عليه وعلى آله وصَحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، الزواجُ في شريعةِ الإسلام تميَّز عن السفاحِ المذمومِ بأمور، ففي الزواجِ الشرعيِّ شُرط أن يحضُرَ الزواجَ وليُّ المرأة أبوها أو من يقوم مقامها، ولا بدَّ من حضور شاهدين، ولا بدَّ من رضا الزوجةِ بالزوج والزوج بالزوجة، وشُرعت الوليمة ودعِي إليها، فقال النبيّ لعبد الرحمن بن عوف: ((أولم ولو بشاة)) [1] ، وأمر بحضور وليمة الزواج، وقال فيها: ((من لم يجِب الدعوةَ فقد عصى محمدًا )) [2] ، كلّ هذا لأنّ النكاح في الإسلام يجِب أن يعلَنَ ويظهَر ويعلَى شأنه، وقال أيضًا: ((أعلِنوا هذا النكاحَ واضرِبوا عليه بالدف)) [3] ، فالإشهادُ وحضور الوليّ والوليمة والإعلان كلّ هذا مطلوب في النكاح؛ لأنّ ظهورَ هذا العقد وشيوعَه في المجتمع دليل على وجودِ الخير وقصدِ الخير في المجتمع المسلم، فكلما كثر الزواج وشاع وكلّما انتشر وعُلِم دلّ ذلك على وجودِ خيرٍ في المجتمع المسلم، لكن ينبغِي أن يكونَ الإعلان بقدر، وأن تكونَ الولائم بقدر، وأن يكون كلّ الأشياء باعتدالٍ لا إسرافَ ولا تقتير، لا ندعو إلى زواجٍ مكتوم متواصًى بكتمانه وإخفائه، لا، الإعلانُ والوليمة وإظهارُه وحضوره والدعوةُ إليه كلُّها أمور مطلوبة شرعًا، كلما كان الزواج شائعا وكلّما حضر من حصر وكلما أُقيمتِ الوليمة وكلما عُلِم هذا أمر لا يشكّ المسلم في مشروعيته، لكن الكلام أن تكونَ هذه الأمور كلّها باعتدال، فتكون الوليمة باعتدال والمظاهر كلّها باعتدال، أوّلاً: البعدُ عمّا حرّم الله منِ اختلاطِ الرجال والنساء وتصويرِ الرجال الشباب والفتيات في مجتمع الزواج، وإشاعةِ هذه الصوَر ونشرها بين الناس، ثم ما يجلَب من مغنّين ومغنّيات، وينفَق عليهم الأموال الطائلة، ثم ما يحصل من تضخّمٍ في الولائم وكثرتها، ووضع شيءٍ قد لا يحتاج الحاضرون إلى عُشره.
فالمطلوبُ من المسلمين التعاون والوسطيةُ في أمورهم والاعتدالُ في هذه الأمور، وأن لا تكونَ الأمور خاضِعة لطاعةِ النساء أو السفهاء، بل ينبغي لعقلاءِ الأمّة أن يتدبّروا واقعَهم، وأن يكونَ كلّ منا يحرِص على أن يكونَ السبَّاق في الخير والسَّباق في الاعتدال والسَّباق في هذه الأمور الخيِّرة، حتى يكونَ بين الناس تنافسٌ في الخير وتنافس في الاعتدال وبُعد عن المظاهر السيئة.
أسأل الله أن يحفظنا بالإسلام، وأن يحفظ شبابَنا وفتياتنا، وأن يعينَ من أراد الزواج على الزواج، وأن يسهّل لهم أمورهم ويوفِّقهم ويفتحَ لهم أبوابَ رزقه، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبدِ الله ورسولِه محمّد كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في النكاح (5072، 5153، 5155، 5167)، ومسلم في النكاح (1427) من حديث أنس رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في النكاح (5177)، ومسلم في النكاح (1432) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((فقد عصى الله ورسوله )).
[3] أخرجه الترمذي في النكاح (1089)، وابن ماجه في النكاح (1895)، والبيهقي في الكبرى (7/290) عن عائشة رضي الله عنه نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب في هذا الباب، وعيسى بن ميمون الأنصاري يضعف في الحديث"، وضعفه ابن حجر في الفتح (9/226)، وهو في ضعيف سنن الترمذي (185). ولشطره الأول شواهد تقويه.
(1/3240)
على أبواب الإجازة
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
16/4/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الغفلة عن نعمة الفراغ. 2- الحث على اغتنام نعمة الفراغ. 3- ضرورة التخطيط للانتفاع بالإجازة. 4- ظنّ خاطئ.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتَّقوا الله وراقِبوه، واعلَمُوا أنكم ملاقوه، فأعدُّوا لهذا اللقاءِ عدَّته من قبلِ أن يأتي يوم لا بيعٌ فيه ولا خِلال.
أيّها المسلمون، في غَمرةِ الغفلةِ ينسَى فريقٌ من النّاس أنَّ مِن نِعمِ الله السابغةِ نعمةَ الفراغِ مِن الشّغل، ذلك الفراغُ الذي ينقطِع به كَدُّ المرءِ ونَصبُه بانتهائه مِن أداء ما كان واجبًا عليه، وإنَّ الغفلةَ عَن هذه النعمةِ يُفضي إلى إضاعتِها وعدمِ رعايتها حقَّ رعايتها، فتكون العاقبة نقصانًا وخُسرانا بضياعِ فُرصَ العمُر وتبدُّد أسباب الرِّبح، وذلك هو الغَبن الذي بيَّنه رسولُ الله في الحديثِ الذي أخرجَه البخاريّ في صحيحه والترمذي وابن ماجه في سننهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ النبيَّ قال: ((نعمتان مغبُونٌ فيهما كثير من الناس: الصحةُ والفراغ)) [1].
ولذا جاء التوجيهُ النبويّ الكريم باغتنام نعمةِ الفراغِ في قولِه : ((اغتنِم خمسًا قبلَ خمس: حياتَك قبل موتك، وصحَّتك قبل سَقَمك، وفراغَك قبل شُغلك، وشبابَك قبل هَرَمك، وغِناك قبل فقرك)) أخرجه الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح [2].
عبادَ الله، وأَولى مَن يُوجَّه إليه هذا الخطابُ ـ يا عباد الله ـ هم الشبابُ الذين يستقبِلون أيامَ إجازتهم التي أظلَّهم زمانُها، وكذلك من يقوم على شؤونهم من الآباءِ والأمَّهات والمربِّين وأمثالهم، ممَّن يدركُ قدرَ هذه النعمة، ويعلم أيضًا أنّ نفسَ الإنسان التي بين جنبيه إن لم يشغَلْها بالحق شَغلته بالباطل كما قال الإمام الشافعي رحمه الله [3] ، ولذا كان لِزامًا عليهم التخطيطُ المحكَم من أجلِ كمال الانتفاعِ بهذه الإجازةِ بصرفِ الطاقات واستثمار الأوقاتِ في كلِّ ما يَحِلّ ولا يحرم وينفعُ ولا يضرّ ويُحمَد ولا يُعاب، من أنشطةٍ علميّة وتربوية وخيرية وكشفيّة ورياضيّة وترفيهيّة، ومن سَفرٍ مُباح هادفٍ نظيفٍ سالم من إضاعةِ المال منزَّهٍ عن قصدِ الفخر والخُيلاء، ومِن عناية بالأقربين الذين قد تكونُ الشواغِل والصوارفُ سببًا في القُعود عن أداءِ ما يجب لهم من برٍّ وصِلة.
عبادَ الله، إنَّ هذا التخطيطَ الهادفَ للانتفاع بفُرصة ونعمةِ الفراغ هو سَببٌ قويّ من أسبابِ حِفظ الوقت الذي هو العُمُر حتى لا تُطوَى صحائفُ الأعمال ولم يُكتَب فيها من الخيرِ ما يسُرُّ صاحبَه ويرتفِع بمقامه عند ربِّه في يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، وهو أيضًا باعثٌ على حفظِ الشّباب من أن يغدُوَ مِعوَل هدمٍ في بناءِ مجتمعه وأمَّته حين تُتْرَك فرصةُ الاستِحواذِ عليه متاحةً للأعداءِ من أهل الشُبهات والشّهوات، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:104]، هنالك يعظُم الخسران، وتستبينُ صورةُ الغَبن الذي أخبر عنه رَسول الله ، تستبين صورتُه جليَّة بيِّنة.
ألا فاتقوا الله عبادَ الله، واعمَلوا على كلِّ ما تحفَظون به أوقاتَ شبابِ هذه الأمّة، وتستثمرون به نعمةَ فراغهم في هذه الإجازة التي غدَت منَّا قابَ قوسين أو أدنى. وإنها ـ يا عبادَ الله ـ لأمانةٌ أفلَح من حفِظها وأدّاها على وجهها وراقب الله فيها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
نفعني الله وإيّاكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6412).
[2] مستدرك الحاكم (4/ 306) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، ولم يتعقبه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3355)، لكن ذكر له البيهقي في الشعب علّة (7/263) وهي أن الصحيح أنه من رواية عمرو بن ميمون الأودي مرسلاً، كذا أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص2)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/77)، والبغوي في شرح السنة (4022)، وصحح إسناده الحافظ في الفتح (11/235).
[3] انظر: مدارج السالكين (3/129).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الوليِّ الحميد، الفعَّالِ لما يريد، أحمدُه سبحانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهَد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله وخيرتُه من خلقه، اللهمّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، إنَّ ظنَّ بعضِ الناس أنَّ الإجازةَ سببٌ لغضِّ الطرف عن سلوكِ أبنائهم وإغماضِ الأجفان عن مراقَبتهم بتركِهم يفعلون ما يشاؤون بعيدًا عن الإشرافِ والتوجيه الحكيمِ مِن الوالدين هو خطأٌ فادِح يقع فيه مَن يتناسى أنه رَاعٍ وأنّه مسؤول عن رعيته كلَّ حين، وأنه لا فرقَ في هذه المسؤولية بينَ وقتِ الإجازة وبين غيره مِن الأوقات، بل إنَّ هذه المسؤوليةَ هي أشدُّ تأكُّدًا في هذا الوقتِ لما يغلب فيه من أسباب المخاطِر، ولما يكثُر فيه من ألوان المزالق.
ألا فاتقوا الله عبادَ الله، وكونوا أعظمَ عونٍ لأبنائكم وبناتكم في سعيهم إلى كلِّ خير في العاجلة والآجلة.
واذكروا على الدّوام أنّ الله قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة...
(1/3241)
المنجيات من الفتن
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
16/4/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسباب الضلال. 2- أصحاب الفتن. 3- معنى الفتن. 4- التحذير من الفتن. 5- العواصم من الفتن. 6- التصدي للغزو الفكري. 7- كيد الأعداء بالإسلام والمسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ أيّها المسلمون ـ حقَّ التقوى، وأطيعوه في كلِّ أحوالكم يصلِح لكم الدنيا والأُخرى.
عبادَ الله، إنَّ ضلالَ من ضلَّ عن الصراطِ المستقيم وزيغَ من زاغَ عن الدِّين القويم إمّا بسَبب الشهواتِ وإيثارِ الدنيا على الآخرة كما قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، وقال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23]، وكما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37-39]، وإما أن يكونَ الزيغُ والانحراف عن الدينِ القويم بسبَب الاعتقاد الفاسدِ والفهم الضّال كما قال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:103-105]، وكما قال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران:105، 106].
روى ابن جرير في تفسير الآية عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (همُ الخوارج) [1] ، وقال ابن كثير في تفسيره: " يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ يعني: يومَ القيامة حين تبيضّ وجوهُ أهل السنة والجماعة، وتسودّ وجوهُ أهل البدع والفُرقة، قاله ابن عباس رضي الله عنهم" [2] انتهى.
أيها المسلمون، إنَّ الفتنَ أعظمُ ضَررٍ على الدّين والدنيا، وإنّ القائمين بالفتَن أصحابُ شهواتٍ ومقاصدَ سيّئة محرَّمة، وأصحابُ زيغٍ في العقيدة وضلال في الأفهام، حذَّرنا منهم الكتاب والسنة، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((فإذا رأيتُم الذين يتَّبعون ما تشابَه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذَروهم)) رواه البخاري ومسلم [3].
والفتنُ لا تكون إلاَّ مع الاختلاِف، ولكنَّ أهلَ العلم يعرِفونها ويحذّرون منها. ومعنى الفِتَن كلّ قولٍ وكلّ فعل يضرُّ المسلمين في دينهم ودنياهم ويصدّهم عن الحقّ بذهاب الدين كلِّه عند المسلم أو نَقصِه.
وقد حذَّرنا الله تعالى من الفتن، قال الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25]. وحذَّرنا رسول الله من جميع الفِتَن، بل سمَّى بعضَها ووصَفها لنبتعِدَ عنها، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إنّه لم يكن نبيٌّ قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدلَّ أمَّته على خيرِ ما يعلمه لهم، وينذِرهم شرَّ ما ي منه فأولئك الذين علمه لهم، وإنَّ أمتَكم هذه جعَل الله عافيتها في أوَّلها، وسيُصيب آخرها بلاءٌ وأمور تنكرونها، وتجيء فتنٌ يرقِّق بعضُها بعضًا، تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلِكتي، ثم تنكشِف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحبَّ أن يُزحزَح عن النار ويدخَل الجنة فلتأتهِ منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يحبُّ أن يُؤتَى إليه، ومن بايَعَ إمامًا فأعطاه صَفْقة يدِه وثمرةَ قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاءَ آخر ينازِعه فاضربوا عُنقَ الآخر)) رواه مسلم [4] ، وعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن السَّعيدَ لمَن جُنِّب الفتن، إنّ السعيد لمَن جُنِّب الفتن، ولمَن ابتُلي فصبرَ فواهًا [5] )) رواه أبو داود [6] ، وفي الحديث: ((استعيذوا بالله من أربع: فتنةِ القبر، وعذابِ النار، وفتنة المحيا والممات، وفتنةِ المسيح الدجّال)) رواه البخاري ومسلم [7] ، ولكن إذا وقعتِ الفِتنُ فقد جعل الله للمسلمِ منها مخرجًا وملاذًا وحِصنًا يَعتصِم به، وملجأً يتمسَّك به.
فممَّا يعصِم من الفتن الدعاءُ، فهو جامعٌ لكلّ خير وصارفٌ لكلّ شرّ، وفي الحديث: ((تكون فِتنٌ لا ينجو منها إلا مَن دعا دعاءَ الغريق)) [8].
ومما يعصِم وينجي من الفتنِ التمسُّك والاعتصامُ بكتاب الله تعالى وسنةِ رسوله وفهمُ معانيها وتفسيرُها عن الراسخين في العلم وليس عن الجاهلين والمبتدعين؛ لأن أكثرَ الانحراف سببُه سوءُ الفهم للقرآن والسنة، قال : ((تركتُ فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: كتاب الله وسنتي)) [9].
ومما يعصم وينجي من الفتن إنكارُ القلبِ للفتنة والتحذيرُ منها وبُغضُها، عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله يقول: ((تُعرَض الفِتن على القلوب كالحصير يُعرَض عودًا عودًا، فأيّ قلبٍ أُشرِبَها نُكِتت فيه نكتة سوداء، وأيّ قلبٍ أنكرها نُكِتت فيه نكتةٌ بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين، على أبيضَ مثل الصّفا، فلا تضرّه فتنة ما دامتِ السموات والأرض، والآخر أسودُ مربادّ كالكُوز مجخِّيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا إلا من أُشرِب من هواه)) رواه أبو داود [10]. ومعنى ((أسود مربادّ)) هو شدّة السواد مع بياض، ومعنى ((مجخِّيًا)) أي: منكوسًا لا يصِلُ إليه خير.
ومما يعصِم من الفتن ويُنجِي منها لزومُ جماعةِ المسلمين وإمامهم، عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون الرسولَ عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشرّ مخافةَ أن يُدرِكني، فقلتُ: يا رسولَ الله، إنّ الله تعالى جاء بهذا الخير، فهل بعدَ هذا الخير من شرّ؟ [قال: ((نعم)) ، فقلت: هل بعد ذلك الشرّ من خير؟] قال: ((نعم وفيه دَخَن)) ، قلتُ: وما دَخنُه؟ قال: ((قوم يستنّون بغير سنتي ويهتدون بغير هديي، تعرِف منهم وتُنكر)) ، قلت: فهل بعدَ ذلك الخير من شرّ؟ قال: ((نعم، دعاةٌ على أبواب جهنم، من أجابهم قذَفوه فيها)) ، قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدرَكني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعةَ المسلمين وإمامَهم)) ، قلتُ: يا رسول الله، فإن لم يكُن لهم جماعة ولا إِمام؟ قال: ((تعتزلُ تلك الفِرقَ كلَّها ولو أن تعضَّ على أصلِ شجرة حتى يأتيَك الموت وأنت على ذلك)) رواه مسلم [11].
فأرشَد النبيّ عند ظهور الفِتن وعند ظهور دُعاة الفتنة أرشدَ إلى لزومِ جماعة المسلمين وطاعةِ إمامهم؛ لأن ذلك عِصمة لدِين المسلم وسلامةٌ له من البدَع والمذاهب الضالّة، لكنّ الخوارجَ ومن شابههم عكسُوا هذا الحديثَ، فعصَوا الإمام، وقتلوا جماعةَ المسلمين، قتلوا الأطفالَ والنساءَ والأبرياء، وحملوا السلاحَ على رجال الأمن المسلمين الذين هُم في خدمةِ الدين والبلاد، وقتلوا المستأمَنين غيرَ المسلمين الذين حرّم الشرعُ دماءهم، قال الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115].
ومما يعصِم من الفِتن ويُنجي منها سؤالُ أهلِ العلم الراسخين والرجوعُ إلى أهلِ الفتوى، قال الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فمن استرشَد أهلَ العلم وعمِل بالدليل من القرآن والسنة لا يضلّ، وما ضلّ من ضلّ من المسلمين في العقائد إلاّ بالتأويل الفاسد والإعراض عن أئمة الإسلام.
ومما يعصِم من الفتن الأخذُ على يدِ القائمين على إيقاد نارِها بقوّة السّلطان، كما قال النبيّ : ((كلاَّ والذي نفسي بيده، لتأمرُنّ بالمعروف، ولتنهَوُن عن المنكر، ولتأخذُنَّ على يدِ السفيه، ولتأطرنَّه على الحقِّ أطرًا، ولتقصرُنَّه على الحقّ قصرًا)) [12] ، ومن تستَّر على أحدٍ من الخوارجِ فهو شريكٌ له في الفتنة والمعصية، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:102، 103].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] جامع البيان (4/40).
[2] تفسير القرآن العظيم (1/391).
[3] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4547)، صحيح مسلم: كتاب العلم (2665).
[4] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1844).
[5] واهًا: كلمة معناها التلهف، وقد توضع للإعجاب بالشيء. قاله المنذري في الترغيب (3/298).
[6] سنن أبي داود: كتاب الفتن (4263)، وأخرجه أيضا البزار (2112)، والطبراني في الكبير (20/252)، وأبو نعيم في الحلية (1/175)، وهو في السلسلة الصحيحة (975).
[7] أخرجه مسلم في المساجد (588) عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((عوذوا بالله من عذاب الله، عوذوا بالله من عذاب القبر، عوذوا بالله من فتنة المسيح الدجال، عوذوا بالله من فتنة المحيا والممات)) ، وفي رواية عنده : ((إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال)). والذي في البخاري فعله لذلك في الصلاة.
[8] أخرجه ابن راهويه في مسنده (424)، والبيهقي في الشعب (2/40)، وأبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب (1236) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا، وأخرجه ابن أبي شيبة (7/531) عنه موقوفاً. وجاء من حديث حذيفة كذلك، أخرجه الحاكم (1/507، 4/425)، والبيهقي (2/40)، وصححه الحاكم على شرطهما، وأخرجه ابن أبي شيبة (6/22، 7/451)، وأبو نعيم في الحلية (1/274)، والبيهقي (2/40) عن حذيفة موقوفاً. وروي من كلام محمد بن المنكدر كما في الحلية لأبي نعيم (3/151).
[9] أخرجه مالك في الموطأ (1619) بلاغا، ووصله الدارقطني (4/245)، والبيهقي (10/114)، والحاكم (1/172) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/331): "وهذا محفوظ معروف مشهور عن النبي عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد"، وقواه الألباني بشواهده في السلسلة الصحيحة (4/361).
[10] هو في صحيح مسلم: كتاب الإيمان (144).
[11] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1847)، وهو أيضا في البخاري: كتاب الفتن (7084).
[12] أخرجه أحمد (1/391)، وأبو داود في الملاحم (4336)، والترمذي في التفسير (3047)، وابن ماجه في الفتن (4006) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وقد اختلف في إرساله ووصله، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1105).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله ربِّ العالمين، الرّحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهَد أنَّ سيّدنا ونبيّنا محمَّدًا عبده ورسوله، الصادقُ الوعد الأمين، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله حقَّ تقواه، فربُّكم أهلُ التقوى وأهل المغفرة.
أيها المسلمون، إنَّ أمَّةَ الإسلام أحاطَت بها الفتنُ والبلايا، ونزلت بها الشدائدُ والكرُبات، وظهر الاختلاف بين المسلمين على ساحةِ العالم الإسلاميّ، واستُهدِفَ الإسلام من أعداء الإسلام ومن بعض المنتسبين للإسلام، وواجبُكم ـ معشر المسلمين ـ الدفاعُ عن دينكم والوقوفُ أمام الغزوِ الفكريّ المعادي للإسلام والمخطَّط له من أعداء الإسلام، والذي يستهدِف التشكيكَ في القرآن الكريم وفي سنّة النبيّ ، ويستهدفُ تعاليمَ الإسلام وتعطيلَ أحكام الله وتعطيلَ شرع في أرض الله، ويستهدفُ إخراجَ المرأةِ المسلمة عن تعاليم دينها لتكونَ كالمرأة الكافرةِ في جميع أحوالها، ويستهدفُ هذا المخطَّطُ أن يجعلَ بأسَ المسلمين بينهم، فيذكِي أسبابَ الصراع بين المسلمين، ويُذكي أسبابَ الصراع بين الحكّام والرعية، ويريد أعداءُ الإسلام أن يجعلُوا بأسَ المسلمين بينهم وصراعهم بينهم.
وإنَّ واجبَكم ـ معشر المسلمين ـ أن تقِفُوا لِكلّ ما يضرُّ دينَكم بالتمسُّك بدينكم، وبالوقوف أمامَ الغزو الفكريّ، وهو التمسُّك بعقيدة الإسلام والاعتصامُ بكتاب الله وبسنّة رسول الله ، فإنه لا يُنجي من الغزو الفكريّ إلا أن يتمسَّك المسلمُ بدينه، وأن يرفُض ما يخالف دينَه جملةً وتفصيلاً، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]. فجهادُ النفسِ هو بحملِها على طاعةِ الله وإبعادِها عن معصية الله، وقال تبارك وتعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:109، 110]، وقال تبارك وتعالى: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم:46].
أيّها الناس، معشرَ شبابِ المسلمين، لو أنَّكم تدرِكون ما يُخطِّط لكم أعداءُ الإسلام ما عاونتموهم ولا ساعدتموهم على هدِم دينكم، وعلى الإضرار بمجتمعكم، وعلى أن تجعَلوا بَأسكم بينكم، فتوبوا إلى الله وارجعوا إليه، فإنّ الله تبارك وتعالى يقبَل التوبةَ عن عباده، واعلموا بأنَّكم مسؤولون عن أعمالِكم، ومسؤولون عن أفعالكم جميعها، والله عزَّ وجلَّ لا يخفى عليه مِن نياتكم وأعمالكم شيء، قال الله تبارك وتعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8]. فكونوا على حذَر من الشيطان الرجيم، وكونوا على حذرٍ من أعداءِ الإسلام، وكونوا على حذرٍ من أنفسكم، فإنَّ من أعداء الإنسان للإنسان نفسه.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلى عليَّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلم تسليمًا كثيرًا.
اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين...
(1/3242)
أسألك مرافقتك في الجنة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأعمال
محمد بن أحمد حسين الزيداني
رجال ألمع
23/1/1421
جامع الرصعة الجديد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمنية صحابي. 2- مطلب مرافقة النبي في الجنة. 3- السبيل لمرافقة النبي في الجنة. 4- فضل السجود لله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: كُنت أبيت مع النبي فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: ((سل)) ، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: ((أَوَغيرَ ذلك؟)) قلت: هو ذاك، قال: ((فأعني على نفسك بكثرة السجود)) رواه مسلم.
أيها الإخوة المؤمنون، مرافقة الحبيب في الجنة أعظِم بها من منزلة، هي مطلب كلّ مؤمن صادق، وغاية كل محب وامق، ما طلب ربيعة الأسلمي الجنة فحسب، لكنه طلب مرافقة الرسول في الجنة، ويا لها من مكانة سامية عالية، ويا لها من منزلة رفيعة غالية، الرفيق فيها صفيّ الله وحبيبه سيد ولد آدم أول من تنشق عنه الأرض الشافع المشفع يوم العرض أول من تفتح له أبواب الجنة نبيكم وإمامكم وقدوتكم محمد. وهنا يأتي السؤال ـ يا عباد الله ـ ليطرق كل الآذان، ويستقر في كل وجدان، يأتي السؤال ليقول: من الذي لا يتمنى مرافقة رسول الله في الجنة؟! وما من شكّ ـ أيها المؤمنون ـ أن أمنية الكل مرافقة رسول الله في الجنة. وسمع النبي من ربيعة حاجته فطلب منه المؤهّلات لذلك ودلّه على طريقها قائلاً: ((أعني على نفسك بكثرة السجود)). فيا من يريد تحقيق مناه، الأمنية وحدها لا تكفي لتحقيق الحاجات والمطالب، بل لا بد من بذل السبب، وما نيل المطالب بالتمني، وكم من وقت يضيع بين الأحلام والأماني.
أيها الناس، إنّ كلمة النداء الأولى: "الله أكبر" إيقاظ للنائم وتذكير للغافل وتعليم للجاهل ودعوة صادقة للاتصال بالكبير المتعال، تذكّر وأنت تسمع النداء مرافقة الحبيب في الجنة، دع كل الأشياء ولبِّ النداء، احرص على أداء السنة الراتبة، لا تقل تقدّمت أو تأخرت، تذكّر مرافقة الرسول في الجنة، لا تفتك صلاة الضحى قدر ما تستطيع من الركعات، هلا عملتَ ما عمله بلال رضي الله عنه حينما كان يتوضأ لكل حدث، وما توضأ إلا صلى بعد ذلك الوضوء لله، وإذا أرخى الليل سدوله واطمأنت الجنوب في المضاجع قبل أن تغمض عينيك نائما تذكر حاجة ربيعة، تذكّر أنها حاجتك، تهيأ قلبًا وروحًا للتقرب الليلي، ركعات في جوف الليل، يراك فيها ربك ورب النجم والليل، الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء:218، 219]، واختم صلاة الليل بالوتر، فربنا عز وجل يمتدح الساجدين: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان:64]، ويقول تبارك وتعالى: تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29].
يا مشتاقًا لمرافقة الحبيب في الجنة، اثبت واصبر وصابر ورابط، اجتهد ولو عانيت فإنّ حاجتك غالية، وأشواقك كبيرة، لو قطعت العمر الطويل ساجدًا ما وفيت مطلبك حقه، ورحمة الله قريب من المحسنين.
أيها المؤمنون، ذكّروا أهليكم في بيوتكم، بيّنوا لهم حرص صحابة الرسول الكريم على عدم الرضا بالقليل، بينوا لهم نظرتهم الصحيحة للحياة، وأنهم لم يحمّلوها ما لا تحتمل، وأنهم حريصون على الآخرة. بينوا لهم معنى مرافقة الرسول في الجنة، إنها ليست مرافقة أمير أو ملك من ملوك الدنيا في الدنيا، بينوا لهم أن الإكثار من صلاة النافلة بعد إتمام أداء الفريضة سبب مؤكّد لتحقيق مرافقة رسول الله في الجنة. استشعروا ـ أيها الناس ـ عظم مسئوليتكم، خططوا مع أهليكم لمواعيد الصلاة فرضًا ونافلة، حضّوهم على صلاة الليل والتهجد، ونشّئوا عليها أولادكم، تذكروا ـ أيها المسلمون ـ وذكِّروا أن الرسول يقول موصيًا أحد الصحابة وهي وصية عامة للأمة: ((عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة وحطّ عنك بها خطيئة)). ألا هل نصدق ـ يا عباد الله ـ في حرصنا على نيل هذه الفضائل؟! أنصدق إيمانًا والتزامًا وكثرة سجود لله؟!
ألا بلّغَ الله الحمى من يريده وبلّغ أكناف الحمى من يريدها
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أبان طريق الخير للسالكين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا رسول ربّ العالمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وتابعيه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن تمريغ الجبين لله عنوان الرفعة الدائمة والعزة الأبدية، ودليل ارتفاع في سماء الإيمان بالله وتحرّر من قيود الشيطان عياذًا بالله منه.
السجود تذلّل لله هو في معناه العز الدائم، خضوع له هو في معناه العلوّ، انكسار بين يديه هو في معناه السموّ، كفى بك عزًا أنك له عَبد، وكفى بك فخرًا أنه لك رب، قام الليل حتى تفطرت قدماه.
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وكان أبو بكر رجلاً قوامًا صوامًا، إذا قرأ القرآن لم يدر ما يقول من كثرة بكائه. وكان عمر يصلي بالناس العشاء ثم يدخل بيته فلا يزال يصلى إلى الفجر.
إن كنتم نوَّمًا فإن له رجالَ صدق به قد انفردوا
أيها الناس، كثرة سجود المرء لله في الليل والنهار مفتاح كنز عظيم، هو مرافقة الحبيب في الجنة، فلا تُحْرَمُوه يا عباد الله، ولا تضيّعوا المفتاح، تأكّدوا أنه معكم في الدنيا، احفظوه في قلوبكم، غالبوا على حفظه عدوكم. كثرة السجود لله سلاح، إذا حلت بك المنية وكنت كثير السجود لله اطمأن قلبك وعلا السرور محياك وملأت البسمة جوانحك.
لما حضرت ابن المبارك الوفاة تبسّم وتلا قوله تعالى: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [الصافات:61].
وتضحك للمنايا وهي تبكي لأنك قد حملت لها سلاحا
أيها الناس، لا تكونوا عزلاً من سلاح السجود لله، رشّحوا أنفسكم الآن أن تكونوا من مرافقي نبيكم في الجنة، وسلوا الله الثبات والعون على الطاعة والعبادة.
(1/3243)
اشترى الجنة مرتين
سيرة وتاريخ
تراجم
محمد بن أحمد حسين الزيداني
رجال ألمع
جامع الرصعة الجديد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثناء النبي على عثمان &. 2- مآثر عثمان وبلاؤه الحسن. 3- اشتراء عثمان للجنة مرتين. 4- الوظيفة الحقيقية للمال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].
أيها النّاس، عنوان خطبة اليوم: اشترى الجنة مرتين، ويا تُرى مَنْ ذلكم الثريُّ الغنيّ الموفّق؟ وكيف كان له ذلك؟ وعلى يد مَنْ كان العَقد؟ وهل للجنّة ثمن؟ وهل لنا أن نحذوَ حذوَ هذا الخيِّر المحظوظ؟ أما ذلكم العظيم حقًّا فهو أشدّ أمّة محمد حياءً، هو من تستحي منه الملائكة، هو رفيق نبينا محمد في الجنة، ذلكم هو عثمان بن عفان رضي الله عنه، ذو النورين، قال عنه : ((اللهم إني رضيت عن عثمان فارضَ عنه، غفر الله لك ـ يا عثمان ـ ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما هو كائن إلى يوم القيامة)). هو أحد العشرة المبشرين بالجنة وقال عنه : ((عثمان في الجنة)) ، وقال: ((رحمك الله يا عثمان، ما أصبت من الدنيا ولا أصابت منك)).
لما استقرّ الحبيب محمد وأصحابه في دار الهجرة المدينة المنوّرة نالهم العناء من قلة الماء، وكانت هناك عين ماء عذبة حلوة المذاق يملكها يهودي تدعَى بئر رومة، فقال : ((من يحفر بئر رومة فله الجنة)) ، وهنا تسلّل الشوق في قلب عثمان إلى الجنة، فليس له طلب سواها، ورشّح نفسه لنيل هذا الكسب العظيم، وساوم صاحب البئر أن يبيعها له فأبى، فطلب منه بيع نصفها، واشترى النصف باثني عشر ألف درهم، ثم اشترى النصف الآخر، وفاض الماء لأهل المدينة دون ثمن يُطال ويُنال، واحتسب أجرها على الله، وفاز عثمان رضي الله عنه، واطمأنت نفسه التي لا يرى لها منةً على مسلم، فليس له من البئر إلا ما لأقصى المسلمين.
وفي السنة التاسعة للهجرة يترامى إلى سمع النبي عزمُ هرقل الروم على غزو الجزيرة العربية قتلاً للدين الجديد بها وإبادةً للمسلمين، فينادي النبي الأكرم محمد في المسلمين، ولبُعد الشقّة يحدّد لهم النبي وجهته ليستعدّوا، فوجهتهم تبوك، والمسلمون يعانون القحط والجدب، وحرارة الشمس ملهبة، وصدر الصحراء هو طريق الرحلة الوحيد، فأين منه تحيد؟! وتستجيب النفوس المؤمنة، وتتقاطر الصفوف، ويأتي كلٌ بما تجود به نفسه من مال وعتاد، وامتدت أيادي التبرعات من الصغير والكبير، من الذكر والأنثى، حتى أن أبا بكر رضي الله عنه خرج من ماله كله، وعمر رضي الله عنه قدّم نصف ماله، ولكن لا غنى، إنّ هذه الآلاف المؤلفة والجموع المحتشدة في حاجة إلى زاد وعتاد، وأين منهم تبوك؟! والناس في عسر، حتى أطلق على الجيش جيش العسرة، ويطلّ عليه الصلاة والسلام إطلالة الصادق الوفيّ البر الرحيم إطلالة المدرك، إطلالة القائد المحنك الواعي إلى جموع المسلمين التي باعت لله الغالي والنفيس وأتت ملبية نداء الجهاد ويقول: ((من يجهز هؤلاء ويغفر الله له)) ، وينبلج الشوق في قلب عثمان رضي الله عنه كالنور، فمن ذا الذي لا يريد مغفرة الذنوب ودخول الجنة؟! وينقلب العسر إلى يسر، ويُفَرَّجُ الكرب، ويتّسع المضيق، وتمطر سحب الطمأنينة والهناء في نفوس جنود الإيمان.
القوس دائمًا في حاجة إلى الباري، والسهم في حاجة إلى الرامي، والخيل في حاجة إلى الفارس، والمشكلة في حاجة إلى الحلاّل، والكلمة في حاجة إلى اللسان، والأمة في ذلك اليوم وفي كل يوم في حاجة إلى ذي مال غني كريم كعثمان، وإلى قائد عظيم كمحمّد.
يقول خالد محمد خالد ـ رحمه الله وجميع موتى المسلمين ـ في كتابه خلفاء الرسول: "وهكذا وجدت العسرة الضاغطة عثمانها المعطاء، وقدم عثمان رضي الله عنه لجيش العسرة تسعمائة وأربعين بعيرًا وستين فرسًا أتم بها الألف كما يقول ابن شهاب، وجاء بعشرة آلاف دينار صبها بين يدي القائد الحبيب محمد ، وجهّز عشرة من القراء على حسابه، وجهّز الجيش كلّه حتى لم يتركه في حاجة إلى خطام أو عقال، حتى قال : ((ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم، اللهم ارضَ عن عثمان فإني عنه راض)). يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اشترى عثمان بن عفان من رسول الله الجنة مرتين: حين حفر بئر رومة، وحين جهز جيش العسرة.
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويدًا وتجي في الأوّل
أيها الناس، وما وقف العطاء العثماني عند هذا الحدّ، فعطاؤه وبذله وإنفاقه في سبيل الله تضيق بسرده الدواوين.
وها هي يمين الكرم العثماني تلوح لنا لاقتفاء الأثر، والسير على النهج، فكلنا أصحاب أموال ولو قَلَّتْ، وافتداء النفس ولو بالقليل مطلوب، فقدموا لأنفسكم، وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المزمل:20].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الوهاب الكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فيا إخوة الإيمان، ها هو عثمان رضي الله عنه كما في الموقفين السابقين يعلن للدنيا وظيفة المال الحقيقية ودوره الأكرم، فسابق به تجارةً رابحةً مع الله، وذلكم العطاءُ العثمانيُ المنقطعُ النظير يُلغي من حسابنا اللهث وراء ماديات الحياة، وجمع المال كذبًا أو زورًا أو اختلاسًا أو غشًّا أو سرقة أو خداعًا أو رِبا، نعم يذكرنا بأن المال مالُ الله ولو احتوته منا الخزائن.
فهل نصِل ـ أيّها الناس ـ إلى مرتبةِ الوعي بأنه ما كان للعبد أن يكون مالكًا؟! لا بد ـ إخوة الإيمان ـ أن نقوي في قلوبنا الإيمان، نعم نحن في زمن سار الناس لجمع المال وطاروا، ولفّوا مع الأسف وداروا.
لا ننس ـ أيها الناس ـ أننا في حاجة إلى أموالنا في الآخرة أشدّ من حاجتنا إليها في الدنيا، وأشد من حاجة عثمان رضي الله عنه إلى ماله، فعثمان رضي الله عنه صحابي في طليعة من أسلم، ثالث الخلفاء الراشدين، لقي الله صائمًا حيث كان يُمضي أكثر أيامه منذ أسلم صائمًا وأكثر لياليه قائمًا، لما ضربت كفهُ وأحس ألم الضربة قال: (والله، إنها لأول يد خطّت المفصّل وكتبت آي القرآن). عثمان رضي الله عنه لقي ربه شهيدًا، ضُرِبَ وهو يقرأ القرآن، فلما أيقن فراق الدنيا ولقاء ربه احتضن المصحف إلى صدره.
أيها الناس، إننا في حاجة إلى أموالنا في الآخرة أشد من حاجة عثمان رضي الله عنه، غدًا تتوزّعنا نحن وأسرنا زوايا وحفر الأرض، كل سَيُرتَهَن في حفرته، الأب في حفرة، والابن في حفرة، والأم في حفرة، والأخ في حفرة، والأخت في حفرة، ألستَ في حاجة إلى أقلّ القليل من الأجر في تلك الحفرة؟! ألسنا في حاجة إلى أموالنا إذا تمزقت منا الأوصال، وتباعد منا المقترب، وتفرق منا المجتمع، واتحد علينا الليل والنهار، ونسينا المعارف؟! عثمان رضي الله عنه اشترى الجنّة من رسول الله مرتين، فكم مرة شريت؟! لا تنس أن لديك مالاً، احسب منه نسبة دائمة لله تزيد ولا تنقص دعمًا لمجاهد أو كفالة ليتيم أو مواساة لمسكين أو كسوة لعار أو إطعامًا لجائع أو برًا بأقارب أو إجابةً لسائل، اغلب الأنانية، واهزم الشيطان، قال : ((لا يُخرج رجلٌ شيئًا من الصدقة حتى يفكّ عنها لحيي سبعين شيطانًا)) رواه أحمد والبزار والطبراني وابن خزيمة.
ألا صلّوا وسلموا ـ أيها الناس ـ على النبيّ الأمّي المجاهد المنفق محمد بن عبد الله بن عبد المطلب...
(1/3244)
أناس على منابر من نور
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, خصال الإيمان
محمد بن أحمد حسين الزيداني
رجال ألمع
جامع الرصعة الجديد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسلام دين المحبة والوئام. 2- فضل التحابب في الله تعالى. 3- السبيل للحب في الله تعالى. 4- الإعلان بالمحبة للمحبوب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، أشرقت شمس الإسلام على الدنيا سلامًا وحبا ومودة وصفاءً ووفاءً وصدق إخاء، يتنقل المسلمون بين أضوائها من ضوء خير إلى آخر، ومن إشعاع فضل إلى آخر، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4].
أيها الناس، والمتحابون في الله ولله ينالون فضل الله، ويبقى الحب لله سلمًا متينًا يرقى به المحب إلى رضوان الرحمن، وركنًا ركينًا يقوم عليه في قلب المحب صرح الإيمان، بل ويذوق به المحب حلاوته. بالحب في الله يزداد إيمان العبد، وتتسع في أعماقه دائرة الصفاء، وتورق وتزهر وتثمر في ذاته شجرة الوفاء، النسب متصل بينه وبين الجمال الروحي سلامةً في الصدر ونقاء في الضمير، لا تطوف في سماء نفسه للكراهية أو للبغضاء أو للحقد سحابة، ولا تجري ربابة، ولا تحوم ذبابة، بل الطهر عنوانه، والود ميدانه، والطيب لسانه، والشوق إلى رضوان الله جنانه.
أيها المسلمون، حين يحب المسلم أخاه المسلم حبًا طاهرًا نظيفًا لله وفي الله، ليس لأجل دنيا وما يتبعها من منصب ومال ومصالح أخرى، وليس لأجل قرابة أو منفعة أو أرحام بينهما، فهو محروس ومحاط بمحبة الله له، مكرمٌ بإكرام الكريم رب العرش العظيم، يقول النبي فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: ((حقت محبتي للمتحابين فيّ، وحقت محبتي للمتزاورين فيَّ، وحقت محبتي للمتباذلين فيَّ، وحقت محبتي للمتواصلين فيَّ)).
يا محبًا في الله، أحبك الله في دنياك وأخراك فاهنأ، أحببت له وفيه فأحبك، والجزاء من جنس العمل، تحيا في الدنيا حبيبًا لله لأنك أحببتَ له، تموت حين تموت حبيبًا لله لأنك أحببتَ له، تكون في قبرك حين تكون حبيبًا لله لأنك أحببت له، تبعث حين تبعث حبيبًا لله لأنك أحببتَ له، تقف في العرض حين توقف حبيبًا لله لأنك أحببت له. حين يكون الناس في العرض، ولا ظل إلا ظل الله، يكون من بين من يظلهم الله في ظله: رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، بل إن الله تعالى يقول يوم القيامة كما يروي أبو هريرة رضي الله عنه أن الرسول يقول: ((إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)) رواه مسلم.
أيها الناس، أي منزلة أسمى وأي إكرام أوفى وأي عطاء أعلى من هذا العطاء؟! تصور نفسك في ساحة العرض، والشمس قد دنت من رؤوس الخلائق، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وبينا الناس في هذا الموقف العصيب إذ الرحمن ينادي ليثيب المتحابين فيه، ولا طلب لأحد في ذلك الموقف إلا في ظل ظليل، فيكون المتحابون في الله عند ذلك في ظل الرحمن.
يقول معاذ بن جبل سمعت رسول الله يحكي عن ربه يقول: ((المتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله)) ، ويقول النبي : ((يا أيها الناس، اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عز وجل عبادًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله)) ، فجاء رجلٌ من الأعراب من قاصية الناس، وألوى بيده إلى نبي الله ، فقال: يا نبي الله، ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله!! انعتهم لنا ـ يعني صفهم لنا ـ، فسُرَّ وجه رسول الله لسؤال الأعرابي، فقال رسول الله : ((هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها، فيجعل وجوههم نورا وثيابهم نورا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن المتحابين لترى غرفهم في الجنة كالكوكب الطالع الشرقي أو الغربي، فيقال: من هؤلاء؟ فيقال: هؤلاء المتحابون في الله عز وجل)).
أيها الأحباب، أرأيتم هذه الفضائل؟ أَوَيستغني مسلم عن محبة الله له في الدنيا والآخرة؟! أَوَيستغني مسلم عن أن يكون مع المحبين في الله على منابر من نور يوم القيامة، وجوههم نور، وثيابهم نور، يغبطهم النبيون والشهداء؟! أَوَيستغني مسلم عن مكانة عالية في الجنة يتراءاها الناس كالكوكب الطالع؟! لا، لا غنى لأحد عن هذه الفضائل، وما دام لا أحد يستغني عن فيض عطاء الله فلينقِّ الإنسان قلبه من الطباع البشرية، والتي تكون في مقدمتها غالبًا الأنانية، وليعلم أنه محاصر بأعداء ملازمين له، الشيطان يقعد للإنسان على كل طريق للخير يبعده عنه، والنفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، والهوى يتزيّن له، والدنيا تفتنه، وما عليه إلا أن يقهر طبع الضعف، ويدرك هذا الحصار وهذا العدوان، فيتحصن بالله، ويتقرب إليه بأداء الفرائض والنوافل، ويكثر من الاستغفار، ويلهج لله بالدعاء أن ينقّي قلبه، ويلينه للحق، ويذهب عنه غلظة الأنانية والحقد والحسد، ويطفئ عنه نار العداوات والمشاحنات.
على الإنسان أن يعود إلى شجرة الإيمان في قلبه، فيسقيها بماء الإحسان إلى الآخرين، والابتسام في وجوههم، ومدّ الكف لهم نوالاً ومصافحة، وإطلاق اللسان سلامًا وردًا للسلام، وأن يعود إلى صدره فينظفه بطرد الوسواس وإحسان الظن بالناس، كل هذا ليذوق العبد حلاوة الإيمان، فيكون حبه للآخرين في الله، ويا لسعادة من كان كذلك، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
اللهم اجعلنا من السعداء بطاعتك، اللهم طهّر قلوبنا من النفاق، وأعيننا من الخيانة، وألسنتنا من الكذب، وأعمالنا من الرياء، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي جعل الحب فيه سببًا لبلوغ رضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فيا أيها الناس، إن بنا ظمأً شديدًا إلى معين المحبة العذب الصافي النابع من تقوى الله، وإلام نبقى عن معين الحب وحياة المتحابين في الله في منأى الغرباء؟! وإلام بقاء كثير من القلوب معسكرات للأنانية، للأحقاد، للضغائن، للكراهية، للوحشية؟! إلى متى وسِباق الكثيرين دنيوي الأهداف والغايات؟!
أيها المسلمون، ها هي ثمار المحبة اللذيذة دانية، فلنقطف ولنتلذذ، وها هي سحابة المحبة الكريمة هامية فلنستمطر ولنغتسل ولنتطهر، وها هو روض المحبة الفينان شذي بهيّ فلنستظل ولنتعطر.
أحبّ نبينا محمدٌ معاذًا فأخذ بيده وقال: ((يا معاذ، والله إني لأحبك)) ، وأقول أيها الناس: لتهنأك محبة الرسول يا معاذ، قال : ((ثم أوصيك يا معاذ، لا تدعنّ في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح.
وكأن النبي يبين لنا فيما سمعنا أن من حق المحبوب على المحب أن ينصحه ويوجهه في الخير، ويقول : ((إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح، وإنما قال: ((فليخبره)) والله أعلم لتتّسع دائرة الحب، فلا مكان لسواه أصلاً، ولتترسّخ جذوره، ولتتعدّد أطرافه وتمتد ظلاله.
مرّ رجل بالنبي وعنده رجل آخر فقال الرجل الذي عند النبي: يا رسول الله، إني لأحب هذا، فقال له النبي : ((أأعلمته؟)) قال: لا، قال: ((أعلمه)) ، فلحقه فقال: إني أحبك في الله، فقال الرجل: أحبك الله الذي أحببتني له. رواه أبو داود بإسناد صحيح.
وهكذا حياة المحبين لله أيها المسلمون، إعلان للحب ونصح وتوجيه وإرشاد ووئام وسلام وصفاء ونقاء وعطاء رباني في الدنيا والآخرة.
أيها الناس، ألا ما أجلّ وأسمى وأهنأ حياة عنوانها الحب في الله، فلتكن حياتنا كذلك، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الحب فيه.
(1/3245)
إني رأيت البارحة عجبا
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
أحاديث مشروحة, الرؤى والمنامات, فضائل الأعمال
محمد بن أحمد حسين الزيداني
رجال ألمع
13/12/1418
جامع الرصعة الجديد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غاية المؤمن. 2- رؤيا نبوية عظيمة. 3- أسباب النجاة. 4- دعوة للتوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، يسعى المسلم الحقّ سعيًا حثيثا متواصلا يطلب النجاة من عذاب الله، يؤمِّل الفوز برضوان الله، وإن هذه لغاية كلّ طالب، ومؤمَّل كل راغب، أوَليس طلب النجاة من عذاب الله ـ أيها المسلمون ـ غاية مطلبكم؟! بلى إنه المطلب الأساس والغاية الأسمى والأمل الأول. فيا إلهنا، ويا خالقنا، ويا من إليه يرجع الأمر كله، نسألك النجاة من العذاب، أرواحنا تحت أمرك، قلوبنا بين يديك، وكل أمرنا إليك، فبلِّغنا رضاك يا أكرم الأكرمين.
أيها الناس، والمؤمن حاله دائمًا كحال الغريب يسأل عن الدرب الذي يوصله إلى ما يريد، وهل للمؤمن مراد سوى الجنة؟! فإذا عرف المؤمن دربه لزمه، وثبت عليه، لا يحيد عنه، يسير فخورًا بسيره، مسرورًا بنهجه، لأنه الحق، ولأنه من الحق، ولأنه إلى الحق، ولو كان في ذلك حتفه وهلاكه.
ومما زادني شرفًا وفخرا وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرتَ أحمدَ لي نبيًّا
فإذا لقي ربه لقيه ناجيًا من الأهوال، لقيه محبًّا وافى الحبيب، لقيه على فاقة المشتاق، يتنفس الصعداء ليحطّ رحاله بإذن ربه في الجنة.
جزى الله الطريق إليك خيرًا وإن كنا تعبنا في الطريق
أيها المؤمنون، بين يديّ حديث قال عنه أحد الدعاة المعاصرين رحمه الله: إنه جليل القدر، عظيم الشأن، كثير الفوائد، ينبغي لكل مسلم حفظه وفهمه والعمل بما فيه من الخصال المنجية من عذاب الله.
إنه ـ يا عباد المولى الكريم ـ حديث رواه الحافظ أبو موسى المديني وقال: "حديث حسن جدًا"، وأخرجه الطبراني، وكان ابن تيمية قدس الله روحه يعظم شأنه، ويقول: "شواهد الصحة عليه".
عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله يومًا ونحن في صفّة المدينة فقام علينا فقال: ((إني رأيت البارحة عجبا، رأيت رجلاً من أمتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فجاءه برّه بوالديه فردّ ملكَ الموت عنه، ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين، فجاءه ذكر الله عز وجل فطرد الشياطين عنه، ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب، فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم، ورأيت رجلاً من أمتي يلتهب عطشا ـ وفي رواية: يلهث عطشا ـ كلما دنا من حوض منع وطرد، فجاءه صيام شهر رمضان فأسقاه وأرواه، ورأيت رجلاً من أمتي ورأيت النبيين جلوسا حِلَقا حلقا كلما دنا إلى حلقة طرد، فجاءه غلسه من الجنابة فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي، ورأيت رجلاً من أمّتي بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة وعن يساره ظلمة ومن فوقه ظلمة ومن تحته ظلمة وهو متحير فيها، فجاءه حجه وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور، ورأيت رجلاً من أمتي يتّقي وهَج النار وشرَرها بيده، فجاءته صدقته فصارت سترة بينه وبين النار وظلّلت على رأسه، ورأيت رجلاً من أمتي يكلّم المؤمنين ولا يكلّمونه، فجاءته صِلته لرحمه فقالت: يا معشر المؤمنين إنه كان وصولا لرحمه فكلّموه فكلّمه المؤمنون وصافحوه، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الزبانية، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من أيديهم وأدخله في ملائكة الرحمة، ورأيت رجلاً من أمتي جاثيا على ركبتيه وبينه وبين الله عز وجل حجاب، فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله عز وجل، ورأيت رجلاً من أمتي ذهبت صحيفته من قبل شماله، فجاءه خوفه من الله عز وجل فأخذ صحيفته فوضعها في يمينه، ورأيت رجلاً من أمتي خفّ ميزانه، فجاءه أفراطه فثقّلوا ميزانه، ورأيت رجلاً من أمتي قائمًا على شفير جهنم، فجاءه رجاؤه من الله عز وجل فاستنقذه من ذلك ومضى، ورأيت رجلاً من أمتي قد هوى في النار، فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله عز وجل فاستنقذته من ذلك، ورأيت رجلاً من أمتي قائمًا على الصراط يرعد كما ترعد السعفة في ريح عاصف، فجاءه حسن ظنه بالله فسكن رعدته ومضى، ورأيت رجلاً من أمتي يزحف على الصراط ويحبو أحيانًا ويتعلق أحيانًا، فجاءته صلاته عليّ فأقامته على قدميه وأنقذته، ورأيت رجلاً من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه، فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة)).
أيها المسلمون، سبع عشرة خصلة اشتمل عليها هذا الحديث، كلّ واحدة منها كانت سببًا في إسعاد صاحبها وإنقاذه من العذاب، فلنحمد الله عز وجل أن هيّأ لنا أسباب السعادة والنجاة من العذاب، ولنسر في حياتنا مقدّرين فضل الله علينا، طالبين منه العون للتوفيق عملاً بما يرضيه؛ صلاةً وصدقة وصيامًا وحجًا وعمرةً وذكرًا لله وبرًا بالوالدين وصلة للأرحام واغتسالاً من الجنابة وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر وحسنَ خلق وخوفًا من الله وصبرًا على موت الأولاد الصغار ورجاءً لرحمة الله وبكاءً من خشية الله وحسنَ ظن بالله سبحانه وصلاةً على النبي وشهادةَ أن لا إله إلا الله، إذ في الالتزام بهذه الأشياء فضلٌ عميم وأجر عظيم، فكونوا من أهل الفضل والأجر.
إذا المرء لم يلبس ثيابًا من التقى تقلّب عريانًا وإن كان كاسيا
وخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصيا
أيها المسلمون، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].
اللهمّ إنا نسألك موجباتِ رحمتك، وعزائم مغفرتك، والعزيمة على الرشد، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله سهل لنا سبل الخيرات، وحذرنا دروب الزلات والسيئات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وتابعيه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها الناس، علمنا متيّقنين بفضل الله بعضَ أسباب النجاة من العذاب، وإذا كان تأكّد لنا ذلك فلا تنسَوا ـ أيها المؤمنون ـ قول الحق عز وجل: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل:14-16]. فإذا كذّب القلب بخبر الله ورسوله وأعرض البدن عن طاعة الله ورسوله فقد قامت أسباب العذاب، فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
والفرصة الوحيدة للمكذّبين والمعرضين متحقّقة في حياتهم الدنيوية، ألا وهي التوبة قبل أن تصل الروح الحلقوم. في الدنيا يصنع الإنسان مصيره الأخروي، إما سعيد وإما شقي، إما منعَّم وإما معذَّب، إما طليق وإما سجين، إما من أهل النجاة والفوز والرضوان والجنان وإما من أهل العذاب والرسوب والخسران والنيران.
أيها الناس، قبل أن يُقضى الأمر وقبل أن تُطوى الأوراق وقبل أن تسقط ورقة العمر من شجرة الحياة وقبل انتهاء مرحلة العمل قبل الموت أدركوا أنفسكم بالسير في دروب الفلاح، هذه حبال النجاة مشرعة بين أيديكم فاستمسكوا، عضّوا عليها بالنواجذ، صحّحوا الخطأ، وأزيلوا عن الدرب الأشواك، لا ترضوا ـ يا أهل الخير ـ لأنفسكم الشر، ولا تقنعوا ـ يا أهل المعالي ـ بالدون، اليوم اختبار والنتيجة في الغد، فاحذروا عار غدٍ، وإنّ غدًا لناظره قريب.
(1/3246)
في طليعة عام هجري
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
محمد بن أحمد حسين الزيداني
رجال ألمع
5/1/1422
جامع الرصعة الجديد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذكريات العام الجديد. 2- المهاجرون في سبيل الله تعالى. 3- التأريخ الهجري. 4- اغتنام السلف الصالح لأعمارهم. 5- تضييع شباب اليوم لأعمارهم. 6- صوم يوم عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، هذه طليعة أيام عامِنا الهجري الجديد، ها نحن نتفيأ ظلالها، وها هي تلبسنا من سنا ذكرياتها المشرقة أنوارا، إنها أيام تحكي الهجرةَ والتاريخ، هجرة النصر وتاريخ النصر، وما كان للنصر تاريخًا وهجرة إلا أن يسطّر أحداثه بمدادٍ من نور لتقرأه الأجيال عِطرًا لا يموت شذاه، ولا يجفّ نداه، تقرأه عزةً لا تذلّ، وقوةً لا تضعف، وعمرانًا لا يخرب، وشمسًا لا تغيب، وجمالاً لا يتشوّه على مر الدهور، وهكذا فكلّ شيء لله يبقى خالدًا وجميلاً، أين عشاق الخلود والجمال؟! أين عشاق العزة والبناء؟! أين عشاق السيادة والريادة؟! إن هلال الشهر الأول من عامنا الهجري وهو يبدو أمامنا على صفحة الكون العليا ليحملنا على جناحي العظة والعبرة وكأنه يقول لنا: أتيت شهيدًا كما مضى العام الراحل شهيدًا، وإنه كذلك ليعيدُنا إلى بدايات إشراقات تاريخنا كمسلمين، يعيدُنا إلى ما قبل اثنين وعشرين وأربعمائةٍ وألف عام، حين اشتدّت الوطأة الكافرة على المسلمين الأوائل. نعم إنه ليوقفنا على مشاهدِ مكة ودُورها وطرقاتِها وهي تخنق صوتَ الحق، وتمحو خطواته، وتضع العراقيل في طريقه، وتعذّب الركَّعَ السجود، ويوقفنا أيضًا على دَور عظيمِ الدنيا ومنقذ البشرية وزعيم الإنسانية محمدٍ وهو يفتح لأصحابه الأوفياء باب جهاد النفس الشاقّ هجرةً إلى الله، فتسيلُ بهم مساربُ مكة فارّين بدينهم من كيد الكائدين وظلم الظالمين، انطلقوا وكلّ منهم يحمل في صدره قوة جيش عرَمرَم بإيمانه العظيم، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
تركوا إذ خرجوا فلذات أكبادهم وكل أهليهم ودورهم وأموالهم، تجردوا من كل هذه العلاقات جميعًا وخرجوا، تجردوا من كل عواطفهم تجاه ما يتعلق بهم من متاع، وتعلقوا بالله وكفى، وزادُهم الإيمان وكفى، لسان حال كل منهم يقول لمولاه:
أرضى رضاك ولو أدّى إلى تلفي وكل ما في رضا الرحمن محبوب
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ... [القصص:5، 6].
إنّ هذه الأيام تذكّرنا الإمام عليه الصلاة والسلام وهو يؤكّد كل معاني الهجرة العظيمة، فيهاجرُ إلى حيثُ أذن له الله، وتكونُ الهجرة بذلك نصرًا لا يُهزم، وسيفًا لا يُثلَم، وخلودًا لا يهرَم، ومجدًا لا يُخرم، وتاريخًا بالخلود يتكلم، وبالحب والجمال يترنم، فكم تلا الهجرة من فتح لله مبين، علت به أصوات المؤذنين تكبيرًا وتهليلاً في كلّ قطر رفرفت عليه لا إله إلا الله، سَعُدَتْ به دنيا الناس، واطمأنت قلوبهم، وتآخت أرواحهم، أخوة دينية صادقة جرت دماؤها في كل وجدان، وخفق بها منهم كل جنان، أخوّة ما رأت فرقًا بين القرشي والفارسي والرومي والحبشي، أخوة وحّدت الصف باتحاد الهدف، وسارت بهم في أرقى صورة، أخوة طردت بنصرها الهزيمة، وغسلت بعزها الذل، ومحت بشرفها العار، وشدّت بتكاتفها أزر القوة.
يا أخي في الهند أو في المغرب أنا منك أنت مني أنت بي
لا تسل عن عنصري أو نسبي إنه الإسلام أمي وأبي
أيها المسلمون، ليس غريبًا أن يكون حدث هجرة النبي بداية وأساسًا للتاريخ الإسلامي باعتمادٍ موثق ممن هاجر لله علانية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكن الغريب المؤسف المخجِل المبكي حقًا أن يتناسى ويتجاهل كثير من المسلمين تأريخهم ذلك، وكأنهم ليسوا من أتباع إمام المهاجرين محمدٍ.
أيها الناس، والله إن العين لتدمع ألمًا وأملاً وشوقًا وحنينًا ونحن نقلّب ونقرأ صفحات تاريخنا البيضاء وهي تحمل إلينا كالزهر شذى وعطرَ أصحابها من أسلافنا وآبائنا العظماء، وما قدّموه نصرةً لله وإعلاءً لكلمته، راضين بوعد الله لهم، وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:100].
أيها المسلمون، ولم لا تتقّطع القلوب أسًى ونحن نرى أعمارنا تنطوي؟! نقطع في كل يومٍ مرحلة ولم نقدم في خدمة العقيدة مثقال ذرة، ولم نُشهد أيامنا بشيءٍ من ذلك، ولم نسجّل تاريخنا بعد، وكأنه لا سباق لنا إلا في مجالات إشباع شهوات البطون والفروج، من أين لنا أيام نشتريها؟! من أين لنا لحظات نقتنيها؟! من يبيعنا شبابه؟! وهل لنا أن نشتري إذا قامت السوق؟!
مِن شباب المسلمين الأوائل من ابيضّت بأعمالهم صفحات تاريخهم، فمضوا عناوين للوفاء والحق، هذا قائد منهم للجيش وعمره سبعة عشر عامًا، وذاك تغسله الملائكة في صحاف الفضة بماء المزن بين السماوات والأرض، وذاك ترفعه الملائكة على سرير من ذهب، وذاك يهتزّ عرش الرحمن لموته، وذاك يرفض الولاية والإمارة زهدًا وخوفًا من الله، وذاك يموت في الأربعينات وله أكثرُ من خمسين مؤلّفًا في خدمة الإسلام، وغيرهم وغيرهم كثير. والكثير من المسلمين اليوم مع الأسف يتبارون في ميادين اللهو واللعب والانهماك في الدنيا وجمع الحطام، متنكرين لأمتهم، متناسين سرّ عظمتهم وخلودهم وسؤددهم، وجهُ أمتنا بهم مشوّه، وقلبها بهم جريح، وجسدها بهم ممزق، وعقد صفّها بهم منتثر، ما قدّموا لدينهم أو لأمتهم شيئًا، بل ما فكّروا أن يقدّموا، وكأنهم لا يعلمون أن أطفال أعدائهم فضلاً عن الكبار يتفنّنون بالنكاية بالمسلمين في أيّ مكانٍ أمكنت النكاية لمّا أصبحنا فعلاً أهون عليهم من الجعلان، ونحن في ليل غفلة لا يسمع ولا يرى ولا يتكلّم.
تعددت يا بني قومي مصائبنا وأقفلت بابنا المفتوح إقفالا
كنا نعالج جرحًا واحدًا فغدت جراحنا اليوم ألوانًا وأشكالا
أيها المسلمون، فليكن لنا من مرور الأيام والتاريخ اعتبار، يقول أحد العلماء: "إن المبادئ مهما كانت كريمة لا تنتصر وحدها، بل لا بد لها لكي تنتصر من جهادٍ مرير وكفاح شاقّ وعمل منظّم وتدبير محكَم، وعلى قدر ما تكون التضحيات يكون النصر، وبقدر ما تبذل تأخذ".
أيها الناس، إن الخطوة الأولى التي نتعلمها ونحن في طليعة عام هجري جديد أن نحيا أمناء على أيامنا، وأن نقتبس من أيام الضياء والألق والنور، وأن نهجر ما نهانا الله عنه، فإن فعلنا ألبسنا أنفسنا تيجان العزة دنيا وآخرة، والزمان شاهد، والعمر واحد، وبعد الحياة موت، والصدق مع الله يسجل تاريخ صاحبه بمداد الشرف.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، لقد حلّ علينا من أعمارنا ضيف فلنكرمه بصالح القول والعمل والنيات، إنه يحمِل لنا صفحاته البيضاء فلا نملأها إلا بما يزين. إن كثيرين مثلنا انتظروا وأمّلوا حلول هذا العام عليهم فما أدركهم، سبقت عليهم الآجال، وارتهنوا في قبورهم بما قدموه من الأعمال، ألا وإنّ الأليق بنا أن نشكر الله على هذه المهلة، ونستنقذ فيها أنفسنا، إذا كنّا أمهلنا حياة إلى الآن فلا أحد يملك ولو للحظة شهادة أمان، وإن أقوى الأقوياء أضعف من أن يدفع عن نفسه أقلّ من مثقال ذرة من قدر الله، فلنعتبر قبل أن نكون عبرة.
أيها الناس، شهرنا هذا شهر عظيم فاضل، ضمّ يومًا من أيام التاريخ الشاهدة بالنصر والتمكين لجند الله، والذل والهزيمة والعار لأعداء الله، يومَ عاشوراء، إنه يوم ارتفعت فيه راية الحقّ والهدى بقيادة نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام، واندحرت فيه راية الكفر والطغيان بقيادة عدوّ الله فرعون، يوم أعز الله فيه موسى ومن معه وأذل فرعون ومن معه.
وجدير بنا صيامُ ذلك اليوم شكرًا لله واقتداءً وتأسيًا بنبيّنا وقدوتنا محمد حين صامه وقال في فضل صومه: ((صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) رواه مسلم، بل ندبنا عليه الصلاة والسلام إلى أن نصوم معه يومًا قبله أو بعده مخالفة ً لليهود.
أيها الناس، فلنسِر على نهج نبينا عليه الصلاة والسلام، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [المائدة:92].
وصلوا سلموا ـ أيها المسلمون ـ على إمام المتقين وقدوة الخلق أجمعين.
(1/3247)
كم بقي من العمر؟
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, الموت والحشر
محمد بن أحمد حسين الزيداني
رجال ألمع
جامع الرصعة الجديد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سؤال ينبغي استحضاره. 2- سرعة انقضاء الأعمار. 3- التحذير من الغفلة. 4- أولى مراحل الحساب. 5- التحذير من تضييع الأعمار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، ما طلعت الشمس ولا غربت إلا لأمرٍ عظيم، وفي خضمّ الحياة ووسط أمواجها المتلاطمة بين لهيب آلامها ورقّة آمالها أوجّه سؤالَ ناصح، سؤال مشفِق يقول: كم بقي من العمر؟ ويا تُرى ما جواب الشيخ الكبير والطفل الغرير والشاب النضير؟ ما جواب الشيخ وهو كالغريب فارق جيله وأقرانه وكثيرًا من أهله؟!
إذا ذهبَ القرنُ الذي كنتَ فيهمُ وَخُلِّفْتَ في قرنٍ فأنت غريب
ما جواب الطفل الغرير وهو كالغريب يقف على رأس الطريق وكأنه يسأل عنها السالكين؟! وما جواب الشاب النضير وهو غارق في آمال وآلام الغرباء بين أمل يتزين به الغد وألم يعيشه الواقع؟! ويا لهول الفاجعة، ويا لعظم النازلة، لو تيقن أحدنا أنه بقي من عمره عشر سنين، وكيف بمن الحقيقة تقول: إن بقية عمره سنة أو أشهر أو أيام أو ساعات أو أقل؟! ومن يدري؟!
أيها الناس، هل نسينا أننا في كل يومٍ وليلةٍ نقترب من الموت أربعًا وعشرين ساعة، ونبتعد عن الدنيا أربعًا وعشرين ساعة؟! هل نسينا أن النفَس الواحد يخرج من أحدنا لا يعود، وأن الثانية الواحدة تمرّ محسوبة علينا ونحن غافلون؟!
ألا يا غافلاً يُحصى عليه من العمل الصغيرة والكبيرة
يُسار به ويُنذر كل حينٍ وقد أنسته غفلته مصيره
تأهب للرحيل فقد تدانى وأنذرك الرحيل أخٌ وجيرة
إلى متى أيها الناس نبقى ملاجئ للغفلة؟! إلى متى يحيا الكثيرون أمثلةً للضياع؟! إلى متى ونحن نتعامى ونتصامم عن حقائق العمر والحياة؟! إلى متى وكثيرٌ من الناس لا يدرون ما الهدف من خلقهم؟! لبسوا ثياب الغافلين، ساروا في ركاب الغافلين، بين أهواء وشهوات وشبهات، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1].
أيها الناس، بهذا النبأ الصارخ وبهذا الإعلان الهامّ بدأت سورة الأنبياء، اقترب الحسابُ ولستَ اليوم مثلك أمس، ولن تكون في الغد مثل اليوم، نقصت منك أشياء وأشياء بنِسبٍ ومقادير لا يعلمها عِلمًا حقيقيًا إلا الذي خلقك وأوجدك وصورك، يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8].
اقترب الحساب والنبي يقول كما روى الحاكم عن ابن عباس: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك)).
اقترب الحساب، وتبدأ أولى مراحِله عندما ينصرف الناس من دفنك يا مسكين، عندما تنفض وتغسل الأيدي من تراب قبرك، ينصرف الناس عن قبرك فتعاد روحك إلى جسدك، يعود الناس إلى بيوتهم وأنت مرتهن، أتنادي؟! وهل يجدي النداء؟! أتستغيث؟! أَوَتنفع الاستغاثة؟! لا، لا نداء، ولا إغاثة. عاد الآباء والأبناء والإخوان والأصحاب وأصدقاء الجلسات ورفقاء المصالح ومؤيدوك على المعصية كلهم تركوك وعادوا، عادوا وكان موتك لهم عظة فاستغلوا أعمارهم، أما أنت فبدأ الحساب معك، بدأ الحساب معك، ومن نوقش الحساب عُذَّب، اللهم حاسبنا حسابًا يسيرًا.
أيها الناس، اقترب الحساب والكثيرون ما يزالون ساهين غافلين لاهين بل ومصرين على المعصية. اقترب الحساب ولن يستطيع أحدٌ إيقاف ثانية من عمر الزمن. يا من لا يريد مغادرة دنياه قل للشمس لا تبرح، وللدهر يجمد، وللزمن يقف.
أيها الناس، وعاد السؤال ليقول: ماذا بقي من أعمارنا؟ بقي من أعمارنا وقتٌ عملنا فيه صالحًا، بقي من أعمارنا وقتٌ نويناه لله، بقي من أعمارنا وقتٌ ذكرنا فيه المولى، هذا هو الباقي من أعمارنا، فهل نعمر بقية الأعمار؟ أنستيقظ من الرقدة؟ أنودّع الغفلة؟ ما لنا ـ أيها المسلمون ـ نضيّع الفرصة المعطاة لنا، هل العمر المعطى لنا يحتمل الإسراف والتبذير والإهدار؟! لا والله، أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36].
ما قيمة العمر في الملاعب وفي السهر والسّمر الضائع وفي القيل والقال؟! التفتوا ـ أيها الناس ـ إلى لحظاتكم القادمة، إلى زمنكم المقبل، التفتوا إليه التفاتَ صادق يطلب النجاة من الأهوال.
والله لو عاش الفتى من عمره ألفًا من الأعوام مالك أمرِه
متلذّذًا فيها بكل لذيذةٍ متنعّمًا فيها بنعمى عصره
لا يعتريه السقم فيها مرةً كلا ولا ترد الهموم بفكره
ما كان ذلك كله في أن يفي بمبيت أول ليلةٍ في قبره
التفتوا ـ أيها الناس ـ لأنفسكم التفات مكرمٍ لنفسه، طالبٍ لها الفوز بالنعيم يوم الحساب، لا بد من الاستنفار لذواتنا، لا بد أن نكون على حالة استعداد في كل لحظاتنا القادمة، الألسنة ذاكرة، والقلوب شاكرة، والنفوس طاهرة، الأوقات والأعمار بالوفاء لله عامرة، إذا قرَّبتْ لنا الغفلة مراكبها قلنا: "لا، العمر نريده لنا"، إذا سنحت لنا فرصة المعصية قلنا: "لا، الطاعة أولى بنا"، نحاول دائمًا أن نبتعد عن ركب الضائعين اللاهين اللاعبين. صلاتنا صلاة مودّع، معاملتنا معاملة مودّع، أمورنا مرتبة على أمل اللحاق بمن أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ليجعلْ كل منا يوم وفاته بالنسبة له يوم عيد، ينعى الناعون، ويحزن المحزونون، ويعزّي المعزون، وهو في هناء وسرور، وفي استقبالات ملائكية وحفاوة ربانية، يستقبل الموت استقبال المحب حبيبه، يفارق الدنيا كالأسير فارق قيدَه، هل نكون كذلك أيها الناس؟!
ألا فلنصدّق الله في استغلال بقية العمر، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك فيه.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رسم للمخلوقات الآجال وحدّد الأعمار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يكور النهار على الليل، ويكور الليل على النهار، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها الناس:
إلى كم نقول ولا نفعل؟ وكم ذا نحوم ولا ننزلُ؟
ونهجر نفسًا فلا ترعوي ونغفل والموت لا يغفل
كأنّ بي قريبًا إلى مصرعي يُساق بنعشي ولا أمهل
ليقرأ كل منا ـ يا عباد الله ـ في ملامحه وقسمات وجهه مسافةً قطعها مقبلاً على الدار الآخرة، فمن كان الشيب غطاه، ومن نسجه قد كساه، فيا تُرى كم بقي من العمر؟ كم بقي وعمر نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث وستون سنة؟ من كان تجاوز هذه السن فليقدر النعمة، ولا يكن عبدًا للجرأة فيضيع ما أكرمه به الله، ومن كان اقترب من هذه السنّ فليكن اقترابه منها مقربًا له من الله، ومن كان أعجبه في المرآة رواؤه وشبابه ونضارته فليستغلّ الإمكان قبل أن لا يكون، فكم عصف الموت بغصنٍ كان زينة مكانه وحلية زمانه، وأنتم أدرى بما أعنيه.
أيها الناس، إن الذي بقي من أعماركم هو الخاتمة، فأحرزوا خاتمة الأعمار تحرزوا بإذن الله النجاة.
(1/3248)
من أسباب النجاة
الإيمان
خصال الإيمان
محمد بن أحمد حسين الزيداني
رجال ألمع
8/11/1421
جامع الرصعة الجديد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحرص على النجاة. 2- من حكم الزهاد. 3- ثمانية الأسباب للنجاة. 4- ترصّد الشيطان لبني آدم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وسيروا في دنياكم سير طلاب النجاة من الأهوال، فإنّ مدار الدنيا سعيٌ للنجاة في الآخرة، وهنيئًا لمن أُلبس ثياب النجاة. إن الاشتغال بما لا ينجي هلاكٌ يورد الهلاك، فاشتغلوا بما ينجيكم بين يدي الله ويقيكم سوء المصير، ليكن الاستغفار لكل منا لسانا، ولتكن التقوى لكل منا جنانا، وليكن الحرص على النجاة لكل منا جوارح ووجدانا، الجزاء ينتظرنا، واللحظة تطير بنا إليه.
أحد الزهاد يصاحب معلّمه ثلاثين سنة يطلب العلم منه، فيسأله معلّمه يومًا عمّا استفاده طيلة هذه الفترة، فيقول الزاهد: استفدت ثماني فوائد، هي زبدة الزبدة وخلاصة الخلاصة، وهي ما أرجو فيها الخلاص والنجاة. وها أنا ـ أيها المسلمون ـ أعرضها لكم اليوم لأننا جميعًا باحثون عن الفائدة المنجية، وحريصون على النجاة والفلاح.
قال التلميذ الزاهد لمعلمه: أما الأولى: فإني نظرت إلى الخلق فرأيت لكلّ منهم محبوبًا ومعشوقًا يحبه ويعشقه، وبعض ذلك المحبوب يصاحبه إلى مرض الموت، وبعضه يصاحبه إلى شفير القبر، ثم يرجع كله ويتركه فريدًا وحيدًا، ولا يدخل معه في قبره منهم أحد، فتفكرت وقلت: أفضل محبوب للمرء ما يدخل معه في قبره ويؤنسه فيه، فما وجدته غير الأعمال الصالحة، فأخذتها محبوبةً لي، لتكون لي في قبري أنيسًا وسراجًا منيرًا.
وأما الثانية: فإني رأيت الخلق يقتدون أهواءهم، ويبادرون إلى مرادات أنفسهم، فتأملت قوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40، 41]، وتيقنت أن القرآن حق صادق فبادرت إلى خلاف نفسي، وتشمّرت بمجاهدتها، وما متعتها بهواها، حتى ارتاضت بطاعة الله تعالى وانقادت.
وأما الثالثة: فإني رأيت كلّ واحد من الناس يسعى في جمع حطام الدنيا، ثم يمسكه قابِضًا يده عليه، فتأملت في قوله تعالى: مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96]، فبذلت محصولي من الدنيا لوجه الله تعالى، ففرقته بين المساكين ليكون لي عند الله ذخرًا.
وأما الرابعة: فإني رأيت بعض الخلق يظن أن شرفه وعزَّه في كثرة الأقوام والعشائر فاعتز بهم، وزعم آخرون أنه في ثروة الأموال وكثرة الأولاد فافتخروا بها، وحسب بعضهم أن العز والشرف في غصب أموال الناس وظلمهم وسفك دمائهم، واعتقدت طائفة أنه في إتلاف المال وإسرافه وتبذيره، فتأملت في قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فاخترت التقوى، واعتقدت أن القرآن حق صادق، وظنهم وحسابهم باطل زائل.
وأما الخامسة: فإني رأيت الناس يذم بعضهم بعضًا، ويغتاب بعضهم بعضا، فوجدت أصل ذلك من الحسد في المال والجاه والعلم، فتأملت في قوله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف:32]، فعلمت أن القسمة كانت من الله تعالى في الأزل، فما حسدت أحدًا ورضيت بقسمة الله تعالى.
وأما السادسة: فإني رأيت الناس يعادي بعضهم بعضًا لغرض وسبب، فتأملت في قوله تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6]، فعلمت أنه لا يجوز عداوة أحدٍ غير الشيطان.
وأما السابعة: فإني رأيت كلّ أحد يسعى بجدّ، ويجتهد بمبالغة لطلب القوت والمعاش، بحيث يقع به في شبهة وحرام ويذلّ نفسه وينقص قدره، فتأملت في قوله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، فعلمت أن رزقي على الله تعالى وقد ضمنه، فاشتغلت بعبادته، وقطعت طمعي عما سواه.
وأما الثامنة: فإني رأيت كلّ واحد معتمدًا على شيء مخلوق، بعضهم على الدينار والدرهم، وبعضهم على المال والملك، وبعضهم على الحرفة والصناعة، وبعضهم على مخلوق مثله، فتأملت في قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:3]، فتوكلت على الله وحده فهو حسبي ونعم الوكيل.
أيها المسلمون، خذوا بأسبابِ النجاة في كلّ حال، في كل مكان، في كل زمان. ها قد سمعتم أسباب النجاة مجملة في الفوائد الثمان، فاستفيدوا مما سمعتم، فقد قال المعلم لتلميذه بعد أن سمعها منه: "إني نظرت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان فوجدت الكتب الأربعة تدور على هذه الفوائد الثمان".
أيها الناس، تأكّدوا أن عدوّكم يمد شباك اصطيادكم من بين أيديكم ومن خلفكم وعن أيمانكم وعن شمائلكم ومن فوقكم ومن تحتكم في كل زمان ومكان فاحذروا. تأكّدوا أنّ كل مسلم مكلف في أمسّ الحاجة إلى طوق النجاة عند كل قول وعمل ونية وحركة وسكون، فتدرعوا النجاة لعلكم تفلحون.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله.
أما بعد: فيا أيها الناس، اسلكوا طرق النجاة، واصبروا على مصاعبها وعقباتها، وإذا اشتدّ بكم حر الهاجرة قولوا لأنفسكم: إنّ ظل العشية قريب، وإذا طال بكم ليل المعاناة قولوا: قريبًا يلوح فجر النجاة، واعلموا أنه من لم تكن النجاة عطاءً له أُعطي الهلاك، ومن لم يستغلّ مزرعة الحياة اليوم أتى عليه يوم الحصاد فقيرًا متسوّلاً، وصار فريسة للرّدى، ومن أصاخ سمعه للدنيا ولذائذها وشهواتها ومغرياتها وأهوائها أُنسي نفسه، ومن أُنسي نفسه هلك.
أيها الناس، هاكم حديثًا اختاره أحد أئمة الزهاد من بين أربعة آلاف حديث حيث وجد فيه نجاته، قال نبينا محمدٌ لبعض أصحابه: ((اعمل لدنياك بقدر مقامك فيها، واعمل لآخرتك بقدر بقائك فيها، واعمل لله بقدر حاجتك إليه، واعمل للنار بقدر صبرك عليها)).
أيها الناس، ألا وإن المقام في الدنيا قصير، والبقاء في الآخرة طويل، والحاجة إلى الله دائمة ، ولا صبر لأحد على حر النار.
(1/3249)
وبدأ العام الدراسي
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
محمد بن أحمد حسين الزيداني
رجال ألمع
3/6/1421
جامع الرصعة الجديد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاعتبار بتعاقب الليالي والأيام. 2- استقبال عام دراسي جديد. 3- الاستعداد للآخرة. 4- كلمة للمعلمين والمربين والآباء. 5- مسؤولية بناء الأجيال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، في دورة اللحظات والأيام وفي توالي الشهور والأعوام تتجدّد أمام نواظرنا معالم العبر، وتهز أعماقنا أيادي العظات، فأين منا الناظرون المتبصرون؟! وأين منا المتأثرون المتذكرون؟! إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
إذا كان لنا بالأمس موعد وداع لعام دراسي راحل، فلنا غدًا موعد آخر لاستقبال عام دراسي حالّ، وإن غربت بالأمس شمس نهاية المودَّع، ففي الغد تشرق شمس بداية الآتي، وهكذا تمضي بنا الحياة، ونبقى بين موقفَي وداع الزمان واستقباله، وشروقه وغروبه، وبدايته ونهايته، نبقى أغراضًا لسهام المنايا، وما كثرة صرعى المنايا عن اليمين منا والشمال ومن الأمام والخلف إلا دليل صدق على قرب إصابتها المقتل منا.
ألا أيها الغرَض المصاب، أيها المرمَى الذي أصبح سؤالَ سهامِ المنية، أدرك نفسك قبل أن يكون موتك الجواب، وقبل مفارقة الأحباب ومعاينة الحساب وسكنى التراب، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8].
أيها المسلمون، إن الاستعدادَ الكبير من أغلب الناس لاستقبال أول أيام الدراسة وما يصحبه من تغيير في جداول وأنماط حياة كثير من الأسر ليدعونا بلسان الصدق إلى أن نتعلم كيف نستعدّ صادقين للآخرة، وكيف نجتهد لتذليل كافة العقبات والصعاب في سبيل بلوغ الغاية السعيدة التي يريدها لنا الله، يعلّمنا كيف يجب أن يكون استعدادنا جازمًا للتغلّب على كل نوازع الشرّ، ويعلمنا كيف يجب أن ننظر إلى أحوالنا بإنصاف، وكيف نصحّح أخطاءنا، وكيف نضع حدًا لكل تافه ومحتقر في حياتنا.
أيها الإخوة المؤمنون، إذا كان أول أيام الدراسة هو الصفحة النقية الأولى من كتاب العام يهتمّ النجباء لأن يسجّلوا فيها ما ينفعهم ويفيدهم، وما يُعلي منازلَهم ودرجاتِهم في النهاية، ألا يليق بنا أن نمحو بالتوبة إلى الله ما سوّدت المعاصي من صفحات أعمارنا؟! ألا يليق بنا أن نبدأ حياتَنا صفحاتٍ بيضاءَ نقيةً في سجلات أعمارنا؟! ألا يليق بنا أن نكون ذلك النجيب الذي لا يسجّل إلا ما ينفعه، ويعلي مكانته، ويرفع درجاته، لنلقى الله بيض الوجوه؟! يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:106، 107].
أيها الناس، وغدًا تستأنف الطرقات سيرها بأكبادنا إلى المدارس، وغدًا تسيل الطرقات بأحفاد نبينا العظيم محمد إلى دور العلم، وغدًا تسيل الطرقات بأمل أمة الإسلام ومستقبلها المشرق ـ إن شاء الله ـ إلى دور التربية، وغدًا تسيل الطرقات بأبطال الغد، بكبار الغد، بحلم الغد، إلى دور المعرفة.
أيها المعلمون والمربون، تيقنوا وأنتم تستقبلون الطلاب كلّ يوم أنكم تُحَيُّونَ أملَ أمتنا وفجرَها الوضاء، ووجه صباحها المنير، ومستقبلها الحافل بالبناء والعطاء. وإنه ليكفيكم شرفًا أن تدرك طبقات المجتمع، وأن تدركوا أنّ على أيديكم تنال الأمة مناها، وتبلغ من العزّ ذروته، وفي كلّ خير قمته، إذا صدقتم أمانةً في الأمانة ورعايةً في الرعاية. من يصنع الجيل إلا أنتم؟! ومن يبني الحضارةَ إلا أنتم؟! فهنيئًا لكم. بصدقكم ينال الجيل منكم مبتغاه، ويبلغ بنيان الحضارة أعلاه، وَلِمَ لا والطالب في الحصة الثانية أكثر غنى منه في الأولى، وفي الثالثة أكثر غنى منه في الثانية، وهو في الغد أكثر غنى منه اليوم.
أيها الآباء، تذكروا وأنتم تزوّدون أولادكم إلى المدارس زادًا حسِّيا طعامًا وشرابًا وكسوة ووسيلة أن عليكم أيضًا أن تزوّدوهم زادًا معنويا، توجيهًا إلى الخير، ودعوة إليه، وحثًا لهم على كل أسباب البر، ليشبوا على مكارم الأخلاق وجميل الصفات، مطيعين لله ولرسوله، متقربين إلى الله.
أيها الآباء، أيها المعلّمون، إن العناية برياحين القلوب والأكباد مسئولية جسيمة، وإن الرعاية لأحفاد الحبيب محمد أمانة عظيمة، وأنتم جميعًا مشتركون في المسئولية، أنتم جميعًا على قمة هرم الرعاية للجيل، وأنتم جميعًا على قمة هرم المسئولية عنه، يقول : ((ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)) ، وفيه: ((والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عن رعيته)) رواه البخاري ومسلم.
أحسنوا البذر في حقول قلوب وعقولِ الناشئة لتحسن الثمرة وتطيب، ليكن أولادكم وطلابكم الصورة الحسنة لاهتمامكم، اجعلوا استثمار الجيل في الخير همكم الأول، تذكروا أن صدق رعايتكم للجيل تنجب النصر والظفر للأمة، احرصوا على صلاحهم، فإن العضوَ الصالح في ذاته صالح في مجتمعه وفي صفوف أمته، وسبب حيّ في إصلاح سواه، واعلموا أنه ما قام بنيان نفس إلا على عمود نصح وتوجيه ووصية، فأين منكم ذلك؟! وعندما يصبح الولد أو الطالب ضحية سوء التربية والإهمال تعظم جريمةُ الأب والمعلم.
أيها الآباء، أيها المعلمون، أثروا بالأجيال الأمة، إنها بهم الغِنى فأغنوها بهم، وإنها بهم القوة فزيدوها بهم، وإنها بهم الجمال فزيّنوها بهم، ألبسوها بهم تاج الظفر، أعيدوا بهم أفراحها من جديد، اخلعوا بهم عن وجهها حجاب الحزن، أزيلوا بهم عن أعماقها أسباب الضعة والضعف والهوان، انتزعوا الأجيال من بين ثنايا التجهيل والتضييع والتمييع انتزاعا، أضيئوا بهم الشمس، اتقوا الله فيهم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمد معترف بفضله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فيا إخوة الإسلام، ما تزال أمتنا الإسلامية في انتظار أجيالها البانية المؤمنة الصادقة عامًا إثر عام، ولقد طالت بها سنوات الانتظار حتى ملّها الانتظار وملّته، وحتى أصبحت حديث السخرية من أعدائها، أفما آن للآباء والمعلمين وكافة المربين أن يضعوا حدًّا لطول انتظار الأمة وسخرية أعدائها بها؟! هل يعلم هؤلاء جميعًا أنَّ عليهم أولاً أن يشعِلوا فتيل الحِرص في قلوبهم استثمارًا لطاقات الناشئة، وتنميةً لمواهبهم، وشحذًا لهممهم، وغيرةً على أجيال المسلمين وتاريخهم، ألا يدركُ المربّون جميعًا أن حضارتنا كمسلمين قائمة على العلم، وأن كلمة الوحي الأولى نزولاً على النبي محمد هي اقْرَأْ ؟! قال الله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق1-5]، هل ندرك ـ أيها المسلمون ـ سر هذا الافتتاح القرآني والتوجيه الرباني؟!
ما أروع المعلّمين وهم يستقبلون في معاقل التربية طلاب العلم بصدور الانشراح وقلوب البهجة والارتياح، للمرح الباني من ألسنتهم نصيب، وللفرح الهاني في أعماقهم وجيب، الجدّ لهم عنوان، والإخلاص لهم ميدان، يقوّمون سلوك طلابهم، ويهذّبون أخلاقهم، ويعطرون سيرهم.
وما أجلّ المربين جميعًا وهم يخرِجون للدنيا العقول الواعية والأفكار النيرة والقلوب الصافية، ما أسعد الأمة بشبابها المتعلمين وبرجالاتها الصادقين.
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، فنحن جميعًا في دائرة التربية والتعليم نسير.
وصلوا وسلموا على المعلم الأول مخرج الأمة من الظلمات إلى النور محمد بن عبد الله بن عبد المطلب...
(1/3250)
موقف المسلم من أصحاب الفتن
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
16/4/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شروط قبول العمل. 2- ضرورة مراقبة الأعمال. 3- الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا. 4- حبّ المسلم لأمته. 5- موقف المؤمن من الفتن والمحن التي تمر بالأمة. 6- كيد الأعداء بالإسلام والمسلمين. 7- نداء للزائغين المنحرفين عن الجماعة. 8- موقف المسلم من المستبيحين للدماء المعصومة. 9- وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جلّ جلالُه وهو أصدقُ القائلين: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].
أيّها المسلِم، في هذِه الآيةِ بيانٌ لشرط صحّة العمَل، وأنّ العمل لا يكون مقبولاً عند الله إلا إذا اجتمَع فيه الأمران:
أولاً: أن يكونَ خالصًا لله، بأن يكونَ هدف العامِل مرضاة الله والتقرّبَ إليه، لا يكُن هدفه رياءً ولا سمعةً، لكن يريد به وجهَ الله والدار الآخرة، فكلّ عملٍ لم يخلِص فيه العامل عملَه لله فعملٌ مردود عليه، في الحديث يقول : ((قالَ الله: أنا أَغني الشركاءِ عن الشرك، مَن عمِل عملاً أشرَك معيَ فيه غيري تركتُه وشركَه)) [1] ، وفي بعض الألفاظ: ((وأنا منه بريء)) [2].
وثانيًا: أن يكونَ هذا العملُ على وفقِ شرعِ الله، أي: على ما دلّ عليه كتابُ الله وسنّة محمّد ، فإذا كان العمل لا دليلَ عليه من كتابٍ أو سنة وكان مخالفًا للحقّ فعملٌ مردود غير معتبر، وفي الحديثِ عنه قال: ((من أحدَث في أمرنا هَذا ما ليسَ منه فهو ردّ)) [3] ، وفي لفظ: ((مَن عمِل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رد)) [4].
أيّها المسلم، إنّ اللهَ جلّ وعلا ما خلَقنا عبثًا، وإنما خلَقنا لغايةٍ عظيمة؛ تحقيقنا لعبوديّة الله جلّ وعلا، وأرسلَ الرسلَ ليعرِّفوا الخلقَ بذلك، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].
أيّها المسلم، قِف عند كلِّ عملٍ تريد عمَله، وأطِلِ الفكرَ والتأمُّل: هل هذا العملُ الذي تقدِم عليه عملٌ فيه مرضاةٌ لله أو عملٌ فيه سخَط وغضَب من الله؟ تأمّل قبل أن تعمل وفكِّر، واحذَر أن تكونَ أعمالك أعمالَ الخاسرين مِن حيث لا تشعُر، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104].
هؤلاء الخاسِرون حقًّا، عمِلوا أعمالاً وظنّوا أنهم على حقّ، وهم في الواقعِ على باطِلٍ وضلال، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. نعم، ضلَّ سعيهم لأنّ هذا العملَ على خلاف الحقّ، وعلى خلافِ الهدَى، وهم مع هذا يحسَبون أنهم يحسِنون صنعًا، فيعمَلون الباطلَ، ويستمرّون على الباطل، ويظنّون أنهم على حقّ، وهم في الواقِع على ضلال وخَطأ، وتلك عقوبةٌ من الله يعاقِب بها من صدَّ عن الحقّ وأعرضَ عن الهدَى، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ [فاطر:8]. زيِّن له الباطلُ فيراه حقًّا، زيِّن له المنكر فيراه مَعروفًا، زُيّن له القبيح فيراه حسَنًا، وتلك انتكاسةٌ في القلوب عياذًا بالله من ذلك.
أيّها المسلم، اعلَم أنّك جزء من أمّة الإسلام، وأنّ المؤمن حقًّا هو الغيورُ على دينِه، وهو الغيورُ على أمّته، وهو الذي يسعَى في إصلاحها، ويسعى في هدايتِها وتحقيق الخيرِ لها في العاجِل والآجل؛ ذلك أنه عضوٌ من هذه الأمة، يسرّه ما يفرِحهم، يحزِنه ما يسوؤهم، ولذا يقول : ((مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطفِهم كمثلِ الجسدِ الواحد إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالحمى والسهَر)) [5]. أجل ذلك المسلم الغيور على دينه، يسعى في الإصلاحِ قدرَ مستطاعه، يهدي الضالَّ إلى الخير، ويعلِّم الجاهل، ويبصِّر الأعمى، ويهدي الأمّةَ إلى الطريق المستقيم. إن رأَى خطأً أصلحه، وإن رأى خيرًا شجَّع وأعان، فهو دائمًا يسعَى في إصلاحِ الأمّة ما وجَد لذلك سبيلا. من خُلقه أنه لا يرضَى بالأذى على الأمة، ولا يقرّ الشرَّ والضرَر عليها، ولا تؤتَى الأمة من قبله، بل هو يسعَى في الخير جهدَه، ويبذل جهدَه وغايتَه في إصلاح وضعِ أمته واطمئنانهم وتحقيقِ الخيرِ لهم، هكذا المؤمن حقًّا.
أيها المسلم، تمرّ بالأمّة محنٌ عظيمة ومصائب كثيرة وفتن متنوّعة، هذه المحنُ والمصائب والفِتن التي تمرّ بالأمة هي ابتلاءٌ وامتحان ليظهرَ موقفُ المؤمن الحقّ الذي يريد الخيرَ ويهدِف إليه، فموقفُ المؤمن حقًّا من هذه المحن والمصائب والفتن موقفُ المؤمن الغيورِ على دينه موقفٌ متميِّز واضح جلِيّ، موقفُ من يسعَى في الخير جهدَه، موقفُ من يحرِص على لمِّ الشعثِ وتوحيد الصفِّ وجمع الكلمة والبعد عن ما يسبِّب الشقاقَ والنزاع.
أيّها المسلم، إنّ موقفَك من هذه المحنِ والمصائب موقفُ المؤمنِ الغيورِ على دينه، موقفٌ لا تنطلي عليه الشرور، ولا يروج عليه الباطل، ولا يخدعه الخادعون، ولا يضلّهُ الغواةُ المجرمون، بل هو ثابتٌ على بصيرتِه، مستقيم على دينِه، لا تزعزِع إيمانَه كثرةُ المخالف والمنازع، بل كلّما اشتدَّتِ الفتن وعظُمت المصائب ازداد بصيرة في دينه وتميزًا للحقّ من الباطل والهدَى من الضلال.
أيّها المسلم، موقفك ـ أيّها المؤمن ـ موقفُ الصادقِ الموقِن الذي عرَف الحقَّ فاستقام عليه.
أخي المؤمن، غيرُ خافٍ على كلّ مؤمن أنَّ أمةَ الإسلام دائمًا مستهدفةٌ من قِبل أعدائها، مستهدفٌ دينُها، مستهدَف أمنُها، مستهدَفةٌ أخلاقُها وقيَمها، مستَهدَفة بلادُها وخيراتها، مستهدَف كلُّ خيرٍ ومنفعةٍ فيها، فالدِّين مستهدَف، والأمنُ مستهدَف، والخيرات مستهدَفة، والطُّمأنينةُ والاستِقرار مستهدَف؛ لأنّ أعداءَ الإسلام لا يريدون للأمّة أن تعيشَ على خيرٍ وطمأنينة، لا يريدون ذلك، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ [البقرة:109]. فهم لا يريدون للأمّة أن يستقرَّ لها قَرار، أو تهدأَ لها حال، أو تستقيمَ لها مَعيشة، هذا أمرٌ يغيض أعداءَ الإسلام، فكم كادوا للإسلام وأهله المكائدَ، وكم أوقعوا بها البلايا، وكم مزَّقوا شملَها، وكم أفقَروا بلادَها، وكم نهبوا خيراتها، وكم أحدَثوا فيها ما أحدَثوا، لكن للأسفِ الشّديد أنَّ كثيرًا من بلائهم ومصائبهم الذي عجِزوا أن يتمكَّنوا به بأنفسهم تمكَّنوا بواسطةِ بعضِ أفرادِ الأمة الذين خُدِعوا وغرِّر بهم وزيِّن لهم الباطِل فظنّوا أنهم على حقٍّ وهم على غير هدى.
أيّها المسلم، يا من ابتُليت بهذه الغوايات والضَّلالات، ويا مَن أصِبتَ بتلك المصائب فزاغ قلبُك عن الهدى والتبس عليك الحقُّ من الباطل، راجع نفسَك، وعد إلى رشدِك، وتُب إلى الله من زلَلِك وخطئك، فباب التوبة مفتوحٌ لمن تاب وأناب، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ [الشورى:25]، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110]. إيّاك وأن تستمرَّ في ضلالِك وتبقَى في غوايتك، فتُب إلى الله، واحذَر أن تلقى الله وأنتَ مستبيح لدمِ مسلمٍ أو ماله أو عرضه.
أيّها المسلم، ما موقفك ممَّن سفكوا الدماءَ بلا حقٍّ وقتلوا النفوسَ المعصومةَ بلا برهانٍ ولا حجة؟ وما موقفك من أولئك؟ إنّ الموقفَ الصادق من المؤمِن أن يعلنَ براءته من أولئك، وأنّ هذه الجرائمَ جرائمُ منكرة وجرائم خبيثة، تخالف الشرعَ والشرعُ ضدّها بكلّ حال؛ لأنها ظلم والظلمُ حرامٌ حرّمه الله على نفسه وحرّمه بين عباده. فليكُن موقفك ممن استباحوا الدماءَ بلا حقٍّ موقفًا تعتقِد خطأَ أولئك، وأنّ ما أتوه منكَر لا يمكن أن يقبَل، وليس أيّ تأويل مقبولا لذلك، بل هو خطأٌ مِن أوَّله إلى آخِره، فإنَّ من يريد الإصلاحَ والهدى لا يسلُك سبيلَ الظلم والإجرام، وإنما ينصَح ويوجِّه ويهدي، أمّا سفكُ الدماء والتعدِّي على النفوسِ المعصومة فذاك أمرٌ يرفضه الشرع، فنصوصُ القرآن والسنةِ تدلّ على فساده، وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، في الحديثِ: ((مَن قتلَ معاهدًا لم يرح رائحة الجنة)) [6].
أيّها المسلم، موقفُك ممن يريدون أن يخلّوا بأمنِ الأمة ويسلبوا عنها تلك النعمةَ التي منَّ الله عليها بها ليكن موقفَ الحقّ أن تعلمَ أنّ من يريدون زعزعةَ أمن الأمة فإنما يريدون بها الشرَّ والبلاء، وليسوا على هدًى في تصرفّاتهم، بل هم على خطأ واضِح، ليكُن موقفك موقفًا واضحًا ممن يدمِّرون الممتلكات ويقضون على الخيرات، ليكن موقفُك ممن يحاوِلون تدميرَ اقتصادِ الأمة وإحداث البلبلة فيها والقضاء على كيانها وشَريان حياتها موقفَ المعادي لهم وأنهم لم يريدوا خيرًا ولم يقصدوا خيرًا.
ذلك ـ يا عباد الله ـ موقف المؤمن حقًّا، أن يحبَّ العدل ويرضى به، ويرفض الظلمَ ويأباه، ويعلم أنّ الظلمَ ظلمات يوم القيامة.
أيّها المسلم عليك أن تكونَ داعيًا إلى الله، مبصِّرًا لعباد الله، إن علمتَ من إنسانٍ شرًّا أو سمعتَ منه مقالاً سيّئًا عليكَ أن تبصِّر هذا المسلم، وأن تستنقِذَه من غوايته، وأن تأخذَ بيده، عسى أن يسمعَ قولَك، وعسى أن يصغي لنصيحتك، وعسى أن يتبيَّن له الرشد، فيرجِع عن ذلك الطغيان وعن الاستمرار في تلك الطرق السيّئة الملتوية.
يا أيّها المسلم، إنَّ المؤمنَ حقًّا يحرِص على حفظ الدماء والأموال والأعراض، ويحرِص على سلامة المجتمع المسلم وأمنه، ويحيطه بنصيحتِه وتوجيهه. هكذا المؤمن حقًّا، فلنكن جميعًا أعوانًا على البرّ والتقوى، لنستنقِذ بعضَ أفرادِ هذه الفئةِ الذين غرِّر بهم وزيِّن لهم الباطلُ، لندلَّهم على الحق ونأخذ بنواصيهم لما فيه صلاحُ الأمة وسلامتها، لنبيِّن لهم الأخطاءَ ونوضح لهم الضلال ونرشدهم إلى أن يكونوا حريصين على ما ينفعُهم في دينهم ودنياهم، فذا واجبٌ على المسلم؛ الآباء وغير الآباء، ليتعاون الجميعُ على الخير وفي سبيل إغلاق أسبابِ الشرّ والفتن، أعاذنا الله وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بط، وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولِسائر المسلمين مِن كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الزهد (2985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] هذه الرواية عند أحمد (2/435)، وابن ماجه في الزهد (4202).
[3] أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[4] أخرجه مسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها، وعلقه البخاري في كتاب البيوع وفي كتاب الاعتصام.
[5] أخرجه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الجزية (3166) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورَسوله، صلَّى الله عليه وعلَى آله وصَحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يَوم الدّين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ المؤمنَ له موقفٌ واضِح يدافِع به عن الأمّة، فهو يعلَم أنَّ [أهلَ] الجاهليةَ قبل الإسلام من أخلاقِهم عدمُ السمع والطاعة بعضهم لبعض، جاهليّة جهلاء، لا يحكمُها شيء، ولا تخضَع لقيادة، وإنما يحكمها القوة، فالقويّ دائمًا هو المتسلِّط، والضعيفُ لا قيمةَ له في مجتمعه، فجاءَ الإسلام، وأرشدَ الأمةَ إلى السمع والطاعة لمن ولاّه الله أمرَهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59].
فموقفك ـ أيّها المسلم ـ أن تبيِّنَ لمن ضلَّ عن الهدى ما دلّ الكتاب والسنةُ عليه من وجوبِ السمع والطاعة لمن ولاّه الله أمرَ الأمة، وأنّ في السمع والطاعةِ وانتظامَ الحياة وأمنها واستقرارها وطمأنينة الفرد والجماعة، وأنَّ في المعصيةِ والخروج عن السمعِ والطاعة، أنَّ في ذلك الفسادَ والضرَر والتفرُّق وسفكَ الدماء وانتهاكَ الأعراض ونهبَ الأموال، فالذين ـ والعياذ بالله ـ في قلوبهم مرض والذين لا يرَون السمعَ والطاعة لولاة الأمر أولئك ـ والعياذ بالله ـ قد زيَّن لهم الشيطان الباطل، اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:19].
فهؤلاء يجِب أن يوضَّحَ لهم ويبيَّن لهم الحقّ عسى أن يفهَموا ذلك ويعودوا إلى رشدهم ويعلموا أنّ ما هم عليه من عدمِ السمعِ والطاعة أنّ ذلك خطأ وخَلل في أمرِ الدين والدنيا. فلا بدّ من تعاوُن بين المسلمين وتناصُح بينهم وسعيِ كلٍّ منهم في إصلاح الآخر؛ لأنّ هذا أمرٌ مطلوب، والنبيّ يقول لنا: ((الدينُ النصيحة)) ، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسولِه وللأئمّة المسلمين وعامّتهم)) [1] ، فننصح عامّةَ الأمة، وننصَح مَن التبَس الأمرُ عليه إلى أن يعودَ إلى صوابه، ويعرفَ الحقَّ من الباطل، ويهتدي إلى الرشد، وربّك يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء. المهمُّ أن لا يقصِّر المسلم من نصيحةٍ يبديها وتوجيه وإرشاد لمن يرى أنه مخالف للحقِّ أو ساعٍ في الباطل حتى يتركَ باطلَه ويعودَ إلى الصراط المستقيم وتكون أعماله على وفق ما دلّ الكتاب والسنة عليه.
وأسأل الله للجميعِ التوفيقَ والهداية والعونَ على كل خير، إنّه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخيرَ الهديِ هدي محمّد ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضَلالة، وعليكم بجماعةِ المسلِمين، فإنّ يدَ الله على الجماعَة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصَلّوا ـ رحمكَم الله ـ على عبدِ الله ورسولِه محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (55) عن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه.
(1/3251)
من أخطاء المصلين في الصلاة (1)
فقه
الصلاة
عبد السلام بن محمد زود
سدني
مسجد السنة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الصلاة وضرورة معرفة أحكامها. 2- أنواع أخطاء المصلين. 3- عدم الطمأنينة في الصلاة. 4- الجهر بالنية والتلفظ بها. 5- عدم تحريك اللسان بأذكار الصلاة. 6- ترك رفع اليدين في مواضع الرفع. 7- إسبال اليدين. 8- الجمع بين القبض والوضع. 9- قول بعض المأمومين في الصلاة الجهرية "استعنا بالله" نحوها. 10- عدم رفع الإمام صوته بالتأمين. 11- عدم تأمين المأمومين أو عدم جهرهم بالتأمين. 12- مسابقة المأمومين لإمامهم في التأمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إخواني في الله، اتقوا الله تعالى، وحافظوا على أوامره، وأدوها كما أمركم الله ورسوله ، وتحروا الصواب في عباداتكم حتى تقبل منكم، وتعلموا أحكامها، وإن من أهم العبادات التي يجب أن تتعلموها وتعرفوا أحكامها وشروطها وأركانها ومبطلاتها بعد التوحيد هي أحكام الصلاة، كيف لا والنبي يقول: ((أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله)) رواه الطبراني في الأوسط عن أنس وصححه الألباني. فما ظنُّكم ـ إخواني ـ إذا جاء أحدنا يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى الحسنة، فينظر في صلاته فإذا هي فاسدة، فينظر في صحيفته هل فيها من نوافل حتى يجبر بها بعض خلل الصلاة، فإذا هو مقصر في النوافل أيضًا ومضيع لها، وقد وقع في أخطاءٍ أخلَّت بجوهر صلاته، فيا لها من خسارة وندامة يومها. أخرج البخاري في صحيحه عن زيد بن وهب قال: رَأَى حُذَيْفَةُ رَجُلاً لاَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، قَالَ: مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا عَلَيْهَا. ففي هذا الأثر العجيب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود، وأن الإخلال بها مبطل للصلاة، لأنه قال له: ما صليت.
إخواني في الله، وموضوع الصلاة لا تكفيه خطبة ولا خطبتان، ولكنها تذكرة بأهمية هذه الشعيرة ووجوب التفقه فيها، وقد ألفت والحمد لله كتب كثيرة مختصرةٌ ومطولة في أحكام الصلاة وأخطاء الناس فيها، ومن ذلك كتاب: صفة صلاة النبي للشيخ الألباني وابن باز وابن عثيمين رحمة الله عليهم أجمعين، وغيرها من الكتب النافعة التي تصوب أخطاء الناس في صلاتهم، ومنها كتاب: القول المبين في أخطاء المصلين، وهو كتاب موجود ومترجم إلى عدة لغات، فما ينقصك ـ أخي ـ إلا أن تقرأ لتتفقه في أحكام هذه الصلاة. وإذا كنت لا تحسن القراءة فاستمع إلى الأشرطة والمحاضرات التي تبين لك أحكام الصلاة وأخطاء الناس فيها.
وأخطاء الناس في الصلاة متنوعة ومتعددة، فبعضها يبطل الصلاة، وبعضها يُنقص من أجرها، وبعضها خلاف السنة، وسأذكر بعض الأخطاء التي يقع فيها الناس في صلاتهم، مع ذكر الصواب فيها إن شاء الله تعالى، فأعيروني أسماعكم وقلوبكم، وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه:
من هذه الأخطاء بل على رأسها والتي تبطل الصلاة بها وتجعلها غير نافعة لصاحبها عدم الطمأنينة فيها، فلا يطمئن في ركوعها ولا سجودها ولا جلوسها، بل ينقرها نقرًا، ولا يذكر الله فيها إلا قليلاً.
والطمأنينة ركنٌ من أركان الصلاة، لا تصح الصلاة إلا بها، فكما أن الصلاة لا تصح إلا بقراءة الفاتحة ولا تصح إلا بالركوع والسجود، فكذلك لا تصح الصلاة إلا بالطمأنينة. وكيفية الطمأنينة في الصلاة بيّنها النبي ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة أَنَّ النَّبِيَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ ، فَرَدَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ، فَقَالَ: ((ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ)) ـ أي: إن صلاتك باطلة ـ فرجع فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ فَقَالَ: ((ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ)) ثَلاَثًا، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي، قَالَ: ((إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا)). وإن المرء ليقف متعجبا ومندهشا أمام هذا المشهد، صحابي ـ يا عباد الله ـ وليس رجلا عاديا، بل صحابي يقول له النبي ثلاث مرات: ((ارجع فصل فإنك لم تصل)) فلماذا يا ترى؟ والجواب: لأن النبي رأى عليه بعض الأخطاء وبعض الأمور التي قد تركها فأبطلت صلاته، وكثير من المصلين اليوم إلا من رحم الله لا يحسن الواحد منهم أداء الصلاة تامَّة كاملة، كما يريدها رب العالمين، وكما صلاها رسولنا ، وعلمنا ذلك بفعله: ((صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)) متفق عليه من حديث مالك بن الحويرث ، فيقع كثير منهم في أخطاء، إما أنها تُبطل صلاتهم بالكلية والعياذ بالله، وإما أنها تُنقص من أجورهم. فإن الصلاة كما تعلمون شأنها عظيم في دين الإسلام، وميزانها جليل، ومنزلتها عند الله عالية، والصلاة مكيال، من وفَّاه وُفَّي أجره من رب العالمين، ومن طفف فيه فقد علمتم ما قال الله في المطففين.
إن الطمأنينة في كل ركن من أركان الصلاة ركن من أركانها حتى تُقضى الصلاة بالكلية، وليست الصلاة مجرد حركات لا يفقه المصلي فيها قولاً ولا يحسن دعاءً، ولا ترى إلا أجسادًا تهوي إلى الأرض خَفضًا ورَفعًا. فهل يرضيك ـ أخي المصلي ـ مثلا أن يصرف الله عز وجل نظره عنك وأنت تصلي؟! ففي مسند الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي هريرة أن النبي قال: ((لا ينظر الله إلى عبد لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده)). والآن نشرع في ذكر بعض الأخطاء التي يقع فيها بعض المصلين فأقول وبالله التوفيق:
من هذه الأخطاء جهر بعض المصلين بالنية عند ابتداء الصلاة، فتسمع أحدهم يقول: "نويت أن أصلي صلاة الظهر أداء لله تعالى" أو نحو ذلك مما تقولون أو تسمعون ممن يصلي بجانبكم. وهذه بدعة وخطأ يجب تركها وعدم فعلها، لأن رسول الله لم يفعلها، ولم يأمر بها، ولا فعلها صحابته من بعده، يقول النبي كما في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب : ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِ امْرِئٍ مَا نَوَى)).
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "كان إذا قام إلى الصلاة قال: ((الله أكبر)) ولم يقل شيئًا قبلها، ولا تلفَّظ بالنيَّة البتة، ولا قال: أصلي لله صلاة كذا مُستقبل القبلة أربع ركعات إمامًا أو مأمومًا، ولا قال: أداءً ولا قضاءً ولا فرض الوقت، وهذه عشرُ بدع، لم يَنْقُل عنه أحد قط بإسنادٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ ولا مسنَدٍ ولا مرسلٍ لفظةً واحدةً منها البتة، بل ولا عن أحدٍ من أصحابه، ولا استحسنه أحدٌ من التَّابعين، ولا الأئمة الأربعة" [زاد المعاد (1/201)]، وقال ابن أبي العزِّ الحنفي: "لم يقل أحد من الأئمة الأربعة، لا الشّافعيُّ ولا غيره باشتراط التلفّظ بالنيَّة، وإنما النيَّة محلُّها القلب باتفاقهم" هذه واحدة من الأخطاء.
وكذلك من أخطاء المصلين التلفظ بالنية سرا، وهذا كذلك لا يجب عند الأئمة الأربعة وسائرِ أئمة المسلمين، ولم يقل أحد بوجوبه، لا في الطهارة ولا في الصلاة ولا في الصوم. سأل أبو داود الإمام أحمد فقال: يقول المصلي قبل التكبير شيئًا؟ قال: لا. قال السيوطي: ومن البدع أيضًا: الوسوسة في نية الصلاة، ولم يكن ذلك من فعل النبي ولا أصحابِهِ، كانوا لا ينطقون بشيء من نية الصلاة بسوى التكبير، وقد قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]. وعلى هذا جاءت الأدلة من السنة النبوية، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ رَسُولُ اللّهِ يَستَفْتِحُ الصَّلاَةَ، بِالتَّكْبِيرِ. رواه مسلم. وقال للمسيء صلاته: ((إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ)) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
فهذه النصوص الصحيحة الصريحة ومثلها كثير تدل على أن النبي كان يفتتح الصلاة بقوله: ((الله أكبر)) وأنه لم يقل قبلها شيئًا، وأكّدَ ذلك النووي في كتابه المجموع عندما حكى إجماع العلماء على أنه إذا خالف اللسانُ القلبَ فالعبرة بما في القلب لأنه الأصل. وإني لأسأل بهدوء كل أخ كريم يتلفظ بالنية ويقول: "نويت أن أصلي الصلاة الفلانية لله تعالى" وما شابه ذلك، أسأله: لمن تقول هذا القول؟ لله تعالى!! اعلم ـ أخي ـ أن ذلك يُعدّ استخفافًا بعلم الله الذي يعلم السرائر وما تخفيه الضمائر، وهو سوء أدب مع الله تعالى، وانتقاص لعلمه الغيب ومعرفته بما كان وبما سيكون، أفتظنّ أنه يخفى عليه ما تريد القيام به من وضوء أو صلاة أو صيام؟! ولهذا قال الله تعالى: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحجرات:16].
نخلص مما تقدم ـ إخواني ـ إلى أن نصوص العلماء على اختلاف الأمصار والأعصار على أن الجهر بالنيَّة بدعة، فمن كان منكم معتادا على الجهر بها أو النطق بها سرا فليتوقف عن ذلك جزاه الله خيرا، وليقتصر على نيته التي في قلبه، وهي أنه يريد الصلاة أو الوضوء أو الصوم وهكذا.
ومن الأخطاء الشائعة في الصلاة أيضا عدم تحريك المصلي لسانه في التكبير وقراءة القرآن وسائر الأذكار، والاكتفاءُ بتمريرها على القلب، فتراه واقفا في صلاته هكذا بدون أن يحرك لسانه أو شفتيه، وكأن الصلاة أفعال فقط، وليس فيها أقوال ولا أذكار، علما بأن النصوص الشرعية في الكتاب والسنة جاءت مؤكّدة على النطق، قال تعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ [المزمل:20]، وقال النبي للمسيء صلاته: ((ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ)) ، وأقلها فاتحة الكتاب، ومن مقتضيات القراءة في اللغة والشرع تحريك اللسان كما هو معلوم، ومنه قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة:16]، أما قراءة الرجل في نفسه بدون أن يحرك لسانه فليس بقراءة على الصحيح، لأن القراءة إنما هي النُّطق باللسان، وعليها تقع المجازاة، قال تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286]، وقال النبي : ((إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلَّمْ بِهِ)) متفق عليه من حديث أبي هريرة. قال النووي في المجموع: "وأما غير الإمام فالسنة الإسرار بالتكبير، سواء المأموم والمنفرد، وأدنى الإِسرار أن يُسمع نفسه... وهذا عام في القراءة والتكبير والتسبيح في الركوع وغيره والتشهد والسلام والدعاء، سواء واجبها ونفلها، لا يُحسب شيء منها حتى يُسمع نفسه، إذا كان صحيح السمع ولا عارض... هكذا نصَّ عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب، بل اشترط الجمهور أن يُسمع القارئ نفسه حيث لا مانع".
ومن الأخطاء ترك رفع اليدين عند التحريمة وعند الركوع والرفع منه وعند القيام إلى الثالثة، فبعض المصلين يترك رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، والكثير منهم يتركون رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه وعند أو بعد القيام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة، وكلّ هذا من الأخطاء التي يقع فيها بعض المصلين، ولعلهم يحتجون بأحاديث ليس لها أصل في دين الله عز وجل مثل حديث: ((من رفع يديه في الصلاة فلا صلاة له)) فهذا أخرجه الجورقاني في الأباطيل وقال: "هذا حديث لا أصل له"، وفيه المأمون بن أحمد كان دجالا من الدجاجلة، كذابا وضاعا خبيثا، فكيف نبني عبادة كهذه على مثل هذه الترهات؟! بل الثابت عن نبينا رفع اليدين، ففي صحيح مسلم عن مالك بن الحويرث أَنَّ رَسُولَ اللّهِ كَانَ إِذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذَنَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، فَقَالَ: ((سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ)) ، فَعَلَ مثْلَ ذَلِكَ. وروى مسلم أيضا عن نافع أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلاَةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ. وروى رفعَ اليدين من الصحابة نحو خمسين رجلاً، منهم العشرة المبشرون بالجنَّة. قال الإمام البخاري: "قال الحسن وحميد بن هلال: كان أصحاب رسول الله يرفعون أيديهم، لم يستثن أحدًا من أصحاب النبي دون أحد". وقال ابن القيم: "وانظر إلى العمل في زمن رسول الله والصحابةُ خلفه، وهم يرفعون أيديهم في الصلاة عند الركوع والرفع منه، ثم العملِ في زمن الصحابة بعد"، بل أخرج البخاري في جزء رفع اليدين عن مالك أن ابن عمر كان إذا رأى رجلا لا يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رماه بالحصى. وقال الإمام الشافعي: "لا يحل لأحد سمع حديث رسول الله في رفع اليدين في افتتاح الصلاة وعند الركوع والرفع من الركوع، لا يحل له أن يترك الاقتداء بفعله " ذكره السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (2/100).
فاحرص ـ أخي الكريم ـ على سنَّة نبيِّك ، وهي سنة متواترة على حدّ تعبير الإمام الذهبي، ودع عنك القيلَ والقال، وكثرةَ المراء والجدال تنجو بإذن الله.
وإتماما للفائدة فإن النبي كان يرفع يديه ممدودة الأصابع، لا يفرج بينها ولا يضمُّها، وكان يجعلهما حذو مَنكبيه، وربما كان يرفعهما حتى يحاذي بهما فروع أذنيه، وكان يرفع يديه تارة مع التكبير، وتارة بعد التكبير، وتارة قبله.
فاحرص ـ أخي ـ على سنة نبيك وارفع يديك عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وعند القيام إلى الركعة الثالثة بعد التشهد، وليكن رفعهما إلى محاذاة المَنكبين.
ومن الأخطاء إسبال اليدين، أو وضعهما على السرة أو تحتها، ففي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال: كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلاَةِ، وعن ابن عباس أن رسول الله قال: ((إنا معشر الأنبياء، أمِرنا أن نُؤخِّر سحورنا، ونُعجِّل فطرنا، وأن نُمسِك بأيماننا على شمائلنا في صلاتنا)) رواه ابن حبان في صحيحه. من هذين الحديثين يتبين لنا خطأ من يُرسل أو يُسدل يديه، إذ إن وضع اليد اليمنى على اليسرى من هدي نبينا وهدي الأنبياء قبله كما قال ابن القيم. [زاد المعاد (1/202)]، وقال ابن عبد البر: "لم يأت عن النبي فيه خلاف، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين".
ومن السُّنَّة وضع اليدين على الصَّدر، اليمنى على ظهر الكف اليسرى والرُّسغ والسَّاعد، فعن وائل بن حُجْرٍ قال: لأنظرنَّ إلى رسول الله كيف يصلي، قال: فنظرتُ إليه، قام فكبَّر، ورفع يديه، حتى حاذتا أُذنيه، ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفِّه اليسرى والرُّسغ والسَّاعد) رواه ابن خزيمة في الصحيح. وثبت عنه أنه كان أحيانًا يقبض باليمنى على اليسرى. رواه النسائي والدارقطني بسند صحيح.
ففي هذا الحديث دليل على أن من السنَّة القبض، وفي الحديث الأول الوضع، فكلٌ سنة. وأما الجمع بين القبض والوضع فبدعة، وصورته أن يضع يمينه على يساره، آخذًا رسغها بخنصره وإبهامه، ويبسط الأصابع الثلاث، كما في بعض كتب المتأخرين. كما في حاشية ابن عابدين، فلا تغتر به. ودلَّ الحديثان السَّابقان على أن وضع اليدين على الصَّدر هو الذي ثبت في السنة، وخلافه إما ضعيف أو لا أصل له. قال الشوكاني: "ولا شيء في الباب أصحَّ من حديث وائل بن حُجر المذكور" يعني في مكان وضع اليدين كما ذكرنا.
أسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم لطاعته واتباع هدي نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
ومن الأخطاء قول بعض المأمومين في الصلاة الجهرية حين يقرأ الإمام: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]: "استعنَّا بالله" أو "استعنا بك يا رب"، وقول بعضهم عندما يوشك الإمام على الانتهاء من قراءة الفاتحة: "رب اغفر لي ولوالدي" طمعا وظنا منه أن المأمومين يؤمنون على دعائه، ولم يدر المسكين أن المأمومين يؤمنون على دعاء الإمام: "اهدنا الصراط المستقيم"، ولم يخطر ببالهم لا هو ولا دعاؤه المبتدع في هذا الموطن.
ومن الأخطاء عدم رفع الإمام صوته بالتأمين عقب قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية، أجل إخواني، هذه من المخالفات، لأن السنة أن يجهر الإمام بـ(آمين) عقب قراءته للفاتحة، فعن أبي هريرة قال: كان رسول الله إذا فرغ من قراءة أُم القرآن رفع صوته وقال: ((آمين)) أخرجه ابن حبان في الصحيح. وترجم البخاري في صحيحه: "باب جهر الإمام بالتَّأمين"، وأورد فيه مجموعة آثار معلّقة وحديثًا مرفوعًا، فقال: "أَمَّنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَمَنْ وَرَاءَهُ حَتَّى إِنَّ لِلْمَسْجِدِ لَلَجَّةً" أي: صوتا مرتفعا. والجمهور على أن الإمام يجهر بالتأمين في الصلاة الجهرية كما ترجم البخاري، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَقُولُ: آمِينَ. رواه البخاري.
فنوصي كل من وقف إماما في المسجد أو في بيته أن يقول عقب الفاتحة: آمين، ويجهر بها، وإلا فكيف يعلم من وراءه من المأمومين بتأمينه إذا لم يرفع صوته به؟!
ومن الأخطاء أيضا عدم تأمين المأموم أو عدمُ جهره بالتأمين؛ لأن السنة كما قال : ((إذا أمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا)) ، فإن هذا يدل على وجوب التأمين على المأموم إذا أمَّن الإمام. وقال ابن حزم في المحلى: "وأما قول: (آمين) فيقولها المأموم فرضًا ولا بد".
ومن الأخطاء مسابقة المأمومين لإمامهم في التأمين؛ لأن السنة أن يؤمنوا معه ولا يسبقونه، والدليل ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي قال: ((إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا)). وأخرج البخاري في صحيحه أيضا عن أبي موسى أن النبي قال: ((وَإِذَا قَالَ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ فَقُولُوا: آمِينَ)). قال النووي: "فيه دلالة ظاهرة لما قاله أصحابنا وغيرهم: أن تأمين المأموم يكون مع تأمين الإمام لا بعده، فإذا قال الإمام: وَلاَ الضَّالِّينَ قال الإمام والمأموم معًا: آمين". فاحرصوا ـ إخواني ـ على أن تؤمّنوا مع الإمام لا قبله ولا بعده، لتنالوا مغفرة ما تقدم من ذنوبكم، كما قال : ((فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) رواه البخاري.
إخواني في الله، وفي نهاية الخطبة أذكر بأخطاء اليوم مجملة لتحفظوها فأقول: على رأس هذه الأخطاء والتي تبطل الصلاة بها عدم الطمأنينة فيها، فلا يطمئن في ركوعها ولا سجودها ولا جلوسها، بل ينقرها نقرًا، ولا يذكر الله فيها إلا قليلاً، والسنة أن تطمئن فيها لتقبل منك.
ومن الأخطاء الجهر بالنية عند ابتداء الصلاة، أو التلفظ بها سرّا؛ لأن النية محلها القلب، والتلفظ بها بدعة.
ومن الأخطاء عدم تحريك اللسان في التكبير وقراءة القرآن وسائر أذكار الصَّلاة، والسنة تحريك اللسان في كل ذلك.
ومن الأخطاء ترك رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وعند القيام إلى الركعة الثالثة، والسنة رفعهما في هذه المواضع الأربعة اقتداء بالنبي.
ومن الأخطاء إسبال اليدين في الصلاة، أو وضعهما على السرة، أو تحتها، والسُّنَّة وضعهما على الصدر، اليمنى على ظهر الكف اليسرى والرُّسغ والسَّاعد.
ومن الأخطاء الجمع بين القبض والوضع، والسنة القبض أحيانا، والوضع أحيانا أخرى.
ومن الأخطاء قول بعض المأمومين في الصلاة الجهرية حين يقرأ الإمام: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ : "استعنا بالله" أو "استعنا بك يا رب"، وقول بعضهم عندما يوشك الإمام على الانتهاء من قراءة الفاتحة: "رب اغفر لي ولوالدي"، والسُّنَّة الاستماع والإنصات.
ومن الأخطاء عدم رفع الإمام صوته بالتأمين عقب قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية، والسُّنَّة أن يرفع صوته بالتأمين.
ومن الأخطاء عدم تأمين المأمومين أو عدم جهرهم بالتأمين، والسُّنَّة أن يؤمنوا، بل ويجهروا بالتأمين.
ومن الأخطاء مسابقة المأمومين لإمامهم في التأمين، والسنة أن يؤمّنوا معه ليفوزوا بمغفرة ما تقدم من ذنوبهم.
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يفقهنا في صلاتنا، وأن يعيننا وإياكم على تصحيحها، وأن يتجاوز عما وقعنا فيه من أخطاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3252)
من أخطاء المصلين في الصلاة (2)
فقه
الصلاة
عبد السلام بن محمد زود
سدني
مسجد السنة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أخطاء في تكبيرة الإحرام وتكبيرات الانتقال. 2- ترك دعاء الاستفتاح والاستعاذة. 3- أخطاء في قراءة سورة الفاتحة. 4- أخطاء في التأمين. 5- أخطاء في صفة الرفع من الركوع. 6- مسابقة الإمام. 7- عدم إقامة الصلب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فخطبة اليوم تكملة لخطبة الجمعة الماضية والتي كانت ولا تزال بعنوان: (من أخطاء المصلين في الصلاة). ونظرا لضيق الوقت والموضوع طويل فإني سأبدأ في استكمال هذه الأخطاء، فأعيروني أسماعكم وأبصاركم وقلوبكم، لنفهم سويا ما ستسمعون، فأقول وبالله التوفيق:
ومن الأخطاء في النطق بتكبيرة الإحرام (الله أكبر) وتكبيرات الانتقال ما يلي: أولاً: إدخال همزة الاستفهام على لفظ الجلالة (الله)، فيقولون: (آلله أكبر) وهذا كفر لفظي، لأنه يستفهم: هل الله أكبر؟ ثانيا: إدخال همزة الاستفهام على لفظة (أكبر) فيقولون: (آكبر) فيكون: (آكبر) خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: أهو أكبر؟ وهذا كفر أيضًا، وهذان الخطآن سببهما المد الزائد في حرف الألف، لذلك قال النَّووي: "المذهب الصحيح المشهور أنه يستحب أن يأتي بتكبيرة الإحرام بسرعة، ولا يمدها. هكذا (الله أكبر)". ثالثا: زيادة واو بعد لفظ الجلالة (الله) فيقولون :(الله وأكبر) فانتبه لهذا وابتعد عنه.
ومن الأخطاء مسابقة الإمام في تكبيرة الإحرام، فبعض المصلين ـ هداهم الله ـ ونتيجة لعدم تركيزهم في الصلاة أو لعجلتهم الشديدة فإنهم يتعجلون بتكبيرة الإحرام قبل الإمام، وما عرف المساكين أن فعلهم هذا يبطل صلاتهم بالكلية، فضلا عن الإثم المترتب على ذلك، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "إذا سبق المأموم إمامه في الصلاة فإن كان سبْقُهُ إياه بتكبيرة الإحرام فصلاة المأموم غير منعقدة، وعليه أن يعيد الصلاة، ودليل ذلك قول النبي : ((إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا)) متفق عليه من حديث أبي هريرة ، فأمر بالتكبير بعد تكبيرة الإمام، فإذا كبَّر المأموم تكبيرة الإحرام قبل إمامه فقد فعل فعلا ليس عليه أمر الله ورسولِه" [فتاوى نور على الدرب ص 16]، فاحذر ـ أخي ـ أن تكبر قبل الإمام، وإلا بَطَلَتْ صلاتُك.
ومن الأخطاء جهر معظمِ المأمومين بتكبيرة الإحرام، حتى إنك ترى بعضهم يردّد تكبيرة الإحرام، ويلتوي حتى كأنه يحاول أمرًا فادحًا، أو كأنه يشرب أجاجًا مالحًا، فيقع في الخيبة والحرمان، ويبلغ الشيطان منه مراده، ويؤذي من حوله بالجهر بالتكبير وترديده، ويظنّ أنه لا يُسْمِع نفسَهُ إلا بذلك، فيتضاعف وزره، ولا حول ولا قوة إلا بالله. والسُّنَّة في تكبيرة الإحرام أن يجهر بها الإمام، ومن يبلّغ عنه إن كانت هناك حاجة، أما المأموم فلا يجهر بتكبيرة الإحرام أبدا، ولا بغيرها من التكبيرات، بل يقولها سرّا، فالزم ذلك ـ أخي ـ يكن خيرا لك في الدارين.
ومن الأخطاء ترك دعاء الاستفتاح والاستعاذة، هل تعلمون ـ إخواني ـ أن بعض عوام المصلّين يتركون دعاء الاستفتاح والاستعاذة ويبدؤون بقراءة الفاتحة مباشرة؟! والسُّنَّة بعد تكبيرة الإحرام الإتيان بدعاء الاستفتاح أوّلا: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالى جَدُّكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيرُكَ)) رواه أبو داود والحاكم وصححه وافقه الذهبي، ويكون في أول ركعة من الصلاة فقط، ثم الإتيان بالاستعاذة ثانيا: ((أَعُوذُ بِاللهِ السَّميعِ العَليمِ من الشَيطَانِ الرَّجيمِ، من هَمْزِهِ ـ أي: جنونه ـ وَنَفْخِهِ ـ أي: كبره ـ وَنَفْثِهِ ـ أي: شعره ـ )) رواه أبو داود وحسنه الحافظ ابن حجر، ثم البسملة ثالثا: (بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، والظاهر مشروعية الاستعاذة في كلِّ ركعة، لعموم قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل:98]، وهو الأصح في مذهب الشافعية، ورجحه ابن حزم في المحلى. [انظر المجموع للنووي 3/323]. فاحرص ـ أخي ـ على دعاء الاستفتاح في أول الصلاة، والاستعاذة والبسملة في كل ركعة قبل قراءة الفاتحة، جزاك الله خيرا.
أما الجهر بالبسملة والإسرار بها فالأمر فيه سعة كما قال ابن القيّم رحمه الله: "وكان يجهر بـ(بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) تارة، ويخفيها أكثر مما يجهر بها" [زاد المعاد 1/272]، فإذا سمعت ـ أخي ـ أحدا يجهر بها فلا تنكر عليه، وإذا أسرها فلا تنكر عليه، فكلاهما ثبت عن النبي ، لكن الإسرار بها أكثر.
ومن الأخطاء العجلة الزائدة في قراءة الفاتحة. إخواني في الله، مما أود التنبيه عليه، أن بعض المصلين يخالف السنة في القراءة، فيصل الآية بالآية الأخرى، وربما وصل ثلاث آيات أو أكثر مع بعضها البعض بِنَفَسٍ واحد، وهذا أمر وإن كان جائزا إلا أنه خلاف السنة، ففي سنن أبي داود عن أم سلمة رضي الله عنها أنها سئلت عن قراءة رسول الله فقالت: يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً، وفي رواية: كان إذا قرأ قَطَعَ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً، يقول: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثم يقف، ثم يقول: الْحَمْدُ لله رَبّ الْعَالَمِينَ ثم يقف، ثم يقول: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثم يقف، ثم يقول: مَالِكِ يَوْمِ الدِّيْنِ وهكذا إلى آخر السورة، وكذلك كانت قراءته كلها يقف على رؤوس الآي، ولا يصلها بما بعدها. رواه أبو داود وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ورواه أبو عمرو الداني في المكتفى.
والقراءة آيةً آيةً سنة تركها أكثر قرَّاء هذا الزَّمان، فتسمعهم يقرؤون الفاتحة حتى في الصلاة بِنَفَسٍ واحدٍ، لا يقفون على رؤوس الآي، أما عن العوام فالخطب أشد وأخطر؛ إذ إنهم كثيرو اللحن في قراءتها، وربما يُسقطون حروفًا منها، أو يبدِّلونها بأخرى: كأن يقولوا: "الهمد لله" بالهاء بدل الحاء، أو "الرهمن الرهيم" بالهاء بدل الحاء، أو يقولوا: "السراط" بالسين بدل الصاد، أو يقولوا: "الصرات بالتاء بدل الطاء، أو يقولوا: "الَّزين" بالزاي بدل الذال المعجمة، أو يقولوا: "الظَّالين" بالظَّاء بدل الضاد، أو يقولوا: "إياك نعبدوا وإياك نستعين" بزيادة واو في "نعبد"، أو يقولوا: "إِيَاكَ نعبد" بإسقاط الشدَّة في "إيَّاك" وإن قصد المعنى كفر، لأن الإياك هو ضوء الشمس، أو يقولوا: "وإيَّاك نستعيم" بالميم بدل النون، أو يقولوا: "اهدينا الصراط المستقيم" بزيادة ياء في "اهدنا"، أو يقولوا: "غير المغدوب عليهم" بإبدال الضاد دالا، أو يقولوا: "ولا الضاليم" بالميم بدل النون، أو يقولوا: "ولا الدالين" بالدال بدل الضاد.
هذا على صعيد الأحرف إبدالا أو زيادة أو نقصا، أما اللحن الخفيّ الذي لا ينتبهون له فكثير وكثير جدا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومنه: "الحمدُ للهْ ربْ العالمين" بإسكان لفظ الجلالة "الله" و"رب" بدل كسرهما "للهِ ربِّ"، وكذلك: "الرَّحمنْ الرَّحيم" بإسكان النون بدل كسرها، وكذلك: "الرُّحمنِ الرَّحيم" بضم راء بدل فتحها، وكذلك: "مالكْ يومْ الدّين" بتسكين الكل بدل الكسر، وكذلك: "إيَّاك نعبِدُ" بكسر الباء بدل ضمها.
إخواني، كانت هذه جملة من الأخطاء التي يقع فيها بعض المصلين في الفاتحة فقط، أما غيرُ الفاتحة فالله أعلم، لذلك أوصي الجميع بتعلم قراءة كتاب الله عز وجل، وعلى رأسه الفاتحة التي لا تصح الصلاة إلا بها، فخيركم من تعلم القرآن وعلمه، كما قال النبي.
ومن الأخطاء قول بعض المأمومين في الصلاة الجهرية حين يقرأ الإمام: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]: "استعنا بالله" أو "استعنا بك يا رب"، وقول بعضهم عندما يوشك الإمام على الانتهاء من قراءة الفاتحة: "رب اغفر لي ولوالدي" طمعا وظنّا منه أن المأمومين يؤمنون على دعائه، ولم يدر المسكين أن المأمومين يؤمنون على دعاء الإمام: "اهدنا الصراط المستقيم"، ولم يخطر ببالهم لا هو ولا دعاؤه المبتدع في هذا الموطن.
ومن الأخطاء عدم رفع الإمام صوته بالتأمين عقب قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية. أجل إخواني، هذه من المخالفات، لأن السنة أن يجهر الإمام بـ(آمين) عقب قراءته للفاتحة، فعن أبي هريرة قال: كان رسول الله إذا فرغ من قراءة أُم القرآن رفع صوته، وقال: ((آمين)) أخرجه ابن حبان في الصحيح. وترجم البخاري في صحيحه: "باب جهر الإمام بالتَّأمين"، وأورد فيه مجموعة آثار معلّقة وحديثًا مرفوعًا، فقال: "أَمَّنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَمَنْ وَرَاءَهُ حَتَّى إِنَّ لِلْمَسْجِدِ لَلَجَّةً" أي: صوتا مرتفعا. والجمهور على أن الإمام يجهر بالتأمين في الصلاة الجهرية كما ترجم البخاري. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَقُولُ: ((آمِينَ)) رواه البخاري.
فنوصي كل من وقف إماما في المسجد أو في بيته أن يقول عقب الفاتحة: آمين، ويجهر بها، وإلا فكيف يعلم من وراءه من المأمومين بتأمينه إذا لم يرفع صوته به؟!
ومن الأخطاء أيضا عدم تأمين المأموم أو عدمُ جهره بالتأمين؛ لأن السنة كما قال : ((إذا أمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا)) ، فإن هذا يدل على وجوب التأمين على المأموم إذا أمَّن الإمام. وقال ابن حزم في المحلى: "وأما قول (آمين) فيقولها المأموم فرضًا ولا بد".
ومن الأخطاء مسابقة المأمومين لإمامهم في التأمين، والسنَّة أن يؤمّنوا معه ولا يسبقونه، والدليل ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي قال: ((إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا)). وأخرج البخاري في صحيحه أيضا عن أبي موسى أن النبي قال: ((وَإِذَا قَالَ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ فَقُولُوا: آمِينَ)). قال النووي: "فيه دلالة ظاهرة لما قاله أصحابنا وغيرهم: إن تأمين المأموم يكون مع تأمين الإمام لا بعده، فإذا قال الإمام: ولا الضالين قال الإمام والمأموم معًا آمين". فاحرصوا ـ إخواني ـ على أن تؤمّنوا مع الإمام لا قبله ولا بعده، لتنالوا مغفرة ما تقدم من ذنوبكم، كما قال : ((فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) رواه البخاري.
ومن الأخطاء مد كلمة (آمين)، حيث يمدون مدَّ البدل الذي هو الألف في أولها ستة حركات فيقولون: "آااااامين"، والأصل أن يُمَدَّ حركتين فقط، أما آخرها فلهم أن يمدّوها حركتين أو أربع أو ستّ حركات مدّا عارضا للسكون، هكذا: (آمين). وبعضهم يشدّد الميم فيقول: (آمِّين) يعني قاصدين، وهذا خطأ، بل صرح المتولي من الشافعية بأن من قاله هكذا بطلت صلاته. انظر فتح الباري 2/265 والله أعلم.
ومن الأخطاء رفع الرأس عند قول (آمين)، نجد ـ إخواني ـ أن بعض المصلين يلتزم بالسنة، فينظر إلى موضع سجوده، لكنه عندما يقول الإمام: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ فإنه يرفع رأسه إلى أعلى ليقول: (آمين)، وهذا العمل مخالف لهدي النبي ، فإن السنة أن تستمر في النظر إلى موضع سجودك.
ومن الأخطاء وصل القراءة بتكبيرة الركوع هكذا: " إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ الله أكبر"، وهذا غلط أيضا، والصواب أن تسكت بعد الانتهاء من القراءة حتى يرجع إليك النَّفَسُ، ثم تقول: (الله أكبر) وتركع، قال الإمام أحمد: "وكان النبي يسكت إذا فرغ من القراءة قبل أن يركع حتى يتنفس" [إرواء الغليل 2/284-288] يعني ثم يركع. وكان إذا فرغ من القراءة سكت هنيهة ليرجع إليه نفسه.
ومن الأخطاء التكبير للركوع بعد إتمام الركوع، وقول: سمع الله لمن حمده بعد الوقوف:، بعض المصلين ـ هداهم الله ـ لا يكبرون إلا بعد الركوع أو بعد السجود، وهذا خطأ. والسنَّة أن يبتدأ بالذِّكر تكبيرا كان أو غير ذلك، ثم يشرع في الركوع أو السجود، فعن أبي هريرة مرفوعًا: كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ كَبَّرَ ثُمَّ يَسْجُدُ، وَإِذَا قَامَ مِنَ الْقَعْدَةِ كَبَّرَ ثُمَّ قَامَ. رواه أبو يعلى في المسند بإسناد جيد. فالحديث نص صريح في أن السنَّة التكبير ثم السجود، لذلك احرص ـ أخي ـ أن تكبر ثم تركع، وأن تكبر ثم تسجد، وأن تكبر ثم تنهض وهكذا، جزاك الله خيرا.
ومن الأخطاء مسابقة الإمام أو مساواتُه بأفعال الصَّلاة كالركوع والسجود والرفع منهما، بعض المصلين ـ هدانا الله وإياهم ـ يكبرون مع الإمام، ويركعون معه، ويسجدون معه، بل ربما يسبقونه في بعض الأحيان، خاصة عندما يرفع من السجود إلى القيام، فعن أنس بن مالك قال: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللّهِ ذَاتَ يَوْمٍ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي إِمَامكُمْ، فَلاَ تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلاَ بِالسُّجُودِ، وَلاَ بِالْقِيَامَ وَلاَ بِالانْصِرَافِ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ أَمَامِي وَمِنْ خَلْفِي)) رواه مسلم. بل توعد الذين يسبقونه بذلك فقال كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قَالَ مُحَمَّدٌ : ((أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ؟!)) متفق عليه، وعن البراء بن عازب قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَقَعَ النَّبِيُّ سَاجِدًا، ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ. متفق عليه.
من هذه الأحاديث يتبيّن لنا أن مسابقة الإمام محرَّمةٌ اتِّفاقًا لظاهر هذه الأحاديث، إذ فيها توعّد بالمسخ، وهو من أشدِّ العقوبات، فإن سبقه بتكبيرة الإحرام أو بالسلام بطلت صلاة المأموم كما هو رأي الجمهور، وإن سبقه بغيرهما وانتظر حتى أدركه الإمام فهو حرام يأثم فاعله وصلاته صحيحة، وعن ابن عمر وأحمد أنها باطلة، بناء على أن النهي يقتضي الفساد. ذكر ذلك الإمام أحمد في (رسالة الصلاة ص37-38).
واختُلف في معنى تحويل رأسه إلى رأس حمار على أقوال ذكرها الإمام النووي وابن حجر، لكن ابن حجر ذكر قصة هنا عن بعض المحدّثين أنه رحل إلى دمشق لأخذ الحديث عن شيخٍ مشهورٍ بها، فقرأ عليه جملة، لكنه كان يجعل بينه وبينه حجابًا، ولم ير وجهه، فلما طالت ملازمتُه له ورأى حرصه على الحديث كشف له الستر، فرأى وجهه وجه حمار، فقال له: احذر ـ يا بُنيَّ ـ أن تسبق الإمام، فإني لما مرَّ بي في الحديث استبعدتُ وقوعه، فسبقتُ الإمام، فصار وجهي كما ترى. انظر فتح الملْهِم شرح صحيح مسلم 2/64.
وعلاج مَنْ يسابق الإمام ودواؤه أن يعلم أنه مهما استعجل فلن يسلِّم قبل الإمام، فلِم العجلة إذًا وهي لا تَجني لصاحبها هنا إلا الإثم والعقاب؟!! فاحذر ـ أخي ـ أن تسابق الإمام في ركوع أو سجود أو أي فعل من أفعال الصلاة، فتبطل صلاتك.
وهناك فريق على العكس من هؤلاء، يتأخرون عن الإمام، فترى الإمام مثلا قد ركع وأخونا لا زال واقفا يقرأ، ولا أدري ماذا يقرأ وقد سمع إمامه كبَّر للركوع وركع، بل وأوشك أن يرفع منه؟! وهؤلاء خالفوا قول النبي : ((إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا)) رواه البخاري عن أنس. فمقتضى الحديث أن ركوع المأموم يكون بعد ركوع الإمام، لا أن يتأخَّر عنه حتى يقارب القيام منه، ومن ثم يركع المأموم، ويبقى على هذا الحال، يلاحق الإمام ملاحقة، فلا هو مطمئن في صلاته، ولا يدري ما يقول فيها، ويتخوّف عليها من النقصان أو البطلان، وهنا على الأئمة أن يتّقوا الله في صلاتهم وصلاة الناس، فإنهم ضامنون، فعليهم بالطمأنينة والتؤَدة وعدم العجلة، والله الهادي إلى سواء السبيل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
ومن الأخطاء التي كثيرًا ما يقع بها الناس عدم إقامة الصلب وهو الظهر في القيام والجلوس والركوع والسجود، فيلاحظ على بعض المصلين أن قيامه في صلاته غير مكتمل، فتارة تراه واقفا محدوب الظهر، وتارة تراه مائلاً جهة اليمين أو جهة اليسار، وتارة ترى ظهره في الركوع منحنيا كالقوس، وغير مستقيم عند الرفع منه، وهذا كله منهيّ عنه، حيث وردت النصوص الصحيحة الصريحة على إقامة الصلب في القيام والجلوس، قال : ((لاَ يَنْظُرُ اللهُ إِلَى عَبْدٍ لاَ يُقِيمُ صُلْبَهُ بَيْنَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ)) أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح، وأمر المسيء صلاته بذلك فقال: ((ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ ـ من الركوع ـ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا)) رواه البخاري، وفي رواية: ((وَإِذَا رَفَعْتَ فَأَقِمْ صُلْبَكَ، وَارْفَعْ رَأْسَكَ، حَتَّى تَرْجِعَ الْعِظَامُ إِلَى مَفَاصِلِهَا)) رواه الشافعي في مسنده، ثم قال : ((لاَ تَتَمُّ صَلاَةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ)) رواه أبو داود في سننه عن رفاعة بن رافع. وثبت عنه في مسند الإمام أحمد أنه كان يصلي فلمح بمؤخر عينه إلى رجل لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، فلما انصرف قال: ((يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، إِنَّهُ لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ)). فعلى كل أخ أن يحرص على إقامة ظهره ما استطاع في صلاته لتسلم له، لأن عدم إقامة الظهر في الركوع والسجود نقص بل سرقة في الصلاة، فعن أبي قتادة قال: قال رسول الله : ((أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلاَتِهِ، لاَ يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلاَ سُجُودَهَا ـ أو قال: ـ لاَ يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ)) رواه أحمد وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
إخواني في الله، ولرب سائل يسأل: كيف يقيم أحدنا ظهره في صلاته لكي لا يقع في هذا الخطأ الذي يفسد عليه صلاته؟ والجواب كما في صحيح البخاري من حديث أبي حميد الساعدي وهو يصف صلاة رسول الله قال: وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ ـ أي: ثناه في استواء من غير تقويس ـ فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ ، يعني حتى ترجع خرزات الظهر إلى مكانها. وثبت في سنن ابن ماجه وغيره أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَكَعَ سَوَّى ظَهْرَهُ، حَتَّى لَوْ صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ لاسْتَقَرَّ، أي: مكانه، وقال للمسيء صلاته: ((فَإِذَا رَكَعْتَ فَاجْعَلَ رَاحَتَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ، وَامْدُدْ ظَهْرَكَ، وَمَكِّنْ رُكُوعَكَ)) رواه أحمد وأبو داود بسند صحيح.
واتفق الأئمة وغيرهم على أنه يسن في الركوع أخذ الركبتين باليدين، وتفريج الأصابع في الركوع، وبسط الظهر، وتسوية الرأس بالعَجُز، ومباعدة المرفقين عن الجنبين، والمكث فيه حتى يأخذ كلُّ عضوٍ مأخذه، وإذا رفعت من الركوع فاعتدل حتى ترجع كل خرزة من خرزات ظهرك إلى مكانها.
إخواني في الله، ومن خلال الأحاديث السابقة نجد أن التركيز كله على الظهر، وأنه يجب أن يكون مستقيما في القيام والركوع والرفع منه والجلوس وهكذا، فاحرص ـ أخي ـ على إقامة ظهرك في صلاتك كلها حتى تقبل منك.
أخيرا ألخص لكم أخطاء اليوم فأقول:
1- لا تقل: (آلله أكبر) ولا (الله آكبر) ولا (الله واكبر)، بل قل: (الله أكبر).
2- لا تسابق الإمام في تكبيرة الإحرام، وإذا سابقته بطلت صلاتك وعليك أن تعيدها، بل السنة أن تكبر بعده.
3- لا تجهر بتكبيرة الإحرام، بل السنة أن تسرّها إذا كنت مأموما.
4- لا تترك دعاء الاستفتاح والاستعاذة، بل السنة أن تحرص على قولهما.
5- أما البسملة فأسرَّ بقراءتها أكثر من الجهر بها.
6- لا تعجل بقراءة الفاتحة، بل اقرأها بهدوء، مقطعة آية آية كما كان النبي يقرؤها.
7- ومن الأخطاء قول بعض المأمومين في الصلاة الجهرية حين يقرأ الإمام: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ : (استعنا بالله) أو (استعنا بك يا رب)، وقول بعضهم عندما يوشك الإمام على الانتهاء من قراءة الفاتحة: (ربّ اغفر لي ولوالدي)، والسُّنَّة الاستماع والإنصات.
8- ومن الأخطاء عدم رفع الإمام صوته بالتأمين عقب قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية، والسُّنَّة أن يرفع صوته بالتأمين.
9- ومن الأخطاء عدم تأمين المأمومين أو عدم جهرهم بالتأمين، والسُّنَّة أن يؤمنوا بل ويجهروا بالتأمين.
10- ومن الأخطاء مسابقة المأمومين لإمامهم في التأمين، والسُّنَّة أن يؤمنوا معه ليفوزوا بمغفرة ما تقدم من ذنوبهم.
11 - لا تقل (آااااامين) أو (آمِّين) بتشديد الميم، بل قل: (آمين).
12 - لا ترفع رأسك عند قولك: (آمين)، بل استمر في النظر إلى موضع سجودك.
13 - لا توصل القراءة بتكبيرة الركوع، بل اسكت بعد الانتهاء من القراءة حتى يرجع إليك النَّفَسُ، ثم قل: (الله أكبر) واركع.
14 - لا تكبر بعد إتمام الركوع والسجود، بل كبِّر عند البدء بهما، ولا تقل: (سمع الله لمن حمده) بعد الوقوف، بل قلها عند البدء بالرفع.
15 - لا تسابق الإمام في الركوع والسجود والرفع منهما والقيام، ولا تتأخر عنه كثيرا، بل اركع إذا ركع ولو لم تنه القراءة، وارفع إذا رفع ولو لم تنه التسبيح، وهكذا تابعه.
16 - واحرص كل الحرص على إقامة ظهرك في الصلاة كلها حتى تقبل منك، وقد عرفت كيف تقيمه.
وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، اللهم تقبل منا صلاتنا، وثقل بها موازيننا، ولا تضرب بها وجوهنا، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3253)
من أخطاء المصلين في الصلاة (3)
فقه
الصلاة
عبد السلام بن محمد زود
سدني
مسجد السنة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النظر إلى القدمين في الركوع. 2- ترك قول: سمع الله لمن حمده. 3- زيادة لفظ (والشكر). 4- رفع البصر إلى السماء. 5- الالتفات. 6- مد تكبيرات الانتقال. 7- النزول على الركبتين. 8- مسابقة الإمام في الركوع والسجود. 9- أخطاء في السجود. 10- ترك الدعاء بين السجدتين. 11- أخطاء في كيفية الجلوس للتشهد. 12- أخطاء يقع فيها المريض. 13- أخطاء في صيغة التشهد والصلاة الإبراهيمية. 14- ترك التورك والاستعاذة بالله من أربع. 15- أخطاء في السلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إخواني في الله، فنظرًا لأهمية الموضوع الذي بدأناه قبل أسبوعين، وهي الأخطاء التي يقع فيها بعض المصلين في صلاتهم، ونظرًا لأن هناك الكثير من الأخطاء التي لم نتعرض لها في الأسبوعين الماضيين، فإننا نواصل في جمعتنا هذه الحديث عن هذه الأخطاء، سائلين الله تعالى أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، فأقول وبالله التوفيق:
من الأخطاء النظر إلى القدمين أثناء الركوع. أجل إخواني، إن بعض المصلين إذا ركع لا ينظر إلى موضع سجوده، بل ينظر إلى قدميه، وهذا أمر مخالف لهدي النبي ، والسنة الثابتة عنه أنه كان ينظر في صلاته كلها إلى موضع سجوده إلا عندما يكون في التشهد، فإنه كان يرمي ببصره إلى سبابته. والأمر الثاني: أن النظر إلى القدمين أثناء الركوع يؤدي إلى خفض الرأس وعدم تسويته بالظهر والعجُز، فينتج عن ذلك خلل في ركن من أركان الصلاة ألا وهو الركوع، فانتبهوا لذلك وفقكم الله.
ومن الأخطاء الاقتصار على قول: (ربنا ولك الحمد) عند الرفع من الركوع، نجد أن معظم المأمومين لا يقولون: (سمع الله لمن حمده)، ويكتفون بقولهم: (ربنا ولك الحمد)، وهذا فهم خاطئ، والسنَّة أن تأتي بالذكرين معا، فقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله كَانَ يَقُولُ: ((سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَه)) حين يرفع صُلبَه من الرَّكعة، ثم يقول وهو قائم: ((رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ)) ، وقد قال : ((صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)) ، وبالجمع بين الحديثين يتبين أن الإمام إذا قال: (سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَه) فإن المأموم أيضا يقول: (سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَه، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ)؛ لأنه من الواضح أن في حديث أبي هريرة السابق ذِكْرَيْنِ اثنين، أحدهما: قوله: (سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَه)، وهذا يقوله وهو يرفع رأسه من الركوع، والآخر: قوله: (رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ)، وهذا يقوله إذا استوى قائمًا. فاحرص على الإتيان بهذين الذِّكرين إماما كنت أو مأموما بارك الله فيك، وتقبل الله صلاتك. هذا ما ندين الله تعالى به، لكن هناك قول آخر مفاده اقتصار المأموم على قوله: (ربنا ولك الحمد) بدون (سمع الله لمن حمده) والأمر فيه سعة والحمد لله.
ومن الأخطاء زيادة لفظة: (والشكر) بعد قول: (ربنا ولك الحمد)، هذه زيادة من عند الناس وليست من هديه ، والسنة الثابتة عن النبي أنه كان يقول: ((رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ)) أو ((رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ)) ، أما زيادة (وَالشُّكْرُ) فلم تثبت عنه ، فاتركها أخي بارك الله فيك.
ومن أخطاء المصلِّين رفع البصر إلى السماء في الصلاة، أجل هذا من الأخطاء، بل جاء نهي النبي عن ذلك، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لِيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِهِمْ أَبْصَارَهُمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي الصَّلاَةِ إِلَى السَّمَاءِ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ)) رواه مسلم. قال الإمام النووي كما في شرحه لصحيح مسلم: "في هذه الأحاديث: النهي الأكيد والوعيد الشديد عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة، وقد نَقل الإجماع في النهي عن ذلك"، فإن كنت ـ أخي ـ ممن يفعل ذلك في الصلاة فتوقف عنه جزاك الله خيرا.
ومن أخطاء بعض المصلين الالتفات في الصلاة لغير حاجة، فالبعض يلتفت ويحرك رقبته، والبعض الآخر يلتفت بتقليب عينيه على المصلين يتفقّدهم، أو على جدران المسجد أو ملابس الناس يتأملها، وكلاهما مخالف لما يجب أن يكون عليه حال المصلي من الخشوع والنظر إلى موضع سجوده، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ الالْتِفَاتِ فِي الصَّلاَةِ، فَقَالَ: ((هُوَ اخْتِلاَسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاَةِ الْعَبْدِ)) رواه البخاري، وأخرج الترمذي والحاكم وصححاه عن الحارث الأشعري أن النبي قال: ((فَإِذَا صَلَيْتُمْ فَلاَ تَلْتَفِتُوا، فَإِنَّ الله يَنْصُبُ وَجْهَهَ لِوَجْهِ عَبْدِهِ في صَلاَتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ)) ، وعن أبي ذر قال: قال رسول الله : ((لا يَزَالُ الله مُقْبِلاً عَلَى الْعَبْدِ في صَلاَتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فإذَا صَرَفَ وَجْهَهُ انْصَرَفَ عَنْهُ)) أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة وابن حبان.
فاتق الله ـ أخي ـ في صلاتك، ولا تحرم نفسك هذه المنزلة، ولا تنقص من أجرك بسبب التفاتك. والسُّنة أن تنظر إلى موضع سجودك، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله الكعبة وما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج منها. أخرجه الحاكم وقال: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي.
ومن الأخطاء مدُّ التكبير في الصلاة، بعض المصلين ـ وخاصة الأئمة ـ يطيلون التكبير أثناء الانتقال من ركن إلى ركن، خاصة من القيام إلى السجود، ومن السجود إلى القيام، وهذا خطأ، قال ابن حزم: "لا يحل للإمام البتة أن يطيل التكبير، بل يسرع فيه، فلا يركع ولا يسجد ولا يقوم ولا يقعد إلا وقد أتم التكبير" [المحلى 4/151].
ومن الأخطاء النزول إلى السجود على الركبتين، والسنة النزول على اليدين، فقد ثبت عند ابن خزيمة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي أن النبي كان يضع يديه على الأرض قبل ركبتيه، وكان يأمر أصحابه بذلك فيقول: ((إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه)) رواه أبو داود وصححه الألباني، وروى المروزي في مسائله بسند صحيح عن الإمام الأوزاعي قال: "أدركت الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم". وقال نافع: كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه. رواه البخاري. وهناك قول آخر مفاده النزول على الركبتين قبل اليدين، والأمر فيه سعة والحمد لله، فلا يعنف بعضكم على بعض إخواني جزاكم الله خيرا.
ومن الأخطاء الخرور إلى السجود مع الإمام أو قبله، فقد كان الصحابة لا يتحرّكون حتى يضع النبيّ جبهته على الأرض، فعن البراء بن عازب أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ خَلْفَ رَسُولِ اللّهِ ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ لَمْ أَرَ أَحَدًا يَحْنِي ظَهْرَهُ حَتَّى يَضَعَ رَسُولُ اللّهِ جَبْهَتَهُ عَلَى الأَرْضِ، ثُمَّ يَخِرُّ مَنْ وَرَاءَ هُ سُجَّدًا. متفق عليه. ورأى أحد الصحابة رجلاً يسابق إمامه فقال: (لا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت). وقال النووي: "وفي هذا الحديث أدب من آداب الصلاة، وهو أن السنة أن لا ينحني المأموم للسجود حتى يضع الإمام جبهته على الأرض" [شرح مسلم 4/254]، وكما ذكرت الأسبوع الماضي أنك مهما أسرعت في الصلاة فلن تنتهي قبل الإمام.
أما الأخطاء التي يقع المصلون فيها في السجود فكثيرة:
منها عدم تمكين الأعضاء السبعة من السجود. إخواني في الله، هناك سبعة أعضاء يجب على المصلي أن يمكنها من الأرض ويسجد عليها وهي: الجبهة والأنف واليدان والركبتان والقدمان، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس أن رسول الله قال: ((أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعٍ: الْجَبْهَةِ وَالأَنْفِ وَالْيَدَيْنِ والرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ)) فهذا الحديث يدل على أن أعضاء السجود سبعة، وأنه ينبغي للساجد أن يسجد عليها كلها.
لكن الواقع عند البعض هو خلاف ذلك، فمثلا منهم من يسجد على جبهته ويرفع أنفه عن الأرض، أو يسجد على أنفه ويرفع جبهته حفاظا على تسريحة شعره أن تنطعِج، والسنة الثابتة عنه خلاف ذلك، فعن أبي حميد الساعدي أنّ النبيّ كانَ إذَا سَجَدَ أمْكَنَ أنْفَهُ وجَبْهَتَهُ الأرْضَ. رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح". وقال : ((لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَمَسَّ أَنْفُهُ الأَرْضَ مَا يَمَسُّ الْجَبِينُ)) أخرجه الحاكم وهو صحيح على شرط البخاري كما قال الحاكم والذهبي. فاحرص ـ أخي ـ على وضع جبهتك وأنفك على الأرض أثناء سجودك وفقك الله.
ومنهم من يرفع قدميه أو إحداهما عن الأرض قليلا، أو يضع إحدى قدميه على الأخرى، وهؤلاء جميعا مخالفون لأمر النبي وغيرُ ساجدين على سبعة أُعظم، وقد سُئل الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله عن المصلي إذا رفع بعض أعضاء السجود عن لمس الأرض فهل تبطل صلاته؟ فأجاب رحمه الله: "إن كانت رجلُه مرفوعةً من ابتداء السجدة إلى آخرها لم تصح صلاته، لأنه ترك وضع بعض الأعضاء وليس له عذر، وإن كان قد وضعها بالأرض في نفس السجدة ثم رفعها وهو في السجدة فقد أدّى الركن، لكن لا ينبغي له ذلك". فانتبه ـ أخي ـ لرجليك أثناء السجود، فقد تكون رافعا لهما بدون شعور، فاستدرك.
ومنهم من يفتح رجليه ويباعد بين قدميه، وهذا خطأ، والسنة الثابتة عنه في السجود أنه كان ينصب قدميه، ويضمهما إلى بعضهما، ويلزق العقبين ببعضهما، ويستقبل بأصابع رجليه القبلة، فاحرص على هذا أثناء سجودك أخي.
ومن الأخطاء تفريج أصابع اليدين وعدم استقبال القبلة بهما، وهذا خطأ أيضا، والسنة الثابتة عنه أنه كان يعتمد على كفيه ويبسطهما، ويضم أصابعهما، ويوجهها قِبَلَ القبلة، ويجعلهما حذو منكبيه، وأحيانا حذو أذنيه.
ومن الأخطاء أيضا بسط الذراعين على الأرض كانبساط الكلب، والسنة الثابتة عنه أنه كَانَ لاَ يَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهِ فِي السُّجُودِ، بل كان يرفعهما عن الأرض، ويباعدهما عن جنبيه، حتى يبدو بياض إبطيه من ورائه. متفق عليه. وكان يأمر بذلك فيقول: ((إِذَا سَجَدْتَ فَضَعْ كَفَّيْكَ وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ)) رواه مسلم عن البراء بن عازب، ويقول أيضا: ((اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ وَلاَ يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ)) متفق عليه من حديث أنس ، فلا تبسط ذراعيك في السجود أخي، بل ارفعهما.
إذًا فالطمأنينة الكاملة في السجود كالتالي: أن تسجد على أعضائك السبعة المذكورة، ضع جبهتك وأنفك على الأرض، وابسط كفيك على الأرض أيضا، وضم أصابعهما، ووجههما نحو القبلة، واجعلهما حذو منكبيك، وأحيانا حذو أذنيك، وارفع ذراعيك عن الأرض، وباعدهما عن جنبيك، حتى يبدو بياض إبطيك إن أمكن، وانصب رجليك، واستقبل بأطراف أصابع قدميك القبلة، ورصَّ عقبيك، مع تمكين الأعضاء التي على الأرض من الأرض، فإنك إن فعلت ذلك سجد كل عضو منك معك.
ومن الأخطاء ترك الدعاء في السجود، بعض المصلين يكرّر في السجود كله: (سبحان ربي الأعلى) ويترك الدعاء، مع أن النبي حثنا عليه، فقال كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة : ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ)) ، فاغتنم فرصة قربك من الله، وأكثر من دعائه في هذا الموضع بعد تسبيحه، يكن خيرا لك في الدارين.
ومن الأخطاء قراءة القرآن في السجود، فقد كان ينهى عن ذلك ويقول: ((أَلاَ وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا)) رواه مسلم عن ابن عباس.
ومن الأخطاء ترك الدعاء بين السجدتين، أجل إخواني، إن ترك الدعاء الوارد عن النبي بين السجدتين خطأ يقع فيه أكثر المصلين، فقد ثبت عنه كما في حديث ابن عباس أنه كان يقول بين السجدتين: ((اللهُمَّ اغْفِرْ لي، وارْحَمْنِي، واجْبُرْنِي، وَارْفَعْنِي، وَاهْدِني، وَعَافِني، وَارْزُقْنِي)) رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وتارة كان يقول: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي)) رواه ابن ماجه عن حذيفة وصححه الألباني.
ومن الأخطاء في الجلوس بين السجدتين أو الجلوس للتشهد وضع المصلي إحدى قدميه على الأخرى والجلوس عليهما، أو لصق مؤخرته ويديه بالأرض ونصب ساقيه، وهذه الجلسة منهي عنها في الصلاة، فعن أبي هريرة قال: نهاني خليلي عن إقعاء كإقعاء الكلب. رواه الطيالسي وأحمد وحسنه الألباني في صفة الصلاة. والسنة في هذا الجلوس ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنها وصفت صلاة النبي وذكرت فيها أنه كَانَ يَفرشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَكَانَ ينْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ. وعُقْبَةُ الشيطان هي الإقعاء الذي نهينا عنه، وهي نصب الساقين، ووضع الإليتين واليدين على الأرض، فانتبه لذلك عبد الله، وصلّ كما صلى النبي.
ومن الأخطاء وضع شيء أمام المريض ليسجد عليه. إخواني في الله، يقوم بعض المصلين ممن لا يستطيعون السجود على الأرض لعذر مرض أو نحوه، يقومون بوضع شيء مرتفع أمامهم ويسجدوا عليه، وهذا خطأ، والسنة أن يومئ أحدهم برأسه إيماء، فعن عبد الله بن عمر قال: عاد رسول الله رجلاً من أصحابه مريضًا وأنا معه، فدخل عليه وهو يصلّي على عود، فوضع جبهته على العود، فأومأ إليه فطرح العود وأخذ وسادة، فقال رسول الله : ((دعها عنك ـ يعني: الوسادة ـ إن استطعتَ أن تسجد على الأرض، وإلا فأوم إيماء، واجعل سجودك أخفض من ركوعك)) أخرجه الطبراني بإسناد صحيح، [انظر: السلسلة الصحيحة 323].
فالحديث يدل على أن السنة في حقّ المريض أن يومي إيماء، ويكون سجوده أخفض وأقرب إلى الأرض من ركوعه، دون أن يلصق جبهته بشيء يرفعه. فتعلّم ـ أخي المريض ـ هدي نبيك يكن خيرا لك.
ملاحظة: ومن المفيد بهذه المناسبة أن أنبّه إلى أن بعض الناس يعجز عن السجود، فيصلي على كرسي، وهذا لا مانع منه، ولكن هنالك شرط، وهو أنه إذا قدر على الوقوف في كل ركعة لقراءة الفاتحة وما بعدها فيجب عليه الوقوف في كل ركعة لأجل قراءتها، إذ إنه لا يعفى الشخص عما يقدر عليه.
هذا بعض ما يتعلق بالسجود من أخطاء يقع فيها بعض المصلين.
أسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم لطاعته واتباع هدي نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
بقي أن أنبه إلى أخطاء يقع فيها البعض في الجلوس والتشهد والتسليم:
منها: خطؤهم عند قولهم في التشهد: (السلام عليك أيها النبي)، هذا اللفظ ـ إخواني ـ كان يقال في حياة النبي ، أما بعد موته فكان الصحابة يقولون: (السلام على النبيّ)، لا تَفَاجَؤوا بهذا فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن مسعود قال: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ التَّشَهُّدَ وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ: ((التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)) وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا، فَلَمَّا قُبِضَ قُلْنَا: (السَّلاَمُ عَلَى النَّبِيِّ). وكانت عائشة رضي الله عنها أيضا تعلّمهم التشهد في الصلاة: (السلام على النبي) رواه السراج في مسنده والمخلص في الفوائد بسندين صحيحين عنها. وقال الحافظ ابن حجر: "فالظاهر أنهم كانوا يقولون: (السلام عليك أيها النبي) بكاف الخطاب في حياة النبي ، فلما مات النبي تركوا الخطاب، وذكروه بلفظ الغيبة، فصاروا يقولون: (السلام على النبي)" فتح الباري 11/.56 وقال عبد الرزاق: أخبرني ابن جريج، أخبرني عطاء أن الصحابة كانوا يقولون والنبي حيٌّ: (السلام عليك أيها النبي، فلما مات قالوا: السلام على النبي)، قال ابن حجر: "وهذا إسناد صحيح".
إذًا فالسنة ـ إخواني ـ أن نقول في التشهد: (السلام على النبي) بدل: (السلام عليك أيها النبي) جزاكم الله خيرا. ومع ذلك لا زال البعض مصِرًّا على الأولى: (السلام عليك أيها النبي) وفهم الصحابة مقدَّم على غيره، لا سيما وأنه لم يوجد لهم معارض منهم في هذه القضية حسب علمنا، والله أعلم.
ومن الأخطاء زيادة لفظ (سيدنا) في الصلاة الإبراهيمية. إخواني في الله، بعض المصلين يزيد في الصلاة على النبي لفظ (سيدنا) فيقول: (اللهم صل على سيدنا محمد..) وهذا خطأ واضح، لأن الأصل في العبادات الاتباع لكل ما جاء به النبي ، والنبي هو سيدنا وقدوتنا وأسوتنا ومعلمنا ومربينا، ولكنه لم يرِد في كتاب ولا سنة أن النبي أو أصحابه من بعده قالوا كلمة (سيدنا) في التشهد، بل الثابت عنه كما في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ: أَلاَ أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ ؟! فَقُلْتُ: بَلَى فَأَهْدِهَا لِي، فَقَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ؟ فَقَالَ: ((قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)). وهذه إحدى صيغ السلام على رسول الله وهناك صيغ أخرى، لكن ليس في واحدة منها لفظ (سيدنا)، وخير الهدي هدي محمد.
ومن الأخطاء ترك التورك في الجلسة الأخيرة من الصلاة الثلاثية والرباعية، والسنة في الجلوس على رأس الركعتين الافتراش، والتورك في الركعة الأخيرة من الصلاة، أخرج البخاري في صحيحه عن أبي حميد الساعدي أنه قال في أثناء وصفه لصلاة النبي : ((فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى، وَنَصَبَ الْيُمْنَى، وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَنَصَبَ الأُخْرَى، وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ)). فاحرص ـ أخي ـ على جلسة التورك في الركعة الأخيرة، فإنها جلسة نبينا محمد في صلاته.
ومن الأخطاء ترك الاستعاذة بالله من أربع قبل التسليم، كثير من المصلين ـ إخواني ـ لا يستعيذون بالله من تلك الأشياء التي أمرنا النبي أن نستعيذ بالله منها قبل التسليم، وهي التي رواها مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الآخِرِ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فتنة الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ)) ، وعن ابن عباس أن رسول الله كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ يَقُولُ: ((قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ)). قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ: بَلَغَنِي أَنَّ طَاوُوسًا قَالَ لابْنِهِ: أَدَعَوْتَ بِهَا فِي صَلاَتِكَ؟ فَقَالَ: لاَ، قَالَ: أَعِدْ صَلاَتَكَ. قال النووي: "وظاهر كلام طاووس رحمه اللَّه أنَّه حمل الأمر به على الوجوب، فأوجب إعادة الصَّلاة لفواته، وجمهور العلماء على أنَّه مستحبٌّ ليس بواجب، ولكن لعلَّ طاووسا أراد تأديب ابنه وتأكيد هذا الدُّعاء عنده، لا أنَّه يعتقد وجوبه، واللَّه أعلم".
ومن الأخطاء قيام المسبوق لإتمام ما فاته قبل تسليم الإمام، أجل إخواني، من الأخطاء الشائعة بين المصلين أن يقوم المسبوق لإتمام ما فاته من ركعات قبل تسليم الإمام، أو عند ابتداء الإمام في التسليم، وذلك أن المصلي أحيانًا تفوته ركعة أو أكثر، فأول ما يشرع الإمام في التسليمة الأولى يقوم المسبوق ليأتي بما فاته، وهذا خطأ واضح، والسنة أن لا يستعجل، بل ينتظر حتى ينتهي الإمام من التسليمة الثانية، وعندها يقوم المسبوق ليتم ما فاته. قال الإمام الشافعي: "ومن سبقه الإمام بشيء من الصلاة فلا يقوم لقضاء ما عليه إلا بعد فراغ الإمام من التسليمتين". وسئل الشيخ عبد الرحمن السعدي عن ذلك فقال: "لا يحل له ذلك وعليه أن يمكث حتى ينتهي الإمام من التسليمة الثانية، فان قام قبل انتهاء سلامه ولم يرجع انقلبت صلاته نفلاً، وعليه إعادتها، لأن المأموم فرض عليه أن يبقى مع إمامه حتى تتم صلاة الإمام".
ومن الأخطاء مدُّ السلام عند التسليم آخر الصلاة، بعض المصلين خاصة من كان إماما إذا جاء يسلّم فإنه يمد كلمة السلام، هكذا: (السلاااااام عليكم ورحمة الله)، والسنة عدم مدها، فتنبهوا لذلك وفقني الله وإياكم لطاعته.
أخيرا نلخص لكم ـ إخواني ـ ما قلناه من أخطاء في خطبة اليوم فنقول:
لا تنظر إلى قدميك في الركوع، بل انظر إلى موضع سجودك، فإنه هدي نبيك.
عند الرفع من الركوع قل: (سمع الله لمن حمده) وعند الاعتدال قل: (ربنا ولك الحمد) لكن بدون كلمة (والشكر).
لا ترفع بصرك إلى السماء وأنت في الصلاة خشية أن يخطف فلا يُرَدَّ إليك بعدها
إياك والالتفات في الصلاة لغير حاجة، فإنه يُنقص من أجرها.
لا تمدَّ التكبير من القيام إلى السجود، ومن السجود إلى القيام، بل أسرع فيه.
لا تنزل إلى السجود على ركبتيك، بل انزل على يديك.
لا تسجد مع الإمام ولا قبله، بل اسجد بعده عندما يضع جبهته على الأرض.
اسجد على أعضائك السبعة ومكِّنها من الأرض.
لا تترك الدعاء في السجود، فإنه من مواطن الإجابة.
لا تقرأ القرآن في السجود، فإن الله تعالى نهى عن ذلك.
لا تترك الدعاء بين السجدتين، فإنه من هدي نبينا.
لا تقعي كما يقعي الكلب، بل انصب اليمنى واجلس على اليسرى.
لا تضع أمام المريض شيئا ليسجد عليه، بل دعه يسجد على الهواء.
لا تقل: (السلام عليك أيها النبي) في التشهد، بل قل: (السلام على النبي).
لا تقل: (اللهم صل على سيدنا محمد) في التشهد، بل قل: (اللهم صل على محمد).
لا تنس التورك في الجلسة الأخيرة من الصلاة الثلاثية والرباعية.
لا تنس الاستعاذة بالله من أربع قبل التسليم.
لا تقم لقضاء ما فاتك من الصلاة قبل تسليم الإمام التسليمة الثانية.
أخيرا: لا تمدَّ السلام عند التسليم آخر الصلاة، بل أسرع به.
بهذا نكون ـ إخواني ـ قد أنهينا بعض الأخطاء التي يقع فيها بعض المصلين داخل الصلاة، على أمل استكمال الأخطاء التي تقع خارج الصلاة في خطب أخرى إن شاء الله تعالى.
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يفقهنا في صلاتنا، وأن يعيننا وإياكم على تصحيحها، وأن يتجاوز عما وقعنا فيه من أخطاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3254)
من أخطاء المصلين في الصلاة (4)
فقه
الصلاة
عبد السلام بن محمد زود
سدني
مسجد السنة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تغميض العينين في الصلاة. 2- أخطاء يقع فيها المستعجلين لإدراك الركوع. 3- انتظار المسبوق قيام الإمام. 4- سحب المسبوق رجلا من الصف الممتلئ. 5- عدم تسوية الصفوف وإقامتها. 6- السكوت عند الانتهاء من التشهد أو تكراره. 7- التنفل بعد إقامة الفريضة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلا زلنا ـ إخواني في الله ـ مع الأخطاء التي يقع فيها بعض المصلين في صلاتهم، ونظرًا لأن هناك الكثير من الأخطاء التي لم نتعرض لها في الخطب الثلاث الماضية فإننا سنواصل في جمعتنا هذه الحديث عن هذه الأخطاء، سائلين الله تعالى أن ينفعنا وإياكم بها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ومن الأخطاء تغميض العينين في الصَّلاة، قال ابن القيم رحمه الله: "ولم يكن من هديه تغميضُ عينيه في الصَّلاة، وقد تقدَّم أنه كان في التشهد يُومئ ببصره إلى إصبعه في الدُّعاء، ولا يُجَاوِزُ بَصَرُهُ إشارَتَهُ". وبعد أن اختلف الفقهاء في حكم تغميض العينين في الصلاة بين قائل بالكراهة وقائل بالإباحة، قال ابن القيم في زاد المعاد (1/294): "والصَّواب أن يُقال: إنْ كان تفتيح العين لا يُخِلُّ بالخشوع فهو أفضل، وإن كان يحول بينه وبين الخشوع لما في قبلته من الزخرفة والتّزويق أو غيره مما يُشوش عليه قلبه فهنالك لا يُكره التغميضُ قطعًا، والقول باستحبابه في هذا الحال أقربُ إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة. والله أعلم".
وهناك خمسة أخطاء يقع فيها بعض المصلين عندما يدخلون المسجد والإمام راكع، فبعضهم يرسل إشارات إلى الإمام أن ينتظره كقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153] أو يتنحنح، وهذا خطأ، والسنة أن تدخل المسجد برجلك اليمنى وتقول: ((بِسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ)) رواه ابن السني وحسنه الألباني في الكلم الطيب، ((اللهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ)) رواه مسلم عن أبي حميد أو أبي أسيد، لا أن تقول: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ، ثم لِم لا تذكِّر نفسك أنت بهذه الآية، وتصبر حتى تصل إلى الصف بهدوء، وتترك هذا التشويش على المصلين؟!
وبعضهم يسرع الخطى حتى يدرك الركعة مع الإمام قبل أن يرفع منها، وهذا خطأ أيضا، والسنة أن تمشي بهدوء وسكينة حتى تصل إلى الصف، فإن أدركت الركوع معه فالحمد لله، وإن لم تدركه فقد فاتتك الركعة وتكملها بعد تسليم الإمام، فعن أبي قتادة قال: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ ـ أي: أصواتهم حال حركتهم ـ فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: ((مَا شَأْنُكُمْ؟)) قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلاَةِ، قَالَ: ((فَلاَ تَفْعَلُوا، إِذَا أَتَيْتُمْ الصَّلاَةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا)) رواه البخاري.
وبعضهم لسرعته يكبر تكبيرة الإحرام وهو يهوي إلى الركوع، وهذا خطأ، والواجب أن تكبر تكبيرة الإحرام وأنت قائم، لقوله : ((إذا قمت للصلاة فكبر)) ، ومن هنا صرَّح جمهور الفقهاء بوجوب الإتيان بتكبيرة الإحرام حال القيام. قال النووي: "يجب أن يكبر للإحرام قائمًا حيث يجب القيام، وكذا المأموم الذي يدرك الإمام راكعًا، يجب أن تقع تكبيرة الإحرام بجميع حروفها في حال قيامه، فإن أتى بحرفٍ منها في غير حال القيام لم تنعقد صلاته فرضًا بلا خلاف، وفي انعقادها نفلاً الخلاف" [المجموع 3/296]، وقال ابن قدامة: "وعلى المسبوق أن يأتي بالتكبيرة منتصبًا، فإن أتى بها بعد أن انتهى في الانحناء إلى قدر الركوع أو ببعضها لم يجزئه، لأنه أتى بها في غير محلّها" [المغني مع الشرح الكبير 1/544]، وقال الإمام علي القاري في هذه المسألة: "وأما لو كبَّر منحنيًا كما يفعله العامة والجهلة من جهة العجلة فلا تنعقد صلاته، إذ القيام شرط في تكبير التحريمة للقادر عليه، كيف وبعضهم يكبِّرون حال الركوع؟! وحينئذ لا يكون محسوبًا أبدًا" [فصول مهمة لوحة 79].
ملاحظة: في هذه الحالة لا داعي لوضع اليد اليمنى على اليسرى بعد تكبيرة الإحرام وقبل النزول، لأن وضع اليدين يكون حال القراءة، ولا قراءة في هذه الحالة.
وبعضهم يكبر تكبيرة واحدة للإحرام وللركوع، وهذا خلاف الأولى، لأن السنة أن تكبر تكبيرة الإحرام أولا وأنت قائم كما أسلفنا، وهي ركن لا تسقط بحال من الأحوال، ثم تكبر تكبيرة الركوع وأنت تهوي إليه. وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله: إذا حضر المأموم إلى الصَّلاة والإمام راكع هل يكبّر تكبيرة الافتتاح أو يكبِّر ويركع؟ فأجاب رحمه الله: "الأولى والأحوط أن يكبر التكبيرتين: إحداهما تكبيرة الإحرام، وهي ركن، ولا بدّ أن يأتي بها وهو قائم، والثّانية تكبيرة الركوع، يأتي بها حين هويه إلى الركوع. فإن خاف فوت الركعة أجزأته تكبيرةُ الإحرام في أصح قولي العلماء، لأنهما عبادتان اجتمعتا في وقت واحد، فأجزأت الكبرى عن الصغرى، وتجزئ هذه الركعة عند أكثر العلماء" انتهى [فتاوى ابن باز 1/55]، وكذلك أفتى الشيخ عبد الله بن الجبرين، وصرح جماعة من العلماء الأقدمين كالزّهري وسعيد بن المسيب والأوزاعي ومالك بأن التكبيرة الواحدة في مثل هذه الحالة تجزئ. [فتح الباري 2/21، 7/218].
وبعضهم من سرعته يفتتح صفا جديدا والصف الذي أمامه لم يكتمل بعد، وهذا خطأ، والسنة أن تكمل الصف الذي أمامك أولا، فعن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله : ((أَلاَ تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟!)) فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ، وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: ((يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأُوَلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ)) رواه مسلم. إذًا هؤلاء استعجلوا فوقعوا في هذه الأخطاء خشية أن تفوتهم الركعة، لكن إن فاتتهم الركعة فحدِّث عن تباطؤهم بعدها ولا حرج.
ومن ذلك أن بعضهم إذا دخل المسجد وكان الإمام ساجدًا أو جالسا مثلا فإنه يأتي إلى الصف بهدوء وسكينة ويبقى واقفا حتى يرفع الإمام، فإذا قام دخل معه في الصلاة، وهذا خطأ ومخالف للسنة، والصواب أن يدخل مع الإمام على أية حالة كان عليها الإمام، قائمًا أو راكعًا أو ساجدًا أو جالسًا، فعن أبي قتادة قال: قال رسول الله : ((إِذَا أَتَيْتُمْ الصَّلاَةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا)) رواه البخاري، قال ابن حجر: "ويستدل به على استحباب الدخول مع الإمام في أي حالة وجد عليها". [الفتح 2/118]. وروى الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله : ((إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الصَّلاَةَ وَالإِمَامُ عَلَى حَالٍ فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الإِمَامُ)) ، وعن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله : ((إذا وجدتم الإمام ساجدًا فاسجدوا، أو راكعًا فاركعوا، أو قائمًا فقوموا، ولا تعتدوا بالسجود إذا لم تدركوا الركعة)) [السلسلة الصحيحة 1188]. فسبحان الله، انظر كيف يتلاعب الشيطان بالناس حتى يصدهم عن الصلاة.
ومن الأخطاء سحب أحد المصلين من منتصف الصف بعد اكتماله للصلاة معه، بعض المصلين إذا دخل المسجد فوجد أن الصف قد اكتمل ولم يجد له مكانا فيه، قام بسحب واحد من الصف ليقف بجواره خشية أن يقف في الصف لوحده، وهذا خطأ، أولا: لأنه تسبب في قطع الصف، والنبي يقول كما في حديث ابن عمر: ((مَنْ وَصَلَ صَفّا وَصَلَهُ اللّهُ، وَمَنْ قَطَعَ صَفّا قَطَعَهُ اللّهُ)) رواه النسائي والحاكم وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". والثاني: أنه أخرج المصلين من خشوعهم بسبب تلك الفجوة التي أحدثها في الصف، والتي جعلت أهل الصف ربما كلّهم يتحركون يمينا أو شمالا لسدّ هذه الفرجة التي فتحها أخونا، هذا فضلا عن إيذائه لذلك الرجل الذي سحبه، بل قد يعاند معه حتى يصل الأمر بينهما إلى الخصام أحيانا أثناء الصلاة.
والحل في مثل هذه الحالة أن يبحث عن فرجة في صف فيدخل فيها، فإن لم يجد فليقف وحده في الصف وصلاته صحيحة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وتصح صلاة الفذّ لعذر، وقاله الحنفية، وإذا لم يجد إلا موقفا خلف الصف فالأفضل أن يقف وحده، ولا يجذب من يصافه" [الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية 42].
ومن الأخطاء عدم تسوية الصفوف في الصلاة كما ينبغي، فإن البعض هداهم الله يتساهل في سدّ الفرج التي تكون بين المصلين، وهذه مخالفة عمّت بها البلوى، فإنك لا تكاد ترى صفا مستويا كما كان على عهد النبي ، وقد أمر النبي بتسوية الصفوف فقال: ((سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاَةِ)) متفق عليه من حديث أنس، وليست تسويتها بإلصاق الخنصر بالخنصر فحسب، أو بوضع إصبع الإبهام على الخطّ إن كان هناك خط، بل إن تسويتها يكون بإلصاق الكتف بالكتف والكعب بالكعب، فعن أنس أن النبي قال: ((أقيموا صفوفكم، فإني أراكم من وراء ظهري)) ، قال أنس: (وكان أحدنا يُلْزِق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه) رواه البخاري، بل وركبته بركبته كما في حديث النعمان بن بشير قال: أقبل رسول الله على الناس بوجهه فقال: ((أقيموا الصفوف ـ ثلاثًا ـ والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم)) ، قال النعمان: فرأيت الرجل يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه. صحيح رواه أبو داود. وهذه السنة كانت على عهد النبي ثم تهاون الناس بها بعد ذلك، ففي مسند أبي يعلى بسند صحيح على شرط الشيخين قال أنس : (لقد رأيت أحدنا يُلْزِق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه، ولو ذهبت تفعل ذلك اليوم لترى أحدهم كأنه بغل شموس) يعني: لا يسمح لك بأن تلصق قدمك بقدمه، والعياذ بالله تعالى. وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: "باب: إثم من لم يتم الصفوف"، وساق بسنده عن بشير بن يسار الأنصاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَقِيلَ لَهُ: مَا أَنْكَرْتَ مِنَّا مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: (مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلاَّ أَنَّكُمْ لاَ تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ).
إخواني في الله، إذا كان أنس بن مالك ينكر على أولئك القوم في القرن الأول من القرون المفضلة، ينكر عليهم عدم إقامة صفوفهم، فكيف لو رأى ما نحن فيه اليوم من إخلال بالصلاة قبل الإخلال بالصف وغيرها؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله. فظهر أن إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصّفوف سنّة، قد عمل بها الصّحابة رضي الله عنهم خلف النبي ، وهو المراد بإقامة الصّف وتسويته على ما قال الحافظ ابن حجر. وبالمقابل فقد حذر النبي من عدم تسوية الصفوف، فعن النعمان بن بشير قال: كَانَ رَسُولُ اللّهِ يُسَوِّي صُفُوفَنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ، حَتَّى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ حَتَّى كَادَ يُكَبِّرُ، فَرَأَى رَجُلاً بَادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ، فَقَالَ: ((عِبَادَ اللّهِ، لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ)) رواه مسلم. قال النووي: "والأظهر أن معناه: يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب... لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن".
ثم اعلم ـ أخي ـ أن المسافة التي بينك وبين مَن بجانبك قد أمرك النبي بسدّها، وإن لم تسدّها فقد أفسحت مجالا للشيطان ليقف بينك وبين أخيك، فعن ابن عمر أن رسول الله قال: ((أَقِيمُوا الصّفُوفَ، وَحَاذُوا بَيْنَ المَنَاكِبِ، وَسُدّوا الْخَلَلَ، وَلاَ تَذَرُوا فَرُجَاتٍ لِلشّيْطَانِ)) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
ومن لم تنبهه هذه الأحاديث لأهمية هذا الأمر وخطورته فليستمع إلى حديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله : ((وَمَنْ وَصَلَ صَفّا وَصَلَهُ الله، وَمَنْ قَطَعَ صَفّا قَطَعَهُ الله)) رواه أبو داود بإسناد صحيح، ألا تحبّ ـ أخي ـ أن يصلك الله؟! ثم أذكرك ـ أخي ـ بفضل المشي لسدّ الفرجات بين الصفوف وإن كنت في الصلاة، قال : ((مَنْ سَدّ فُرْجَةً رفعه الله بها درجة وبنى له بيتًا في الجنة)) [صحيح الترغيب 505]. وأنبه هنا إلى أن الأئمة مسؤولون عن تسوية الصفوف أيضا، وأن اقتصار بعضهم على قول: "استووا استووا" فقط لا يكفي في إقامة الصفوف، فقد كان عمر بن الخطاب يوكّل رجالاً بإقامة الصفوف، فلا يُكبّر حتى يُخْبَر أن الصفوف قد استوت، وكان علي وعثمان يتعاهدان ذلك أيضًا، وكان علي يقول: (تقدّم يا فلان، تأخر يا فلان) [جامع الترمذي والموطأ]. فتعاونوا ـ إخواني ـ على إقامة الصف بارك الله بكم.
ملاحظة: وبهذه المناسبة أجدني مضطرا للتنبيه إلى ما يفعله بعض الإخوة ممن يطبقون هذه السنة، وهي أنك تراه أحيانا يلصق رجله برجل من بجانبه بقوة حتى يؤذيه، ولا أقول هذا من فراغ، بل حصلت معي وفي هذا المصلّى، فلهؤلاء أقول: اتقوا الله ولا تنفّروا إخوانكم من الصلاة، ولأولئك أقول: اتقوا الله ورصّوا صفوفكم ولا تذروا فرجات للشيطان.
ومن الأخطاء أيضًا قراءة التشهد مرة أخرى أو الصمت، بعض المصلين إذا فرغ من قراءة التشهد والإمام لا يزال جالسًا ولم ينته بعد فإن المصلين يقعون في هذه الحالة في خطأين: فبعضهم يعيد التشهد مرة أخرى ليقطع سكوته، ويكون بإعادته للتشهد قد فعل فعلا محدثًا في الصلاة، والرسول يقول: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)) متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها. والبعض الآخر: لا يعيد التشهد، بل يبقى ساكتًا حتى يقوم الإمام إذا كان في التشهد الأول، أو حتى يسلم إذا كان في التشهد الأخير، وهذا السكوت والصمت في الصلاة أيضًا خطأ، وإنما السنة في هذه الحالة أن يتخير المصلي من الدعاء ما شاء، وليدع به، ولا يبق ساكتًا، ولا يعيد التشهد، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله، وأشهَدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله، ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فليدع به ربه عز وجل)) رواه أحمد وغيره.
ومن الأخطاء التنفل عند إقامة الصلاة، بعض المصلين إذا دخل المسجد مباشرة يكبر ويشرع في صلاة السنة أو تحية المسجد جزاه الله خيرا، ولكن بعد تكبيره تقام الصلاة، ومع ذلك يستمر في صلاته وتفوته تكبيرة الإحرام، وربما فاتته الركعة الأولى بكاملها، ولا شك أن هذا خطأ، والسنة أن يقطع صلاة النافلة، ويدخل في صلاة الفريضة مع الإمام مباشرة من البداية، لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ صَلاَةَ إِلاَّ الْمَكْتُوبَة)) رواه مسلم، قال ابن عبد البر: "ومعنى قول المؤذن في الإقامة: (حي على الصلاة) معناه: هلموا إلى الصلاة، أي: التي يقام لها، فأسعَد الناس بامتثال هذا الأمر من لم يتشاغل عنه بغيره" [انظر: فتح الباري 2/150-151]، والفريضة أولى بالمحافظة على إكمالها من النافلة. وعن مَالِكُ بْنُ بُحَيْنَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَأَى رَجُلاً وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ لاَثَ بِهِ النَّاسُ ـ أي: أحاطوا به وداروا حوله ـ، وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : ((الصُّبْحَ أَرْبَعًا؟! الصُّبْحَ أَرْبَعًا؟!)) رواه البخاري، هو استفهام إنكار ومعناه: أنَّه لا يشرع بعد الإقامة للصُّبح إلاَّ الفريضة، فإذا صلَّى ركعتين نافلة بعد الإقامة ثمَّ صلَّى معهم الفريضة صار في معنى من صلَّى الصُّبح أربعًا، لأنَّه صلَّى بعد الإقامة أربعًا. ويوضح هذه الرواية ما رواه مسلم عن مالك بن بحينة أيضا أَنَّ رَسُولَ اللهِ مَرَّ بِرَجُلٍ يُصَلِّي وَقَدْ أُقِيمَتْ صَلاَةُ الصُّبْحِ، فَكَلَّمَهُ بِشَيْءٍ لاَ نَدْرِي مَا هُو، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا أَحَطْنَا نقول: مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللهِ ؟ قَالَ: قَالَ لِي: ((يُوشِكُ أَنْ يُصَلِّيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ أَرْبَعًا)). وفي هذا الحديث أن الدخول مع الإمام في الصّلاة عند سماع الإقامة أولى من ركعتي الفجر، وقد أظهر رسول الله الكراهية لمن فعل ذلك، ولم ينكر على مَنْ قضاها بعد الفريضة، كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحيحة.
إذًا فالشروع في صلاة النافلة أو الاستمرار فيها بعد شروع المؤذن في الإقامة منهي عنه صراحة، سواء كانت سنة الفجر أو غيرها، والسنة إدراك الصلاة من أولها مع الإمام ما أمكن إلى ذلك سبيلا، اللهم إلا إذا كان في نهاية النافلة ويستطيع أن يدرك الإمام في تكبيرة الإحرام فعندها يكمل النافلة التي هو فيها ثم يقوم إلى الفريضة مع الإمام.
وهناك خطأ آخر تابع لهذا ألا وهو أنه إذا أقيمت الصلاة وأراد أن يقطع صلاة النافلة ليدخل مع الإمام قطعها بالتسليم وهو واقف، وهذا خطأ، ولم يثبت فيه سنة عن الرسول ، والتسليم لا يكون إلا في آخر الصلاة، فتحريمها التكبير وتحليلها التسليم، والصواب أن يقطعها من غير سلام، ويخرج منها مباشرة، ويدخل مع الإمام.
وأخيرا ألخص لكم أخطاء اليوم فأقول: لا تغمض عينيك في الصلاة إلا إذا كان تفتيحهما يخل بالخشوع، فعندها يجوز لك تغميضهما.
إذا دخلت المسجد والإمام راكع فلا تشوّش على المصلين بإرسالك إشارات للإمام لينتظرك، بل ادخل بهدوء وسكينة.
لا تسرع الخطى لتدرك الإمام في الركوع قبل أن يرفع منه، بل السنة أن تمشي بهدوء وسكينة حتى تصل إلى الصف، فما أدركته فصله، وما فاتك فأتمه.
لا تكبر تكبيرة الإحرام وأنت تهوي إلى السجود فتبطل صلاتك، بل السنة أن تكبرها وأنت قائم.
لا تجمع تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع في تكبيرة واحدة، بل السنة أن تكبر لكل واحدة منهما تكبيرة.
لا تفتتح صفا جديدا والصف الذي أمامك لم يكتمل بعد، بل السنة أن تتمه كما تتم الملائكة صفوفها.
إذا دخلت المسجد ووجدت الإمام ساجدًا أو جالسا فلا تبق واقفا حتى يرفع لتدخل معه في الصلاة، بل ادخل معه على أية حالة كان عليها، قائمًا أو راكعًا أو ساجدًا أو جالسًا.
إذا دخلت المسجد فوجدت الصف ممتلئا فإياك أن تسحب أحدا منه ليصف معك، بل السنة أن تبحث عن فرجة في أي صف فتدخل فيها، فإن لم تجد فقف وحدك في الصف وصلاتك صحيحة.
لا تترك فرجة للشيطان بينك وبين أخيك بل سدها، وذلك بإلزاق منكبك بمنكبه، وكعبك بكعبه، حتى يستوي الصف.
تذكر أن من وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله.
تعاون مع الإمام على إقامة الصفوف، ولا تقف مكتوف اليدين كأن الأمر لا يعنيك.
إذا انتهيت من قراءة التشهد والإمام لم ينته بعد فلا تقرأه مرة أخرى ولا تسكت أيضا، بل اختر من الأدعية الطيبة ما شئت وادع بها.
إذا أقيمت الصلاة فلا تتنفل ابتداء، وإذا كنت في نافلة فاقطعها لكن بدون سلام، وادخل في صلاة الفريضة مع الإمام مباشرة.
وإلى خطبة أخرى نكمل فيها هذه السلسلة المباركة إن شاء الله تعالى نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يفقهنا وإياكم في ديننا، وأن يتقبل منا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3255)
ارفع رأسك فأنت في الفلوجة
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث, معارك وأحداث
عبد السلام بن محمد زود
سدني
19/2/1425
مسجد السنة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شعار الفلوجة. 2- شيء من تاريخ الفلوجة وصفات أهلها. 3- ملحمة الفلوجة والأوضاع المأساوية التي تمر بها. 4- دروس وعبر من ملحمة الفلوجة.
_________
الخطبة الأولى
_________
إخواني في الله، نظرا للأوضاع المأساوية التي يعيشها إخواننا في العراق وخاصة في الفلوجة، ونظرا للمعارك الضارية والدائرة على أرض الفلوجة والرمادي وما جاورهما من المناطق السنية، فإن من حقها علينا أن نقف معها ومع أهلها اليوم وقفة عزّ وإباء، لنحييهم ونحيي جهادهم، ولنهنّئ بالجنة شهداءهم إن شاء الله، ولندعو الله بالشفاء لجرحاهم، وبالصبر لنسائهم وأطفالهم، قوم من أول يوم قالوها لكل من يسمع: "من عاش منا عاش عزيزا، ومن مات منا مات شهيدا، نحسبه كذلك والله حسيبه"، بهذه الكلمات فاجأ أهل الفلوجة العالم، لذلك فإننا نستأذنكم أن تكون خطبة اليوم عن الفلوجة وأهلها والوضع فيها.
من العادي ـ أخي ـ وأنت تدخل مدينة من مدن الدنيا الواسعة أن تقرأ عبارة: "ابتسم فأنت في مدينة كذا"، لكن الفلوجة ابتكرت لنفسها شعارا آخر وهو: "ارفع رأسك فأنت في الفلوجة". ومن العادي أن تشاهد فيها شعارات أخرى تنوه برجالها يوم أن فرضوا على الأميركيين حظر التجول فيها.
أجل إنها الفلوجة فالجة رأس الكفر والإلحاد. إنها الفلوجة التي إذا دخلها دخيل يريد أهلها بسوء فإنها تصبح فالجة للرأس، تفرض على الدخيل الهزيمة، وتفلج الأرض لتدفن فيها الغزاة، نسأل الله تعالى أن يقسم مجاهدو الفلوجة رأس الأمريكان نصفين.
لقد دخلت الفلوجة مفردات الإعلام العربي من اليوم الذي رفضت فيه دخول الأميركيين عنوة، وهي من المدن القديمة في التاريخ، إذ يقول لسان العرب: "الفلوجةُ الأَرضُ المصلحةُ للزرع".
وأهل الفلوجة مشهورون بمزارعهم الخاصة، وبعملهم في تجارة الأقمشة، مثلما هم معروفون بالتدين والمحافظة، ويروي أحد أبنائها أن صدام قتل في ليلة واحدة عام 1992م تسعين من أبنائها، وقال مخاطبا شيوخ العشائر فيها: إنه لن يسمح بنمو الإسلاميين سواء كانوا سنة أو شيعة أو أبناء شيوخ عشائر أو فلاحين معدمين.
هذا التاريخ في المواجهة متجذر في أهالي الفلوجة التي يسكنها سبعمائة ألف نسمة، والحقيقة أن هذه المنطقة كباقي مناطق محافظة الأنبار ذات جذور عشائرية، والاحتلال الأميركي تعامل بغباء مع المؤسسة العشائرية الضاربة بعمق في تاريخ العراق، كما أنه لم يفهم طبيعة تأثير العقيدة في سلوك العراقي المسلم.
والثأر عند أهالي الفلوجة مؤسسة عريقة في النفسية العربية والعراقية خصوصا، وبقدر ما تقتلُ قواتُ الاحتلال من العراقيين تجلب لنفسها من الحاقدين والأعداء من لا يهدأ له بال إلا بالأخذ بثأره، لذلك يرفضون الغريب ويأنفون من الخضوع، والأمريكيون لم يفهموا هذه الطبيعة بعد.
هذا وتسكن الفلوجة عشائرُ سنية عريقة، وهي تدين بالولاء السياسي لهيئة علماء المسلمين، ويوجد فيها أكثر من ثمانين مسجدا جامعا.
ولم تدخل منطقة الأنبار التي تقع فيها الفلوجة مرحلة الفوضى والسلب والنهب التي عمت مدن العراق بعد دخول القوات الأميركية إلى بغداد قبل عام، بل بادر علماء الدين وشيوخ العشائر فملؤوا الفراغ السياسي، وعينوا مسؤولين لتسيير كافة شؤون الحياة بما فيها الشرطة والشؤون البلدية.
وكان ضمن خطة أهل المدينة عرض خطة على الأمريكان وهي السِّلمُ مقابل أن لا يدخلوا المدينة، وقبل الأمريكان الأمر، لكنهم قاموا بعد أسبوع بعرض قوة في شوارع المدينة بدوريات راجلة، وتوج ذلك باستقرار مائة وعشرين من جنودهم في إحدى المدارس بين البيوت.
وهنا ثارت نخوة الأهالي، فتظاهروا سلما يطالبون الأمريكيين بالجلاء وفاءً بعهد قطعوه على أنفسهم، ورد المحتلون بقصفٍ قُتل فيه ثلاثة متظاهرين، ومن هنا انطلقت شرارة المقاومة، فقُصف مقر الأمريكيين في ذلك المساء وقتل سبعة منهم، وتعهد سكان الفلوجة أن تكون مدينتهم مقبرة للأمريكيين.
وحقائق التديّن والمحافظة السائدة في المدينة تجعلها عصية على أيّ محتل، متحدية لكل غريب، ولن تنجح قوات الاحتلال في كسب المعركة إلا إذا ابتعدت عن الفلوجة وتركت أهلها يعيشون في سلام، علما بأن الفلوجة هذه توصف بأنها أم المقاومة العراقية.
إخواني في الله، والآن عبثا يحاول المرء أن يحيط بكل ما تقذفه الفضائيات وتطير به وكالات الأنباء بشأن الوضع في العراق، فيضان من الأخبار، معظمه غير دقيق، ولكنه في النهاية يوحي بجزء من حقيقة الملحمة التي تجري فصولها الشامخة في بلد أبت قِيَمُهُ الشماء أن يطأطئ الرأس ويحني الجبهة للمحتل.
تتزاحم الأخبار وتتلاحق، وتتعانق الأفكار في أذهان السامع والمتابع لها تبعا لها، عشرات بل مئات الأنفس العراقية البريئة قضت نحبها، وعشرات بل مئات كذلك من المحتلين المعتدين قد لقوا حتفهم، مدنيون نالتهم أيدي البغي بمنتهى الخسة، وعسكريون معتدون سقطوا بلا شرف في معركة عجزوا حتى الآن عن أن يرفعوا لها هدفا أخلاقيا نبيلا، فصبر جميل يا أهل العراق ويا أهل الفلوجة، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ [النساء:104].
إخواني في الله، إن الوضع في الفلوجة وخاصة الإنساني صعب للغاية، فالمدينة كلها أصبحت مستهدفة من قبل قوات المارينز الأمريكية، وإنها لا تفرق بين بيت وغيره، وإن حجم القتلى في ازدياد نتيجة الحصار واستهداف سيارات الإسعاف ومنع المصابين من التوجه للمراكز الطبية المكتظة أصلا بالجرحى، مع النقص الشديد في اللوازم الطبية الضرورية، بل وتحوّل ملعب الفلوجة إلى مقبرة يدفن فيها ضحايا القصف الأمريكي بعد منع الأهالي من التوجه إلى المقابر، إضافة إلى الحدائق الملحقة بالمنازل، حيث أن والدا قتِل ولداه ولم يستطع أن يخرج إلى المقبرة لدفنهما نتيجة لوجود القناصة الأمريكيين الذين يستهدفون أي أحد يطلّ برأسه من أي مكان في المدينة، الأمر الذي دعاه إلى أن يقبر ولديه في حديقة منزله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
هذا وقد نقلت المصادر الطبية في المدينة أن ضحايا القصف الأمريكي بلغ حتى الآن ثلاثمائة قتيل ونحوا من خمسمائة جريح في آخر حصيلة شبه رسمية الجمعة 9/4/2004م، وعلى الرغم من هذه المجازر الوحشية واستهداف المدنيين العزل من النساء والشيوخ والأطفال بالقنابل العنقودية والقنص واستهداف الرؤوس إلا أن الصمت العربي والعالمي لا زال غير مفسَّر حتى الآن. ولكن ـ والحمد لله ـ على صعيد الروح المعنوية فالواقع أن أهالي الفلوجة مصمّمون على الصمود، فإما الشهادة، وإما الحياة العزيزة، وأنهم لن يستسلموا ولو ظل الحصار أكثر من عام، كما صرح بذلك شيخ كبير السن من أهالي الفلوجة.
وقد فشلت القوات الأمريكية في اقتحام المدينة بالأمس عدة مرات، واندحرت أمام قوة وشراسة المجاهدين وبسالتهم، مما اضطر قوات الاحتلال الأمريكية إلى أن تغير استراتيجيتها العسكرية في هجومها الوحشي على الفلوجة نتيجة ضربات المجاهدين الموجعة والخسائر التي تكبّدتها، فعمدت إلى استخدام الطائرات المقاتلة من طراز إف16 وغيرها من الطائرات الحربية المقاتلة، دون المروحيات التي تمكن المجاهدون من إسقاط العديد منها.
كما بدأت القوات الأمريكية في استهداف المدنيين العراقيين من قبل قناصة أمريكيين متحصنين تمركزوا فوق أسطح البيوت والبنايات العالية ومنائر بعض المساجد التي استولوا عليها.
فتحية لكم يا أهل الفلوجة، يا من رفعتم رأس المسلمين، وأثبتم للعالم أن النصر بالدعوات لا بالطائرات والدبابات، فليهنكم ما أنتم فيه من جهاد وتضحيات، اثبتوا فإن المسلمين معكم بأرواحنا وقلوبنا ودعواتنا، اثبتوا ثبّت الله قلوبكم على الإيمان في الدنيا والآخرة، واعلموا أن مقام أحدكم ساعة في الثغر خير من أعمار أكثر المسلمين في الأرض، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السّيوف، وتذكروا قول الله تعالى: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111].
ولكن رغم كل هذا فلنا في ظل هذه الأحداث وما سبقها دروس كثيرة نذكر أهمها فنقول:
أول هذه الدروس هو وصول الاحتلال بعد عام من سقوط بغداد إلى حال الانسداد التام والعجز المطبق والشلل الكامل، والأخبار المتدفقة من كل مكان تشير جميعها إلى أنه قد حمي الوطيس، وأن أبطال الفلوجة السُّنة ينفذون ملحمة ويخوضون معركة سيسجلها لهم التاريخ، وأن ما يسمى بـ"الدولة العظمى أمريكا" تمر بأسوأ مراحلها الاستعمارية، وأنه قد بدأ العد العكسي لزوال احتلالهم وعدوانهم وأفول إمبراطوريتهم التي لا يغيب عنها القهر إن شاء الله تعالى. ومن سرَّه أن ينظر فلينظر إلى وجه "بوش" ووجوه إدارته، وإلى صاحبه وشريكه "بلير" وقد ظهر في مؤتمره الصحفي قبل أيام أشعث الرأس، يعلو السواد وجهه، يتلعثم في ردوده، وأي ردود تسعفه والوضع لا يحتاج إلى شهادة زور من جديد؟! فهو سهم العدوان يرتدّ في نحر مطلقيه الآن. ومن سرَّه أن يستمع فليستمع إلى السيناتور الديمقراطي الأمريكي "تيد كينيدي" الذي شبَّه وضع "بوش" بوضع "نيسكون" وقارن الوضع في العراق بفيتنام. ولولا أن الأمر كذلك لما صرح بذلك، حتى وصل التصريح بذلك إلى بعض المعارضين في برلمان هذه البلاد، مما اضطر رئيس الوزراء إلى الرد قائلا: "إن أي مقارنة بين الوضع في العراق وما كان عليه وضع فيتنام خطأ من الناحية السياسية والتاريخية، وليس لها هدف إلا أن تفتّ في عضد قوات التحالف". فُتِّت ـ يا رئيس ـ وانتهت، وإذا أحببت أن تعرف ذلك فاسمع ماذا قال مراسل صحيفة "التايمز" البريطانية في الفلوجة نقلا عن أحد قادة قوات مشاة البحرية الأمريكية: "إن المقاومة في الفلوجة أشرس من أية مقاومة واجهها الجيش الأمريكي في فيتنام، بالرغم من لجوء القوات الأمريكية لأعنف الأساليب العسكرية وأكثرها فتكا". أجل، لقد بدا الآن لكل متأمل في الساحة العراقية أنها بالفعل أشد من معارك فيتنام بالنسبة للأمريكيين، فها هي الفلوجة المدينة المسلمة السنية الصغيرة المحاصرة من كل جانب، تُسقط ثماني طائرات أمريكية في يومين اثنين، ويقتل المجاهدون أكثر من مائة وثلاثين أمريكيا في معركة الرمادي فقط باعتراف وكالة أنباء "نيوز سكاي"، دبابات أمريكية أعطبت وأحرقت، وطائرات أباتشي أمريكية أسقطت في الفلوجة والرمادي والسقلاوية والناصرية، حتى عمليات إنزال القوات الأمريكية باتت فاشلة في الفلوجة، وبدا أن المجاهدين ينتظرون أي عملية إنزال تتمتع بحماية طائرات ريثما ينزل المقاتلون منها، حتى يبدؤوا بإطلاق الصواريخ تجاهها لإجبارها على الابتعاد، ثم يتفرغوا لاصطياد الجنود الأمريكان. ومن الخوف والهلع في جنح الظلام والمعركة مشتدة بين الأمريكان وأهالي الفلوجة قامت طائرات الأباتشي الأمريكية عن طريق الخطأ بقصف الصفوف الخلفية للقوات الأمريكية مما زاد في قتلاهم.
وثاني هذه الدروس أن العالم كله أدرك الآن أن أمريكا كانت كاذبة في حربها على العراق واتهامه بأنه يملك أسلحة الدمار الشامل، وبعد مرور سنة كاملة على احتلال العراق ظهر كذبهم جليّا، حتى اعترف بذلك وزير خارجيتها "بول" قبل أسبوع، كما ندّد "كينيدي" قائلاً: "لقد شن بوش الحرب على العراق متّخذًا حججًا كاذبة وغافلاً عن الحرب الحقيقة ضد الإرهاب".
كما ظهر للعالم كله كذب وتزوير المخابرات العراقية والأمريكية والبريطانية، ورئيستهم في ذلك الكذب والتزوير المخابرات الصهيونية التي ضللت هؤلاء جميعا، ولذلك فإن أمريكا اليوم في مأزق يزداد يوما بعد يوم، وخاصة هذه الأيام التي أقضت فيه الفلوجة مضاجع الأمريكان في كل مكان، ولا يخلص أمريكا من هذا المأزق إلا الهروب إن استطاعت إلى ذلك سبيلا، ووالله مهما بقي المحتل في بلادنا فلا بد يوما أن يُخرج بإذن الله تعالى. و"بوش" الخائف على رئاسته بالأمس ومن مزرعته عقد اجتماعا طارئا عبر الفيديو مع حاكمه في العراق "بريمر" وقائد قواته الوسطى ومستشارته للأمن القومي "رايز" وآخرين، وذلك ليقف على أخبار قواته المنهارة في العراق، ثم يتصل هاتفيا بصاحبه "بلير" ليساعده على إيجاد حل واتخاذ قرار يعيد لهما ماء الوجه الذي أراقوه.
أجل، إنهم في مأزق حتى رئيس وزراء هذه البلاد قال: "إننا نعاني في العراق معاناة حقيقية، لكن ليس بإمكاننا أن ننسحب، لأن للانسحاب آثارا نفسية سيئة على قوات التحالف". الآن تعترف أنه ليس بإمكانك أن تنسحب، وما الذي جعلك تخالف شعبك وترسل أبناءه إلى هنالك؟! ألم يكن من الخير لك أن تستمع لشعبك وتبتعد عن هذه الحرب الظالمة الغاشمة؟!
وثالث هذه الدروس أن أمريكا لم تجلب لنفسها من جراء هذه الحرب إلا مزيدا من الكره لدى الشعوب قاطبة، وهذا ما صرَّح به السيناتور الأمريكي "إدوارد كينيدي" هذه الأيام عندما قال: "لقد حُزنا كراهية العالم، والحربُ على الإرهاب غير ممكن كسبها، ولقد فقدنا سمعتنا"، بل وستفقدون جنودكم وقوتكم في العالم الإسلامي قريبا إن شاء الله تعالى.
ورابع هذه الدروس أن المتأمل في هذه الأحداث يجد أن المسلسل الإجرامي الأمريكي الإسرائيلي واحد، ففي مثل هذه الأيام تماما قبل عامين كانت ملحمة أخرى يسطرها مناضلون آخرون في فلسطين وفي مخيم "جنين" تحديدا، كانت الكرامة يومها حيث قدَّم المخيم الصغير الذي لا تزيد مساحته عن كيلومتر مربع أسطورة فداء للأمة، وسجل درسا للتاريخ وللعسكرية وللعقيدة، إذ استعصت جحافل العدوان الصهيونية عن اقتحامه إلا بعد ثلاثة عشر يوما من الجهاد والفداء والشموخ والكرامة، يومها وقف أبطال الجهاد في المخيم رافعي الرأس، يسطرون الملحمة إلى أن ارتقت أرواحهم إلى السماء في موكب من خمسة وسبعين شهيدا، ولسان فعلهم يقول: "ألا أبلغوا عنا أمتنا أن قد وقفنا وصمدنا ودافعنا عن الدين والأرض والعرض حتى غدونا وما علينا ملامة"، وألسنة المرابطين في الأرض المباركة الكريمة تشيعهم قائلة: "أما هؤلاء فقد أدّوا ما عليهم". خمسة وسبعون شهيدا ـ نحسبهم ـ ارتقوا، وتسعة وسبعون يعالجون إلى اللحظة، ومائة وستة وثمانون لا زالوا قيد الأسر، ثمانمائة منزل هدمت، مائة وخمسون محلا تجاريا نسفت، ومع ذلك صمدوا ثلاثة عشر يوما، هذا والعواصم العربية قد رفعت الرايات البيضاء، والزعماء الكبار لا يقوون حتى على الجلوس على مقاعد "قمة تونس" لساعات!! ويبدو أن قمتهم قد ضاعت، وتراهم يطيرون من هنا وهناك بحثا عنها وحتى الآن لم يجدوها، ونسأل الله أن لا يجدوها. واليوم ملحمة الفداء السنية في الفلوجة والرمادي قد أرغمت أنف المحتل وكانت المعارك متشابهة.
وخامس هذه الدروس أن الممارسات في العراق وفلسطين واحدة ولا عجب، أليست القوات الأمريكية بعيدا عن امتحال المبررات الكاذبة قد أتت إلى بلاد "بابل" لتقيم من قريب ما يسمى بـ"دولة إسرائيل الكبرى"؟! أوليست قد جاءت وفقا "لكونداليزا رايز" وغيرها لـ"تأمين الجبهة الشرقية لإسرائيل"؟! أوليست قد سمحت لضباط الموساد باستباحة الأرض العراقية فجاسوا اليوم خلال بلاد الرافدين؟! أوليس قد قال وزير عراقي في "مجلس الحلم الانتقالي" منذ عدة أيام: "إن من حق يهود أن يستعيدوا أملاكهم في العراق" حتى قبل أن يستعيد العراقيون أنفسهم أملاكهم المغصوبة من بني صهيون؟! لا غرو إن كان الأمر كذلك أن تتشابه فعالهم كما تشابهت قلوبهم. فما العيب إذًا أن تقوم القوات الأمريكية في الرمادي بحصار مستشفاها والحيلولة دون وصول الإمدادات الطبية ووصول المصابين إليه؟! وما العيب في أن تَترك دولة الحرية والديمقراطية المصابين ينزفون حتى الموت في شوارع الفلوجة المحاصرة؟! ما المانع من تدنيس المصاحف وقصف المساجد وسفك دماء الرضع؟! أفلا يكون لإيمان حجو ومحمد الدرة أشقاء في العراق؟! ما المانع والعيب في كل هذا إذا كان ذلك عين ما يحدث في فلسطين الحزينة؟! وهل يضر "بوش" و"بلير" ومن معهما أن يعم الحزن وتصرخ الأرامل ويبكي اليتامى وتنتحب الفتيات والأطفال في كل بلاد المسلمين؟! ثم يزعمون بعد ذلك كله بأن مصلحة الشعب العراقي تقتضي بقاء القوات الأمريكية على اختلاف جنسياتها هناك.
فيا من كنتم تتباكون بالأمس على أشلاء أبرياء إسبانيا، وقبلها على أشلاء أبرياء ومدنيي إسرائيل، واليوم على جثث المدنيين الأمريكيين المشويّين في الفلوجة كما تقولون وإلا فإنهم مخابرات أمريكية، لم لا تتباكون اليوم على أشلاء الأبرياء ومدنيي الفلوجة وفلسطين؟! تلك ـ وربي ـ إذًا قسمة ضيزى.
هذا ونكمل هذه الدروس بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله تعالى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إخواني في الله، وسادس هذه الدروس أن مما استفادته هذه الأمة في درس أفغانستان والعراق هو الجرأة، فقبل غزو الجيش الأمريكي لأفغانستان لم يكن أحد يتجرّأ على مجرد التفكير في معاداة أمريكا، أما اليوم فإن النمر الأمريكي افتضح، وظهر أنه لم يكن سوى نمر من ورق، ما أن لقي حتفه في لبنان، وجُرَّ بالسيارات في مقديشو، وفشل واندحر في أفغانستان، والآن شبَّت في ذيله النار في العراق حتى خارت قواه وظهر ضعفه.
وسابع هذه الدروس وآخرها أن هذه الأمة كالذهب لا يبرق إلا في المحن وبين اللظى، ويستطيع أي متأمل أن يلاحظ حال العراقيين إبان الثمانينات، كيف كان وضعهم الديني، وكيف أصبح الآن، وتلك سنة الله وحكمته، وبات العراقيون اليوم لا يَسِمُون المقاومين إلا بلفظ "المجاهدين"، وهو وإن كان مصطلحا جديدا هناك إلا أنه قد أصبح من منغصات القوات الأمريكية في العراق، حتى تكلم الناطق باسم القوات الأمريكية قبل يومين فقال: "إن المعركة الآن هي بين التطرف والاعتدال"، يقصد بين الإسلام والكفر، إنه اعتراف صار الأمريكيون أنفسهم يعترفون به بأن السحر الديمقراطي، قد بطل اليوم، وإن معركتهم الآن ليست مع "فلول النظام" و"يتامى صدام" كما كان يصوِّر الغرب، وإنما صار الأمر جليا، لا سيما بعد مؤتمر "هيئة علماء المسلمين العراقيين" الذي بثت الجزيرة مقاطع منه خلال هذا الأسبوع، أن المعركة حضارية وليست عسكرية أو أرضية، وإن موروث هذه الأمة الحضاري هو المستهدف، وإن العراقيين أضحوا مدركين لكل هذا، وإنه لم تعد هناك حاجة للاستتار.
أخيرا إخواني في الله، حولوا أنظاركم عن الصدر إلى الفلوجة، واسألوا: ماذا يحدث اليوم في الفلوجة؟! ولماذا طرد الصحفيون ومراسلو القنوات الفضائية منها؟! وما الذي يريد الأمريكيون إبقاءه سرا هناك؟! بعد أن حاصروها وسدوا كل منافذها. هل هناك عملية إبادة يحرص الأمريكيون فيها أن لا تخرج إلى العالم أصوات المستغيثين وهم يذبَّحون كالخراف؟! ولماذا في الوقت ذاته الذي يريد البنتاغون تصفية حساباته مع الفلوجة تظهر على السطح قضية "مقتدى الصدر" والتهديد بإنهائه وسحق جيشه، ثم يطلّ الصدر على الكويت ويصدر أوامره لأهلها أن يطردوا المحتلين منها وكأنه قائدها، فهل يدل ذلك على أن قضية الصدر مفتعلة؟! ومن الذي يقف وراءها؟! ولماذا ينخدع الرأي العام فيوجّه أنظاره إلى قضية مفتعلة أريدَ لها أن تصرف الأنظار عن الفلوجة ريثما تنتهي الساعات الرهيبة الوحشية التي يدفع فيها سكان هذه المدينة المجاهدة ثمن رفضهم للغزاة؟!
كانت ـ إخواني ـ هذه بعض الدروس المستفادة من أحداث الأمس واليوم، أرجو أن نكون قد وعيناها واستفدنا منها، أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن ينصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في الفلوجة ومن نصرهم، واخذل أعداء المجاهدين في الفلوجة ومن خذلهم يا رب العالمين.
سبحان ربك ربّ العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
(1/3256)
الدنيا في ميزان الشرع
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
21/8/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا مزرعة. 2- قلة الدنيا في جنب الآخرة. 3- الدنيا دار ممر. 4- مثل الدنيا في القرآن الكريم. 5- تنافس الناس على الدنيا. 6- خوف النبي على أمته فتنة الدنيا. 7- المفتونون بالدنيا. 8- مفهوم خاطئ عن الزهد. 9- الدنيا التي يذمها الإسلام. 10- مغبة التفريق بين الدين والدنيا. 11- الدنيا في المفهوم الإسلامي. 12- نظرة الكفار للدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسِي بتقوَى الله، قالَ تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أمّا بَعد: فإنّ الدّنيَا دارُ اختبارٍ وبَلاء، وعليه فإنّها مزرَعةٌ للآخِرة، يزرَع النّاس فيها اليومَ ليقطفوا غدًا في الآخرة، قالَ الله تعالى: ?لَّذِى خَلَقَ ?لْمَوْتَ وَ?لْحَيَو?ةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، وهيَ صائرةٌ إلى فَناءٍ وزَوال، قالَ الله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى? وَجْهُ رَبّكَ ذُو ?لْجَلْـ?لِ وَ?لإكْرَامِ [الرحمن:26، 27].
عمرُ الدّنيا في جَنب الآخرة قَليل، قالَ الله تعالى: وَفَرِحُواْ بِ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا فِى ?لآخِرَةِ إِلاَّ مَتَـ?عٌ [الرعد:26]، عنِ المستورد بن شَدّاد قال: قالَ رسول الله : ((مَا الدّنيا في الآخرة إلاّ مِثل ما يجعل أحدكم إصبعَه في اليمّ، فلينظر بماذا يرجِع)) أخرجه الترمذي [1] ، ومن حديث ابنِ مسعود: اضطجَع رسول الله على حصيرٍ فأثّر في جَنبه، فقيل له: ألاَ نأتيكَ بشيء يقيكَ منه؟ فقال: ((ما لي وللدّنيا؟! إنّما أنا والدّنيا كرَاكبٍ استظَلّ تحتَ شجرةٍ ثمّ راحَ وترَكها)) أخرجه البخاري [2].
الدّنيا ـ عبادَ الله ـ ليسَت دارَ مَقرّ، بل هيَ دارُ ممرّ، منذ أن تستقرّ قدمُ العبد في هذهِ الدّار فهو مسافِر إلى ربّه، ومدّةُ سفره هي عمرُه الذي كُتِبَ له، ثمّ قد جُعِلت الأيّام واللّيالي مراحلَ لسَفره، فكلّ يوم وليلةٍ مرحَلة من المَراحل، فلا يزال يطوِيها مرحلةً بعد مرحَلة حتّى ينتهِي السّفر، فالكيِّس الفطِنُ هو الذي يجعل كلَّ مرحلةٍ نصبَ عينيه، فيهتمّ بقطعها سالمًا غانمًا، فإذا قطَعهَا جعلَ الأخرى نصبَ عينيه.
هذه الحقائقُ عن الدّنيا تحجبُها عَن تأمُّل القلب جواذبُ الأرض وفِتن الدّنيا، وفي الحديثِ يقول النبيّ : ((إنّ الدّنيا حُلوَة خَضِرة)) أي: حلوة المَذاق، خَضِرة المنظَر، فالشيء إذا كان حلوًا ومنظره طيّبًا فإنّه يفتن الإنسان، وهكذا الدّنيا حلوَةٌ خضِرة، ثمّ يقول : ((وإنّ الله مستخلِفُكم فيها، فينظر كيفَ تعملون)) أخرجه مسلم [3].
وصَف القرآن الكريمُ الدنيا كزهرةٍ تزهِر بنضارَتها، تَسحَر الألباب، تستهوِي القلوبَ، ثمّ لا تلبَث إلا برهةً حتى تذبُل فتتلاشَى تلك النضَارة، وتحطّمها الريح، كأنّها لم تكن، هَذا مثل الدّنيا، زهرةٌ فتّانَة غرّارة تخدعُ وتُغري، فإذا أقبلَت عليها النفوسُ وتعلّقت بها الألبابُ ذوَت أيّامها واستحَالت نضرتُها إلى هَشيم، فغدت نعمتُها غرورًا، وصدَق الله: وَ?ضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَـ?هُ مِنَ ?لسَّمَاء فَ?خْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ?لأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ ?لرّياحُ وَكَانَ ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا ?لْمَالُ وَ?لْبَنُونَ زِينَةُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?لْبَـ?قِيَاتُ ?لصَّـ?لِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:45، 46].
إنّ هذا التصويرَ البليغَ يُجلِّي حقيقةَ الدّنيا في ميزانِ الإسلام، كي لا يصبِحَ الناس عبيدًا لها، تستهويهِم خضرتها، ويؤثِرونها على نعيمِ الآخرة، وليسَ مِن سَداد الرّأي أن يبيعَ العبدُ دينَه بدنياه، فيتكثّر بالحرامِ وجَمع الحُطام.
يتراكض الناس في طلبِ الدنيا خوفًا من فواتها وطمَعًا في المزيد، ويبذُلون الأوقات النفيسةَ ويقاسون شدّةَ الطلَب، بينما قد يفرّطون في الصّلاةِ ويقعدون عن الجماعةِ ويتساهلون في الطّاعة وتِلاوة القرآن ويتثاقلون في البذل والإنفاق.
إنّ الحياةَ الدّنيا مهما بلَغ شأوُ نعيمِها لا يزِن ذرّةَ رملٍ من نعيمِ الدّار الآخرة، وإنّ أعظمَ ما في الدّنيا من مصائبَ وشدائدَ يهون أمامَ نعيمِ دار الآخرة ولا يعادِل مقدارَ شَرارةٍ صغيرةٍ من عذاب جهنّم.
كانَ النبيّ يتخَوّف مِن فتحِ الدّنيا على أمّته، يخافُ عليهم الافتتانَ بها، فعن عمرو بن عوفٍ أنّ النبيّ قال للأنصارِ لمّا جاءَه مالٌ من البَحرين: ((أبشِروا وأمِّلوا ما يسرُّكم، فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكنّي أخشى أن تُبسَط عليكم الدّنيا كما بُسِطت على من كانَ قبلَكم، فتتنافسوها كما تنافسوها، وتهلِككم كما أهلكتهم)) أخرجه البخاري [4] ، وفي صحيح مسلمٍ عن عبد الله بن عمرو أنّ النبيّ قال: ((إذا فُتِحت عليكم فارسُ والرّوم أيُّ قومٍ أنتم؟)) قال عبدُ الرحمن بن عوف: نقول كما أمَرنا الله، قال رسول الله : ((أو غير ذلك؛ تتنافسون، ثم تتحاسَدون، ثمّ تتدابَرون، ثمّ تتباغضون)) [5].
هذه ـ عبادَ الله ـ بعضُ آثارِ بسطِ الدّنيا، تنافسٌ ثمّ تحاسدٌ ثم تقاتل وسفكٌ للدّماء، ومِن آثارِها الانغماس في التّرَف ونسيانُ الله والدّار الآخرة والسّقوط في المعاصي والآثام.
روي عنِ الحسنِ البصريّ أنّه قال: "رحِم الله أقوامًا كانتِ الدّنيا عندَهم وديعة، فأدَّوها إلى مَن ائتمنهم عليها، ثمّ راحوا حفافًا" [6] ، وقال مالك بن دينار: "بقدرِ ما تحزَن للدّنيا يخرُج همّ الآخرة من قلبك، وبقدرِ ما تحزن للآخرة يخرج همّ الدنيا مِن قلبك" [7].
طغى حبُّ الدنيا على قلوبِ بعضِ النّاس واستهوته خضرتها، يصرف لها همّه، يحرّك فيها همَّتَه، عبدوها من دون الله، آثروها على متعةِ الآخرة، وفيهم يقولُ رسول الله : ((تعِسَ عبدُ الدّينار وعبدُ الدّرهم وعبدُ الخميصة، إن أعطِي رضِي، وإن لم يُعْط سخِط)) أخرجه البخاري [8].
وتسربَل آخرون بالفَقرِ والمسكَنة والذِّلَّة وهجر الطيّبات، يرغبون في اللجوء إلى الزّوايا بزعم التفرّغ للعبادةِ وإيثار عملِ الآخرة، ويُصابون بعدَ ذلك بداءِ الكَسَل والإخلادِ إلى الرّاحةِ وداء الطمَع بعطاءات النّاس ومِنحهم وما يبذلونه لهم من مآكلَ ومشارب، تركوا عِمارةَ الأرض، يعبَث بها أربابُ الشرّ ويصوغُها صنّاع الضلال. إنّ فقدَ التوازنِ بين أمورِ الدنيا والدّين أضعَفَ الأمّةَ وقعَد بها عن أداءِ دورِها في قيادة الأمَم.
الإسلام ـ عبادَ الله ـ لا يحرّم الطيباتِ ولا يذمّ المنَافعَ والمآكلَ والمشارب والأموالَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ?للَّهِ ?لَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَـ?تِ مِنَ ?لرّزْقِ [الأعراف:32].
ولا يُفهم ممّا سبَق تركُ السعيِ في عمران الدّنيا وبنائها الحضاريّ والانتفاع من خيراتها، بل المرادُ أن يأخذَ المرء من الدّنيا ضمنَ الحدودِ التي أذِن الله بها، وأن لا تكونَ متاعًا للغرور، يَرفع متاعها فوقَ كلّ القِيَم، تُفقِدُ الإنسانَ وعيَه، تفسِد عليه دينَه وأخلاقه.
الدّنيا التي يذمّها الإسلامُ دنيَا الشهواتِ والملهِيات، دنيا تضييعِ الحقوقِ والواجبات والتّساهلِ في المحرَّمات، الدنيا التي تشغل عن الله وتلهِي عن الآخرة، أرادَ الله أن تكونَ الدّنيا مُلكًا لَنا، فجاءَ صِغار الهِمم وأبَوا إلاّ أن يكونوا مُلكًا لها.
إخوةَ الإسلام، إنّ المرتبةَ المثلى الجمعُ بين الدّين والدّنيا، بينَ الصّبر والفَقر، بين التّقوى والغِنى، ولذا قال رسولُ الله : ((نِعمَ المال الصّالح للمَرء الصّالح)) أخرجه البخاري [9] ، ويدعو رسولُنا الكريم ربَّه قائلاً: ((اللهمّ أصلِح لي ديني الذي هو عِصمة أمري، وأصلِح لي دنيايَ التي فيها معاشي، وأصلِح لي آخرتي التي فيها معادِي، واجعَل الحياةَ زيادةً لي في كلّ خَير، واجعلِ الموتَ راحة لي من كلّ شرّ)) أخرجه مسلم [10].
إنّ التفريقَ بين شؤون الدّنيا وشؤونِ الآخِرة كان سببَ التّخلُّف الذي أزرَى بأمّتنا وأقعدها عن نشرِ رسالتِها، حين فهِم أقوامٌ مِن ذَمّ الدّنيا إهمالَ الحياة الدّنيا وتركَ عِمارتها والقعودَ عن إصلاحها وتنميتها والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، ولّد فيهم ذلك سلبيةً مقيتَة وانعزاليّة وضعفًا وخوَرًا يأباه الدّين، قالَ تعالى: وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ?لآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ [البقرة:201].
الحسنةُ في الدّنيا تشمَل كلَّ مطلوبٍ دنيَويّ مِن عافيةٍ ودارٍ رَحبة ورزق واسِع وعلمٍ نافع وعمَل صالح ومركَب هيِّنٍ وثناءٍ جميل، والحسنةُ في الآخرة أعلاها دخولُ الجنّة وتوابِعُه من الأمنِ من الفزع الأكبر وتيسير الحساب.
والصّحابةُ هم القدوة والنموذجُ في فهمِ الإسلام، يأخذون بالأسبابِ في الكَسب من تجارةٍ وزراعة، ويطلبون العلمَ ويَبذلون في سبيل ذلك أوقاتهم وأنفسَهم وأموالهم، فيهم الأغنياءُ دونَ بطَر والفقراء مع التعفُّف، ومع هذا كانوا أبعدَ النّاس عنِ التهالك على الدنيا، فتَحُوا البلدان، وأنشؤوا المدُن، وأقاموا الدّوَلَ، ونشروا الإسلام.
كانَ بعضُ كبار الصحابة من الأغنياء، ولم يدعُهم رسول الله إلى تَرك المالِ وتركِ الاشتغالِ بالتّجارة، كما أنّ الدّنيا لم تكُن تساوي جناحَ بعوضَة في حياتهم، قالَ سفيان بن عيينة: "ليسَ من حُبّ الدنيا أن تطلبَ منها ما يصلِحك" [11] ، وعن سعيد بن المسيّب: "لا خيرَ فيمَن لا يطلبُ الدّنيا يقضي به دَينَه ويصون به عِرضَه، وإن مات تركهه ميراثًا لمن بعده" [12].
فالدّنيا في المفهومِ الإسلاميّ وسيلةٌ وذريعةٌ لتحصيل مقاصدِ الشريعةِ ومطيّة للآخرة، فإنّها إذا فسَدت فربّما أدّى فسادُها إلى إنقاص الدّين، فلا شكّ أنّ الدينَ سيضعف إذا وصَل حالُ أهلها إلى قلّةِ الأمن وقلّة الرزق والقتل، فلا يُقبَل أن يقولَ مسلم: أنا أحفَظ ديني وأدَع الدنيا يُعبَث بها ويُفسَد فيها؛ لأنّ من صلحت حاله مع فسادِ الدّنيا واختلالِ أمورِها لن يُعدَم أن يتعدّى إليه فسادُها ويقدَح فيه اختلالها؛ لأنّه منها يستمدّ، ومن فسَدت حاله مع صلاحِ الدّنيا وانتظامِ أمورِها لم يجِد لصلاحِها لذّةً ولا لاستقامتها أثرًا؛ لأنّ الإنسانَ دنيا نفسِه، قال الله تعالى: وَ?بْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ?للَّهُ ?لدَّارَ ?لآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ?لدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ?للَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ?لْفَسَادَ فِى ?لأرْضِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [القصص:77].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن الترمذي: كتاب الزهد (2323) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وأخرجه مسلم في كتاب الجنة (2858).
[2] أخرجه أحمد (1/391، 441)، والترمذي في الزهد (2377)، وابن ماجه في الزهد (4109)، والطيالسي (277)، والبزار (1533)، وأبو يعلى (5229، 5292)، والحاكم (7859)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (438).
[3] صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء (2742) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[4] صحيح البخاري: كتاب الجزية (3158).
[5] صحيح مسلم: كتاب الزهد (2962).
[6] انظر: إحياء علوم الدين (3/207).
[7] أخرجه البيهقي في الزهد (2/134)، وانظر: صفة الصفوة (3/279).
[8] صحيح البخاري: كتاب الجهاد (2887) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (299) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (4/197)، والبيهقي في الشعب (2/91)، وصححه ابن حبان (3210)، والألباني في غاية المرام (454).
[10] صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء (2720) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] أخرجه أبو نعيم في الحلية بمعناه (7/273)، وانظر: صفة الصفوة (2/232).
[12] انظر: تفسير القرطبي (3/420).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي بنعمتِه تتمّ الصّالحات، أحمدُه سبحانه وأسأَله الفوزَ بالباقياتِ الصّالحات، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له إله البريّات، وأشهَد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبدُه ورسوله المبشَّر بالمكرُمات، صلى الله عليه وعلى آلهِ وصحبِه الفائزين بالجنّات.
أمّا بعد: فأوصِيكم ونفسِي بتقوى الله.
قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مّنَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ?لآخِرَةِ هُمْ غَـ?فِلُونَ [الروم:7]. يحكِي القرآن حالَ أقوامٍ نظرتُهم إلى الحياة الدنيا نظرة ضيّقة محدودَة، يعلمون ظاهرَها، وهو ملاذُّها وملاعِبها وأكسابها وشؤونها وعمرانها ومَساكنُها وشهواتهم وأهواؤهم، ولا يعلَمون باطنَها؛ مضارَّها متاعبَها فناءَها، فعن عائشة رضي الله عنها أنّ رسولَ الله قال: ((الدّنيا دَار مَن لا دارَ له، ومالُ مَن لا مال، ولها يجمَع مَن لا عقلَ له)) رواه أحمد في مسنده [1].
إنّ هؤلاء الذين أخلَدوا إلى الأرض لا يظفَرون من دنياهم لِلذّاتهم بطائل ولو جمَعوا وملكوا كلَّ كنوزها، ويظلّ الظمأ النفسيّ واللّهَث المادّيّ في تواصُلٍ دائِم، قال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـ?هُ بِهَا وَلَـ?كِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ?لأرْضِ وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ?لْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث [الأعراف:176].
ألا وصلّوا ـ عبادَ الله ـ على رسولِ الهدَى، فقد أمَركم الله بذلك في كتابِه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خُلفائه الأربعة الراشدين...
[1] مسند أحمد (6/71) من حديث عائشة رضي الله عنه، وأخرجه البيهقي في الشعب (7/375)، وحسنه المنذري في الترغيب (4/86)، وقال الهيثمي في المجمع (10/288): "رجاله رجال الصحيح غير دويد وهو ثقة"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1933).
(1/3257)
يا باغي البركة
الرقاق والأخلاق والآداب, قضايا في الاعتقاد
فضائل الأزمنة والأمكنة, معجزات وكرامات
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
14/1/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البركة من الله تعالى. 2- فضل البركة. 3- الرسل والدعاة إلى الله مباركون. 4- القرآن الكريم كتاب مبارك. 5- من أسباب البركة. 6- البركة في الأسرة والمرأة والولد. 7- الرجل المبارك. 8- مجالس الذكر. 9- المال المبارك. 10- البركة في المأكل والمشرب. 11- أوقات فاضلة. 12- أماكن مباركة. 13- الفضيلة الدائمة. 14- ما يرفع البركة. 15- مفاسد محق البركة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التّقوى، فتقوَى الله نورُ البَصائِر، وبها تحيَا القلوبُ والضمائر.
أيّها المسلمون، يسعَى الخلائقُ في هذِه الحياةِ بِألوانٍ منَ الأعمالِ شَتّى، يضمَحلّ منها ما كان في معصية الله وسخَطِه، ويزهو ما كان في مرضاتِ الله وطاعتِه، قالَ سبحانه: فَأَمَّا ?لزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ?لنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ?لأرْضِ [الرعد:17].
وكلُّ شيءٍ لا يَكونُ للهِ فبركتُه مَنزوعَة، والربُّ هوَ الذي يُبارِك وَحدَه، والبركةُ كلُّها مِنه، وهوَ سبحانَه تبارَك في ذاتِه، ويباركُ فيمن شَاءَ من خلقِه، قالَ جلّ وعلا: وَتَبَارَكَ ?لَّذِى لَهُ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ ?لسَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الزخرف:85]. وكلُّ ما نُسِب إليهِ فهوَ مبارَك، واسمه تعالى مباركٌ تُنال معَه البركة، قال عزّ وجلّ: تَبَـ?رَكَ ?سْمُ رَبّكَ ذِى ?لْجَلَـ?لِ وَ?لإِكْرَامِ [الرحمن:78].
والله جلّ وعَلا برَحمته يأتي بالخيرَات، وبفضَله يضاعِف البركات، وليسَت سَعةُ الرّزق والعَملِ بكثرته، ولا زيادةُ العمر بتعاقُب الشهور والأعوام، ولكن سعةُ الرزقِ والعمُر بالبركة فيه.
بالعمَل المبارَك يُكتسَب الذّكرُ الجميل في الحياة وجزيلُ الثوابِ في الآخرة، به طهارةُ القلبِ وزكاةُ النفس وعلوُّ الخلُق.
والبركةُ ما كانت في قليلٍ إلاَّ كثَّرته، ولا في كثيرٍ إلا نفَعَته، ولا غِنَى لأحدٍ عَن بركةِ الله، حتى الأنبياء والرّسل يطلبونها من خالقِهم، يقول النبيّ : ((بينما أيّوبُ يغتسِل عُريانًا، فخرَّ عليه جرادٌ من ذهَب، فجعل أيّوب يحتثي في ثوبِه، فناداه ربّه: يا أيّوب، ألم أكن أغنيتُك عمّا ترى؟! قال: بلَى وعزّتِك، ولكن لا غِنى بي عن بركتك)) رواه البخاري [1].
والرّسُل والدّعاةُ مبارَكون بأعمالهم الصّالحةِ ودَعوتهم إلى الخيرِ والهدَى، قال عيسَى عليه السلام: وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى بِ?لصَّلَو?ةِ وَ?لزَّكَو?ةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:31]. ونوحٌ عَليهِ السّلام أُهبِط ببركاتٍ من الله: قِيلَ ي?نُوحُ ?هْبِطْ بِسَلَـ?مٍ مّنَّا وَبَركَـ?تٍ عَلَيْكَ وَعَلَى? أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ [هود:48]، ودعا نوحٌ عليه السلام ربَّه بالمنزلِ المبارَك: وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ ?لْمُنزِلِينَ [المؤمنين:29]. وألقَى الله البركةَ على إبراهيمَ وآله، قالَ تعالى: وَبَشَّرْنَـ?هُ بِإِسْحَـ?قَ نَبِيًّا مّنَ ?لصَّـ?لِحِينَ وَبَـ?رَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى? إِسْحَـ?قَ [الصافات:112، 113]، وبارَك فيه وفي أهلِ بيته، قال عزَّ وجلّ: رَحْمَتُ ?للَّهِ وَبَرَكَـ?تُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ ?لْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ [هود:73]، قالَ ابن القيّم رحمه الله: "هذا البيتُ المبارَك المطهَّر أشرَفُ بيوت العالم على الإطلاق، فلَم يأتِ بعدَ إبراهيمَ نبيٌّ إلاَّ من أهلِ بيتِه، وكلُّ من دخَل الجنّةَ من أولياء الله بعدَهم فإنما دخَل من طريقهم وبدعوَتهم" [2]. ودعَا نبيّنا ربَّه بالبركَة في العطاءِ في قولِه عليه الصلاة والسلام: ((وبارِك لي فيما أعطيتَ)) رواه الترمذي [3].
وتحيّة المسلمِين بينهم عندَ اللّقاء طلبُ السّلام والرّحمة والبركة.
أيّها المسلمون، القرآنُ العظيم كثيرُ الخيراتِ واسِع المبرّات، كتابٌ مبارَك محكَم، فَصلٌ مهيمِن، أنزله الله رحمة وشِفاءً وبيانًا وهُدى، قال سبحانَه: وَهَـ?ذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَـ?هُ [الأنبياء:50]. وسورَةُ البقرة سورَة مبارَكة، مأمورٌ بتعلّمها، قالَ عليه الصلاة والسلام: ((تعلَّموا سورةَ البقرةِ، فإنّ أخذَها برَكَة، وتركَها حَسرة، ولا تستطيعُها البطَلَة)) أي: السّحرة. رواه أحمد [4].
وسَعة الرِّزق وبركةُ العمُر في صِلةِ الرحِم، يقول المصطَفى : ((مَن أحبَّ أن يُبسَط له في رِزقه ويُنسَأ له أثرِه فليصِل رحمه)) رواه البخاري [5].
والصادقُ في البيع والشِّراءِ والمعاملات مبارَكٌ له في الكَسب، مترادفٌ عليه الخير، يقول النبي : ((البيِّعان بالخِيار ما لم يتَفرّقا، فإن صدَقا وبيَّنا بُورِك لهما في بيعِهما، وإن كذبا وكتَما مُحِقَت بركة بيعِهما)) متفق عليه [6].
ولحرصِ الإسلامِ على الأسرةِ وحلولِ البركةِ فيها وعليها مِن أوّل نشأتها شُرِع الدّعاء للزوجين بالبركة عندَ النكاح، يقول أبو هريرةَ رضي الله عنه: كانَ النبيّ إذا رفّأ الإنسانَ إذا تزوّج قالَ له: ((بارَك الله لك، وبارك عليك، وجمَع بينكما في خير)) رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح" [7]. وأوفرُ الزَّوجاتِ بركةً ما قلّت المؤونةُ في نكاحها، والزواجُ السّعيد ما صاحَبَه اليسرُ والتّسهيلُ، يقول المصطَفى : ((أعظمُ النّساءِ بركةً أيسرُهنّ مؤونة)) رواه أحمد [8]. والزوجَةُ المبارَكة هِي المطيعةُ لله القائمةُ بحقوق زوجها في غيرِ معصيةِ الله. والولدُ المبارَك هو النّاشئ على طاعةِ ربِّه، المستمسِك بسنّة نبيِّه عليه الصلاة والسلام، الصائنُ لنفسِه عنِ الذنوب والعِصيان.
وإذا دَخل ربُّ الأسرةِ دارَه شُرِع إفشاءُ السلام على أهله رجاءَ البركة، يقول أنَس رضي الله عنه: قال لي رسول الله : ((يا بنيّ، إذا دخلتَ على أهلِك فسلّم، تكُن بركةً عليكَ وعلى أهلِ بيتك)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" [9].
والرجلُ المبارَك هوَ الذي يُنتفَع به حيثُما حلّ، وإذا قرُبَ العبد من ربّه بورِك في وقتِه وعمِل أعمالاً كثيرةً في زمنٍ يسير. أبو بَكر الصديق رضيَ الله عنه قبلَ صلاة الفَجر عادَ مريضًا وتبِع جنازةً وأطعَم مِسكينًا وأصبح صائمًا، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: قالَ رسول الله : ((مَن أصبَح مِنكم اليومَ صائمًا؟)) قال أبو بَكر: أنا، قال: ((فمَن تبِع منكم اليومَ جنازَة؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمَن أطعمَ منكم اليومَ مسكينًا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمَن عادَ مِنكم اليومَ مرِيضًا؟)) قال أبو بكرٍ: أنا، فقال رسولُ الله : ((ما اجتَمَعت في امرِئ إلا دخل الجنة)) رواه مسلم [10].
وخير الصُّحبةِ صُحبةُ الصّالحين، وأزكى المجالسِ مجالسُ الذّكر، تحضرُها الملائكة، ويُغفَر لجليسها، ((فتقول الملائكة لربّها: فيهم فلانٌ ليسَ مِنهم، وإنما جاءَ لحاجةٍ، قال: همُ الجلساءُ لا يشقَى بهم جليسُهم)) متفق عليه [11]. فهذا مِن بركَتهم على نفوسِهم وعلى جليسهم.
والمالُ المبارَك ما كثُر خيرُه وتعدّدَت منافعه وبُذِل في طُرقِ البرّ والإحسانِ ابتغاءَ مرضاتِه، ومَن قنِع بربحٍ حلال قليلٍ وتحرّى الصدقَ في معاملاتِه ظهرتِ البركة في مالِه وفي أولادِه، قال النبيّ : ((من أخَذه بحقّه ووضعَه في حقِّه فنِعمَ المعونَة)) رواه البخاري [12].
وسرورُ الدّنيا وبهجةُ زينتِها لا تتِمّ إلا بكسبٍ حَلال، والمالُ يكثُر عددُه بالبذلِ والعطاءِ في الخيرات، قال المصطَفى : ((ما نقصَت صدقةٌ مِن مال)) رواه مسلم [13] ، وقالَ عليه الصلاة والسلام: ((أنفِق يُنفَق عليك)) رواه البخاري [14]. ومَن أخَذ ما أُعْطِي بتعفُّف وغِنى بنفسٍ من غَير مسألةٍ ولا استشرافٍ له بالقلب بورِك له فيه، قال : ((مَن أخَذه بطيبِ نفسٍ منه بورِك له فيه، ومَن أخذَه بإشرافِ نفسٍ له لم يبَارَك له فيه)) رواه ابن حبان [15].
والبركةُ يتحرّاها العَبدُ في مَأكلِه في يومِه وليلتِه، فالطّعامُ المبارَك ما أكلتَه ممّا يليك، وتجنّبتَ الأكلَ من وسطِ الصحفَة، وذكرتَ اسمَ الله عليه، قال عليهِ الصلاة والسلام: ((البركةُ تنزل وسطَ الطّعام، فكُلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وَسطه)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" [16].
وأمَر رسول الله بلَعقِ الأصَابعِ والصّحفة بعدَ الفراغ من الطعام رجاءَ البركة، وقال: ((إنّكم لا تَدرون في أيِّها البركَة)) رواه مسلم [17].
وفي الاجتماعِ على الطعام بركة، وفي التفرّق نزعٌ لها، يقولُ وحشيّ بنُ حرب: قالوا: يا رسولَ الله، إنّا نأكُل ولا نشبع، قال: ((فلعلّكم تفترِقون)) ، قالوا: نعَم، قال: ((فاجتمِعوا على طعامِكم، واذكُروا اسم الله، يبارَك لكم فيه)) رواه أبو داود [18].
وسيّد المياه وأنفعُها وأبركُها ماءُ زمزم، قال عليهِ الصّلاة والسلام: ((إنها مبارَكة، إنها طَعامُ طُعم)) رواه مسلم [19].
أيّها المسلمون، اصطَفى الله مِن الدّهرِ أزمنةً، ومِن البقاعِ أمكنَة، خصّها بالتَّشريف والبرَكة، فليلةُ القدر ليلةٌ مباركة رفيعةُ القدرِ عظيمةُ المكانةِ، إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـ?رَكَةٍ [الدخان:3]، وأوّلُ النهارِ بعد صلاةِ الفجرِ زمنُ غنيمةٍ مبارك ووقتُ نزولِ الأرزاق وحلولِ البركات، أقسَم الله به في كتابِه بقولِه جلّ وعلا: وَ?لَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَ?لصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [التكوير:17، 18]، والنّبيّ دعا بالبركةِ في بُدُوِّ الصَّباح، قال عليه الصلاة والسلام: ((اللهمَّ بارِك لأمّتي في بُكورها)) [20]. والنومُ بين صلاةِ الصبحِ وشروقِ الشمس تفويتٌ لزهرة اليوم.
وبيتُ الله الحرامِ مبارَك، ليسَ في بيوتِ العالمَ أبرَك منه ولا أكثرَ خيرًا ولا أدوَم ولا أنفعَ للخلائق، قال جلّ وعلا: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لّلْعَـ?لَمِينَ [آل عمران:96].
ومدينةُ المصطَفى مدينةٌ مبارَكة، الصلاةُ في مسجِدِ النبيِّ عن ألفِ صَلاةٍ فيما سِواه، وصاعُها ومُدُّها مبارك فيه، وتمرُ عاليَتها شِفَاء، يقول النبيّ : ((اللهمّ بارِك لنا في مدِينتِنا، وبارِك لنا في صاعِنا ومُدِّنا)) رواه مسلم [21] ، وفي لفظٍ له: ((اللهمّ اجعَل مَع البركة بركتين)) [22] ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((اللهمَّ اجعَل بالمدينة ضِعفَي ما جَعلتَ بمكّة من البرَكة)) متفق عليه [23]. قال النّوويّ رحمه الله: "الظاهرُ أنَّ البركةَ حصَلت في نفسِ المكيل، بحيث يكفي المدُّ فيها مَن لا يكفيه في غيرها، وهذا أمرٌ محسُوسٌ عند مَن سَكنها" [24].
وبارَك الله في مواطنَ مِن أرضه كما في قوله تعالى: سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لأقْصَى ?لَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـ?تِنَا [الإسراء:1].
والفضيلة الدائمةُ في كلِّ زمانٍ ومكَان في الإيمانِ والعملِ الصّالح، وأيّ مكانٍ وعمَل كانَ أعونَ للشّخص كانَ أفضلَ في حقِّه، يقولُ سلمان رضي الله عنه: (إنَّ الأرضَ لا تقدِّس أحدًا، وإنما يقدِّس الرجلَ عملُه) [25].
أيّها المسلمون، إذا أظهَر العِبادُ ذنوبًا تتابعَت عليهم العقوبات، وكلّما قلّتِ المعاصِي في الأرضِ ظهرَت فيها آثارُ البركة من الله، وانتشارُ المعاصِي وفشوُّها سببٌ لنزع الخيراتِ والبرَكات، قال جلّ وعلا: وَأَلَّوِ ?سْتَقَـ?مُواْ عَلَى ?لطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَـ?هُم مَّاء غَدَقًا لّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [الجن:16، 17].
وللمَعصيةِ أعظمُ تأثيرٍ في محقِ بركةِ المالِ والعُمُر والعلم والعمَل، يقولُ النبيّ : ((وإنّ العبدَ ليُحرَم الرزقَ بالذنبِ يصيبه)) رواه ابن ماجه [26] ، قال ابن القيّم رحمه الله: "وبالجملةِ فالمعصيةُ تمحَق بركةَ الدين والدنيا ممّن عصى الله، فلا تجد بركةً في عمُره ودينِه ودنياه" [27].
ولا يُنال ما عندَ الله إلا بطاعتِه، والسعادةُ في القربِ منَ الله، وبالإكثارِ من الطاعات تحُلّ البركات، وبالرّجوع إليه تتفتّح لك أبوابُ الأرزاق.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
بارَك الله لي ولكُم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنّه هو التواب الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب التوحيد (7493) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] جلاء الأفهام (ص309).
[3] سنن الترمذي: كتاب الصلاة (464) عن الحسن بن علي رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أحمد (1/199، 200)، وأبو داود في الصلاة (1425)، والنسائي في قيام الليل (1745، 1746)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1178)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (272، 273)، وابن خزيمة (1095)، وابن حبان (945)، والحاكم (4800)، والنووي في الأذكار (86)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1263).
[4] مسند أحمد (5/249، 251، 254، 257) عن أبي أمامة رضي الله عنه، وهو عند مسلم في الصلاة (804). وفي الباب عن بريدة رضي الله عنه.
[5] صحيح البخاري: كتاب الأدب (5986) عن أنس رضي الله عنه، وهو عند مسلم أيضا في البر (2557).
[6] صحيح البخاري: كتاب البيوع (2079، 2082، 2110، 2114)، صحيح مسلم: كتاب البيوع (1532) عن حكيم بن حزام رضي الله عنه.
[7] سنن الترمذي: كتاب النكاح (1091)، وأخرجه أيضا أحمد (2/381)، وأبو داود في النكاح (2130)، وابن ماجه في النكاح (1905)، وصححه ابن حبان (4052)، والحاكم (2745)، والنووي في الأذكار (356)، وصححه الألباني على شرط مسلم في آداب الزفاف (102).
[8] مسند أحمد (6/145) عن عائشة رضي الله عنها، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى (5/402)، والبيهقي في السنن (7/235)، وصححه الحاكم (2/ 178)، ووافقه الذهبي، وفي سنده ابن سخبرة لا يدرى من هو، ولذا ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1117).
[9] سنن الترمذي: كتاب الاستئذان (2698)، وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط (5991) في حديث طويل، وصححه ابن القيم في زاد المعاد (2/382)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1608).
[10] صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1028).
[11] صحيح البخاري: كتاب الدعوات (6408)، صحيح مسلم: كتاب الذكر (2689) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[12] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6427) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في كتاب الزكاة (1052).
[13] صحيح مسلم: كتاب البر (2588) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[14] صحيح البخاري: كتاب التوحيد (7496) عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: ((قال الله تعالى: أَنفق أُنفق عليك)) ، وهو عند مسلم في كتاب الزكاة (993).
[15] صحيح ابن حبان (3220، 3402، 3406) عن حكيم بن حزام رضي الله عنه، وهو عند البخاري في الرقاق (6441)، ومسلم في الزكاة (1035).
[16] سنن الترمذي: كتاب الأطعمة (1805) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أحمد (1/270، 300، 343، 345، 364)، وأبو داود في الأطعمة (3772)، والنسائي في الكبرى (6762)، وابن ماجه في الأطعمة (3277)، وصححه ابن حبان (5245)، والحاكم (7118)، وصححه الألباني على في الإرواء (1980).
[17] صحيح مسلم: كتاب الأشربة (2033) عن جابر رضي الله عنه.
[18] سنن أبي داود: كتاب الأطعمة (3764)، وأخرجه أيضا أحمد (3/501)، وابن ماجه في الأطعمة (3286)، والحاكم (2500)، وصححه ابن حبان (5224)، وحسن إسناده العراقي في تخريج الإحياء (2/6)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (664).
[19] صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2473) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[20] أخرجه أحمد (3/417، 431، 432، 4/384، 390)، وأبو داود في الجهاد (2606)، والترمذي في كتاب البيوع (1212)، والنسائي في الكبرى (8833)، وابن ماجه في التجارات (2236) عن صخر الغامدي رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه ابن حبان (4754، 4755)، وهو في صحيح الترغيب (1693).
[21] صحيح مسلم: كتاب الحج (1373) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[22] صحيح مسلم: كتاب الحج (1374) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[23] صحيح البخاري: كتاب الحج (1885)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1369) عن أنس رضي الله عنه.
[24] شرح صحيح مسلم (9/142)، وانظر: فتح الباري (4/98).
[25] أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الأقضية (1500)، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (1/205)، وفي إسناده انقطاع.
[26] سنن ابن ماجه: كتاب الفتن (4022) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (5/277، 280، 282)، وأبو يعلى (282)، والطبراني في الكبير (2/100)، وصححه ابن حبان (872)، والحاكم (1814، 6038)، ووافقه الذهبي، وقال البوصيري في الزوائد: "سألت شيخنا أبا الفضل العراقي عن هذا الحديث فقال: حسن"، إلا أن في إسناده رجلاً مجهولاً، ولذا ضعفه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (1/236-238).
[27] الجواب الكافي (ص56).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانِه، والشّكرُ له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنّ نبيّنا محمّدًا عبدُه ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آلِه وأصحابه، وسلّم تسليمًا مزيدًا.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، محقُ البركةِ يجلِب قلّةَ التّوفيقِ وفسادَ القَلب، وأنفعُ الأشياءِ أبركُها، ومَن بارَك الله فيه وعليه فهو المبارَك، ولا تُرتَجَى البركة فيما لم يأذَن به الشّرع الحكيم. وبالأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر تزكو النفس وتصلُح الأحوال وتحلّ البركات على المجتمعات. ومن التزم الصدقَ في البيانِ أُلقِيت الحكمةُ على لسانه والسدادُ في أفعالِه. ومَن أخذ المال بغير حقِّه بارَ نفعُه، قال النبيّ : ((ومن أخذه بغير حقِّه كانَ كالذي يأكل ولا يشبَع)) رواه البخاري [1].
والرِّبا عَديمُ النفعِ ماحِقٌ للمالِ [جالبٌ] للهمّ، يجري آكلُه خلفَ سَراب، قال سبحانه: يَمْحَقُ ?للَّهُ ?لْرّبَو?اْ وَيُرْبِى ?لصَّدَقَـ?تِ [البقرة:276].
والحلِف منفقةٌ للسِّلعة ممحِقٌ للكَسب، ومنعُ الصدقة خشيةَ النفادِ تلفٌ للمال، قال : ((اللهمَّ أعطِ ممسكًا تلفًا)) رواه البخاري [2].
فالزَم جانبَ العبوديّة والاقتداء، وابتعِد عن المحرّمات والشّبهات في المالِ وغير المال، يبارَك لك في الأخذ والعطاء.
ثمّ اعلَموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيّه، فقال في محكَم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6427) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في كتاب الزكاة (1052).
[2] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1442) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا من دعاء الملك، وأخرجه أيضا مسلم في كتاب الزكاة (1010).
(1/3258)
خطبة خسوف القمر 14/9/1424هـ
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
آثار الذنوب والمعاصي, مخلوقات الله
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
14/9/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- هدي النبي في الكسوف. 2- الشمس والقمر من آيات الله تعالى. 3- ما ذكره النبي في خطبة الكسوف. 4- التحذير من المعاصي. 5- دعوة للتوبة والاستغفار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: خسفَت الشمس في عهدِ النبيّ ، فصلّى رسول الله بالناس، فقام فأطال القيام، ثمّ وصفَت الصلاةَ إلى أن قالت: ثم انصرفَ رسول الله وقد انجلتِ الشمس، فخطب الناسَ، فحمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((إنَّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله عزّ وجلّ، يخوّف بهما عبادَه، لا يخسِفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبِّروا وصلّوا وتصدّقوا)) ، ثم قال: ((أيّها الناس، والله ما مِن أحدٍ أغير من الله أن يزنيَ عبدُه أو تزني أمتُه، والله لو تعلَمون ما أعلم لضحِكتم قليلاً ولبكَيتم كثيرًا)) [1] ، وفي رواية في الصحيحين أن النبيَّ أمرهم أن يتعوّذوا بالله من عذاب القبر [2].
وفي الصحيحين أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي تقدّم في هذه الصلاة ثم تأخّر، وقال: ((إني رأيتُ الجنة، فتناولتُ عنقودًا لو أصبتُه لأكلتم منه ما بقِيت الدنيا، ورأيتُ النار، فما رأيتُ منظرًا كاليوم قطُّ أفظع، ورأيتُ أكثرَ أهلها النساء)) ، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: ((بكفرهِنّ)) ، قيل: يكفرنَ بالله؟! قال: ((يكفرن العشر، ويكفرنَ الإحسان، لو أحسنتَ إلى إحداهنّ الدهرَ كلَّه ثم ّرأَت منك شيئًا قالت: ما رأيتُ منك خيرًا قطّ)) [3].
وفي الصحيحين أيضًا من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ قال في خطبته تلك: ((ما من شيء كنتُ لم أره إلا رأيتُه في صلاتي هذه ـ أو قال: ـ في موقفي هذا، حتى الجنة والنار، ولقد أوحي إليّ أنكم تفتنون في القبور مثلَ أو قريبًا من فتنة الدجال، يؤتَى أحدُكم فيقال له: ما عِلمُك في هذا الرجل؟ فأما المؤمن ـ أو الموقن ـ فيقول: محمد رسول الله ، جاءنا بالبينات والهدى، فآمنّا واتبعنا وأجبنا، فيقال: نم صالحًا، قد علِمنا إن كنتَ لموقنًا، وأمّا المنافق ـ أو المرتاب ـ فيقول: لا أدري، سمعتُ الناس يقولون شيئًا فقلته)) [4].
أيّها المسلمون، لا شكَّ أنَّ الشمسَ والقمر من أعظمِ آيات الله عزّ وجلّ الدالّةِ على عظيم قدرته الباهرة والباعثةِ على الخوف الحقيقيّ منه سبحانه دونَ أحدٍ سواه، وهذه الآياتُ العظيمة قد اعتاد عليها الناس، فربما غفَل بعضُ الخلق عن التفكُّر فيها، فيُحدِث الله عزّ وجلّ عليها من الطواري والحوادِث والتغيُّرات الكونية ما يبعثُ المسلمَ على التفكُّر والتذكّر، فلو اجتمع الإنسُ والجنّ على أن يُغيِّروا من نظام هذا الكون شيئًا لم يستطيعوا، أو على أن يعيدوا للقمَر ضوءَه لم يفلِحوا. فهذه آيةُ الله عزّ وجلّ الدّالةُ على قدرته سبحانه وتعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ?للَّهُ عَلَيْكُمُ ?لَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ مَنْ إِلَـ?هٌ غَيْرُ ?للَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ ?للَّهُ عَلَيْكُمُ ?لنَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ مَنْ إِلَـ?هٌ غَيْرُ ?للَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص:71-73].
وقد بيّن النبيّ في خطبتِه بعد أن فزع فزعًا شديدًا عندما رأى هذا الخسوفَ للشّمس، حتى أخطأ في الدِّرع ، وذلك الفزعُ بسبب أنَّ الخسوفَ والكسوف من علامات الساعة ومن علامات العذاب، لذلك سُمع النبي يقول في دعائه في سجوده: ((يا ربّ، ألم تعدني أن لا تعذِّبهم وأنا فيهم؟!)) [5] ، فكان يبتهل إلى الله عز وجلّ أن لا يُنزل العذابَ بأمته رحمةً منه.
وذكر في خطبتِه بعضَ أحوالِ الآخرة ممّا رآه في صلاته تنبيهًا وتذكيرًا للمؤمنين، فمِن ذلك عذابُ القبر أجارنا الله وإياكم منه، وبيّن النبيّ أنه لا ينجو منه إلاّ من كان مؤمنًا موقنًا، عندها يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت. جعلنا الله وإيّاكم من الثابتين في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
كما أخبر النبيّ أنّ الله عز وجل يغضب ويغار عندما تُنتهَك حرماته عزّ وجلّ، وفيه تنبيه على أنّ الخسوفَ والكسوف علامة على الغضَب والعذاب، عافانا الله وإياكم.
ومن هذه المحارم التي نبّه عليها النبي الزنا، فهو موجِبٌ لغضَب الله عزّ وجلّ وأليم عقابه. فالله عز وجل يغار ويغضب من انتهاك هذه الحرمات أو ما أحاط بها عزّ وجلّ من حرمات عندما قال سبحانه: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? [الإسراء:32] بأيِّ حالٍ من الأحوال، سواء كان الوقوع في الزنا أو قربان الزنا أو أيّ شيء يوصل إلى هذه الفاحشةِ الموجبة لغضب الله عزّ وجلّ وسخطه وأليم عقابه، سواء كانت هذه الأسباب الموصلة إليه الاختلاط أو السفور أو التبرّج أو الدعوة إلى الرذيلة كما ينادي بذلك الذين يحبّون أن تشيعَ الفاحشة في الذين آمنوا، والاستهزاء بما أحاط الله عزّ وجلّ هذه المحارم، أحاطها الله عزّ وجلّ بسياجٍ منيع من الحرمات، فالاستهزاء بذلك وانتهاكُ ذلك موجبٌ لعِقاب الله عزّ وجلّ، وكذلك نقصُ الأرزاق والخوف وغير ذلك من العقوبات، كلُّ هذا بسبب ذنوب العباد.
فهذه أسبابُ العقوبات قد انعقَدت، وعلامات العذاب قد ظهَرت، فعلى المسلمين جميعًا أن يتوبوا إلى الله عزّ وجلّ، وأن يخلِصوا له التوبةَ النصوح، وأن يستغفروه ويتوبوا إليه، فإنّ الله عزّ وجلّ يبسُط يدَه بالليل ليتوب مسيء النّهار، ورحمتُه سبحانه وسِعت كلَّ شيء، وهو يدعوكم إلى جنته، وَ?للَّهُ يَدْعُواْ إِلَى ?لْجَنَّةِ وَ?لْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221]، وَ?للَّهُ يَدْعُو إِلَى? دَارِ ?لسَّلاَمِ [يونس:25]، قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء [الأعراف:156].
رحمةُ الله تعالى واسعة، فهو يناديكم، وهو أفرحُ بتوبة عبده من رجلٍ أضلَّ ناقتَه في الصحراء عليها متاعُه وزادُه، ثم فرح بها، فالله عزّ وجلّ أفرح من هذا العبد الذي لقي ناقتَه بعد ضياعها.
فعلينا أن نتوبَ إلى الله عزّ وجلّ، وأن نستغفرَه ونعودَ إليه، وأن نكبِّره ونصلِّي له ونستغفره سبحانه وتعالى.
وقد يقول بعضُ المتحَذلقين: إنّ هذه التغيّرات الكونيةَ لها أسبابٌ طبيعيّة معروفة، وليست بسبب الذنوب، فيجاب عن هؤلاء الغافلين عن آيات الله عزّ وجلّ بأن يقال: إنّ كونَها معروفةً أو أنّ لها أسبابًا طبيعية لا يخرِجُها من كونها مقدَّرةً من عند الله عزّ وجل، فالله سبحانه هو خالق الأشياء والحوادثِ وأسبابها والمسبّبات، فالله تعالى إذا أراد شيئًا بعث سببَه، فيخلق سبحانه الأشياءَ وأسبابَها.
فعلينا أن نتوبَ إلى الله عزّ وجلّ، وأن نعودَ إليه، خصوصًا في هذا الشهرِ الكريم الذي يُعتِق الله تعالى فيه رقابًا من الناس، والذي يغفر الله لجمٍّ غفير من المسلمين في هذا الشهر الكريم.
نسأل الله تعالى أن لا يؤاخذَنا بذنوبنا، وأن لا يؤاخذنا بما فعل السّفهاء منا، وأن يغفر لنا ويرحمنا، ويتقبّل منا ومنكم صالحَ القول والعمل، والله تعالى أعلى وأجلّ.
وصلّى الله وسلّم على نبيِّنا محمّد وآله وصحبه أجمعين.
[1] صحيح البخاري: كتاب الكسوف (1044)، صحيح مسلم: كتاب الكسوف (901) نحوه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الكسوف (1050)، صحيح مسلم: كتاب الكسوف (903) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[3] صحيح البخاري: كتاب الكسوف (1052)، صحيح مسلم: كتاب الكسوف (907).
[4] صحيح البخاري: كتاب الكسوف (1053)، صحيح مسلم: كتاب الكسوف (905)
[5] أخرجه أحمد (2/188)، وأبو داود في الصلاة (1194)، والنسائي في الكسوف (1482، 1496)، والبيهقي في الكبرى (2/252) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه ابن خزيمة (1392)، وابن حبان (2838)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1055).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3259)
خطبة استسقاء 15/11/1424هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
15/11/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أوبة أولي الألباب. 2- انتشار المعاصي. 3- دعوة للتوبة والاستغفار. 4- دعاء وابتهال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتَّقوا الله وابتغوا إليهِ الوَسيلة، واذكروا أنّه لا مَلجَأَ ولا منجَى منه إلاّ إليه.
أيّها المسلمون، عندما تجدِب الأرض وينقطِع الغيث ويهلك الحرث وتجفّ الضروع وتشتدُّ اللأواء وتمسّ الناسَ البأساءُ والضرّاء يرجع أولو الألبابِ إلى أنفسهم، فيتفكَّرون في بواعثِ ذلك، ويذكرون قول ربهم سبحانه في خطابِه لنبيِّه ولأمَّته من بعدِه: مَّا أَصَـ?بَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ وَمَا أَصَـ?بَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [النساء:79]، ويذكرون قولَه عزَّ اسمه: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]. إنها إذًا آيةٌ بيِّنة على شُؤم الخطَايا وتبِعاتِ الآثام وآثار الأوزار وقبح عاقبة العصيان.
وإنَّ من أعظمِ ذلك وأشدِّه نُكرًا ظلمَ المرءِ نفسَه؛ إما بالقعودِ عن أداءِ واجب، أو بالاجتراءِ على ارتكاب حرام، كتركِ الصلواتِ المكتوبات والجُمَع والجماعات، ومنعِ الزكاةِ ونقص المكيالِ والميزان، وأكلِ الربا وتسميتِه بالفوائدِ كذِبًا وخِداعًا للنّفس، وأكلِ أموال الناس بالباطل، والزّنا وشربِ الخمر، وما يفضي إليهما من مشاهدةِ أفلامِ الفحشاء والمنكَر التي تبثُّها المحطَّاتُ الفضائيّة والأرضية ليلَ نهار، باجتراءٍ يعزّ نظيرهُ، ومِن الدعواتِ الآثمة إلى السفور ونبذ الحجاب وتزيين الاختلاط، والزعم الكاذب أنها تقاليدُ وعادات وليست شرعًا ملزِمًا، إلى غير ذلك من ألوانِ المحادّةِ لله ورسولِه، التي يبوءُ بإثمها كلُّ من دعَا إليها أو أقرَّ بها أو عمِل بها.
ألا فاتقوا الله عبادَ الله، واستجيبوا لأمرِ الله، واحذَروا أسبابَ سخطه، وأدّوا زكاةَ أموالكم طيِّبةً بها نفوسُكم، واستكثروا من الصدقةِ والإطعام والصيام وسائر ألوانِ الباقيات الصالحات.
هذا وإنَّ ما يُنزل الله من بلاء وما يقدّره من ضنك وما يقضي به من شِدّةٍ يستوجِب الاستكانةَ له وصدقَ الالتجاء إليه، ويستوجب أيضًا الخضوعَ لعظمته بالذلِّ له والانكسارِ بين يدَيه، وقد ذمَّ سبحانه الذين لا تورِثهم الشدائدُ استكانةً ولا تعقِبهم تضرُّعًا له فقال: وَلَقَدْ أَخَذْنَـ?هُمْ بِ?لْعَذَابِ فَمَا ?سْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76].
ألا فعَليكم ـ يا عبادَ الله ـ بنَهج أولي النّهى وطريق عباد الرحمن، وتضرَّعوا لربِّكم، وادعوه ملحِّين في الدعاءِ موقِنين بالإجابة، فقد أمَرَكم بذلك، ووَعَدكم وعدًا حقًّا لا يتخلَّف ولا يتبدَّل، فقال سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60]، وقال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، وقال عزّ وجلّ: ?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55، 56].
وأكثِروا ـ يا عباد الله ـ مِن الاستغفار، فإنّه من أعظم أسبابِ الغيث، كما قال سبحانه على لسانِ نبيِّه هود: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود:52]، وقال حكايةً عن نوحٍ عليه السلام: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].
وتوجَّهوا إلى الله ربِّكم بما كانَ يتَضرَّع بهِ نبيُّ الرحمة والهدَى صَلوات الله وسَلامه عليه في هذا المقام، فقولوا وأمِّنوا على هذا الدعاء:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، الرّحمن الرحيم، مالكِ يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين. اللهمّ أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا مِن القانطين.
اللهمّ أغثنا، اللهمّ أغثنا، اللهم أغثنا، اللهمّ اسقنا غيثًا هنيئًا مريئًا طبَقًا مجلِّلاً سحًّا عامًّا، نافعًا غيرَ ضار، عاجلاً غيرَ رائث، اللهمّ تحيي به البلادَ، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغًا للحاضِر والباد.
اللهمّ سقيا رحمة، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق.
اللهمّ اسقِ عبادك وبلادك وبهائمك، وانشُر رحمتَك، وأحيِ بلدك الميت.
اللهم إنَّ بالعباد والبلادِ من اللأواءِ والضّنك والجهدِ ما لا نشكوه إلاَّ إليك، اللهمّ أنبت لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضرع، وأنزل علينا من بركاتك.
اللهم ارفَع عنا الجَهد والجوعَ والعُري، واكشِف عنا من البلاءِ ما لا يكشفه غيرُك.
اللهم إنَّا خلقٌ من خلقك، فلا تمنع عنَّا بذنوبنا فضلك.
اللهم إنَّا نستغفرك إنّك كنت غفّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مدرارًا.
ربنا ظلمنا أنفسَنا، وإن لم تغفِر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين.
ربّنا لا تؤاخِذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملتَه على الذين من قبلنا، ربَّنا ولا تحمِّلنا ما لا طاقةَ لنا به، واعفُ عنَّا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
هذا، وإنَّ ممّا جاء في الصحيحين عن عبد الله بن زيدٍ المازنيّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ كان يحوِّل رداءَه في هذا المقام [1] ، فافعلوا ـ رحمكم الله ـ كما فعل نبيّكم صلوات الله وسلامه عليه، عسى ربّكم أن يرحمَكم، فيغيث القلوبَ بالهدى، ويغيث الأرضَ بالغيث وهطول السماء.
واذكروا على الدّوام أنَّ الله تعالى قد أمرَكم بالصلاة والسلامِ على خير خلقِ الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبِه والتابعين ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
سبحانَ ربِّك ربِّ العزَّة عمّا يصِفون، وسلامٌ على المرسَلين، والحمد لله ربِّ العالمين.
[1] صحيح البخاري: كتاب الاستسقاء (1011، 1012)، صحيح مسلم: كتاب الاستسقاء (1489).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3260)
النصر من الله وحده
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
الفتن, معارك وأحداث
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
16/4/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رفع معنويات المؤمنين. 2- كيد المنافقين والحروب والفتن. 3- النصر من الله تعالى وحده. 4- الفرق بين الغلبة والنصر. 5- تجاوز أمة الإسلام للمصائب بسلام. 6- من مواقف السلطان عبد الحميد الثاني. 7- ضرورة الثقة بالله تعالى. 8- ظاهرة غلاء إجارات البيوت في القدس. 9- ظاهرة الباعة المتجولين في الشوارع. 10- قضية مقبرة الرحمة واليوسفية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيقول الله عزّ وجلّ في محكَم كتابه: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:139-141]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، يا أبناءَ أرض الإسراء والمعراج، هذه الآيات الكريمة من سورة آل عمران، وهي مدنية، وقد نزلت بعد معركة أُحد وذلك لمواساة المسلمين من الهزيمة التي لحقتهم، ولتقوية أعصابهم وشدّ عزائمهم، ولإعادة الثقة لأنفسهم، ولأخذ العظة والعبرة مما حلّ بهم، ويأمر الله ربَّ العالمين المسلمين بأن لا يحزنوا وأن لا يضعفوا إن كانوا مؤمنين حقًّا.
أيّها المسلمون، أيّها المؤمنون، لقد كانت هذه الآيات الكريمة مطَمئِنةً لنفوس الصحابة ومواسِية لهم ومقويّة لإيمانهم، فدفنوا الشهداء، وضمّدوا الجراح، واستعدوا من جديد لردّ الاعتبار.
ومع ذلك وُجِد في المدينة المنورة بعض المنافقين الذين لا همَّ لهم إلا أن يتصيّدوا أخطاء المسلمين ويشمتوا بما حلّ بهم من خسائر، وهم يروِّجون الإشاعات ويثبّطون العزائم، فيقول الله عز وجل على لسان هؤلاء المنافقين: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران:156]، فكأنّ الموت والأجل بأيديهم، معاذ الله عما يدعون ويفترون.
أيها المسلمون، إن مثل هؤلاء المنافقين موجودون في كل مجتمع وفي كلّ زمان ومكان، ولكن يتفاوت عددهم قلة وكثرة، وهذا ما لمسناه بعد وقوع حرب حزيران عام 1967م، والتي سيصادف ذكراها غدًا السبت، فإنّ المندسين كان هدفهم تكريس الاحتلال والاعتراف بالأمر الواقع والانخراط في صفوفهم والانسجام معهم، وأطلقوا التبريرات الواهية لتصرفاتهم ولمواقفهم الشاذة.
أيها المسلمون، لقد تمكن رسولنا الأعظم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم من تغيير كفة الميزان لصالحهم، وذلك بعد عام واحد فقط من وقوع غزة أُحد، فكانت غزة بدر الآخرة التي وقعت في السنة الرابعة للهجرة، ثم غزوة الخندق "الأحزاب"، والتي وقعت في السنة الخامسة للهجرة، وأعطى المسلمون بتوفيق الله وتأييده درسًا قاسيًا لخصومهم، كما أنهم وضعوا حدًّا للمثبطين والمشكّكين، ولم ييأس المسلمون لما حل بهم في أُحد، لم يناموا، ولم يستكينوا، ولم يتهرّبوا من المسؤولية، ولم ويستسلموا للأمنيات.
وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا
ما استعصى على قوم منال إذا الإقدام كان لهم ركابا
أيها المسلمون، يا أبناء محمد عليه الصلاة والسلام، ولا بدّ من الإشارة إلى أن النصر لفظ من الألفاظ العقدية في الدين الإسلامي، وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم ما يزيد عن مائة وثلاثين مرة.
والنصر مسند ومنسوب إلى الله العليّ القدير، فالنصر من عند الله، والمسلمون ينصرون بمدد من الله وتأييده، وذلك حينما يَنصرون الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه، كما في قوله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]، وكما في قول رب العالمين في سورة الحج: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]، وقوله عز وجل في سورة محمد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
أيها المسلمون، يا أحفادَ عمر وخالد وصلاح الدين، أما إذا كانت المعركة لصالح غير المسلمين فتكون لهم الغلبة ولا يكون لهم النصر، لقوله سبحانه وتعالى في سورة الروم: غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم:2، 3]، فإنّ دولة الفرس سبق أن تغلّبت على الروم، ثم تغلّبت الروم على الفرس، وعلى اعتبار أنهما دولتان كافرتان غير مسلمتين فلا ينسب لهم لفظ النصر، لأن النصر من عند الله، ومثل ذلك بالنسبة لأمريكا وبريطانيا وروسيا وغيرها من الدول الكافرة المستعمرة في هذه الأيام، فالنصر لفظ خاص يتعلق بالمسلمين، أما لفظ الغلبة فهو لفظ عام يشمل المسلمين وغير المسلمين.
أيها المسلمون، يا أحبة الله، لقد مرّت محن ومصائب على المسلمين في العصور الماضية أيام التتار والمغول والفرنجة الصليبيين وغيرهم، فكان أجدادنا يجتازون الصعاب بكل ثبات وصمود وإصرار وتضحية، والله عز وجل يهبهم القدرة والنصرة والتأييد بما أودع فيهم من عقيدة قوية وإيمان راسخ وعمل مثمر مفيد متواصل، وقد أصيبت أمتنا الإسلامية في القرن الماضي بعدّة محن ومصائب متوالية منذ الحرب العالمية الأولى، مرورًا بنكبة عام 1948م، وانتهاء بنكسة حزيران بل بمسرحية حزيران عام 1967 م، ولا تزال آثارها السلبية قائمة حتى الآن بما في ذلك الجدار العنصري الفاصل اللعين، ويكتوي شعبنا الفلسطيني المرابط بنار هذه الحرب التي لم تدم سوى ستة أيام، في حين صمد مخيم جنين في شهر نيسان إبريل من عام 2002م مدة تسعة أيام رغم الأسلحة الأمريكية الفتاكة المتطورة.
أيها المسلمون، أيها المرابطون، بمناسبة ذكرى حرب حزيران يوليو، يحسن الإشارة إلى موقف السلطان عبد الحميد الثاني في القرن التاسع عشر الذي تمسّك بأرض فلسطين، وكيف أن الذين جاؤوا بعده قد فرطوا بهذه الأرض المباركة المقدسة، ويقول السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله في رسالته إلى هرتزل بشأن بيع أرض من فلسطين: "إن البلاد الإسلامية ليست لي، وإنما للأمة، ولا أستطيع أن أهب قطعة منها لأحد، فليحتفظ اليهود بملايينهم من الذهب، وإذا مزقت دولة الخلافة يومًا فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حي فإن عمل المِبضع ـ أي: السكين ـ في بدني أهون علي من أن أرى فلسطين قد سلبت من دولة الخلافة"، ويقول أيضًا: "من الممكن أن تقطّع أجسادنا وهي ميتة، وليس من المكمن أن تُشرَّح أجسادنا ونحن على قيد الحياة"، ويقول في رسالة أخرى: "إن بيت المقدس قد افتتحه المسلمون أول مرة في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولست مستعدًا لأن أتحمل في التاريخ وصمة بيع الأراضي المقدسة لليهود، أو أن أتحمل خيانة الأمانة التي كلفني المسلمون بحمايتها"، هذه ـ يا مسلمون ـ هي أمانة التاريخ.
أيها المسلمون، يا خير أمةٍ أخرجت للناس، إن ما حصل للأمة الإسلامية منذ القرن الماضي وحتى الآن لن يفقدنا الثقة بالله العلي القدير القائل في كتابه العزيز في سورة البقرة: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، والقائل في سورة يوسف: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، ويقول رسولنا الأكرم : ((احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا)).
ادعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، حمدَ عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، صلاة وسلامًا دائمين عليه إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، أيها المرابطون، أتناول في هذه الخطبة ثلاث نقاط لها علاقة مباشرة ببيت المقدس.
النقطة الأولى: بشأن إيجارات البيوت، مرة أخرى: إن من سلبيات الجدار العنصري الفاصل رفع إيجارات البيوت في مدينة القدس وما ترتب على ذلك من خلافات بين المالكين والمستأجرين، ونطلب من جميع المواطنين في بيت المقدس أن يتقوا الله في أنفسهم، ونذكرهم أنه يتوجب عليهم التراحم فيما بينهم، وأن يحلوا مشاكلهم بالتراضي فيما بينهم، دون اللجوء إلى المحاكم التي لا تحفظ حقوقهم، بالإضافة إلى الخسائر المادية التي ستترتب على رفع القضايا، ولا يخفى عليكم ذلك.
ونقول أيضًا: إن إيجارات السكن والحوانيت القديمة هي منخفضة فعلاً، في حين أن الإيجارات الجديدة هي مرتفعة جدًا، فلا بد من وضع تسويات لهذه الإيجارات مع حفظ حقوق المستأجرين، ووضع سقف أعلى وسقف أدنى لها، وسبق أن طالبنا الغرفة التجارية في القدس أن تبادر في وضع حلول لهذا الموضوع.
أيها المسلمون، النقطة الثانية: بشأن البائعين المتجولين الذين يضعون بضائعهم في الطرقات وفي الممرات مما يؤدي إلى عرقلة السير للمشاة، وبخاصة في منطقة باب العمود ومنطقة باب الأسباط، وكما تعلمون أن رسولنا الأكرم قد أمرنا أن نعطي الطريق حقها، وأن نزيل الأذى عنها، كما لا يجوز شرعًا وضع مواد البناء في الطرقات، ونحن كمسلمين نؤمن بأن الأرزاق بيد الله العلي القدير، والله يرزق من يشاء بغير حساب، وإن وضع البضائع في الطرقات لا يزيد في الرزق، بل فيه إثم، لعرقلة سير الناس، كما أن ديننا الإسلامي العظيم يدعو إلى النظام، ويدعو إلى النظافة.
أيها المسلمون، النقطة الثالثة والأخيرة: بشأن مقبرة باب الرحمة واليوسفية، هذه المقبرة المحاذية للجدار الشرقي للمسجد الأقصى المبارك، والتي دُفن فيها الصحابة والتابعون والعلماء، والتي تخص المسلمين وحدهم منذ خمسة عشر قرنًا، وإن هذه المقبرة محدّدة المساحة، فلا مجال للتوسع فيها، كما تزعم البلدية الإسرائيلية، وكما تزعم ما يسمى بسلطة الحدائق الوطنية، أما ما يجري داخل المقبرة فهو أمر يخصّ المسلمين، ولا علاقة للبلدية به، كما أن المقابر الإسلامية لا تدخل ضمن الحدائق والأماكن العامة، فالمقابر الإسلامية لها حرمتها، كما أن المقابر التي تخص الديانات الأخرى لها حرمتها.
ثم ماذا فعلت وزارة الأديان الإسرائيلية في المقابر اليهودية المقامة على أرض الأوقاف في رأس العامود؟! لقد قامت بتغييرات كثيرة وكثيرة، ولا اعتراض لا من البلدية ولا من سلطة الحدائق العامة.
أيها المسلمون، إن المقابر الإسلامية تقع ضمن صلاحيات الأوقاف، وندعو المواطنين للتعاون مع الأوقاف بالمحافظة على هذه المقابر وتنظيفها من الحشائش وترتيبها وتوضيح الممرات والمسارات، حتى لا يسير الناس على القبور، فإنه يحرم شرعًا الجلوس والسير على القبور، كما يحرم شرعًا نبشها وكسر عظامها، كما يحرم شرعًا سرقة هذه المقابر، وقد سبق أن صدرت فتوى شرعية بهذا الموضوع، وإن الإهمال بالمقابر يؤدي إلى انتهاك حرمتها، فليحافظ كل واحد منكم على القبور التي تخصه.
(1/3261)
خطبة استسقاء 18/9/1424هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
18/9/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعم الله لا تعدّ ولا تحصى. 2- الافتقار إلى الله. 3- الحث على التوبة والاستغفار. 4- دعاء وابتهال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيها المسلمون، اتّقوا الله فإنَّ تقواه أفضلُ مكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
اتقوا الله الذي لا مانعَ لما أعطى، ولا معطيَ لما منع، ولا رافعَ لما خفَض، ولا خافضَ لما رفع، العطايا من فضلِه تُرتَقَب، وهو المرجوّ لكشفِ الكُرَب، بدأَنا بالنعم قبل الاستحقاق، ومَنَحَنا ما لا يُحصَى من أنواع الأرزاق، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل:18]، كيفَ يحصُر نعَمَه حاصر، ونعمُه مع صَعَدات الأنفاسِ وهجَس الخواطِر وحَركاتِ الألسُن ولمحات النواظر؟! أطعَمَنا وسَقانا، وكفانا وآوانا، ومِن كلِّ نعمِه ومِننِه أعطانا. ساقَ إلينا الأرزاقَ ونحن أجنَّة في بطونِ الأمّهات، وأخرَجنا من تلك المضائقِ والظلمات، وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78].
وليس لنا إذا ذبلت الأزهارُ وذوتِ الأشجار ونقصتِ الأمطار وغَار الماء واشتدَّ البلاء وماتَ الزّرع وجفَّ الضّرع إلاّ اللهُ جلّ في علاه، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك:30]، أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ [الواقعة:68-70].
أيّها المسلمون، إنّكم خرجتُم تستَسقون وتستغيثون، فأظهِروا الحاجةَ والاضطرارَ والمسكنةَ والافتقار، واصدُقوا في التوبةِ والاعتذار، وأكثِروا مِنَ الاستغفار، واهجُروا الذنوبَ والأوزار، واجتنِبوا مواردَ الخسَار ومسارحَ البَوار، واحذَروا عمَلاً يقرِّب إلى النّار، وإيّاكم والتشاحنَ والتطاحن، واخرُجوا من جميعِ المظالم، وكُفّوا عن جميع المآثم، فما نزلَ بلاء إلا بذنب، ولا رُفِع إلا بتَوبة، وادعُوا دعاءَ الفريق في الدّجى، ادعوا وأنتم صادقون في الرَّجا، وظنّوا بربِّك كلَّ جميل، وأمِّلوا كلَّ خيرٍ جزيل، فهو أوسَع من أعطى، خزائنُه ملأى، يداه مبسوطتان ينفِق كيفَ يشاء، وهو واسعُ الفضلِ جزيلُ العطاء، حييٌّ كريم، يستحي أن يَردَّ يدي عبده إذا رفعهما إليه صِفرا.
إليك مدَدنا بالرّجاءِ أكفَّنا فحاشاك من ردِّ الفتى فارغَ اليد
فارفعوا أكفَّ الضّراعة، وادعوا وأمِّلوا وأنتم موقِنون بالإجابة.
اللهمَّ أنت المدعو بكُلِّ لسان، المقصودُ في كلِّ آن، لا إله إلا أنت، غافر الخطيئات، لا إله إلا أنت كاشفُ الكربات، لا إله إلا أنت مجيبُ الدعوات ومغيث اللهفات، أنت إلهنا، وأنت مَلاذُنا، وأنت عياذنا، وعليك اتِّكالنا، وأنت رازقنا، وأنت على كلِّ شيءٍ قدير، يا أرحمَ الراحمين، يا أرحمَ الراحمين، يا خيرَ الغافرين، يا أجودَ الأجودين، يا أكرمَ الأكرمين، لا ملجأَ ولا منجَى منك إلا إليك، نسألك مسألةَ المساكين، وتبتهِل إليك ابتهالَ الخاضعين الذّليلين، وندعوك دعاءَ الخائفين الوجِلين، سؤالَ من خضَعت لك رقابهم، ورغِمت لك أنوفهم، وفاضت لك عيونهم، وذلَّت لك قلوبهم.
اللهمَّ أغِثنا، اللهمّ أغثنا، اللهمّ أغثنا، اللهمَّ اسقِنا وأغثنا، اللهمّ اسقنا غيثًا مغيثًا، وحَيًا ربيعًا، وجَدًا طبقًا، غَدَقًا مغدِقا مونِقا، هنيئًا مريئًا، مَرِيعًا مُرْتِعًا مُرْبِعًا، سائلاً مُسبلاً مجلِّلاً، دَيمًا دَرورًا، نافعًا غيرَ ضارّ، عاجلاً غير رائث، اللهمّ تحيي به البلاد، وتُغيث به العبادَ، وتجعله بلاغًا للحاضر منا والباد.
اللهم أنزل في أرضِنا زينتَها، اللهمّ أنزل في أرضنا زينتها، وأنزل علينا في أرضنا سَكنَها.
اللهمّ أنزل علينا من السماء ماءً طهورًا، اللهمّ أنزل علينا من السماء ماءً طهورًا، لتحييَ به بلدةً ميتا وتُسقيه ممن خلقتَ أنعامًا وأناسيَّ كثيرًا.
اللهمّ اسقنا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين.
اللهمّ إنَّ بالعباد والبلاد من اللأواء والضنك والجهد ما لا نشكوه إلاّ إليك، اللهمّ أنبت لنا الزرع، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضرع، واسقنا من بركاتِ السماء، وأنزل علينا من بركاتك يا سميعَ الدعاء.
اللهمّ إنا نستغفرك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسل السماءَ علينا مدرارًا، اللهمّ اسقِ عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت.
اللهمّ إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنع عنّا بذنوبنا فضلَك، اللهمّ إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربّنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منَّا، ولا تسلب نعمتَك عنَّا.
اللهم لا إله إلا أنت تفعَل ما تريد، لا إله إلا أنت أنت الغنيّ ونحن الفقراء والعبيد، لا إله إلا أنت الغنيّ الحميد، أنزل علينا الغيثَ واجعَل ما أنزلته لنا قوةً وبلاغًا إلى حين.
ربَّنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
لا إله إلا أنت، لا إله إلا أنت، لا إله إلا أنت سبحانك إنَّا كنا من الظالمين.
اللهمّ يا من عمَّ برزقه الطائعين والعاصِين، وعمَّ بجودِه وكرمِه جميعَ المخلوقين، جُدْ علينا برحمتك وإحسانك، وتفضَّل علينا بغيثك ورزقك وامتنانك، اللهمّ سقيا رحمة، لا سقيا بلاء ولا عذاب ولا هدم ولا غرق.
اللهمّ وسِّع أرزاقنا، ويسِّر أقواتنا، رحماك رحمَاك بالشيوخ الركَّع، والمسبِّحات الخُشَّع، والأطفال الرضّع، والبهائم الرتَّع.
اللهمّ اسقنا واسقِ المجدِبين، وفرِّج عنَّا وعن أمِّة محمد أجمعين.
اللهمّ هذا الدعاء ومنك الإجابة، اللهمّ هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التّكلان، ولا حولَ ولا قوة إلا بك، فلا تردَّنا خائبين.
اللهمّ صلِّ على نبينا محمّد النبيِّ المصطفى المختار، اللهم صلِّ عليه ما تعاقب الليلُ والنهار، اللهمّ صلِّ عليه ما غرَّدت الأطيار، اللهمّ صلِّ عليه ما أزهرت الأشجار، وصلِّ عليه ما هَطلت الأمطار، وسالت الأودية والأنهار، وفاضت العيون والآبار، اللهمَّ صلِّ عليه وعلى المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة الأخيار.
أيها المسلمون، اقلِبوا أرديَتكم تأسّيًا بسنَّة النبيّ محمد [1] ، وادعوا وأبشِروا، جعل الله دعاءنا مسموعًا ونداءنا مرفوعًا.
سبحانَ ربّك ربّ العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
[1] سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الاستسقاء (1011) ، ومسلم في الاستسقاء (894) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3262)
حديث عن المرأة
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
23/4/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عدم استقلال أحد الجنسين عن الآخر. 2- ضرورة الحديث عن المرأة. 3- وجوب اعتماد الوحي في قضايا المرأة. 4- ضرورة التصدّي للعابثين بمقوّمات الأمّة. 5- خطورة التنادي بالحرية المطلقة للمرأة. 6- خطورة العبث بقضايا المرأة. 7- لا إفراط ولا تفريط. 8- وظيفة المرأة في الحياة والمجتمع. 9- بطلان دعوى التساوي بين الجنسين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه ومراقبتِه في السرِّ والعلن، والتمسُّك بشريعته في المنشَط والمكرَه، وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195].
أيّها الناس، لقد جَعل الله سبحانه أصلَ البشريّة زوجين اثنين: ذكرًا وأنثى، لا يستقلّ أحدهُما بنفسه دون الآخر، وإلاّ لانقطع النسل وبُتر العقِب، ولذا فقد ذكر الله هذه النعمةَ في معرضِ الامتنان على خلقِه فقال سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189].
إنها المرأةُ التي هي سكَنُ الزوج والأسرةِ واستقرارُهما، ناهيكم عن كونها نصفَ المجتمع، ثم هي تلِد النصفَ الآخر، فكأنها بذلك مجتمعٌ بأكمله.
إنَّ الحديثَ عن المرأة ـ عبادَ الله ـ حديثٌ ذو شجون، لا غِنى للمجتمع المسلم المعاصرِ عنه، وهو في الوقتِ نفسِه حديث محفوف بالمخاطر وعرضةٌ للزلَل والانزلاقِ جرّاءَ الأهواء والقوّةِ البيئيّة المؤثّرة والهجوم الكاسِح والاختلاف الموضوعيّ تجاهَها بنوعيه، أعني اختلافَ التنوُّع واختلافَ التضادّ.
إنه لمن الغَبن حقًّا أن نحصرَ الحديث عن قضيّة المرأة من كافّة جوانبها في اقتضابٍ وعُجالة كمثل هذه الخطبةِ القصيرة ونحوها، غيرَ أن ما لا يُدرَك كلّه لا يتركُ كلُّه، وأنّ القلادةَ والسِّوار يكفي منهما ما أحاط بالعنُق والمِعصم. نقول ذلك في الوقتِ الذي أصبحت فيه قضيةُ المرأة الشغلَ الشاغلَ للكثيرين والهاجسَ الأوّل في الوقت الذي تشهَد فيه الأمّة صنوفًا من الظلم والقهرِ والبطالة والفقرِ والانحراف والتضليلِ وتسلُّط الأعداء من الداخل والخارج، ولا نجد لها أطروحاتٍ في الواقعِ المرئيّ والمسموع والمقروء إلاّ ما رحم ربّي. ومع ذلك كلِّه فإننا نقول لكلِّ من يُسهِم في مناقشة قضية المرأة أن يلحظَ المحاورَ الآتية في طريقِه لئلاّ تزلَّ به القدم ويقَع في أتّون البخس والتطفيفِ وخَلق ما لم يأذن به الله وما لم يأتِ به الأوّلون من سلَف هذه الأمّة.
أمّا المحورُ الأوّل فإنه يتمثّل في الاعتقادِ الجازم بأنّ المصدرَ الوحيد في تحديدِ هويّة الجنسَين الذكر والأنثى وتحديدِ معايير كلِّ واحدٍ منهما وبيان أوجُه الاشتراك والاختلاف بينهما في بابِ الخِلقة وبابِ التكليف أنّ ذلك كلَّه يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله ، لا لآراء الرجال وأهوائهم، كما أنَّ الاعتراضَ على أيِّ شيء من ذلكم إنما هو اعتراض على واضع الشريعة وهو القائل: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]. فلا اعتبارَ إذًا لانقلابِ المقاييس الشرعيّة في أسماء الأشياء والتي تورِث المهازلَ العجيبة جينما تنقلبُ المعاني رأسًا على عَقِب، كتسميةِ حياءِ المرأة وحِشمتِها وحجابها كَبتًا لا مسوِّغَ له وموروثًا تقليديًّا عفا عليه الزمن.
والمحور الثاني ـ عبادَ الله ـ أن يقفَ كلُّ ناصِح ومخلصٍ وغيور على أمّة الإسلام في وَجه كلِّ صاحب قلمٍ يريد أن يعبثَ بمقوِّمات الأمّة أو يجعلها عِلكًا ملتصِقًا في أحذية عُبَّاد الشهوة أو مِن الذين كرِهوا ما نزّل الله، أو يسعى بقلمه إلى خرق سفينة الأمّة الماخرة ممن يلوكون بألسنتهم ويسطِّرون بأقلامهم أنه لا سبيلَ لنا إلى أيّ تقدّم في العِلم والصناعة والحضارة إلاّ من خلالِ خوض غِمار تجارب الغربِ في رسومهم وفِجاجهم تجاهَ المرأة، والحقّ الأبلج في هذا الإطار هو أنّ الدّولَ الراعيَة لمناهج التحرّر للمرأة في دولٍ غير مسلمة أو دولٍ تنحى منحاها تجِد أنّ تلك الدوَلَ رغمَ طنطَنتها وبهرجَتها فيما تزعُم مِن حريّةٍ للمرأة أنها لم تبلغ بها مبلَغًا يكافئ الدّعايةَ المبذولة في تحريرها، بل إننا لا نجِد لها في حقائبهم الوزاريّة إلا النزرَ اليسير، ولا في البرلمانات والنيابات إلا امرأةً أو امرأتين، ما يؤكِّد أن ذلك ما هو إلا مجرّدُ رمزٍ يقنعون به السُّذَّجَ بأنّ المرأة بلغت شأوًا عظيمًا عندهم.
والأعجبُ من ذلك ـ عبادَ الله ـ أن بعضَ تلك الدوَل العظمى الراعية لتحرير المرأة ينصّ دستورُها على أن لا تتولَّى المرأةُ منصبَ رئاسة الدولة، فهل بعدَ هذا تصبِح تلك الدولُ مِثالاً يُشنشِن حولَه أدعياء تحرير المرأة؟! ولا غروَ ـ عبادَ الله ـ فلعلّ تلك الدولَ الكافرة كانوا أفهمَ لمغزَى حديثِ رسول الله من بعض دعاةَ تحريرِ المرأة من المسلمين، وذلك حينما بلغ النبيَّ أنّ دولةً كافرةً نصّبت امرأةً عليها، فقال رسول الله : ((ما أفلَح قومٌ ولَّوا أمرَهم امرأةً)) رواه البخاري في صحيحه [1] ، وفي لفظ عند أحمد في المسند بسندٍ صحيح أنّ النبيَّ قال: ((الآنَ هلكتِ الرجال إذا أطاعتِ النساء)) [2].
والواقعُ المشاهَد ـ عبادَ الله ـ أنّ غايةَ ما حقّقته تلك الدولُ لتحرير المرأة أن جعلتها سِلعةً ممتهنَة في دُور البغي والفُحش أو صُوَرًا مبتذلَة في ثنايا مقطوعاتٍ غنائيّة أو أجسادًا للإغراء في ترويجِ السِّلع ونحوها عبرَ الدعايات التي لا تروج إلا من خلال جسَد المرأة.
والمحور الثالث ـ عبادَ الله ـ يتمثَّل في أنّ إطلاقَ الحريّة والتحرّر في كلّ قضيَّة للمرأة إنما هو مطِيّة يركبُها جهَلَةٌ مغرورون أو مغرِضون مشوِّشون لإحداث ثغرَةٍ في التكامُل الاجتماعيّ لدى الدّولة المسلمة. وإنما تُقذَف القنابل الموقوتة من هذه النافذة، بل هذا هو البابُ التي تُطلُّ منه تفّاحةُ الشيطان؛ لأنّ اسمَ الحرية له وقعٌ سِحريّ في غرور عامّة الناس، لا سيّما المراهقين والمراهقات.
وإن تعجَبوا ـ عبادَ الله ـ فعجبٌ تلك المراحلُ الثلاث التي يسطِّرها ويقرِّرها أدعياءُ تحرير المرأة وانتشالها من سِجنها النفسيّ المتمثّل في التمسُّك بالشريعة زعموا.
فالمرحلةُ الأولى عندهم هي تقرير أنهم مكلَّفون فحصَ كلِّ ما يعترضنا من مشاكل في الوسط الإسلاميّ، فلا يقبلون أيّة فكرةٍ إلا بعد أن يسمحَ لها العقلُ بالمرور، وحجّتهم في ذلك الفارق العلميّ والثقافي بينهم وبين رجل الشارع البسيط.
يلي ذلك المرحلةُ الثانية، وهي أنهم بأطروحاتهم تلك يدَّعون أنهم مخلِصون مشفِقون على واقع الأمة، طالبون للحقّ والعلم، ولكنهم يؤكِّدون أنّ العلمَ إنما هو نتيجةُ الحرية، فما لم يتحرَّروا من كلِّ فكرةٍ سابقة لم يسَعهم الحصولُ على المراد المطلوب.
ثم تأتي الداهيةُ في المرحلة الثالثة التي يقرّرون من خلالها أنّ كلّ شيء ينبغي أن يخضعَ للبحثِ الحرّ، وكلمة "كل شيء" لا تستثني شيئًا عندهم حتى عقائدنا وتعاليمنا وموروثاتِ الفضيلةِ عندنا.
وممّا لا شكّ فيه أنَّ هذه المراحلَ فيها من البروق المغريةِ للسّذّج ما يكفي لإلقاءِ بذور الشكّ في كل شيء، فضلاً عن قضية المرأة ذاتِها، وأنّى لمثلِ هؤلاء الأغرار من المجتمعات المسلمة أن يدرِكوا بأنّ ذلك إنما هو كسِتار الدخانِ الذي يطلِقه المحاربون عادةً لتغطية الزّحف.
أمّا المحوَر الرابع فإنه ما مسَّ مجتمعٌ قطّ قضيّةَ المرأة وعَبثَ بها وبمقوِّماتها وشكّك في الأُطُر الشرعية التي وَضِعت كسياج حمايةٍ لها والمهامّ التي امتازت بها عن الرجل وامتاز الرجلُ بها عنها إلا أوقعهم الله في شرٍّ مما فرّوا منه، وجرّوا على أنفسهم من الويلات والشرور ما لم يكونوا على حَذَر منه، ولقد صدق رسول الله إذ يقول: ((ما تركتُ بعدي فتنةً أضرّ على أمّتي من النساء)) رواه البخاري ومسلم [3] ، وعند مسلم في صحيحه: ((فاتقوا الدنيا، واتّقوا النساء، فإنّ أوّل فتنةِ بني إسرائيل كانت في النساء)) [4].
وليس غريبًا عنّا ـ عبادَ الله ـ ما كشَفه التاريخُ لنا عن معركةِ ذي قار المشهورة، وقد كانت من أشدّ حروبِ الجاهلية حيث نشَبت بسبَب امرأة أرادها كِسرى وأباها النعمان عليه [5]. ومثل ذلك أيضًا التآمُر الذي وقع من قِبل يهود على نزع حجابِ المرأة المسلمة وكشفِ سوأتها في سوقِ بني قينقاع في عهد النبي [6].
والمحور الخامس ـ عبادَ الله ـ وهو أنّ الشريعة الإسلامية في الحقيقةِ لا ترضى بمسلَك الغلوّ في النظرة للمرأة، بحيثُ تُحتقَر وتمتهَن وتُهمَّش عن واقع الحياة، ولا هي في الوقت نفسِه ترضى بمسلَك التحرّر والانطلاق، فكلا طرفَي قصدِ الأمور ذميم. فالأمّة كذلك ينبغي أن لا تسمَع للمتشائمين المتنطِّعين، وأن لا تتابع المتهوِّرين العابثين؛ إذ الأمة ليست محلَّ تأثيرِ الغلاة في كبتِ حقّ المرأة وما يجلبونه ضدَّها من مبرِّرات وإن خلَطوها بأحاديثَ موضوعة مكذوبة، كإيرادهم حيث: ((طاعةُ المرأة ندامة)) وهو حديث موضوع مكذوب [7] ، كما أنّ الأمةَ أيضًا ليست محلّ تأثير المفرّطين الزّاجّين بالمرأة خارجَ السِّياج، وإن أجلبوا على باطلهم بالمبرِّرات المغشوشة والأحاديث المكذوبة أيضًا كحديث: ((خذوا نِصفَ دينِكم من هذه الحُميراء)) يعنون بذلك عائشةَ رضي الله عنها، وهو حديث موضوع مكذوب أيضًا [8].
والحقُّ في ذلك كلِّه هو الوسَط الذي هو العدلُ والخِيار والإنصاف، فما دلّ عليه الدليلُ الشرعيّ فهو الحقّ وإن لم يتَّبعه إلا شخصٌ واحد، وما خالف الدليلَ الشرعيَّ فهو الباطل وإن اتّبعه جمهور الناس.
وإنه لمن الغلَط الفاحِش والمفهوم المقلوب أن يدّعي بعض الناس إمكانيةَ جمع الفُرَقاء والمختلفين في قضية المرأة، فيريدون أن يوفّقوا بين الداعِين إلى الحجابِ الشرعيّ المتكامل والداعين إلى سفور المرأة وتبرّجها من خلال تنصيفِ الحجاب وتنصيفِ الحِشمة وتنصيفِ الحياء، فيصيرون بذلك مذبذَبين بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الرعد:33].
ألا فاتقوا الله معاشرَ المسلمين، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإنّ كلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي (4425) عن أبي بكرة رضي الله عنه بلفظ: ((لن يفلح قوم...)).
[2] مسند أحمد (5/45)، وأخرجه أيضا بهذا اللفظ الطبراني في الأوسط (425)، وصححه الحاكم (7789)، لكن في سنده أبو بكرة بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة متكلم فيه، انظر: السلسلة الضعيفة (436).
[3] صحيح البخاري: كتاب (5096)، صحيح مسلم: كتاب الذكر (2740) عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما بلفظ: ((أضر على الرجال من النساء)).
[4] صحيح مسلم: كتاب الذكر (2742) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[5] انظر: تاريخ الطبري (1/472) وما بعدها.
[6] انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/314)، قال البيهقي في السنن الكبرى (9/200): " قال الشافعي في رواية أبي عبد الرحمن البغدادي عنه: لم يختلف أهل السيرة عندنا ابن إسحاق وموسى بن عقبة وجماعة ممن روى السيرة أن بني قينقاع كان بينهم وبين رسول الله موادعة وعهد، فأتت امرأة من الأنصار إلى صائغ منهم ليصوغ لها حليّا، وكانت اليهود معادية للأنصار، فلما جلست عند الصائغ عمد إلى بعض حدائده فشدّ به أسفلَ ذيلها وجيبها وهي لا تشعر، فلما قامت المرأة وهي في سوقهم نظروا إليها منكشفة، فجعلوا يضحكون منها ويسخَرون، فبلغ ذلك رسول الله فنابذهم وجعل ذلك منهم نقضا للعهد".
[7] أخرجه ابن عدي في الكامل (3/262، 5/262) من حديث عائشة ومن حديث زيد بن ثابت رضي الله عنهما، وحكم عليه بالوضع ابن الجوزي (2/272)، والشوكاني (129)، والألباني في السلسلة الضعيفة (435)، وغيرهم.
[8] جاء في مرقاة المفاتيح (10/565): "قال الحافِظُ اِبنُ حجرٍ: لا أعرِفُ له إسنادًا , ولا رِوايةً فِي شيءٍ مِن كُتُبِ الحدِيثِ إِلا في النّهايةِ لابنِ الأثيرِ , ولم يذكر من خرّجه. وذكر الحافِظ عِماد الدينِ بن كثِير أنّه سأل المزِّيّ والذّهبِي عنه فلم يعرِفاه. وقال السخاوِيّ: ذكرهُ فِي الفِردوسِ بِغيرِ إِسنادٍ, وبِغيرِ هذا اللّفظِ، ولفظُه: ((خُذوا ثُلث دِينِكُم مِن بيتِ الحُميراء)) , وبيّض لهُ صاحِبُ مُسندِ الفِردوسِ, ولم يُخرِج لهُ إِسنادًا. وقال السيوطيُّ: لم أقِف عليه".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده.
وبعد: فاتقوا الله أيها المسلمون.
واعلموا أنّ ثمّة محورًا سادسًا يخصُّ قضيةَ المرأة، وهو أنّ وظيفتها في الحياة والمجتمَع ليست مبنيّةً على عقدِ استرقاقٍ ولا ارتفاقٍ لجسدِها، بل المرأة لها حقّ في المجتمع والأسرَة، إذ لها حقٌّ أن تحضر المساجدَ في غير فتنةٍ، وأن ترفع عنها الأمّيّة، وأن يكونَ لها قصَبٌ في النصح والتوجيه والتربية والتعليمِ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن حقِّها أيضًا أن تسعَى إلى الأفضلِ عند توفُّر فُرصِ العمل الملائم لوضعِها خَلقيًّا وشرعيًّا، في ميدان العِلم النافع والعمل الصالح ودعوةِ الخير، فالأمّة المسلمة بحاجةٍ ماسّة إلى المربّية المسلمة والمعلِّمة المسلمة والممرّضة المسلمة والطّبيبة المسلمة والكاتبة المسلمة، والمرأةُ ذاتُها بحاجةٍ ماسّة إلى أن تملأ رأسَها بالعلم والمعرفة الصالحة، لا أن تعرِّي رأسَها وجسَدها وتتجهَّم لدينها.
ووظيفة المرأة في المجتمع ستبقى خطيرةً وحسَّاسَة، لا تقبل التفريطَ فيها ولا التجاربَ المُرّة عليها.
كما أنّ المجتمع كلَّه مطالبٌ بصيانةِ الأعراض ومنعِ أيّ عَبَثٍ بها. والأمة الموفّقَة هي التي تستطيع أن تلائِم بين هذه الأهدافِ النبيلة للمرأة وبين احتياطاتِ المجتمع في ظلِّ حمايتِها وصيانتها، فلا هي تضَعها في قفصِ الاتهام، ولا تطلِقها لتكونَ مصيَدةً للآثام والبغي، ولا تجور على غَيرةِ الرجل وتمتهِن حقوقَ الله.
وأمّا آخِر المحاور ـ عبادَ الله ـ فهو ما ينبغي إيضاحُه بأنّ دعوى التّساوي بين الجنسين الذكرِ والأنثى من جميع الوجوه إنما هي كمثَل دعوى إمكانيّة العقدِ بين شعيرتين، فالمسلمُ الحقّ ينبغي أن لا يشُكَّ في أن الله جل وعلا اختصَّ كلَّ جنسٍ بخصائصَ امتاز بها عن الآخر، وزاد الرجالُ على النساء درجةً، فقال سبحانه: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:228]. فجعلَ الله التفضيلَ للرجال بالنبوّة والإمامةِ العُظمى والقضاءِ وإماماتِ الصلاة والجهادِ في سبيل الله وتزويج الرجل نفسَه دون وليّ والطلاق بيَد الرجل وأنّه يأخذ ضعفَها في الميراث في كثيرٍ من الحالات وأنّ الولدَ يُنسَب لأبيه وأنه يتزوّج أربعةً من النساء ويتسرَّى بالجواري وأنّ شهادةَ امرأتين تعدلُ شهادتَه وغير ذلك كثير. وقد روى الإمام أحمد في مسنده أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، تغزُو الرجال ولا نغزو، ولنا نِصفُ الميراث!! فأنزل الله تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:32] [1]. يقول القرطبي رحمه الله: "ولا يخفى على لبيبٍ فضلُ الرجال على النساء، ولو لم يكُن إلاّ أنّ المرأة خُلِقت من الرّجل فهو أصلُها، وله أن يمنعها من التصرُّف إلا بإذنه" [2].
غيرَ أنَّ هذا الاختصاصَ والتفضيلَ ـ عبادَ الله ـ لا يعني ازدراءَ المرأة ولا إقامةَ العنصريّة ضدَّها، ولا يعني ذلك بداهةً أن يكون كلُّ رجُلٍ أفضلَ من كلِّ امرأة، فإنّ القاعدةَ المقرّرَة أن تفضيلَ الشيء لا يلزم منه إهانةُ المفضول أو سقوطه، فالقرآن كلُّه كلامُ الله، ومع ذلك صحّ عند مسلم أنّ النبيَّ ذكر أنّ آيةَ الكرسيّ هي أفضل آية في كتاب الله [3] ، والأنبياءُ والرسُل يفضُل بعضهم بعضًا كما قال تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ [الإسراء:55]، ولا يعني ذلك البتَّةَ انتقاصَ المفضول من الآيات والأنبياء والرسُل.
وبعد: عبادَ الله، فإننا مع هذا التفضيل المذكور آنفًا لنؤكِّد بالدليلِ الشرعيّ أنّ النساءَ شقائق الرجال، وأنهم والرجالَ في العقائدِ والأخلاق سواء، وأنهم سواء في استحقاقِ الثواب والعقاب في مقابل تعاليمِ الإسلام سلبًا وإيجابًا. كما أنّ الزعمَ بأنّ الذكورةَ تقدِّم صاحبَها في الميزان وأنّ الأنوثة تؤخِّر صاحبتَها ليُعدّ لونًا من ألوان الافتراءِ والظلم، فالله جل وعلا يقول: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]. بل إنّ الواقع ليشهد أنّ المرأة قد تفوق كثيرًا من الرجال كما كان لأمّهاتِ المؤمنين ومَن بعدهنّ، فالذكورة والأنوثة ليست هي مقامَ الميزان يوم القيامة، فكما أنّ تأنيثَ الشمس لم يكن عَيبًا لها، فكذلك تذكير الهلالِ لم يكن فخرًا له، وفي المثل المطروق: أنثى الأسَد في غابها خيرٌ وأقوى من الدّيك بين دجاجِه.
وأمّا الأصلُ العامّ في النظرة والقاعدةُ المجمَلة في هذه القضية فهي قولُه تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34].
هذا وصلُّوا ـ رحمكم الله ـ على خيرِ البريّة وأزكى البشريّة محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب، فقد أمركم الله بذلك بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه أحمد (6/322)، وأبو يعلى (6959)، والطبري في تفسيره (5/46-47)، والطبراني في الكبير (23/280) وغيرهم عن مجاهد قال: قالت أم سلمة وذكر القصة، وأخرجه الترمذي في التفسير (3022) عن مجاهد عن أم سلمة رضي الله عنها، وقال: "هذا حديث مرسل ـ أي: منقطع ـ، ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مرسل أن أم سلمة قالت كذا وكذا"، وقال الحاكم (2/335): "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين إن كان سمع مجاهد من أم سلمة"، قال أحمد شاكر في تعليقه على جامع البيان (8/262-263): "الروايتان بمعنى واحد، وإنما هو اختلاف في اللفظ من تصرف الرواة، وكلها بمعنى: مجاهد عن أم سلمة... وأما حكم الترمذي بأنه حديث مرسل فإنه جزم بلا دليل؛ ومجاهد أدرك أم سلمة يقينا وعاصرها، فإنه ولد سنة 21هـ، وأم سلمة ماتت بعد سنة 60هـ على اليقين، والمعاصرة من الراوي الثقة تحمل على الاتصال إلا أن يكون الراوي مدلسا، ولم يزعم أحد أن مجاهدا مدلس... فثبت عندنا اتصال الحديث وصحته"، والحديث في صحيح سنن الترمذي (2419).
[2] الجامع لأحكام القرآن (3/125).
[3] صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها (810) عن أبي بن كعب رضي الله عنه.
(1/3263)
أخلاق المجتمع المسلم
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
23/4/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكالب الأعداء على المسلمين. 2- ضرورة مراجعة منهج مدرسة الإسلام الأخلاقية. 3- رابطة المؤمنين في المجتمع المسلم. 4- قاعدة أخلاقية نبوية. 5- سعي الأعداء في بث العداوة بين المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فهي سببُ كلِّ سعادة ونجاح وطريقُ كلِّ فوزٍ وفلاح.
معاشرَ المؤمنين، إنَّ المسلمين اليومَ تتقاذفُ بهم أمواجُ الفتَن، وتحيطُ بهم أسبابُ التفرُّق والشرور والإحن، يسعى الأعداءُ لتفريق صفوفهم، ويبذُلون كلَّ جهدٍ لبذرِ أسبابِ العداء بين أبنائهم، يفرَحون بخرقِ صفِّ المسلمين وتفريق كلِمتهم، ويسعَدون ببثِّ روح التباغُض في مجتمعاتهم وفُشوِّ الكراهيَّة بين شبابهم. وحينئذٍ فما أحوجَ المسلمين اليومَ للالتزام بالمنهجِ الذي تصفو به قلوبُهم، وتسلَم معه صدورُهم، وتُنشَر من خلاله مبادئُ المحبَّة والوئام في مجتمعاتهم.
إنَّ المسلمين اليومَ بحاجةٍ لمراجعةِ منهَج المدرسةِ الأخلاقيّة العظمى، وفي ضرورةٍ لتحقيق مدرسةِ قواعدِ الفضائل العُليا. تلك المدرسةُ التي تضمَّنت المبادئَ الكبرى للمحبَّة والوئام والأصولَ العُظمى للخِصال الكِرام، إنه منهجُ مدرسةِ الإسلام التي حرصت على تأصيل أسبابِ المحبَّة بين المسلمين، وبذرِ قواعِد الأخوَّة والألفة بين المؤمنين، يقول ربّنا جلّ وعلا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ويقول نبيّنا : ((وكونوا عبادَ الله إخوانا)) [1].
ذلكم أنّ تلك المبادئَ الكريمة وهذه الفضائلَ العظيمة تقودُ الأمّةَ إلى كلّ خير، وتحقِّق لهم كلَّ منفَعة. مبادئ هي أساسُ استقامة مجتمعاتهم وسعادةِ حياتهم وتحقيق مصالحهم، ولهذا يقول الحكماء: "وكلُّ قومٍ إذا تحابّوا تواصَلوا، وإذا تواصَلوا تعاونوا، وإذا تعاونوا عمِلوا، وإذا عملوا عَمَّرُوا، وإذا عَمَّرُوا عُمِّرُوا وبُورك لهم". ولهذا ففي أفضلِ عصرٍ وأعظم دولة صلاحًا وازدهارًا يقول المولى جلّ وعلا في شأنِ الأنصار مع المهاجرين: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
ومن هذا المنطلقِ وجَّه نبيُّنا وسيِّدنا محمدٌ ، وجَّه رسالتَه الخالدةَ لهذه الأمّة حيث يقول: ((لا تحاسَدوا، ولا تباغَضوا، ولا تدابَروا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا. المسلمُ أخو المسلم؛ لا يظلِمه ولا يخذله ولا يحقره. كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمُه ومالُه وعرضه)) متفق عليه [2].
أمةَ الإسلام، وفي ظلِّ هذا المنهجِ العظيم يجب أن يعيشَ المسلم في مجتمعه، يزاولُ حياتَه، ويقومُ بنشاطاته، وهو مرتبطٌ بإخوانه المسلمين برابطةٍ هي أعظمُ الروابط، وآصِرة هي أوثقُ الأواصِر، يقول الحبيب المصطفى : ((المؤمنُ للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا)) وشبَّك بين أصابعه. متفق عليه [3].
إخوةَ الإسلام، في ظلِّ منهج سيِّد البشرية وخير البرية يجبُ أن يعيشَ الفردُ المسلم متّصِفًا بصفاتٍ فُضلى متحلِّيًا بمعاني كبرى، قاعدتُها وأصلها الجامع أن يعيشَ في مجتمعه المسلم محِبًّا لإخوانه المسلمين ما يحبّ لنفسه، كارهًا لهم ما يكرَه لنفسِه، يقول : ((لا يؤمِن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبّ لنفسه)) متفق عليه [4] ، ويقول موجِّهًا أمَّته بهذه الوثيقة الخالدة العظيمة: ((وإنَّ أمَّتكم هذه جُعِلَ عافيتُها في أوَّلها، وسيصيبُ آخرَها بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها، وتجيء فتنةٌ فيرقِّق بعضها بعضًا، وتجيء الفتنةُ فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشِف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحبَّ أن يُدْخَلَ الجنةَ ويُزَحزَح عن النار فلتأتِه منيّتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناسِ الذي يحبُّ أن يؤتى إليه)) الحديث أخرجه الشيخان [5].
قاعدةٌ نبويّة محمّدَّية تتضمَّن كلَّ المعاني الخيِّرة والمبادئ الطيبة والأخلاق الكريمة، قاعدةٌ يوجِّهها أكملُ الناس خُلُقًا وبِرًّا وفضلاً، تقتضي هذه القاعدةُ الثابتة على مرِّ الأزمان واختلاف الأحوال، تقتضي وتتضمَّن لزومَ الاتِّصاف والالتزام بمعاني الألفة والإخاءِ والرَّأفة والرحمة والرِّفقِ والعطف وحُسن العشرة والمعاملة والإيثار والمواساة وتفريج الكرُبات وقضاء الحاجات، وفي هذه المعاني السَّامية والفضائل العالية يقول حبيبُنا وسيّدنا عليه أفضل الصلاة والسلام واصفًا ما ينبغي أن يكونَ عليه المجتمعُ، يقول عليه الصلاة والسلام: ((مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطفهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائُر الجسَد بالسَّهر والحمَّى)) متفق عليه [6] ، ويقول عليه الصلاة والسلام وهو الرحيمُ المشفق: ((ومن كان في حاجةِ أخيه كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلمٍ كُربة فرَّج الله عنه كربةً من كُرَب يوم القيامة، ومن سَتَر مسلمًا ستَره الله في الدّنيا والآخرة)) متفق عليه [7].
قاعدةٌ نبويَّة تقضي بوجوبِ البُعد عن التحاسُد والتباغض في مجتمعات المسلمين، وتقضي بتحريمِ الإضرار والإيذاء للمؤمنين، يقول ربُّنا جل وعلا: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58]، ونبيُّنا يقول: ((لا تحاسَدوا، ولا تناجَشوا، ولا تباغَضوا، ولا تدابَروا، ولا يبِعْ بعضكم على بيع بعض، وكونوا عبادَ الله إخوانًا. المسلم أخو المسلم؛ لا يظلِمه ولا يخذله ولا يحقّره. بحسب امرئٍ من الشرّ أن يحقرَ أخاه المسلم. كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمُهُ وماله وعرضه)) رواه مسلم [8] ، ويقول مؤصِّلاً قواعدَ المجتمع المسلم: ((لا ضرَرَ ولا ضِرار)) [9].
معاشرَ المسلمين، هذه ثوابتُنا الإسلاميّة، وتلك أصولُ بناء المجتمعاتِ المحمديَّة، أصولٌ تحارِب العبثَ بالأمن، وتصادِم الإضرارَ بالبلاد والعباد، وتمنَع الإفسادَ والفسادَ. ألاَ فليكُن كلُّ مسلمٍ ملتزِمًا بهذه المعاني السامية، متَّصِفًا بهذه التوجيهاتِ الكريمة، ليحيا في مجتمعه محِبًّا محبوبًا، رحيمًا مرحومًا، عندئذ يحيا حياةً طيّبة ويعيش عيشة مرضيّة، فربُّنا جلّ وعلا يقول: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ [التوبة:71]، ونبيّنا يقول: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمِنوا، ولا تؤمِنوا حتى تحابّوا، أولا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم)) رواه مسلم [10].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما في السنّة والبيان، أقول هذا القولَ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6064، 6066، 6065، 6076)، ومسلم في البر (2563، 2564، 2559) من حديث أبي هريرة ومن حديث أنس رضي الله عنهما.
[2] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6066)، صحيح مسلم: كتاب البر (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
[3] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6027)، صحيح مسلم: كتاب البر (2585) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[4] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (13)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (45) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[5] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1844) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ولم يخرجه البخاري.
[6] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6011)، صحيح مسلم: كتاب البر (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[7] صحيح البخاري: كتاب المظالم (2442)، صحيح مسلم: كتاب البر (2580) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[8] صحيح مسلم: كتاب البر (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه أحمد (1/313)، وابن ماجه في الأحكام (2341) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (3/48): "فيه جابر الجعفي وقد اتهم". وللحديث شواهد كثيرة لا تخلو من مقال، ولكن بعضها يقوّي بعضا كما قال النووي في الأربعين، ووافقه ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص304) وقال: "وقد قال البيهقي في بعض أحاديث كثير بن عبد الله المزني: إذا انضمت إلى غيرها من الأسانيد التي فيها ضعف قوتها... وقد استدل الإمام أحمد بهذا الحديث وقال: قال النبي : ((لا ضرر ولا ضرار)) ، وقال أبو عمرو بن الصلاح: هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه، ومجموعها يقوي الحديث ويحسنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به، وقول أبي داود: إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها يشعر بكونه غير ضعيف، والله أعلم"، وأورده الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1896).
[10] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (54) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وليِّ الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له ربُّ العالمين، وأشهد أنَّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله سيّد الأنبياء والمرسلين، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمّا بعد: فيا أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فهي وصيَّةُ الله جلّ وعلا للأولين والآخرين.
عباد الله، إنَّ أعداءَ هذا الدّين لا يألون في الفساد والإفساد لأهل الإسلام، فهم في عملٍ دؤوب لزرع روحِ التباغُض بين المسلمين، وبذرِ أسباب التدابُر بين المؤمنين. وإنَّ الواجبَ على المسلمين في كلِّ مكان وقد أصَّل لهم دينُهم طرقَ الخيرات وأسبابَ الفلاح والمسرَّات أن يثبُتُوا على وصايا هذا الدين كالجبال الراسيات، وأن يُلزِموا أنفسَهم بتلك التوجيهاتِ المباركات.
وإنَّ أهلَ هذه البلادِ بلادِ الحرمين وهم يعيشون نِعَمًا عُظمى وخيراتٍ جُلَّى، فهم محسودُون من أعداء الإسلام والمسلمين، لذا حَريٌّ بأهلها وحريٌّ بأهل الإسلام في كلِّ مكان الاجتماعُ على السنّة والهدى، والتعاونُ على البرّ والتقوى، وواجبٌ على المسلمين في هذه البلاد أن يكونوا يدًا واحدةً مع ولاةِ أمورهم ومع علمائهم لتحقيقِ المنافعِ الخيِّرة والمصالح المرجوَّة، وأن يحذَر الجميع أسبابَ التدابرُ والتباغض وطرقَ التنازع والتفرُّق؛ حتى يسلمَ للناسِ دينهم، وتسلمَ لهم دنياهم، ويعيشوا في ظلِّ أمن وأمان ورغدٍ ورَخاء.
ثم إنَّ الله جلَّ وعلا أمرنا بأمرٍ عظيم تزكو به حياتُنا وتسعَد به أُخرانا، ألا وهو الصلاةُ والسلام على النبيّ الكريم.
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيّدنا ونبيّنا محمّد، وارض اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين...
(1/3264)
التحذير من المكاسب الخبيثة
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
23/4/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النهي عن أكل المال بالباطل. 2- التحذير من المكاسب الخبيثة. 3- صور من أكل المال بالباطل. 4- مراقبة الله تعالى في المال. 5- مفاسد المكاسب الخبيثة. 6- عظم فتنة المال. 7- التحذير من الرشوة. 8- ورع النبي والسلف الصالح من بعده.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جلّ جلاله وهو أصدقُ القائلين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29].
في هذه الآيةِ خطابٌ لأهلِ الإيمان السامعين المستجيبين لله ورسوله، ينهاهم ربُّهم أن يأكلَ بعضُهم مالَ بعض بالباطل، والمرادُ بالباطل ما كانَ الأكلُ بغير حقٍّ، أكلٌ لمالِ الغير ظلمًا وعدوانًا.
ذلك ـ يا عبادَ الله ـ أنَّ مالَ المؤمن محتَرمٌ، والتعدِّي عليه ظلمٌ وعدوان، ولا يحلُّ مال امرئ مسلمٍ إلاَّ بطيبةٍ من نفسه.
أيها المسلم، إنّ الواجبَ عليك احترامُ أموال الغير، ولتعلمْ أنَّ أكلَها بغير حقٍّ مِن أكلِ الحرام، وأكلُ الحرام أمرٌ محرَّم على المسلم؛ لأنَّ الله أمرنا أن نأكلَ من طيّبات ما رزَقنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]. والطيّبُ هو الحلالُ المباح، حلالٌ أحلَّه الله، مباحٌ تناولُه، فالمال الحرام حرامٌ عليك؛ لأنه محرَّمٌ شرعًا، وإذا كان هذا مالَ الغير فحرامٌ عليك أيضًا لكونِه مالَ أخيك، فلا يجوز التعدِّي عليه وظلمُه.
أيها المسلم، إنَّ نبيَّنا محمّدًا حذَّرنا من المكاسب الخبيثة، حذّرنا من أكلِ الحرام، وتوعَّد آكلَ الحرام بوعيد شديد، من أعظمِها أنَّ أكلَه للحَرام عائقٌ من إجابةِ الدعاء وسببٌ لردِّ الدعاء، فأكلُ الحرام يمنَع إجابةَ الدعاء، مع ما يترتَّب على أكلِ الحرام من ظلمٍ وعدوان، وأنَّك بأكلِ المال الحرام تُغدِّي نفسَك بهذا المال الخبيث وتُطعِمه أولادَك، فتتحمَّل الأوزارَ والآثام.
أيها المسلم، أكلُ مالِ الغير بالباطلِ بالظلم والعدوان يكونُ في أمور:
فمنها اغتصابُ أموالِ الغير، فاغتصابُك لمال غيرك وأخذُك مالَه قهرًا وعدوانًا تُعتبر بهذا آكلاً للحرام؛ لأنك تعدَّيتَ على مالٍ لا يحقّ لك، فأخذتَه ظلمًا وعدوانا، فأنتَ بهذا آكلٌ للحرام.
سرقتُك لمال الغير خفيةً تعتَبر بهذا آكلاً للمال الحرام.
جَحدُك الحقَّ الواجبَ عليك والمتعيِّن عليك أداؤُه تعتَبر بهذا آكلاً للحرام؛ لأنَّ هذا الحقَّ الذي يجب عليك أن تؤدِّيه لصاحبه لكونه عِوَضًا عن قِيَم المبيعات أو أجره أو نحو ذلك، فإذا جحدتَه كنتَ بذلك آكلاً للحرام.
معاملتُك الربويَّة بالفوائدِ تُعتبَر ظلمًا وحرامًا عليك، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، فالفوائدُ الربويّة أكلُها حرام؛ لأنّ الله حرَّمَ ذلك في كتابه وحرَّمه رسولُه.
عدمُ إعطاءِ الأجير حقَّه والمماطلةُ بذلك تعتبَر آكلاً للحرام؛ لأن الأجيرَ يجبُ أن يُعطَى حقَّه كاملاً، فالمراوغةُ والمماطلةُ والمحاولةُ للاستنقاصِ وجَحد البعض تعتبَر بهذا آكلاً للحرام.
خيانتُك لما ائتُمنتَ عليه من مال، عندما تخون الأمانةَ التي ائتمنتَ على حفظِها وإيصالها لمستحقيها تعتبر بتلك الخيانةِ مع [عِظم] الخيانة وقبحِها آكلاً للمال الحرام.
أكلُ مالِ اليتيم وعدمُ إعطائه حقَّه تعتبَر بهذا آكلاً للحرام.
أيّها المسلم، غِشُّك في البيوع وكذبُك وتدليسُك يعتبر آكلاً للحرام؛ لأنّ الواجبَ على البائع الصدقُ في بيعه، وأن لا يخدَع ولا يغشَّ ولا يخون، بل يكون إخبارُه صحيحًا صِدقًا، فإن دلَّس وغشَّ وخان كان آكلاً للمال الحرام.
يبيعُ بيعًا يعلَم أنَّ هذا البيعَ فيه عيوبٌ قد لا يطَّلع المشتري عليها إلاّ بعد حين يُعتبر بهذا آكلاً للحرام؛ لأن الواجب عليه أن ينصَحَ لإخوانه، وأن يحبَّ لهم ما يحبُّه لنفسه.
قبولُ الرِّشوة أو طلبُ الرِّشوة والسعيُ لأجلها والتوقُّف عن تنفيذ الحُقوقِ والمعاملات للأفراد إلى أن يُعطى رشوةً على قدرِه تُعتبَر تلك الرِّشوة آكلاً للمال الحرام؛ لأنك أخذتَ مالاً بغير حقِّه.
أيّها المسلم، تدبَّر في وضعك، واعلم أنَّ كلَّ مالٍ أخذتَه بغير طريقٍ مشروع فإنّه حرامٌ عليك، والمؤمنٌ يتَّقي الله في نفسِه، ويراقبُ الله قبلَ كلّ شيء.
أيّها المسلم، شفاعتُك للغير وجعلُ تلك الشفاعةِ متوقِّفةً على مالٍ يُدفَع إليك، لولا هذا المالُ ما شفعتَ لمحتاج ولا نفعتَ محتاجًا، هذا المالُ حرام عليك؛ إذ المطلوبُ منك السعيُ في الخير، ((من شفَع لأخيه شفاعةً فأهدى له هديَّة فقبلها فقد أتى بابًا من أبواب الربا)) [1].
أيّها المسلم، كم أناسٍ عُهد إليهم بحقوقٍ للغير لكنّهم يماطلون ويظلِمون ويكذِبون ويساومون الناسَ على حقوقهم، إن أعطُوا نفَّذوا المهمَّة، وإن لم يُعطَوا حاولوا تمليل ذلك الإنسان وإقلاقَ راحته، وربَّما تَرَك حقَّه لأنه لا يستطيع أن يدفعَ لهم ما يريدون، وكلُّ هذا من أكل الحرام.
العاملُ والموظَّف يؤدِّي عملَه، يؤدِّي وظيفتَه على الوجهِ المرضِيّ، فإن طَلَب مالاً لأجلِ تنفيذ عمَل كان ذلك المالُ الذي يأخذه حرامًا عليه.
فمن اتَّقى الله في مكاسبِه بجميعِ أنواعها وراقب اللهَ وخافَ الله فذاك السعيدُ الذي نفع نفسَه وأنقذها من عذاب الله.
أيّها المسلم، ليس المهمُّ وصولَ المال إليك، المهمُّ أن تعلمَ أنَّ هذا المالَ الذي وصَل إليك: بأيِّ طريق وصل؟ بأيّ سببٍ نِلتَ المال؟ أبطُرق شرعية وأسباب مؤذونٍ فيها شرعًا؟ فذاك المكسَب الطيب، أم طرق ملتوية وأسبابٌ محرَّمة ومحاولات بكلِّ أنواع المحاولاتِ للحصول على هذا المال؟ فإنك بذلك قد ظلمتَ نفسَك وتحمَّلت الأوزارَ والآثام، وستَندم ولا ينفعُك الندم.
أيها المسلم، اسمَع نبيَّك وهو يحذِّرك من هذه المكاسِب الخبيثة، يقول : ((إنَّ الله طيبٌ لا يقبل إلا طيّبا، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ [المؤمنون:51] ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] )) ، ثم ذكر النبيّ الرجلَ الذي يطيل السفرَ أشعثَ أغبر، يمدُّ يديه إلى السماء: يا ربِّ، يا ربِّ، يا ربِّ، مطعَمه حرَام، وملبَسه حَرام، وغُذِّي بالحرام: ((فأنَّى يُستجاب لذلك؟! )) [2].
يا أخي، أكلُ الحرام سببٌ لقسوةِ القلب، أكلُ الحرام سَببٌ لضَعف الأعمال، أكلُ الحرام سببٌ للبلايا، أكلُ الحرام سببٌ لمَحقِ البركة، أكل الحرامِ سببٌ لحُلولِ العقوبات والمثُلات، أكلُ الحرام يُقلِق راحتَك وتشقَى بأمراضٍ متعدِّدة وهموم وغموم، وعندما يحين انتقالُك من الدنيا إلى الآخرة وتشاهد تلكَ الأمور تتذكَّر تلك الأموالَ التي طالما جمعتها من الحرام، وتعلمُ أنك تفارقُ الدنيا وقد تحمّلتَ الأوزارَ والآثام، وخلّفتَه إلى من قد يُحسِن فيه لنفسِه أو يفسِد والعياذ بالله، ففسادُهم إن فسَدوا أو صلاحهم عليهم، وأنت تحمَّلت الآثام والأوزارَ، وتلقَى اللهَ بالتَّبعات يومَ القيامة.
أخي، خلِّص نفسَك، واتَّق الله، ولتكُن القناعةُ خلُقًا لك في الحلال، واعمد إلى المكاسبِ الطيّبة، ففيها الخير والبركةُ في الدنيا والآخرة، أما المكاسبُ الخبيثة فممحوقةٌ بركتُها، ولا توفَّق فيها لعمل صالح؛ لأن الله يقول: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276].
أيّها المسلم، اعلَم أنَّ اللهَ سائلُك عن هذه الأموال في يومِ وقوفِك بين يديه حافِيًا عاريًا، سيسألك عن كل دِرهَم وصَل إليك، يسألك: [مِن] أين أتاك؟ وفيم أنفقته؟ [مِن] أين أتاك هذا المال؟ من أيِّ الطرُق أتى؟ وما طرقُ الإنفاق؟ هل أتاك المال من طريقٍ مشروع حلالٍ طيِّب أو من طريق خبيث سيِّئ؟ ثم [في] ماذا أنفقته؟ هل أنفقتَه في الواجبات؟ هل أنفقته في الأمور الطيبة أم أنفقتَه في باطلٍ وتبذير وأمور محرَّمة؟
فاتَّق الله في مالِك، فهو فتنةٌ وبلاء، لا ينجو من فتنته إلاّ من ملأ الله قلبَه يقينًا، وقنَّعه الله بالحلال.
نسأل الله أن يكفيَنا وإياكم بحلاله عن حرامِه، وبطاعتِه عن معصيتِه، وبفضلِه عمّن سواه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/261)، وأبو داود في البيوع (3541)، والروياني (1228)، والطبراني في الكبير (8/238) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3025).
[2] أخرجه مسلم في الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب (1686) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله حقَّ التقوى.
عبادَ الله، المؤمنُ حقًّا في قلبِه إيمانٌ يحجزه عن الحرام، فطرتُه السليمة ترفُض الحرامَ وتكرهه، إيمانُه الصادقُ يرفض المكاسبَ الخبيثة ولا يرضى بها ولا يطمئنّ إليها، كلَّما عَرَض له مكسبٌ خبيث تذكَّر الله والدارَ الآخرة، فعفَّ عن الحرام، وترفَّعت نفسُه عن الحرام.
إنَّ المالَ فتنةٌ وبلاء إلاَّ من عصَم الله، فما أكثَرَ المفرّطين، وما أكثرَ المتساهلين، وما أكثَر المتأوِّلين لاستحلال أموال الغير ظُلمًا وعدوانا، يستغلُّون ضعفَ الإنسان أحيانًا، ويستغلّون قوَّتهم ونفوذَهم، ويستغِلُّون قدرتَهم على التأثير، فحقوقُ الناس يساوَم عليها، إن أُعطُوا نفَّذوا، وإن لم يُعطَوا جحَدوا وأنكَروا، فهم لصوصٌ والعياذ بالله، ولا يعلَمون أنّ هذا المالَ الذي حَازُوه هو حرامٌ عليهم، سيكونُ حَطَبًا يتأجَّج عليهم في نارِ جهنَّم.
جاء صحابيٌّ إلى النبيّ ـ وابصةُ بن معبَد ـ فقال له النبيّ: ((جئتَ تسأل عن البرِّ والإثم؟)) قال: نعم، أعلَمَ الله نبيَّه بذلك، قال: ((البرّ ما اطمأنَّت إليه النفسُ واطمأنّ إليه القلب، والإثمُ ما حاك في النفسِ وتردَّد في الصدر، وإن أفتَاك الناسُ وأفتَوك)) [1].
يا أخي، كم من أناسٍ يسهِّلون الحرامَ، ويتعدَّون الحدودَ، ويقول قائلهم: هذا مالٌ نِلتَه، ومالٌ لم تُجبِر عليه أحدًا، ولم تغصِبه من أحدٍ، ولم تسرِقه، إنما مالٌ أخذتَه في سبيل تنفيذِ مهمَّةٍ أو في سبيل إعطاءِ أمانة، أنت في هذا المركَز لا بدّ أن تأخُذَ، ولا تفُتِ الفرَص عليك.. إلى آخر ذلك، فيستحلّون أموالَ المسلمين، ويأخذونها ظلمًا وعدوانًا.
فيا إخواني، هذه أمورٌ خطِيرة، يجحَدُ الإنسانُ حقوقَ الغير، عُمّالٌ لهم حقوقٌ لا يُعطَون إيّاها، لماذا؟ لأنهم ضعفاءُ وفقَراء ولا يستطيعون، فيذهَبون وأموالهم عند ذلك الجائرِ الظالم، ثم يندَمُ بعد ذلك ولا ينفعه ندَمه.
يا إخواني، أماناتٌ ومواريثُ عند آخرين يجحَدون وينكِرون ويماطِلون ويلفُّون ويدورون ويأتون بطرق ملتويةٍ، والله يعلم خائنَةَ الأعين وما تخفى الصدور.
مهما [فعلتَ] من حِيل واتَّخذتَ من أساليبَ اللهُ يعلَم سرَّك وعلانيتك، قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:29]. فلا مهربَ لك، الله محيطٌ علمُه بك، أنقِذ نفسَك، وخلِّص مكسَبك، واتقِ الله فيما بقي من عمُرك، فعسى أن تلقَى ربَّك ومكاسبُك طاهرةٌ نظيفَة، تسعَد بها في آخرتك، ويسعَد بها من بعدَك من ورثتك.
أيّها المسلمون، كان سلفُكم الصالحُ يتحرَّون المكاسبَ الطيّبة بكلِّ جُهدِهم، ويتوقَّون الحرامَ بكلِّ مُمكن، ولذا نالُوا السعادةَ في الدّنيا والآخرة بتوفيقٍ من الله.
نبيُّهم كان يتَّقي الحرامَ بكلِّ وسيلة، رأى تمرةً في الطريق فقال: ((لولا أني أخشى أن تكونَ مِن الصدقةِ لأكلتها)) [2] ؛ لأنَّ الصدقةَ محرّمةٌ عليه، ويقول لنا: ((دَع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك)) [3].
صِدِّيق هذه الأمّة أبو بكر رضي الله عنه خيرُ الخلقِ بعد الأنبياء، كان له غلامٌ في الجاهلية، وقد باعه نفسَه وأصبحَ قيمتُه خراجًا يعطيه أبا بكر كلَّ يوم، فجاءه يومًا بطعام، وكان الصدِّيق لا يأكل شيئًا حتى يسألَ عنه، فجاءه يومًا وهو صائمٌ بطعامٍ فأكلَه بعد ما أفطَر، فقال: ألا تسألني عن هذا؟! قال: نعم، ما شأنه؟ قال: كنتُ تكهَّنتُ لأناسٍ في الجاهليّة وأنا لا أحسِنُ الكهانة غيرَ أنِّي كذبتُ عليهم، فهذا جُعلٌ أعطَونيه عن تلكِ الكهانة [التي] ادَّعيتُها وأنا لا أحسنُ الكهانة، فأدخَل أبو بكر يدَه في جوفِه، وتقيَّأ كلَّ ما دخل، فقيل له: يرحمك الله يا خليفة رسول الله، أهذا من لقمةٍ واحدة؟! قال: والله، لو لم تخرُج إلا بخروجِ نفسي لحاولت، إنِّي سمعتُ رسولَ الله يقول: ((كلّ لحمٍ نبتَ من سُحتٍ فالنار أولى به)) [4]. ولذا قال بعضُ السّلف: "والله، ما سبَقهم أبو بكرٍ بكثرةِ صلاةٍ ولا صيام، ولكن بإيمان وقَر في قلبه" [5].
قالوا: إنَّ الإمامَ أبا حنيفة النعمانَ بن ثابت رحمه الله أحد الأئمة الأربعةِ المتبوعين كان يشتغِل في تجارة البزّ، وكان عنده نوعٌ من البزِّ فيه خروقٌ وشيء من النَّقص، باعَه وكيلُه من غير أن يُشعِر المشتريَ بما فيه من العَيب، وكان أبو حنيفةَ يعلَم ذلك، لكنه ما ظنَّ أنه سيشتريه إلاَّ بالسؤال عنه، فجاء إلى عامِله فقال: ما فعَل هذا البزّ؟ قال: بِعتُه، قال: هل أعلمتَ المشتريَ بالنّقص الذي هو فيه مِن بعض الخروقِ في ذلك؟ قال: لا، قال: لماذا؟ قال: ما سألني فبعتُه وقبضتُ ثمنَه، قال: وكم ثمنُه؟ قال: عشرةُ آلاف، قال: يا هذا، تصدَّق بها، فإني لا أحبُّ أن يدخلَ مكسبي شيءٌ من حرام.
هكذا النفوسُ العالية، والنفوسُ التي تراقب الله، والنفوسُ التي امتلأت قلوبُهم إيمانًا وتقوى. فلنتَّق الله جميعًا في مكاسبنا، ولنتواصَ بالحقِّ والصِّدق والأمانةِ، ولنؤدِّ الحقوقَ كاملة.
يا إخواني، كم يسأَل السائلون، يقول هذا السائل: سألتُ من شخصٍ أن يشفَع لي لعملٍ مَا فطلب مني مبلغَ كذا وكذا لكي يعطيَني ذلك العملَ ويجعلني في تلك الوظيفة.
فيا إخواني، كيفَ يستحلُّ المسلمُ مالَ مسلِم بغير حقّ؟! إذا كان من طَلب منك الشفاعةَ مستحقًّا لها وأنت قادرٌ على أن تنفَع هذا المسلم فانفعه إيمانًا وطاعةً لله، وأما أن تستغلَّ حاجتَه، فتأخذ منه مبلَغًا ما، تقول: إنها تعقيبٌ وإنها وإنها، والله يعلمُ أنك كاذبٌ في ذلك، فإنَّ هذا حَرامٌ عليك، سواء كان كلُّه لك، أو سواء لك جزءٌ ولغيرك جزء، المهمُّ أنك سعَيتَ في اقتطاعِ مالٍ من مسلِم بلا حقّ وإن طابت به نفسُه، لكنها لم تطِب به نفسُه عن قناعة، لكنَّ الحاجةَ ألجأته إلى ذلك، فخَفِ الله وراقبِ الله، واعلم أنَّ ما أخذتَه من مالِ هذا المسلم ظلمٌ وعدوانٌ، وأنك تأكلُ بذلك حرامًا.
فاتقوا الله في مكاسبكم يا عبادَ الله، وخلِّصوا أنفسَكم قبلَ لقاءِ الله، أسأل اللهَ أن يجعلَنا وإياكم من الصادِقين في القولِ والعمل.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (4/227، 228)، وأبو يعلى (1586، 1587)، والطبراني في الكبير (22/147، 148)، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (2/351)، وقال الألباني في صحيح الترغيب (1734): "حسن لغيره". ويشهد له حديث مسلم في البر (2553) عن النواس بن سمعان رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في اللقطة (2431)، ومسلم في الزكاة (1071) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (1/200)، والترمذي في صفة القيامة (2518)، والنسائي في الأشربة (5711)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (722)، والحاكم (2/13)، ووافقه الذهبي، وهو مخرج في الإرواء (2074).
[4] أخرجه ابن قانع في معجم الصحابة (2/61)، وابن عدي في الكامل (5/297) بدون القصة عندهما، وأبو نعيم في الحلية (1/31)، والبيهقي في الشعب (5760، 5761) من طريق زيد بن أرقم عن أبي بكر، وفي سنده عبد الواحد بن زيد متروك، ولذا ضعفه المناوي في الفيض (5/17)، وقد أخرج البخاري نحو هذه القصة في المناقب (3842) عن عائشة رضي الله عنها من غير اللفظ المرفوع، وقد ورد الجزء المرفوع عن عدد من الصحابة منهم: عمر وجابر وابن عباس وابن عمر وعبد الرحمن بن سمرة وكعب بن عجرة رضي الله عنهم.
[5] هذا من كلام أبي بكر بن عياش، انظر: المنار المنيف (ص92).
(1/3265)
وأقم الصلاة لذكري
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الدعاء والذكر, المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
23/4/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل قراء القرآن وعمار المساجد. 2- فضل لا إله إلا الله. 3- اللجوء إلى الله تعالى بالذكر والصلاة. 4- فضل الصلاة. 5- استمرار الممارسات الصهيونية الظالمة. 6- خطة تهويد مدينة القدس. 7- الشائعات الصهيونية. 7- نداء للعالم الإسلامي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، إذا وقف العباد في ساعة العرضِ على الله سبحانه وتعالى نادى عز وجل وقال: أين جيراني؟ فتقول الملائكة: من ذا الذي ينبغي أن يجاورك يا الله؟ فيقول الله تبارك وتعالى: أين قراءُ القرآن؟ أين عمار المساجد؟
عباد الله، خاطب الله تبارك وتعالى الكريم بقوله: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:12-14].
أيها المؤمنون، إن جميع الأنبياء عملوا في معسكر واحد هو معسكر التوحيد، وتحت لواء واحد هو قول: "لا إله إلا الله"، حتى إن الكريم سأل ربه وقال: يا رب علمني شيئا أدعوك وأذكرك به، فقال له الله تبارك وتعالى: قل: لا إله إلا الله، فقال الكريم: يا رب كلّ عبادك يقولونها، فقال له الله تبارك وتعالى: يا موسى وعزتي وجلالي لو أن السماوات وما فيهن والأراضين السبعة وما فيهن وضعت في كفة ووضعت "لا إله إلا الله" في كفة أخرى لمالت بهم "لا إله إلا الله".
ومر موسى بعابد من عباد بني إسرائيل فقال له العابد: إذا ناديت ربك فاسأله لي ثلاث دعوات، الأولى: أن لا يشغلني بسواه، والثانية: أن يلهمني ذكره حتى لا أنساه، والثالثة: أن يرزقني حبه حتى ألقاه. وناجى الكريم ربه ولكنه وهو في ذروة المناجاة نسي ما سأله العبد، فقال الله تبارك وتعالى: يا موسى ماذا قال لك عبدي؟ قال: يا رب أنت أعلم بما قال، قال الله تعالى: إن بيني وبين عبدي أسرارا وبلّغه بأنني عليه غضبان. ولما رجع الكريم من المناجاة قال له العبد: ماذا قال لك الله تبارك وتعالى؟ قال له موسى عليه الصلاة والسلام: إن الله عليك عضبان، فبكى العبد وقال: والله لئن طردني من بابه فلن أغادر بابه أبدا، فأوحى الله إلى موسى أن أخبر هذا العبد بأننا قبلناه وغفرنا له ما كان بيننا وبينه، يا موسى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فعبدني وأقم الصلاة لذكري.
عباد الله، إن عبدا من أمّة المصطفى كان يعمل تاجرا، وبينما هو يسير ذات ليلة قادما من بغداد إلى مكة إذا بقطّاع الطريق يخرجون عليه ليلا وليس معه إلا الله، وتوسّل لهم بأن له أولادا، ثم قال لهم: خذوا مالي خذوا كل ما أملك ودعوني لأولادي، وقبل الجميع إلا واحدا كان جبّارا عنيدا، قال: آخذ مالك ولا بد من قتلك، قال العبد: حسبي الله ونعم الوكيل ولكن أريد منك رجاء واحدا، قال له: سل، قال: أن تدعني حتى أصلي لله ركعتين.
عباد الله، كان الحسن رضي الله عنه يقول: "من أراد أن يكلّم الله فليصلِّ، من أراد أن يكلّمه الله فليقرأ القرآن". دعني أصلي لله ركعتين ما دمتَ مصرّا على قتلي، الصلاة كهفُ المؤمن، أمنٌ وأمان وسكينة من الله تبارك وتعالى، الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ [الرعد:28، 29].
عباد الله، كان حاتم الأصمّ يُسأل: كيف حالك إذا دخلتَ الصلاة؟ فيقول: إذا دخلت الصلاة جعلت كأنّ الكعبة أمامي والموت ورائي والجنة عن يميني والنار عن شمالي والصراط تحت قدمي والله مطّلع عليّ، فإذا سلّمت لا أدري أقبِلها الله أم ردّها عليّ. دعني حتى أصلي لله ركعتين، الليل قد أرخى سدوله، النجوم قد غارت، وليس مع العبد الصالح سيف ولا خنجر، الجبار العنيد مصرّ على إزهاق الروح.
ودخل العبد الصالح في الصلاة، وحينما كان ساجدا وأقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد، ولذلك افتقدت السيدة عائشة رسول الله ذات ليلة فخرجت تبحث عنه، فوجده ساجدا لله تبارك وتعالى يقول: ((يا ربّ، سجَد لك سوادي، وأمن بك فؤادي، وهذه يدي وما جنيت بها على نفسي، يا عظيم يرجَى لكل عظيم، اغفر الذنب العظيم، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق فيه سمعه وبصره، أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)) ، قالت عائشة رضي عنها: سبحان الله، أنا أسعى لأمر الدنيا وهو مشغول بأمر الآخرة.
وسجد العبد لله ولكن السجود لم يكن سجودا عاديا، إنما كان سجودَ من ينتظر لقاءَ الله بعد أن يسلّم التسليمتين، فهذا الجبار واقف على رأسه بسيفه، وإذا بالعبد يرسل برقية عاجلة إلى الله تبارك وتعالى يقول فيها: يا ودود، يا ودود، يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا ذا البطش الشديد، يا فعالا لما تريد، يا من ملك نوره أركان عرشه، يا مغيث أغثني، يا مغيث أغثني، يا مغيث أغثني.
فماذا حدث ـ يا عباد الله ـ بعدما سلم التسليمتين؟ وجد أمامه فارسا يركب فرسَه ويمسك بسيفه ويقاتل ذلك الجبار العنيد حتى قتله، فقال له العبد: من أنت يرحمك الله؟ سؤال من قلب امتلأ يقينا ونورا وهداية وقربا إلى الله تبارك وتعالى، فقال له الفارس: أنا ملك من ملائكة السماء الرابعة، لما دعوت الله بهذا الدعاء ضجّت الملائكة جميعا بالشكوى إلى الله، نرجوه أن يأذن لنا بإنقاذك، فأذن الله لي أنا.
لا إله إلا الله، لا إله إلا أنا فعبدني وأقم الصلاة لذكري. قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يحدثنا ونحدثه ويكلمنا ونكلمه، فإذا حضرت الصلاة كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه.
أيها المسلم، حافظ على الصلاة فهي مرضاة الرب وحبّ الملائكة وعبادة الأنبياء ونور المعرفة وبركة الرزق وكراهية للشيطان وقبول للأعمال ونور للقلب، فإذا كان يوم القيامة كانت لصاحبها ظلا وتاجا على رأسه ونورا يسعى بين يده وسترا بينه وبين النار وثقلا في الميزان وجوازا على الصراط ومفتاحا للجنة.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من عباده الصالحين، وأن يكتب لنا ولكم الأجر والثواب أجمعين، وتوجّهوا إلى الله تبارك وتعالى، وإذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة، فإنه لا يتعاظم على الله شيء، وادعوا الله أنتم موقنون بالاستجابة، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الذي قص لنا من آياته عجبا، أفادنا بتوفيقه إرشادا وأدبا، وأرسل فينا رسولا كريما وخصّنا بشريعته القويمة وحبَا، فآمنّا وصدقنا وله الفضل علينا وجبا، نحمده سبحانه وتعالى ونشكره ونتوب إليه ونستغفره، حمدا أرغم به أنف من جحد وأبى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تكون للنجاة سببا، ونشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله المجتبى أشرف البرية حسبا ونسبا، صلى الله عليه وعلى آله السادة النجبا، وأصحابه الذين سادوا الخليقة عجما وعربا، وهم ولاة الحق وقضاة الخلق، ومنهم من أنفق في سبيل الله وجهّز، ومنهم من قتل أعداء الله وأجهَز، ومنهم الأشدّاء على الكفار ومنهم الأسد إذا زاغت الأبصار، ومنهم الساجدون الراكعون، ومنهم السابقون الأولون، ومنهم التابعون واللاحقون، ونسألك يا الله يا كريم في هذا المكان الطاهر أن تحشرنا في زمرتهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أما بعد: فيا عباد الله، إن الممارسات الظالمة ضدّ أبناء شعبنا الفلسطيني المسلم في الأرض الفلسطينية عامة وضدّ أبناء القدس بصفة خاصة تلقي بظلالها القاتمة على واقع المدينة وشعبها ومستقبلها الغامض، وتبرز مجدَّدا قضية القدس محاطة بقلق أبنائها وأفكارهم المشوشة على مستقبلهم الاجتماعي والتربوي والسياسي والاقتصادي.
فمضي إسرائيل قدما في بناء جدار الفصل العنصريّ سيجعل المدينة المحاصرة أصلا تقبع داخل هذا الجدار الظالم، وتعزل المدينة عزلا تاما عن باقي مدن الضفة الغربية، والشائعات التي تطلق هنا وهناك وتقض مضاجع أهل المدينة سرعان ما تصبح واقعا ملموسا وأمرا مفروضا على الجميع، وتداول الشائعات وإطلاقها إنما يهدف إلى جسّ نبض الشارع المقدسي الذي لا يملك حولا ولا قوة بتغير السياسة الإسرائيلية نحو المدينة.
وقبل أن نتطرق إلى ما يتداوله الناس من الأقاويل والكلام هنا وهناك نود أن نؤكد ما قلناه مرارا أن اهتمامنا بقضية القدس ينبع أساسا من أهمية توعية المسلمين في كل مكان وتنبيههم إلى المخاطر المحدقة بالمدينة التي تستهدف إسلاميتها.
أيها المسلمون، عندما تتولّد لدينا القناعة التامة والإيمان الأكيد أن صراعنا هو صراع عقدي بين الإسلام وبين أعدائه فإننا ندرك إدراكا أكيدا أن الفكر الصهيوني عبر مؤسّساته الرسمية وغير الرسمية ورغم اختلاف الأسماء والمسميات وتعدد الأهداف، فإن إسرائيل تعمل على تهويد مدينة القدس منذ عام 1967م، إن تهويد القدس يسير في مسارين مترابطين: التغير الطبغرافي على الأرض والتغير السكاني، أما التغير الطبغرافي فإنه يتم من خلال عدة أمور منها:
أولا: إحاطة القدس بمدن استيطانية ذات طابع استراتيجي وقلاع محصنة من جميع الجهات وستكون معززة بمد سكاني.
ثانيا: عدم السماح لأبناء القدس بالبناء أو التوسّع السكاني الأفقي، وذلك عن طريق منع رخص البناء من قبل ما يسمى بلدية القدس والتي تعتبر عندهم إحدى المؤسسات الرسمية الحكومية باعتبار الأراضي هي أراضي خضراء يمنع فيها البناء، وفي هذا تحجيم للنمو العربي الإسلامي في مدينة القدس.
ثالثا: استمرار الحفريات في محيط المسجد الأقصى المبارك من ناحية، لإثبات وجود آثار يهودية في المنطقة تعزز من وجودهم للسيطرة على المسجد لا سمح الله، وفي نفس الوقت منع دائرة الأوقاف الإسلامية من إجراء أي ترميمات أو إصلاحات داخل المسجد الأقصى أو حتى في محيطه.
رابعا: والطامة الكبرى تأتي بإقامة جدار الفصل العنصري والذي يحدّد ويرسم معالم المدينة وفق المخطط الإسرائيلي الجديد.
أما على صعيد الديمغرافي السكاني فإسرائيل تسعى إلى تحقيق تفوق سكاني عددي لليهود في محيطها أو داخلها من خلال أمور عدة:
أولا: زيادة عدد المستوطنين داخل المستوطنات المقامة حول مدينة القدس.
ثانيا: تفريغ قلب المدينة من سكانها الأصليين بالتشديد أو المضايقات أو الإغراءات المالية لشراء العقارات والبيوت داخل البلدة القديمة أو خارجها، إن الذي يتجول في أحياء وأزقة وحارات البلدة القديمة يدرك عمق المأساة وصعوبة الحياة، أما الشائعات التي تسود هنا وهناك فهي:
أولا: فرض الجنسية اليهودية على سكان المدينة كما هو الحال بالنسبة للهوية الإسرائيلية وللفلسطينيين في الداخل، وعدم التنقل بين القدس ومدن الضفة إلا بالتصاريح.
ثانيا: عدم السماح بأي حال من الأحوال بعمليات جمع شمل الأزواج من أبناء القدس مع أبنائهم أو زوجاتهم أولادهم المتزوجين من أبناء الضفة الغربية وغير ذلك.
ثالثا: إجراء مسح سكاني للمناطق بعد بناء الجدار لمعرفة من يحمل الهوية الزرقاء ممن لا يملكها.
رابعا: إخضاع أبناء القدس للمزيد من المضايقات والملاحقات الضريبة واستمرار فرض القيود على البناء وسياسة هدم المنازل غير المرخصة على حد زعم البلدية.
أيها المسلمون، إن هذه الشائعات إنما يراد منها تفتيت إرادة شعبنا والنيل من صموده وتشتيت أفكاره، ولكن شعبنا في هذه الأرض المباركة، والذي شرفه الله بشرف الرباط وشرف الدفاع عن عقيدة الإسلام والمسلمين وحماية المقدسات وكل القيم الحضارية والإسلامية سيظل ثابتا بتوفيق الله تبارك وتعالى متمسكا بدينه وعقيدته وقيمه مهما تقلبت الظروف والأهوال، سيبقى شامخا في أراضي الإسلام والمسلمين رغم كل الأضرار الاقتصادية والاجتماعية والنواحي التربوية والتعليمة، فالثبات الثبات أيها المؤمنون، كونوا قلبا واحدا صفا واحدا واصبروا وصابروا ورابطو واتقوا الله لعلكم تفلحون.
ونذكّر عالما الإسلامي الذي يعيش في عالم النسيان نذكر إن كان هناك ما يستمع لصرخات شعبنا نذكرهم بنصرتنا، فإن تعذر ذلك على الحكومات والأنظمة الرسمية فليكفوا عن التآمر علينا، فالمسلم أخو المسلم لا يظلم ولا يغدره ولا يحقره.
أيها المؤمنون، ما يدمي القلب أن فئات ضالّة من أبناء شعبنا تعمل بتوجيه من جهات مشبوهة على بث حالة الرعب والقيام بعمليات السرقة والنهب للبيوت والمحالّ التجارية، وقد نشطت هذه الفئات في ظل غياب القانون، وبفضل الله تبارك وتعالى ثم وعي شعبنا المسلم فقد تم إلقاء القبض على هؤلاء المأجورين، ومن هنا ندعو شعبنا المرابط إلى المزيد من أخذ الحذر والحيطة.
فيا أيها المسلم، أعدَّ لكل هول وشدّة "لا إله إلا الله"، ولكل هم وغم "ما شاء الله"، ولكل نعمة "الحمد الله"، ولكل رجاء "الشكر لله"، ولكل أعجوبة "سبحان الله"، ولكل ذنب "أستغفر الله"، ولكل ضيق "حسبي الله ونعم الوكيل"، ولكل مصيبة "إنا لله وإنا إليه راجعون"، ولكل قضاء وقدر "توكلت على الله"، ولكل طاعة ومعصية "لا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
عباد الله، قبل أن أفارق هذا المقام أتوجّه إلى الله أن يكون مع أبنائنا في امتحان الثانوية العامة، أسأل الله وأنا واقف بين يديه أن يكون الامتحان بردا وسلاما على قلوبهم...
(1/3266)
صفة الجنة والنار
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
عبد الله بن حماد الرسي
الرياض
جامع ذي النورين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة المبادرة إلى الأعمال الصالحة. 2- التحذير من الاغترار بالدنيا الفانية. 3- صفة الجنة وأهلها. 4- صفة النار وأهلها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا من تريدون النجاة من النار والفوزَ بدار القرار، يا من يريد أن يسكن في الجنة ويبعده الله عن النار، فالبدار البدار إلى الإيمان بالله والأعمال الصالحة التي تقرب من الله زلفى، قال الله تعالى: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه:75، 76]، وأيضًا يصدر الخبر اليقين بأنَّ الله أعدَّ الجنةَ للذين آمنوا وعملوا الصالحات، فيقول وقولُه الحق: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً [الكهف:107، 108].
أيها الإخوة في الله، بادروا بالمنافسة والمسارعة إلى الجنة، ليقم القائمون، وليصُم الصائمون، وليتصدَّق المتصدِّقون، أَقْبِلُوا على اللطيف الخبير، وأصلحوا ما دام في العمر فسحة، فإنكم ـ والله ـ لا تدرون لعلَّكم لا تصبحون بعد أن تمسوا، فلا تغتروا بهذه الحياة الدنيا، فإنها دار غرور، خدَّاعة مدبرة فانية، واللهَ اللهَ بما يقرِّبكم من الله والدار الآخرة، فإن الآخرة مقبلة باقية، ثم فريقٌ في الجنة وفريق في السعير.
أيها الإخوة في الله، لقد وُصفت لنا الجنة، ووُصفت لنا النار، وصفها الله جل وعلا في كتابه، ووصفها رسوله في سنته، فالمؤمن بالله حقا إذا سمع تلك الأوصافَ في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله ازداد شوقًا إلى الجنة، وخوفًا وهروبًا من النار، فالجنة كما قال رسول الله : ((قال عز وجل: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) ، فاقرؤوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17].
نعم يا عباد الله، إنها دار الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فإن سألتم عن سعة الجنة فاسمعوا إلى المولى جل وعلا وهو يصفها لنا في كتابه العزيز ويقول: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، ويقول أيضًا جل وعلا وهو يصف لنا سعة الجنة: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21]، ثم لنتفكر في هذه الجنة، ما هو بناء هذه الجنة؟ هذه الجنة دارٌ قصورها مبنية بلبنة من ذهب ولبنة من فضة، وملاطها المسك الإذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، هذه الجنة فيها خيامُ اللؤلؤ المجوَّفة، قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ [التوبة:72]، ثم يخبر الله جل وعلا أن لهم نعيمًا آخر وهو الرضوان من الله فيقول: وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:72]، وأيضًا رسول الله يصف لنا نعيمًا في الجنة عندما أُسري به فيقول: ((ثم أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك)) ، وأيضًا يقول الصادق المصدوق محمد : ((جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلاَّ رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)) متفق عليه.
عباد الله، إن الجنةَ درجاتٌ، وما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، قال الله تعالى: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11]. وأيضًا يخبر رسول الله عن هذه الدرجات فيقول: ((من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقًا على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها)) ، ثم يقول الناصح الأمين محمد : ((فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة)) ، قال راوي الحديث: أُراه قال: ((وفوقَه عرشُ الرحمن، ومنه تفجَّر أنهار الجنة)). ثم يخبر وهو الصادق المصدوق عن نعيم آخر في الجنة فيقول: ((إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوَّفة طولها ستون ميلاً)) ، ثم يخبر رسول الله : ((إن فيها للمؤمن أهلين يطوف عليهم، فلا يرى بعضهم بعضًا)) متفق عليه. ثم يخبر الله عز وجل: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ [الصافات:48]، في تلك الخيام يا عبد الله، وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات:48، 49]، ويقول الله تعالى في وصف تلك العرائس الحسان: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72]، ويقول أيضًا في وصف تلك العرائس الحسان: وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [الواقعة:22، 23]، ثم يقول عن هذه الزوجات الحسان: ((ولو أن امرأةً من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاء ما بينهما، ولملأته ريحًا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها)).
الله أكبر، البدار البدار يا من تحبّ الجمال الطبيعي، يقول : ((إن الرجل من أهل الجنة ليُعطَى قوةَ مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة)) ، ثم يقول : ((إنَّ أهلَ الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتمخطون)) ، قالوا: يا رسول الله، فما بال الطعام؟ أجل، إذًا أين يذهب الطعام يا رسول الله؟ قال : ((جُشاءٌ ورشح كرشح المسك)).
أيها الإخوة في الله، ثم إن سألتم عن تلك الآنية التي يأكلون ويشربون فيها فقد وصفها الله ورسوله في الكتاب والسنة، قال الله تعالى: يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الزخرف:68]، من هؤلاء العباد؟ من هم؟ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ [الزخرف:69]، ماذا يقال لهم؟ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف:70]، ثم اسمعوا إلى الكرامة يا عباد الله، اسمعوا إلى الآنية، والتي فيها يطاف عليهم: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71].
ثم يصف ربُّ العزة والجلال نعيمًا آخر، يخبر الله عنه أيضًا ويقول: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:17-19]، هذا خمرُ الجنة: لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ. وماذا عندهم من الفواكه؟ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ [الواقعة:20]، وأيضًا: وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة:21].
ومن نعيم الجنة أيضًا نعيمٌ آخر في الجنة، وهو الأنهار التي تجري من دون أخدود، وفيها اللذة والنعيم، اسمعوا إلى وصفها في كتاب الله عز وجل: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ، اسمع يا عبد الله، حرّك الهمَّة إن كنت تريد تلك الدار العالية وما فيها، فإن فيها أنهارًا، اسمع اسمع إلى هذه الأنهار يصفها الجبار جلّ وعلا: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ، مسكين الذي أضاع عقلَه بالمسكرات الدنيوية، مسكين الذي أضاع عقله بالمخدرات وأصبح بمنزلة المجانين والحيوانات، لقد أضاع نصيبَه من هذا الخمر: وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15].
ثم لهم في الجنة حُلل وملابس، وذلك من كمال النعيم في الجنة، اسمعوا إلى المولى جل وعلا يصف لنا تلك الحلل وتلك الملابس: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، اسمع يا عبد الله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، هم الذين يحوزون على هذا النعيم، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف:30]، ما لهم؟ أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:31].
أيها الإخوة في الله، إن أهل الجنة يتفاوتون في دخولها، فأوّل من يدخل الجنةَ محمّد حيث أخبر بذلك وقال: ((آتي باب الجنة يوم القيامة وأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أُمرت أن لا أفتح لأحد قبلك ـ محمد ـ)) ، ثم يخبر سول الله عن أول زمرة يدخلون الجنة فيقول: ((إن أول زمرة يدخلون الجنة على صور القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أشد كوكب دُرّي في السماء إضاءة)).
أما عذاب أهل النار في النار، أستجير بك اللهم من النار، اللهم أجرنا من النار.
عباد الله، الله جلّ وعلا قد بيَّن لنا أوصاف النار، وبيَّنها لنا رسول الله ، قال الله عز وجل في محكم البيان: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب:64-68]، وأيضًا يصف لنا ربنا جل وعلا نوعًا آخر من تعذيب أهل النار: وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا [سبأ:33]، ثم إليكم هذه الصورة من أنواع العذاب في النار يصفها لنا القرآن، فتصوَّروا أهلَ النار وهم يصطرخون فيها، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:36، 37].
وهذا رسول الله يقول: ((إن أهل النار ليبكون حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت، وإنهم ليبكون الدم)) يعني مكان الدمع.
وهذا أيضًا نوع من العذاب لأهل النار يذكره الله في كتابه فيقول: وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ [إبراهيم:49، 50]، ثم إليكم هذا الخبر اليقين الذي فيه بيان نوعٍ من طعام أهل النار قال الله تعالى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات:62-65]. هذا الفرق عبد الله، أهل الجنة بين أنهار العسل واللبن والخمر والماء، وهؤلاء يأكلون من الزقوم ويسقَون من الحميم. اسمع شراب أهل النار: وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:15-17]. ثم اسمعوا إلى ثياب أهل النار: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ [الحج:19]، فيا لها من نار، ما أشدها وما أنكدها.
اسمعوا إلى هذا النوع الآخر من التعذيب في النار، قال الله تعالى: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج:19، 20]. ثم اسمعوا إلى نوع آخر من العذاب في نار جهنم: وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:21، 22].
ويقول رسول الله : ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه؟!)).
وهذه سورة من عذاب النار تبين لنا عذاب الذين يأمرون بالمعروف ولا يفعلونه وينهون عن المنكر ويأتونه، قال رسول الله : ((يؤتى بالرجل يومَ القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، ويجتمع إليه أهل النار فيقول: يا فلان، ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه)).
ثم إنهم في النار يتفاوتون في شدّة العذاب، يقول رسول الله : ((منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته، ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته)). إنها النار تأكل لحومهم وعروقهم وعصبهم وجلودهم، ثم تبدَّل غير ذلك، وهم في ذلك لا يموتون فيها ولا يحيون، اسمعوا إلى قول الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56].
وأما أوصافهم فإن الله خلقهم بهذه الصفة التي سوف يبيِّنها لنا رسول الله حيث قال : ((ضِرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث)) رواه مسلم، ويقول رسول الله : ((ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع)) متفق عليه.
وأما بُعدُ النار ـ يا عباد الله ـ فقد بيّنه رسول الله ، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: كنا مع النبي إذ سمع وجبة، فقال النبي : ((تدرون ما هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((هذا حجر أرسله الله في جهنم منذ سبعين خريفًا ـ يعني منذ سبعين سنة ـ فالآن حين انتهى إلى قعرها)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3267)
نابتة العَصر
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, فرق منتسبة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية مطلب الأمن. 2- فوائد الأمن وثمراته. 3- مفاسد اختلال الأمن. 4- جريمة الإخلال بالأمن. 5- حفظ حقوق أهل الذمة والمعاهَدين والمستأمَنين. 6- واجب الأمة تجاه الفئة الضالة. 7- فضل رجال الأمن. 8- خطاب للخارجين عن الجماعة وللملبَّس عليهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتّقوا الله رحمكم الله.
كيفَ يأنسُ بالدّنيا مفارقُها؟! وكيف يأمَن النارَ واردُها؟! وأين الحزمُ والمبادرة ممّن يومُه يهدِم شهرَه، وشهرُه يهدِم سنتَه، وسنتُه تهدِم عُمرَه؟! العمرُ يقود إلى الأجَل، والحياة تقود إلى الموت، ودقّاتُ قَلب المرء وأنفاسُه هي الطريقُ إلى المصير، والبقاء في الدنيا سبيلُ الفناء، فاتّقوا الله رحمكم الله، وكونوا ممّن بادرَ الأعمالَ واستدركَها، وجاهَد النفسَ حتى مَلكَها، وعرف سبيلَ التّقوى فسَلكها، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18، 19].
أيّها المسلمونَ، الأمنُ مطلبٌ عزيزٌ، هو قِوامُ الحياةِ الإنسانيّة وأسَاسُ الحضارةِ المدنيّة، تتطَلّع إليه المجتمعات، وتتسابَق لتحقيقِه السّلُطات، وتتَنافس في تأمينهِ الحكومات، تُسَخَّر له الإمكانات الماديّة والوَسائلُ العلميّة والدِّراسات الاجتماعيّة والنّفسيّة، وتُحشَد لَه الأجهزةُ المدنيّة والعسكريّة، وتُستَنفَر له الطَّاقات البشريّة.
مَطلبُ الأمنِ يَسبِق طلبَ الغِذاء، بغيرِ الأمن لا يُستَساغ طعام، ولا يَهنَأ عيش، ولا يَلذُّ نوم، ولا يُنعَم براحَة، قال أهلُ الحكمةِ: الخائفُ لا عَيشَ له، وفي التنزيل العزيز: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3، 4].
الأمنُ مقرونٌ بالإيمان: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، وفي الحَديث: ((المؤمِن مَن أمِنَه النّاس على دمائهم وأموالهم)) [1]. والسّلام مقرونٌ بالإسلام: ((المسلم مَن سلِم المسلمون مِن لسانه ويدِه)) [2]. ومَن دخل في الإسلام فقد دخل في دائرة الأمن: ((مَن قال: لا إله إلا الله وكفَر بما يُعبَد من دونِ الله حرُم مالُه ودمه، وحسابُه على الله عزّ وجلّ)) [3].
ولئن كانَ الأمن يتوفَّر برسوخِ الإيمان في القلوب وتَطهير الأخلاق في السّلوك وتصحيح المفاهيمِ في العقول فإنّه لا بدَّ مَع ذلك مِن الشّرعِ العادِل والسّلطان القويِّ والولاية الحاكمة، لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25].
في ظلِّ الأمنِ تحفَظُ النّفوسُ، وتُصانُ الأعراضُ والأموَالُ، وتأمَنُ السّبُل، وتُقامُ الحدود، ويسود العمرانُ، وتنمُو الثّروات، وتتوافَر الخيرات، ويكثُر الحرثُ والنّسلُ. في ظلِّ الأمنِ تقوم الدعوةُ إلى الله، وتُعمَرُ المساجدُ، وتُقام الجُمَع والجماعات، ويسودُ الشّرع، ويفشو المعروف، ويقلُّ المنكَر، ويحصُل الاستقرارُ النفسيُّ والاطمئنان الاجتماعيُّ.
وإذا اضطربَ الأمنُ ـ عياذًا بالله ـ ظهَرتِ الفتَنُ، وتزلزَلت الأمّةُ، وتخَلخَلت أركانُها، وكثُر الخبَث، والتبَسَ الحقّ بالباطِل، واستعصَى الإصلاحُ على أهلِ الحقّ. إذا اختلَّ الأمن ـ عياذًا بالله ـ حكَم اللّصوصُ وقُطّاع الطرُق، وسادَت شريعةُ الغَاب، وعمّت الفوضَى، وهلك النّاس. وتأمّلوا بُلدَانًا مِن حَولِكم اختلَّ فيها الأمن، فهلَك فيها الحرثُ والنّسل، وسُلِبت الأموال، وانتُهِكت الأعراض، وفسدَ المعاش، فلا حولَ ولا قوّة إلاّ بالله.
ومِن أجلِ هذا فإنّ كلَّ عمَلٍ تخرِيبيٍّ يستهدِفُ الآمِنين ومَعصومِي الدّماء والنّفوس المحرّمة فهو عملٌ إجراميّ محرَّم مخالفٌ لأحكامِ شرعِ الله، فكيفَ إذا كانَ القتلُ والتخريبُ والإفساد والتدمير في بلدٍ مسلِم، بلدٍ يُعلِي كلمةَ الله، وترتفِع فيه راية الدِّين والدّعوة وعِلمُ الشَّرع وعَلَم الشّرع وحُكمُ الشّرع؟! ثمّ كيفَ إذا كانَ ذلك في مهبطِ الوحيِ ومبعَث الرِّسالة، في أقدسِ المقدّسات، في دارِ الإسلام دارِ الإيمان التي يأرِز إليها الإسلام والإيمان؟! إنّ ذلك كلّه يزيدُ الحرمَة حرمةً والإلحادَ إلحادًا، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
فكَم من نفس معصومةٍ أُزهِقت، وكَم مِن أموالٍ وممتَلكات محتَرمَة أُتلِفت، وكَم من نفسٍ آمنةٍ رُوِّعت. مفاسدُ عظيمة، وشرور كثيرة، وإفسادٌ في الأرض، وترويعٌ للآمنين، ونقضٌ للعهود، وتجاوزٌ على إمامِ المسلمين. جرائمُ نَكراء، في طيِّها منكرات.
فئةٌ ضالّة وشِرذِمة ظالمة، لقد جمَعوا بين منكرات، وأقدَموا على جَرائم، واقتحَموا آثامًا. أزهَقوا الأنفسَ المعصومةَ من المسلمين وغير المسلمين، من المعاهَدين والمستأمَنين، وكأنّهم لا يَتلون كتاب الله ولا يقرؤون سنةَ رسول الله. لم يسمَعوا قول الله عزّ وجلّ: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، وفي الحديث الصّحيح: ((لا يزالُ المسلم في فُسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا)) [4].
ولقد علِم كلّ ذي عِلمٍ من أهل الإسلام أنَّ قتلَ النفس بغير حقّ من أكبرِ الكبائر، وهي قرينَة الإشراكِ بالله عياذًا بالله، وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الفرقان:68]، وفي الحديثِ الصّحيح: ((أكبر الكبائر الشّرك بالله وقتل النفس)) [5] ، وعن ابنِ عمر رضي الله عنهما: (إنَّ مِن وَرطات الأمورِ التي لا مخرَج منها لمن أوقَع نفسَه فيها سَفكَ الدمِ الحرامِ بغير حِلِّه) أخرجه البخاري [6] ، ويقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((كلّ ذنبٍ عسَى الله أن يغفرَه إلاّ الرجُل يموتُ مشرِكًا أو يقتل مؤمنًا متعمِّدًا)) [7] ، ويقولُ : ((مَن قتلَ مؤمنًا فاغتَبطَ بقتله لم يَقبلِ الله منه صَرفًا ولا عدلاً)) [8] ، وعند الترمذيّ: ((لو أنَّ أهلَ السماءِ والأرض اشترَكوا في دمِ مؤمن لأكبّهم الله في النّار)) [9] ، وعند البخاري في صحيحه: ((مَن قتل معاهَدًا لم يرَح رائحةَ الجنّة، وإنّ ريحها يوجَد من مسيرةِ أربعين عاما)) [10].
لقد أتلفوا أموالَ المسلمين وممتلكاتهم بغير وَجه حَقّ، وكأنه لم يطرُق أسماعَهم حديثَ رسول الله : ((إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرام، كحُرمةِ يومكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدِكم هذا)) [11] ، و((كلُّ المسلم على المسلم حرام؛ دمُه وماله وعِرضُه)) [12].
روَّعوا الآمنين، وقد حذّر رسول الله من ذلك أشدَّ التحذير فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يحلُّ لمسلم أن يروِّعَ مسلمًا)) [13]. وحَملوا السلاحَ على مسلمين، وقد نهى رسول الله عن مجرَّد الإشارة فكيف بالإشهار به والقتل والإعانة؟! وفي الحديث: ((لا يشِر أحدُكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدرِي لعلّ الشيطانَ ينزع في يده فيقع في حفرةٍ من النار)) [14]. فأيُّ وعيد أشدُّ من هذا؟! فنعوذ بالله من الضلالِ والخذلان، وفي الحديث الآخر: ((من أشارَ إلى أخيه بحديدةٍ فإنّ الملائكةَ تلعنُه حتى تنتهيَ وإن كان أخاه لأبيه وأمته)) [15].
عبادَ الله، إذا كان هذا في حملِ السلاح والإشارة به فكيف بمن استعمَلهُ في إزهاق النفوسِ المعصومة وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من حمل السلاحَ فليس منّا)) [16] ؟!
أيّها المسلمون، وأهلُ الذمّة والمعاهَدون والمستأمَنون محفوظةٌ حقوقُهم في الإسلام وفي دِيار المسلمين، دماؤهم معصومَة، وأموالهم محتَرمة، يستوون في ذلك مع المسلمين لعموم النّصوص وخصوصِها في أهل الذمة والمعاهَدين، قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151]، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]. والنبيّ يقول: ((مَن قتل معاهدًا لم يرح رائحةَ الجنة، وإنَّ ريحَها يوجَد من مسيرة أربعين عامًا)) [17]. فلا يصحّ في دين الإسلامِ إيذاؤهم ولا التعدّي عليهم في أنفسِهم ولا أموالهم ولا ممتلكاتِهم ولا أهلهم. وفي السنن الكبرى عن عليّ : (مَن كانت له ذمَّتُنا فدمُه دمُنا) [18].
وأهلُ الذمّة والمعاهَدون والمستأمَنون ممّن تجب معاملتُهم بالبرِّ والقِسط على حدِّ قولِه سبحانه: لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]، بل حتى الجدال معهم أُمِرنا نحن المسلمين أن يكونَ معهم بالتي هي أحسن: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46].
واستمِع يا رعاك الله، واستمع هدانا الله وإياك، استمِع إلى موقفِ شيخ الإسلام وهو يفاوِض في فكِّ الأسرى، يقول رحمه الله: "لا نرضَى إلاّ بافتكاك جميعِ الأسرى من اليهودِ والنصارى، فهم أهلُ ذمَّتِنا، ولا نَدَع أسيرًا، لا من أهل الذمّة ولا من أهل الملّة" [19] مع أنه كان في حربٍ مع الصَّليبيّين.
هذه بعضُ النصوصِ والأحكام وكلام بعض المحقِّقين من أهل العلم، فهلاَّ اتَّقى الله هؤلاء، ناهيك عمّا وقعوا فيه من شقِّ عصا الطاعةِ ومفارقةِ الجماعة، فذلك كبيرةٌ من كبائر الذنوب، ففي الحديث الصحيح: ((من خرج من الطاعة وفارق الجماعةَ فمات مات مِيتةً جاهلية)) [20] ، فلا حولَ ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.
جرائمُ لا يُقدِم عليها إلاّ مَن طُمِسَت بصيرتُه وزُيِّن له سوءُ عمله فرآه حسنًا، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]، وقال سبحانه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر:8].
وبعد: أيّها المسلمون، فإنّ المسؤولية عُظمَى، والجميعُ في سفينةٍ واحدةٍ، ومن خرَقَها أغرقَ الجميعَ. إنّ التهاونَ والتساهُل يؤدّي إلى انفلاتٍ وفوضَى، وإنّ الإحساسَ الجادَّ بالمسؤولية وخطرِ النتائج هو الذي يحمِل كلَّ عاقلٍ وكلَّ مخلِص على رفضِ هذه الأعمالِ وعدَم قَبول أيِّ مُسوِّغٍ لها ولزوم فضح أهلها وآثارها ونتائجها، وليحذر المسلمُ أن يصدُر منه شيءٌ يُثير الفتنة أو يسوّغ لهؤلاء وأمثالهم ضلالهم وجهلَهم وإجرامَهم.
ومع يقينِ المؤمن أنّ الله حافظٌ دينَه ومُعلٍ كلمتَه وجاعلٌ كيدَ الكائدين في تضليلٍ إلاّ أنّ المسؤوليّة عظيمة، فلا بدّ من الوقفةِ الصارمة من أجلِ وضعِ الأشياء في مواضعِها والأسماء في مسمَّياتها، فالإسلامُ إسلام، والإجرام إجرامٌ، والإصلاح غيرُ الفَساد، وإيذاءُ المؤمنين وسَفكُ دماءِ المسلمين والتجاوز على المعاهَدين غير الجهاد المشروع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:204، 205].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبهدي محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/379)، والترمذي في الإيمان (2627)، والنسائي في الإيمان (4995) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (180)، والحاكم (22)، وحسنه ابن تيمية كما في المجموع (7/7-8)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2118).
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (10، 11)، ومسلم في الإيمان (40، 42) عن عبد الله بن عمرو وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا مسلم في الإيمان (41) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[3] أخرجه مسلم في الإيمان (23) من حديث طارق بن أشيم رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الديات (6862) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[5] أخرجه البخاري في الديات (6871)، ومسلم في الإيمان (88) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[6] صحيح البخاري: كتاب الديات (6863).
[7] أخرجه أحمد (4/99)، والنسائي في تحريم الدم (3984)، والطبراني في الكبير (19/365) عن معاوية رضي الله عنه، وصححه الحاكم (8031)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (511). وفي الباب عن عبادة وأبي الدرداء رضي الله عنهما.
[8] أخرجه أبو داود في الفتن (4270)، والطبراني في مسند الشاميين (1311) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2450).
[9] سنن الترمذي: كتاب الديات (1398) عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وقال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/258): "في إسناده يزيد الرقاشي عن أبي الحكم وهو عبد الرحمن بن أبي نعم عنهما، ويزيد ضعيف جدّا، ولكن هذه الأخبار يشد بعضها بعضا"، ولذا صححه الألباني في صحيح الترغيب (2438، 2442).
[10] صحيح البخاري: كتاب الجزية (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[11] أخرجه البخاري في العلم (67)، ومسلم في القسامة (1679) عن أبي بكرة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري أيضا في الحج (1639) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وثبت عن غيرهما من الصحابة.
[12] أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6066)، ومسلم في كتاب البر (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[13] أخرجه أحمد (5/362)، وأبو داود في الأدب (5004)، وابن أبي شيبة في مسنده (958، 959، 971)، وهناد في الزهد (1345)، والقضاعي في مسند الشهاب (878)، والبيهقي في الكبرى (10/249) عن رجال من أصحاب النبي ، وحسنه العراقي كما في فيض القدير (6/447)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (447). وفي الباب عن أبي هريرة وأنس والنعمان بن بشير وابن عمر رضي الله عنهم.
[14] أخرجه البخاري في كتاب الفتن (7072)، ومسلم في كتاب البر (2617) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[15] أخرجه مسلم في البر (2616) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[16] أخرجه البخاري في كتاب الفتن (7070، 7071)، ومسلم في كتاب الإيمان (98، 100) عن ابن عمر وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما. وصح أيضا من حديث سلمة بن الأكوع وأبي هريرة رضي الله عنهما عند مسلم في الإيمان (99، 101).
[17] أخرجه البخاري في الجزية (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[18] السنن الكبرى (8/34) وأخرجه محمد بن الحسن في الحجة (4/353-355)، وعنه الشافعي في مسنده (ص344)، والدارقطني في السنن (3/147)، وفي سنده أبو الجنوب الكوفي الراوي عن علي قال الدارقطني: "ضعيف الحديث".
[19] انظر: مجموع الفتاوى (28/ 617-618).
[20] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1848) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبةُ للمتقين، ولا عدوانَ إلا على الظالمين، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له قيّوم السموات والأرضين، وأشهَد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين وقائدُ الغرِّ المحجَّلين، صلَّى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ ما استطعتم، وتدارَكوا بالتوبةِ النصوح ما فرَّطتم.
أيّها المسلمون، هذه البلادُ ـ ولله الحمد ـ مستمسِكة بدينها، متماسكةٌ تحت ظِلّ قيادتها وولاةِ أمرها، كلُّنا ندين لله بالسّمع والطاعة لولاة أمرنا بالمعروف في غير معصيةٍ، متمثِّلين قولَ الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وقوله : ((عليكم بالسمعِ والطاعة)) [1].
أمّا رجالُ الأمنِ فهم جُنودٌ بواسِل على خيرٍ عظيم، وهم في ثغرٍ من ثغور الإسلام، يعلَمون مقامَهم وشرفَ مكانهم وصلاحَ عمَلهم ونُبلَ مقصَدهم، يؤدّون مهمَّاتهم في إخلاصٍ وتفانٍ وإتقانٍ وكفاءةٍ، فهم على الحقّ والهدَى بإذن الله، بأعمالهم وشجاعتِهم ويقظَتهم تبقى هذه البلادُ عزيزة محفوظة رافعةً لمنار الدين حاميةً لمقدّساتِ المسلمين محافظةً على حُرُماتهم بإذن الله، فهم بإذن الله صمّام الأمان في حمايةِ دار الإسلام.
أيّها المسلمون، وإنّ مسؤوليةَ مواجهة هذه الفئةِ الضالةِ هي مسؤولية الجميع، كلٌّ حسبَ موقعه، فالإحساسُ بالخطر على الدّين والأهل والدّيار والفُرقة والفوضى هو الأمر الذي يجب أن يستشعرَه الجميع.
ومع كلِّ ما ينبغي من حذرٍ ويقَظة وتكاتُف وشعورٍ تامٍّ بالمسؤولية فليهنأ المسلمون في هذه الديار، وليهنأ كلُّ مواطن ومقيم على دينه وأمنه ومالِه واقتصادِه، ولتهنأ الدولةُ حفظها الله برجالها الفُضلاء وجنودِها الشّجعان المخلصين، ولتطمئنّ الأمّةُ بإذن الله إلى وعيِ ولاةِ الأمور ويقظَتهم في مواقفَ لا يُقبَل فيها إلاّ القوّة والحزم.
ثم هذا خِطابٌ لمن سوّلت له نفسُه القيامَ بهذه الأفعالِ الإجراميّة المحرّمة أو زلّت قدمُه فوقعَ في شيء من هذه الأعمالِ أو وقع في رَوعِه لوثةٌ من هذا الفِكر أو تعاطُف معَهم عليهم جميعًا أن يتّقوا الله في أنفسهم وإخوانهم المسلمين، وليبادروا بالتوبةِ إلى الله عزّ وجلّ، وليراقبوا أنفسَهم ويتأمَّلوا نصوصَ كتابِ الله وسنة نبيّه محمّد وكلام المحقِّقين من أهل العِلم الثقاتِ الأثبات، وأن يرجعوا إلى جادّة الصوابِ والحقّ، ويكونوا صفًّا مع إخوانهم ضدَّ أعدائهم المتربِّصين بهم، وأن لا يكونوا معولَ هدمٍ لكيانِ الأمة، فقد علموا من سُنن الله في الأوّلين والآخرين أنّ مثلَ هذه التصرُّفاتِ الطائِشةَ الرّعناء لا يستفيد منها إلاّ العدوّ المتربّص، واللهِ لا يستفيد منها إلا العدوّ المتربّص، ولم يجنِ منها الإسلام والمسلمون خيرًا، لا في الماضي ولا في الحاضر، بل كانت النتيجةُ تأخُّرًا وضعفًا مِن قبَل الأعداء، والويلُ ثمّ الويل لمن يبوء بإثم هذه الأفعال الشنيعةِ والأعمال المحرّمة.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، اتّقوا الله جميعًا، واسلُكوا مسالكَ العدلِ والإنصاف، اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
ثم صلّوا وسلِّموا على نبيّكم محمّد المصطفى ورسولِكم الخليل المجتبى، فقد أمركم بذلك ربّكم جل وعلا فقال عزّ قائلا عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولِك محمّد الأمين، وآله الطيّبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95)، والبيهقي في الشعب (6/67) واللفظ له عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37). وفي الباب عن ابن عمر وعبادة بن الصامت وعبد الرحمن بن مسعود رضي الله عنهم.
(1/3268)
نابتة العَصر
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, فرق منتسبة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية مطلب الأمن. 2- فوائد الأمن وثمراته. 3- مفاسد اختلال الأمن. 4- جريمة الإخلال بالأمن. 5- حفظ حقوق أهل الذمة والمعاهَدين والمستأمَنين. 6- واجب الأمة تجاه الفئة الضالة. 7- فضل رجال الأمن. 8- خطاب للخارجين عن الجماعة وللملبَّس عليهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتّقوا الله رحمكم الله.
كيفَ يأنسُ بالدّنيا مفارقُها؟! وكيف يأمَن النارَ واردُها؟! وأين الحزمُ والمبادرة ممّن يومُه يهدِم شهرَه، وشهرُه يهدِم سنتَه، وسنتُه تهدِم عُمرَه؟! العمرُ يقود إلى الأجَل، والحياة تقود إلى الموت، ودقّاتُ قَلب المرء وأنفاسُه هي الطريقُ إلى المصير، والبقاء في الدنيا سبيلُ الفناء، فاتّقوا الله رحمكم الله، وكونوا ممّن بادرَ الأعمالَ واستدركَها، وجاهَد النفسَ حتى مَلكَها، وعرف سبيلَ التّقوى فسَلكها، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18، 19].
أيّها المسلمونَ، الأمنُ مطلبٌ عزيزٌ، هو قِوامُ الحياةِ الإنسانيّة وأسَاسُ الحضارةِ المدنيّة، تتطَلّع إليه المجتمعات، وتتسابَق لتحقيقِه السّلُطات، وتتَنافس في تأمينهِ الحكومات، تُسَخَّر له الإمكانات الماديّة والوَسائلُ العلميّة والدِّراسات الاجتماعيّة والنّفسيّة، وتُحشَد لَه الأجهزةُ المدنيّة والعسكريّة، وتُستَنفَر له الطَّاقات البشريّة.
مَطلبُ الأمنِ يَسبِق طلبَ الغِذاء، بغيرِ الأمن لا يُستَساغ طعام، ولا يَهنَأ عيش، ولا يَلذُّ نوم، ولا يُنعَم براحَة، قال أهلُ الحكمةِ: الخائفُ لا عَيشَ له، وفي التنزيل العزيز: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3، 4].
الأمنُ مقرونٌ بالإيمان: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، وفي الحَديث: ((المؤمِن مَن أمِنَه النّاس على دمائهم وأموالهم)) [1]. والسّلام مقرونٌ بالإسلام: ((المسلم مَن سلِم المسلمون مِن لسانه ويدِه)) [2]. ومَن دخل في الإسلام فقد دخل في دائرة الأمن: ((مَن قال: لا إله إلا الله وكفَر بما يُعبَد من دونِ الله حرُم مالُه ودمه، وحسابُه على الله عزّ وجلّ)) [3].
ولئن كانَ الأمن يتوفَّر برسوخِ الإيمان في القلوب وتَطهير الأخلاق في السّلوك وتصحيح المفاهيمِ في العقول فإنّه لا بدَّ مَع ذلك مِن الشّرعِ العادِل والسّلطان القويِّ والولاية الحاكمة، لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25].
في ظلِّ الأمنِ تحفَظُ النّفوسُ، وتُصانُ الأعراضُ والأموَالُ، وتأمَنُ السّبُل، وتُقامُ الحدود، ويسود العمرانُ، وتنمُو الثّروات، وتتوافَر الخيرات، ويكثُر الحرثُ والنّسلُ. في ظلِّ الأمنِ تقوم الدعوةُ إلى الله، وتُعمَرُ المساجدُ، وتُقام الجُمَع والجماعات، ويسودُ الشّرع، ويفشو المعروف، ويقلُّ المنكَر، ويحصُل الاستقرارُ النفسيُّ والاطمئنان الاجتماعيُّ.
وإذا اضطربَ الأمنُ ـ عياذًا بالله ـ ظهَرتِ الفتَنُ، وتزلزَلت الأمّةُ، وتخَلخَلت أركانُها، وكثُر الخبَث، والتبَسَ الحقّ بالباطِل، واستعصَى الإصلاحُ على أهلِ الحقّ. إذا اختلَّ الأمن ـ عياذًا بالله ـ حكَم اللّصوصُ وقُطّاع الطرُق، وسادَت شريعةُ الغَاب، وعمّت الفوضَى، وهلك النّاس. وتأمّلوا بُلدَانًا مِن حَولِكم اختلَّ فيها الأمن، فهلَك فيها الحرثُ والنّسل، وسُلِبت الأموال، وانتُهِكت الأعراض، وفسدَ المعاش، فلا حولَ ولا قوّة إلاّ بالله.
ومِن أجلِ هذا فإنّ كلَّ عمَلٍ تخرِيبيٍّ يستهدِفُ الآمِنين ومَعصومِي الدّماء والنّفوس المحرّمة فهو عملٌ إجراميّ محرَّم مخالفٌ لأحكامِ شرعِ الله، فكيفَ إذا كانَ القتلُ والتخريبُ والإفساد والتدمير في بلدٍ مسلِم، بلدٍ يُعلِي كلمةَ الله، وترتفِع فيه راية الدِّين والدّعوة وعِلمُ الشَّرع وعَلَم الشّرع وحُكمُ الشّرع؟! ثمّ كيفَ إذا كانَ ذلك في مهبطِ الوحيِ ومبعَث الرِّسالة، في أقدسِ المقدّسات، في دارِ الإسلام دارِ الإيمان التي يأرِز إليها الإسلام والإيمان؟! إنّ ذلك كلّه يزيدُ الحرمَة حرمةً والإلحادَ إلحادًا، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
فكَم من نفس معصومةٍ أُزهِقت، وكَم مِن أموالٍ وممتَلكات محتَرمَة أُتلِفت، وكَم من نفسٍ آمنةٍ رُوِّعت. مفاسدُ عظيمة، وشرور كثيرة، وإفسادٌ في الأرض، وترويعٌ للآمنين، ونقضٌ للعهود، وتجاوزٌ على إمامِ المسلمين. جرائمُ نَكراء، في طيِّها منكرات.
فئةٌ ضالّة وشِرذِمة ظالمة، لقد جمَعوا بين منكرات، وأقدَموا على جَرائم، واقتحَموا آثامًا. أزهَقوا الأنفسَ المعصومةَ من المسلمين وغير المسلمين، من المعاهَدين والمستأمَنين، وكأنّهم لا يَتلون كتاب الله ولا يقرؤون سنةَ رسول الله. لم يسمَعوا قول الله عزّ وجلّ: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، وفي الحديث الصّحيح: ((لا يزالُ المسلم في فُسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا)) [4].
ولقد علِم كلّ ذي عِلمٍ من أهل الإسلام أنَّ قتلَ النفس بغير حقّ من أكبرِ الكبائر، وهي قرينَة الإشراكِ بالله عياذًا بالله، وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الفرقان:68]، وفي الحديثِ الصّحيح: ((أكبر الكبائر الشّرك بالله وقتل النفس)) [5] ، وعن ابنِ عمر رضي الله عنهما: (إنَّ مِن وَرطات الأمورِ التي لا مخرَج منها لمن أوقَع نفسَه فيها سَفكَ الدمِ الحرامِ بغير حِلِّه) أخرجه البخاري [6] ، ويقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((كلّ ذنبٍ عسَى الله أن يغفرَه إلاّ الرجُل يموتُ مشرِكًا أو يقتل مؤمنًا متعمِّدًا)) [7] ، ويقولُ : ((مَن قتلَ مؤمنًا فاغتَبطَ بقتله لم يَقبلِ الله منه صَرفًا ولا عدلاً)) [8] ، وعند الترمذيّ: ((لو أنَّ أهلَ السماءِ والأرض اشترَكوا في دمِ مؤمن لأكبّهم الله في النّار)) [9] ، وعند البخاري في صحيحه: ((مَن قتل معاهَدًا لم يرَح رائحةَ الجنّة، وإنّ ريحها يوجَد من مسيرةِ أربعين عاما)) [10].
لقد أتلفوا أموالَ المسلمين وممتلكاتهم بغير وَجه حَقّ، وكأنه لم يطرُق أسماعَهم حديثَ رسول الله : ((إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرام، كحُرمةِ يومكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدِكم هذا)) [11] ، و((كلُّ المسلم على المسلم حرام؛ دمُه وماله وعِرضُه)) [12].
روَّعوا الآمنين، وقد حذّر رسول الله من ذلك أشدَّ التحذير فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يحلُّ لمسلم أن يروِّعَ مسلمًا)) [13]. وحَملوا السلاحَ على مسلمين، وقد نهى رسول الله عن مجرَّد الإشارة فكيف بالإشهار به والقتل والإعانة؟! وفي الحديث: ((لا يشِر أحدُكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدرِي لعلّ الشيطانَ ينزع في يده فيقع في حفرةٍ من النار)) [14]. فأيُّ وعيد أشدُّ من هذا؟! فنعوذ بالله من الضلالِ والخذلان، وفي الحديث الآخر: ((من أشارَ إلى أخيه بحديدةٍ فإنّ الملائكةَ تلعنُه حتى تنتهيَ وإن كان أخاه لأبيه وأمته)) [15].
عبادَ الله، إذا كان هذا في حملِ السلاح والإشارة به فكيف بمن استعمَلهُ في إزهاق النفوسِ المعصومة وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من حمل السلاحَ فليس منّا)) [16] ؟!
أيّها المسلمون، وأهلُ الذمّة والمعاهَدون والمستأمَنون محفوظةٌ حقوقُهم في الإسلام وفي دِيار المسلمين، دماؤهم معصومَة، وأموالهم محتَرمة، يستوون في ذلك مع المسلمين لعموم النّصوص وخصوصِها في أهل الذمة والمعاهَدين، قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151]، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]. والنبيّ يقول: ((مَن قتل معاهدًا لم يرح رائحةَ الجنة، وإنَّ ريحَها يوجَد من مسيرة أربعين عامًا)) [17]. فلا يصحّ في دين الإسلامِ إيذاؤهم ولا التعدّي عليهم في أنفسِهم ولا أموالهم ولا ممتلكاتِهم ولا أهلهم. وفي السنن الكبرى عن عليّ : (مَن كانت له ذمَّتُنا فدمُه دمُنا) [18].
وأهلُ الذمّة والمعاهَدون والمستأمَنون ممّن تجب معاملتُهم بالبرِّ والقِسط على حدِّ قولِه سبحانه: لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]، بل حتى الجدال معهم أُمِرنا نحن المسلمين أن يكونَ معهم بالتي هي أحسن: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46].
واستمِع يا رعاك الله، واستمع هدانا الله وإياك، استمِع إلى موقفِ شيخ الإسلام وهو يفاوِض في فكِّ الأسرى، يقول رحمه الله: "لا نرضَى إلاّ بافتكاك جميعِ الأسرى من اليهودِ والنصارى، فهم أهلُ ذمَّتِنا، ولا نَدَع أسيرًا، لا من أهل الذمّة ولا من أهل الملّة" [19] مع أنه كان في حربٍ مع الصَّليبيّين.
هذه بعضُ النصوصِ والأحكام وكلام بعض المحقِّقين من أهل العلم، فهلاَّ اتَّقى الله هؤلاء، ناهيك عمّا وقعوا فيه من شقِّ عصا الطاعةِ ومفارقةِ الجماعة، فذلك كبيرةٌ من كبائر الذنوب، ففي الحديث الصحيح: ((من خرج من الطاعة وفارق الجماعةَ فمات مات مِيتةً جاهلية)) [20] ، فلا حولَ ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.
جرائمُ لا يُقدِم عليها إلاّ مَن طُمِسَت بصيرتُه وزُيِّن له سوءُ عمله فرآه حسنًا، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]، وقال سبحانه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر:8].
وبعد: أيّها المسلمون، فإنّ المسؤولية عُظمَى، والجميعُ في سفينةٍ واحدةٍ، ومن خرَقَها أغرقَ الجميعَ. إنّ التهاونَ والتساهُل يؤدّي إلى انفلاتٍ وفوضَى، وإنّ الإحساسَ الجادَّ بالمسؤولية وخطرِ النتائج هو الذي يحمِل كلَّ عاقلٍ وكلَّ مخلِص على رفضِ هذه الأعمالِ وعدَم قَبول أيِّ مُسوِّغٍ لها ولزوم فضح أهلها وآثارها ونتائجها، وليحذر المسلمُ أن يصدُر منه شيءٌ يُثير الفتنة أو يسوّغ لهؤلاء وأمثالهم ضلالهم وجهلَهم وإجرامَهم.
ومع يقينِ المؤمن أنّ الله حافظٌ دينَه ومُعلٍ كلمتَه وجاعلٌ كيدَ الكائدين في تضليلٍ إلاّ أنّ المسؤوليّة عظيمة، فلا بدّ من الوقفةِ الصارمة من أجلِ وضعِ الأشياء في مواضعِها والأسماء في مسمَّياتها، فالإسلامُ إسلام، والإجرام إجرامٌ، والإصلاح غيرُ الفَساد، وإيذاءُ المؤمنين وسَفكُ دماءِ المسلمين والتجاوز على المعاهَدين غير الجهاد المشروع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:204، 205].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبهدي محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/379)، والترمذي في الإيمان (2627)، والنسائي في الإيمان (4995) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (180)، والحاكم (22)، وحسنه ابن تيمية كما في المجموع (7/7-8)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2118).
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (10، 11)، ومسلم في الإيمان (40، 42) عن عبد الله بن عمرو وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا مسلم في الإيمان (41) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[3] أخرجه مسلم في الإيمان (23) من حديث طارق بن أشيم رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الديات (6862) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[5] أخرجه البخاري في الديات (6871)، ومسلم في الإيمان (88) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[6] صحيح البخاري: كتاب الديات (6863).
[7] أخرجه أحمد (4/99)، والنسائي في تحريم الدم (3984)، والطبراني في الكبير (19/365) عن معاوية رضي الله عنه، وصححه الحاكم (8031)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (511). وفي الباب عن عبادة وأبي الدرداء رضي الله عنهما.
[8] أخرجه أبو داود في الفتن (4270)، والطبراني في مسند الشاميين (1311) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2450).
[9] سنن الترمذي: كتاب الديات (1398) عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وقال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/258): "في إسناده يزيد الرقاشي عن أبي الحكم وهو عبد الرحمن بن أبي نعم عنهما، ويزيد ضعيف جدّا، ولكن هذه الأخبار يشد بعضها بعضا"، ولذا صححه الألباني في صحيح الترغيب (2438، 2442).
[10] صحيح البخاري: كتاب الجزية (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[11] أخرجه البخاري في العلم (67)، ومسلم في القسامة (1679) عن أبي بكرة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري أيضا في الحج (1639) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وثبت عن غيرهما من الصحابة.
[12] أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6066)، ومسلم في كتاب البر (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[13] أخرجه أحمد (5/362)، وأبو داود في الأدب (5004)، وابن أبي شيبة في مسنده (958، 959، 971)، وهناد في الزهد (1345)، والقضاعي في مسند الشهاب (878)، والبيهقي في الكبرى (10/249) عن رجال من أصحاب النبي ، وحسنه العراقي كما في فيض القدير (6/447)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (447). وفي الباب عن أبي هريرة وأنس والنعمان بن بشير وابن عمر رضي الله عنهم.
[14] أخرجه البخاري في كتاب الفتن (7072)، ومسلم في كتاب البر (2617) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[15] أخرجه مسلم في البر (2616) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[16] أخرجه البخاري في كتاب الفتن (7070، 7071)، ومسلم في كتاب الإيمان (98، 100) عن ابن عمر وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما. وصح أيضا من حديث سلمة بن الأكوع وأبي هريرة رضي الله عنهما عند مسلم في الإيمان (99، 101).
[17] أخرجه البخاري في الجزية (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[18] السنن الكبرى (8/34) وأخرجه محمد بن الحسن في الحجة (4/353-355)، وعنه الشافعي في مسنده (ص344)، والدارقطني في السنن (3/147)، وفي سنده أبو الجنوب الكوفي الراوي عن علي قال الدارقطني: "ضعيف الحديث".
[19] انظر: مجموع الفتاوى (28/ 617-618).
[20] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1848) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبةُ للمتقين، ولا عدوانَ إلا على الظالمين، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له قيّوم السموات والأرضين، وأشهَد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين وقائدُ الغرِّ المحجَّلين، صلَّى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ ما استطعتم، وتدارَكوا بالتوبةِ النصوح ما فرَّطتم.
أيّها المسلمون، هذه البلادُ ـ ولله الحمد ـ مستمسِكة بدينها، متماسكةٌ تحت ظِلّ قيادتها وولاةِ أمرها، كلُّنا ندين لله بالسّمع والطاعة لولاة أمرنا بالمعروف في غير معصيةٍ، متمثِّلين قولَ الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وقوله : ((عليكم بالسمعِ والطاعة)) [1].
أمّا رجالُ الأمنِ فهم جُنودٌ بواسِل على خيرٍ عظيم، وهم في ثغرٍ من ثغور الإسلام، يعلَمون مقامَهم وشرفَ مكانهم وصلاحَ عمَلهم ونُبلَ مقصَدهم، يؤدّون مهمَّاتهم في إخلاصٍ وتفانٍ وإتقانٍ وكفاءةٍ، فهم على الحقّ والهدَى بإذن الله، بأعمالهم وشجاعتِهم ويقظَتهم تبقى هذه البلادُ عزيزة محفوظة رافعةً لمنار الدين حاميةً لمقدّساتِ المسلمين محافظةً على حُرُماتهم بإذن الله، فهم بإذن الله صمّام الأمان في حمايةِ دار الإسلام.
أيّها المسلمون، وإنّ مسؤوليةَ مواجهة هذه الفئةِ الضالةِ هي مسؤولية الجميع، كلٌّ حسبَ موقعه، فالإحساسُ بالخطر على الدّين والأهل والدّيار والفُرقة والفوضى هو الأمر الذي يجب أن يستشعرَه الجميع.
ومع كلِّ ما ينبغي من حذرٍ ويقَظة وتكاتُف وشعورٍ تامٍّ بالمسؤولية فليهنأ المسلمون في هذه الديار، وليهنأ كلُّ مواطن ومقيم على دينه وأمنه ومالِه واقتصادِه، ولتهنأ الدولةُ حفظها الله برجالها الفُضلاء وجنودِها الشّجعان المخلصين، ولتطمئنّ الأمّةُ بإذن الله إلى وعيِ ولاةِ الأمور ويقظَتهم في مواقفَ لا يُقبَل فيها إلاّ القوّة والحزم.
ثم هذا خِطابٌ لمن سوّلت له نفسُه القيامَ بهذه الأفعالِ الإجراميّة المحرّمة أو زلّت قدمُه فوقعَ في شيء من هذه الأعمالِ أو وقع في رَوعِه لوثةٌ من هذا الفِكر أو تعاطُف معَهم عليهم جميعًا أن يتّقوا الله في أنفسهم وإخوانهم المسلمين، وليبادروا بالتوبةِ إلى الله عزّ وجلّ، وليراقبوا أنفسَهم ويتأمَّلوا نصوصَ كتابِ الله وسنة نبيّه محمّد وكلام المحقِّقين من أهل العِلم الثقاتِ الأثبات، وأن يرجعوا إلى جادّة الصوابِ والحقّ، ويكونوا صفًّا مع إخوانهم ضدَّ أعدائهم المتربِّصين بهم، وأن لا يكونوا معولَ هدمٍ لكيانِ الأمة، فقد علموا من سُنن الله في الأوّلين والآخرين أنّ مثلَ هذه التصرُّفاتِ الطائِشةَ الرّعناء لا يستفيد منها إلاّ العدوّ المتربّص، واللهِ لا يستفيد منها إلا العدوّ المتربّص، ولم يجنِ منها الإسلام والمسلمون خيرًا، لا في الماضي ولا في الحاضر، بل كانت النتيجةُ تأخُّرًا وضعفًا مِن قبَل الأعداء، والويلُ ثمّ الويل لمن يبوء بإثم هذه الأفعال الشنيعةِ والأعمال المحرّمة.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، اتّقوا الله جميعًا، واسلُكوا مسالكَ العدلِ والإنصاف، اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
ثم صلّوا وسلِّموا على نبيّكم محمّد المصطفى ورسولِكم الخليل المجتبى، فقد أمركم بذلك ربّكم جل وعلا فقال عزّ قائلا عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولِك محمّد الأمين، وآله الطيّبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95)، والبيهقي في الشعب (6/67) واللفظ له عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37). وفي الباب عن ابن عمر وعبادة بن الصامت وعبد الرحمن بن مسعود رضي الله عنهم.
(1/3269)
نابتة العَصر
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, فرق منتسبة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
30/4/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية مطلب الأمن. 2- فوائد الأمن وثمراته. 3- مفاسد اختلال الأمن. 4- جريمة الإخلال بالأمن. 5- حفظ حقوق أهل الذمة والمعاهَدين والمستأمَنين. 6- واجب الأمة تجاه الفئة الضالة. 7- فضل رجال الأمن. 8- خطاب للخارجين عن الجماعة وللملبَّس عليهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتّقوا الله رحمكم الله.
كيفَ يأنسُ بالدّنيا مفارقُها؟! وكيف يأمَن النارَ واردُها؟! وأين الحزمُ والمبادرة ممّن يومُه يهدِم شهرَه، وشهرُه يهدِم سنتَه، وسنتُه تهدِم عُمرَه؟! العمرُ يقود إلى الأجَل، والحياة تقود إلى الموت، ودقّاتُ قَلب المرء وأنفاسُه هي الطريقُ إلى المصير، والبقاء في الدنيا سبيلُ الفناء، فاتّقوا الله رحمكم الله، وكونوا ممّن بادرَ الأعمالَ واستدركَها، وجاهَد النفسَ حتى مَلكَها، وعرف سبيلَ التّقوى فسَلكها، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18، 19].
أيّها المسلمونَ، الأمنُ مطلبٌ عزيزٌ، هو قِوامُ الحياةِ الإنسانيّة وأسَاسُ الحضارةِ المدنيّة، تتطَلّع إليه المجتمعات، وتتسابَق لتحقيقِه السّلُطات، وتتَنافس في تأمينهِ الحكومات، تُسَخَّر له الإمكانات الماديّة والوَسائلُ العلميّة والدِّراسات الاجتماعيّة والنّفسيّة، وتُحشَد لَه الأجهزةُ المدنيّة والعسكريّة، وتُستَنفَر له الطَّاقات البشريّة.
مَطلبُ الأمنِ يَسبِق طلبَ الغِذاء، بغيرِ الأمن لا يُستَساغ طعام، ولا يَهنَأ عيش، ولا يَلذُّ نوم، ولا يُنعَم براحَة، قال أهلُ الحكمةِ: الخائفُ لا عَيشَ له، وفي التنزيل العزيز: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3، 4].
الأمنُ مقرونٌ بالإيمان: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، وفي الحَديث: ((المؤمِن مَن أمِنَه النّاس على دمائهم وأموالهم)) [1]. والسّلام مقرونٌ بالإسلام: ((المسلم مَن سلِم المسلمون مِن لسانه ويدِه)) [2]. ومَن دخل في الإسلام فقد دخل في دائرة الأمن: ((مَن قال: لا إله إلا الله وكفَر بما يُعبَد من دونِ الله حرُم مالُه ودمه، وحسابُه على الله عزّ وجلّ)) [3].
ولئن كانَ الأمن يتوفَّر برسوخِ الإيمان في القلوب وتَطهير الأخلاق في السّلوك وتصحيح المفاهيمِ في العقول فإنّه لا بدَّ مَع ذلك مِن الشّرعِ العادِل والسّلطان القويِّ والولاية الحاكمة، لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25].
في ظلِّ الأمنِ تحفَظُ النّفوسُ، وتُصانُ الأعراضُ والأموَالُ، وتأمَنُ السّبُل، وتُقامُ الحدود، ويسود العمرانُ، وتنمُو الثّروات، وتتوافَر الخيرات، ويكثُر الحرثُ والنّسلُ. في ظلِّ الأمنِ تقوم الدعوةُ إلى الله، وتُعمَرُ المساجدُ، وتُقام الجُمَع والجماعات، ويسودُ الشّرع، ويفشو المعروف، ويقلُّ المنكَر، ويحصُل الاستقرارُ النفسيُّ والاطمئنان الاجتماعيُّ.
وإذا اضطربَ الأمنُ ـ عياذًا بالله ـ ظهَرتِ الفتَنُ، وتزلزَلت الأمّةُ، وتخَلخَلت أركانُها، وكثُر الخبَث، والتبَسَ الحقّ بالباطِل، واستعصَى الإصلاحُ على أهلِ الحقّ. إذا اختلَّ الأمن ـ عياذًا بالله ـ حكَم اللّصوصُ وقُطّاع الطرُق، وسادَت شريعةُ الغَاب، وعمّت الفوضَى، وهلك النّاس. وتأمّلوا بُلدَانًا مِن حَولِكم اختلَّ فيها الأمن، فهلَك فيها الحرثُ والنّسل، وسُلِبت الأموال، وانتُهِكت الأعراض، وفسدَ المعاش، فلا حولَ ولا قوّة إلاّ بالله.
ومِن أجلِ هذا فإنّ كلَّ عمَلٍ تخرِيبيٍّ يستهدِفُ الآمِنين ومَعصومِي الدّماء والنّفوس المحرّمة فهو عملٌ إجراميّ محرَّم مخالفٌ لأحكامِ شرعِ الله، فكيفَ إذا كانَ القتلُ والتخريبُ والإفساد والتدمير في بلدٍ مسلِم، بلدٍ يُعلِي كلمةَ الله، وترتفِع فيه راية الدِّين والدّعوة وعِلمُ الشَّرع وعَلَم الشّرع وحُكمُ الشّرع؟! ثمّ كيفَ إذا كانَ ذلك في مهبطِ الوحيِ ومبعَث الرِّسالة، في أقدسِ المقدّسات، في دارِ الإسلام دارِ الإيمان التي يأرِز إليها الإسلام والإيمان؟! إنّ ذلك كلّه يزيدُ الحرمَة حرمةً والإلحادَ إلحادًا، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
فكَم من نفس معصومةٍ أُزهِقت، وكَم مِن أموالٍ وممتَلكات محتَرمَة أُتلِفت، وكَم من نفسٍ آمنةٍ رُوِّعت. مفاسدُ عظيمة، وشرور كثيرة، وإفسادٌ في الأرض، وترويعٌ للآمنين، ونقضٌ للعهود، وتجاوزٌ على إمامِ المسلمين. جرائمُ نَكراء، في طيِّها منكرات.
فئةٌ ضالّة وشِرذِمة ظالمة، لقد جمَعوا بين منكرات، وأقدَموا على جَرائم، واقتحَموا آثامًا. أزهَقوا الأنفسَ المعصومةَ من المسلمين وغير المسلمين، من المعاهَدين والمستأمَنين، وكأنّهم لا يَتلون كتاب الله ولا يقرؤون سنةَ رسول الله. لم يسمَعوا قول الله عزّ وجلّ: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، وفي الحديث الصّحيح: ((لا يزالُ المسلم في فُسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا)) [4].
ولقد علِم كلّ ذي عِلمٍ من أهل الإسلام أنَّ قتلَ النفس بغير حقّ من أكبرِ الكبائر، وهي قرينَة الإشراكِ بالله عياذًا بالله، وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الفرقان:68]، وفي الحديثِ الصّحيح: ((أكبر الكبائر الشّرك بالله وقتل النفس)) [5] ، وعن ابنِ عمر رضي الله عنهما: (إنَّ مِن وَرطات الأمورِ التي لا مخرَج منها لمن أوقَع نفسَه فيها سَفكَ الدمِ الحرامِ بغير حِلِّه) أخرجه البخاري [6] ، ويقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((كلّ ذنبٍ عسَى الله أن يغفرَه إلاّ الرجُل يموتُ مشرِكًا أو يقتل مؤمنًا متعمِّدًا)) [7] ، ويقولُ : ((مَن قتلَ مؤمنًا فاغتَبطَ بقتله لم يَقبلِ الله منه صَرفًا ولا عدلاً)) [8] ، وعند الترمذيّ: ((لو أنَّ أهلَ السماءِ والأرض اشترَكوا في دمِ مؤمن لأكبّهم الله في النّار)) [9] ، وعند البخاري في صحيحه: ((مَن قتل معاهَدًا لم يرَح رائحةَ الجنّة، وإنّ ريحها يوجَد من مسيرةِ أربعين عاما)) [10].
لقد أتلفوا أموالَ المسلمين وممتلكاتهم بغير وَجه حَقّ، وكأنه لم يطرُق أسماعَهم حديثَ رسول الله : ((إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرام، كحُرمةِ يومكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدِكم هذا)) [11] ، و((كلُّ المسلم على المسلم حرام؛ دمُه وماله وعِرضُه)) [12].
روَّعوا الآمنين، وقد حذّر رسول الله من ذلك أشدَّ التحذير فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يحلُّ لمسلم أن يروِّعَ مسلمًا)) [13]. وحَملوا السلاحَ على مسلمين، وقد نهى رسول الله عن مجرَّد الإشارة فكيف بالإشهار به والقتل والإعانة؟! وفي الحديث: ((لا يشِر أحدُكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدرِي لعلّ الشيطانَ ينزع في يده فيقع في حفرةٍ من النار)) [14]. فأيُّ وعيد أشدُّ من هذا؟! فنعوذ بالله من الضلالِ والخذلان، وفي الحديث الآخر: ((من أشارَ إلى أخيه بحديدةٍ فإنّ الملائكةَ تلعنُه حتى تنتهيَ وإن كان أخاه لأبيه وأمته)) [15].
عبادَ الله، إذا كان هذا في حملِ السلاح والإشارة به فكيف بمن استعمَلهُ في إزهاق النفوسِ المعصومة وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من حمل السلاحَ فليس منّا)) [16] ؟!
أيّها المسلمون، وأهلُ الذمّة والمعاهَدون والمستأمَنون محفوظةٌ حقوقُهم في الإسلام وفي دِيار المسلمين، دماؤهم معصومَة، وأموالهم محتَرمة، يستوون في ذلك مع المسلمين لعموم النّصوص وخصوصِها في أهل الذمة والمعاهَدين، قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151]، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]. والنبيّ يقول: ((مَن قتل معاهدًا لم يرح رائحةَ الجنة، وإنَّ ريحَها يوجَد من مسيرة أربعين عامًا)) [17]. فلا يصحّ في دين الإسلامِ إيذاؤهم ولا التعدّي عليهم في أنفسِهم ولا أموالهم ولا ممتلكاتِهم ولا أهلهم. وفي السنن الكبرى عن عليّ : (مَن كانت له ذمَّتُنا فدمُه دمُنا) [18].
وأهلُ الذمّة والمعاهَدون والمستأمَنون ممّن تجب معاملتُهم بالبرِّ والقِسط على حدِّ قولِه سبحانه: لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]، بل حتى الجدال معهم أُمِرنا نحن المسلمين أن يكونَ معهم بالتي هي أحسن: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46].
واستمِع يا رعاك الله، واستمع هدانا الله وإياك، استمِع إلى موقفِ شيخ الإسلام وهو يفاوِض في فكِّ الأسرى، يقول رحمه الله: "لا نرضَى إلاّ بافتكاك جميعِ الأسرى من اليهودِ والنصارى، فهم أهلُ ذمَّتِنا، ولا نَدَع أسيرًا، لا من أهل الذمّة ولا من أهل الملّة" [19] مع أنه كان في حربٍ مع الصَّليبيّين.
هذه بعضُ النصوصِ والأحكام وكلام بعض المحقِّقين من أهل العلم، فهلاَّ اتَّقى الله هؤلاء، ناهيك عمّا وقعوا فيه من شقِّ عصا الطاعةِ ومفارقةِ الجماعة، فذلك كبيرةٌ من كبائر الذنوب، ففي الحديث الصحيح: ((من خرج من الطاعة وفارق الجماعةَ فمات مات مِيتةً جاهلية)) [20] ، فلا حولَ ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.
جرائمُ لا يُقدِم عليها إلاّ مَن طُمِسَت بصيرتُه وزُيِّن له سوءُ عمله فرآه حسنًا، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]، وقال سبحانه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر:8].
وبعد: أيّها المسلمون، فإنّ المسؤولية عُظمَى، والجميعُ في سفينةٍ واحدةٍ، ومن خرَقَها أغرقَ الجميعَ. إنّ التهاونَ والتساهُل يؤدّي إلى انفلاتٍ وفوضَى، وإنّ الإحساسَ الجادَّ بالمسؤولية وخطرِ النتائج هو الذي يحمِل كلَّ عاقلٍ وكلَّ مخلِص على رفضِ هذه الأعمالِ وعدَم قَبول أيِّ مُسوِّغٍ لها ولزوم فضح أهلها وآثارها ونتائجها، وليحذر المسلمُ أن يصدُر منه شيءٌ يُثير الفتنة أو يسوّغ لهؤلاء وأمثالهم ضلالهم وجهلَهم وإجرامَهم.
ومع يقينِ المؤمن أنّ الله حافظٌ دينَه ومُعلٍ كلمتَه وجاعلٌ كيدَ الكائدين في تضليلٍ إلاّ أنّ المسؤوليّة عظيمة، فلا بدّ من الوقفةِ الصارمة من أجلِ وضعِ الأشياء في مواضعِها والأسماء في مسمَّياتها، فالإسلامُ إسلام، والإجرام إجرامٌ، والإصلاح غيرُ الفَساد، وإيذاءُ المؤمنين وسَفكُ دماءِ المسلمين والتجاوز على المعاهَدين غير الجهاد المشروع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:204، 205].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبهدي محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/379)، والترمذي في الإيمان (2627)، والنسائي في الإيمان (4995) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (180)، والحاكم (22)، وحسنه ابن تيمية كما في المجموع (7/7-8)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2118).
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (10، 11)، ومسلم في الإيمان (40، 42) عن عبد الله بن عمرو وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا مسلم في الإيمان (41) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[3] أخرجه مسلم في الإيمان (23) من حديث طارق بن أشيم رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الديات (6862) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[5] أخرجه البخاري في الديات (6871)، ومسلم في الإيمان (88) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[6] صحيح البخاري: كتاب الديات (6863).
[7] أخرجه أحمد (4/99)، والنسائي في تحريم الدم (3984)، والطبراني في الكبير (19/365) عن معاوية رضي الله عنه، وصححه الحاكم (8031)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (511). وفي الباب عن عبادة وأبي الدرداء رضي الله عنهما.
[8] أخرجه أبو داود في الفتن (4270)، والطبراني في مسند الشاميين (1311) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2450).
[9] سنن الترمذي: كتاب الديات (1398) عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وقال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/258): "في إسناده يزيد الرقاشي عن أبي الحكم وهو عبد الرحمن بن أبي نعم عنهما، ويزيد ضعيف جدّا، ولكن هذه الأخبار يشد بعضها بعضا"، ولذا صححه الألباني في صحيح الترغيب (2438، 2442).
[10] صحيح البخاري: كتاب الجزية (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[11] أخرجه البخاري في العلم (67)، ومسلم في القسامة (1679) عن أبي بكرة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري أيضا في الحج (1639) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وثبت عن غيرهما من الصحابة.
[12] أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6066)، ومسلم في كتاب البر (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[13] أخرجه أحمد (5/362)، وأبو داود في الأدب (5004)، وابن أبي شيبة في مسنده (958، 959، 971)، وهناد في الزهد (1345)، والقضاعي في مسند الشهاب (878)، والبيهقي في الكبرى (10/249) عن رجال من أصحاب النبي ، وحسنه العراقي كما في فيض القدير (6/447)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (447). وفي الباب عن أبي هريرة وأنس والنعمان بن بشير وابن عمر رضي الله عنهم.
[14] أخرجه البخاري في كتاب الفتن (7072)، ومسلم في كتاب البر (2617) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[15] أخرجه مسلم في البر (2616) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[16] أخرجه البخاري في كتاب الفتن (7070، 7071)، ومسلم في كتاب الإيمان (98، 100) عن ابن عمر وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما. وصح أيضا من حديث سلمة بن الأكوع وأبي هريرة رضي الله عنهما عند مسلم في الإيمان (99، 101).
[17] أخرجه البخاري في الجزية (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[18] السنن الكبرى (8/34) وأخرجه محمد بن الحسن في الحجة (4/353-355)، وعنه الشافعي في مسنده (ص344)، والدارقطني في السنن (3/147)، وفي سنده أبو الجنوب الكوفي الراوي عن علي قال الدارقطني: "ضعيف الحديث".
[19] انظر: مجموع الفتاوى (28/ 617-618).
[20] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1848) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبةُ للمتقين، ولا عدوانَ إلا على الظالمين، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له قيّوم السموات والأرضين، وأشهَد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين وقائدُ الغرِّ المحجَّلين، صلَّى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ ما استطعتم، وتدارَكوا بالتوبةِ النصوح ما فرَّطتم.
أيّها المسلمون، هذه البلادُ ـ ولله الحمد ـ مستمسِكة بدينها، متماسكةٌ تحت ظِلّ قيادتها وولاةِ أمرها، كلُّنا ندين لله بالسّمع والطاعة لولاة أمرنا بالمعروف في غير معصيةٍ، متمثِّلين قولَ الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وقوله : ((عليكم بالسمعِ والطاعة)) [1].
أمّا رجالُ الأمنِ فهم جُنودٌ بواسِل على خيرٍ عظيم، وهم في ثغرٍ من ثغور الإسلام، يعلَمون مقامَهم وشرفَ مكانهم وصلاحَ عمَلهم ونُبلَ مقصَدهم، يؤدّون مهمَّاتهم في إخلاصٍ وتفانٍ وإتقانٍ وكفاءةٍ، فهم على الحقّ والهدَى بإذن الله، بأعمالهم وشجاعتِهم ويقظَتهم تبقى هذه البلادُ عزيزة محفوظة رافعةً لمنار الدين حاميةً لمقدّساتِ المسلمين محافظةً على حُرُماتهم بإذن الله، فهم بإذن الله صمّام الأمان في حمايةِ دار الإسلام.
أيّها المسلمون، وإنّ مسؤوليةَ مواجهة هذه الفئةِ الضالةِ هي مسؤولية الجميع، كلٌّ حسبَ موقعه، فالإحساسُ بالخطر على الدّين والأهل والدّيار والفُرقة والفوضى هو الأمر الذي يجب أن يستشعرَه الجميع.
ومع كلِّ ما ينبغي من حذرٍ ويقَظة وتكاتُف وشعورٍ تامٍّ بالمسؤولية فليهنأ المسلمون في هذه الديار، وليهنأ كلُّ مواطن ومقيم على دينه وأمنه ومالِه واقتصادِه، ولتهنأ الدولةُ حفظها الله برجالها الفُضلاء وجنودِها الشّجعان المخلصين، ولتطمئنّ الأمّةُ بإذن الله إلى وعيِ ولاةِ الأمور ويقظَتهم في مواقفَ لا يُقبَل فيها إلاّ القوّة والحزم.
ثم هذا خِطابٌ لمن سوّلت له نفسُه القيامَ بهذه الأفعالِ الإجراميّة المحرّمة أو زلّت قدمُه فوقعَ في شيء من هذه الأعمالِ أو وقع في رَوعِه لوثةٌ من هذا الفِكر أو تعاطُف معَهم عليهم جميعًا أن يتّقوا الله في أنفسهم وإخوانهم المسلمين، وليبادروا بالتوبةِ إلى الله عزّ وجلّ، وليراقبوا أنفسَهم ويتأمَّلوا نصوصَ كتابِ الله وسنة نبيّه محمّد وكلام المحقِّقين من أهل العِلم الثقاتِ الأثبات، وأن يرجعوا إلى جادّة الصوابِ والحقّ، ويكونوا صفًّا مع إخوانهم ضدَّ أعدائهم المتربِّصين بهم، وأن لا يكونوا معولَ هدمٍ لكيانِ الأمة، فقد علموا من سُنن الله في الأوّلين والآخرين أنّ مثلَ هذه التصرُّفاتِ الطائِشةَ الرّعناء لا يستفيد منها إلاّ العدوّ المتربّص، واللهِ لا يستفيد منها إلا العدوّ المتربّص، ولم يجنِ منها الإسلام والمسلمون خيرًا، لا في الماضي ولا في الحاضر، بل كانت النتيجةُ تأخُّرًا وضعفًا مِن قبَل الأعداء، والويلُ ثمّ الويل لمن يبوء بإثم هذه الأفعال الشنيعةِ والأعمال المحرّمة.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، اتّقوا الله جميعًا، واسلُكوا مسالكَ العدلِ والإنصاف، اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
ثم صلّوا وسلِّموا على نبيّكم محمّد المصطفى ورسولِكم الخليل المجتبى، فقد أمركم بذلك ربّكم جل وعلا فقال عزّ قائلا عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولِك محمّد الأمين، وآله الطيّبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95)، والبيهقي في الشعب (6/67) واللفظ له عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37). وفي الباب عن ابن عمر وعبادة بن الصامت وعبد الرحمن بن مسعود رضي الله عنهم.
(1/3270)
فتنة الخوارج
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, فرق منتسبة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
30/4/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أعظم الحسنات وأعظم السيئات. 2- شِرذمة الخوارج. 3- أمن بلاد الحرمين. 4- سوء عاقبة المجرمين. 5- جرائم الفئة الضالة. 6- نداء للخوارج. 7- ضرورة معرفة الحقّ من الباطل. 8- مفاسد فتنة الخوارج. 9- فضل رجال الأمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، فتقوَى الله أعظمُ ركنٍ يستنِد إليه في الدنيا العبادُ، وهي الزادُ ليوم المعاد.
أيها المسلمون، إنَّ أعظمَ الحسناتِ ما نفَع صاحبَه وتعدَّى نفعُه للخَلق، كتوحيدِ الله تعالى وأركان الإسلام، وإنَّ أكبرَ الذنوبِ والسيّئات ما عظُم ضرَرُه واستطار شرَرُه وعمَّ شرُّه وتضرَّر به البلادُ والعباد وأفسد الحياةَ ودمَّر الدين والدنيا، كالشرك بالله تعالى وقتلِ النفوس التي حرَّم الله وغير ذلك من كبائرِ الذّنوب والآثام، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد:25].
وإنَّ هذه البلادَ ـ ولله الحمد ـ كانت آمنةً مطمئنّة بإسلامها السّمح، وما زالت ـ ولله الحمد ـ آمنةً مطمئنّة بدينها الإسلاميّ وأخلاقها الفُضلَى وشريعتها السّمحاء، ولكنه كدَّر صفوَ قلوبِ الغيورين على الدين وعلى البلادِ ومصالحها فئةٌ ضلَّت في فهمها، وتخبَّطت في آرائها، وخالفت القرآنَ والسنّة بجُرمها، وخرجت على وليِّ الأمر الذي أوجبَ الله طاعتَه، وشقَّت عصَا الطاعة، وخالفت المسلمين، وعاثَت هذه الشِّرذمة في الأرض فسادًا، فقتلت رجالَ الأمن المسلمين، وقتَلت من المواطنين الآمنين، وقتلتِ المستأمَنين من غير المسلمين الذين حرَّم اللهُ قتلَهم، وأتلفتِ الأموالَ المعصومة، وعثت فئةُ هؤلاء الخوارج بأعمالٍ تخريبيّة ومدمِّرة وغادرة، هي غايةٌ في القبح والشناعةِ والعياذ بالله، يحاربُها الإسلام أشدَّ المحاربةِ، ويتبرَّأ منها، كفَرت هذه الفئةُ بنعمة الأمنِ الذي يتحقَّق الدينُ في ظلِّه كما قال تعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، وقال تعالى في الحج: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ [البقرة:196]، وفي الحديثِ عن النبيّ : ((من أصبَح آمنًا في سِربهُ معافًى في بدنهِ عنده قوتُ يومِه فكأنما حيزَت له الدنيا بحذافيرها)) [1] ، وحتى الجنّة لا يطيب عيشُها إلا بالأمنِ، قال الله تعالى: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر:46]، ومصالحُ العباد كلُّها مرتبطة بالأمن.
وإنّ أمنَ هذه البلاد ـ ولله الحمد ـ راسخُ البنيان عميقُ الجذور، لا يهزُّه كيدُ المفسدين والمرجفين؛ لأنَّ هذه الأعمالَ الشنيعة والأفعالَ التخريبيّة وإزهاقَ الأرواح المعصومةِ تتوفَّر الدواعي والأسبابُ والهِمم لمحاصَرة الفسادِ وأهلِه وإطفاء نار هذه الفتنةِ المدمِّرة، والولاةُ والعلماءُ والمواطنون هنا يقِفون في خندقٍ واحد ضدَّ كلِّ فِكرٍ منحرف يهدِّد دينَ الأمة ومصالحَها واستقرارَها.
ومِن سنَّةِ الله ورحمتِه أنَّ الذنوبَ والجرائمَ العظام يُهيِّئ الله لها من شَرعِه وقدَره ما يَقضي عليها ويوقف أصحابها عند حدِّهم، مثل القصاص للقاتلَ وقطع يدِ السارق، ومثل ما ذكر الله تعالى في قوله عزّ وجلّ: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33]. وإذا سلِم المجرمُ من عقوبةِ الشرع فإنه لا ينجُو من عقوبةِ القدَر أبدًا، قال : ((إنَّ الله ليُملِي للظالم حتى إذا أخَذَه لم يُفلته)) [2].
والأفعالُ التي يقومُ بها هؤلاءِ الخوارجُ جرائمُ وكبائر متعدِّدة والعياذ بالله، منها قتلُ المسلم، والله تعالى يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وعن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أن النبي قال: ((لن يزالَ المؤمِن في فُسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا)) رواه البخاري [3] ، وعن بريدةَ قال: قال رسولُ الله : ((قَتلُ المؤمن أعظمُ عند الله من زوال الدنيا)) رواه النسائي [4] ، وعن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله : ((لو أنَّ أهلَ السماءِ وأهلَ الأرض اشتركوا في دمِ مؤمنٍ لأكبَّهم الله في النار)) رواه الترمذي [5].
ومنها قتلُ المستأمَن الذي حرَّم الله دمَه ومالَه، قال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الأنعام:151]، وفي الحديثِ عن النبيّ : ((من قَتَل معاهدًا لم يرح رائحةَ الجنة)) [6].
ومِن الجرائم العظامِ الخطفُ للمستأمَنين غير المسلمين واغتيالُهم، وهو خيانةٌ وغدْر ودناءَة ومهانَة يعاقِب الله على ذلك عقابًا شديدًا، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال:58]، وقال تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]، والرسولُ يقول: ((اللهمَّ إني أعوذُ بكَ من الخيانةِ فإنها بِئستِ البطانة)) [7] ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله : ((إنّ الغادرَ ينصَب له لواءٌ يومَ القيامةِ فيقال: هذهِ غَدرةُ فلان بنِ فلان)) رواه البخاريّ ومسلم [8] ، وعن أبي سعيدٍ الخدريّ قال: قال رسول الله : ((لكلِّ غادِر لواءٌ عند استِه يومَ القيامة)) رواه مسلم [9]. وهذه عقوبةُ الفضيحةِ على رُؤوس الأشهاد، وعذابُ النارِ أشدّ. وغيرُ المسلم لو أمَّنه أيُّ واحدٍ من المسلمين ولو امرأة لا يحلُّ ولا يجوز لأحدٍ أن يقتلَه أو يأخذَ ماله أو يخطِفه أو يؤذيه، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول الله : ((المسلمون تتكافَأ دماؤهم، ويسعى بذمَّتهم أدناهم، ويجيرُ عليهم أقصَاهم، وهُم يدٌ على مَن سِواهم)) رواه أبو داود [10] ، ولقوله : ((أجَرنا من أجرتِ يا أمَّ هانئ)) [11] ، فكيف بمن أمَّنه الإمام أو أحدُ عُمّاله؟!
ألا فليفقهِ الخوارجُ هذه النصوصَ، وليسألوا أهلَ العلم، وليتّقوا الله في دينهم ومجتمَعهم وأنفسهم وذويهم، وليتفكَّروا: هل همُ على صوابٍ وأهلُ العلم على خطأ؟! وليتوبوا إلى الله قبلَ موتِهم على مشاقَّة الله ورسوله والمؤمنين.
ومن جرائمِ هذه الأعمالِ الإرهابيّة التخريبية جريمةُ قتل النفس، وقد توعَّد الله من قتل نفسَه بقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30]، وعن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله : ((من تردَّى من جبلٍ فقَتَل نفسَه فهو في نار جهنّم يتردَّى فيها خالدًا مخلَّدًا أبدًا، ومن تحسَّى سُمًّا فقتل نفسَه فسمُّه في يدِه يتحسَّاه في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا، ومَن قتَل نفسَه بحديدةٍ فحديدتُه في يده يتوجَّأ بها في بطنِه في نار جهنَّم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا)) رواه البخاري ومسلم [12].
يا مَن سوَّل له شيطانُه وزيَّنت له نفسُه الأمّارةُ بالسوءِ الخروجَ عن الجماعةِ، أطِع وليَّ أمرك، والزم جماعةَ المسلمين، عن معاذٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنَّ الشيطانَ ذِئبُ الإنسان، كذئبِ الغنَم، يأخذُ الشاةَ القاصِية والناحية، فإيّاكم والشِّعاب، وعليكم بالجماعة والعامَّة والمسجد)) رواه أحمد والطبراني [13].
وإنِّي أسأل هؤلاء الخوارجَ إذا أتَوا للحرمين: هل يصلّون وراءَ الإمام في الحرمَين؟ فإن كانوا يصلّون وراءَه فقد أصَابوا ويلزمُهم أن يقبَلوا قولَه المؤيَّد بالأدلة على بطلانِ فكرِهم وطريقتِهم التخريبيّة المنحرِفة، وإن كانوا لا يرَون الصلاةَ وراءَ الإمام في الحرمين فقد بانَ كالشّمس ضلالهم، حيث ظنّوا أنّ صلاةَ الملايين في الحرمين مردُودة وصلاتَهم مقبولة، وحيث ظنّوا أنّ الجنةَ لهذه الشّرذمة وبقيّةُ المسلمين محرومون.
قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:7، 8].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم، واستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (300)، والترمذي في كتاب الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب: القناعة (4141)، والحميدي في مسنده (439) من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم. انظر: السلسلة الصحيحة للألباني (2318).
[2] أخرجه البخاري في التفسير (4686)، ومسلم في البر (2583) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[3] صحيح البخاري: كتاب الديات (6862).
[4] سنن النسائي: كتاب تحريم الدم (3990) عن بريدة رضي الله عنه، وأخرجه البيهقي في الشعب (4/345)، وصححه ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/261)، وهو في صحيح الترغيب (2440)، وانظر: غاية المرام (439). وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعقبة بن عامر وابن مسعود وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم.
[5] سنن الترمذي: كتاب الديات (1398) عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وقال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/258): "في إسناده يزيد الرقاشي عن أبي الحكم وهو عبد الرحمن بن أبي نعم عنهما، ويزيد ضعيف جدّا، ولكن هذه الأخبار يشد بعضها بعضا "، ولذا صححه الألباني في صحيح الترغيب (2438، 2442).
[6] أخرجه البخاري في الجزية (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[7] أخرجه أبو داود في الصلاة (1547)، والنسائي في الاستعاذة (5468، 5469)، وابن ماجه في الأطعمة (3354) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (1029)، والنووي في رياض الصالحين (ص472)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (3002).
[8] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6178)، صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1735).
[9] صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1738).
[10] سنن أبي داود: كتاب الجهاد (2751)، وأخرجه أحمد (2/215)، وابن ماجه في الديات (2685)، وصححه ابن الجارود (771، 1073)، وكذا الألباني في الإرواء (2208).
[11] أخرجه البخاري في الجزية (3171)، ومسلم في صلاة المسافرين (336) عن أم هانئ رضي الله عنها.
[12] صحيح البخاري: كتاب الطب (5778)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (109).
[13] مسند أحمد (5/232، 243)، معجم الطبراني الكبير (20/164)، وأخرجه أيضا الحارث بن أبي أسامة في مسنده (606 ـ بغية الباحث ـ)، وأبو نعيم في الحلية (2/247)، والبيهقي في الشعب (3/57)، وحكم عليه العراقي في تخريج الإحياء (2/281) المنذري في الترغيب (1/138) والهيثمي في المجمع (2/23) بالانقطاع، وهو في ضعيف الترغيب (206).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله المعزِّ لمن أطاعَه واتقاه، والمذِلِّ لمن خالف أمرَه وعصاه، أحمدُ ربِّي وأشكره على ما أولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له لا إلهَ سواه، وأشهد أنّ نبيّنا وسيِّدنا محمّدًا عبده ورسوله اصطفاه ربّه واجتباه، اللهمِّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فاتّقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوثقى.
أيّها المسلمون، اعرِفوا الحقَّ تعرِفُوا أهلَه، فإنّ الرجال يُعرَفون بالحقّ، ولا يُعرَف الحقُّ بالرجال، واعرفوا الباطلَ تعرِفوا أهلَه، وإنكم قد ابتُليَت بلادُكم بفتنةِ الخوارج التي تهدِّد دينَكم، وتهدِّد مصالحَ بلادكم واستقرارَكم وأمنكم، وتحصُدُ رجالَ الأمنِ السَّاهرين على بلادِ الحرمين والمتفانين في خدمةِ الحُجَّاج والمعتمرين والزائرين، والذين هم في خدمةِ دينهم ووطنِهم، وتحصُد المسلمين والمستأمَنين، وتروِّع الآمنين، وإنها فتنةٌ لا تخدم إلا أعداء الإسلام وأعداءَ هذه البلاد، فكونوا كلُّكم جنودًا لإطفاء هذه الفتنة، قال الله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2]، وقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103].
ولو تصوَّرتم ما يترتَّب على هذهِ الفتنةِ من المفاسدِ لما استبقَيتُم أيَّ جُهدٍ في إخمادِها، ولو تفكَّر موقِدو نار هذه الفتنةِ في مفاسدِها وعواقبها وأداموا النظرَ في ذلك لأسرَعُوا بالتوبةِ إلى الله، وكَشَفوا تفاصيلَ هذه المؤامرة، ودلُّوا على أصحابها لكفِّ الشرِّ عن الإسلامِ والمسلمين، فقد أضَرّت هذه الفتنةُ بالإسلام والمسلمين، وأشمَت أصحابُها بالإسلامِ والمسلمين أعداءَهم، فهم يريدون أن يكونَ بأسُ المسلمين بينهم، وأن يُضرَب اقتصادُ المسلمين ومصالحُهم، وأن يزَعزَعَ أمنُ بلادِ المسلمين، ولكن هل يفقه أهلُ الفتن؟ قال الله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:41].
وإنَّ ما يقومُ بهِ رجالُ الأمنِ مِن اقتحامِ المخاطِر والدّفاع عن الدّين ومصالحِ البلاد لممَّا يوجِب لهم الثناءَ والدعاء، فليحتسِبهم المجتمعُ شهداءَ عند الله تعالى بمنِّه وكرَمه لوقوفهم ضدَّ هذا الخطَر الداهِم الذي يعمُّ ضررُه كلَّ أحدٍ، قال الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25].
وأعِظُ نفسي وإياكم بقولِ رسول الله : ((أوصيكم بتقوَى الله والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، فإنّه مَن يعِش منكم فسيَرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنّتي وسنةِ الخلفاء الراشدين المهديّين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة)) [1].
عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلَّى عليّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
فصلُّوا وسلِّموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
(1/3271)
ثلاث خِصال مهلكة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
30/4/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الكذب على الله تعالى ورسوله. 2- النهي عن الغشّ في النصيحة. 3- خطورة الفتوى. 4- من آداب المفتي. 5- تحريم القول على الله تعالى بلا علم. 6- أضرار الفتاوى الباطلة. 7- صفات المفتي. 8- حرمة الدماء المعصومة. 9- التحذير من خدمة الأعداء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في سُننِ أبي دَاودَ أنّه قال: ((مَن تقَوّل عليَّ مَا لم أقُله فليتَبوّأ مقعدَه من النّار، ومَن استشارَه أَخوه المسلِم في أمرٍ فأشارَ عليه بِغيرِ الرُّشد الذي يعلَمه فقَد خانَه، ومَن أُفتيَ بفتوًى غيرِ ثبتٍ فإثمه عَلى من أفتاه)) [1].
أَخي المسلِم، لنتأمّل جميعًا هذهِ الخصالَ الثلاث التي نبّهَنا النبيُّ عليها.
أولاً: الكذبُ علَى رَسولِ الله، أَصلُ الكذبِ حَرام، وهو مِن أخلاقِ المنافِقين، لكن الكذبُ مراتب، فأعظمُ الكذب الكذِبُ علَى الله، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ [الأنعام:93]. فأعظمُ الكذبِ أن تكذبَ على الله، وتنسِبَ إلى الله أمرًا ما قاله ربُّ العالمين، تنسِب إليه أنّه أحَّل وما أحلّ ذلك، أو حرّم أمرًا وما حرّمه، قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59]. والكذِبُ على رسول الله كبيرةٌ مِن كبائرِ الذنوب، تُوُعِّد الكاذبُ على رسول الله بقولِه: ((فليتبوّأ مقعدَه من النّار)). ولِذا اهتَمّ علماءُ المسلِمين بسنّةِ نبيِّهم ، وزيَّفوا ما نُسِب إليها كَذِبًا وافتراءً، وحَذَّروا الأمّةَ من ذلك.
وثانيًا: ((مَن استَشاره أخوه المسلِمُ في أمرٍ فأشارَ عليه على غيرِ الرّشد الذي يعلَمه فقَد خانَه)). أخوكَ المسلِم أتاك واثقًا مِنك، مُطمئنًّا إلى نُصحِك، يستشِيرك في أمرٍ ما من الأمورِ لترشدَه إلى الصّواب، وتُرشدَه إلى النافع، وتحذِّره ممّا يضرّه، جَاءك مستنصِحًا، جَاءك مستشيرًا، جَاءَك وَاثقًا بإيمانِك، وأنّك أخوه المؤمِن تحبُّ له ما تحبّ لنفسك وتكرَه له ما تكرَه لنفسك، فتشير عليه بأمرٍ تَعلَم أنّ الرّشدَ خلافُه، وأنَّ الصَّوابَ خلافُه، لكن تشير عليه غِشًّا لَه وظُلمًا لَه وعُدوانًا عَليه، فهذِه خيانةٌ مِنك له، واللهُ لا يحِبّ الخائنين، خيانةٌ منك لأخيك، لماذا تخونُه؟! هو وكَلك إلى إيمانِك وإسلامِك، وفي الحدِيث: ((لا يُؤمِن أحدُكم حتى يحِبَّ لأخيه ما يحِبّ لنفسِه)) [2] ، فإن لم تنفَعه بخيرٍ فإيّاك أن تشيرَ عليهِ بالباطِل، اعتذِر عن عدمِ العِلم بذلِك الأمر، وأمّا أن تشِيرَ عليه بالخطأ وخلاف الصّواب فأنت خائنٌ لهذا المسلم ظالمٌ له.
وثالثًا: ((مَن أُفتِي بفتوًى غيرِ ثبتٍ فإنما إثمُه على من أَفتاه)).
أيّها المسلم، الفتوَى حكمٌ شرعيّ، والمفتي مخبِر عنِ الله في أنّ اللهَ أحَلَّ هذا أو حَرّم هذا أو أوجَبَ هذا، المفتي يخبِر عَن ربِّ العالمين، المفتي يتكَلَّم في الحلالِ والحرامِ مستنِدًا إلى دَليلٍ معتمِدًا على الدّليل، هكذا المفتي الصادِق الذي يخافُ اللهَ ويتّقيه ويعلَم أنّ اللهَ سيسألُه عمّا أفتَى فيه: أكانت تلكَ الفتوَى حقًّا موافِقةً للشّرع أم كانت فتوًى باطِلَة تخالفُ الشّرع؟ فما كانَ من فتوًى توافِق الشرعَ فالحقّ مقبول، وما كان مخالفةً للشرع فباطل، إذًا فعلَى مَن استُفتِيَ أن يراقبَ الله قبلَ كلّ شَيء، وأن يتَذكَّر الموقفَ بَين يديِ الله، وأَن يعلمَ أنّ الله سيحاسِبه عن كلّ فتوًى أفتاها، إذًا فليتَّقِ الله قَبلَ أن يقدِم، وليراقِبِ الله قَبلَ أن يقدِم، فإن كانَ ما سئِل عنه هو أمرٌ واضح جليّ يعلَم دليلَه من كتابِ الله ومِن سنّةِ رَسول الله أفتى بذلكَ مُعتمِدًا على الدّليل، علِم حكمَ المسألة ودليلَها ولا إشكالَ عندَه فليُفتِ بذلك، لم يعلمِ الحكمَ الشرعيَّ ولم يستبِن له الأمرُ فليمسِك وليحذَر أن يقولَ على الله ما لا يعلم.
المستَفتَى أيضًا إذا سُئل فلا بدّ أن يؤسِّسَ المسألةَ ويعلمَ ما هي المسألةُ التي سئِل عنها، ثم ليعلمْ أيضًا حالَ هذا السائلِ؛ أكان سؤالُه عن أمرٍ يهمّه في أمرِ دينه ودنياه ليعملَ به فليخبِره، أم كانَ هَذا السائلُ سَأل سؤالاً لا مَصلحةَ له فيه، أو سَأل سؤالاً الجَوابُ لا يتَحمَّله عقلُه ولا يدرِكه فهمه، بل قد يكون في الإجابةِ فتنةٌ له، فإنّ المطلوبَ منَ المفتي أن يلاحظَ هذه الأمورَ كلَّها، والفُتيا في غيرِ الأمورِ النازلةِ لا ينبغي التشاغُلُ بها عن الأمور النازلةِ.
أيّها المسلم، القولُ عَلى الله بِلا عِلمٍ أَعظمُ الذّنوب وأَكبرُها، قالَ جل وعلا: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، فانظُر إلى تدرُّج هذه الكبائر، أولاً حَرّم الفَحشاء، قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وحَرّم الإثمَ والبغيَ بغيرِ حقّ، ثمّ قال: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ، إذِ الشِّركُ بالله أسَاسُه القَولُ على الله بِلا علم، وكلّ كفرٍ وضَلالٍ فأساسُه القولُ على الله بِلا علم، وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18]. الإفتاءُ بخلاف الحقِّ كبيرةٌ من كَبائرِ الذنوب، جريمةٌ نكراء، قال الله جل وعلا: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل:116].
أَيّها الإخوةُ، كَم مِن فَتاوًى ضلَّ بها مَن ضلّ، زلّت بها أقدامٌ وضلّت بها أفهام، يُفتي من لا بَصيرةَ عندَه، ومن لا علمَ عنده، ومَن لا يوازن بين الأمور، ولا مَن يقدِّر الأشياءَ قدرَها، فيفتي فتاوًى لا يُدرِك ضررَها ولا يتصوَّر أخطاءَها ولا ما يترتَّب على مَن سمِعها مِن تصرّفاتٍ خاطِئة وتَصوّرات خاطئة وتأويلاتٍ ضالّة، كم بِسببِ هذه الفتيا المخطئة، كم بها سُفِكت دماء ودُمّرت بها أموال ورُوِّع بها آمنون، كم سبَّبت تلكَ الفتاوَى المبنيَّة على غير هدًى التي اتَّبع أربابها فيها الهوَى، ولم يقارِنوا بين المصالحِ والمفاسِد، ولم يدرِكوا مقاصدَ الشريعة فيما يقولون، فظنَّ الظانُّ أنه إذا أفتَى وقال فقد كان كذا وكذا. لا يا أخِي، ليس المهمّ أن تفتيَ ولا أن ينقَلَ قولُك، المهمّ أن تكونَ أقوالُك موافقةً للشَّرع وفتاواك موافقةً للشّرع مطابقةً لشرع الله. المستفتَى يتبصَّر في الأمور وينظُر مِن قربٍ ومٍن بعد حتى لا تكونَ الفتوَى مستغَلّة في أمورٍ لا خَيرَ فيها، وليعلَم حقيقةَ هذا السائلِ والمستفتي. المستفتَى لاَ بدَّ أن يُصغيَ إلى من سَأله، ويتبصَّر في الأمورِ، ويدرِك الغايةَ من هذا السؤالِ، والغايةَ من هذا الموضوع الذي طرِح، هل يقصِد به المستفتي خيرًا، هل يريد به نفعًا، هل يريد به مصلحةً للأمة، أم أنّه يريد به ضَررًا وشرًّا.
إنَّ المفتي يخافُ اللهَ ويُراقِبه، وينظُر الأمورَ مِن كلّ الجوانب، ويجنِّب الفتوَى مَن لا يحسِنها ولا يعمَل بها حقَّ العمَل، ولا سيَّما الفتوى في الأمورِ المتعلّقةِ بعمومِ الناس، فلا يبتُّ فيها ولا يتحدّثُ فيها إلاّ من هو مسؤولٌ عنها، وأمّا أن يتحدَّث من يتحدّث ويفتي من يفتي بلا عِلمٍ ولا بَصيرةٍ فإنّ تلكَ مصيبة، قد يكون حقًّا، لكن من يستفتي قد لا يكون مقصودُه الحقّ، وقد يسخِّرها ويحوِّرها إلى أمورٍ يكون فيها ضررٌ على الأمّة في الحاضر والمستقبَل، فالعِلمُ أحيانًا يحجَب عمّن لا يحمِلُه بحقٍّ ومن لا يدرِك غورَه بحقّ.
إنّ المفتيَ لا بدَّ أن يتّقيَ الله فيمَا يفتي به، ويتبصَّر في الأمور، ويعلمَ المصالحَ من المفاسِد، ويقارن بينها، ويعلم أنّ مِن قواعدِ الشرع أنّ درأ المفاسِد مقدَّم على جلبِ المصالح، وأنّ البعضَ من النّاس قد لا يناسِبهم أن يعطَوا علمًا في بعضِ الأشياء لأنّ عقولهم لا تدرِك ما يقالُ لهم ولا يتصوّرون حقيقةَ ما يُقال لهم، فيأخذون الأمورَ على غيرِ وجهها الشرعيّ، وعلى غير المقصودِ الشرعيّ، وهذا بلا شكّ أنه سبَّب ضرَرًا على المسلمين.
فليتَّقِ الله المفتون في الأمور الشرعيّة، وليحاسبوا أنفسَهم قبلَ أن يحاسبَهم الله، وليراقِبوا اللهَ فيما يقولون، ولتكن الفتوَى بعدَ التأنّي والبَصيرة، ولا يفتي في أمورٍ عامّة إلاّ الجهاتُ التي وكِل إليها، فإنّ في ذلكَ راحةً للأمة وطمأنينة حتى تكونَ الأمورُ تنطلق منطلقًا شرعيًّا مبنيًّا على أصولٍ شرعيّة، وأمّا أن يتحدَّث في الأمورِ العامة من لا يحسِنها ولا يقدِّر الأمورَ قدرَها فهذا قد يضرّ بالأمةِ مِن حيث لا يشعُر، فإنّ القولَ على الله مصيبةٌ عظيمة، ولقد كَان سلفُنا الصّالح يتوقّفون في كثيرٍ من الفتيَا، لا جهلاً ولكِن ليبيِّنوا للناسِ عظمةَ أمرِ الفتيا، يقول ابن مسعودٍ رضي الله عنه: (إنكم لتفتون في مسائلَ كانَ عمر بن الخطاب يجمَع لها المهاجرين والأنصارَ) [3] ، وكان الإمام مالكٌ رحمه الله إمامُ دار الهجرة معروفٌ علمُه وفضلُه ومكانَته، كان من أشدِّ النّاس في هذا الباب، أتاه آتٍ فوجّه له أربعين مَسألة، فأجابه عن ثلاثٍ وامتَنع عن الباقي، فقال: يا مالِك، أنت إمامُ دار الهجرة تتعذّر أن تجيبَ على المسائل كلِّها! قال: لا أدري، قال: أمثلُك يقول: لا أدري؟! قال: نعم، اخرج إلى الناس وقل: إنَّ مالكًا لا يدري. عُدّت تلك من مناقبه وفضائله وورَعه وزهده وخوفِه من الله وعِلمه بحقيقةِ المسائل وأنّ ما كلٌّ يعطَى وما كلّ يفتَى إذا لم يقصِد العمَلَ والاتباع، وإنما يقصِد بما يأخذ أمورًا تخالِف الشّرع، وربما يعودُ الضّرر عليه، وفي الحديثِ: ((إذا حدّثتَ قومًا بحديثٍ لا تحمله عقولهم فإنّ ذلك فتنةٌ لهم)) [4].
فليتَّق اللهَ من يُفتون، ليتَّقوا الله في أمورِهم كلِّها، وليحاسِبوا أنفسَهم، وليقيِّموا الأمور، وليضَعوا كلَّ التصوّرات أمامَ أيّ فتيًا لا سيّما في الأمورِ العامّة التي تتَعلّق بمصالحِ الأمّة حتى لا تزِلَّ أقدامُ أقوامٍ قصُرت عقولُهم، وقلَّ إدراكهم، ولم يحيطوا بالنّصوصِ، ولم يفهَموا الأمورَ على فهمِها الصحيح، فيقعوا في الخطأ من حيث لا يشعرون.
أعوذُ بالله من الشّيطان الرجيم: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ [النحل:105].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/321)، وابن راهويه في مسنده (334)، وابن بشران في الأمالي، والطبراني في طرق حديث من كذب علي متعمدا، والبيهقي في الكبرى (10/112)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1625)، والخطيب في الفقيه والمتفقه، وصححه الحاكم (349، 350)، لكن في إسناده عمرو بن أبي نعيمة مجهول، وهو في ضعيف الأدب المفرد (41).
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (45) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[3] أثِر نحوه عن أبي حصين الكوفي، رواه ابن بطة في إبطال الحيل، والبيهقي في المدخل (803).
[4] أخرجه بمعناه العقيلي في الضعفاء (3/201) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي سنده عثمان بن داود قال العقيلي: "مجهول بنقل الحديث، لا يتابع على حديثه، ولا يعرف إلا به"، وقال الذهبي في الميزان (3/33): "لا يدرى من هو، والخبر منكر"، وهو في السلسلة الضعيفة (4427). وأخرج مسلم في مقدمة صحيحه، والبيهقي في المدخل (611)، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)، وفي سنده انقطاع.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، المؤمنُ حقًّا في تصرّفاته كلِّها يحاسب نفسَه قبل أيِّ عمل يقدم عليه، هل هذا العملُ الذي أقدَم عليه عملٌ يحبّه الله ويرضاه؟ هل هو عملٌ موافِق لكتابِ ربِّه وسنة نبيّه ؟ هل هذا العملُ الذي يقدِم عليه يوافق شرعَ الله أم لا؟ هل هذا العمل الذي يقدِم عليه فيه مصلحةٌ للأمة في الحاضر والمستقبل، أم هذا الأمر ضررٌ وشرّ وبلاء على الأمة في حاضِرها ومستقبلها؟
إنَّ البعضَ من الناس والعياذ بالله جُعِل شقيًّا على نفسه، شقيًّا على أهله، شقيًّا على مجتمَعه، شقيًّا على أمته، يتصرَّف تصرّفات كلُّها خاطئة، وكلّها جهل وإحراجٌ للأمة وإيقاع لها في الحرَج والمشاكِل، لكن هذه الفئةُ في تصرُّفها الخاطِئ لا عذرَ لها، فإن يريدوا دينًا فالدّين واضحٌ وجليّ، وحرمةُ الدماء والأموال في شريعة الإسلام أمرٌ مستقرّ لا يشكّ فيه مسلم، حرمةُ الدماء والتعدِّي عليها بغيرِ حقّ نصوص القرآن والسنة تدلّ على حرمة الدماء وعظيم حرمَتها من مسلمٍ ومستأمَن، وإن يريدوا غيرَ ذلك طاعةً للأعداء وأن أعمالهم إنما هي خدمةٌ لأعدائهم، فليتّقوا الله، وليحاسبوا أنفسهم، وليراجعوا أنفسهم، فإنّ الاستمرارَ على الخطأ والباطل ليس من الإيمان. إنَّ التلاعبَ بالدماء والاستخفافَ بها وعدمَ المبالاة بها وجعلَها مساومةً لأغراض ومصالح أمرٌ يرفضه الشرع. فليتّق المسلم ربَّه، ولا يقدِم على عملٍ ينسبه إلى الدين، والإسلام بريء من هذا كلِّه.
يا أخي المسلم، إنّ التصرفاتِ الخاطئةَ لا تصدر من قلبٍ يخاف الله ويتقيه، ولا تصدر من قلبِ مؤمنٍ يحبّ لأمته الخير ويكرَه لها الشر. إنّ بعضَ التصرفات ضررُها وشرّها في الحاضر والمستقبل لا يعلَم قدره إلا الله. فليتّق المسلم ربَّه، وليحاسِب نفسَه، وليتَدارَك أخطاءَه، وليتُب إلى اللهِ مما زلَّت به قدمُه، ولا يكن ألعوبةً بيد الأعداء، يسخِّرونه كيف يشاء. الدماءُ لا يساوم عليها، والدماء ليست أمرًا يسيرًا ورخيصًا، هي محترمةٌ ومعظَّمة، ((المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمَّتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم)) [1] ، المسلمون يحترِمون العهودَ والمواثيقَ، ويلتزِمون بها قولاً وعملاً، وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ [المؤمنون:8]، هكذا المؤمنُ يراعي العهودَ والمواثيقَ ويحترمها ويدين لله بذلك. أما هذه التصرفاتُ الخاطئة فإني أنصَح المسلمَ أن يتقيَ الله ويجتنبَها ويتوبَ إلى الله من هذا الذنب العظيم الذي هو ضررٌ عليه في دينه وضررٌ على أهلِه وعلى مجتمعِه وعلى بلاد الإسلام. كم شوّهوا صورةَ المسلمين، وكم أساؤوا بهذه التصرفاتِ الخاطئةِ للإسلام وأهلِه، وكم نقَلوا صورةً سيّئة خارجَ العالم الإسلامي ليقال: إن المسلمين أهلُ ظلم، وإنهم متوحِّشون، وإنهم يعيشون شريعةَ الغاب وإنهم وإنهم. والإسلامُ بريء من هذهِ الأخطاءِ كلِّها، لا يجوز أن ينسَب إليه ما هو بريء منه.
فيا إخواني، اتقوا الله في أنفسكم، وتعاوَنوا فيما بينكم على البرِّ والتقوى، وخذُوا على أيدي السفهاء، وردّوهم إلى الحقّ ردًّا جميلاً، وحذِّروهم من هذه التصرفاتِ أن لا يساوَم في الدماءِ ولا تجعل ألعوبةً، فإن هذا أمرٌ خطير، وضررُه على الأمة في حاضرِها ومستقبلها أمرٌ معروف.
إنَّ الأمةَ يجب أن يوقفَ معها، وأن يشدَّ أزرُ ولاتها، لاجتماع الكلمةِ وحقنِ الدماء وحِفظ الأموال وصيانة هذا الكيان العظيم الذي يعيش في أمنٍ واستقرار وطمأنينة، فلا يجوز لأحدٍ أن يكدِّر صفوَ هذه النعمة، ولا يحاولَ إلحاقَ الضررِ بالأمة.
أسأل الله أن يوفِّق الجميعَ للخير، وأن يهديَ الجميعَ لصالح العمل، وأن يتوبَ علينا جميعًا، وأن يمنَّ على من انحرفَ عن الهدى بالتوبةِ إلى الله والعودة إلى الحقّ، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخيرَ الهدي هديُ محمّد ، وشر الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذَّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائِه الراشِدين...
[1] أخرجه أحمد (2/215)، وأبو داود في كتاب الجهاد (2751)، وابن ماجه في الديات (2685) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه ابن الجارود (771، 1073)، وكذا الألباني في الإرواء (2208).
(1/3272)
عزة المؤمن
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
30/4/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- علو الإسلام والمسلمين. 2- الاعتزاز بالدين. 3- من مواقف العزة. 4- المسلم في العصر الحاضر. 5- فضل الإسلام. 6- المستقبل للإسلام. 7- جرائم الأعداء في العراق وفلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أيها المسلمون، يقول الله تعالى في محكم كتابه وهو أصدق القائلين: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:138-141].
أيها المسلمون، قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: انهزم أصحاب رسول الله يوم أُحد، فبينا هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيلٍ من المشركين، يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال الحبيب محمد صلوات الله وسلامه عليه: ((اللهم لا يعلوَنّ علينا، اللهم لا قوّةَ لنا إلا بك، ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر)) ، فأنزل الله هذه الآيات، وثاب نفرٌ من المسلمين رماة وصعدوا الجبل، ورموا خيل المشركين، حتى هزموهم، فذلك قوله تعالى: وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ [محمد:35]، يعني الغالبين على الأعداء بعد غزوة أحد.
وفي هذا القول بيان فضل هذه الأمة، لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه، حيث قال لموسى عليه السلام: إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى [طه:68]، وقال لهذه الأمة: وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ.
أيها المؤمنون، أيها المرابطون، يجيء هذا التوجيه الرباني ليعالج ويواجه الوهن والحزن اللذين يساوران المكث في هذا المقام، يواجههما بالاستعلاء والاعتزاز، لا بمجرد الصبر والثبات، الاستعلاء الذي ينظر من علٍ إلى القوة الطاغية المتجبرة والقيم السائدة والتقاليد والعادات والجماهير المتجمهرة على الضلال.
أيها المسلمون، إن المؤمن هو الأعلى، الأعلى سندًا ومصدرًا، وهو الأعلى ضميرًا وشعورًا وخلقًا وسلوكًا، لأن عقيدته في الله هي بذاتها موحيةٌ بالرفعة والنظافة والطهارة والعفة والتقوى والعمل الصالح والخلافة الراشدة، فضلاً على إيحاء العقيدة عن الجزاء في الآخرة، الجزاء الذي تهون أمامه متاعب الدنيا وآلامها ومصائبها وحسراتها جميعًا، ويطمئن إليه ضمير المؤمن، ولو خرج من الدنيا بغير نصيب، كما أن المؤمن هو الأعلى شريعةً ونظامًا.
وحين يراجع المؤمن كل ما عرفته البشرية قديمًا وحديثًا، ويقيسه إلى شريعته ودينه، يراه كله أشبه بمحاولات الأطفال وخطى العميان، إلى جانب هذه الشريعة الغراء والنظام الكامل، وفي نفس الوقت سينظر إلى البشرية الضالة الحائرة من علٍ في عطفٍ وإشفاقٍ عليها، على بؤسها وشقائها، ولا يجد في نفسه إلا الاستعلاء والتكبر على الشقوة والضلال.
أيها المسلمون، وهكذا كانوا، المسلمون الأوائل يقفون أمام المظاهر الجوفاء والشعارات البراقة والقوى المتجبرة المتسلّطة والاعتبارات التي تتعبّد الناسَ في الجاهلية، والجاهلية ليست كما يظن البعض أنها فترة من الزمان وقد انتهت، إنما هي حالةٌ من الحالات تتكرّر وتتجدّد في الماضي والحاضر والمستقبل على السواء.
نعم، هكذا وقف المغيرة بن شعبة أمام صور الجاهلية وأوضاعها وتطوراتها في معسكر رستم قائد الفرس المشهور، عن أبي عثمان النهدي قال: لما جاء المغيرة إلى القنطرة، وعبرها إلى أهل فارس، أجلسوه، واستأذنوا رستم في إجازته، ولم يغيروا شيئًا من شاراتهم تقويةً لتهاونهم، فأقبل المغيرة بن شعبة، والقوم في غيهم، عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب، وبسطهم على غلوة، أي: على مسافة ثلاثمائة أو أربعمائة خطوة، لا يصل أحدٌ إلى صاحبهم حتى يمشي عليها، فأقبل المغيرة، وله أربع ضفائر، يمشي حتى جلس على سرير رستم ووسادته، فوثبوا عليه، وأنزلوه ومغثوه أي: صرعوه، فقال: كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قومًا أسفه منكم، إنا معشر العرب سواء، لا يستعبد بعضنا بعضًا، إلا أن يكون محاربًا لصاحبه، فظننتكم أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وإن هذا الأمر لا يستقيم فيكم، ولا نصنعه، ولم آتيكم ولكن دعوتموني، اليوم علمتُ أن أمركم مضمحل أي: زائل، وأنكم مغلوبون.
أيها المسلمون، وتتبدّل الأحوال، ويقف المسلم موقف المغلوب المجرد من القوة المادية، فلا يفارقه شعوره واعتقاده أنه الأعلى، وينظر إلى الآخرين من علٍ ما دام مؤمنًا، فيستيقن أنها فترةٌ وتمضي، وأن للإيمان كرةً لا مفرّ منها، فمهما كانت القاضية، فإنه لا يحني لها رأسًا، ولا يجامل ولا يساوم ولا يتنازل، المؤمن يصغي إلى نداء ربه: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196، 197].
كما ويقف المؤمن قابضًا على دينه كالقابض على الجمر في المجتمع البعيد عن الدين وعن الفضيلة وعن القيم العليا وعن كل ما هو طاهرٌ نظيفٌ جميل، ويقف الآخرون هازئين ساخرين بهذا المؤمن وعقيدته وقيمه، فلا يهن المؤمن، وهو ينظر من علٍ إلى هؤلاء الساخرين الضاحكين، وهو يقول كما قال واحدٌ من الرهط الكرام الذين سبقوه في موكب الإيمان في الطريق الطويل، إنه نوح عليه السلام: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود:38]، وهو يرى نهاية الموكب الوضيع ونهاية القافلة البائسة في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين:29].
أيها المسلمون، إن المسلم على الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! وليكن للضلال سلطانه وجبروته، ولتكن معه جموعه وجماهيره وحلفاؤه، إن هذا لا يغير من الحق شيئًا، فدولةُ الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، فالمؤمنون دائمًا يتمثلون قول الحق جل وعلا: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل.
أيها المسلمون، إننا لا نقف اليوم، ولن نقف إن شاء الله تعالى في يومٍ من الأيام موقف المدافع عن هذا الدين وكأنه في قفص الاتهام، فهو أسمى وأرفع من كل ذلك، وأبعد من أن توجه إليه التهم أو تثار حوله الشبهات، فحديثنا من منطلق بيان هدايته ومنهجه وطبيعته؛ لأنه دين الرحمة والعدل والأمن والسلام والطمأنينة، وإن المستقبل له بالرغم من كل المحاولات اليائسة للنيل منه أو لتشويه صورته وطمس معالمه وحضارته من قبل أعدائه، حسدًا من عند أنفسهم، وخوفًا على مبادئهم الهدامة ومعتقداتهم الزائفة وأفكارهم الشيطانية، أو النيل منه من قبل أتباعه الذين لا يفهمونه، وبالتالي لا يحسنون عرضه على الآخرين.
نعم، إن المستقبل والعلو لهذا الدين، إنهم يرونه بعيدًا ونراه قريبًا، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8]، أيريد المشركون إطفاء نور الله وشرعه المنير بأفواههم؟! وهذا تهكّم بهم في إرادتهم إطفاء الإسلام بقولهم عن القرآن الكريم: إنه سحرٌ وشعرٌ وأساطير الأولين، واليوم يقولون عنه: إنه دين الإرهاب، سبحان الله! ما أشبه اليوم بالبارحة، وكأن التاريخ يعيد نفسه، فالشر والإلحاد يعودان من جديد، ولكن بثوبٍ آخر.
أيها المسلمون، وقد شبه الله تعالى من أراد إبطال هذا الدين أو الصدّ عنه بمن أراد إطفاء الشمس الساطعة بفمه الحقير، والله تعالى متمّ نوره أيّ مظهر دينه بنشره في الآفاق وإعلائه على كافة الأديان، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام مسلم: ((إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها)) ، والله تعالى سبحانه وتعالى سيعلي شأن هذا الدين رغم أنف الكافرين المجرمين الحاقدين، فتاريخ الإسلام والمسلمين وما اشتمل عليه من نماذج العدل المشرقة ومن مبادئ حقوق الإنسان واضحٌ معلوم لدى القاصي والداني، ولدى العدوّ والصديق، كما أن تاريخ الآخرين بما اشتهر عليه من جرائم بشعة وأعمالٍ بربرية همجية يشيب لهولها الأطفال وتقشعر منها الأبدان معلومٌ أيضًا، ولم يعد سرًا يتكتم عليه، إن في هذا لبلاغًا لقومٍ عابدين.
ادعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فرَج المستغفرين، استغفروا الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: أيها المؤمنون، إن المسلمين اليوم قد أضحوا أمام فتنةٍ عمياء وشدائد مظلمة، ليس لها من دون الله كاشفة، إنها فتنةٌ أوقد نارها أعداء الإسلام، وما أكثرهم، يريدون بذلك إضعاف شوكة العرب والمسلمين وغزو بلادهم ونهب خيراتهم وثرواتهم والهيمنة عليهم. إن الشعوب العربية والإسلامية تواجه اليوم بغيًا مفضوحًا وعدوانًا سافرًا، لا يستند إلى برهانٍ أو دليل، وما مشروع الإصلاحات التي ينادى بها هنا وهناك، وما مشروع الشرق الأوسط الكبير إلا استكمالٌ لمشروع الهيمنة وفرض السيطرة علينا، وما يحدث اليوم على أرض العراق من جرائم بشعة ومجازر مؤلمة يروح ضحيتها آلاف الأبرياء، ما هو إلا حلقةٌ في سلسلةٍ متواصلةِ الحلقات، تستهدف النيل من المسلمين أينما كانوا، كما أنها تستهدف صمودهم وزرع بذور الفتنة بينهم لإضعافهم. إن هدف المحتلين هو تدمير البنية التحتية للشعب العراقي، حتى لا تقوم لهم قائمة.
أيها المرابطون، أما ما يحدث لشعبنا الفلسطيني فهو أمر يصعب وصفه بالكلمات، حيث إنه يتعرض منذ مدة طويلة لحصارٍ سياسيٍ وعسكريٍ واقتصاديٍ واجتماعيٍ وثقافيٍ وديني، كما ويتعرض لجميع أنواع القهر والذل والأعمال التعسّفية على مرأى ومسمعٍ من دول العالم الكبرى وهيئة الأمم ومجلس الأمن ومؤسسات حقوق الإنسان، ولا أحد من هؤلاء يحرك ساكنًا، وليست هذه أول مرة يتعرض فيها شعبنا للحصار والمضايقات، ولكن يبدو هذه المرة أن هذا الحصار أشد وأنكى، والعالم كله على علمٍ بأن شعبنا قد احتلت أرضه، وسلبت حقوقه، وتعرض لنكباتٍ متتالية على مدار السنوات الماضية، وصدرت القرارات المؤيدة لهذا الحق عن المؤسسات الدولية، ولكن مع الأسف بقيت حبرًا على ورق، فمع كل ذلك طرحت عملية السلام على الساحة، فكانت المكافأة ضرب حصارٍ متعدد الأشكال والألوان، وبصورةٍ تتنافى مع أبسط مشاعر الإنسانية، وحرم هذا الشعب من لقمة العيش ومن خيرات بلاده، وهدمت البيوت، وصودرت مساحاتٌ شاسعةٌ من أرضه، ولا يكاد يمضي يوم إلا وتطالعنا وسائل الإعلام بمصادراتٍ جديدة وإنشاء مستوطناتٍ إضافية، ناهيكم عن عمليات القتل والتدمير والاعتقال والترويع التي أصبحت تتكرر بشكلٍ يومي، ثم جاءت عملية بناء الجدار الفاصل حول مدينة القدس بشكلٍ خاص وحول القرى والمدن الفلسطينية بشكلٍ عام، فمدينة القدس أصبحت معزولة تمامًا عن باقي المدن والقرى الفلسطينية التي بدورها تحولت إلى معسكرات اعتقالٍ جماعية.
إن بناء هذا الجدار ضرب حياة الفلسطينيين على جميع المستويات: الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وسيحول حياتهم إلى جحيمٍ لا يطاق، فإلى متى يبقى العرب والمسلمون يتفرجون، وكأن ما يجري على هذه الأرض أمرٌ لا يعنيهم؟!
أيها المسلمون، إن إعلان بعض المسؤولين الإسرائيليين بأن البلدة القديمة والمسجد الأقصى المبارك ورأس العمود وغيرها من الأحياء القريبة من القدس ستبقى جزءًا من دولتهم، إنه أمرٌ في غاية الخطورة، وإنه يمثل في حد ذاته انتهاكًا صارخًا لمكانة المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال، إن المسجد الأقصى المبارك هو رمز عقيدة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فارتباط المسلمين به ارتباطٌ عقدي منذ رحلة الإسراء والمعراج، وسيبقى هذا الارتباط قائمًا إلى يوم الدين، بالرغم من كل ما نشاهده من تغييراتٍ على أرض الواقع، وما نسمعه من تصريحاتٍ تعتبر استفزازًا لمشاعر المسلمين في كل مكان.
(1/3273)
تعظيم الدماء في الإسلام
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, فرق منتسبة
محمد بن عبد الله السبيل
مكة المكرمة
7/5/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعظيم حقوق العباد. 2- جريمة قتل المؤمن بغير حقّ. 3- كثرة القتل في آخر الزمان. 4- تحريم أنفس المعاهَدين. 5- اغترار الفئة الضالة. 6- العصمة من الفتن. 7- فتنة الخوارج. 8- حقوق الولاة على الرعية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتَّقوا اللهَ تعالى، اتَّقوا ربَّكم، اتَّقوا من يعلَم سِرَّكم وجهرَكم، اتَّقوه بفِعل الطاعات والبُعد عن المحرَّمات.
عبادَ الله، لقد عظَّم الله تعالى حقوقَ العِباد، وشَدَّد في النهيِ عن الاستطالةِ على دمائِهم وأموالهم وأعراضِهم، فقال في خُطبةِ الودَاع محذِّرًا من ذلك: ((فإنَّ ماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا في بلَدِكم هذا في شهرِكم هذا، وستَلقَون ربَّكم فيسألُكم عن أعمالكم، فلا ترجِعوا بعدي كفّارًا يضربُ بعضكم رقابَ بعض)) [1].
إذا كان من أَعظمِ الأمور التي نهى الإسلامُ عنها وشدَّد النكيرَ على فاعِلها بعد الشِّرك بالله هو قتل النّفس المعصومة، فإنَّ هذا إفسادٌ في الأرض كبير، وهو أمر جلَل وجريمةٌ منكرةٌ شنيعة، حذَّر منها ربُّنا تعالى، وحذَّر منها نبيّنا ، فقد قال سبحانه وتعالى في مُحكَم كتابه: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، وتوعَّد بعظيم الجزاء على من قتلَ مؤمنًا فقال عز وجل: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وقال المصطفى : ((لو أنَّ أهلَ السمواتِ والأرضِ اجتمعوا على قتلِ مسلمٍ لأكبَّهم الله جميعًا على وجوههم في النار)) [2] ، بل حذَّر مِن مجرَّد الإعانة على القتل، رُوِي عنه أنه قال: ((من أعان على قتلِ مسلمٍ ولو بشَطر كلمة جاءَ يومَ القيامة مكتوبًا بين عينيه: آيسٌ من رحمة الله)) [3].
عبادَ الله، أين عقولُ من يدَّعون الإسلام؟! أين دينهم؟! أين خوفُهم من الله؟! ما هذا التساهُلُ في أمر الدماءِ والقتل؟! أهانَ عليهم الأمر حتى صار بعضُهم يفتي لنفسه بحِلِّ دماء الناس ثم يستحلّها؟! ولقد أخبرنا الصادقُ المصدوق خبرًا يوجبُ الحذَرَ والخوف من الله، فقد جاء في الحديث عنه أنه قال: ((إنّ بين يدَي الساعةِ الهرج)) ، قالوا: وما الهرج؟ قال: ((القتل، إنه ليس بقتلِكم المشركين، ولكن قتل بعضِكم بعضًا، حتى يقتل الرجلُ جارَه، ويقتل أخاه، ويقتل عمَّه، ويقتل ابن عمه)) ، قالوا: ومعنا عقولُنا يومئذٍ يا رسول الله؟! قال: ((إنه لتُنزَع عقول أهلِ ذلك الزمان، ويخلف لهم هباءٌ من النّاس يحسب أكثرهم أنهم على شيء، وليسوا على شيء)) [4].
فكيف يقدِم القاتِل على الفعل وهو يعلَم بشاعةَ جُرمه وفظاعةَ فِعله؟! فقد نصب له خصمًا يومَ القيامة، ففي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعتُ نبيَّكم يقول: ((يجيء المقتولُ متعلِّقًا بالقاتل، تشخب أوداجُه دمًا يقول: يا ربّ، سَل هذا فيم قتلني؟!)) [5].
أفلا يتذكَّر القاتلُ كم نَفس آذى وكم قَلب أَفزع، فهذان الوالِدان المكلومان عَصر الألمُ قلوبَهما وأذاقهما كؤوسَ العَلقم والصبر، فحنى الحزنُ ظهورَهما وهدَّ قِوامهما، وأَطفالٌ صِغارٌ فقدوا عائلَهم، ومربِّيهم ينشدون الرحمةَ في قلوب الناس، وربَّما تشتَّتت أحوالهم وتغيَّرت أخلاقُهم، في أيِّ حفرة أردَى القاتلُ فيها نفسه؟! وأيّ ورطةٍ تورَّط فيها؟! يقول ابن عمر رضي الله عنهما: (إنَّ مِن ورطات الأمورِ التي لا مخرجَ لمن أوقع نفسَه فيها سفكَ الدم الحرام بغير حلّه) [6].
عبادَ الله، لقد شدَّد الإسلامُ على أمرِ القتل وعظّمه، ولم يعصِم دمَ المسلم فحَسب، بل عَصَم دمَ المسلم ودمَ الكافر، فحرّم الاعتداءَ على مَن أمَّنه المسلمون؛ لأنَّ المسلمين يدٌ واحدة، يسعى بذمَّتِهم أدناهم، فمن قَتل مَن أمَّنوه فقد خانهم واستحقّ عقابَ الله، لقد أخرج البخاريّ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبيّ أنه قال: ((من قتل معاهَدًا لم يرَح رائحةَ الجنة، وإنَّ ريحَها ليوجد من مسيرةِ أربعين عامًا)) [7] ، قال ابن حجر رحمه الله: "والمرادُ به مَن له عهدٌ مع المسلمين، سواء كان بعقدِ جزيةٍ أو هُدنة مِن سُلطان أو أمانٍ من مسلم" [8].
عبادَ الله، ما هذه السَّكْرة التي يعيشُها من روَّع المسلمين وخالف جماعتَهم وشذّ عن طريقهم؟! أفلا يتفكَّرون إلى أين يذهبون وما هم عامِلون؟! إنهم يتَّهمون العلَماءَ والمجتمعَ بالضَّلال، وأنهم هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر في وقتٍ تخاذَل فيه الناس، فقاموا بسَفكِ الدماء وترويع الناس ظنًّا أنهم للإسلام ناصرون وللحقِّ مظهِرون، وربما تمادَوا حتى كفَّروا من كفَّروا، وجعلوا ذلك ذريعةً للقتل والتدميرِ والإفساد.
وهذه الفتنُ ـ يا عبادَ الله ـ ممّا حذّرنا منه نبيّنا غايةَ التحذير، وحفِظها عنه صحابتُه الكرام، ونقلها لنا الأئمةُ الأعلام وبيَّنوها لنا أتمَّ بيان، فقد ذكَر ما يحدُث بعدَه من الفتن ودلَّنا على ما يُؤمِّننا منها وما يحصُل لنا به الحمايةُ والسلامةُ من شرِّها، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أوصِيكم بتقوى الله والسمعِ والطاعة وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنه من يعِش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنَّتي وسنةِ الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي، تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة)) [9].
وإنَّ أوَّل الفِتن ظهورًا كانت في عهدِ صحابة رسول الله ، فخرج أُناسٌ كفَّروا أهلَ الإسلام من الصحابةِ والتابعين لهم بإحسان، فقاتلوهم وسفَكوا دِمائهم، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام عنهم أنهم يخرُجون ويقتلون أهلَ الإسلام ويدَعون أهلَ الأوثان، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان أنَّ رجلاً غائرَ العينين مُشرفَ الوجنتين ناشزَ الجبهة كَثَّ اللِّحية محلوقَ الرأس مشمِّر الإزار قال: يا رسولَ الله، اتَّق الله، قال: ((ويلك، أوَلَستُ أحقَّ أهلِ الأرض أن يتّقيَ الله؟!)) ثم ولَّى الرجلُ، فقال خالد بن الوليد: يا رسولَ الله، ألا أضربُ عنقه؟! قال: ((لا، لعلّه أن يكونَ يصلِّي)) ، فقال خالد: وكم من صلٍّ يقول بلسانه ما ليسَ في قلبه، فقال رسول الله : ((إني لم أومَر أن أنقِّبَ عن قلوبِ الناس، ولا أن أشقَّ عقولَهم)) [10].
فاتّقوا الله عبادَ الله، وصلُّوا على النبيّ ، إنّ الله سبحانه وتعالى يأمركم أن تصلُّوا على نبيّه عليه الصلاة والسلام، فصلُّوا عليه وسلِّموا تسليمًا.
[1] أخرجه البخاري في التوحيد (7447)، ومسلم في القسامة (1679) عن أبي بكرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه الترمذي في كتاب الديات (1398) عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وقال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/258): "في إسناده يزيد الرقاشي عن أبي الحكم وهو عبد الرحمن بن أبي نعم عنهما، ويزيد ضعيف جدّا، ولكن هذه الأخبار يشدّ بعضها بعضا"، ولذا صححه الألباني في صحيح الترغيب (2438، 2442).
[3] أخرجه ابن ماجه في الديات (2620)، والعقيلي في الضعفاء (4/381)، وأبو يعلى (5900)، وابن عدي في الكامل (7/259)، والبيهقي في الكبرى (8/22) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأشار المنذري في الترغيب (3/202) إلى ضعفه، وضعفه البوصيري في مصباح الزجاجة (3/122)، وهو في السلسلة الضعيفة (503).
[4] أخرجه أحمد (4/391-392، 406، 414)، وابن ماجه في الفتن (3959) وأبو يعلى (7247) من طرق عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1682).
[5] أخرجه أحمد (1/222، 240، 294، 364)، والترمذي في التفسير (3029)، والنسائي في تحريم الدم (3999، 4005)، وابن ماجه في الديات (2621)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن، وقد روى بعضهم هذا الحديث عن عمرو بن دينار عن ابن عباس نحوه ولم يرفعه"، وهو في السلسلة الصحيحة (2697).
[6] أخرجه البخاري في الديات (6863).
[7] صحيح البخاري: كتاب الجزية (3166).
[8] فتح الباري (12/259).
[9] أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
[10] صحيح البخاري: كتاب المغازي (4351)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1064) عن أبي سعيد الخدري نحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الفضلِ العظيم والمنِّ الجسيم، أنعم على عبادِه بأصناف النِّعم، وحذَّرهم من أسباب النِّقم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه.
أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، اتّقوه حقَّ تقاته ولا تموتنّ إلاَّ وأنتم مسلمون، واعلموا أنَّ تقواه سبحانه هي الحِصن الحصين الواقي من غوائلِ الفِتن والشّرور، وهي التي تيسّر الطريقَ المستقيم الذي ينجو من سلَكَه ويفوز من انتهجه.
عبادَ الله، إنَّ من توجيهاتِه لعبادِه المؤمنين السمعَ والطاعةَ لولاة الأمور ومعاونَتهم على الحقِّ وطاعتهم فيه وتذكيرَهم وتنبيههم برفقٍ ولين وحُبِّ صلاحٍ ورُشدٍ لهم وحُبِّ اجتماعٍ على الكلمة والتديّنَ بطاعتهم في طاعةِ الله سبحانه وتعالى، فقد قال : ((من أطاعني فقد أطاعَ الله، ومن عصاني فقد عصَى الله، ومن أطاع الأميرَ فقد أطاعني، ومن عصَى اللهَ فقد عصى الأمير، وإنما الإمامُ جُنَّة يتَّقى به)) [1] ، وقد جاء في الحديث عن عبادةَ بن الصامت رضي الله عنه أنّه قال: بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وأثرة علينا [2].
وصلّوا وسلِّموا ـ عباد الله ـ على رسولِه المصطفى ، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ على محمد عبدك ورسولك وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل:90، 91]. فاذكروا الله العظيمَ الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
[1] أخرجه البخاري في الجهاد (2957)، ومسلم في الإمارة (1835، 1841) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الفتن (7056)، ومسلم في الإمارة (1709).
(1/3274)
فريضة الزكاة – حادث التفجير
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, الفتن
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
19/9/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عناية الإسلام بعلاج مشكلة الفقر. 2- فرضية الزكاة. 3- فضائل الزكاة. 4- وعيد مانع الزكاة. 5- مغبة ترك الزكاة. 6- استنكار حادث التفجير. 7- عظم جرم الاعتداء على الأنفس المعصومة. 8- من أحكام الزكاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فتمسّكوا بها قولاً وعملاً، وعضّوا عليها سرًّا وجهرًا.
عبادَ الله، إنّ دينَ الإسلام دينٌ تضمّنت أحكامُه ما يكفل إصلاحَ هذه الحياةِ وقيامَها على أكمل الوجوه وما يتضمّن إقامة مجتمعٍ مثاليّ يتراحم أبناؤه ويتعاونون على مشاقّ هذه الحياة، لذا جاءت عنايتُه بعلاج مشاكلِ الفقر بما لم يسبِق له نظير، لا فيما يتعلّق بجانبِ التربية والتّوجيه، ولا فيما يتعلّق بجانب التّشريع والتنظير، ولا فيما يتعلّق بجانب التّطبيق والتّنفيذ.
وفي الوقتِ الذي ترى الدّراسات الاجتماعيّة والاقتصادية أنّ مشكلةَ الفقر معضِلة اجتماعيّة عجَز العالم المعاصرُ عن حلّها والقضاء عليها فإنّ علاجَ الفقر في الإسلام له في القرآن العناية البالغةُ، وله من السّنة الاهتمامُ البارز، بل إنّ الدراساتِ المنصِفةَ تثبت بكلّ برهان ساطعٍ أنّ الإسلام عالجَ مشاكلَ الفقر بالعلاج الجذريّ الأصيل المُقامِ على بنيانِ العدل ومبدَأ التكافُل الاجتماعيّ بنظامٍ متعدّد الأوجهِ متينِ الأسُس راسِخِ القواعِد شامِل الإصلاح.
ومِن هنا جاءت فريضةُ الزّكاة في الإسلام، فريضةٌ معلومة من الدّين بالضّرورة، فرضيتُها ثابتة بالآيات القرآنيّة والسنّة المتواترةِ وإجماعِ الأمّة كلِّها، يوصَم بالفسق من منعَها، ويُحكم بالكفر على من أنكرَ وجوبَها.
الزّكاة شعيرة كبيرةٌ وعبادة عظيمة، فريضةٌ دوريّة منتظِمة، دائمةُ الموارد مستمرّة النفع والمقاصِد، فريضةٌ مقاصِدها إغناء الفقراء وذوي الحاجات إغناءً يستأصِل شأفةَ العوَز من حياتِهم ويُقدِرهم على أن ينهَضوا وحدَهم. هي حقٌّ للفقراء في أموالِ الأغنياء، ليس فيها معنًى مِن معاني التفضُّل والامتِنان، وليست إحسانًا اختياريًّا، إنّما فريضةٌ تتمتّع بأعلى درجاتِ الإلزامِ الخلُقيّ والشرعيّ، يقول ربّنا جلّ وعلا: تِلْكَ ءايَـ?تُ ?لْقُرْءانِ وَكِتَـ?بٍ مُّبِينٍ هُدًى وَبُشْرَى? لِلْمُؤْمِنِينَ ?لَّذِينَ يُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَهُم بِ?لآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [النمل:1-3].
معاشرَ المسلمين، الزّكاة سببٌ للنّجاة من كلّ مرهوب، وطريقٌ للفوز بكلّ مرغوب فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى? لاَ يَصْلَـ?هَا إِلاَّ ?لأَشْقَى ?لَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى? وَسَيُجَنَّبُهَا ?لأَتْقَى ?لَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى? [الليل:14-18]. وسيّدنا وحبيبُنا ونبيّنا محمّد يقول موجِّهًا للأمّة: ((اتقوا الله ربَّكم، وصلّوا خمسَكم، وصوموا شهرَكم، وأدّوا زكاةَ أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنّة ربّكم)) صحّحه الحاكم ووافقه الذهبي [1].
إخوةَ الإيمان، لقد وجّه الله جلّ وعلا وعيدَه الشديد لمانِعي الزّكاة والمتهاونين فيها فقال: وَ?لَّذِينَ يَكْنِزُونَ ?لذَّهَبَ وَ?لْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ?للَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى? عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى? بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـ?ذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35]، بل وجعلها الله جلّ وعلا أحدَ المقوّمات التي يتميّز بها المؤمن من المنافق: ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لْمُنَـ?فِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ [التوبة:67]، ونبيّنا حذّر أمتَه من التهاون في الزكاةِ والتساهل في إخراجها بأساليبَ شتّى وتوجيهاتٍ لا تُحصَى، فقد أنذر عليه الصلاة والسلام من التهاون بالزّكاة وحذّر على ذلك بالعذاب الغليظِ في الآخرة، لينبّه القلوبَ الغافلة ويحرّكَ النفوس الشّحيحة إلى الحِرص عليها والاهتمام بشأنها، فقد روى البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاتَه مُثِّل له يومَ القيامة شجاعًا أقرع ـ أي: كناية عن أخبث الحيّات ـ له زبيبتان، يطوّقه يومَ القيامة، ثمّ يأخذ بلهزمَتَيه ـ يعني بشدقيه ـ ثمّ يقول: أنا مالك، أنا كنزك)) ، ثم تلا النبيّ قوله جلّ وعلا: وَلاَ يَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [آل عمران:180] [2].
وروى مسلم في صحيحِه عن النبيّ أنّه قال في الحديث الطويل: ((ما مِن صاحبِ ذهبٍ ولا فضّة لا يؤدّي منها حقّها إلاّ إذا كان يوم القيامة صُفِّحت له صفائح من نار، فأحمِي عليها في نارِ جهنّم، فيكوَى بها جنبُه وجبينه وظهره، كلّما بردَت أعيدَت له في يوم كان مقداره خمسين ألفَ سنة، حتى يُقضى بين العباد، فيُرى سبيله إمّا إلى الجنة وإما إلى النّار)) الحديث [3].
وقد جاءت امرأةٌ إلى رسولِ الله ومعها ابنةٌ لها، وفي يدِ ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها النبيّ : ((أتعطِين زكاةَ هذا؟)) قالت: لا، قال: ((أيسرُّك أن يسوِّرك الله بهما يومَ القيامة سوارين من نار؟!)) قال: فقلعَتهما فألقتهما إلى النبيّ وقالت: هما لله عزّ وجلّ ولرسوله. رواه أبو داود والترمذيّ وهو حديث حسن [4].
فيا مَن أنعم الله عليهم بالنّعم المتوافِرة وفضّلهم بالأموالِ المتكاثِرة، تذكّروا من يعيشون تحت وطأة البؤس ويقاسون همومَ الحاجة، تذكّروا أنّ مِن أعظم الوِزر وأكبرِ الجرم أن يتناسى أهل الجود والغِنى الفقراءَ الذين لا موردَ لهم والنّساء اللاتي لا عائلَ لهنّ والأيتام الذين لا آباء لهم والمشرَّدين الذين لا سكَن لهم، فدينكم جليّ واضحٌ في أوامرِه الإلزاميّة وتوجيهاته القاطِعة التي تذكّركم بعِظم فريضةِ الزّكاة التي تعتمِد في تنفيذها على القوّة والسّلطان، مع اعتمادها على الضّمير والإيمان، وَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتُواْ ?لزَّكَو?ةَ [النساء:77]، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (أُمرتُم بإقامةِ الصلاة وإيتاء الزكاة، ومَن لم يزكِّ فلا صلاةَ له) [5] ، فربّنا جلّ وعلا يقول: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ?لدّينِ [التوبة:11].
معاشرَ الأمّة، إنّ على الأمّة الإسلاميّة أن تدركَ أنّ مِن أسباب خذلانِها وعوامل هزيمتِها تعطيلَ بعض أبنائها فريضةَ الزكاة، فإنّ الله جلّ وعلا يقول: وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لأمُورِ [الحج:40، 41]. ولذا فمِن وصايا السنّة المطهَّرة للمجتمع المسلم التذكيرُ بأنّه متى فشا تركُ الزكاة نُزعت البركات ووقعَت البلايا والمجاعات، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما منَع قوم الزكاةَ إلاّ ابتلاهم الله بالسّنين)) رواه الطبرانيّ في الأوسط ورواته ثقات [6] ، وعنده أيضًا وعند ابن خزيمة مرفوعًا: ((مَن أدّى زكاة ماله فقد ذهَب عنه شرّه)) [7] ، وفي حديثٍ آخر: ((ولم يمنَعوا زكاةَ أموالهم إلا مُنعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطَروا)) [8].
معاشرَ المسلمين، إنّكم في شهرِ رمضان، شهر ترقّ فيه الطّباع وتتهذّب فيه النّفوس وتتحرّك المشاعر الطيّبة وتحنو إلى الخيرِ النفوس الخيِّرة.
فيا أيّها الأغنياء الفُضلاء، تذكّروا الأيتامَ والضعفاء والأراملَ والفقراء، فلهم في أموالِكم حقوق مفروضةٌ وواجبات لازمة، أنتم مسؤولون عنها ومحاسَبون عليها، يقول الخليفة الراشد علي رضي الله عنه: (إنّ الله فرض على أغنياءِ المسلمين في أموالِهم بقدر ما يسَع فقراءَهم، ولن يجهدَ الفقراء إذا جاعوا إلاّ بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإنّ الله يحاسِبهم حسابًا شديدًا) سنده جيد [9].
فاتّقوا الله عبادَ الله، وأدّوا زكاةَ أموالكم طيّبةً بها نفوسكم، تحصّنوا بالزّكاة من شرور أموالِكم، وطهّروا بها دينَكم ودنياكم، خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].
فيا مَن أضعفته نفسُه عن إخراجِ ما أوجب الله، ألا تخشى من سَخط الله؟! ألا تخشى أن يعتريَك ما يصيبك في مالِك ويصيبك في بدنك، فيحرمك من لذّة الانتفاع به؟! فنبيّنا يقول: ((تعِس عبد الدّينار، تعِس عبد الدّرهم، تعس عبدُ الخميلة، تعِس عبد الخميصة، إن أُعطي رضِي، وإن لم يُعطَ سخِط، تَعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)) رواه البخاري [10] ، وفي الحديث أيضًا: ((ينادى في كلّ صباح ومساءٍ ملكان: اللهمّ أعطِ كلَّ منفقٍ خلفًا وكلّ ممسك تلفًا)) رواه البخاري [11].
إخوةَ الإيمان، لقد فوجِئ المسلمون في كلّ مكانٍ كما فوجِئ غيرُهم بحدَثٍ جسيم وواقعةٍ عظيمة يشيب الولدان لهولِها ويتصدّع القلب حزنًا لفظاعتها ويعجز القلمُ واللسان عن تصوير مآسيها أو الإحاطة بإدراكِ مضامين ضررِها وشرّها وهول قُبحِها وإجرامها، إنّها ـ عبادَ الله ـ حادثةُ التفجير الواقعِ في الرّياض في ليلةِ الأحد الماضي، والعجَب العُجاب أن يكونَ ذلك في شهرٍ أعلى الله شأنَه وأكرم منزلتَه، لذا فهي حادثةٌ تضمّنت جرائمَ عظمى وقبائح كبرى، نالت ضروريّات الدنيا والدين معًا، وأضرّت بالبلاد والعبادِ جميعًا. إنّها حادثة يجمِع المسلمون على استنكارِها وقُبحها وتجريمها، ويتّفق علماء الأمّة على عِظم جرمِها وكبير وِزرها، ولا غروَ فهي واقعةٌ اجتمع لها من عناصِر المحرّمات القطعيّة كمٌّ هائل، وتضمّنت من أسباب المخالفةِ للوحيَين شيئًا كثيرًا، وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا [الأعراف:56]، وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64].
حادثةٌ ينتظِمها قولُه جلّ وعلا: وَ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بِغَيْرِ مَا ?كْتَسَبُواْ فَقَدِ ?حْتَمَلُواْ بُهْتَـ?نًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب:58].
جنايةٌ لا يقِرّها عقل ولا يؤيِّدها منطقٌ ولا تقرّها شريعة، فرسولنا يقول: ((كلّ المسلمِ على المسلِم حرام؛ دمُه وماله وعِرضه)) [12] ، ((إنّ دماءَكم وأموالكم وأعراضَكم عليكم حرام، كحرمة يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهركم هذا)) [13] ، ويقول : ((لن يزال المؤمنُ في فسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا)) رواه البخاري [14].
عبادَ الله، أيّها المسلمون في كلّ مكان، إنّ هذه الحادثةَ قد نالت مِن المسلمين الغافِلين الآمنين، قتَلت وأصابت وأحرَقت وهدّمت وخرّبت، فبأيّ ذنبٍ قُتلت تلك الأنفس؟! وبأيِّ حقّ دُمِّرت تلك المباني؟! ما هو موقِف الفاعلين أمامَ الربّ جلّ وعلا وقد قال لعباده: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]؟! إنّه اعتداءٌ على تعاليمِ الإسلام الحقِّ الذي حرصَ كلَّ الحِرص على حماية الضروريّات الخمس، كيف وقد قال سيّدنا ونبيّنا : ((من حمَل علينا السّلاح فليس منا)) [15] ، ((من أشار إلى أخيه بحديدةٍ فإنّ الملائكة تلعنه)) [16] ؟!
إنّه عمل تضمّن كلَّ تخريبٍ واشتمل على كلّ فساد، ترويعٌ للمسلمين وقتلٌ للمؤمنين ونقضٌ للمواثيق والعهود، ولقد قال : ((ومن خرج على أمّتي يضرِب بَرّها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمِنها ولا يفي لذي عهدٍ عهدَه فليس منّي ولستُ منه)) [17] عياذًا بالله من ذلك.
كيف موقفُ أولئك المنتهكِين للحرماتِ يومَ يعرَضون على الله وقد حذّرهم بقوله: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:68، 69]؟! كيف موقفُ أولئك المقدِمين على قتلِ المسلمين وقد قال النبيّ : ((أكبرُ الكبائرِ الإشراك بالله وقتل النّفس وعقوق الوالدين وقولُ الزور)) [18] ؟! كيفَ هم وأينَ هم من قولِ المصطفى : ((إذا التقى المسلمان بسيفَيهما فالقاتل والمقتول في النار)) ، قلت: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: ((إنّه كان حريصًا على قتل صاحبه)) [19] ، فإذا كان هذا الوعيدُ على مجرّد القصد من المقتول، فكيف بمَن تعمّد وقصَد ثمّ فعل؟!
إنّ الإسلامَ شدّد في قضيّة الدماء المعصومةِ وقتلِ الأنفس البريئة، قال عليه الصلاة والسلام: ((كلّ ذنبٍ عسى الله أن يغفرَه إلاّ من مات مشركًا أو مؤمن قتلَ مؤمنًا متعمّدًا)) [20] ، وفي حديثٍ عند النسائيّ بسند حسن: ((كلّ ذنب عسى الله أن يغفرَه إلاّ الرجل يقتل المؤمنَ متعمّدًا أو الرّجل يموت كافرًا)) [21]. بل إنّ الإسلامَ يرى أنّ قتلَ نفسٍ واحدة معصومة أشدّ عند الله جلّ وعلا من زوالِ الدنيا بأسرها: ((لزوال الدنيا أهونُ عند الله من قتلِ رجلٍ مسلم)) رواه النسائيّ بسند حسن [22].
إنّ هذه الحادثةَ وقعت على أبرياء آمنين، يعيشون موسِمًا طيّبًا، إنّها ليالي رمضان، فيفاجؤون بتلك المصيبةِ العظمى بدون ذَنب ارتكبوه ولا عن جرمٍ عمِلوه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من أمّن رجلاً على دمِه فقتله فإنّه يحمِل لواءَ غدرٍ يومَ القيامة)) رواه ابن ماجه [23]. وإذا كان الأمر كذلك فكيفَ بهذه الأنفسِ التي كانت تعيش في ظلّ أمنِ هذا المجتمع المسلم وأخلاقِ المجتمعِ المؤمن.
إنّ الدماءَ خطرُها كبير، وموقفُ الحساب فيها عسير، فنبيّنا يقول: (( يجيء المقتول بالقاتل يومَ القيامة، ناصيتُه ورأسه بيده، وأوداجه تشخَب دمًا، يقول: يا ربّ، قتلني هذا حتى يدنِيه من العرش)) رواه أحمد بسند قويّ [24] ، وفي الصحيحين: ((إنّ أوّل ما يقضى بين الناس في الدماء)) [25] ، ومِن هنا يوجِز عبد الله بن عمر رضي الله عنه مشكاةَ النبوّة ومدرستَها بقوله: (إنّ من ورطات الأمور التي لا مَخرج لمن أوقعَ نفسَه فيها سفكَ الدّم الحرام بغير حلِّه) [26] ، لذا فإنّنا ومِن هذا المِنبر المبارك الطّاهر ننادي من تسوِّل له نفسه مثلَ هذه الأفعال الشنيعةِ أن يخشَوا ربّهم جلّ وعلا ويتّقوا خالقَهم عزّ وجلّ، والله جلّ وعلا يتوب على من تاب وأناب وأصلح وأحسَن، فسيّدنا ونبيّنا يقول: ((من زلّ فليتُب، ولا يتمادَ في الهلكة، إنّ من يتمادى في الجَور كان أبعدَ عن الطريق)) [27].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا وإيّاكم بالسنّة، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/251، 262)، والترمذي في الجمعة (616)، والطبراني في الكبير (8/115، 136، 138، 154، 161، 174،) عن أبي أمامة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4563)، والحاكم (19، 1436، 1741)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (867).
[2] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1403).
[3] صحيح مسلم: كتاب الزكاة (987) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] سنن أبي داود: كتاب الزكاة (1563)، سنن الترمذي: كتاب الزكاة (637) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أحمد (2/204)، والنسائي في الزكاة (2479)، وحسنه النووي في المجموع (6/33)، والألباني في صحيح الترغيب (768).
[5] أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (693)، والطبري في تفسيره (10/87)، والطبراني في الكبير (10/103)، قال المنذري في الترغيب (1/307): "رواه الطبراني في الكبير موقوفا هكذا بأسانيد أحدها صحيح"، وتبعه الهيثمي في المجمع (3/62)، وفي سنده عنعنة أبي إسحاق السبيعي، ولذا ضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (465).
[6] المعجم الأوسط (4577، 6788) عن بريدة رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب (1/309)، والهيثمي في المجمع (3/66): "رجاله ثقات"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (763).
[7] المعجم الأوسط (1579)، صحيح ابن خزيمة (2258) عن جابر رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (3/63): "إسناده حسن وإن كان في بعض رجاله كلام"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (743).
[8] أخرجه ابن ماجه في الفتن، باب: العقوبات (4019)، والطبراني في الكبير (12/446) والأوسط (5/62)، والبيهقي في الشعب (3/197) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (5/318): "رجاله ثقات"، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[9] أخرجه سعيد بن منصور في سننه (931)، والبيهقي في الكبرى (7/23)، وروي مرفوعا إلى النبي ولا يصح، قال المنذري في الترغيب (1/306): "الموقوف أشبه".
[10] صحيح البخاري: كتاب الجهاد (2887) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[11] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (2887) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو عند مسلم أيضا في الزكاة (1010).
[12] أخرجه مسلم في البر (2564) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[13] أخرجه البخاري في العلم (67، 105)، ومسلم في القسامة (1679) عن أبي بكرة رضي الله عنه، وورد عن غيره من الصحابة.
[14] صحيح البخاري: كتاب الديات (6862) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[15] أخرجه البخاري في الفتن (7070، 7071)، ومسلم في الإيمان (98، 100) عن ابن عمر وعن أبي موسى رضي الله عنهما، وورد عن غيرهما من الصحابة.
[16] أخرجه مسلم في البر (2616) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[17] أخرجه مسلم في الإمارة (1848) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[18] أخرجه البخاري في الديات (6871)، ومسلم في الإيمان (88) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[19] أخرجه البخاري في الإيمان (31)، ومسلم في الفتن (2888) عن أبي بكرة رضي الله عنه.
[20] أخرجه أحمد (4/99)، والنسائي في تحريم الدم (3984)، والطبراني في الكبير (19/365) عن معاوية رضي الله عنه، وصححه الحاكم (8031)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (511). وفي الباب عن عبادة وأبي الدرداء رضي الله عنهما.
[21] سنن النسائي: كتاب تحريم الدم (3922) عن معاوية رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (3719).
[22] سنن النسائي: كتاب المحاربين (3922) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا الترمذي في الديات (1315) وقال الترمذي: "وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعقبة بن عامر وابن مسعود وبريدة"، وأشار إلى أن وقفه أصح من رفعه، وكذا رجح وقفه البيهقي في الكبرى (8/22)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (439).
[23] ابن ماجه: كتاب الديات (2688) عن عمرو بن الحمق رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (5/223، 224، 436)، والنسائي في الكبرى (5/225)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2345)، والبزار (2306)، والطحاوي في شرح المشكل (1/77)، وقال البوصيري في الزوائد (3/136): "إسناده صحيح، رجاله ثقات"، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (440).
[24] مسند أحمد (1/240، 294، 364), وأخرجه أيضا النسائي في تحريم الدم, باب: تعظيم الدم (3934), والترمذي في تفسير القرآن, باب: ومن سورة النساء (2955) وحسنه, وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2697).
[25] صحيح البخاري: كتاب الديات (6864)، صحيح مسلم: كتاب القسامة (1678) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[26] أخرجه البخاري في الديات (6863).
[27] علقه الطبري في تاريخه (2/659) عن محمد بن عمر الواقدي عن علي بن عمر عن أبيه عن عثمان رضي الله عنه به مرفوعا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والش ّ كر له على توفيقه وامتنان ِ ه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد َ ه لا شريك له تعظيمًا لشأنه ، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الدّاعي إلى رضوانه ، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابِه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله جلّ وعلا.
أيّها المسلمون، الزّكاة حقٌّ معلوم قدّر الشرع أنصبتَه ومقاديرَه وحدودَه وشروطَه ووقتَ أدائه وطريقة أدائه، حتى يكونَ المسلم على بيّنة من أمره ومعرفةٍ بما يجب عليه وكَم يجِب ومتى يجب.
فعلى كلّ مسلم أن يكونَ على بيّنة من تلك الأحكامِ وعلى درايةٍ بتلك التعاليم عن طريق سؤالِ أهل العلم والاستيضاح من أولي العرفان، فَ?سْأَلُواْ أَهْلَ ?لذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43].
فالزّكاة تجِب في الأثمانِ وهما الذّهب والفضّة بأنواعهما، ويلحَق بهما الأوراق الماليّة التي جعلها الناس أثمانًا وأقيامًا، كما تجب في الخارجِ من الأرضِ مِن كلّ حبّ وثمَر يُكال ويدَّخر، كما تجِب في بهيمةِ الأنعام وعروض التّجارة وهي كلّ ما أُعِدّ للبيع والاكتساب أيًّا كان نوعُها، سواء كانت من العقارات كالأراضي والدّور أو كانت من غيرها، فإذا حال الحولُ على هذه العروض قوِّمت قيمةَ السوق وأخرَج مالكها زكاتَها من مقدار قيمتِها ربعَ العشر، أمّا من أعدّ عقارًا للإيجار لا للبَيع والاتّجار فالزّكاة في أجرةِ العقار إذا حال عليها الحول.
ثمّ اعلموا أنّ الله جلّ وعلا أمرنا بأمرٍ تزكو به أنفسُنا وتعظم به درجاتنا، ألا وهو الإكثار من الصّلاة والسّلام على النبيّ الكريم.
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاءِ الراشدين...
(1/3275)
نابتة العَصر
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, فرق منتسبة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
30/4/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية مطلب الأمن. 2- فوائد الأمن وثمراته. 3- مفاسد اختلال الأمن. 4- جريمة الإخلال بالأمن. 5- حفظ حقوق أهل الذمة والمعاهَدين والمستأمَنين. 6- واجب الأمة تجاه الفئة الضالة. 7- فضل رجال الأمن. 8- خطاب للخارجين عن الجماعة وللملبَّس عليهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتّقوا الله رحمكم الله.
كيفَ يأنسُ بالدّنيا مفارقُها؟! وكيف يأمَن النارَ واردُها؟! وأين الحزمُ والمبادرة ممّن يومُه يهدِم شهرَه، وشهرُه يهدِم سنتَه، وسنتُه تهدِم عُمرَه؟! العمرُ يقود إلى الأجَل، والحياة تقود إلى الموت، ودقّاتُ قَلب المرء وأنفاسُه هي الطريقُ إلى المصير، والبقاء في الدنيا سبيلُ الفناء، فاتّقوا الله رحمكم الله، وكونوا ممّن بادرَ الأعمالَ واستدركَها، وجاهَد النفسَ حتى مَلكَها، وعرف سبيلَ التّقوى فسَلكها، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18، 19].
أيّها المسلمونَ، الأمنُ مطلبٌ عزيزٌ، هو قِوامُ الحياةِ الإنسانيّة وأسَاسُ الحضارةِ المدنيّة، تتطَلّع إليه المجتمعات، وتتسابَق لتحقيقِه السّلُطات، وتتَنافس في تأمينهِ الحكومات، تُسَخَّر له الإمكانات الماديّة والوَسائلُ العلميّة والدِّراسات الاجتماعيّة والنّفسيّة، وتُحشَد لَه الأجهزةُ المدنيّة والعسكريّة، وتُستَنفَر له الطَّاقات البشريّة.
مَطلبُ الأمنِ يَسبِق طلبَ الغِذاء، بغيرِ الأمن لا يُستَساغ طعام، ولا يَهنَأ عيش، ولا يَلذُّ نوم، ولا يُنعَم براحَة، قال أهلُ الحكمةِ: الخائفُ لا عَيشَ له، وفي التنزيل العزيز: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3، 4].
الأمنُ مقرونٌ بالإيمان: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، وفي الحَديث: ((المؤمِن مَن أمِنَه النّاس على دمائهم وأموالهم)) [1]. والسّلام مقرونٌ بالإسلام: ((المسلم مَن سلِم المسلمون مِن لسانه ويدِه)) [2]. ومَن دخل في الإسلام فقد دخل في دائرة الأمن: ((مَن قال: لا إله إلا الله وكفَر بما يُعبَد من دونِ الله حرُم مالُه ودمه، وحسابُه على الله عزّ وجلّ)) [3].
ولئن كانَ الأمن يتوفَّر برسوخِ الإيمان في القلوب وتَطهير الأخلاق في السّلوك وتصحيح المفاهيمِ في العقول فإنّه لا بدَّ مَع ذلك مِن الشّرعِ العادِل والسّلطان القويِّ والولاية الحاكمة، لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25].
في ظلِّ الأمنِ تحفَظُ النّفوسُ، وتُصانُ الأعراضُ والأموَالُ، وتأمَنُ السّبُل، وتُقامُ الحدود، ويسود العمرانُ، وتنمُو الثّروات، وتتوافَر الخيرات، ويكثُر الحرثُ والنّسلُ. في ظلِّ الأمنِ تقوم الدعوةُ إلى الله، وتُعمَرُ المساجدُ، وتُقام الجُمَع والجماعات، ويسودُ الشّرع، ويفشو المعروف، ويقلُّ المنكَر، ويحصُل الاستقرارُ النفسيُّ والاطمئنان الاجتماعيُّ.
وإذا اضطربَ الأمنُ ـ عياذًا بالله ـ ظهَرتِ الفتَنُ، وتزلزَلت الأمّةُ، وتخَلخَلت أركانُها، وكثُر الخبَث، والتبَسَ الحقّ بالباطِل، واستعصَى الإصلاحُ على أهلِ الحقّ. إذا اختلَّ الأمن ـ عياذًا بالله ـ حكَم اللّصوصُ وقُطّاع الطرُق، وسادَت شريعةُ الغَاب، وعمّت الفوضَى، وهلك النّاس. وتأمّلوا بُلدَانًا مِن حَولِكم اختلَّ فيها الأمن، فهلَك فيها الحرثُ والنّسل، وسُلِبت الأموال، وانتُهِكت الأعراض، وفسدَ المعاش، فلا حولَ ولا قوّة إلاّ بالله.
ومِن أجلِ هذا فإنّ كلَّ عمَلٍ تخرِيبيٍّ يستهدِفُ الآمِنين ومَعصومِي الدّماء والنّفوس المحرّمة فهو عملٌ إجراميّ محرَّم مخالفٌ لأحكامِ شرعِ الله، فكيفَ إذا كانَ القتلُ والتخريبُ والإفساد والتدمير في بلدٍ مسلِم، بلدٍ يُعلِي كلمةَ الله، وترتفِع فيه راية الدِّين والدّعوة وعِلمُ الشَّرع وعَلَم الشّرع وحُكمُ الشّرع؟! ثمّ كيفَ إذا كانَ ذلك في مهبطِ الوحيِ ومبعَث الرِّسالة، في أقدسِ المقدّسات، في دارِ الإسلام دارِ الإيمان التي يأرِز إليها الإسلام والإيمان؟! إنّ ذلك كلّه يزيدُ الحرمَة حرمةً والإلحادَ إلحادًا، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
فكَم من نفس معصومةٍ أُزهِقت، وكَم مِن أموالٍ وممتَلكات محتَرمَة أُتلِفت، وكَم من نفسٍ آمنةٍ رُوِّعت. مفاسدُ عظيمة، وشرور كثيرة، وإفسادٌ في الأرض، وترويعٌ للآمنين، ونقضٌ للعهود، وتجاوزٌ على إمامِ المسلمين. جرائمُ نَكراء، في طيِّها منكرات.
فئةٌ ضالّة وشِرذِمة ظالمة، لقد جمَعوا بين منكرات، وأقدَموا على جَرائم، واقتحَموا آثامًا. أزهَقوا الأنفسَ المعصومةَ من المسلمين وغير المسلمين، من المعاهَدين والمستأمَنين، وكأنّهم لا يَتلون كتاب الله ولا يقرؤون سنةَ رسول الله. لم يسمَعوا قول الله عزّ وجلّ: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، وفي الحديث الصّحيح: ((لا يزالُ المسلم في فُسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا)) [4].
ولقد علِم كلّ ذي عِلمٍ من أهل الإسلام أنَّ قتلَ النفس بغير حقّ من أكبرِ الكبائر، وهي قرينَة الإشراكِ بالله عياذًا بالله، وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الفرقان:68]، وفي الحديثِ الصّحيح: ((أكبر الكبائر الشّرك بالله وقتل النفس)) [5] ، وعن ابنِ عمر رضي الله عنهما: (إنَّ مِن وَرطات الأمورِ التي لا مخرَج منها لمن أوقَع نفسَه فيها سَفكَ الدمِ الحرامِ بغير حِلِّه) أخرجه البخاري [6] ، ويقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((كلّ ذنبٍ عسَى الله أن يغفرَه إلاّ الرجُل يموتُ مشرِكًا أو يقتل مؤمنًا متعمِّدًا)) [7] ، ويقولُ : ((مَن قتلَ مؤمنًا فاغتَبطَ بقتله لم يَقبلِ الله منه صَرفًا ولا عدلاً)) [8] ، وعند الترمذيّ: ((لو أنَّ أهلَ السماءِ والأرض اشترَكوا في دمِ مؤمن لأكبّهم الله في النّار)) [9] ، وعند البخاري في صحيحه: ((مَن قتل معاهَدًا لم يرَح رائحةَ الجنّة، وإنّ ريحها يوجَد من مسيرةِ أربعين عاما)) [10].
لقد أتلفوا أموالَ المسلمين وممتلكاتهم بغير وَجه حَقّ، وكأنه لم يطرُق أسماعَهم حديثَ رسول الله : ((إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرام، كحُرمةِ يومكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدِكم هذا)) [11] ، و((كلُّ المسلم على المسلم حرام؛ دمُه وماله وعِرضُه)) [12].
روَّعوا الآمنين، وقد حذّر رسول الله من ذلك أشدَّ التحذير فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يحلُّ لمسلم أن يروِّعَ مسلمًا)) [13]. وحَملوا السلاحَ على مسلمين، وقد نهى رسول الله عن مجرَّد الإشارة فكيف بالإشهار به والقتل والإعانة؟! وفي الحديث: ((لا يشِر أحدُكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدرِي لعلّ الشيطانَ ينزع في يده فيقع في حفرةٍ من النار)) [14]. فأيُّ وعيد أشدُّ من هذا؟! فنعوذ بالله من الضلالِ والخذلان، وفي الحديث الآخر: ((من أشارَ إلى أخيه بحديدةٍ فإنّ الملائكةَ تلعنُه حتى تنتهيَ وإن كان أخاه لأبيه وأمته)) [15].
عبادَ الله، إذا كان هذا في حملِ السلاح والإشارة به فكيف بمن استعمَلهُ في إزهاق النفوسِ المعصومة وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من حمل السلاحَ فليس منّا)) [16] ؟!
أيّها المسلمون، وأهلُ الذمّة والمعاهَدون والمستأمَنون محفوظةٌ حقوقُهم في الإسلام وفي دِيار المسلمين، دماؤهم معصومَة، وأموالهم محتَرمة، يستوون في ذلك مع المسلمين لعموم النّصوص وخصوصِها في أهل الذمة والمعاهَدين، قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151]، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]. والنبيّ يقول: ((مَن قتل معاهدًا لم يرح رائحةَ الجنة، وإنَّ ريحَها يوجَد من مسيرة أربعين عامًا)) [17]. فلا يصحّ في دين الإسلامِ إيذاؤهم ولا التعدّي عليهم في أنفسِهم ولا أموالهم ولا ممتلكاتِهم ولا أهلهم. وفي السنن الكبرى عن عليّ : (مَن كانت له ذمَّتُنا فدمُه دمُنا) [18].
وأهلُ الذمّة والمعاهَدون والمستأمَنون ممّن تجب معاملتُهم بالبرِّ والقِسط على حدِّ قولِه سبحانه: لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]، بل حتى الجدال معهم أُمِرنا نحن المسلمين أن يكونَ معهم بالتي هي أحسن: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46].
واستمِع يا رعاك الله، واستمع هدانا الله وإياك، استمِع إلى موقفِ شيخ الإسلام وهو يفاوِض في فكِّ الأسرى، يقول رحمه الله: "لا نرضَى إلاّ بافتكاك جميعِ الأسرى من اليهودِ والنصارى، فهم أهلُ ذمَّتِنا، ولا نَدَع أسيرًا، لا من أهل الذمّة ولا من أهل الملّة" [19] مع أنه كان في حربٍ مع الصَّليبيّين.
هذه بعضُ النصوصِ والأحكام وكلام بعض المحقِّقين من أهل العلم، فهلاَّ اتَّقى الله هؤلاء، ناهيك عمّا وقعوا فيه من شقِّ عصا الطاعةِ ومفارقةِ الجماعة، فذلك كبيرةٌ من كبائر الذنوب، ففي الحديث الصحيح: ((من خرج من الطاعة وفارق الجماعةَ فمات مات مِيتةً جاهلية)) [20] ، فلا حولَ ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.
جرائمُ لا يُقدِم عليها إلاّ مَن طُمِسَت بصيرتُه وزُيِّن له سوءُ عمله فرآه حسنًا، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]، وقال سبحانه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر:8].
وبعد: أيّها المسلمون، فإنّ المسؤولية عُظمَى، والجميعُ في سفينةٍ واحدةٍ، ومن خرَقَها أغرقَ الجميعَ. إنّ التهاونَ والتساهُل يؤدّي إلى انفلاتٍ وفوضَى، وإنّ الإحساسَ الجادَّ بالمسؤولية وخطرِ النتائج هو الذي يحمِل كلَّ عاقلٍ وكلَّ مخلِص على رفضِ هذه الأعمالِ وعدَم قَبول أيِّ مُسوِّغٍ لها ولزوم فضح أهلها وآثارها ونتائجها، وليحذر المسلمُ أن يصدُر منه شيءٌ يُثير الفتنة أو يسوّغ لهؤلاء وأمثالهم ضلالهم وجهلَهم وإجرامَهم.
ومع يقينِ المؤمن أنّ الله حافظٌ دينَه ومُعلٍ كلمتَه وجاعلٌ كيدَ الكائدين في تضليلٍ إلاّ أنّ المسؤوليّة عظيمة، فلا بدّ من الوقفةِ الصارمة من أجلِ وضعِ الأشياء في مواضعِها والأسماء في مسمَّياتها، فالإسلامُ إسلام، والإجرام إجرامٌ، والإصلاح غيرُ الفَساد، وإيذاءُ المؤمنين وسَفكُ دماءِ المسلمين والتجاوز على المعاهَدين غير الجهاد المشروع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:204، 205].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبهدي محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/379)، والترمذي في الإيمان (2627)، والنسائي في الإيمان (4995) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (180)، والحاكم (22)، وحسنه ابن تيمية كما في المجموع (7/7-8)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2118).
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (10، 11)، ومسلم في الإيمان (40، 42) عن عبد الله بن عمرو وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا مسلم في الإيمان (41) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[3] أخرجه مسلم في الإيمان (23) من حديث طارق بن أشيم رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الديات (6862) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[5] أخرجه البخاري في الديات (6871)، ومسلم في الإيمان (88) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[6] صحيح البخاري: كتاب الديات (6863).
[7] أخرجه أحمد (4/99)، والنسائي في تحريم الدم (3984)، والطبراني في الكبير (19/365) عن معاوية رضي الله عنه، وصححه الحاكم (8031)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (511). وفي الباب عن عبادة وأبي الدرداء رضي الله عنهما.
[8] أخرجه أبو داود في الفتن (4270)، والطبراني في مسند الشاميين (1311) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2450).
[9] سنن الترمذي: كتاب الديات (1398) عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وقال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/258): "في إسناده يزيد الرقاشي عن أبي الحكم وهو عبد الرحمن بن أبي نعم عنهما، ويزيد ضعيف جدّا، ولكن هذه الأخبار يشد بعضها بعضا"، ولذا صححه الألباني في صحيح الترغيب (2438، 2442).
[10] صحيح البخاري: كتاب الجزية (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[11] أخرجه البخاري في العلم (67)، ومسلم في القسامة (1679) عن أبي بكرة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري أيضا في الحج (1639) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وثبت عن غيرهما من الصحابة.
[12] أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6066)، ومسلم في كتاب البر (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[13] أخرجه أحمد (5/362)، وأبو داود في الأدب (5004)، وابن أبي شيبة في مسنده (958، 959، 971)، وهناد في الزهد (1345)، والقضاعي في مسند الشهاب (878)، والبيهقي في الكبرى (10/249) عن رجال من أصحاب النبي ، وحسنه العراقي كما في فيض القدير (6/447)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (447). وفي الباب عن أبي هريرة وأنس والنعمان بن بشير وابن عمر رضي الله عنهم.
[14] أخرجه البخاري في كتاب الفتن (7072)، ومسلم في كتاب البر (2617) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[15] أخرجه مسلم في البر (2616) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[16] أخرجه البخاري في كتاب الفتن (7070، 7071)، ومسلم في كتاب الإيمان (98، 100) عن ابن عمر وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما. وصح أيضا من حديث سلمة بن الأكوع وأبي هريرة رضي الله عنهما عند مسلم في الإيمان (99، 101).
[17] أخرجه البخاري في الجزية (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[18] السنن الكبرى (8/34) وأخرجه محمد بن الحسن في الحجة (4/353-355)، وعنه الشافعي في مسنده (ص344)، والدارقطني في السنن (3/147)، وفي سنده أبو الجنوب الكوفي الراوي عن علي قال الدارقطني: "ضعيف الحديث"، وانظر: السلسلة الضعيفة (3/224).
[19] انظر: مجموع الفتاوى (28/ 617-618).
[20] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1848) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبةُ للمتقين، ولا عدوانَ إلا على الظالمين، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له قيّوم السموات والأرضين، وأشهَد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين وقائدُ الغرِّ المحجَّلين، صلَّى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ ما استطعتم، وتدارَكوا بالتوبةِ النصوح ما فرَّطتم.
أيّها المسلمون، هذه البلادُ ـ ولله الحمد ـ مستمسِكة بدينها، متماسكةٌ تحت ظِلّ قيادتها وولاةِ أمرها، كلُّنا ندين لله بالسّمع والطاعة لولاة أمرنا بالمعروف في غير معصيةٍ، متمثِّلين قولَ الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وقوله : ((عليكم بالسمعِ والطاعة)) [1].
أمّا رجالُ الأمنِ فهم جُنودٌ بواسِل على خيرٍ عظيم، وهم في ثغرٍ من ثغور الإسلام، يعلَمون مقامَهم وشرفَ مكانهم وصلاحَ عمَلهم ونُبلَ مقصَدهم، يؤدّون مهمَّاتهم في إخلاصٍ وتفانٍ وإتقانٍ وكفاءةٍ، فهم على الحقّ والهدَى بإذن الله، بأعمالهم وشجاعتِهم ويقظَتهم تبقى هذه البلادُ عزيزة محفوظة رافعةً لمنار الدين حاميةً لمقدّساتِ المسلمين محافظةً على حُرُماتهم بإذن الله، فهم بإذن الله صمّام الأمان في حمايةِ دار الإسلام.
أيّها المسلمون، وإنّ مسؤوليةَ مواجهة هذه الفئةِ الضالةِ هي مسؤولية الجميع، كلٌّ حسبَ موقعه، فالإحساسُ بالخطر على الدّين والأهل والدّيار والفُرقة والفوضى هو الأمر الذي يجب أن يستشعرَه الجميع.
ومع كلِّ ما ينبغي من حذرٍ ويقَظة وتكاتُف وشعورٍ تامٍّ بالمسؤولية فليهنأ المسلمون في هذه الديار، وليهنأ كلُّ مواطن ومقيم على دينه وأمنه ومالِه واقتصادِه، ولتهنأ الدولةُ حفظها الله برجالها الفُضلاء وجنودِها الشّجعان المخلصين، ولتطمئنّ الأمّةُ بإذن الله إلى وعيِ ولاةِ الأمور ويقظَتهم في مواقفَ لا يُقبَل فيها إلاّ القوّة والحزم.
ثم هذا خِطابٌ لمن سوّلت له نفسُه القيامَ بهذه الأفعالِ الإجراميّة المحرّمة أو زلّت قدمُه فوقعَ في شيء من هذه الأعمالِ أو وقع في رَوعِه لوثةٌ من هذا الفِكر أو تعاطُف معَهم عليهم جميعًا أن يتّقوا الله في أنفسهم وإخوانهم المسلمين، وليبادروا بالتوبةِ إلى الله عزّ وجلّ، وليراقبوا أنفسَهم ويتأمَّلوا نصوصَ كتابِ الله وسنة نبيّه محمّد وكلام المحقِّقين من أهل العِلم الثقاتِ الأثبات، وأن يرجعوا إلى جادّة الصوابِ والحقّ، ويكونوا صفًّا مع إخوانهم ضدَّ أعدائهم المتربِّصين بهم، وأن لا يكونوا معولَ هدمٍ لكيانِ الأمة، فقد علموا من سُنن الله في الأوّلين والآخرين أنّ مثلَ هذه التصرُّفاتِ الطائِشةَ الرّعناء لا يستفيد منها إلاّ العدوّ المتربّص، واللهِ لا يستفيد منها إلا العدوّ المتربّص، ولم يجنِ منها الإسلام والمسلمون خيرًا، لا في الماضي ولا في الحاضر، بل كانت النتيجةُ تأخُّرًا وضعفًا مِن قبَل الأعداء، والويلُ ثمّ الويل لمن يبوء بإثم هذه الأفعال الشنيعةِ والأعمال المحرّمة.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، اتّقوا الله جميعًا، واسلُكوا مسالكَ العدلِ والإنصاف، اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
ثم صلّوا وسلِّموا على نبيّكم محمّد المصطفى ورسولِكم الخليل المجتبى، فقد أمركم بذلك ربّكم جل وعلا فقال عزّ قائلا عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولِك محمّد الأمين، وآله الطيّبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95)، والبيهقي في الشعب (6/67) واللفظ له عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37). وفي الباب عن ابن عمر وعبادة بن الصامت وعبد الرحمن بن مسعود رضي الله عنهم.
(1/3276)
ولاية الحسبة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آثار الذنوب والمعاصي, الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
7/5/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المحافظة على حرمة الإسلام. 2- أهمية الحسبة. 3- داء المعاصي والمنكرات. 4- مفاسد ترك الحسبة. 5- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 6- مراتب النهي عن المنكر. 7- خطورة الفتن. 8- الحملات الغربية على الأمة الإسلامية. 9- التحذير من الانجرار وراء الغرب الكافر. 10- حال الحسبة في العصر الحاضر. 11- ضرورة الصبر عند الاحتساب. 12- التحذير من الإعانة على المعاصي. 13- رخمة أهل المعاصي وإرشادهم. 14- الزجر بالهجر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله فإنّ تقواه أفضلُ مكسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيّها المسلمون، إنَّ المحافظةَ على حُرمةِ الإسلام وصونَ المجتمَع المسلمِ من أن تُخَلخِله وتقوِّضَه البدع والخرافاتُ والمعاصي والمخالفاتُ وحمايتَه من أمواج الشرِّ الهائجةِ وآثار الفِتن المائجة وتحذيرَه مزالقَ السقوط ودركات الهبوط أصلٌ عظيم من أصولِ الشريعة وركنٌ مَشيد من أركانها المنيعة، يتمثَّلُ في ولاية الحِسبة وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تلك المهمَّة العظمى والأمانة الكُبرى التي هي حِفاظ المجتمعاتِ وسِياج الآداب والكمالات، بها صلاحُ أمرِها واستِتباب أمنِها وقوَّة مِساكِها ومِلاكها، ما فُقِدت في قومٍ إلاّ زاغت عقائدُهم وفسَدت أوضاعُهم وتغيَّرت طِباعُهم، وما ضعُفت في مجتمعٍ إلا بدَت فيه مظاهر الانحلال وفشت فيه بوادر الاختلال.
والأمّة حين تكون سائرةً في جادَّة الطريق محكِّمةً شريعةَ الله في التحقيق والتّطبيق يكون من أوّل مهامِّها إقامةُ ولايةِ الحِسبة ورفعُ لوائِها وإعلاء بنائها وإعزاز أهلِها؛ لأنّ جميعَ الولايات تعودُ إليها، يقول تبارك وتعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، ويقول تبارك وتعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، أمّةٌ قائدةٌ رائدة تحقِّق في المجتمَع المسلم شرعَ الله، وتصدَع بالحقِّ في وجوهِ النّفوس المريضة الباغية إشباعَ شهواتها العابثةِ بأمنِ الأمّة ومقدَّراتها، ويقول جل وعلا في وصفِ الأمّة المحمَّديّة وذكر أسباب الخيريَّة: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
أيّها المسلمون، إنّ المعاصيَ والمنكراتِ هي الداءُ العُضال والوباء القتَّال الذي به خرابُ المجتمعات وهلاكُها، وإنّ التفريطَ في تغيير المنكرات ومكافحتها والقضاء عليها من أعظمِ أسباب حلولِ العقاب ونزول العذاب، فعن أمّ المؤمنين أمِّ الحكم زينبَ بنتِ جحش رضي الله عنها أنّ النبيّ دخل عليها فزِعًا وهو يقول: ((لا إله إلا الله، ويلٌ للعرَب من شرٍّ قد اقترَب، فُتِح اليومَ من رَدمِ يأجوجَ ومأجوجَ مثلُ هذه)) ، وحلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها، فقلتُ: يا رسولَ الله، أنهلَك وفيها الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثُر الخبَث)) متفق عليه [1] ، والخبَث هو الفسوق والفجور، ويقول النبيّ عليه الصلاة والسلام: ((إنّ اللهَ لا يعذِّب العامّةَ بعملِ الخاصّة حتى يروا المنكرَ بين ظهرانيهم وهم قادِرون على أن ينكِروه فلا ينكِروه، فإذا فعَلوا ذلك عذَّب الله الخاصَّةَ والعامة)) أخرجه أحمد [2] ، ويقول عليه أفضل الصلاة وأزكى السّلام: ((ما مِن قومٍ يُعمَل فيهم بالمعاصِي ثم يقدِرون على أن يُغيِّروا ثم لا يغيِّروا إلاّ ويوشك الله أن يعُمَّهم بعقاب)) أخرجه أبو داود وغيره [3] ، وكتَب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى بعض عُمّاله: "أمّا بعد: فإنّه لم يظهرِ المنكَر في قومٍ قطّ ثم لم يَنههم أهلُ الصّلاح بينهم إلاّ أصابهم الله بعذابٍ من عِنده أو بأيدي مَن يشاء من عباده، ولا يزال الناسُ معصومين من العقوبات والنّقمات ما قُمِع أهلُ الباطل واستُخفِيَ فيهم بالمحارم" [4].
أيّها المسلمون، إنّ الإدهانَ في الدين وعدمَ التناهي بين المسلمين من أعظمِ أسبابِ اللَّعن والطَّرد والإبعاد عن رحمةِ أرحمِ الراحمين، يقول النبيّ : ((إنّ أوّلَ ما دخل النقصُ على بني إسرائيل كان الرجلَ يلقى الرجلَ فيقول: يا هذا اتّق الله ودَعْ ما تصنَع فإنّه لا يحلُّ لك، ثم يلقاه من الغدِ وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكونَ أكيلَه وشريبه وقعيده، فلمّا فعلوا ذلك ضربَ اللهُ قلوبَ بعضهم ببعض)) ، ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79]، ثم قال بأبي هو وأمّي صلوات الله وسلامه عليه: ((والله، لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر ولتأخذنَّ على يدِ الظالم ولتأطرُنَّه على الحقِّ أطرًا ولتقصُرنَّه على الحقِّ قصرًا أو ليضربنَّ الله بقلوبِ بعضكم على بعض، ثم ليلعننَّكم كما لعنهم)) أخرجه أبو داود والترمذي [5].
لُعِنوا في كتابِ الله لعنًا يُتلَى على مرِّ الأيام والسنين، فاحذَروا ـ عبادَ الله ـ سبيلَهم الوضيع وفِعلَهم الذّميم، فإنّه لا صِلةَ بين العبادِ وربِّ العباد إلاّ صلةُ العبادة والطاعة، فمن استقام على شريعةِ الله استحقَّ من الله الكرامةَ والرّضوان، ومن حادَ عن سبيل الحقِّ والهدَى باء باللَّعن والخيبة والخُسران.
يا من رضِيتم بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد نبيًّا ورسولاً، أصيخوا سمعَكم وأَصغوا قلوبَكم لقول النبيّ : ((مَن رأى مِنكم منكَرًا فليغيِّره بيدِه، فإن لم يستطِع فبِلسانه، فإن لم يستطِع فبِقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان)) أخرجه مسلم [6] ، وانظروا وتساءَلوا: أين أثرُ تطبيقِ هذا الحديثِ في نفوسنا ومجتمعاتنا؟! أين إيمانُنا الصادق وخضوعُنا التامّ لما جاء به محمّد ؟!
((من رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده)) ، السلطانُ في سلطانه، والأمير في إِمارته، والقائدُ في جَيشه، والرّجل في أهل بيتِه، وكلُّ مسؤولٍ فيما تحت ولايتِه ومسؤوليّته. يقول عثمانُ رضي الله عنه: (إنّ الله يزَعُ بالسّلطان ما لا يزَع بالقُرآن) [7] ، ويقول بعضُ السّلف: "ما قيمةُ حقٍّ لا نفاذَ له؟!".
أيّها الآباءُ والأمّهات، طهِّروا بيوتَكم من جميعِ المنكَرات، وليكُن بيتُ النبوّة لكم في ذلك قدوَةً وأسوة، تنتهجون نهجَه وتحذَون حَذوَه، تقول عائشة رضي الله عنها: قدِم رسول الله من سفرٍ وقد سترتُ سهوةً [8] لي بقرامٍ [9] فيه تماثيل [10] ، فلمّا رآه رسول الله هتَكه وتلوَّن وجهُه وقال: ((يا عائشة، أشدُّ الناس عذابًا عند الله يومَ القيامة الذين يضاهِئون بخلقِ الله تعالى)) متفق عليه [11] ، تقول عائشة رضي الله عنها: فقطعناه فجَعلنا منه وسادةً أو وسادتين [12].
أيّها المسلمون، من عَجز منكم عن الإنكارِ باليدِ والسّلطان فلينكِر باللسان والبيان، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايَعنا رسولَ الله على السّمع والطاعةِ في العسر واليُسر والمنشَط والمكرَه وعلى أثرةٍ علينا، وعلى أن لا ننازعَ الأمرَ أهلَه إلا أن ترَوا كفرًا بواحًا عندكم من الله تعالى فيه برهانٌ، وعلى أن نقولَ بالحقّ أينَما كُنّا، لا نخاف في الله لومةَ لائم. متفق عليه [13]. وعن أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه أنّ النبيّ قال في خطبته: ((ألا يمنعنَّ رجلاً هيبةُ الناس أن يقولَ بحقٍّ إذا علِمه)) أخرجه الترمذي [14] وأحمد وزاد: ((فإنّه لا يقرِّب من أجلٍ ولا يباعِدُ من رِزق أن يقالَ بحقٍّ أو يُذكَّرَ بعظيم)) [15] ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يحقر أحدُكم نفسَه)) ، قالوا: يا رسولَ الله، كيف يحقرُ أحدُنا نفسَه؟! قال: ((يرى أمرًا لله عليه فيه مقالٌ ثم لا يقول فيه، فيقول الله عزّ وجلّ له يومَ القيامة: ما منعَك أن يقولَ فيَّ كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول الله: فإياي كنتَ أحقَّ أن تخشى)) أخرجه ابن ماجه [16].
أيّها المسلمون، إنّ الطامَّةَ الكبرى والمصيبةَ العظمى أن تتوالى الفِتنُ على القلوبِ ويزولَ خطَر المعاصي في النفوس، فيواقعُ الناسُ حدودَ الله، وينتهكون أوامرَ الله، ويصبحُ المعروفُ منكرًا والمنكرُ معروفًا، يقول رسول الله : ((تعرَض الفِتن على القلوبِ كالحصير عودًا عودًا، فأيّ قلبٍ أُشرِبها نُكِتت فيه نكتةٌ سوداء، وأيّ قلب أنكَرها نكِتت فيه نكتةٌ بيضاء، حتى تصيرَ على قلبين: على أبيضَ مثلِ الصفا، فلا تضرُّه فتنةٌ ما دامتِ السموات والأرض، والآخر أسود مربادًّا كالكوز مجخِّيًا، لا يعرفُ معروفًا ولا ينكر منكرًا إلاّ ما أُشرِب من هواه)) أخرجه مسلم [17] ، وسئل حذيفةُ بن اليمان رضي الله عنه: من ميِّتُ الأحياء؟ فقال: (الذي لا ينكِر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه) [18] ، وفي صحيح مسلم أنّ النبيّ قال: ((ما مِن نبيٍّ بعثه الله في أمّةٍ قبلي إلاّ كان له من أمَّته حواريّون وأصحاب، يأخذون بسنّته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلُف من بعدهم خُلوف، يقولون ما لا يفعلون ويفعَلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهَدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراءَ ذلك من الإيمان حبّةُ خردَل)) [19].
أيّها المسلمون، لم يفتَأ أعداءُ الدّين من اليهودِ والنّصارى والملحِدين ومَن سار في ركابهم مِن فُسّاق الملة المستغرِبين يشنّون على أمّة الإسلام حملاتٍ متلاحقةً عبرَ وسائل ورسائل، لا يخفى مستواها ولا يُجهَل فحواها ومحتواها، غرَضها زعزعةُ عقيدةِ الأمّة وتدمير أخلاقياتها وطمس هويَّتها وتغييبُها عن رسالتها، فبماذا واجه المسلمون تلك الحملاتِ؟! هل أوصَدوا دونها الأبواب؟! هل جاهدوها حقَّ الجهاد؟! هل قاموا بالضمانات الكافية لعدم انتشارِ الشرِّ والفساد؟! لقد فتحَ كثيرٌ من المسلمين بسبَب الغفلةِ عن دين الله وقِلّة التحفُّظ والتيقُّظ، فتحوا بلادَهم ومتاجِرهم وبيوتهم وقلوبهم لتلك التيّاراتِ الوافدة، وأسلموا مجتمعاتِهم للأمّة الكافرة المعاندة، وصدَق رسول الله : ((لتتبعُنَّ سَنَن من كان قبلكم شبرًا شبرًا وذراعًا ذراعًا، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ تبعتموهم)) ، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!)) أخرجه البخاري [20]. يقول بعضُ أهل العلم: "إذا أردتَ أن تعلمَ محلَّ الإسلام من أهل الزّمان فلا تنظُر إلى زِحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجِهم في الموقف بلبَّيك، وإنما انظُر إلى مواطأتهم أعداءَ الشريعة".
أيّها المسلمون، إنّكم أغلى وأعلى وأعزُّ وأكرمُ من أن تهبِطوا من سماءِ عليائكم إلى التشبُّه بأممٍ كافِرة فاجرة تعيسةٍ بئيسةٍ حائرةٍ شارِدة، تلهثُ وراءَ شهوتها، وتستميت في سبيلِ مُتعتها، فلقد شرَّفكم الله جل وعلا بأعظمِ دين، وأكمركم بأفضلِ رسول محمّدٍ ، وأنزل عليكم خيرَ كِتاب، فاشكروا الله على ما حباكم وأعطاكم، وجابهوا جهودَ أعدائكم بجهودٍ أقوى وأمضَى قبلَ أن تشتدَّ شوكتُهم وتحتَدّ شِكَّتُهم، جهودٍ تحفَظُ أمانةَ الدين الذي ائتمَنكم الله عليه، صونوه طاقتَكم، واحفَظوه جَهدَكم، وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد:35].
أيّها المسلمون، لقد استحكمت غُربةُ الدين وعظُمت المصيبة على كثيرٍ من المسلمين في كثير من البلاد بسبَب إفشاءِ الفساد وإشهاره ومداهنةِ بعضِ الناس في إنكاره، وإنّ من أطمِّ المصائب وأوضعِ المراتب أخذَ المالِ السُّحتِ على الإقرار عليه وحمايةِ فاعِله من أن يُتوصَّل بالإنكار عليه، فأين القائمون لله الذابُّون عن دينه الذائدون عن محارمه بمجاهدة عدُوّه وأهل معصيته؟!
أيّها المسلمون، إنّ ممّا يبعثُ على الحُرقة والأسَى أن يرى المسلم في مجتمَعه وأمام عينيه صُوَرًا مُمرضة وأحولاً مُرمِضةً من المنكرات والمحرّمات، فلا يجد لذلك في نفسِه مسًّا ولا حسًّا ولا توجُّعا ولا التياعًا، فأيُّ ركنٍ قد وهى؟! وأيّ نورٍ للأمة قد ذهب واختفى؟! نعوذ بالله من اندِراس معالم هذه الشعيرةِ واستيلاء المداهنة على القلوب وذهاب الغَيرةِ الدينية.
يا أمّة محمّد ، يا خيرَ أمّة أُخرجت للناس، أين الحميّةُ التي تتأجَّج في صدوركم لدين الله؟! أين الغضب؟! أين تمعُّر الوجوه لانتهاك حدود الله؟! تقول عائشة رضي الله عنها: ما ضرب رسول الله شيئًا قطّ بيده ولا امرأةً ولا خادمًا إلاّ أن يجاهدَ في سبيل الله، وما نِيل منه شيءٌ قطّ فينتقم مِن صاحبه إلاّ أن يُنتهَك شيء من محارم الله فينتقِم لله عز وجل. أخرجه مسلم [21].
أيّها المسلم، تعاقدوا وتعاهَدوا أن تنصُروا شريعةَ الرحمن، وقوموا قامةً تعلِي رايةَ الإيمان، وخذوا على أيدي سُفهائكم قبلَ استِفحال الداءِ وإعوازِ الدّواء، واعلَموا أنَّ التواكلَ والتلاوُمَ والتحسُّر والتضجُّر دونَ عملٍ وجدٍّ واجتهاد وأمرٍ ونهي ودعوةٍ وإرشاد لا يغيِّر من الواقعِ شيئًا، بل هو داعيةُ غمٍّ وهمِّ وفتور وإحباط. إنَّنا لا نريدُ غَيرةً لا تعدو أن تكونَ مجرَّدَ معانٍ نتمنّاها بأذهاننا أو نحسُّها مجرّدةً في مشاعرنا، إنّنا نريدُها باعثًا قويًّا عمليًّا وعمَلاً إيجابيًّا لخِدمة دين الله والانتصارِ لشرع الله وسنّة رسول الله وفقَ القيود الشرعيّة والضوابط المرعيّة.
أيها المسلمون، إنّ القيامَ بشعيرةِ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر مهمَّة جسيمة ذاتُ أعباء، لا يقدر عليها إلا الكُمَّل مِنَ الرّجال، وهي مهمَّة الأنبياءِ والرسُلُ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، مهمَّةٌ تصطدِم بشهواتِ الناس ونزواتِهم وغرورهم وكبريائهم وهبوط السِّفلة منهم، ولا بدَّ أن ينالَ القائمين بها شيءٌ من الاعتداء والأذى، فصبرًا صبرًا يا أهلَ الحِسبة، فقد أوذِي إمامُكم وقائدكم خاتَم الأنبياء وإمامُ الحفناء محمد ، فصبرَ وصابر حتى نصره الله، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [الأنعام:34]، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
أيّها المسلمون، إنَّ إيذاءَ المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أو الاعتداءَ عليهم أو الطعنَ فيهم أو تضخيمَ أخطائهم وبَثَّ الإشاعات الكاذبة عنهم جُرمٌ عظيم وذَنب كبير، تصيبُ المرءَ مغبَّتُه ومعرّتُه ولو بَعد حين، يقول جلّ وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21]، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من عادَى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب)) أخرجه للبخاري [22].
فاحذَروا الانخداعَ بمقالات الجاهلين أو الانسياقَ وراءَ أكاذيبِ الحاقدين وما يدور على ألسنةِ المغرضين، قال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:69-71].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7135)، صحيح مسلم: كتاب الفتن (2880).
[2] مسند أحمد (4/192)، ورواه أيضا ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2431) والطبراني في الكبير (17/138، 139)، قال ابن كثير في تفسيره (2/300): "فيه رجل مبهم، ولم يخرجوه في الكتب الستة، ولا واحد منهم، والله أعلم"، وحسن ابن حجر إسناده في الفتح (13/4)، وقال الهيثمي في المجمع (7/267): "رواه أحمد من طريقين، إحداها: عن عدي بن عدي حدث عن مجاهد قال: ثنا مولى لنا أنه سمع عدي، والأخرى: عن عدي بن عدي حدثني مولى لنا، وهو الصواب، وكذلك رواه الطبراني وفيه رجل لم يسم، وبقية رجال أحد الإسنادين ثقات"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (3110).
[3] سنن أبي داود: كتاب الملاحم (4338) عن أبي بكر رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (1/2، 7، 9)، والترمذي في الفتن (2168)، وابن ماجه في الفتن (4005)، قال الترمذي: "هذا حديث صحيح"، وصححه ابن حبان (305)، وهو في صحيح سنن أبي داود (3644).
[4] ينظر من أخرجه.
[5] سنن أبي داود: كتاب الملاحم (4336)، سنن الترمذي: كتاب التفسير (3047) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (1/391)، وابن ماجه في الفتن (4006)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وقد اختلف في إرساله ووصله، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1105).
[6] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (49) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[7] رواه ابن عبد البر في التمهيد (1/118) من طريق ابن القاسم عن مالك أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقول... وذكره بنحوه. وجاء نحوه عن عمر رضي الله عنه موقوفا عليه، انظر: الجد الحثيث للغزي (53).
[8] السَّهوة بفتح المهملة وسكون الهاء هي صفة من جانب البيت, وقيل: الكوّة, وقيل: الرّفّ، وقيل: أربعة أعواد أو ثلاثة يعارض بعضها ببعضٍ يوضع عليها شيء من الأمتعة، وقيل: أن يبنى من حائط البيت حائط صغير ويجعل السّقف على الجميع، فما كان وسط البيت فهو السّهوة، وما كان داخله فهو المخدع، وقيل: دخلة في ناحية البيت، وقيل: بيت صغير يشبه المخدع، وقيل: بيت صغير منحدر في الأرض وسمكه مرتفع من الأرض كالخزانة الصّغيرة يكون فيها المتاع، ورجّح هذا الأخير أبو عبيد، ولا مخالفة بينه وبين الذي قبله، وقد وقع في حديث عائشة أيضًا أنّها علّقته على بابها، فتعيّن أنّ السّهوة بيت صغير علّقت السّتر على بابه. قاله في الفتح (10/387).
[9] القِرام بكسر القاف وتخفيف الرّاء هو سِتر فيه رقم ونقش, وقيل: ثوب من صوف ملوّن يفرش في الهودج أو يغطّى به. قاله في الفتح (10/387).
[10] التماثيل بمثنّاةٍ ثمّ مثلّثة جمع تمثال، وهو الشّيء المصوّر، أعمّ من أن يكون شاخصًا أو يكون نقشًا أو دهانًا أو نسجًا في ثوب، وفي رواية عند مسلم أنّها نصبت سترًا فيه تصاوير. قاله في الفتح (10/387).
[11] صحيح البخاري: كتاب اللباس (5954)، صحيح مسلم: كتاب اللباس (2107).
[12] تابع للحديث السابق.
[13] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7056) وكتاب الأحكام (7199)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1709).
[14] سنن الترمذي: كتاب الفتن (2191)، وأخرجه أيضا ابن ماجه في الفتن (4007)، والطبراني في الصغير (729) والأوسط (4906)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (168).
[15] مسند أحمد (3/50)، ورواه أيضا أبو يعلى (1411)، والطبراني في الأوسط (2804)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/273-274).
[16] سنن ابن ماجه: كتاب الفتن (4008) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (3/47)، وعبد بن حميد (971، 972)، وأبو نعيم في الحلية (4/384)، والبيهقي في الشعب (6/90)، قال المنذري في الترغيب (3/160): "رواته ثقات"، لكن في سنده انقطاع، ولذا أورده الألباني في ضعيف الترغيب (1387).
[17] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (144) عن حذيفة رضي الله عنه.
[18] رواه ابن أبي شيبة في المصنف (7/504)، والبيهقي في الشعب (6/96، 7/383).
[19] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (50) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[20] صحيح البخاري: كتاب الاعتصام (7320) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وهو أيضا عند مسلم في العلم (2669).
[21] صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2328).
[22] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6502).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وصَحبه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
أيّها المسلمون، اعلَموا أنّه لا يجوز أبدًا إجارةُ مركوبٍ أو دارٍ أو دكَّانٍ لمن ينتفِع بها في معصيةِ الله أو يستخدِمها لبيع ما حرّم الله، لما ينشأ عن تأجير هؤلاء من الأضرارِ المتعدِّية ونشرِ المنكَر بين المسلمين، فاحذروا أن تساعِدوهم أو تسانِدوهم أو تعاقدوهم أو تقاعدوهم، واستجيبوا لقول المولى جل وعلا: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2].
أيّها المسلمون، ارحَموا أهلَ المعاصي والمنكرات، ارحموهم وأرشِدوهم ووجِّهوهم، فالراحمون يرحمهم الرحمن، أنقذوهم من الضلالةِ والعمى، وبصِّروهم طريقَ الرشاد والهُدى، واهجُروا من أصَرَّ منهم على معاصيه وجاهر بفسوقِه ومخازيه، يقول بعضُ أهل العلم:
وهُجران من أبدى المعاصيَ سنةٌ وقد قيل: إن يردعْه أوجبْ وأكِّدِ
وقيل على الإطلاق ما دام مُعلِنًا ولاقِهْ بوجهٍ مكفهِرٍّ مربَّدِ
أيّها المسلمون، إنّ المعلومَ بمقتضَى النصوص والمشاهَد بالواقع المحسوس أنّ هجرانَ المجاهرين بالمعاصي والمنكرات المصرِّين على باطلهم وفِسقِهم وإقامةَ الحدود والتعزيرات عليهم له الأثرُ الأكبر والنصيبُ الأوفر في إضعاف المعاصي واضمحلالها، يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "تحدُث للنّاس أقضيةٌ على قدرِ ما يحدُث من الفجور" [1] ، وقد قيل: مَن استرخى لَبَبُه ساءَ أدبُه، ومن أمِن العقوبةَ أساء الأدب. فلا بدّ من القوّةِ والحزم مع ضرورةِ تجفيفِ منابِع الشّرِّ وسُبُل الإفساد، وإلاّ انطبق علينا قول القائل:
ألقاه في اليمِّ مكتوفًا وقال له: إيّاك إيّاك أن تبتلَّ بالماء
أيّها القائمُ بالأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، اعلم أن العِلمَ إمام العَمَل، فلتكُن عالمًا بما تأمُر، عالمًا بما تنهى، رفيقًا فيما تأمر، رفيقًا فيما تنهى، حليمًا فيما تأمُر، حليمًا فيما تنهى، وليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر بلا منكر.
أيّها المسلمون، كونوا للحقِّ أعوانًا، وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].
واعلموا أنّ الله أمركم بأمرٍ بدَأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيَّه بكم أيها المؤمنون من جِنّه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
[1] رويت هذه العبارة عن مالك رحمه الله، انظر: فتح الباري (13/144).
(1/3277)
سنة التغيير
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
التوبة, المسلمون في العالم
محمد أحمد حسين
القدس
7/5/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. 2- ضرورة تغيير المسلمين ما بأنفسهم. 3- حال الأمة في عهد عزتها. 4- فساد أحوال الأمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. 5- ذرورة العودة الصادقة إلى دين الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، من سنن الله الاجتماعية أنه تعالى لا يبدل ما بقومٍ من عافية وأمنٍ وعزةٍ ونعمة وسلطانٍ ومنعة إلا إذا كفروا تلك النعم، وارتكبوا المنكرات، وغيّروا حالهم من الطاعة إلى المعصية، ومن اتباع منهاج الله إلى اتباع الأهواء، ومن حاكمية الله إلى سلطان البشر، وقد ورد في الأثر: ((أوحى الله إلى نبيٍ من أنبياء بني إسرائيل أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يقومون على طاعة الله، فيتحولون منها إلى معصية الله إلا حوّل الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون)) ، ثم قال: إن تصديق ذلك في كتاب الله: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
أيها المسلمون، تعالوا بنا نطبق هذا النص الكريم على حال أمتنا اليوم، لنرى مدى حاجتها إلى تغيير أحوالها، إلى تغيير النوايا والسلوك والأعمال، فقد ربطت مشيئة الله تغيير الأحوال سلبًا أو إيجابًا بنية الأفراد والجماعات والأمم، فإقبال الأمة بنية خالصة لله، مع العمل الصالح والسلوك السوي يرشحها للتغيير نحو الخير والأفضل، لأن الجزاء من جنس العمل، والله يقول: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:53]، فتغيير الحال لا يكون بالتمني والأماني، ولكن بالعمل الجاد والنية الخالصة والسلوك القويم، فمن أراد أن يصل إلى بر الأمان وشاطئ السلامة فعليه أن يعد الزاد من التقوى والعمل الصالح، وأن يحكم السفينة ويتعهد الراحلة، وإلا كان كما قال القائل:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تمشي على اليبس
لأن بحر أعمالكم هو الذي يقودكم إلى العزة والكرامة.
أيها المسلمون، يا خير أمةٍ أخرجت للناس، هل تدارستم حال الأمم السابقة التي أعرضت عن هدايات الله وخالفت رسله، فأخذها الله بذنوبها، وجعلها عبرةً لكم، كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ [الأنفال:54].
ولكم ـ أيها المسلمون ـ أسوةٌ حسنة في حال سلفنا الصالح الذين قبلوا نعمة الله، وحملوا الإسلام الذي رضيه الله لنا دينًا، حملوا الإسلام عقيدة وشريعة ونظام حياة، فغيّر الله أحوالهم من الضعف إلى القوة، ومن الفرقة إلى الوحدة، ومن الضلال إلى الإيمان، ومن الذل إلى العزة، وغدت دولة الإسلام هي الدولة الأولى في العالم عدة قرونٍ من الزمان، يطمع في عدلها الضعفاء، ويهابها الأعداء، وينتشر سلطانها من الصين شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، يحكم خليفتها بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وتطبِّق رايتها شرع الله، في سلوكٍ لا يعتريه الخلل، وعملٍ لا يشوبه الزلل، حنفاء لله غير مشركين به، فأيدهم الله بنصره، وأمدهم بتوفيقه وعونه، ومكن لهم في الأرض، واستخلفهم فيها، أليس الله هو القائل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55]؟!
يقول ابن مسعودٍ رضي الله عنه: (من كان متأسيًا فليتأسَ بأصحاب رسول الله ، فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا، وأحسنها حالاً، اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم)، رضي الله عنهم ورضوا عنه، وفي الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)) ، قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) ، أو كما قال.
فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمةً للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اهتدى واقتدى بهداهم إلى يوم الدين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت وسلمت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
وبعد: أيها المسلمون، يا خير أمةٍ أخرجت للناس، كيف يغير الله حال أمتنا وهي تقيم على المعاصي، انظروا أنى شئتم إلى أحوالنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فهل هذه الأحوال مرشحةٌ للتغيير أو تقود الأمة نحو الأفضل؟!
إن الأمة تحكم بغير ما أنزل الله، وقد نحي دستور الإسلام الخالد عن سدّة حكمها منذ زوال الخلافة الإسلامية التي حكمت بالإسلام، واتخذت القرآن دستورًا وسنة نبينا هاديًا ودليلاً، وأصبحت أشكال الحكم ومسمياته في دنيا المسلمين لا تقرّ معروفًا ولا تنهى عن منكر، بل تشرع وفق الهوى بعيدًا عن هدايات الله، وتأخذ بالقوانين الوضعية التي تبعد الناس عن روح العقيدة وعن أحكام الشريعة، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
أما اقتصاد المسلمين فيقوم على الربا الذي حرمه الله، وأصبحت المؤسسات الربوية ركيزة من ركائز الاقتصاد الرأسمالي القائم على الربا والاحتكار وجمع الثروة بأية وسيلة، دون النظر إلى آفاتها وآثارها على المجتمع، أصبحت هذه المؤسسات هي المتحكمة في اقتصاد المسلمين، مع أن الله جل وعلا لم يعلن حربًا على ذنب كإعلانه الحرب على الربا والمتعاملين به، يقول سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278، 279]، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. فكيف يتغير حال أمة تحارب الله ورسوله بأكل الربا والتعامل به؟!
أما أحوالنا الاجتماعية فحدث ولا حرج عن السفور والتبرج والاختلاط بين الرجال والنساء وتشبه الجنسين بعضهم ببعض، وكأن مقياس الحضارة الاجتماعية أصبح الميوعة والتخنث وتقليد المجتمعات الإباحية التي لا تعرف للفضيلة معنًى ولا للمروءة قيمة، المروءة التي عرفها المسلمون تحافظ على العرض، وترعى الشرف، وتضع المرأة في مكانها اللائق من الصون والكمال والعفة.
أيها المسلمون، وأما أحوالنا الثقافية فقد غزتها أفكار الآخرين وثقافاتهم، التي أخرجت أبناء الأمة عن تميزهم بالشخصية الإسلامية، التي توازن بين أشواق الروح ومتطلبات البدن، لتخرج إنسانًا سويًا في فكره وأخلاقه وعلمه وثقافته، وتشده إلى كوامن الإيمان ونوازع الخير، فهل قامت فلسفة التربية والتعليم في بلاد المسلمين على بناء الشخصية الإسلامية وفق المفهوم الإسلامي أم تركز هذه التربية على سلخ الإنسان المسلم من ماضيه وحاضره، ليلحق بركب المستعمرين الذين يروجون لمشاريع التغيير في ديار المسلمين، بما يسمى بمشروع الشرق الأوسط الكبير أو الصغير أو الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؟! هذا المشروع الذي يسعى للهيمنة على ديار المسلمين، فقد أعد ليشمل كل بلاد المسلمين التي نعمت حتى أجلٍ قريب بحكم الإسلام، وامتد إليها سلطان المسلمين، وكان خليفتهم يخاطب السحابة قائلا: "أمطري أين شئت، فإن خراجك محمول إلينا".
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، مادام تغيير الأحوال يرتبط بتوجه الأمة ونواياها وأعمالها وسلوكها نحو الخير، فلا بد لأمتنا من سلوك هذا التوجه، ليغير الله أحوالها، ويأخذ بيدها نحو مراقي العزة والفلاح.
جديرٌ بالأمة بعد أن جربت كل المبادئ الأرضية من قومية واشتراكية ورأسمالية أن تعود ثانية إلى رحاب إسلامها، الذي أخرجها من الظلمات إلى النور، وأنزلها المنزلة اللائقة بها بين أمم الأرض كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن الإسلام العظيم الذي وقف في وجه المغول والتتار يوم كان شعار المعركة في عين جالوت "وا إسلاماه"، هو نفسه الذي وحد المسلمين بقيادة الناصر صلاح الدين، وحرر القدس وبلاد الشام من دنس الصليبيين، وهو نفسه ـ أي: إسلامكم ـ القادر إذا توجهت الأمة إليه بتحكيمه والاحتكام لشرعه، أن يقف في وجه المشاريع الاستعمارية، التي تسعى لبسط نفوذها على ديار المسلمين، وهي جادةٌ بالقضاء على حضارتهم وثقافتهم وتفكيك وحدتهم، ووضع حدٍ لنهضتهم وقوتهم، في حربٍ لا تخفي أهدافها، للقضاء على العقيدة الإسلامية والمسلمين، من خلال شعارات براقة ومبادئ هدامة، يدركها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
أما أنتم يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، يا من شرفكم الله بالرباط في بيت المقدس وأكنافه، وجعلكم سدنة وحراسًا لمسجدها الأقصى الذي بارك الله فيه وبارك حوله، فعليكم بمزيدٍ من الصبر والثبات والعمل المخلص ذي النوايا الحسنة، وعليكم بالعزيمة الصادقة على وحدة الصف والموقف والكلمة، في مواجهة الأخطار التي تحيط بكم وبقضيتكم وبمقدساتكم وبمقدرات شعبكم، في زمن العجز العربي والصمت الدولي على ما يجري في أرضكم الطاهرة، فإرادة الحرية وإرادة العزة لا يقمعها الحديد، ولا يخمدها البطش، ولا تقهرها السجون، ينشرون كل ما من شأنه أن يفتّ في عضدكم من السماسرة والعملاء والخونة والجواسيس، الذين لا همّ لهم إلا متاع الدنيا الزائل والثمن البخس في مواقفهم الجبانة، التي تمكن للاحتلال والمحتلين.
ولا تيأسوا ـ أيها المسلمون ـ من روح الله، إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، واعلموا أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا.
دع المقادير تجري في أعنّتها ولا تبيتن إلا خالي البال
ما بين طرفة عينٍ وانتباهتها يحوّل الله من حال إلى حال
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].
(1/3278)
الدروس المهمة في الفتن المدلهمّة
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
14/5/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تطلّعات الغيورين. 2- حال العالَم اليوم. 3- ضرورة الفهم الصحيح للإسلام. 4- استغلال الغرب تشويهَ بعض المسلمين لصورة الإسلام. 5- مفاسد الأعمال التخريبية. 6- دروس وعبر. 7- موقف الإسلام من الأعمال الإرهابية. 8- مسؤولية أمن بلاد الحرمين الشريفين. 9- نداء للمتورِّطين في أعمال العنف. 10- واجب الولاة والعلماء وحملة الأقلام والدعاة والشباب. 11- دور الأسرة المسلمة. 12- الإشادة بإنجازات رجال الأمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسي بتقوى الله جلّ وعلا، فالتقوى رَوح الأرواح وحاديها إلى بلاد الأفراح وطُهرُ النفوس وقوتُ القلوب ومُبلِّغُها لرضا علاّم الغيوب وزادُ الضمائر، بها ترِقّ المشاعِر وتُقبَل الشعائر، وبها النجاةُ يومَ تُبلى السرائر، فاتقوا الله رحمكم الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أيّها المسلمون، في ظلِّ الظروف العصيبةِ التي تعصِف بالأمة وفي خِضمّ المتغيِّرات المتسارعة والأحداث المتلاحقة التي يعيشها العالم اليومَ يتطلّع الغيورون بل والمنصفون في العالم إلى كلِّ ما يعزِّز فُرَصَ الأمن والاستقرار الدوليّ والرخاء والسلام العالمي الذي يشعِر الأفرادَ والمجتمعات بل الشعوبَ والأمم بالأمن والأمان والراحة والاطمئنان، ومن ثَمّ التعاون بشكلٍ متكامل في بناء الحضارة الإنسانية وتحقيق النماء والتقدّم للبشرية، دون استعلاءٍ أو ظلم أو تسلُّط أو استغلال. وإنّ الغيورَ ليعتصِره الأسى وهو يرى العالمَ اليومَ يبدو في معظمِه ليس موقعًا للتضامُن والأمن في ظلّ تصفيةِ حساباتٍ أنانيّة ونظراتٍ مادّية بين عولمةٍ كاسحةٍ وتبعيّة فاضحةٍ وجهلٍ متفاقِم وفقر متعاظِم وظلمٍ مستَشرٍ وإرهابٍ مستفحِل وحروبٍ عرقية وتوازُنٍ دولي جائِر وهيمنةِ القوى الكبرى على كثيرٍ من مقدَّرات الأمم والشعوب، وهنا تتأكَّد أهمّية سيادةِ لغةِ الحوار وتغليب منطِق العقل والحكمة وتحقيق المصالح العليا للأمّة والحرص على استتباب الأمنِ والسلام باعتباره الوسيلةَ الناجعة لحلّ مختلِفِ القضايا العالمية والمشكلاتِ الدولية التي تعترِض سبيلَ إسعادِ البشرية.
ولذا فإنّ الحاجةَ ماسَّة إلى فهم الإسلام الحقِّ والجِدِّ في نشر مفاهيمِه الصحيحةِ وتقديمه للعالم بصورته المشرقة رحمةً وعدلاً وتسامُحًا وأمنًا، والتأكيد على أنه ليس عقيدةً متسلِّطة تفرض على العالم مفاهيمها ونُظُمها، خلافًا للدعاية المغرِضة والحملات المسعورةِ التي يُروَّج لها في بعض وسائل الإعلام العالمية، مستغلَّة ما يقوم به بعضُ المنتسبين إلى الإسلام من أعمالٍ إرهابية، وإنّ ذلك لا ينبغي أن يجرَّ أولي العقول والبصيرةِ وذوي الشرف والمروءة في العالم إلى تصديقِ تلك المقالات الرائجة، فالإسلام الحقُّ يحرِّمُ الأعمالَ الإجراميّة الإرهابية والأفعال التخريبيّة الإفساديّة، ويعدُّ من يقوم بها منحرِفًا عن الحقّ، خارجًا عن إطار الشريعة، مخالفًا للنظُم والأعراف والمجتمعات الإسلامية والإنسانية، والذين يقومون بها فئةٌ نَشاز في الأمة، لا يمثِّلون إلاّ فئةً قليلةً لا يؤبَه بها، ولكن مع شديد الأسف أنّ بعضَ وسائل الإعلام المعادِية ضخَّمت من شأنهم.
لقد قدّم هؤلاء للعالم صورةً قاتمة عن الإسلام وأهله، فهم ـ والله ـ لا للإسلام نصَروا، ولا للكفر كسَروا، لقد قدّموا لأعداء الأمّة خدماتٍ جُلَّى بأطباقٍٍ مُذهبَة، وضيّعوا على الأمة فُرصًا كبرى في الدعوة إلى دين الله، فكم تضرَّرت أعمالُ الدعوة والحِسبةَ وضُيِّقت المجالاتُ الخيرية والإغاثية، فهل نحن في شكِّ من ثوابتنا وقيمنا؟! كيف وقد تجرّأت بعضُ الأقلامِ الحاقدة ووسائلِ الإعلام المغرِضة على ثوابت الدين ومُثُل الأمة وقيَم المجتمع وأتيحَت الفرصة للناعقين النفعيّين الانتهازيّين المزايدين على الشريعةِ من ذوي القلوب المريضة والأهواء البغيضة، فأجلبوا بخيلهم ورجلِهم للاصطياد بالمياه العكِرة، تشويهًا لسُمعةِ الصالحين، وطعنًا في المتديِّنين، عبرَ أطروحاتٍ مغشوشة ومنتديات مشبوهة تهدِف إلى الإثارةِ والبَلبَلة، فزادوا مِن البلاءِ بلاءً، ومِن الفتَن فِتَنًا، وهذا شأنهم في الأزمات وديدنهم في الأحداثِ والملِمَّات.
ألا فليتَّق الله هؤلاء وأولئك، وليدرِكوا أنّ سفينةَ الأمّة قد تُغرَق بخرقِ الجافين كما تغرق بخرق الغالين، ودينُ الله وسطٌ بين الغالي فيه والجافي عنه، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143].
إخوةَ الإيمان، كم في الأحداثِ والأزماتِ من دروسٍ وعِبَر وعظات، تمحيصٌ وابتلاء، الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1، 2]. في الأزماتِ يترسَّخ الإيمان وتتجلَّى عقيدة الإيمان بالقضاءِ والقدر، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112]، كما يظهرُ صدقُ التوكُّل على الله من التواكل على غيره. فيها استشعارُ وَحدة الأمة وتضامُنها وسقوط كلِّ الأقنِعة والشعارات، وتمييز الخبيث من الطيب، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال:42]. وظهور خطر المنافقين والمارقين والمفسدين، وتجلِّي صدقِ العلماء الربانيّين والدعاة المخلصين الذين يمثِّلون صِمام الأمان في الأمّة وأطواق النجاة المهمّة في نوازلها المدلهمّة، وإتاحةُ الفرَص للمتفائلين العاملين، واستنهاضُ الهِمم لليائسين والمثبِّطين، فأمةُ الإسلام عبرَ تأريخها الطويل لا تعرف الوهَنَ والاستسلام، ولا تخضَع أمام الشراذِم والأقزام، ولا تستسلِم للحوادث والأزمات، بل سريعًا ما تنهَض من كبوَتها وتفيق من رقدَتها؛ لتحقِّقَ تفاعُلاً إيجابيًّا في خدمةِ قضايا الأمة بجميع جوانبِها عبرَ منهجيّة مدروسةٍ وتخطيطٍ محكَم سليم، يحقِّق المقاصدَ الشرعيّة ويُعلي الآدابَ المرعيّة ويُضيِّع الفرَصَ على الأعداء المتربِّصين والمتشفِّين المفسدين.
ألا ما أحوجَ الأمّة إلى استلهامِ الدروس والعِبر الناصعةِ من هذه الأحداثِ المعاصرة، مستشعرين نعمةَ الله علينا بهذا الدين القويمِ والأمن الراسِخ المتين الذي يحرِّم ويجرِّم قتلَ الأنفُس المعصومة، وينهى عن إلحاق الضّرر بالأبرياء، ويحضُّ على البناء والإعمار، ويحذِّر من التخريبِ والدمار والتعرُّض للأموال والحقوقِ والممتلكات الخاصّة والعامة بسوء، ويدعو بصوتٍ جَهوَريّ: إنّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام.
كتب الإحسانَ على كلّ شيء، ويحرّم الغدرَ والغيلة والمُثلة، خاصّةً في الرهائنِ والأسرى، ويعدّ ذلك ضربًا من الهمجيّة والوحشية المقيتة التي لا تقرّها الشرائعُ السماوية بلهَ المثل الإنسانية. فبأيّ كتابٍ أم بأيّة سنة، فبأي دين أم بأية مِلَّةٍ يجري ما نراه اليومَ ونسمعُه مِنِ استمرار المسلسَل التخريبّ وتجدُّد فصولِ المشهَد الإجراميّ، لا سيما في خير البقاعِ وأفضل الأصقاع بلادِ الحرمين الشريفين حرسها الله، فهي ليست بدعًا في تعرُّضها للعُنف والإرهاب، محسودةٌ في دينها وقيَمها، مستهدفةٌ في وَحدتها وأمنها واستقرارها، عبرَ تحدِّياتٍ وضغوطٍ خارجية وفِتنٍ إرهابية داخلية، يأتي في وسطها تربُّصاتُ أهل الزّيغ والفساد والضلال وتيّاراتُ الانفتاح والإباحية والانحلال، لتزيدَ الأمر ضِغثًا على أبالة بتطلُّعاتٍ انتهازيّة تروم نصيبَها من القَصعة وقسْمها من ميراثِ الأيتام على مآرِب اللئام، والتغرير ببعض أبنائها في حلقاتٍ جديدةٍ من مسلسَل التورُّط لخدمة أغراضٍ إرهابية خطيرة تخدم منظومةَ الأهداف الكالحة لأعداءِ الإسلام من حيث تشعُر أو لا تشعُر، فلا تحقِّق موقِفًا راجحًا ولا مكسَبًا رابحًا، مما يؤكِّد أهمّيّة الرجوع إلى علماءِ الأمة دونَ مجازفةٍ فرديّة أو آراء آحاديّة تقرِّر مصيرَ الأمة في أدقِّ الأمور وأخطرها، فهل يعي شبابُنا ويدرك أحبابُنا خطورةَ الأمر ويوقنوا أنّ وراءَ الأكمة ما وراءها، فيُولّوا حارَّها من تولَّى قارّها، ويحذروا من المجازفةِ في الأحكام والتكفير والجُرأة والمبادرَة بالعنفِ والتدمير والتقتيل والتفجير، ممّا لو عُرِض بعضُه على عمرَ رضي الله عنه لجمع له أهلَ بدر، ولو عرضَها على أهل بدرٍ لاشترطوا إجماعَ المهاجرين والأنصار، كيف لا وهي من ورطَات الأمورِ المتعلِّقة بالدماء والأموال والأعراض التي لا تخصّ قومًا دون غيرهم أو أبناءَ ملّةٍ دون من سواهم، ممّا هو من محكماتِ الشريعة ومسلَّمات العقول، ولا يجوز أن تهدَر أبدًا بمجرَّدِ شبهة أو تأويل أو سوء فهمٍ أو تبديل، يستوي في ذلك المسلمُ وغير المسلم ممّن دان للأمة بعهدٍ أو أمان أو ذمّة، فلا يُخفَرون في ذمّتهم، ولا يغدَرون في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
أمةَ الإسلام، إنّ لبلاد الحرمين المحروسةِ دَينًا في ذمّة كلّ مسلم يتوجّه إليها في صلاتِه وأداء مناسكِه ومسؤوليةً في عاتق كلِّ موحّدٍ ليظلَّ عينًا ساهرةً على أمنها واستقرارها، وإنّ كلّ مؤمنٍ يحمل بين جوانحه قلبًا مخلِصًا ناصِحًا للمسلمين ليغارُ على مكانتِها أن تهتزّ ومقدَّراتها وأمنِها أن تُبتزَّ، فأمنها أمنُ الدين، ووحدتُها وحدةُ جميع المسلمين، وقوّتُها في مواجهةِ التحدّيات قوةٌ لجميع المؤمنين، وهذه الأمورُ لا تقبَل المساوماتِ ولا تخضع للمزايدات، ولا تحتاج إلى مزيدِ تنظير أو عميق تفكير، وهي لذلك تتطلَّب من كلّ ذي مَسحةِ دين أو مَسكةِ عقل أو ذرّة مروءة وإنسانيّة أن يتبرّأ إلى الله من استباحةِ حِمى الحرمَين الشريفين، فأولى بالأمة ثمّ أولى لها، لا سيما أبناؤها والقاطنون على ثَراها أن يوفِّروا كلَّ قِطعة دِرهم وكلَّ قطرةِ دَم بل كلّ خفقةِ قلب وخلجةِ عقل لمواجهة الأخطار المحدِقة بها.
والدعوةُ موجَّهةٌ مِن منبر المسجد الحرام إلى كلّ المتورّطين في أعمالِ العُنفِ والإجرام أن يثمِّنوا مكرمةَ العفوِ وفرصةَ الأمان، وأن يستثمروا ويستفيدوا من مبادرةِ الحِلم والحكمةِ والمروءَة، وأن يرجعوا إلى جادّة الحقّ والصواب ولزوم الجماعة والإمامة، فالرّجوع إلى الحقّ خير من التمادِي في الباطل، وليتذكَّر هؤلاء أنّ أعمالهم تصبّ في مصلحة أعداءِ الدين والبلادِ والأمة، وليأخذوا العبرةَ من غيرهم، وليقرؤوا التاريخ.
فيا هؤلاء، إنّ الفرصة متاحةٌ ومواتِية، والوقتُ يمضي سريعًا، والعاقل من لا يشمَخ بأنفِه ويزهو بنفسه وشتطُّ في رأيه ويغرق في التحدّي والمثالية، بل يتّسم بالموضوعية والعقلانية، ليسعه ما وسِع جمهور المسلمين، ويملك قدرًا من الواقعيّة، فالوالد الرؤوم والأب المكلوم لا يسرُّه أبدًا أن يرَى أبناءَه مشرَّدين مطاردين، فاللهَ الله ـ يا أبناءنا ـ في استثمارِ الفرصةِ الأخيرةِ لمن ضلّ الطريق، لعلّه يتوب إلى رُشدِه ويقلِع عن غيِّه، وليعلمْ أنّ الشرعَ مَطهَرة ورحمة وخيرٌ ومغفِرة وحِكمته، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:34].
إنّها أيدٍ حانية وقلوبٌ رحيمَة امتدّت إلى أبناءٍ غُرِّر بهم، خُئِلوا دُروعًا تُرَدُّ بها سِهامٌ مِن أعدائها، فصاروها ولكن سهامًا في فؤادها.
إنَّ المحبَّ لهؤلاء المشفقَ عليهم ليأمل أن يغلِّبوا العقل والرشدَ والحكمة، وأن تجدَ هذه الدعوة استجابةً سريعة حقنًا للدّماء ودرءًا للفتن وحفاظًا على الأمن واستقرارِ المجتمع وتحقيق المصالح ودَرء المفاسد عن البلاد والعباد، والله المسؤول أن يهديَ ضالَّ المسلمين إلى الحقّ، وأن يحفظَ هذه البلادَ وسائر بلاد المسلمين من كيد الكائدين وعبث العابثين وعدوان المعتَدين، وأن يديمَ عليها أمنَها وإيمانها، إنّه خير مسؤول وأكرم مأمول.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفورًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي تفرّد بكلِّ كمال، واختصَّ بأبهى جلالٍ وأعظم جلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أنّ نبينا محمّدًا عبد الله ورسوله المبعوث بشريفِ السجايا وجليل الخِصال، صلى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وصَحبه خير صحبٍ وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن خيرَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعةٍ ضلالة وعليكم بالجماعة، فإنّ يد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذ في النار.
أيّها المسلمون، إنّ من الدروس المهمّة في هذه الخطوب المدلهمّة حاجةَ الأمّة إلى فتح صفحةِ التقويم والمحاسبة والنظر والمراجعة في كثيرٍ من جوانبها وقضاياها، إصلاحًا للحاضر، واستشرافًا للمستقبل، وإفادةً من أخطاء الماضي.
فيا قادةَ الأمّة، أصلِحوا ما بينكم وبين الله يصلحِ الله ما بينكم وبين شعوبكم.
ويا علماءَ الأمة المؤتَمَنين على ميراث النبوة، يا من أخِذ عليكم العهدُ والميثاق لتبيِّننَّه للناس ولا تكتمونه، اللهَ اللهَ في بذلِ المزيد من الجهود في بيان الحقّ بدليله وكشفِ الشبهات عنه وتوضيحِ مقاصد الدين وقواعد الملة وفتح الصدور لشباب الأمة واحتوائهم وتحصينهم ضدَّ كلِّ فكرٍ دخيل ومنهجٍ هزيل.
ويا حملةَ الأقلام، ويا رجالَ الإعلام وأرباب الفكر والثقافة، لا تزيدوا مُصابَ الأمة مُصابًا في أطروحاتٍ وتلاسُناتٍ ومنتدياتٍ وحوارات قد تُستَجَرُّ لتفكيك الأمة وتفتيت جبهتها الداخلية.
ويا دعاةَ الإصلاح، أليستِ الحاجةُ ملحّةً في إعادةِ النظرِ في أساليب العرضِ وطرائق الحوار ومضامين الطّرح؟! أليس الوقتُ مواتيًا في مخاطبةِ العقول قبلَ العواطف وتغليبِ منطق الرأي والحكمة على رغبات الجماهير؟!
ويا شبابَ الإسلام عامّة، ويا شبابَ بلاد الحرمين خاصّة، اللهَ الله في الثباتِ على دينكم زمنَ الأهواء والشهوات والتحدّيات والمتغيِّرات، ليس من عاصمٍ من أمر الله إلاّ من رَحم بالسير على منهَج الأسلاف، سائلوا أهل العلم المعتبرين عن كلّ ما يشكل عليكم في أمورِ دينكم ودنياكم، واستوضِحوا الفهمَ عن كل ما زلّت به الأقدام وضلّت به الأفهام، لا سيما في مسائل الولاء والبراء والموقف الحقِّ من غير المسلمين ووجودهم في جزيرة العرب والفهم الصحيح لمعنى إخراجهم منها وأنّه غير ما فهمه أرباب المتعلِّمين وأعشار المتعالمين ممّا لم يُسبقوا إليه عبرَ تاريخ الأمة، مع توافُر العلماء الربانيّين والدعاة الصادقين والولاة المسلمين، وكذا ضوابط الجهاد الشرعيّ الصحيح، وغير ذلك مما أشكل عليكم فهمُه.
وليس بخافٍ دورُ الأسرةِ والأبوين الرائدُ في التربية والتوجيه وحسن الرعاية والمحافظة والاهتمام، لا سيما في مثل هذه الأيام من الإجازات الصيفية في إعداد البرامج النافعة ووسائل القضاء على الفراغ لدى أبنائهم وتوفير الأجواء المناسبة والعناية بالرّفقة الصالحة، وكذا الفتيات في الحرص والمتابعة والمحافظةِ على الحجاب والعفاف والحشمة والفضيلة والحياء والاعتزاز بالسياحة داخلَ بلادنا المحافِظة.
والأمة بحاجةٍ إلى توبةٍ صادقة وإنابةٍ مخلصة ورجعةٍ إلى الله ودعاءٍ وتضرّع أن يكشف الله الغمَّة عن هذه الأمة، مع الثقة بالله ونصرِه، ثم الثقةِ بالنفس والنظر إلى الأحداث باعتدال دون تهويل ولا تهوين، مع الأخذ بأسبابِ الصلاح الوقائيّ والإجرائيّ بحلمٍ لا ينقصه حزم وحكمةٍ لا تجافيها قوّة.
غيرَ أن ممّا لا يفوت هنا الإشادةُ بتلك الإنجازاتِ الأمنية البارعة لرجال أمننا البواسِل ولُيوث عريننا الأكاسر ممّا يُذكَر فيشكَر ويروَى فلا يُطوى، مع ما يؤمَّل من بذلِ المزيد، ممّا يبشِّر بإذن الله بانقشاع سحابة العنف والإرهاب، ويؤكّد تهافتَ الفكرِ المنحرف وتساقطَ رموزه وذبولَ أوراقه ورسوخَ جذور الأمن والأمان وعمقَ أصوله الضاربة في أعماق التأريخ، فلا تهتزّ لمجرَّد محاولات بائسة، بل ستكون بإذن الله صخرةً شمّاء تتهاوى أمام صلابتها معاوِلُ الهدم والتخريب.
ألا فليهنأ المسلمون جميعًا بقربِ الفرج ونُصرةِ الدين واستتبابِ الأمن وقمعِ المجرمين، وما ذلك مع الله بعزيز.
ألا وصلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على الرحمةِ المهداة والنعمة المسداة نبيكم محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلِّم وبارك على سيّد الأولين والآخرين وقائد الغرّ المحجّلين وأشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين...
(1/3279)
تماسك الفرد والمجتمع (سورة الحجرات)
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آفات اللسان, القرآن والتفسير
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
12/1/1411
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- يعتمد مبدأ إصلاح المجتمع على الحزم والقوة والعدل والإنصاف وتأكيد مبدأ الأخوة الإيمانية. 2- النهي عن السخرية واللمز بالمسلمين. 3- التأكيد على ترابط المسلمين وشعور الجسد الواحد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11], لقد بدأنا قبل فترة لبيان ما في هذه السورة العظيمة, سورة الحجرات من دروس ومبادئ وآداب تهم الفرد والمجتمع المسلم وها نحن نصل اليوم إلي هذه الآية , فهذه الآية الكريمة وما بعدها من الآيات فيها مجموعة من الآداب والأحكام الرفيعة الهدف منها الحفاظ على تماسك المجتمع المسلم بوشائج الاخوة الإسلامية وأواصر المحبة الإيمانية , الشارع الحكيم عني بالحفاظ على التلاحم بين أفراد المجتمع المسلم كما عني به على مستوى الأمة كما عني بالمحافظة على هذا التلاحم على مستوى الأمة إذ فرض عليها في الآيتين اللتين قبل هذه الآية المبادرة دائماً إلى حل ما يمكن أن ينشأ من تنازع وتناحر وتقاتل بين المؤمنين إلى حله بالعدل والإنصاف والحزم والقوة, فقال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9]. هذا هو الأساس الأول الحزم والقوة: فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9]. وهذا هو الأساس الثاني وهو العدل والإنصاف. وأما الأساس الثالث فهو مبدأ الاخوة الإيمانية ولذلك عقب سبحانه علي هذه الآية مباشرة بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10], فبدون إخوة الإيمان وبدون العدل والإنصاف في العلاقات بين الفرد والجماعات وبدون الحزم والقوة في حماية مبدأ الاخوة الإيمانية وفي حراسة مبدأ العدل والإنصاف , بدون هذه الأسس الثلاثة لا يمكن أن تستقيم حياة المؤمنين ولا يمكن أن يبقى كيان المجتمع المسلم سليماً معافى , إذا لم يتأدب الجميع بهذه الآداب القرآنية الرفيعة فإن الذي سيسود على الجميع هو منطق الجاهلية الأولى الذي يجعل الأساس الأول والأخير هو القوة أي سيأكل القوى الضعيف وحيث لا تبقى هناك أية قيمة لوشائج الاخوة ولا لأواصر المحبة , إنما الذي يسود العلاقات في ظلال الجاهلية هو منطق العدوان والبغي والسلب والنهب كما قال شاعر الجاهلية الأولى:
وأحيان علي بكر أخينا إذا لم نجد إلا أخانا
ولقد عني الشارع الحكيم بالمحافظة على التلاحم بين الأفراد كما عني بالمحافظة على مستوى الأمة فأوجب على الأشخاص مجموعة من الأحكام والآداب والأوامر عليهم جميعاً أن يلتزموا بها , فلا يسخر قوم من قوم أي لا يسخر رجال من رجال , فقوم معناها رجال إذا وردت مقابل النساء أما إذا وردت مطلقاً في لغة القرآن يدخل فيها الرجال والنساء , فهنا لا يسخر قوم من قوم أي رجال من رجال. ولا يسخر نساء من نساء ولا يلمزوا أنفسهم أي لا يحقر بعضهم بعضاً ولا يتنابزوا بالألقاب أي لا يطلق أحد علي أحد لقباً أو اسماً بغرض السخرية والاستهزاء والاحتقار وتأملوا هذا الأسلوب الرقيق الدقيق في الآية الكريمة, قال تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وأراد لا تلمزوا الناس فعبر بلفظة أنفسكم لأن كل مؤمن هو لأخيه المؤمن بمثابة نفسه , فالمؤمنون الحقيقيون كيان واحد وجسد واحد إذا لحق أي فرد منهم الضرر أو السوء أو الأذى فإنه يمس الباقين , فهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر وكثيراً ما يقع اليوم بعض الناس في ارتكاب هذه المنهيات , كثير من الناس رجالاً ونساء يتورطون في ارتكاب هذه المنهيات فيسخر بعضهم من بعض ويحسد بعضهم بعضاً ويتنابزون بالألقاب يعير بعضهم بعضاً, إما بسبب فقره أو بسبب نسبه أو بغير ذلك من الأسباب وربما عيره بمعصية ارتكبها حتى صاحب المعصية لا يجوز تعييره بمعصيته إنما الواجب النصح له وزجره وتخويفه من عذاب الله عز وجل فكثير من الناس يقعون في هذه المنهيات مستهينين بما يمكن أن ينشأ من سلبيات خطيرة هدامة عن ذلك ومستخفين بما يمكن أن يتولد من حقد في النفوس بناء على ذلك وحينئذ تتقطع وشائج الاخوة الإسلامية وتنهار روابط المحبة الإيمانية وفي ذلك فساد عريض للمجتمع المسلم أفراداً وجماعات. فاتقوا الله ـ أيها المؤمنون ـ وأصلحوا ذات بينكم وكونوا عباد الله إخواناً.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن في أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس)) رواه الإمام أحمد في مسنده [1]. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالمؤمن ذو الإيمان الصحيح يعيش مع إخوانه المؤمنين يألم لألمهم يعيش معهم بمشاعره وأحاسيسه , يحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم ويهتم بما يصيب المسلمون من كوارث ومصائب فالمؤمن لا يعيش وحده منعزلاً بمشاعره وأحاسيسه لا يهتم بما يصيب المسلمين ولا يشعر بمشاعرهم فتلك أنانية ليست من طبع المؤمن ولا من صفاته فالمؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
و نظرة تلقيها اليوم علي حال المسلمين كفيلة بأن تقطع قلب أي مؤمن حسرة وحزناً وألماً علي ما أل إليه حالهم من تشتت وتفرق وتنازع وتناحر وتقاتل وما أصابهم الذي أصابهم من هذه الكوارث وهذا التشتت وهذا التفرق وهذه الشحناء وهذا التقاتل البغيض إلا بسبب ضعف إيمانهم وانحرافهم عن تعاليم الإسلام وتركهم آداب القرآن , أنظر إليهم اليوم كيف يتقاتلون ويغزو بعضهم بعضاً كما كان يفعل أهل الجاهلية الأولى , أهل داحس والغبراء وحرب البسوس بينما عدوهم الحقيقي الصهيوني البغيض واقف علي الأبواب يتربص بهم الدوائر وهو جاثم علي صدور إخوانهم من أهل القبلة الأولى يسومهم الذل وسوء العذاب وينكل بهم تنكيلاً ويقتلهم تقتيلاً أما كان من الأولى أن تترك القوة مادامت هناك قوة لمقاتلة هذا العدو الحقيقي بدل من مقاتلة الجار والشقيق ولكن انظروا أيها المسلمون كيف يكون الحال إذا فرطنا في الإيمان وانحرفنا عن مبادئ الإسلام وتعاليمه وهجرنا آداب القرآن فهذه عقوبات لها ذنوب ونتائج لها مقدمات وعواقب لها أسباب فعلي المسلمين أن يصلحوا الأسباب والعواقب وأن يهجروا الذنوب وأن يعودوا إلى مبادئ دينهم وإسلامهم الذي يفرض عليهم مبدأ الأخوة الإيمانية, عليهم أن يحافظوا على هذا المبدأ ويتقوا الله إن كانوا يريدوا أن يكونوا من المرحومين.
وحده سبحانه هو الذي يستطيع أن يؤلف بين القلوب ويجمع الشتات ويزيل التفرق من الصفوف ومن القلوب هو خالق هذه النفوس الجامحة المتمردة هو وحده سبحانه من يستطيع ذلك: لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63]. فنتوجه إليه سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وبصفاته العلا أن يصلح حال المسلمين. اللهم أصلح حال المؤمنين. اللهم ألف بين قلوبهم واجمع كلمتهم على الحق ورد عنهم كيد الكائدين ودسائس المفسدين. اللهم ارحم عبادك المسلمين. اللهم هيئ لهم من أمرهم رشداً.
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [2] ، اللهم صلى وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] مسند أحمد (5/340).
[2] صحيح مسلم (408).
(1/3280)
حقوق الكبار
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أطوار يعيشها الإنسان فيصل إلى الكبر والهرم. 2- انتهاك البعض لحقوق الكبير. 3- كلمة إلى الكبار. 4- إجلال الكبير ومعرفة فضله. 5-من نعم الله أن تطول حياة المرء في طاعة الله. 6- الكبير ودوره في القدوة الحسنة. 7- سؤال الله حسن الخاتمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم:54].
سبحان من خلق الخلق بقدرته, وصرَّفهم في هذا الوجود والكون بعلمه وحكمته, وأسبغ عليهم الآلاء والنعماء بفضله وواسع رحمته, خلق الإنسان ضعيفًا خفيفًا ثم أمده بالصحة والعافية فكان به حليمًا رحيمًا لطيفًا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً قوة الشباب التي يعيش بها أجمل الأيام والذكريات مع الأصحاب والأحباب, ثم تمر السنين والأعوام وتتلاحق، الأيام تلو الأيام، حتى يصير إلى المشيب والكبر، ويقف عند آخر هذه الحياة فينظر إليها فكأنها نسج من الخيال أو ضرب من الأحلام. يقف في آخر هذه الحياة وقد ضعف بدنه وانتابته الأسقام والآلام ثم بعد ذلك يفجع بفراق الأحبة والصحب الكرام.
إنه الكبير الذي رق عظمه وكبر سنه وخارت قواه وشاب رأسه، إنه الكبير الذي نظر الله إلى ضعفه وقلة حيلته فرحمه وعفا عنه إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء: 98, 99].
نقف اليوم مع الكبير مع حقوقه التي طالما ضُيَّعت ومشاعره وأحاسيسه التي طالما جرحت ومع آلامه وهمومه وغمومه وأحزانه التي كثرت وعظمت.
أصبح الكبير اليوم غريبًا حتى بين أهلِه وأولاده ثقيلاً حتى على أقربائه وأحفاده من هذا الذي يجالسه؟ من هذا الذي يؤانسه؟ من هذا الذي يباسطه ويدخل السرور عليه؟.
إذا تكلم الكبير قاطعه الصبيان, وإذا أبدى رأيه ومشورته سفهه الصغار والصبيان, فأصبحت حكمته وحنكته إلى ضيعة وخسران, أما إذا خرج من بيته فقد كان يخرج بالأمس القريب إلى الأصحاب والأحباب وإلى الإخوان والخلان, فإذا خرج اليوم يخرج بالأشجان والأحزان, يخرج إلى الأحباب والأصحاب يُشيع موتاهم, ويعود مرضاهم, فالله أعلم كيف يعود إلى بيته, يعود بالقلب المجروح المنكسر, وبالعين الدامعة, وبالدمع الغزير المنهمر.
يا معاشر الكبار، الله يرحم ضعفكم, الله يجبر كسركم، في الله عوض عن الفائتين, في الله أنس للمستوحشين.
يا معاشر الكبار، أنتم كبار في قلوبنا, وكبار في نفوسنا, وكبار في عيوننا, كبار بعظيم حسناتكم وفضلكم بعد الله علينا، أنتم الذين علمتم وربيتم وبنيتم وقدمتم وضحيتم لئن نسي الكثير فضلكم فإن الله لا ينسى, ولئن جحد الكثير معروفكم فإن المعروف لا يَبْلى, ولئن طال العهد على ما قدمتموه من خيرات وتضحيات فإن الخير يدوم ويبقى ثم إلى ربك المنتهى, وعنده الجزاء الأوفى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف:30].
يا معاشر الكبار, أمّا الآلام والأسقام التي تجدونها فالملائكة كتبت حسناتها, والله عظم أجورها, وستجدونها بين يدي الله, فالله أعلم كم كان لهذه الأسقام والآلام من حسنات ودرجات, اليوم تُزعجكم وتقلقكم وتُبكيكم وتقض مضاجعكم, ولكنها غدًا بين يدي الله تفرحكم وتضحككم, فاصبروا على البلاء واحتسبوا عند الله جزيل الأجر والثناء فإن الله لا يمنع عبده المؤمن حسن العطاء قال : ((عجبت لأمر المؤمن إن أمره كله خيرٌ، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له, وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له)) [1].
عظم الله أجوركم, وأجزل في الآخرة ثوابكم فأحسنوا الظن بما تجدونه عند الله ربكم.
يا معاشر الشباب، توقير الكبير وتقديره أدب من آداب الإسلام, وسنة من سنن سيد الأنام عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام.
يا معاشر الشباب، إجلال الكبير وتوقيره وقضاء حوائجه سنة من سنن الأنبياء وشيمة من شيم الصالحين الأوفياء قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:23, 24].
يا معاشر الشباب، ارحموا الكبار وقدروهم ووقروهم وأجلُّوهم فإن الله يحب ذلك ويثني عليه خيرًا كثيرًا, قال : ((إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم)) [2] ، إذا رأيت الكبير فارحم ضعفه, وأكبر شيبَهُ, وقدِّر منزلته, وارفع درجته, وفرج بإذن الله كربته يعظم لك الثواب, ويجزل الله لك به الحسنى في المرجع والمآب.
يا معاشر الشباب، أحسنوا لكبار السن لاسيما من الوالدين من الآباء والأمهات إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]، لاسيما إن كان الكبار من الأعمام والعمات والأخوال والخالات, كم تجلسون مع الأصحاب والأحباب من ساعات وساعات, كم تجالسوهم وتباسطوهم وتدخلوا السرور عليهم, فإذا جلستم مع الأقرباء الكبار مللتم وضقتم وسئمتم, فالله الله في ضعفهم... الله الله في ما هم فيه من ضيق نفوسهم.
يا معاشر الشباب، ما كان للكبار من الحسنات فانشروها واقبلوها واذكروها, وما كان من السيئات والهنات فاغفروها واستروها فإن الله يُعظم لكم الأجر والثواب.
اللهم اختم لنا بخير, اللهم اختم لنا بخير, اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها, وخير أعمالنا خواتمها, وخير أيامنا يوم نلقاك, اللهم اجعل أسعد اللحظات وأعزها لحظة الوقوف بين يديك برحمتك يا أرحم الراحمين, اللهم ارحم كبارنا, ووفق للخير صغارنا, وخذ بنواصينا لما يرضيك عنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه مسلم في كتاب الزهد, باب في أحاديث متفرقة (18/ 125) بشرح النووي, عن صهيب.
[2] رواه أبو داود عن أبي موسى بلفظ (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم) في كتاب الأدب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الحليم الرحمن وأشهد أن لا إله إلا الله وحده, العظيم الديان, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله, أرسله بالهدى والفرقان, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, أهل الرحمة والرضوان, وعلى جميع من سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
سُئل بعض السلف فقيل له: من أسعد الناس؟ قال: أسعد الناس من ختم الله له بالخير.
أسعد الناس من حسُنت خاتمته, وجاءت على الخير قيامتُه, قال : ((خيركم من طال عمره وحسن عمله, وشركم من طال عمره وساء عمله)) [1].
يا ابن آدم إذا رق عظمك, وشاب شعرك فقد أتاك النذير أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير [فاطر: 37]. قال بعض العلماء: وهْنُ العظام والشيب في الشعر والرأس.
تذكرة من الله جل جلاله, وتنبيه من الله سبحانه وتعالى رحمة بعباده, وإلا فلربما غفلوا وكانوا عن طاعته بعيدين, فرحمهم الله جل وعلا بهذا النذير؛ حتى يُحسن خاتمتهم؛ حتى يُحسن الختام لهم سبحانه وتعالى, كان السلف الصالح رحمة الله عليهم إذا بلغ الرجل أربعين سنة لزم المساجد, وسأل الله العفو عما سلف وكان, وسأله الإحسان فيما بقي من الأزمان حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:15, 16].
كانوا إذا بلغوا أربعين عامًا لزموا بيوت الله, وأكثروا من ذكر الله, وأحسنوا القدوم على الله جل جلاله, أما اليوم فأبناء ستين وسبعين في الحياة يلهثون, غافلون لاهون, أما اليوم فنحن في غفلة عظيمة من طلوع الصباح إلى غروب الشمس والإنسان يلهث في هذه الدنيا, لا يتذكر ولا يعتبر, لا ينيب ولا يدَّكر, وتجده إذا غابت عليه الشمس وقد مُلئ بالذنوب والآثام من غفلة الدنيا وسيئاتها, ينطلق إلى المجالس, إلى مجلس فلان وعلان, وغيبة ونميمة وغير ذلك مما لا يُرضي الله, فيأتي عليه يومه خاملاً كسلانًا بعيدًا عن رحمة الله.
كبارنا خيارنا أهل الفضل والحلم فينا، هم قدوتنا في كل خير هم أئمتنا إلى الطاعة والبر.
يا معاشر الكبار، أنتم قدوة لأبنائكم وبناتكم وأهليكم, قدوة في مجتمعاتكم إذا جلست مع الأبناء والبنات، فإن كنت محافظًا على الخير والطاعات أحبوك وهابوك وأجلّوك وأكرموك, وإن وجدوك تسب الناس وتشتمهم وتنتقصهم وتعيبهم وتغتابهم أهانوك وأذلوك ثم سبوك وعابوك, وهكذا يجزي المحسن بالإحسان, والمسيئون بالخيبة والخسران.
يا معاشر الكبار، إنابة إلى الله الواحد القهار, وتوبة من الحليم الغفار إذا تقربت إلى الله شبرًا تقرب منك ذراعًا, وإن تقربت منه ذراعًا تقرب منك باعًا, وإذا أتيته تمشي أتاك هرولة, إذا نظر الله إلى قلبك أنك تحب التوبة وتحب الإنابة إليه فتح لك أبواب رحمته ويسر لك السبيل إلى مغفرته وجنته, إلى متى وأنت عن الله بعيد, إلى متى وأنت في غفلة؟ إلى متى وأنت بعيدُ عن الله طريد؟ ما الذي جنيت من السهرات؟ وما الذي جنيت من الجلوس هنا وهناك؟ توبة إلى الله.
قال بعض كبار السن: اللهم أحسن لي الخاتمة, فمات بين الركن والمقام. وقال ثان: اللهم أحسن الختام, فمات وهو ساجد بين يدي الله جل جلاله. وقال ثالث: اللهم إني أسألك حسن الخاتمة, فمات يوم الخميس صائمًا لله جل جلاله. أحسنوا الختام, وأقبلوا على الله جل جلاله بسلام وودعوا هذه الدنيا بأحسن العمال وشيم الكرام.
وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة, فقد أمركم الله بذلك حيث يقول جل في علاه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
[1] رواه أحمد (5/40) والترمذي في كتاب الزهد, باب ما جاء في طول العمر للمؤمن عن أبي بكرة, وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(1/3281)
عليكم بالجماعة
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, فرق منتسبة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
14/5/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الإمارة والطاعة. 2- الأمر بالاجتماع وذم الفرقة. 3- الأمة الإسلامية مستهدفة. 4- ضرر الخوارج على الإسلام والمسلمين. 5- فضل لزوم الجماعة. 6- نداء للخوارج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتَّقوا الله تعالى حقّ التقوى، فمن اتقى الله تعالى وقاه، ومن عصى ربّه فقد اتخذَ الشيطان مولاه.
عبادَ الله، إنَّ دينَ المؤمن أحبّ إليه من نفسِه وأهلِه وقراباتِه، وإنّما يكون الدّين مع جماعةِ المسلمين، والجماعة لا تكون إلا بإمارةٍ وطاعة، وبهذا كلِّه تستقيم أمور الناس الدينيّة والدنيوية وتنتظم مصالحهم، والإسلام قد أكّد على هذه المعاني الهامّة وعمّق في القلوب هذه الأصولَ النافعةَ العظيمةَ، فأمر بالاجتماعِ على الدين والائتلاف، ونهى عن الفرقةِ والاختلاف، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:2، 3]، وقال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، وقال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].
وهذه الوصايا والتوجيهاتُ الرّبانيّة نحن في أشدّ الحاجةِ إليها في كلّ وقت، ولكنّنا في هذا الوقت أكثرُ ضرورةً وحاجةً إلى الحفاظ على جماعة المسلمين وإلى درءِ الأخطارِ عن أمة الإسلام وإلى معالجةِ مشاكلِ المسلمين وإلى الدفاعِ عن قضايا الأمّة المصيريّة بلزومِ جماعةِ المسلمين والتمسّك بهدي سيّد المرسلين ، فإنّ أمّةَ الإسلام تمرّ بمرحلةٍ تاريخية لم تمرّ بمثلِها فيما مضى، وأمّة الإسلام مستهدَفَة بالغزوِ الفكريّ في دينها من أعداءِ الإسلام، ومستهدفة في أخلاقها، ومستهدفةٌ في شبابها ونسائها بجعلِ المرأةِ المسلمة كالكافرةِ في أخلاقها وعاداتها، ومستهدفة في مناهِج تعليمها، ومستهدفةٌ في استقرارها، ومحسودة على خيراتها، وانفتح على المسلمين أبوابُ فتنٍ من أعدائهم ومن داخل مجتمعات المسلمين بأيدي بعضِ المسلمين الذين انحرَف فكرُهم والعياذ بالله، وقد بيّن الله عاقبةَ التفرّق والاختلاف فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159].
وأعداء الإسلام لا يمكن أن يكونَ منهم إلا المبالغةُ في الإضرارِ بالإسلام والمسلمين والعنَتُ والمشقة والعداوة والشرّ بجميع أنواعه كما قال تعالى في كتابه العزيز: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2]، ويقول تعالى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاً وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ [التوبة:8-10].
وإذا كان أعداءُ الإسلام لا يمكِن أن يكونَ منهم إلاّ المضرّة للإسلام والكيدُ بصورٍ شتى فإنّ الخارجين على جماعةِ المسلمين وتعاليمِ الإسلام بألسنَتهم أو بأقلامِهم أو بالسّيف ضررُهم على الإسلام والمسلمين كضَرَر الكفار أو أشدّ؛ لأنهم يحقِّقون أهدافًا يسعَى إليها أعداءُ الإسلام، شعُروا أو لم يشعروا، فهل يعِي هذه الحقائقَ أهلُ التفجير والتدمير؟! وهل يفقَه عواقبَ الأمور أهل التفجير والتدمير؟!
إنّ خروجَ هؤلاء على جماعة المسلمين يُضعِف جماعةَ المسلمين أن تقِف أمامَ التحدّياتِ التي تهدِّد دينها ومصالحَها وأمنَها واستقرارَها، ومَن خرجَ على جماعةِ المسلمين ووليِّ الأمر فقد أسلم قِيادَه للشيطان، وقد أغضب الرحمنَ؛ لأنه قد خرج من حِصنٍ أمين وترك الحِرزَ المكين، فجماعة المسلمين تحيطُ بهم عنايةُ الله تعالى ورحمته وحِفظه، وتنال مَن لزمَ الجماعةَ دعوةُ المسلمين وبركة اجتماعِهم، فالمصلي إذا قال: "السلامُ علينا وعلى عباد الله الصالحين" نالت هذه الدعوةُ كلَّ عبد صالح في السماء والأرض، وإذا دعا المسلمون في مجتمَع عِباداتهم نالت كلَّ مَن كان من جماعة المسلمين، وهل مَن خرج على جماعةِ المسلمين بالسّيف عبدٌ صالح؟! وهل من أزهقَ الأنفسَ المحرّمة لديه رحمة بجماعة المسلمين؟! قال : ((المسلمُ من سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما حرّم الله)) [1]. ومَن خرج على جماعةِ المسلمين هل يرضَى لنفسِه أن يحاربَ رايةَ "لا إله إلا الله محمّد رسول الله" التي هي مرفوعة على كلّ محكمةٍ ودائرةٍ في هذه البلاد.
إنّ لزومَ جماعة المسلمين والانضواءَ تحت ظلّهم والنصحَ لهم ورعايةَ حقوقهم وكفَّ الأذى عنهم نجاةٌ من شياطين الإنس والجنّ وطريقٌ مأمونُ العاقبة ونهج قويم، جاءت الآياتُ والأحاديث مأكِّدةً وملزِمة لذلك وداعيةً إلى الحفاظ على جماعة المسلمين، عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مَن فارق الجماعةَ شبرًا فقد خلع رِبقة الإسلام من عُنقه)) رواه أبو داود [2] ، وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((مَن عمِل لله في الجماعةِ فأصاب قَبِل الله منه، وإن أخطأ غفر له، ومن عمِل يبتغي الفرقةَ فأصاب لم يقبلِ الله منه، وإن أخطأ فليتبوّأ مقعدَه من النار)) رواه الطبراني والبزّار [3] ، وعن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنّ الشيطانَ ذئب الإنسان كذئبِ الغنم، يأخذ الشاةَ القاصية والنّاحية، فإياكم والشعابَ، وعليكم بالجماعة والعامّة والمسجد)) رواه أحمد والطبراني [4] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((مَن خرج من الطاعةِ وفارق الجماعةَ فمات ماتَ ميتةً جاهليّة، ومن قاتل تحتَ راية عمّيّة يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبيّة أو ينصر عصبيّة فقُتِل فقِتلته جاهلية، ومن خرج على أمّتي يضرِب برّها وفاجرَها لا يتحاشى من مؤمِنها ولا يفي بعهدِ ذي عهد فليس منّي ولست منه)) رواه مسلم والنسائي [5] ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((مَن خلع يدًا من طاعةٍ لقِي الله يومَ القيامةِ لا حجّةَ له، ومن ماتَ وليس في عُنقه بيعة ماتَ مِيتة جاهلية)) رواه مسلم [6] ، وعن ابنِ عمر رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله : ((لن تجتمعَ أمّتي على ضلالة، فعليكم بالجماعة، فإنّ يدَ الله على الجماعة)) رواه الطبراني [7]. والذنبُ يتعرَّض له كلُّ أحَد، وليس أحدٌ بمعصوم، وإنما المصيبةُ الإصرار على الجريمة والتمادي في الغيّ والمكابَرة عن قبولِ الحقّ والتعلُّق بسرابِ الأماني الباطِلة والفتاوى الجاهلة والتغرير بالنّفس فيما يعرِّض الإنسانَ للشّقاء والبَوار في دار القرار.
يا مَن خرجتُم على الجماعة، توبوا إلى الله تعالى، فإنّ اللهَ يقبل التوبةَ عن عبادِه ويعفو ويصفح، وعودوا إلى الحقّ، فإن الرجوعَ إلى الحقّ خير من التمادي في الباطل، وارجعوا إلى الصوابِ، ولم يكلِّفكم الله بطلبِ بابِ الرجوعِ والتوبةِ في شواهِق الجبال أو مغارات الأرض أو في السماءِ، إنما بابُ التوبة والعودةِ إلى الصواب أمام قدَميك في أيّ مكان أنت فيه، فما عليك إلاّ أن تمدَّ يديك لتلجَ فيه، وعند ذلك ستَرى طمأنينةَ التوبة ورَوحها والرحمة خيرًا من مخاوفِ الذنوب وعذابها، وما مِن مرتكبِ جريمة إلاَّ وتمرّ به فرصةُ الرجوع والتوبة، فإن اغتنمها نال حظّه وفائدتَه وخيرَه، وإن ضيَّعها ندم في وقتٍ لا ينفع فيه الندم، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التوبة:115]، وقال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (10) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[2] سنن أبي داود: كتاب السنة (4758) عن أبي ذر رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (5/180)، وابن أبي عاصم في السنة (892، 1054)، وعبد الله في زوائد المسند (5/180)، والحاكم (401، 402)، والقضاعي في مسند الشهاب (448)، والبيهقي في الكبرى (8/157)، وفي سنده خالد بن وهبان مجهول، لكن له شواهد كثيرة من حديث الحارث الأشعري وابن عمر وابن عباس ومعاذ وأبي الدرداء وعامر بن ربيعة رضي الله عنهم، ولذا صححه الألباني في ظلال الجنة (2/434).
[3] المعجم الكبير (12/61)، المعجم الأوسط (5170)، وأخرجه أيضا ابن عدي في الكامل (7/41)، قال الهيثمي في المجمع (5/216-217): "فيه محمد بن خليد الحنفي وهو ضعيف، ورواه البزار بإسناد ضعيف"، وفي السند أيضا زيد العمّي وهو ضعيف.
[4] مسند أحمد (5/232، 243)، معجم الطبراني الكبير (20/164)، وأخرجه أيضا الحارث بن أبي أسامة في مسنده (606 ـ بغية الباحث ـ)، وأبو نعيم في الحلية (2/247)، والبيهقي في الشعب (3/57)، وحكم عليه العراقي في تخريج الإحياء (2/281) والمنذري في الترغيب (1/138) والهيثمي في المجمع (2/23) بالانقطاع، وهو في ضعيف الترغيب (206).
[5] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1848).
[6] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1851).
[7] المعجم الكبير (12/447)، قال الهيثمي في المجمع (5/218): "رواه الطبراني بإسنادين، رجال أحدهما ثقات رجال الصحيح خلا مرزوق مولى طلحة وهو ثقة"، وأخرجه الترمذي في الفتن (2167) من طريق آخر عن ابن عمر رضي الله عنهما وفي آخره زيادة : ((ومن شذ شذ إلى النار)) ، وقال: "هذا حديث غريب من هذا الوجه"، وقال ابن حجر في التلخيص (3/141): "في سنده سليمان بن شعبان المدني وهو ضعيف"، وله شواهد كثيرة ولذا صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1759) ولكن بدون الزيادة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المعزِّ لمن أطاعه واتقاه، المذلِّ لمن خالف أمرَه وعصاه، أشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، لا إلهَ سِواه، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله، اصطفاه ربّه واجتباه، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولِك محمّد وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ بامتثالِ أمره واجتناب نهيه.
واعلَموا ـ أيها المسلمون ـ أنّكم على أقوالكم وأعمالكم محاسَبون ومجزيّون، وعلى زمنِ الدنيا إن لم يتُب التائبون نادِمون، قال الله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31].
أيها المسلمون، يقول الربّ جل وعلا: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31، 32]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ : ((إنّ الله يرضى لكم ثلاثًا: يرضَى لكم أن تعبدوه ولا تشرِكوا به شيئًا، وأن تعتصِموا بحبل الله جميعًا ولا تفرّقوا، وأن تُناصِحوا من ولاّه الله أمرَكم)) رواه مسلم [1] ، وعن جبيرِ بن مطعمٍ أنّ النبيَّ قال: ((ثلاثٌ لا يغِلّ عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاصُ العمل لله ومناصحة ولاةِ الأمر ولزومُ جماعة المسلمين)) رواه أحمد والدارمي [2].
فالزَموا الجماعة عباد الله، فإن يدَ الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
أيّها المسلمون، إنّ الله أمركم بأمر بدَأ فيه بنفسه، فقال تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمّد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا. اللهمّ وارضَ عن الصحابة أجمعين...
[1] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1715)، وليس فيه: ((وأن تُناصِحوا من ولاّه الله أمرَكم)) ، وإنما هي زيادة عند أحمد (2/267)، والبخاري في الأدب المفرد (442)، وصححها ابن حبان (3388)، وهو في صحيح الأدب المفرد (343).
[2] مسند أحمد (4/80، 82)، سنن الدارمي: المقدمة (229)، وأخرجه أيضا ابن ماجه في المناسك (3056)، والبزار (3417)، وأبو يعلى (7413)، والطبراني في الكبير (2/126، 127)، وصححه الحاكم (294، 295، 296)، وقال الهيثمي في المجمع (1/139): "في إسناده ابن إسحق عن الزهري وهو مدلس، وله طريق عن صالح بن كيسان عن الزهري ورجالها موثقون"، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (2480) وانظر: السلسلة الصحيحة (404). قال الحاكم: "وفي الباب عن جماعة من الصحابة منهم: عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وأنس رضي الله عنهم وغيرهم عدة"، ومنهم: أبو سعيد الخدري وأبو الدرداء والنعمان بن بشير وأبوه بشير وأبو قرصافة وجابر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، انظر: مجمع الزوائد (1/137-140). وقد ذكر السيوطي هذا الحديث في الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة.
(1/3282)
الجنة والنار
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
21/5/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من خَلق الخليقة. 2- إحصاء الله تعالى لأعمال العباد. 3- الجزاء من جنس العمل. 4- استدامة السلف لذكر الجنة والنار. 5- الحاجة إلى ذكر الجنة والنار. 6- صفة الجنة ونعيمها. 7- صفة النار وعذابها. 8- التحذير من الاغترار بالدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بَعد: فاتَّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ تقواه، وتمسَّكوا بها، فنِعمَ العملُ والذُّخر والفَوز في دنيا العبدِ وأخراه.
أيّها المسلمون، لقَد خلقَ الله الخَلقَ لتنفُذَ فيهم قدرتُه وتجرِيَ عليهم أحكامُه الشَّرعيّة والقدَريّة، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18]، خلَقَ الكونَ بالحقِّ ليُطاعَ الربُّ جلّ وعَلا ويُعمَر الكونُ بالصَّلاح والإصلاح، وجعَل الله للمكلَّفين مشيئةً واختِيارًا أناطَ به التّكليفَ، ولا يخرُج العبدُ بتلك المشيئةِ عن قدرةِ الله ومشيئتِه، فمَن وافقَ مرادَ الله المحبوبَ لَه وعمِل بالحقّ الذي لأجلِه خلَقَ الكونَ وأطاع ربَّه جَزاه الله الجزاءَ الحسَن في الدنيا وفي الآخرة كمَا قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، ومَن ضادَّ مُرادَ الله المحبوبَ له وعارَضَ شريعةَ الإسلام وعصَى ربَّه عاقبَه الله في الدنيا والآخرة، قال عزّ وجل: فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123، 124].
وأعمالُ العِباد مُحصاةٌ عليهم صَغيرُها وكبيرُها ليُجازَوا عليها كما قَال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31]. فالجزاءُ الحَقِيقيّ الدّائمُ في الآخِرة، وأمّا في الدّنيا وإن كان فيها جَزاءٌ على الخير أو على الشرّ فإنّه جزاءٌ قليل وجزاء منقطِع، تتصرّم أيّامُه وتسرِعُ ساعاتُه حتّى إنّ عُمرَ الدنيا كلِّها يراه العُصاةُ مِقدارَ ساعةٍ من نهارٍ كما قال تبارك وتعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ [الروم:55]، وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ [يونس:45]، ولكنَّ الجزاءَ الأبديَّ السّرمديّ الذي لا ينقطِع في الآخرةِ؛ إمّا دارُ نعيم وإمّا دار جحيم.
والجزاءُ بالجنّة على الأعمالِ الصالحة والعقابُ بالنار على الأعمالِ الشّرِّيرة في غايةِ المناسَبَة والمجانسة، فإنّ الجزاءَ من جِنس العمَل، فلمّا كانَت الأعمالُ الصّالحة تتنوّعُ في حقائقِها ومنافِعِها كان نعيمُ الجنّة منوَّعًا في حقائقِه ومنافِعه وطُعومِه ولذّاتِه، ولما عَبَد أهلُ الجنّةِ ربَّهم بالغَيب ولم يرَوه تجلَّى الله لهم، فأكرَمهم بلذَّة النظر إلى وجهِه الكريم، وأسمَعهم جلالَ كلامِه العظيم، ولمّا علِم الله مِنهم العَزمَ والتَّصمِيم والإرادةَ الجَازِمة على دَوام عبادةِ الله وطَاعتِه أدامَ الله عليهم النّعيمَ المقيمَ كما قالَ تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً [الكهف:107، 108]. ولما كانَت الأعمالُ الشرِّيرة تتنوَّع في حقائِقها المُرَّة ومَضارّها وخُبثِها وشُرورِها كانَ عذابُ النار منوَّعًا في شِدَّتِه وألمِه ومَرارتِه بحسَب الأعمال، ولما حجَبوا قلوبَهم عنِ الهدَى والإيمانِ احتجَب الله عنهم فلا يرَونَه كما قال تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، ولما علِم الله أنّ أهلَ النّار دائمو العَزمِ والإرادة على الكفرِ والمعاصي وأنهم إِن رُدّوا إلى الدنيا عَادوا إلى الكفرِ والعِصيان، لما علِم الله منهم ذلك أدامَ عليهم العذابَ الأليمَ، قال تبارك وتعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:27، 28].
عبادَ الله، إنَّ أصفَى ساعاتِ المسلم وأفضلَها وأرقى درجاتِه أن يستوليَ على قلبه الطمَعُ في الجنةِ والخوفُ من النار، وقد كان السّلفُ الصالح رضي الله عنهم يغلِب على قلوبهم الخوفُ من النّار والطمعُ في الجنّة في كلِّ حالٍ من الأحوال، فصَلحت أعمَالهم واستقامَت لهم أمورهم.
هذا عبدُ الله بنُ رواحة رضي الله عنه يودِّع أصحابَه في غزوةِ مؤتَة فيبكِي ويقال له: ما يبكِيك؟ فقال: والله، ما أبكي صَبابةً بِكم ولاَ جزَعًا على الدّنيا، ولكن ذكَرتُ قولَ الله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71]، فكيف لي بالصَّدرِ بعد الورود؟! [1]. وعُمير بن الحمام رضي الله عنه لما قال النّبيّ في غزوةِ بَدر: ((قوموا إلى جنّةٍ عرضُها السموات والأرض)) كان في يدِه تمراتٌ، فرمى بهنّ وقال: لئِن بقيتُ حتى آكلَ تمراتي هذه إنها لحياةٌ طَويلة، فقاتل حتى قُتِل رضي الله عنه [2]. وأنسُ بن النّضر رضي الله عنه قال: إني لأجِدُ ريحَ الجنّةِ مِن دونِ أُحُد، وذَلك في غَزوةِ أُحُد، فقُتِل رضي الله تعالى عنه [3].
والكلامُ عنهم في هذا يطول، ونحن بحاجةٍ إلى ذكر الجنة والنّار في قلوبِنا ونوادينا وفي ليلنا ونهارنا لتستقيمَ أحوالنا وتصلح أعمالُنا، ولا سيّما في هذا العصرِ الذي طغت فيه المادّة، وتظاهرت الفتَن وانتشرت، وقلَّ الناصحُ، وضعُف الإيمان، وتزيّنت الدنيا بزُخرفها وزهرَتها، وأثقلتِ الكواهلَ بكثرةِ مطالبها، وأرهقتِ الأعصابَ بتشعُّب حاجاتها، حتى صار التحابُّ من أجلِها والتباغُض من أجلها والتواصُلُ لها والتقاطُع لها إلا من شاء الله تعالى، فكانت أكبرَ ما يصُدُّ عن الآخرة، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7، 8].
الطّمَع في الجنّة قائِد، والخَوفُ من النّار زاجِرٌ وسائق. الجنّة حُقَّ أن يطلبَها المسلمُ جُهدَه، ففيها ما لا عينٌ رأَت ولا أذُنٌ سمعَت ولا خطَر على قَلبِ بَشَر، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله : ((ألا هَل مشمِّرٌ للجنة، فإنّ الجنةَ لا خَطَر لها، هي ـ ورَبُّ الكعبةِ ـ نورٌ يتلألأ وريحانَة تهتزّ وقَصرٌ مَشيد ونهر مُطَّرِد وثمرةٌ نضيجَة وزوجةٌ حسناء جميلة وحُلَلٌ كثيرة ومَقامٌ في أبَد في دارٍ سليمَة وفَاكهةٍ وخُضرة وحَبرة ونِعمَة في محَلَّةٍ عالية بهيَّة)) ، قالوا: نعَم يا رسولَ الله، نحن المشمِّرون لها، قال: ((قولوا: إن شاءَ الله)) ، فقال القوم: إن شاء الله. رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي [4].
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((بِناءُ الجنة لبنةُ ذهَب ولبنَة فِضّة، وملاطُها المِسك ـ وهو ما يكون بين اللَّبِن ـ ، وحصباؤُها اللّؤلؤ والياقوت، وترابُها الزّعفران، ومَن يدخُلها ينعَم ولا يبأس، ويخلُد ولا يموت، ولا تبلَى ثيابُه، ولا يفنى شبابُه)) [5].
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبيِّ قال: ((إنّ للمؤمنِ في الجنّةِ لخيمةً مِن لؤلؤةٍ واحِدة مجوّفة، طُولُها في السّماءِ سِتّون ميلاً، للمؤمِن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمِن، فلا يَرى بعضُهم بعضًا)) رواه البخاري ومسلم [6].
وأمّا شرابُهم فكما قال الربُّ جل وعلا: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15].
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قالَ رَسول الله في أزواجِ أهلِ الجنّة: ((يضَع أحدُهم يدَه بَين كتفَيها، ثم ينظُر إلى يده من صدرِها من وراءِ ثِيابها وجِلدِها ولحمِها، وإنّه لينظُر إلى مُخِّ ساقِها كمَا ينظُر أحدكم إلى السِّلك في قصَبةِ الياقوت، كبِدُه مرآةٌ لها، وكبدُها مِرآة له)) رواه أبو يعلى والبيهقي [7].
وعن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه يرفعه: ((إنّ أسفلَ أهل الجنّةِ أجمعين مَن يكون على رأسِه عشرةُ آلاف خادِم، معَ كلِّ خادمٍ صحفتان: واحدةٌ من ذهَب وواحدةٌ من فضّة، في كلّ صَحفةٍ لونٌ ليس في الأخرى مثلُها، يأكل من آخرِه كما يأكل من أوَّله، يجِد لآخرِه من اللذَّة والطّعم ما لا يجِد لأوّلِه، ثم يَكونُ فوقَ ذلك رشحُ مِسكٍ وجُشاء مِسك، لا يبولون، ولا يتغَوّطون، ولا يمتخِطون)) رواه الطبراني وابن أبي الدنيا [8].
وقد وصَف الله تعالى ما في الجنّةِ من النعيمِ المقيم في كتابِه بما لم يُوصَف في كتابٍ منزَّل، ووصف ذلك رسولُ الله بما لم يصِفه نبيّ؛ لنعمَلَ بأعمالِ أهلِ الجنّة ولنسارعَ إلى الخيرات ونطلبَ جنةَ ربِّنا جُهدَنا ونَسأل ذلك من ربِّنا ونتعرَّض لرحمته، فإنّه لن يدخلَ الجنّة أحدٌ إلا برحمة الله.
وأعظمُ مِن نعيم الجنة رضوانُ ربِّ العالمين والنّظرُ إلى وجهِهِ الكريم، قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:72].
وأمّا النّار وما أدرَاك ما النّار فهي مثوَى الأشرارِ ومكانُ الخُبث والذِلّة والخزيِ والصّغار، بعيدةُ القَعر، لو أنّ الحَجرَ يُلقى من شَفيرها ما أدرَك لها قَعرًا سبعين خريفًا. رواه مسلم [9].
شديدةُ الحرّ، ((نارُ الدّنيا جزءٌ واحِد مِن سبعين جزءًا مِن نارِ جَهنّم)) رواه البخاري [10].
طعامُ أهلِها الزّقّوم من شجرةٍ تخرُج في جهنّم، وتتغذّى بجهنّم، والضّريعُ لا يُسمِن ولا يُغني من جوع، خبيثُ الطّعم، مُرُّ المذاق، شديدُ الحرارَة، ينشَبُ في الحَلق، فلا يستسيغه إلى جوفِه إلاّ بالماءِ البالِغ الحرارة، فإذا وصل إلى الجوف قطَّع الأمعاء.
ومِن شَرابهم المُهلُ والغسّاق وهو الصّديد من القيحِ والدّم، ولباسُهم القطِران والحديد، ولهم ثيابٌ من نارٍ والعياذ بالله، قال الله تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:19-22]. عَن عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه قال: (إنّ في النارِ حيّاتٍ كأمثالِ أعناقِ البُخت تنهَش الرّجل، فيجِد حَرَّ سُمِّها سبعينَ خريفًا) رواه أحمد [11].
قال الله تعالى: وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، ونفَعنا بهديِ سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (4/373) عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير به، ومن طريق ابن إسحاق رواه الطبري في تاريخه (2/149)، وأبو نعيم في الحلية (1/118)، وقال الهيثمي في المجمع (6/159): "رواه الطبراني، ورجاله ثقات إلى عروة". ورواه أيضا أبو نعيم في الحلية (1/118) من طريق موسى بن عقبة عن الزهري قال: زعموا أن عبد الله بن رواحة بكى حين أراد الخروج إلى مؤتة.. وذكر نحو هذه القصة.
[2] رواه مسلم في الإمارة (1901) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[3] رواه البخاري في الجهاد (2806)، ومسلم في الإمارة (1903).
[4] سنن ابن ماجه: كتاب الزهد (4332)، صحيح ابن حبان (7381)، وأخرجه أيضا البزار (2591)، والطبراني في مسند الشاميين (1421)، وأبو الشيخ في العظمة (602)، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (4/265): "إسناده فيه مقال؛ الضحاك المعافري ذكره ابن حبان في الثقات وقال الذهبي في طبقات التهذيب: مجهول، وسليمان بن موسى الأموي مختلف فيه، وباقي رجال الإسناد ثقات"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (3358).
[5] أخرجه أحمد (2/304)، والترمذي في صفة الجنة (2525)، والدارمي في الرقاق (2821)، وعبد بن حميد (1420)، والبيهقي في الشعب (5/409)، وقال الترمذي: "هذا حديث ليس إسناده بذاك القوي، وليس هو عندي بمتصل، وقد روي هذا الحديث بإسناد آخر عن أبي مدلة عن أبي هريرة عن النبي "، وصححه ابن حبان (7387)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2050).
[6] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4880)، صحيح مسلم: كتاب الجنة (2838) واللفظ له.
[7] عزاه المنذري في الترغيب (4/298) لأبي يعلى والبيهقي، قال الألباني في ضعيف الترغيب (2/492): "وهو حديث طويل جدا، في نحو ثمان صفحات، لا أعلم له شبيها... إسناده ظلمات بعضها فوق بعض، مما لا يشك الباحث أنه حديث مركب... وفيه جمل مستنكرة".
[8] المعجم الأوسط (7674)، ورواه أيضا أبو نعيم في الحلية (6/175)، وقال المنذري في الترغيب (4/279): "رواته ثقات"، وتبعه الهيثمي (10/401)، وقوى إسناده ابن حجر في الفتح (6/324)، وهو مخرج في السلسلة الضعيفة (5303).
[9] صحيح مسلم: كتاب الجنة (2844) عن أبي هريرة رضي الله عنه بمعناه.
[10] صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق (3265) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في كتاب الجنة (2843).
[11] هذا الحديث في المسند (4/191) مرفوع، وأخرجه أيضا البيهقي في البعث (561)، وصححه ابن حبان (7471)، والحاكم (8754)، وقال الهيثمي في المجمع (10/390): "فيه جماعة قد وثِّقوا"، وهو في السلسلة الصحيحة (3429).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله ذي العزّة والإكرام، والجلالِ والعظمة والعزّة التي لا تُرام، أحمد ربي وأشكره على عظيم الإنعام، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له الملك القدّوس السلام، وأشهد أن نبيَّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله المبعوث رحمةً للأنام، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه الكرام.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى تقوَى من يخشاه سرًّا وجهرًا، فما أفلح أحدٌ إلا بتقوَى ربّه، وما خاب أحدٌ إلا باتِّباع الشهوات وتضييع الطاعات.
أيها المسلمون، لقد دعاكم مولاكم إلى جنّاتِ النعيم بتقديم الأعمالِ الصالحات ومجانبة السيّئات فقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134]، وفي الحديث عن النبيّ : ((كلّكُم يدخُل الجنة إلا مَن أبى)) ، قالوا: ومن يأبى يا رسولَ الله؟! قال: ((من أطاعني دخلَ الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) [1].
فلا يركننَّ أحدٌ إلى الدّنيا ونعيمِها، ولا تنسِه الدارَ الآخرة، فما هذه الدنيا إلاّ أضغاثُ أحلام وظِلُّ شجرةٍ ومتاعُ غرور، ما أسرعَ أيامَها في الانقضاء، وفي الحديثِ عن النبيّ : ((يؤتَى بأشدِّ الناس في الدنيا بؤسًا ويغمَس في الجنّة فيقال له: يا ابنَ آدم، هل رأيتَ بؤسًا قطّ؟ فيقول: لا والله، ما رأيتُ بؤسًا قطّ، ويؤتى بأشدّ الناس تنعُّمًا في الدنيا ثم يُغمَس في النار، ويقال له: يا ابنَ آدم، هل رأيتَ نعيمًا في الدنيا قطّ؟ فيقول: لا والله، ما رأيتُ نعيمًا قط)) [2] ، لأنّ الجنّةَ تنسيهِ كلَّ بُؤس، ولأنّ النار تنسي كلَّ نعيم، قال الله تبارَك وتعالى: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207].
وإنّما تطلَبُ الجنةُ برضوانِ الله تبارك وتعالى وعبادتِه بما شرَع رسولُ الله.
عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلَّى عليَّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه البخاري في الاعتصام (7280) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في صفة يوم القيامة (2807) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(1/3283)
تعظيم الدماء في الإسلام
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, فرق منتسبة
محمد بن عبد الله السبيل
مكة المكرمة
7/5/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعظيم حقوق العباد. 2- جريمة قتل المؤمن بغير حقّ. 3- كثرة القتل في آخر الزمان. 4- تحريم أنفس المعاهَدين. 5- اغترار الفئة الضالة. 6- العصمة من الفتن. 7- فتنة الخوارج. 8- حقوق الولاة على الرعية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتَّقوا اللهَ تعالى، اتَّقوا ربَّكم، اتَّقوا من يعلَم سِرَّكم وجهرَكم، اتَّقوه بفِعل الطاعات والبُعد عن المحرَّمات.
عبادَ الله، لقد عظَّم الله تعالى حقوقَ العِباد، وشَدَّد في النهيِ عن الاستطالةِ على دمائِهم وأموالهم وأعراضِهم، فقال في خُطبةِ الودَاع محذِّرًا من ذلك: ((فإنَّ ماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا في بلَدِكم هذا في شهرِكم هذا، وستَلقَون ربَّكم فيسألُكم عن أعمالكم، فلا ترجِعوا بعدي كفّارًا يضربُ بعضكم رقابَ بعض)) [1].
إذا كان من أَعظمِ الأمور التي نهى الإسلامُ عنها وشدَّد النكيرَ على فاعِلها بعد الشِّرك بالله هو قتل النّفس المعصومة، فإنَّ هذا إفسادٌ في الأرض كبير، وهو أمر جلَل وجريمةٌ منكرةٌ شنيعة، حذَّر منها ربُّنا تعالى، وحذَّر منها نبيّنا ، فقد قال سبحانه وتعالى في مُحكَم كتابه: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، وتوعَّد بعظيم الجزاء على من قتلَ مؤمنًا فقال عز وجل: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وقال المصطفى : ((لو أنَّ أهلَ السمواتِ والأرضِ اجتمعوا على قتلِ مسلمٍ لأكبَّهم الله جميعًا على وجوههم في النار)) [2] ، بل حذَّر مِن مجرَّد الإعانة على القتل، رُوِي عنه أنه قال: ((من أعان على قتلِ مسلمٍ ولو بشَطر كلمة جاءَ يومَ القيامة مكتوبًا بين عينيه: آيسٌ من رحمة الله)) [3].
عبادَ الله، أين عقولُ من يدَّعون الإسلام؟! أين دينهم؟! أين خوفُهم من الله؟! ما هذا التساهُلُ في أمر الدماءِ والقتل؟! أهانَ عليهم الأمر حتى صار بعضُهم يفتي لنفسه بحِلِّ دماء الناس ثم يستحلّها؟! ولقد أخبرنا الصادقُ المصدوق خبرًا يوجبُ الحذَرَ والخوف من الله، فقد جاء في الحديث عنه أنه قال: ((إنّ بين يدَي الساعةِ الهرج)) ، قالوا: وما الهرج؟ قال: ((القتل، إنه ليس بقتلِكم المشركين، ولكن قتل بعضِكم بعضًا، حتى يقتل الرجلُ جارَه، ويقتل أخاه، ويقتل عمَّه، ويقتل ابن عمه)) ، قالوا: ومعنا عقولُنا يومئذٍ يا رسول الله؟! قال: ((إنه لتُنزَع عقول أهلِ ذلك الزمان، ويخلف لهم هباءٌ من النّاس يحسب أكثرهم أنهم على شيء، وليسوا على شيء)) [4].
فكيف يقدِم القاتِل على الفعل وهو يعلَم بشاعةَ جُرمه وفظاعةَ فِعله؟! فقد نصب له خصمًا يومَ القيامة، ففي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعتُ نبيَّكم يقول: ((يجيء المقتولُ متعلِّقًا بالقاتل، تشخب أوداجُه دمًا يقول: يا ربّ، سَل هذا فيم قتلني؟!)) [5].
أفلا يتذكَّر القاتلُ كم نَفس آذى وكم قَلب أَفزع، فهذان الوالِدان المكلومان عَصر الألمُ قلوبَهما وأذاقهما كؤوسَ العَلقم والصبر، فحنى الحزنُ ظهورَهما وهدَّ قِوامهما، وأَطفالٌ صِغارٌ فقدوا عائلَهم، ومربِّيهم ينشدون الرحمةَ في قلوب الناس، وربَّما تشتَّتت أحوالهم وتغيَّرت أخلاقُهم، في أيِّ حفرة أردَى القاتلُ فيها نفسه؟! وأيّ ورطةٍ تورَّط فيها؟! يقول ابن عمر رضي الله عنهما: (إنَّ مِن ورطات الأمورِ التي لا مخرجَ لمن أوقع نفسَه فيها سفكَ الدم الحرام بغير حلّه) [6].
عبادَ الله، لقد شدَّد الإسلامُ على أمرِ القتل وعظّمه، ولم يعصِم دمَ المسلم فحَسب، بل عَصَم دمَ المسلم ودمَ الكافر، فحرّم الاعتداءَ على مَن أمَّنه المسلمون؛ لأنَّ المسلمين يدٌ واحدة، يسعى بذمَّتِهم أدناهم، فمن قَتل مَن أمَّنوه فقد خانهم واستحقّ عقابَ الله، لقد أخرج البخاريّ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبيّ أنه قال: ((من قتل معاهَدًا لم يرَح رائحةَ الجنة، وإنَّ ريحَها ليوجد من مسيرةِ أربعين عامًا)) [7] ، قال ابن حجر رحمه الله: "والمرادُ به مَن له عهدٌ مع المسلمين، سواء كان بعقدِ جزيةٍ أو هُدنة مِن سُلطان أو أمانٍ من مسلم" [8].
عبادَ الله، ما هذه السَّكْرة التي يعيشُها من روَّع المسلمين وخالف جماعتَهم وشذّ عن طريقهم؟! أفلا يتفكَّرون إلى أين يذهبون وما هم عامِلون؟! إنهم يتَّهمون العلَماءَ والمجتمعَ بالضَّلال، وأنهم هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر في وقتٍ تخاذَل فيه الناس، فقاموا بسَفكِ الدماء وترويع الناس ظنًّا أنهم للإسلام ناصرون وللحقِّ مظهِرون، وربما تمادَوا حتى كفَّروا من كفَّروا، وجعلوا ذلك ذريعةً للقتل والتدميرِ والإفساد.
وهذه الفتنُ ـ يا عبادَ الله ـ ممّا حذّرنا منه نبيّنا غايةَ التحذير، وحفِظها عنه صحابتُه الكرام، ونقلها لنا الأئمةُ الأعلام وبيَّنوها لنا أتمَّ بيان، فقد ذكَر ما يحدُث بعدَه من الفتن ودلَّنا على ما يُؤمِّننا منها وما يحصُل لنا به الحمايةُ والسلامةُ من شرِّها، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أوصِيكم بتقوى الله والسمعِ والطاعة وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنه من يعِش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنَّتي وسنةِ الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي، تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة)) [9].
وإنَّ أوَّل الفِتن ظهورًا كانت في عهدِ صحابة رسول الله ، فخرج أُناسٌ كفَّروا أهلَ الإسلام من الصحابةِ والتابعين لهم بإحسان، فقاتلوهم وسفَكوا دِمائهم، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام عنهم أنهم يخرُجون ويقتلون أهلَ الإسلام ويدَعون أهلَ الأوثان، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان أنَّ رجلاً غائرَ العينين مُشرفَ الوجنتين ناشزَ الجبهة كَثَّ اللِّحية محلوقَ الرأس مشمِّر الإزار قال: يا رسولَ الله، اتَّق الله، قال: ((ويلك، أوَلَستُ أحقَّ أهلِ الأرض أن يتّقيَ الله؟!)) ثم ولَّى الرجلُ، فقال خالد بن الوليد: يا رسولَ الله، ألا أضربُ عنقه؟! قال: ((لا، لعلّه أن يكونَ يصلِّي)) ، فقال خالد: وكم من صلٍّ يقول بلسانه ما ليسَ في قلبه، فقال رسول الله : ((إني لم أومَر أن أنقِّبَ عن قلوبِ الناس، ولا أن أشقَّ عقولَهم)) [10].
فاتّقوا الله عبادَ الله، وصلُّوا على النبيّ ، إنّ الله سبحانه وتعالى يأمركم أن تصلُّوا على نبيّه عليه الصلاة والسلام، فصلُّوا عليه وسلِّموا تسليمًا.
[1] أخرجه البخاري في التوحيد (7447)، ومسلم في القسامة (1679) عن أبي بكرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه الترمذي في كتاب الديات (1398) عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وقال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/258): "في إسناده يزيد الرقاشي عن أبي الحكم وهو عبد الرحمن بن أبي نعم عنهما، ويزيد ضعيف جدّا، ولكن هذه الأخبار يشدّ بعضها بعضا"، ولذا صححه الألباني في صحيح الترغيب (2438، 2442).
[3] أخرجه ابن ماجه في الديات (2620)، والعقيلي في الضعفاء (4/381)، وأبو يعلى (5900)، وابن عدي في الكامل (7/259)، والبيهقي في الكبرى (8/22) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأشار المنذري في الترغيب (3/202) إلى ضعفه، وضعفه البوصيري في مصباح الزجاجة (3/122)، وهو في السلسلة الضعيفة (503).
[4] أخرجه أحمد (4/391-392، 406، 414)، وابن ماجه في الفتن (3959) وأبو يعلى (7247) من طرق عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1682).
[5] أخرجه أحمد (1/222، 240، 294، 364)، والترمذي في التفسير (3029)، والنسائي في تحريم الدم (3999، 4005)، وابن ماجه في الديات (2621)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن، وقد روى بعضهم هذا الحديث عن عمرو بن دينار عن ابن عباس نحوه ولم يرفعه"، وهو في السلسلة الصحيحة (2697).
[6] أخرجه البخاري في الديات (6863).
[7] صحيح البخاري: كتاب الجزية (3166).
[8] فتح الباري (12/259).
[9] أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
[10] صحيح البخاري: كتاب المغازي (4351)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1064) عن أبي سعيد الخدري نحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الفضلِ العظيم والمنِّ الجسيم، أنعم على عبادِه بأصناف النِّعم، وحذَّرهم من أسباب النِّقم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه.
أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، اتّقوه حقَّ تقاته ولا تموتنّ إلاَّ وأنتم مسلمون، واعلموا أنَّ تقواه سبحانه هي الحِصن الحصين الواقي من غوائلِ الفِتن والشّرور، وهي التي تيسّر الطريقَ المستقيم الذي ينجو من سلَكَه ويفوز من انتهجه.
عبادَ الله، إنَّ من توجيهاتِه [لعبادِ الله] المؤمنين السمعَ والطاعةَ لولاة الأمور ومعاونَتهم على الحقِّ وطاعتهم فيه وتذكيرَهم وتنبيههم برفقٍ ولين وحُبِّ صلاحٍ ورُشدٍ لهم وحُبِّ اجتماعٍ على الكلمة والتديّنَ بطاعتهم في طاعةِ الله سبحانه وتعالى، فقد قال : ((من أطاعني فقد أطاعَ الله، ومن عصاني فقد عصَى الله، ومن أطاع الأميرَ فقد أطاعني، ومن عصَى [أميري فقد عصاني]، وإنما الإمامُ جُنَّة يتَّقى به)) [1] ، وقد جاء في الحديث عن عبادةَ بن الصامت رضي الله عنه أنّه قال: بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وأثرة علينا [2].
وصلّوا وسلِّموا ـ عباد الله ـ على رسولِه المصطفى ، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ على محمد عبدك ورسولك وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل:90، 91]. فاذكروا الله العظيمَ الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
[1] أخرجه البخاري في الجهاد (2957)، ومسلم في الإمارة (1835، 1841) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الفتن (7056)، ومسلم في الإمارة (1709).
(1/3284)
فضل الرجوع إلى الحق
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
21/5/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقوق المسلم وواجباته تجاه أمته. 2- الخطأ من طبيعة البشر. 3- الخطأ الإصرار على الخطأ. 4- فضل التوبة والرجوع إلى الحق. 5- نماذج من تراجعات السلف. 6- حاجة المسلمين إلى النصح والتناصح. 7- واجب المسلم تجاه الفتن المدلهمة. 8- دعوة للرجوع إلى الهدى. 9- أهمية إحسان النية في الرجوع إلى الحق. 10- فرصة العفو الملكي الكريم. 11- نماذج من عفو أمراء السلف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، إنّ المرءَ المسلمَ وهو يحيَا على أرضِ الإسلام وبين مجتمعاتِ الإسلام ليتعلّق برقبته وذمَّتِه تُجاه مجتمَعه وأمَّتِه حقوقٌ وواجبات، كما أنّ لهم عليه حقوقًا وواجبات. ثمّ إنَّ تحصيلَه في أداءِ حقِّ الغير أمرٌ لا مناصَ من مراعاتِه؛ بجلب كلِّ ما يوصِل إلى هذه الحقوق ودفع أو رفع كلِّ ما يخدِشُها أو يخِلُّ بها.
وهذه الحقوق في مجموعها تبدَأ من أقربِ الناس إليه لتصلَ إلى مَن لا يقلُّ شأنًا عنهم، فعليه حقوقٌ تجاه والديه اللّذين ربَّياه صغيرًا وآنساه كبيرًا، وكذا حقوقٌ تجاه زوجِه وأولاده وصحابته، يُضاف إلى ذلكم تلك الحقوقُ العظيمة تجاهَ ولاةِ أمره الذين ولاَّهم الله عليه وعلماءِ أمَّتِه الذين هم ورثةُ الأنبياء.
إنه مهما تقلَّب المرءُ بين هذه التحصيلات فإنما هو يتنقَّل من حقٍّ إلى آخرَ مثلِه، غير أنّ نزغَاتِ الشياطين وهنّاتِ بني آدم وغفلاتِهم التي لا يسلم منها مسلِم ولا يكاد لهي تعتري المرءَ بين الحين والآخر، فقد تزلُّ به القدم وتتعثَّر به الدّابَّة، فيخطِئُ الهدفَ ويُحدِث الثّلمة وإن لم يَعصِب عينيه، ثُمَّتَ يحتاج في النهوضِ من مثلِ هذه الكبوةِ إلى مراجعةٍ للحقّ وتجرُّدٍ عن الهوى وتصحيحٍ للهدف وللوسَائل الموصلةِ إلى ذلكم الهدف. وإنّ مثلَ هذا ليحتاج إلى شجاعة وإقدامٍ وإيثار للآجل على العاجل؛ إذ كلُّ بني آدم خطَّاء، وخيرُ الخطّائين التوّابون.
إنّ الوقوعَ في الزللَ خطأ ظاهر، غير أنّه ليس هو العَيبَ كلَّ العيب، وإنما العيبُ والشَّين في منادَمَة الخطأ والإصرارِ عليه والاستنكافِ عن الرجوع إلى الحقّ إذا أخذتِ المرءَ العزّةُ بالإثم بعد اتِّضاح معالم الحقّ وسطوع شمسِه. ثمَّ إنّ التوبةَ من الخطأ والزّلل والرجوعَ عنه بشجاعةٍ وإقدام لهو المحمدةُ الحقّة والشجاعة المتمكِّنَة والنجاةُ من المغبَّة الآجلة قبل العاجلة.
ولو سَبرنا سِيَر العلماء والمجتهدين عبرَ التأريخ في التراجُع عن الخطأ وفي التحضيض على الرجوع إلى الحقّ لرأينا من مثلِ تلكم الشجاعةِ أشياعًا وأشياعًا، فهؤلاء الأئمّةُ الأربعةُ كلُّ واحدٍ منهم يؤكِّد بقوله: إنَّ أيَّ قولٍ له يخالف كتابَ الله وسنةَ رسوله فهو بريء منه ومتراجعٌ عنه إلى ما صحَّ به الخبر وقام عليه الدليل، وقد جاء مِن بعدهم في الأمّة مشاهيرُ قد أخطؤوا الطريقَ وزلَّت بهم القدَم في اجتهاداتٍ خالفتِ القولَ الحقّ، فأبرزَهم الخوفُ من الله المثمرُ الشجاعةَ في الرجوع إلى الصواب وإعلان ذلك على الملأ حتى صارَ تراجُعُهم عن الخطأ حروفًا مسطَّرةً بمدادٍ يشِعُّ بأنوار الفرَح بالتزام الحقِّ والتراجُع عمّا يخالفه، وقد كان الواحدُ منهم قبلَ تراجُعه يرى أنه قد تناهى به الاجتهادُ إلى غايةٍ ما بعدَها له مذهبٌ، فلما تلاقَى هو وخطؤُه وعايَن قُبحَه وشناعتَه تيقّن أنه إنما كان يلهو ويلعب، وقد قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله لعبد الله بن وهب رحمه الله: "يا عبدَ الله، لا تحملنَّ الناسَ على ظهرِك، وما كنتَ لاعبًا به من شيء فلا تلعبنّ بدينك".
وقد كان من أشهرِ من أعلَن رجوعَه إلى الحقّ والالتحاقَ بركبه الإمامُ المشهور بابن قتيبة رحمه الله، فقد أعلن ذلك وسطَّره، ومِن بعده أبو الحسن الأشعريّ رحمه الله الذي نشأ على مذهبِ الاعتزال أربعين عامًا، ثم أعلن على الملأ رجوعَه إلى الحقّ والدليل وتبرَّأ ممّا سِوى ذلك. ومثلُهُ أبو المعالي الجوينيّ وأبو حامدٍ الغزاليّ وأبو الوفاء بن عقيل وابن القيّم وغيرهم كثير، لم يمنعوا أنفسَهم الاعترافَ بالزّلَل والرجوعَ إلى الحقّ عند ظهوره، بل إنهم رجعوا بالتُّهمةِ على أنفسهم لأنّ كتابَ الله وسنّة رسوله لا يهدِيان إلاّ إلى الحقِّ، وأمّا رأيُ الإنسان فقد يرى الحقَّ وقد يرَى الباطل، ثم إنَّ مراجعاتِهم تلك لم تكن يومًا ما حِطَّةً لهم ولا منقَصة، بل كانت رِفعةً ومنقبة وحظًّا وتوفيقًا؛ لأنّ الحقَّ ضالّةُ المؤمن، أنّى وجدَها أخذ بها، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإذا عُرِف مقصودُ الشريعة سُلِك في حصوله أوصَلَ الطُرُق إليه".
أيّها الناس، إنّنا حينما نقول مثلَ هذا الكلام لنؤكِّدُ حاجةَ المسلمين إلى النّصح والتناصُح والبحث عن الحقِّ والصوابِ والتعاون الحثيثِ على لمِّ شمل المجتمع وردمِ أيِّ هُوّة تُفتَح دونَه على حين غِرّة. وإنّ ما يقع في هذه الأيام من جعل البلادِ المسلمة عَرصاتٍ لإهراقِ الدماء المعصومةِ التي حرّمها الشارعُ الحكيم وما يعتري تلك العَرَصاتِ من افتياتٍ على ولاةِ الأمر والعلماءِ والإخلالِ بالأمنِ والترويع والإرباك لهو من الخطورةِ والإنذار بالشرّ ما لا ينبغي الغفلةُ عنه أو تجاهُلُه أو تلفيقُ المسَوِّغاتِ له، بل يجِب التحريض على ردمِ هذا البركان الهائجِ وإيقافِ ذلكم النّزف بكلِّ وسيلةٍ متاحةٍ؛ إذ لا قبولَ لمثل ذلك تحتَ أيِّ مبرِّرٍ كان؛ لأنّ الحقّ أحبُّ إلى المنصِف من كلِّ أحد. ثم إنّ الرابحَ الوحيدَ من هذا كلِّه هو العدُوُّ المتربِّص والحاسِد الشامِت، فضلاً عن كونِ خيوط هذه التصرُّفات نسيجًا من نسيجِ العلوّ، والذي يستعمل في نفاذِه الأَغرارَ من بني أمَّتنا من أجل سِلب أمنِ المجتمَع والعَبَثِ بمقدَّراتِه بكلِّ ما تعنيه الكلمة. وكفى بالأمر خطورةً ما قاله النبي : ((أوّلُ ما يُقضَى به بين الناسِ يومَ القيامة في الدّماء)) رواه البخاري ومسلم [1].
ألا إننا مِن على هذا المنبر المبارَك لنناشِد كلَّ من مَدَّ يدَه في هذا الإناءِ الملوَّث أن يتّقيَ الله في المسلمين، وأن يرجِعَ إلى هديِ السلف في سلوكِه وفِكره، وأن يأخذَ بهديِ علماء الأمّة الربانيِّين أين تيمَّموا، وأن يسلُكَ في الدرب يمنةً فما الدربُ ذات شمال، ليوقِن كلُّ معاقرٍ لهذه الأفعالِ المرفوضة أنّه بمثلِ هذا الفعل يؤخِّر يومَ النصرِ ولا يقدّمه، وأنّ الحصاةَ التي يقذِف بها ويظنُّها انتصارًا إنما هي في الحقيقةِ تفقَأ العينَ ولا تقتلُ الصيد. فاللهَ اللهَ في الأوبةِ الصادقة والتوبةِ النصوح وقبولِ الحقّ وعدمِ الاغتمام به؛ لأنَّ الاغتمامَ بالصواب غِشٌّ في المغتَمِّ نفسِه، وسوءُ نيّةٍ بالمسلمين، ومن كرهِ الصوابَ من غيره ونصر الخطأ من نفسه لم يُؤْمَن عليه أن يسلبَه الله ما علَّمه ويُنسيَه ما ذكَّره، وقد قال ابن القيم رحمه الله: "لقد ذمَّ الله تعالى من يردُّ الحقَّ إذا جاءَ به من يُبغضُه ويقبلُه إذا جاء به من يُحبُّه، فهذا خلُق الأمّةِ الغضبيّة" أي: اليهود، وقد قال بعضُ الصحابة رضي الله عنهم: (اقبل الحقّ ممّن قاله وإن كان بغيضًا، ورُدَّ الباطلَ على من قالَه ولو كان حبيبًا).
ألا فليتَّقِ اللهَ أولئك المتهوِّرون المجازِفون بأنفسِهم ومجتمعِهم إلى ما لا تُحمَد عقباه، ولينظُروا بعَين البصيرة ليتَّضحَ لهم مواقعُ الخللَ فيما أقدموا عليه، وليعلَموا أنّ حالَهم يصدُق عليها قولُ ابن القيم رحمه الله بأنّهم كمثَل عُميانٍ خلَوا في ظُلمةٍ لا يهتَدون سبيلاً، فتصادَموا بالأكُفِّ والعصِيّ، فلا ترى منهم إلا مشجوجًا أو مفجوجًا أو مقتولاً، وقد يتسامَعُ عميانٌ أمثالُهم فيلِجون الظلمةَ كسابقيهم، فلا يزداد الصياح إلا عويلاً.
ألا فليعلم كلُّ والجٍ لهذا الكهفِ المظلِم ـ عبادَ الله ـ أنه سيكون أسيرَ خوفٍ وقلَقٍ وتوجُّسٍ وفرَق، كثيرَ الرَّوع والالتفات، تضيقُ عليه الواسعةُ بما رحُبَت، وتضيق عليه نفسُه التي بين جَنبيه، إنه يرقُب العقوبةَ كامنةً له عند كلِّ أفُق، وهذا مصداقُ قولِ النبيّ : ((لا يزال المؤمن معنِقًا صالحًا ما لم يُصِب دمًا حرامًا، فإذا أصاب دمًا حرامًا بلَح)) رواه أبو داود وأصله عند البخاري، ومعنى ((معنِقًا)) أي: مسرِعًا في طاعته منبسِطًا في عمله، ومعنى ((بَلَح)) أي: انقطَع بسببِ الإعياء والتعَب فلم يقدِر أن يتحرّك.
فهل بعد هذا يعقِلُ أولئك ويفكِّر كلُّ واحدٍ منهم في حالِ والده ووالدتِه حينما تأخذهما الحَسَراتُ كلَّ مأخَذ وهما اللّذان ربَّياه صغيرًا، يستنشِقون ألمَ صنِيعِه المقيت وشذوذه الكالح؟! ألا يفكِّر في زوجه وأولادِه الذين يخشى عليهم الضياعَ من بعده والأسى من فقدِه؟! ألا يشعُر بأنَّ زوجتَه أرملةٌ وإن كان حيًّا وأنّ أولادَه أيتامٌ وإن كان له عِرقٌ ينبض؟!
ألا فلله دَرُّ أبي الزّناد عبد الله بن ذكوان وهو من علماء السلف إذ يقول معرِّضًا بأمثال هؤلاء: "ولو لزِموا السننَ وأمرَ المسلمين وتركوا الجدالَ لقَطَعوا عنهم الشكَّ وأخَذوا بالأمر الذي حضّهم عليه رسول الله ورضيَه لهم، ولكنهم تكلَّفوا ما قد كُفُوا مؤنتَه، وحملوا على عقولهم من النّظر في دين الله ما قصُرت عنه عقولهم، وحُقَّ لها أن تقصُر عنه وتحصُر دونه، فهنالك تورَّطوا".
يبدَ أنَّ إحسانَ النيّة في الرجوع إلى الحقّ ـ عبادَ الله ـ لهو مدعاةٌ للتوفيق والخروج من المآزق بيُسر وسهولةٍ مع ثباتٍ على الطريق المستقيم، فالله جل جلاله قد وعَد مَن هذه حالُه بقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال:70].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسِي والشّيطان، وأستغفر الله إنه كان غفّارًا.
[1] صحيح البخاري: كتاب الديات (6864)، صحيح مسلم: كتاب القامة (1678) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: ففي خِضمِّ هذه الأحداث الملتهِبة ووسط هذه الزوابعِ المتلاطِمةِ تبرزُ الحكمةُ والحِلم والعفوُ والصّفحُ، وتمتدُّ أيادي الإعذارِ عند المقدرة والتمكُّن، وقديمًا قيل: العفوُ عند المقدرة.
ألا فإنّ المرءَ في هذه البلادِ ليبارك العفوَ الكريم والتطلُّعَ النبيل من ولاةِ أمر هذه البلاد حرسها الله؛ ليتراجع متراجِع ويؤوب شارد. وإنَّ هذه المبادرةَ الموفّقَة ليست بِدعًا من التأريخ، بل هي منطِق الحكمة والصّفح عند الاقتدار، والأسوةُ في هذا كلِّه رسولُ الله حين قام عامَ الفتح في المسجد الحرام قائلاً: ((يا معشر قريش، ما تظنّون أني فاعلٌ بكم؟)) قالوا: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، قال: ((فإني أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: لا تثريبَ عليكم اليومَ، اذهبوا فأنتم الطُّلقاء)) [1].
وفعل مثلَ ذلك أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه حينما حاصَر الأشعثَ بنَ قيس بعد أن ارتدَّ عن الإسلام فأخذه أبو بكر بالأمان، فأخذ هو الأمانَ لسبعين مِن رجاله ولم يأخُذه لنفسِه، فأُتي به أبا بكر رضي الله عنه فقال له: إنّا قاتِلوك لا أمانَ لك، فقال: تمنُّ عليَّ وأُسلم؟ قال: نعم، ففعل.
ومثلُه الخليفةُ المعتمِد على الله حين دعا قائدَ ثورةِ الزّنج إلى التوبة، فتاب بعضُ أعوانِه واستأمنوا الخليفةَ فأكرمهم، وأمّا هو فقد عتا حتى قُتِل شرَّ قِتلَة.
وهكذا فعَل الحكَمُ بن هشام الأمويّ أميرُ الأندلس في القرن الثاني حين افتات عليه جماعةٌ من أهل قُرطبة وثارُوا وشهروا السلاحَ، فغلبهم الحَكَم، ثم كتب كتابَ أمانٍ عامّ، فرجع إليه من رجع، وقُتِل من قتل.
ومثلُه الخليفةُ المعتصِم حين أعطى الأمانَ لبابكٍ الخُرَّمي بعد أن حاصَره، لكنه لم يستجب وفرَّ إلى أن قُبِض عليه وقُطِعت رأسُه وطيفَ به في الناس.
وحاصِلُ الأمر ـ عبادَ الله ـ أنّ العفوَ عند المقدرة من سيمَا الكُرمَاء الأقوياء، وإنها لفرصةٌ سانِحة لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد.
ألا فسَارِعوا ـ أيها المخطِئون المختبِئون ـ ولتجعَلوا من هذه المبادرةِ نقطةَ انطلاقٍ في التصحيح والرجوع إلى الحقّ، وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:94].
فالبدارَ البدارَ في اللّحاق بركاب الموعودين بالعَفو والصّفح في الدارين في قوله تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:34].
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشريّة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحبِ الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية لابن هشام (4/412) فقال: "حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله قام على باب الكعبة.. فذكره في حديث طويل، وهذا سند معضل. وروي عن قتادة السدوسي مرسلاً، أخرجه الطبري في تاريخه (2/161) من طريق ابن إسحاق أيضا.
(1/3285)
حال الأمة بين الماضي والحاضر
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
21/5/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل السلف الصالح. 2- سنة التغيير في الأمم. 3- أين الخل؟ 4- ضرورة المحاسبة والمراجعة. 5- بشائر النصر. 6- معاناة المسلمين في فلسطين. 7- خطر الفساد الأخلاقي والاقتصادي. 8- حديث عن الأسرى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، لقد نجح سلفنا الصالح في معاملاتهم مع الله، فقد خلّصوا الأعمال من الأكدار نفلاً وفرضًا، واجتهدوا في طاعة مولاهم ليرضى، وغضّوا أبصارهم عن الشهوات غضًّا، فإذا أبصرتهم رأيت أجسادًا مرضى، وعيونًا قد ألفت السهر ما تكاد تطعم غَمضًا، بادروا أعمارهم لعلمهم أنها ساعات تنقضي، فأمدهم بالعون السرمدي، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الأنعام:52].
ابتلاهم فرضوا وصبروا، وأنعم عليهم فاعترفوا وشكروا، وجاؤوا بكل ما يرضي ثم اعتذروا، وجاهدوا العدو فما انقشعت الحرب حتى ظفروا، فنالوا غاية الإمكان والعطاء فربحوا.
لله درهم، فقد أخلصوا الأعمال وحققوها، قيّدوا شهواتهم بالخوف وأوثقوها، وسابقوا الساعات بالطاعات فسبقوها، وخلّصوا أعمالهم من أشراك الرياء وأطلقوها، وقهروا بالرياضة أغراض النفوس الرذيلة فمحقوها، فنالوا الرضا والرضوان، وتبوّؤوا أعلى درجات الجنان، فطوبى لهم وحسن مآب.
يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]. تلك آيات الكتاب الحكيم، تهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ولا يرتاب فيها إلا الضالون، هل يخلف الله وعده ووعيده وهو أصدق من وعد وأقدر من أوعد؟! هل كذب الله رسله؟! هل غش خلقَه وسلك بهم طريق الضلال؟! نعوذ بالله. هل أنزل الآيات البيّنات لغوًا وعبثًا؟! هل افترت عليه رسله كذبًا؟! هل اختلقوا عليه إفكًا؟! هل خاطب الله عبيده برموز لا يفهمونها وإشارات لا يدركونها؟! هل دعاهم إليه بما لا يعقلون؟! نستغفر الله.
أليس قد أنزل القرآن عربيًا غير ذي عوج، وفصل فيه كل أمر، وأودعه تبيانًا لكل شيء؟! تقدست صفاته وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
هو الصادق في وعده ووعيده، ما اتخذ رسولاً كذّابًا، ولا أتى شيئًا عبثًا، وما هدانا إلا سبيل الرشاد، ولا تبديل لآياته، تزول السماوات والأرض ولا يزول حكم من أحكام كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
يقول الله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28].
هذا ما وعد الله في محكم الآيات مما لا يقبل تأويلاً، ولا ينال هذه الآيات بالتأويل إلا من ضل عن السبيل، وحرام تحريف الكلام عن موضعه.
هذا عهده إلى تلك الأمّة المرحومة، ولن يخلف الله عهده، وعدها بالنصر والعزة وعلو الكلمة، ومهد لها سبيل ما وعدها إلى يوم القيامة، وما جعل الله لمجدها أمدًا ولا لعزتها حدًا.
هذه الأمة أعدادها كبيرة، وأراضيها كثيرة، تربتها طيبة، وديارها رحبة، ومنابتها خصبة، ومع ذلك نرى بلادها منهوبة، وأموالها مسلوبة، تتسلط الأجانب على شعوب هذه الأمة شعبًا شعبًا، ويتقاسمون أرضهم قطعة بعد قطعة، ولم يبق لها كلمة تسمع، ولا أمرًا يطاع، حتى إن الباقين من حكامها يمسون كلّ يوم في ملمة، ويمسون في كربة، ضاقت أوقاتهم عن سعة الكوارث التي تلمّ بهم، وصار الخوف عليهم أشد من الرجاء لهم.
هذه الأمة التي كانت الدول العظام يؤدّين لها الجزية عن يد وهي صاغرة، استبقاءً لحياتهم، وحكامها في هذه الأيام يرون بقاءهم في التزلّف إلى تلك الدول الأجنبية، يا للمصيبة ويا للرزيّة.
أليس هذا بخطب جلل؟! أليس هذا ببلاء نزل؟! ما سبب هذا الهبوط؟ وما علة هذا الانحطاط؟ هل نسيء الظن بالعهود الإلهية؟! معاذ الله، هل نستيئس من رحمة الله؟! نعوذ بالله، هل نرتاب في وعده بنصرنا بعد ما أكده لنا؟! لا كان شيء من هذا ولن يكون، فعلينا أن ننظر في أنفسنا، ولا لوم لنا إلا عليها، إن الله تعالى برحمته قد وضع لسير الأمم سننًا متبعة ثم قال: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62].
عباد الله، هكذا جعل الله بقاء الأمم ونماءها في التحلي بالفضائل، وجعل هلاكها ودمارها في التخلي عنها، سنة ثابتة، لا تختلف باختلاف الأمم، ولا تتبدل بتبدل الأجيال، كسنة الله تعالى في الخلق والإيجاد وتقدير الأرزاق وتحديد الآجال.
علينا أن نرجع إلى قلوبنا، ونمعن مداركنا، ونسبر أخلاقنا، ونلاحظ مسالك سيرنا، لنعلم هل نحن على سيرة الذين سبقونا بالإيمان؟ هل نحن نقتفي أثر السلف الصالح؟ هل غيّر الله ما بنا قبل أن نغيّر ما بأنفسنا وخالف فينا حكمه وبدّل في أمرنا سنته؟ حاشاه وتعالى عما يصفون، بل صدقنا الله وعده حتى فشلنا وتنازعنا في الأمر وعصيناه من بعد ما أرى أسلافنا ما يحبون، وأعجبتنا كثرتنا فلم تغن عنا شيئًا، فبدّل عزّنا بالذل، وسُموَّنا بالانحطاط، وغنانا بالفقر، وسيادتنا بالعبودية، نبذنا أوامر الله ظهريًا، وتخاذلنا عن نصرته، فجازانا بسوء أعمالنا، ولم يبق لنا سبيل إلى النجاة والإنابة إليه.
عباد الله، أيحسب اللابسون لباس المؤمنين أن الله يرضى منهم بما يظهر على الألسنة ولا يمس سواد القلب؟! هل يرضى منهم بأن يعبدوه على حرف، فإن أصابهم خير اطمأنوا به، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم، خسروا الدنيا والآخرة؟! هل ظنوا أن الله لا يعلم ما في صدورهم، ولا يمحص ما في قلوبهم؟! ألا يعلمون أن الله لا يذر المؤمنين على ما هم عليه حتى يميز الخبيث عن الطيب؟! هل نسوا أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم للقيام بنصرة الله وإعلاء كلمته، لا يبخلون في سبيله بمال؟! فهل لمؤمن بعد هذا أن يزعم نفسه مؤمنًا وهو لم يخط خطوة في سبيل الإيمان، لا بماله ولا بروحه؟!
إنما المؤمنون هم الذين قال لهُم النَّاس: إنَّ النَّاسَ قد جمَعوا لكُم فاخشوهُم، فزادهُم إِيمانًا وقَالوا: حَسبُنا الله ونعمَ الوكِيل.
فلينظر كلّ إلى نفسه، ولا يتتبّع وساوس الشيطان، وليمتحن كل واحد قلبه قبل أن يأتي يوم لا تنفع فيه خلة ولا شفاعة، وليطابق بين صفاته وبين ما وصف الله به المؤمنين وما جعله من خصائص الإيمان، فلو فعل كل منا ذلك لرأينا عدل الله فينا واهتدينا.
يا سبحان الله، إن هذه أمتنا أمة واحدة، والعمل في صيانتها من الأعداء أهم فرض من فروض الدين عند حصول الاعتداء، يثبت ذلك نص الكتاب العزيز وإجماع الأمة سلفًا وخلفًا، فما لنا نرى الأجانب يصولون على البلاد الإسلامية صولة بعد صولة ويستولون عليها دولة بعد دولة والمتّسِمون بسمة الإيمان أهلون لكل أرض متمكّنون بكل قطر، ولا تأخذهم على الدين نصرة، ولا تستفزهم للدفاع عنه حمية؟!
ألا يا أهل القرآن، لستم على شيء حتى تقيموا القرآن، وتعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي، وتتخذوه إمامًا لكم في جميع أعمالكم، مع مراعاة الحكمة في العمل، كما كان سلفكم الصالح.
ألا يا أهل القرآن، هذا كتابكم فاقرؤوا منه: فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ [محمد:20].
ألا تعلمون فيمن نزلت هذه الآية؟! نزلت في وصف من لا إيمان لهم. هل يسرّ مؤمنًا أن يتناوله هذا الوصف المشار إليه بالآية الكريمة أو أنه قد غرّ الكثيرين من المدّعين للإيمان ما زيّن لهم من سوء أعمالهم، وما حسنته أهواؤهم؟! أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
أقول ولا أخشى نكيرًا: لا يمس الإيمان قلب شخص إلا ويكون أول أعماله تقديم ماله وروحه في سبيل الإيمان، لا يجد في ذلك عذرًا ولا علة، وكل اعتذار في القعود عن نصرة الله هو آية للنفاق وعلامة للبعد عن الله.
ومع هذا كله نقول: إن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة كما جاء به نبأ النبوة، وهذا الانحراف الذي نراه اليوم نرجو أن يكون عارضًا وأن يزول، ولو قام العلماء الأتقياء وأدوا ما عليهم من النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين وأحيوا روح القرآن وذكروا المؤمنين بمعانيه الشريفة واستلفتوهم إلى عهد الله الذي لا يخلف لرأيت الحق يسمو والباطل يسفل، ولرأيت نورًا يبهر الأبصار وأعمالاً تحار فيها الأفكار.
وإن الحركة التي نراها في نفوس المسلمين في أغلب الأقطار هذه الأيام تشهد أن الله قد أعد النفوس لصيحة حق يجمع بها كلمة المسلمين ويوحّد بها بين جميع الموحدين، ونرجو أن يكون العمل قريبًا، فإن فعل المسلمون ذلك وأجمعوا أمرهم للقيام بما أوجب الله عليهم صحت منهم الأوبة، ونصحت منهم التوبة، وعفا الله عنهم، والله ذو فضل على المؤمنين.
فعلى العلماء أن يسارعوا إلى هذا الخير، وهو الخير كله، جمع كلمة المسلمين، والفضل كل الفضل لمن يبدأ منهم بالعمل، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17].
عباد الله، أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطيع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) أو كما قال.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، يا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على ما علم من البيان، وألهم من التبيان، وتمم من الجود والفضل والإحسان. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله لا ينقص خزائن ملكه العطاء، ولا تبرمه المسائل، والصلاة والسلام على سيد ولد عدنان، المبعوث بأكمل الأديان، المنعوت في التوراة والإنجيل والقرآن، وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسان.
عباد الله، كلما طال أمد الاحتلال ازدادت أوضاعنا سوءًا، واتسعت دائرة التيه والضياع والقلق، وتفاقمت الأمور داخل البيت الفلسطيني، سيما في منطقة القدس، الأرض التي رويت بدماء الصحابة والشهداء لاستمرار بقائها وإسلاميتها.
أيها المسلمون، لا أريد أن أتحدث عن ممارسة الاحتلال ضد شعبنا الفلسطيني على امتداد الوطن الفلسطيني، هذه الممارسات اليومية التي أصبحت أمرًا مسلّمًا به، ولا نملك قوة ولا حيلة لدفع الأذى عن أنفسنا.
فمسلسل الاغتيلات والتصفيات والاجتياحات والاعتقالات وتجريف الأراضي وهدم المنازل كلها أصبحت أمورًا اعتيادية، فلا نجد من يستنكرها أو يشجبها على المستويين الرسمي والشعبي، وقد رأيتم وسمعتم ما فعله الاحتلال من جرائم ظالمة في بيت حانون أمس الخميس، فقوافل الشهداء تتسابق على ثرى هذه الأرض، فمزيدًا من الصبر يا أهلنا، ومزيدًا من الثبات والرباط، وتيقنوا أن الله معكم، وسيكتب النصر لكم إن شاء الله.
أيها المسلمون، زادت في الآونة الأخيرة حالات القتل والاقتتال بين الأفراد والجماعات والعائلات، داخل المجتمع الفلسطيني لأتفه الأسباب، وعادت همجية الجاهلية دون خوف أو وجل من الله تعالى، دون تحكيم الشرع الحنيف.
هذه الظاهرة السلبية في مجتمعنا، سيما في شوارع القدس، وقد تحدثنا مرارًا عن الانفلات الأخلاقي، وكثيرًا ما تحدث المشاحنات والاقتتال بين الشباب وعلى مرأى ومسمع من جنود الاحتلال، إنهم يريدون انتشار الرذيلة والفساد والضياع.
لقد نسي هؤلاء أننا نعيش في احتلال بغيظ، ونسوا أننا كل يوم نشيع مجموعة من الشهداء، ونسوا طوق الخناق الذي يحيط بمدينة الإسراء والمعراج، ونسوا الجدار الظالم الذي تقيمه دولة الاحتلال.
أيها المسلمون، وأشير هنا إلى ظاهرة تعاطي المخدرات، والتي تفتك بالشباب، وتساهم في إسقاطهم أخلاقيًا وأمنيًا ووطنيًا، وتؤدي لانجرارهم وراء الجريمة، وللأسف الشديد إن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل إن تعاطي المخدرات والوقوع في جرائم الزنا قد طال الفتيات وطلاب المدارس والجامعات والمعاهد والكليات، فلا بد من الصحوة الجادة، ولا بد من استئصال الفساد من مجتمعنا مهما كلف الثمن.
أيها المسلمون، للأسف الشديد إن عالمنا الإسلامي لم يدرك حتى اليوم حجم المؤامرات التي تحاك ضد الإسلام والمسلمين، وبخاصة هنا في أرض الإسراء والمعراج.
عباد الله، لقد وزعت في الآونة الأخيرة منشورات من قبل فئات يهودية متعصّبة، تطالب فيها المسلمين أن يرحلوا من أرض فلسطين، وتزعم أن هذه الأرض المباركة لهم وحدهم فقط، وذلك حسب مفاهيمهم التوراتية. ونقول لهؤلاء: إن فلسطين كلها أرض إسلامية، والمسلمون فيها مرابطون حتى قيام الساعة، وما كان لكم أن توزعوا هذه الأفكار الضالة إلا في غياب دولة المسلمين، وإن جميع المسلمين في فلسطين يعاهدون الله على الرباط في هذه الديار المقدسة مهما بلغ قهر واستبداد وظلم المحتلين.
وبنفس الوقت ليسأل هؤلاء أنفسهم: من الغرباء عن هذه الأرض؟ من الذين جاؤوا من أوروبا أو جاؤوا من الشرق والغرب؟ فنحن أبناء هذه الأرض المباركة كما قرر الله تعالى في كتابه في القرآن الكريم، وليس كما يدعي هؤلاء كذبًا وزورًا وبهتانًا على التوراة والإنجيل الذي دخلت إليه أياديهم، فحرفوا كلام الله وكتبه ورسالاته.
أيها المسلمون، نتناول في خطبة اليوم عدة ظواهر سلبية، تقض مضاجعنا، بل هي أخطر على وجودنا من ممارسات الاحتلال.
عباد الله، نتيجة لاستمرار الاحتلال وغياب دولة الإسلام وعدم تطبيق منهج الله في المعاملات اختلت الموازين والقيم، وأصبحت ظاهرة الانفلات الأمني وغياب القانون وتفشي الرذيلة والفساد من الأمور التي تزيد من معاناة شعبنا الفلسطيني، وتفتك بعضد الأمة، وتفتت المجتمع.
إن هذه الظواهر السلبية قد أعطت المتسلقين والمنحرفين واللصوص الفرصة السانحة لترويع المواطن، وسرقة أموالهم وسياراتهم وأراضيهم، بطرق ملتوية وأساليب قذرة، حتى المساجد لم تسلم من السرقة، سماعات المساجد تسرق، عجب عجاب، وأمر في غاية الاستغراب!
وقد زادت المعاملات الربوية، وأخذ القروض البنكية بفوائد ربوية، تحت ذرائع واهية، والربا كله حرام، وقد هدد الله المرابي، وشتت شمله إربًا إربًا، وجعله لجهنم حطبًا، وجعل الخير والبركة في الكسب الحلال، وصدق قوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276].
فالربا ـ أيها المسلمون ـ أخطر شيء على مصالح البشر، وأدعاها إلى فوضى الحياة الاجتماعية العملية، وأسرعها إلى الفقر المدقع واليأس المرير، وقد أعلن الله تعالى الحرب على المرابين، فضلاً عن الخسارة وذهاب الأموال ونزول الأمراض والمصائب وتكدير الحياة، وقد ورد في الحديث: ((لعن الله الربا وآكله وموكله وكاتبه وشاهده)).
أيها المسلمون، لم يعرف المسلمون إباحة الربا إلا في عصر الاستعمار، عندما جاءنا الاستعمار الغربي، واحتل ديارنا، وأصبح هو المتحكم في رقابنا، وهو الذي يسوس تعليمنا واقتصادنا، ويسوس كل أمورنا، وأصبح التشريع في يده، وأصبح القانون في يده، وغدت الثقافة في يده، فأصبح يكيّف حياتنا وفقًا لفلسفته هو، فأحل ما حرم الله، وحرم ما أحل الله، وأسقط ما أوجب الله، وشرع ما لم يأذن به الله.
وتذكروا دائمًا ـ يا عباد الله ـ أنه إذا ظهر الربا والزنا في قرية أحلّوا بأنفسهم عذاب الله، فظهور الزنا دلالة على فساد الحياة الاجتماعية، وظهور الربا دلالة على فساد الحياة الاقتصادية، فإذا اجتمعت العلتان ضاعت الأمة.
تيقنوا ـ أيها المسلمون ـ دائمًا أن عزتكم لا تكون إلا في دولة الإسلام، وأن وحدتكم وكرامتكم ورفعة شأنكم وسمو أخلاقكم لا تكون إلا بالتمسك بقرآنكم وسنة نبيكم والسير على منهج الله في الأرض، وبغير ذلك لن تفلحوا أبدًا.
وبالمقابل لا بد من الحديث عن الأسرى والمعتقلين الذين بذلوا أرواحهم وأنفسهم من أجل رفعة الأمة، وبالتالي يجب أن تكون قضيتهم من أهم القضايا التي يجب الاهتمام بها، ومن هنا ومن على هذا المنبر الشريف نتوجه إلى المسؤولين أن يهتموا بقضية الأسرى والمعتقلين، وأن يضعوا حدًا للممارسات الإسرائيلية الظالمة ضدهم ووسائل التعذيب الهمجية التي يعاملون بها، ونسأل الله تعالى أن يفك أسرهم ويفرج كربهم، وأن يحفظهم ويرعاهم برعايته، وأن يطلق سراحهم، وأن يعيدهم سالمين غانمين.
اللهم يا سامع الصوت، ويا سابق الفوت، ويا كاسي العظام لحمًا بعد الموت، لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرجته، ولا حاجة من حوائج الدنيا إلا أعنتنا على قضائها بيسر منك وعافية مع المغفرة...
(1/3286)
الحجّ بين الأمس واليوم
فقه
الحج والعمرة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
22/12/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب شكر الله تعالى. 2- يسر المناسك وسهولتها. 3- الثبات بعد الحج. 4- صعوبة الحج فيما مضى. 5- الحج في العصر الحاضر. 6- الحج في أعين الحاسدين. 7- الحثّ على الإكثار من النوافل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، شُكر العبدِ لربِّه أمرٌ مطلوب منه شرعًا، فالله الذي تفضَّل بالنِّعَم، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]. فقابلوا نِعمَ الله بشُكرها بالثناء على من أنعَم بها، بمعرفة النعمةِ ثم بمعرفة قدرِ من أنعمَ بها وتفضَّل بها وهو ربُّنا جلّ وعلا. أنعَمَ بعظيم النّعَم، ورضي منّا اليسيرَ أن نَشكُرَه على نعمته ونحمدَه على آلائه وإحسانه، فله الحمدُ في الأولى والآخرة، له الحمد أوّلاً وآخرًا، له الحمدُ كما نقول وخيرًا مما نقول.
الحمد لله، يسَّر للحاجّ أداءَ حجِّهم، يسَّر لهم أداءَ حجِّهم وأمْنَ سُبُلهم، الحمد لله قضى الحاجّ تَفَثَهم، وأدَّوا نُسُكهم، وتعرَّضوا لرحمة ربِّهم، والله لا يخلِف الميعاد.
أيّها المسلم، وإنَّ المسلمَ إذا ألقى نظرةً على مواكِب الحجيج الذين أتَوا إلى بيتِ الله الحرام مِن أقطار الدنيا شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا، جوًّا وبرًّا وبحرًا، أتَوا آمنين من المخاوف، مشقَّةٌ يسيرةٌ وقد لا تكون تلك المشقة، صار بيتُ الله كما أراد الله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125]. ثَاب إليه المسلمون من أقطارِ الدنيا صِغارًا وكبارًا، شبابًا وكهولاً وشيبًا، أتوا وهم في غايةٍ من الأمن والاطمئنان والاستقرار، فاشكروا الله على سهولة الطريق وعلى يُسر السبيل وأمن الطريق وأداءِ الشعائر والتردُّد بين تلك المشاعر، فللّه الفضلُ والمنَّة أوّلاً وآخرًا.
أخي المسلم، يا مَن وفَّقه الله فأدَّى حجَّه، فاشكُرِ الله على هذه النعمة، واعلم أنَّ تيسيرَ أدائك للنسك نعمة من الله عليك، أن هيَّأ الله لك أداءَ نُسُكك، وأعانك على ذلك، ويسَّر لك الأمور، فالحمد لله ربِّ العالمين. قابِلها بشكر الله، وتدبَّر قولَ النبيِّ : ((مَن حجَّ هذا البيتَ فلم يرفُث ولم يفسُق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه)) [1] ، وقوله : ((والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)) [2] ، أوّلُ الحديث: ((تابِعوا بين الحج والعُمرة، فإنهما ينفيان الفقرَ والذنوبَ كما ينفي الكيرُ خَبثَ الحديد والذهبِ والفضة، والحجُّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) [3].
أخي، وقد أدَّيتَ هذا النسكَ، وعدتَ بسلامةٍ وعافية، فحافِظ على هذه الفضائل، وحافظ على هذه المزايا. لقد كان سلفُنا الصالح يطلبون من الحاجِّ أن يستغفرَ لهم، ويقول: استغفر لكم قبل أن يتدنَّسوا بالمعاصي. إذًا فالحاجّ المخلِص لله في حجِّه تعرَّض لأسبابِ مغفرةِ الذنوب وتكفير الخطايا، فماذا حالُه بعد ذلك؟ هل تستقيم على هذا العملِ الصالح وتثبُت على هذا الخير والفضلِ أم تهدِم أعمالك الصالحةَ بسيئات أقوالك وأعمالك؟
أخي، أنت وقد تعرَّضت لسبب قويٍّ من أسبابِ المغفرة والفضل من ربّك جلّ وعلا، فأدِّ أسبابَ القبول، حافظ على طاعة ربِّك، حافظ على هذه الصلواتِ الخمس في أوقاتها جماعةً، وإياك والتهاونَ بها والاستخفاف بشأنها، حافظ عليها عن إيمان وقناعة، فهي خيرُ عونٍ لك على كلِّ طاعة، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:45، 46]. اهتمَّ بشأنها، فإنَّ محافظتَك عليها سببٌ لقَبول عملك، وإنَّ تهاوُنَك بها واستخفافَك بشأنها من أسباب ردِّ عملك والعياذ بالله.
أدِّ زكاةَ مالك طيِّبةً بها نفسُك، مُر بالمعروف وأنهَ عن المنكر، برّ بالوالدين وصلِ الأرحام، كن سليمَ القلب صادقَ اللّهجة عفيفَ اللسان والفرج طيِّبَ المكسَب، تضرَّع إلى الله وقابل نعمتَه بشكرها والثناءِ عليه بما هو أهله، فإنه جلَّ وعلا يحبُّ من عبادِه أن يثنوا عليه، ولا أحدَ أحبّ إليه الثناء [عليه من] الله، من أجل ذلك أثنى على نفسه.
أيها المسلم، إنَّ أداءَ الحجِّ نعمةٌ عُظمى ومنّةٌ كبرى من الله عليك؛ أن يسَّر لك أداءَ هذا النسك، فاعرف قدرَ هذه النعمة، واشكُر الله عليها.
أخي المسلم، تذكَّر سلَفًا لك مَضَوا، كان الحجُّ إلى بيت الله أحيانًا يكون شِبهَ المستحيل، لا يحجُّ إلاَّ القليل منَ الناس، لماذا؟ لشدَّة الخَوف، طولِ السّفر واشتداد الخوف وقلَّة العناية، إن أمِنوا قبلَ الوصول إليه لم يأمَنوا إذا دخلوه، وهكذا أحوالُ الناس، فلا يحجّ إلاّ النزرُ القليل من الناس، والمؤلِّفون في رحالاتِ الحجّ الذين هُيِّئَت لهم فرصةُ الحجّ تحدَّثوا عن كثير ممَّا عانت الأمّةُ من المخاوف والمتاعِب والمشاقّ في كلّ المرافق والأحوال، ولكنَّ اللهَ بدَّل هذا الخوفَ أمنًا، وبدَّل البُؤسَ والفاقةَ رغَدًا وخيْرًا، فالحمدُ لله على إفضاله وإنعامه.
أيّها المسلم، إنَّ كثيرًا من أهلِ الإسلام في القرونِ الخاليةِ كانوا يتمنَّون الحجّ، وكم كثيرٌ منهم لم يتيسَّر له ذلك، وحيل بينه وبين ذلك، لا قدرةَ ولا استطاعة، الخوف الشديد والفقرُ والبؤس، ولكنَّ اللهَ جلّ وعلا غيَّر الأحوال فله الفضل والمنة علينا أبدًا دائمًا.
لقد مرَّ بسلفكم الماضون في القرون الماضية أنَّ الحجَّ قد يَقع فيه المشاكلُ في أداء المشاعر وقتالٌ وسَلب ونَهب ومخاوف شديدة مِن قتلٍ وحملٍ للسلاح، ولكنّ اللهَ بدَّل هذا بنعمةِ الأمن والاستقرار، فله الفضل والمنة علينا أوّلاً وآخرًا.
أصبح الحرمُ العظيم آمنًا، آمنًا من الخوف، فيه أمنٌ من الخوف ورغَدٌ ونِعمة سابغة، فللّه الفضلُ والمنَّة على المسلمين، فكثرت أعدادُ الحجيج، وزادوا على الملايين، ولكن ولله الحمد رغمَ هذه الكثرةِ والأعداد المختلفة إلاَّ أنَّ الله جلّ وعلا ذَلَّلَ الصعابَ وسهّل الأمور، فله الفضل والمنة علينا جميعًا.
أيها المسلمون، إنَّ شكرَ الله مطلوبٌ على نِعَمه، ثم شكر من جعلهم الله سببًا لهذه الأمور أمرٌ أيضًا مطلوب من المسلمين، ومن صَنَع إليكم معروفًا فكافئُوه، فإن لم تجِدُوا ما تكفئونه فادعوا له حتى تَروا أنكم كافأتموه.
أيّها المسلمون، شكرُ الله على نعمتِه بتيسير أمرِ المناسك، ثمّ شكره جلّ وعلا أن هيَّأ لهذا البيت رجالاً بذلوا كلَّ طاقتِهم في سبيل تيسير أمر الحجيج والإنفاقِ على ذلك والقيام بالواجب وبذلِ الجهود في سبيل راحةِ الحجيج وأدائهم فريضةَ حجِّهم على ما يُرضي الله جلّ وعلا، سخَّروا كلَّ الإمكانيات، سعَوا في تَوسِعة بيت الله الحرام حتى اتَّسع لمئاتِ الآلاف من الحجيج، سَعَوا في تسهيل الطّرق وشقِّ الأنفاق وتيسير أمر المشاعِر وإعدادِ كلِّ ما فيه راحة لهم، فالحمد لله على نعمته، وجزى الله القائمين عليه خيرَ قيام، ووفَّقهم للعمل الصالح في الحاضر والمستقبل، وأدام عليهم توفيقه وعونَه وتأييده.
إنها نعمٌ من الله، لو قارنَ المسلم بين هذه الأحوال وبين ما مضى من قرونٍ لرأى العَجَب العجاب، وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [البقرة:105].
هذه النعمُ التي يشاهدها الحاجّ ويرَونها عَيانا ما بين توسِعةٍ وتسهيل وتذليل للصعاب وتوفير لكلّ الحاجيات، هذه النِعَم التي تُرى بالعيان بلا دعاية مُضَلِّلة ولا أكاذيب، ولكنها الحقائقُ الواقعة، لم تُخرِس هذه الأمور، لم تكن سببًا في إخراس الألسِنة الكاذبة الفاجِرة التي تعرَّضت أحيانًا بعضُ وسائل الإعلام الجائرة الكاذبة التي لا تقول الحقَّ، بل تخفي الحقائق، أن تتَّخذ اللّمزَ والهمز والطّعن في هذه البلاد وما تقوم به من واجبٍ، مدَّعين تقصيرًا في المهمّة أو عدمَ قيام بالواجب لبعض حدثٍ ما، تجاهلوا النعمَ والفضائل، وغمَّضوا أعيُنَهم عن كلِّ الفضائل، ولكن يبحثون عمَّا يظنّون أنه وسيلةٌ للطَّعن والتشهير، وكلُّ هذه يُثيرها حِقدٌ دفين في قلوبهم ومرضٌ مستكنُّ في قلوبهم، حِقدًا على الإسلام قبلَ كلّ شيء وأهله، ثمّ كراهيةً لنِعمَ الله التي أنعم الله بها على هذا البلد ومنَّ عليهم بهذا الخير العظيم، فتفوَّهت ألسنتُهم بالكذب والافتراء، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5].
إنّ هذا العدَدَ العظيم الذي يؤمّ بيتَ الله الحرام، ملايين من البشر في بُقعة محصورة، وفي أوقاتٍ محدودة، وفي مشاعرَ معيَّنة، لا تتعدّى أوقاتها، كلُّ هذه الأمور تجتمع في ساعات معيَّنة، ويؤمّ كثير من المسلمين ولديهم جهلٌ عظيم، جهلٌ بالنسك وأداء النسك، وجهلٌ في الأوقات الموسَّعة، وجهلٌ في كيفية أداءِ الشعائر، وربَّما يكون عند بعضهم تصوُّر خاطئ؛ محبّتُه أن يموتَ في هذه البلاد المقدَّسة أو يحصُلَ عليه كارثة يراها قربةً إلى الله لجهله وقِلَّة علمه، فيحدُث من هذه التجمُّعات المتكاثِرة بعضُ الأشياء التي يحدُث في غيرها أضعافُ مضاعفاتها، حوادثُ المرور التي يسمعها الناسُ من قريبٍ وبعيد، إمّا لخطأ السائقين أو تهوُّر المصابين، وما يحصُل من حوادثَ في ملاعب الكرة وغيرها في الأنفاق وغيرها من الحوادث العظيمة التي يروح ضحيّتَها المئاتُ من الناس، ولكن هؤلاء يتجاهلون هذه الأمور، ويتغافلون عنها، وحينما يقع شيءٌ يسير يظنُّون أنه وسيلةٌ لهم للطَّعن والتشهير، وكلُّ هذا من الحِقد والبغض للإسلام وأهله، ليشوِّهوا مناسكَ الحجّ، ويقولوا فيها ما يقولون بأفواههم الكاذبة.
وإنَّ شعائرَ الحج ولله الحمد لا تزال في قوَّةٍ وأمان، وكلُّ عامٍ يأتي فإنّه يُتدارك ما سبقه، والحرص جمعيًا على أمن الحجيج وسلامتهم.
إنَّ نفوسَ الحاج ليست رَخيصةً على المسلمين في شرق الأرض وغَربها، كيف في بلاد الحرام؟! ولكنّ الأمور بيدِ الله، والقضاءُ والقدَر نافذ مهما أراد البشَر صدَّه ومَنعَه، ولكن على المسلمِ أن لا يتغاضَى عن الفضائل، ولا يتناسى المحاسِن، ولا يجعل أيَّ شيء وسيلةً للتشهير والطعنِ والقيل والقال، أغراضٌ سياسيّة، ومطامع شخصيّة وأحقادٌ دفينة، يبديها الحِقد والكراهيةُ للإسلام وأهله وتشويه مناسك الحج، والحمد لله لن يستطيعوا أن يجدُوا ما يقولون، فالمسلمون الذين أمُّوا بيتَ الله الحرام رأَوا بأعيُنهم ما رَأوا، وشاهدوا ما شاهدوا بأمورٍ ليست دِعايةً مضلِّلة، ولكنها حقائقُ ناطقة، وهذا من فضلِ الله على المسلمين، فنشكرُ الله ونثني عليه، ونسأله أن يديمَ علينا فضلَه ونعمتَه.
إنّ الله جلّ وعلا أرادَ لهذا البيتِ أن يكونَ حَرَمًا آمنًا، وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ، ثاب الناس إليه، فوجدوه كما أرادَ الله في أمنٍ واستقرار ونِعمة وعافية، كلُّ ذلك من فضلِ الله، ثم نتيجة التمسُّك بهذا الدين وتحكيم هذه الشريعة، والعمل بها والقيام بذلك، نسأل الله أن يثبِّت الجميعَ على صراطه المستقيم، وأن يمنحَ الجميعَ التوفيقَ لما يحبّه ويرضاه، وأن يُبقيَ على هذا البلدِ الأمين أمنَه وعِزَّه وكرامته، وأن يديمَ عليه ما حباه به من هذه النعمةِ التي هي نعمةٌ عظيمة سابغة لمن تدبَّر وتأمّل.
فهذا بيتُ الله الحرام، يزوره المسلم فيرَى التوسِعَة، ويرى ما يحدُث فيه من تطوُّر دائمًا وأبدًا، وحرصٍ على كلِّ ما فيه راحة الحجيج. كم بُذِل فيه من أموال، وكم استُعملت فيه من طاقة، وكم هُيِّئ فيه من أسباب، لمن رأى ذلك وتبصَّر، ولكن الحاسِدَ إنما يُفرحه زوالُ نعمةِ الله عن العباد؛ لأن الحاسدَ والحاقدَ لا يرضَى بالخير، يغيظه كلُّ خير، فهو مريض القلب، إنما يرضيه زوالُ نعمةِ الله عن عباده، ونقول لهؤلاء: موتوا بغيظكم، فالله جل وعلا حافظٌ حرَمَه صائن بيتَه، والله جلّ وعلا سيحفَظ بيتَه من كيد الكائدين وكذِب الكاذبين، نسأل الله أن يثبّت الجميع على قوله الثابتِ في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
فاحرصوا ـ عبادَ الله ـ على الاستقامة على طاعةِ الله. كان سلفُكم الصالح يعدُّون الحجَّ نُقلةً، وأن من حجّ ينبغي أن يكونَ له حالةٌ بعدَ حجِّه في حُسن تعامله مع ربِّه وفي تعامُله مع عباد الله، وتظهر آثارُ الحج عليه في سلوكه وأعماله، نسأل الله لنا ولكم الثابتَ على الحقّ والاستقامة على الهدى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الحج (1521، 1820)، ومسلم في الحج (1350) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] هذا الجزء ثابت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري في الحج (1773)، ومسلم في الحج (1349).
[3] أخرجه أحمد (1/387)، والترمذي في كتاب الحج، باب: ما جاء في ثواب الحج والعمرة (810)، والنسائي في كتاب الحج، باب: فضل المتابعة بين الحج والعمرة (2631) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حسن صحيح غريب"، وصححه ابن خزيمة (2512)، وابن حبان (3693)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (1200). وفي الباب عن ابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد الله وعمر بن الخطاب وعامر بن ربيعة رضي الله عنهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يا مَنْ مَنَّ الله عليه باستكمال أركانِ دينه سَل اللهَ الثباتَ على الحقّ والاستقامةَ على الهدى، أكثِر ـ أخي ـ من نوافلِ الطاعة من صلاةٍ وصيام وعُمرةٍ وأعمال صالحة، فإنّك إذا تقرَّبتَ إلى الله بالنوافل بعد أداء الفرائض نِلتَ الأجرَ العظيم، ففي الحديث القدسي: ((يقول الله: ولا يزال عبدي يتقرَّب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمَع به، وبصَرَه الذي يُبصِر به، ويدَه التي يبطِش بها، ورجلَه التي يَمشي بها، ولئن سألني لأعطيَنّه، ولئن استعاذني لأعِيذنّه)) [1].
فأكثِر ـ يا أخي ـ من نوافل الطاعة، وتقرَّب إلى الله بما يُرضيه، واختِم عُمرك بخاتمة خير، واجعل لك عملاً صالحًا تلازمهُ وتستقيم عليه، فإنّ أحبَّ الأعمال إلى الله ما دام عليه صاحبُه وإن قلَّ، فاجعَل لك نصيبًا من الطاعة تلازمُها وتحافظ عليها وتستقيم عليها، لتكونَ أُنسًا لك في لحدِك، وشافعةً لك يومَ قدومك على الله، وسببًا لرُجحان ميزان أعمالك، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8].
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد امتثالاً لأمر ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الرقاق (6502) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/3287)
رعاية الإسلام للمرأة
الأسرة والمجتمع
المرأة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
21/5/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال العرب في الجاهلية. 2- صور ظلم المرأة في الجاهلية. 3- صور من ظلم المرأة في العصر الحاضر. 4- المرأة أمانة. 5- إثم عضل النساء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يذكِّر الله عبادَه المؤمنين نِعَمه عليهم بهذا الدين، ويذكُر لهم حالَهم قبلَ هذا الدين القويم، فيقول جلَّ وعلا مخاطبًا لهم: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ [البقرة:198].
يقول الله لهم: وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ أي: من قبل هذا الدين من قبل مَبعَث محمّد كنتم في ضلالٍ مبين، ليس ضلالاً خفِيًّا، ولكنه ضلالٌ بَيِّنُ الضلالةِ واضحٌ جليّ. ضلالٌ تمثَّل في معتقداتِهم عندما عدَّدوا الآلهة وعبدوا مع الله غيرَه وتعلَّقوا بالمعبودات المتعدِّدة من أشجارٍ وأحجار وجنٍّ وأولياء وغير ذلك. ضلالٌ تمثَّل في نظرتِهم لهذه الحياة، فهم يرونَها حياةً [ليس] بعدها حياة، وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ [الجاثية:24]، أنكَرُوا المعادَ بعد الموت، فلم يقرُّوا بذلك، وقالوا: أَإذا كنَّا تُرابًا وعظامًا أئِنَّا لفي خَلقٍ جَدِيد؟! ضلالٌ تمثَّل في معَاملاتِهم، فما بين جهالةٍ وغَرَر وظُلمٍ وعدوان. ضلالٌ تمثَّل في سلوكهم وعلاقاتهم الاجتماعية، فهم قومٌ لم تستطع لُغَتُهم أن توحِّدَهم، ولا أرضُهم أن تجمعَ كلمتَهم، وهم قوم متفرِّقون في آرائهم كما هم متفرِّقون في معبوداتهم. للمرأة نصيبٌ من هذا الضَّلال وهذا الجهلِ العظيم، فهي جاهلية بكلِّ ما تحمِله الكلمة من معنى، فنال المرأةَ من هذه الجاهليةِ وهذا الضلالِ المبين نالها ما نالها.
فأوّلاً: كراهيَّتُهم للأنثى وبُغضُهم لها وتضجُّرهم عندما يُبشَّر أحدهم بها، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58، 59].
نَظَرُهم للمرأة نظرٌ قاصِر، يرَونَها مجرَّد مُتعة لا سوى ذلك، هم يئدونها يقْتلونها أحيانًا خوفَ الفَقر لأنهم يظنّون عجزَها وعدمَ قدرتها على الاكتساب، يَئدونها خوفَ العار ثانيًا، ولهم تصرّفات سيّئة خاطئة في نظرهم للمرأة في كلِّ أحوالها، فجاء اللهُ بالإسلام، وجاء بهذا النبيِّ الكريم، فقضى الله به على ظُلم الجاهلية، وهدم به منارَ الجاهلية، وأقام على أنقاضه حُكمَ الإسلام العادل الذي لا جورَ ولا ظلم فيه، فأعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، أعطى المرأة حقَّها المناسبَ لها، وأعطى الرجالَ الحقَّ المناسب لهم، ووضَعَ لكلٍّ ما يناسب حالَه ووضعه، فسبحان الحكيم العليم، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115].
جاء الإسلامُ فأعطى المرأةَ حقَّها، كانت في الجاهلية تُورَث ولا ترِث، تُمْلَكُ ولا تَمْلِكْ، صوتُها مكبوت، رأيُها مطَّرَح، فهي مُتعَة حتى أنَّ بعض جاهلية الأمم يتحدَّثون: هل للمرأة روحٌ أم لا؟ هل هي آدميةٌ تستحقّ اسمَ الآدمية والإنسانية أم لا؟ وهل يمكن أن يكونَ لها دورٌ [أم لا]؟ جاء الإسلام فقال: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195]، وقال: يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11].
أيها الإخوة، إنّ في الجاهلية ظلمًا للمرأة، هذا الظلمُ تمثَّل في أمور:
فمِن ذلكم ما بيّن الله في كتابه بقوله: وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:232]. هذه الآية موجَّهة لأولياء النساء، وأنَّ الله منع الرجالَ من عضل المرأة ومنعِها من أن تعودَ إلى زوجها الذي طلَّقها بعد انتهاء عدَّتها إذا كانت الطلقةَ الأولى أو الثانية، فإذا أرادتِ العودةَ إلى زوجها وانتهتِ العدّةُ فله العودُ إليها بعقدٍ جديد إذا كان الطلاقُ الطلقةَ الأولى أو الثانية، ولو حاول وليُّها منعَه لقلنا: إنك بهذا عاضلٌ لها والله قد نهاك عن ذلك.
معقِل بن يسار أحدُ أصحاب النبيّ زوّج أختًا له رجلاً من المسلمين فطلّقها، فانتهتِ العدّةُ وأراد العَودَ إليها، فقال: يا لُكَع بن لُكَع، أكرمتُك وزوّجتُك ثمَّ تطلِّقها، ثم تأتي لترجعَ إليها! لا والله ما أمكِّنُك، وقد رضيَتِ المرأة بالزوج وهوَته وهواها، وعلم الله ذلك منهما، فأنزل الله هذا الآية، فدعاه النبيُّ وتلاها عليه فقال: سمعًا وطاعةً لله ورسوله، وكفّر عن يمينه، وأعاد أختَه بعقدٍ إلى زوجها الأوّل [1]. هذا عدلُ الإسلام، وذاك ظلمُ الجاهلية وطغيانُها.
أيّها الإخوة، وممّا كانوا يُعَاملون به المرأةَ في الجاهلية أنّ الرجلَ إذا تزوّج المرأةَ ولم يُقسَم له بينه وبينها مودّةٌ والتئام حاولَ أن يُضرَّ بها وأن يؤذيَها وأن يعضلَها ويمنعها حقوقَها أو يؤذيها بكلام سيّئ وربّما تسلَّط عليها بالضرب عساها أن تفتديَ نفسَها، فيسترجع منها المهرَ الذي دفعه لها، قال تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [البقرة:229]. فإذا تزوّج الرجلُ المرأةَ وقُسِم أن لا اتِّفاقَ بينهما ولا التئامَ بين قلوبهما، والقلوبُ أرواحٌ مجنّدة، ما تعارفَ منها ائتلَف، وما تناكَر منها اختلف، إذا لم يقَع في قلبه حبٌّ لها وليس من المرأةِ خطَأ ولا تقصِير في واجب ولم تكن بذيئةً ولم تكن مقصِّرةً في واجبها ولا يلاحَظ عليها في شرفها وأخلاقِها شيء، إنما قُسِم أنه لم يقَع في قلبه حبٌّ لها، فهَل من اللائِق أن يؤذيَها ويَضرَّ بها ويسبَّها أو ينسبَ إليها ما هي براءٌ منه أو يقذف أهلَها أو يتسلَّط ببذاءة لسانِه حتى يتّقوا شرَّه ويدفَعوا له ما دفع تخلُّصًا من جهلِه وسلاطةِ لسانه وقلَّةِ حيائه وانعدام مروءته؟! فإنّ هذا ظلم؛ إذ المهر استحقّته بالدّخول عليها، قال تعالى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21]، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19]. فما دام المرأة خُلقُها كريم وسيرتها فاضلة وعملُها حسَن فغيرُ لائقٍ أن تأخذَ منها ما دفعتَ إليها، فإنها مَلَكَته بالدخول عليها، فلا حقَّ لك في الاسترجاع إلاَّ أن يكونَ هناك من المرأةِ أخطاء في الأخلاقِ أو أخطاء في السلوك، وما دامتِ المرأة سليمةً من كلِّ شيء فإنَّ مِن الظلم استرجاعَ ما دفعتَه إليها ظلمًا وعدوانًا.
أيّها المسلم، ومن ظُلمِ الجاهلية أنَّ الرجلَ إذا مات يقوم أحدُ أقاربه فيُلقي [على زوجته] ثوبَه، فمن سبقَ [إلى] ذلك كان أحقَّ بها دون أن يُسمَع لها صوتٌ أو تستشار أو يعلَم رأيُها، فجاء الإسلام ليمنَعَ من ذلك وقال: ((لا تُنكحُ البِكر حتى تستأذَن، ولا تُنكح الأيِّم ـ أي: الثيِّبَ ـ حتى تُستأمَر)) [2] ، ذلك أنّ الحقَّ لها، وليس التألُّم أو الانتفاع إلاَّ لها، وغيرها لا يصطلِي بنار الزوج الشقيِّ أو غيره.
أيّها الإخوة، ومِن ظلمِ الجاهلية للمرأة أنّ المرأةَ إذا توفِّي عنها أبوها وكان هذا وليًّا لها وكانت المرأةُ ذاتَ مالٍ وجمال فإنه يحُول بينها وبين أن تتزوَّج الآخرين، رضيَت بزواجه أو لم ترض؛ لأنّه إذا كانت قريبتَه وكان لها مال وشارَكها في المال وأصبَحت الأموال مالاً واحدًا عند ذلك يمنعُها من التزوّج بكُفء خطَبَها، فيريدها لنفسه أو لأولاده، رضيَت المرأة أو لم ترضَ، سخِطت ذلك الزوجَ أو لم تسخَط، هو لا يسمَع لها صوتًا، ولا يَقبَل لها رأيًا، وإنما يتصرَّف تصرّفاتٍ من قبَل نفسِه خوفًا من أن ينتقِلَ المال إلى الآخرين، ويأتي زوج ليس من الأقارب، فيشارِكهم في الثروة والمال. وإن تكُن دَميمةً لكنها ذاتُ مال حالَ بينها وبين أن يتزوَّجها الآخرون وهو لا يريدها لنفسه، بل يبقيها عسى أن تموتَ فيرث كلَّ المال.
هذه تصرُّفاتُ الجاهلية، قال تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ [النساء:127]، تذكر عائشةُ رضي الله عنها أنَّ هذه الآية في اليتيمة تكون في حِجر وليِّها، إن رأى جَمالاً ومالاً طمع فيها ومنَعها أيَّ الأزواج حتى يظفَر بها، وإن رأى دمَامةً ومالاً مَنعَها من الزّواج رغبةً في مالها [3]. هكذا كانت حالُهم، فجاء الإسلام ليرشِدَهم أن يتََّقوا الله ويعاملُوها المعاملةَ الشرعية ولا يضرّوها ولا يتعدَّوا عليها، بل إذا تقدَّم لها الكُفءُ المناسِب منهم أو مِن غيرهم فالنبيُّ يقول: ((إذا أتاكم من ترضَون دينه وخلقَه فزوّجوه، إلاَّ تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير)) [4].
مِن ظلمِ الجاهليّة أنَّهم كانوا يحجرون الفتيات؛ إمَّا على أقاربهم، إمّا من بني العمِّ أو بني الخال، ولا يمكِن لهذه المرأةِ أن يتزوَّجها إلاّ قريب من أقاربها من بني عمِّها أو بني أخوالها، وإذا خطبها أجنبيٌّ عن هذا البيت لم يرضَوا بهذا الزواج، لماذا؟ لأنَّ الكِبْرَ في نفوسهم يحول بينهم وبين أن يُعطُوا المرأةَ حقَّها المناسب، والله جل وعلا أمرنا بقوله: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]، فلا يجوز له أن يحجُرها على أناسٍ معيَّنين، وإنما يتركُها لمن تقدَّم إليها من الرجال الذين هم أكفاء لها، سواءٌ كانوا أقاربَها أو غيرَ أقارِبها، المهمّ أن يكونَ من تقدَّم كُفئًا وأهلاً لتلك المرأة، فالواجب أن لا يُحال بينها وبين ذلك.
مِن الظّلمِ للمرأة أحيانًا تسلُّطُ بعضِ الآباء، فقد يكون للمرأة مرتَّبٌ ووظيفةٌ، فهو لا يرضَى أن يزوِّجَها إلى أن ينتهيَ دور وظيفَتها، لماذا؟ لأنه يطمَع في مالها، ولو خطَبها خاطب لشَرَط عليه أنَّ كلَّ ما تملِك من مالٍ فإنه حقٌّ للأب، لا يرضى أن تنتفعَ من مالها ولا بدرهمٍ واحد، لماذا؟ لأنه يريد امتصاصَ أموالها، رضيَت أم سخطت، وهذا من الظلم لها، فالواجب إذا تقدَّم الكفء أن لا يُردَّ ولا يُرجأ.
ومِن الظلم أيضًا أن يَضَعَ الأب أو الأهل عوائقَ ضدَّ الزواج، فيتقدَّم الكفء ثم تأتي شروطٌ من قِبَل الأم أو قِبَلِ الأب، هذه الشروط تتمثَّل إمّا أن يطلُبَ كلاًّ منم أن يُخَصّ بقسطٍ من المال، فتجتمع تلك الحقوق، وتزيد على المهر بأضعافِ أضعافه، وإما شروطٌ فيها تعجيز، فيقال: الرجل مقبولٌ لكنَّ الزواجَ بعد مُضِيّ خمس سنين، أربع سنين، حتى تستكملَ الفتاة المرحلةَ الجامعيّة وحتى وحتى، وربما فات الكفءُ وظفر بغيرها، وأصبَحت تلك الفتاة عانسةً نتيجةً لهذه التصرّفات الحمقاء التي لا يقرُّها دينٌ ثم لا تقرُّها فِطرة.
أيّها المسلم، إنّ المرأةَ أمانةٌ في عُنُق أبيها أو وليِّها أن يتَّقي الله فيها، وأن يراقبَ الله فيها، وإذا تقدَّم لها زوجٌ سأل عنه: أكفءٌ في الدين والأخلاق؟ ما هي حاله وسيرتُه؟ ثم يوضّح للفتاة كلَّ شيء، أما أن ينخدِعَ فيقبل مَن أتى دونَ استفسار وسُؤال وتحرٍّ للأمور، فإنَّ هذا جنايتُه على تلك الفتاة. لا تنظُر إليه لماله أو جاهه، ولكن انظر: هل يغلِب على الظنِّ أنَّ هذا الرجلَ كفءٌ لتلك المرأة فيما يظهَر والغيب علمُه عند الله، لكن فيما يظهر بعد البحث والسؤال، هل هذا الرجل المتقدِّم كفءٌ لتلك المرأة؟ وهل يغلب على الظنِّ تناسُبُه معها؟ ثم تعطَى الفتاة صورةً واضحة جليّة عن هذا الرجل؛ عن حياته سيرته عمله عُمُره جميع ما يتعلَّق بالأمر، حتى تكون على بصيرةٍ، ثم النظر بعد ذلك وتوفيقه إليها، فإن وافقت فالحمد لله، وإن لم توافِق فإنَّ الضغُوطَ والإجبار أمرٌ منهيّ عنه شرعًا. نعم لك أن تشيرَ أيّها الأب، لكَ أن ترغِّب، لك أن تُقنِع، لكَ ولكَ.. لكن ليس لك أن تضغَطَ وتجبر، وليس لك أن تقهرَ، وليس لك أن تتَّخِذ موقفًا صلبًا معها أو مع أمِّها.
إنَّ مِن الأخطاءِ أن يُعاقَبَ الأولادُ نتيجةً لسوءِ العشرة بين الأب والأمّ، فيذهب الأولادُ ضحيَّةً لهذه التصرُّفات بين الأبوَين الخاطئة، الواجبُ تقوَى الله في الجميع ومراعاةُ مصالح الجميع، وأن نتَّقي الله في أمورنا، ونخاف الله في بناتِنا، ونستعينَ بالله، ونطبِّق شرعَ الله، حتى نسلمَ من هذه التَّبِعات وهذه المرافَعات لدى المحاكم الشرعيّة، في أمورٍ لو عَقلها الأبوان وعقلَها أهلُ الزوج والزوجة وسَعَوا في حلّ هذه المشكلة لأمكن أن تنتهيَ بلا حاجةٍ إلى هذه المرافعات الطويلة وإلى هذه السّلبيّات المترتّبة على هذا النزاع، والذي يذهبُ ضحيَّتَه الأبناءُ والبنات.
أسأل الله للجميع التوفيقَ والهداية والعونَ على كلِّ خير، وأن يوفِّقنا جميعًا لمعرفة الحقّ واتّباعه، وأن يجعلنا جميعًا ممّن يستَمعون القولَ فيتّبعون أحسَنَه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في النكاح (4735) بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في النكاح (4741)، ومسلم في النكاح (2543) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في النكاح (4676، 4702، 4733، 4744)، ومسلم في التفسير (5335).
[4] أخرجه الترمذي في كتاب النكاح (1084)، وابن ماجه في كتاب النكاح (1967) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/ 164-165), وتعقبه الذهبي بأن فيه عبد الحميد بن سليمان قال فيه أبو داود: "كان غير ثقة"، وفيه أيضًا ابن وثيمة لا يعرف، ثم اختلف في إسناده، فنقل الترمذي عن البخاري أنه يرجح انقطاعه، ولكن للحديث شواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، أيّها المسلم، أيّها الوليُّ للفتاة، عندما يتقدَّم لها كفءٌ فتحولَ بينه وبينها نظرًا لقلَّة مادَّته أحيانًا أو أن تريدَ إهانةَ الأمّ أحيانًا أو أن تريدَ معاقبَةَ البنات نظرًا لسوءِ العِشرة بينك وبين أمِّها تارة، فاعلم أنّ [بردّك] للكفء تعلّق بك أمور:
أوّلاً: أنك ظلمتَ تلك الفتاةَ بمنع الكفء المتقدِّم لها، فكنتَ ظالمًا ومسيئًا، وتتحمّل التبعات والأوزار.
ثانيًا: ظلمتَ نفسَك، فارتكبتَ الخطأ ومعصيةَ الله؛ إذ الله جعلك راعيًا وأمينًا، فخنتَ الأمانة، ولم تقم بحقّ الرعاية.
ظلمتَ ذلك المتقدِّم، فحُلتَ بينه وبين حقِّه المشروع، ((إذا أتاكم من ترضَونَ دينَه وأمانَتَه فزوِّجوه، إلاَّ تفعلُوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) [1].
أيّها الأب، أيّتها الأم، إنّ الشروطَ والتي تسبِّب عجزَ الزوج أو عدمَ قُدرته على تحمُّل ما تشترِطون هذا ظلمٌ منكم، العاقلُ من الرّجال ومن الأمّهات مَن يحمَد الله إذا تقدَّم لابنته كفءٌ في الدّين والخلق، حمِد الله على هذه النعمة، وقال: الحمدُ لله الذي يسَّر الأمر، والحمدُ لله الذي أراني فتياتي وقد زوَّجتُهن، والحمدُ لله الذي ساقَ الأكفاء لهنّ.
أمّا معوِّقاتٌ كثيرة وشروطٌ تعجيزيّة وأمور لا قيمةَ لها في الحقيقةِ فهذه أمورٌ ينبغي تركُها وعدمُ جعلها سببًا في ردِّ الأكفاء.
فاستعِينوا بالله على الخير، وتعاوَنوا على البرّ والتقوى، وقوموا بواجبِ البنين والبنات، لعلّكم تفلحون.
وصلّوا جميعًا على نبيِّكم محمّد سيِّد الأولين والآخرين وإمام المتَّقين كما أمركم ربكم بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] تقدم تخريجه.
(1/3288)
آثار الذنوب والمعاصي
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
28/5/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمن ثلث المعيشة. 2- أهمية الأمن والأمان. 3- نقصان الأمن بنقصان الدين. 4- ضرورة المحاسبة والمراجعة. 5- النجاة في طاعة الله ورسوله. 6- دعوة للمخلِّين بالأمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، اتقوا اللهَ وراقبوه، وأطيعوا أمرَه ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، فمن اتَّقى الله وقاه، ومِن كلِّ ما أهمَّه كَفاه.
وبَعد: معاشرَ المسلمين، إنَّ ممّا جاء في مشكاةِ النبوَّة قولَ النبيِّ : ((مَن أصبحَ منكم آمنًا في سِربه معافًى في جَسَده عنده قوتُ يومِه فكأنّما حِيزَت له الدّنيا)) رواه الترمذي وابن ماجه [1]. فجعلَ النبيُّ أصولَ حيازة الدنيا ثلاثةَ أشياء: الأمنَ في الأوطان والمعافاة في الأبدان والرزقَ والكفاف، ففَقدُ الأمن فقدٌ لثُلُث الحياة، والثلثُ كثير.
ولما كان الأمنُ ثلُثَ العَيش امتنَّ الله به على الأسلافِ مِن قُريش: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3، 4].
أيّها المسلمون، الأمنُ والأمان والطمأنينة والاستقرار مطلبٌ ضروريّ من مطالبِ الإنسان، ففي ظلِّ الأمن يرغَد العيشُ وينتشر العِلم ويتفرَّغُ الناس لعبادةِ ربهم ومصالح دنياهم وتنبُت شجرةُ الهناء؛ لذا كانت دعوةُ إبراهيمَ الخليل عليه السلام: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ [إبراهيم:35-37]. فانظر كيف قدَّم الأمنَ على طلب الرزق؛ لأنه لا يهنَأ عيشٌ بلا أمان.
وقد امتنّ الله تعالى على عباده بالأمنِ في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه، منها قوله سبحانه: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26]. قال قتادةُ بن دِعامة السّدوسيّ رحمه الله في هذه الآية: "كان هذا الحيُّ من العرب أذلَّ الناس ذُلاًّ وأشقاهُ عيشًا وأجوَعَه بُطونًا وأعراه جُلودًا وأبيَنه ضلالاً، من عاش منهم عاش شقيًّا، ومن مات منهم رُدِّي في النار، يُؤكَلون ولا يَأكلون، واللهِ لا نعلم قبيلاً من حاضِر أهل الأرض يومئذٍ كانوا أشرَّ منزلاً منهم، حتى جاءَ الله بالإسلام، فمكَّن به في البلاد، ووسَّع به في الرزق، وجعلهم به مُلوكًا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطَى الله ما رأيتُم، فاشكروا اللهَ على نعَمه، فإن ربَّكم منعمٌ يحبُّ الشكر، وأهلُ الشّكر في مزيدٍ من الله" انتهى كلامه رحمه الله [2].
أيّها المسلمون، ولا زالت هذه النِّعمةُ متواليةً من الله، وما انتُقِصت إلاّ حين انتقَصَ الناسُ من دينهم، فبدَّلوا وغيَّروا، وما ضاقت الأرزاقُ ووقعَت القلاقلُ والفِتن واستُضعِفَ المسلمون في أرجاء الأرض إلاَّ حين خَبطَ الشركُ والمعاصي في بعضِ نواحي بِلاد المسلمين، ولم تكُن جزيرةُ العرب بمنأًى عن ذلك، ففي عهدٍ قريب كانت مرتعًا للسَّلب والنّهب والقتل والخوف، حتى مَنَّ الله عليها بدعوةِ التوحيد واتّباع سنّةِ سيِّد المرسلين ، فعادت آمنةً مطئِنّةً، تُجبَى إليها الثمرات من كلِّ مكان، وتفجَّرت كنوزُ الأرض، وعَمَّ الخيرُ، حتى صارت مهوَى الأفئدةِ دينًا ودُنيا، وما ذاك والله إلا ببركةِ دعوةِ التوحيد واتِّباع السنةِ وطاعةِ الله ورسوله، فللّه الحمد كثيرًا، كما يُنعِم كثيرًا.
أيّها المؤمنون، إلاَّ أنه ليس بين الله وبينَ أحدٍ نسبٌ، فبِقدر الإيمان والتّقوى تكون النِّعَم والخيرات، نَعم الإيمانُ والتقوى بهما تُفتَح بركاتُ الأرض والسماء، بهما يتحقَّق الأمنُ والرخاء، وصدقَ الله: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96].
الأمنُ مربوطٌ بالإيمان، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]. أمّا إن بدَّل العِبادُ وغيَّروا فإنَّ سُنَن الله لا تحابي، وقد وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].
إنّنا ولله الحمد لا زِلنا في خيرٍ من الله بديننا وفضلِ الله علينا، لكن النُّذُر الإلهية مذكِّرةٌ لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]. فحِفظُ النِّعم وتفادِي النِّقم لا يكون إلاّ بطاعةِ الله ورسوله، ومَن خالف جَرَت عليه سنَّةُ الله. وإنَّ ما يُصيب المسلمين اليومَ لهي نذُرٌ إلهيّة لئلاَّ ينسى الناسُ ربَّهم، ليعودَ الشارِد ويتنبَّه الغافِل ويستغفرَ المذنب.
إنّ المعاصيَ والذنوب سببٌ رئيس للخوفِ والقلَق والمصائِب والفِتن، قال الله تعالى محذِّرًا مِن مخالفةِ رسوله : فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]. ولمَّا أمر الله تعالى بطاعته وطاعةِ رسوله في قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ [الأنفال:20]، قال فيما بعد: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: (أمَر اللهُ المؤمنين أن لا يقِرُّوا المنكرَ بين أظهرهم، فيعمَّهم العذاب) [3]. ثمّ بعدها امتنَّ الله على المؤمنين بتذكيرهم بما كانوا عليه من خوفٍ ثم آمنهم في إشارةٍ إلى أنَّ مخالفةَ أمرِ الله ورسوله مُؤذِنة بالفتن والخوفِ وانعِدام الأمن: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ [الأنفال:26].
أيّها المسلمون، طاعةُ الله ورسولِه سبيلٌ للثّبات والنجاة من الأزَمات، وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:66-68].
إنَّ الأمّةَ اليومَ بحاجةٍ ماسّة إلى مراجعةِ نفسِها والعَودةِ إلى ربِّها وتركِ المنكراتِ والتعاوُن على البرّ والتقوى، خصوصًا في هذه الظروفِ الحرجة التي تسلَّط فيها الأعداء على الإسلام والمسلمين وديارهم.
إنَّ المفترَضَ في هذه الأزمات هو الفِرارُ إلى الله والتوبةُ النصوح والتنادِي بالرجوع إلى الله والالتجاء إليه والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر وإسكاتُ دعاةِ الرذيلة وعداة الصلاح. أمّا الغفلةُ والتمادي والنومُ عن المنادي وإقامةُ الحفلاتِ الماجنات والسَّفرات المشبوهات والإصرارُ على مخالفة أوامر الله فإنها مَجلَبةُ النقم مُزيلة النّعم، وتعظُم المصيبةُ إذا كانت الذنوب تُشهَر وتُعرَض ولا تُنكَر، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كلُّ أمَّتي مُعافى إلاَّ المجاهرين)) [4].
يجب علينا التمسُّكُ بالسّنة ولو تركها الناس، وأن نُغليَها ولو أرخصوها وندافعَ عنها ونصبرَ على الأذى في ذلك، فهذا سبيل النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصّالحين، وهذا هو طريق الأمنِ في الدّنيا والآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بسنّة سيِّد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، سنن ابن ماجه: كتاب الزهد، باب: القناعة (4141) من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد (300)، والحميدي في مسنده (439)، قال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2318).
[2] أخرجه الطبري في تفسيره (4/37، 9/220).
[3] أخرجه الطبري في تفسيره (13/474 ـ شاكر ـ) من طريق علي بن أبي طلحة عنه.
[4] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6069)، صحيح مسلم: كتاب الزهد (2990).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله، يُحمَد بنعمته، وتُنال كرامتُه برحمتِه، وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:70]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه.
وبعد: أيَا عبدَ الله، حاسِب نفسَك قبلَ أن تحاسَب، ولا تنظُر إلى الهالِك كيفَ هلك، ولكن انظُر إلى الناجي كيف نجا، ولا تمتدَّ بك حبالُ الأمانِي والغرُور، فالعمُر قصير، والأجَل محدود، والناقِد بصير، وموقفُ العَرض على الله عَسير، إلاَّ على من يسَّره الله عليه، وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47].
تأمَّل في مَطعَمك ومشربك، وانظر ماذا تَرى وتسمَع وتقول، وماذا تُسِرّ وتعلن, ولئن خَفِيت منك اليومَ خافية فهناك في أرض المحشَر يُكشَف الغطاءُ وتتكلَّم الجوارح، لقد جاءتك مِن ربِّك النذُر، فمن تذكَّر فإنما يتذكَّر لنفسه، وصدق الله: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [يس:70]. والتَّائبُ من الذنب كمن لا ذنبَ له، والله يعفو ويصفَح.
أيّها المسلمون، ووقفةٌ أخيرةٌ قبلَ الختام والتفاتَة يسيرةٌ إلى الأمنِ والأمان، فإذا كان الأمنُ من الله مِنَّة والاستقرارُ رحمةً ونعمة والرزق لهما تابِع وللنّاس فيهما منافِع، فكيف يكون جُرمُ من أخلَّ بهما وحمَلَ السلاح بينَ ظهراني المسلمين، وتربَّص بالشرّ الآمنين. لقد أنكَر النبيّ على من أخفى سُوطَ أخيهِ يريد ممازحتَه حمايةً لصاحب السَّوط أن يقلقَ أو يهتمّ أو يصيبه الغمّ، فأين العابثون بالأمنِ عن هذا الذَّوقِ النبويّ والإرشاد المحمَّديّ وهم قد حَمَلوا السلاحَ وحصدوا الأرواحَ وقد بانت معالمُ الرشادِ واتَّضح الحقُّ والصواب؟!
ألا فدعوةٌ لهم مِن منبرٍ دعَا عندَه إبراهيم الخليل عليه السلام ربَّه بالأمنِ لهذه الديار، دعوةٌ لهم أن يثيبوا لرُشدهم، وأبوابُ السماءِ لهم بالتَّوبة مفتوحة، ومِنَّة العفو في الأرض ممَّن له الأمر مَمَنوحَة، فلم يبقَ إلا عَزْمةٌ من عَزَماتِ الإيمان يقهَرون بها تردُّد نفوسِهم وتأخُّر خطواتهم، يلمُّ بها الشملَ ويغيظ بها الأعادي، عسى أن يحمَدوا العاقبةَ بعدها.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الرحمةِ المهداة والنّعمة المسداة محمَّد بن عبد الله.
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله الطاهرين وصحابته الميامين وأزواجه أمَّهات المؤمنين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشّرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين...
(1/3289)
خطر المجاهرة بالمعاصي
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
28/5/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعظيم المؤمن لحُرُمات الله تعالى. 2- موقف المؤمن إذا زلّت به القدم. 3- هلاك المجاهرين بالمعاصي. 4- التحذير من إشاعة الفاحشة. 5- التحذير من صُحبة دعاة الرذيلة. 6- الحثّ على استخدام التقنية الحديثة فيما يخدم الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في قلبِ المؤمنِ تعظيمٌ لحرماتِ الله، وفي قلبِ المؤمنِ تعظيمٌ لشعائِر الله، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30]، وفي الآية الأخرى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]. فتعظيمُ العبدِ لنواهي الله تعظيمُه لحرُماتِ الله يقتضي البُعدَ عنها وعدمَ مواقعَتها والبعدَ عن كلِّ سببٍ يقرِّبه إليها. وتعظيمُ الشعائر تعظيمُ الأوامِر بالامتثال والإسراع في الأداء.
أيّها المسلم، كَونُ المؤمن يعظِّم حرُماتِ الله وكونه يتَّقي الوقوعَ فيها هذا ناتجٌ عمّا وقر في قلبِه من الإيمانِ بالله، فإنّ القلبَ إذا استقرَّ فيه الإيمانُ وعظُم فيه الإيمان ظهرت آثارُ ذلك عَلى الجوارِح، في الحديث يقول : ((ألا إنَّ في الجسَد مضغةً إذا صلَحت صلَح لها الجسدُ كلُّه، وإذا فسَدت فسَد لها الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب)) [1].
أيّها المسلم، المؤمن حقًّا يعتقِد تحريمَ ما حرَّم الله ويدين لله بذلك، فالمحرَّمات التي حرَّمَها الله عليه في كتابه هو مؤمنٌ بحرمَتِها، موقنٌ بذلك، سامعٌ مستجيب، لا يرتاب ولا يشكّ، فإنَّ المؤمن حقًّا يحرِّم ما حرَّم الله، ويعتقِد ذلك دينًا يدين الله به، ولكن إذا زلَّت به القدمُ يومًا وضعفت نفسُه وتسلَّط عليه عدوُّه فوقع في معصيةٍ ما من المعاصي وجريمةٍ ما من الجرائم فما هو حاله؟ وما موقفُه؟
نعم أيّها المؤمن، إنّ موقفَه ندمٌ واستغفارٌ وأسَف شديدٌ وحياءٌ من الله وخشيةٌ من الله، كلّما تذكَّر معصيتَه ندِم عليها، وحزن عليها، والتجأ إلى الله ليتوبَ عليه منها ويمحوَ خطأه ويعفوَ عن زلَلِه. إذًا فالمعصية ينظُر إليها مِن نظَر الحياء من الله والخوفِ من الله؛ لأنه يعلمُ حرمَتَها، لكن زلَّ به القدَم.
وقد أرشَد الله الأبَوين لمّا أكلا من تِلكم الشجرة التي نهاهم الله عن أكلِها بقوله عنهما أنهما قالا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]. هكذا كان الأبوان عليهما السلام، وهي أيضًا طريقةٌ يكون عليها كلُّ مسلِم، ولذا قال الله عن يونسَ عليه السلام لما التقَمه الحوت في البحر، قال في دعائه: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، فيُرجِع الخطأَ والنقصَ والتقصير إلى نفسه الأمَّارة بالسوء.
أيّها المسلم، في قلبِ العبدِ المؤمن حياءٌ من الله وخوفٌ منه يدعوه دائمًا إلى النَّدم والتّوبة.
أخي المسلم، إنَّ المجاهرةَ بالمعاصي والتفاخرَ بها والتحدُّث بها ومحاولَة إشاعتها ونشرها بين أفراد المجتمع لا يقع إلاَّ من قلبٍ ضَعُف فيه الإيمان وقلَّ فيه الحياء، ولذا جاء في الصّحيح عنه قال: ((كلُّ أمتي معافًى إلا المجاهرين، وإنَّ مِن المجاهرةِ أن يعملَ الرجلُ العملَ بالليل، فيصبح وقد ستَره الله، فيقول: يا فلان، عملتُ البارحةَ كذا وكذا، أصبح وقد ستَره الله، فيهتِك سِترَ الله عليه)) [2].
فتأمّل ـ أخي ـ هذا الحديثَ تأمّلاً جيِّدًا، نبيُّنا يقول لنا: ((كلُّ أمتي مُعافى إلاّ المجاهرين)) ، كلُّ مَن أخطأ وزلَّت قدمه فهو معافًى إن تاب وندِم ورجع واستغفرَ وأناب، لكنِ المجاهرون بالمعاصي هم على خطرٍ عظيم، أولئك الذين يجهَرون بإجرامهم، ويتبجَّحون بأخطائهم، ويُلقون ثوبَ الحياء، ويعدُّون الجرائمَ والأخطاءَ، وينشرونها بين الناس، جمعوا بين خطَأ وقعوا فيه وبين نشرٍ للفاحشةِ وترويجٍ لها ودعوةٍ إليها، فهؤلاء دعاةُ سوء ودعاةُ إجرام ودُعاة فساد وناشرون للرّذيلة، أعاذنا الله وإيّاكم من شرِّ أنفسِنا والشيطان. ما كفى واحدًا مِنهم أن أخطأَ، ما كفاه خطؤُه، ما كفاه ذنبُه وزَلَلُه، إلى أن تجاوزَ الحدَّ أن ينشرَ الجريمةِ ويشيعَها بين الناس، لا حياءَ من الله، ثمّ لا خجلَ من عبادِ الله.
أولئك المجاهرون ليسوا بمعافَين من أخطائهم، بل هم والعياذُ بالله قد يكون في قلوبهم مرضُ النفاق والشهوات؛ لأنهم لم يقتَصروا في الذّنب على فِعله، وإنما نشروه وأذاعوه وأشاعوه، ودعَوا الناسَ إليه، وأسفروا عن نفوسٍ وقِحة وقلوبٍ مَريضة، خِلوة من الخير والحياء والعياذ بالله. وفي الحديث: ((إنّ مما أدركَ الناس من كلامِ النبوّة الأولى: إذا لم تستحيِ فاصنَع ما شِئتَ)) [3]. ذنبُهم يسيرٌ بالنّسبة إلى نشرِهم للجريمةِ وإشاعتهم لها وبثِّهم لها وما حصَل منهم من عُدوانٍ وإجرام على الآخرين.
أيّها المسلم، هذا الضّربُ من الناس الذين ابتُلوا بهذه المصائب إن لم يتدَاركهم الله بتوبةٍ نصوح ورُجوع إليه وإنابةٍ إليه يُخشَى عليهم من أن يكونوا من دعاةِ الضلال ومروِّجي الفَساد، يقول الله جل وعلا في حقِّ هؤلاء وأمثالهم: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25].
إنّ الله تعالى حذّرنا من أن نشيعَ الفاحشةَ أو أن ننشُرَها، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19]. الذين يُحبُّون أن تشيعَ الفاحشة يحبّون أن تنتشرَ ويحبّون أن يطّلعَ كلٌّ على هذه الجريمةِ وينظرَ إليها ويشاهدَها، ويعدّون أنفسَهم أبطالَ تلك الجريمةِ الذين استطاعوا إخراجَها بين الناس. جريمةٌ نكراء، فاحشةٌ قبيحة، ومواصلةُ جريمة، ومع الفِعل القبيح الشنيع لم يكتَفُوا بذلك حتى نشَروه بين الناس، وصوَّروه وجسَّدوه، ورأَوا أنفسَهم أنهم أحرارٌ فيما يعملون، وأنَّ هذا أمرٌ لا إشكالَ فيه، فعياذًا بالله من زَيغ القلب، كيف يرضى لنفسه بهذا الفعل القبيح؟!
إنّ الخطأ لا يُعصَم أحدٌ منه، فكلُّنا خطّاء، وخيرُ الخطّائين التوّابون، لكن أن يزيدَ على الجريمة نشرًا لها وتجسيدًا لها وبثَّ صُوَرها بين الناس هذا أمرٌ خطير ومنكَر شنيع، لا يرضى به مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر، ولذا يقول : ((كلّ أمّتي معافى إلاّ المجاهرين)) ، فالمجاهرون لن ينالَهم العفوُ لأنهم جمَعوا مع الجرم إشاعةَ الفاحشةِ والدعوةَ إليها وتعريفَ الجاهِل بها كيف يعملها، وهذا من المنكر الشّنيع، يبيت يستُره الله في سِتره، ثم يصبِح يهتِك سِتَر الله، يقول: يا فلان، فعلتُ وفعلت، سكِرت وفعلتُ الفاحشةَ وفعلتُ وفعلتُ، ليعدِّد للملأ إجرامَه، ويعرِّفهم بأخطائِه، ويكشف بينهم عورتَه، ويبدي لهم سَوأَته، فعياذًا بالله من زيغِ القلب.
إنّ المؤمنَ يخطئ، ولكن يتدارَك خطأَه، ويندَم من فعله، أمّا أن ينشرَ الجريمةَ بهذا الشّكل الفظيع فذاك والله منكر عظيم وخطرٌ شديد، لا يقرُّه مؤمِن يؤمِن بالله واليوم الآخِر.
يُصبح وقد ستَره الله، فيكشف سِتر الله عليه، ويتحدَّث بالجريمة وفِعلها وكيف واصَلها وكيف توسَّل إليها. هذا منكرٌ عظيم، ظلمٌ للإنسان، ظلمٌ لمن وقعَت عليه الفاحشة وعدوان عليه وعونٌ على المصائب والجرائِم، فليتَّق المسلم ربَّه، وليحافِظ على دينه، وليخشَ الله فيما يأتي ويذَر.
أيّها الإخوة، إنَّ ترويجَ الفاحِشة والدعوةَ إليها وبثَّ أشرطتِها من المنكراتِ العظيمةِ التي تدلُّ على انتزاع الحياءِ من أولئك وانعِدام روح الغَيرة في قلوبهم.
فاتّقوا الله ـ معاشرَ المسلمين ـ في أحوالكم كلِّها، وتستَّروا بسِتر الله عليكم، وفي الحديثِ: ((إيّاكم وهذه القاذوراتِ، ومن ابتُلي بشيء فليستتِر بستر الله)) [4] ، وليتبْ إلى الله، ومن تاب وندِم تاب الله عليه.
يقول بعض السلف: إنَّ المؤمنَ إذا عمِل المعصيةَ نظر إليها كجبلٍ يوشك أن يقعَ عليه لهمِّه وغمِّه وحُزنه، وإنّ المنافقَ أو الفاجرَ إذا عمِل المعصيةَ كأنها ذُباب وقع عَلى أنفِه فقال بيده هكذا. يعني لا يكتَرث منها، ولا يحزَن، ولا يغتمّ، وما كأنه فعَل شيئًا؛ لأنّ القلبَ ليس فيه إحساسٌ ولا غَيرة، ففِعل الفاحشة أو عدمُها سواء، لكن أضِف إلى ذلك مَن يدعو إليها وينشرُها ولا يخجَل ولا يستحي ولا يبالي.
فاتّقوا الله يا عبادَ الله، وتناجَوا فيما بينكم على البرّ والتقوى، واحذَروا مجالسةَ أصحابِ السّوء ودُعاة الرّذيلة، فكما قال الله: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91].
يا أخي المسلم، إنَّ أربابَ الفسادِ وأصحابَ الرّذيلة ودعاةَ الإجرام إذا جالسهم شَخصٌ لن يقومَ عنهم حتى يلوِّثوه بكلِّ جَريمة، وإن أبى بذَلوا كلَّ مَكرٍ وحِيلة أن يوقعوه في الشرّ حتى يكونَ مثلَهم، لا يرضَون لِجليسهم أن ينفكّ بدون إثمٍ يقع فيه، يغيظهم أن يرَوا مجالسَهم محافظًا مستقيمًا، لا بدّ أن يلوِّثوه بجرائمِهم وأخلاقهم الرّذيلة.
فيا أخي المسلم، تأكَّد وتثبَّت من حالِ من تصحَبه، ومِن حال من تُجالسه، ومِن حال من تسهَر معه، تثبَّت من أخلاقِهم وأقوالهم وأفعالهم، فإنّهم يقتنِصون كلَّ كلمةٍ سيئة تقولها، وكلَّ فعلةٍ قَبيحة تعمَلها، تظنّ أنهم الأصدقاءُ وأنهم الأخلاّء وأنهم أهلُ المودَّة والمحبّة، وحاشا لله أن يكونوا كذلك، هم أهلُ عداوةٍ وإن أظهروا لك الصفاءَ والمودَّة والمحبة، هم أهل الفجور والخيانةِ وإن أظهروا لك الأمانَة، فغدًا ينشرون صُوَرَك وأفعالك على الملأ علانيةً من غير حياءٍ ولا خَجَل.
تأكَّد ممّن تصحب ومن تجالِس ومن تسهَر معه، اسأل عنه وعن سيرتِه وفِعله، وراقِب تصرُّفاتِه، فإن رأيتَ تصرُّفاتٍ سليمةً فالحمد لله، وإن رأيتَ أمورًا تُخلّ بدينك ثمّ بشرفك فابتعِد عنهم كلَّ البعد، وانجُ بنفسك من أن تقعَ في شباكهم، فهم الأعداءُ الألدّاء، وهم الخصوم، وهم الذين لا خيرَ فيهم، الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].
يا أخي المسلم، اتَّق الله، وراقبِ الله، واحذَر من أولئك من أن يوقعَوك في شراكِهم ويضعوك في خطرٍ لا تستطيع النّجاةَ منه، احذَرهم كلَّ الحذَر، وصُن سمعَك وبصرَك وفؤادَك، واحفَظ نفسك من مُصاحبة من لا خيرَ في صحبتهم لعلّك أن تنجوَ من هذا.
أسأل الله أن يحفظَ الجميعَ بحفظه، ويحيطَنا وإيّاكم بعنايته، ويوفِّقَنا وإياكم لما يحبّه ويرضاه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:110-112].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6069)، ومسلم في كتاب الزهد (2990) عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[3] أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6120) عن أبي سعود رضي الله عنه.
[4] أخرجه مالك في الموطأ (1299) عن زيد بن أسلم مرسلا، ووصله البيهقي (8/330) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (7616)، قال ابن حجر في التلخيص (4/57): "وصححه ابن السكن، وذكره الدارقطني في العلل وقال: روي عن عبد الله بن دينار مسندا ومرسلا، والمرسل أشبه"، وحسنه العراقي في تخريج الإحياء (3/171)، والألباني في السلسلة الصحيحة (663).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، التّقنيةُ الحديثة في الاتصالات وغيرها هي نعمةٌ من الله لعبادِه إن سخَّروها فيما يُرضي الله، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25].
فيها منافعُ وفوائدُ وتيسي ر وتسهيلُ الاتّصال ولقاءُ البعض بالبعض، هذا أمرٌ لا يُشَكّ فيه، ولكن ممّا يؤسَف له أنَّ بعضًا منَّا سخَّر هذه التّقنية وهذه الوسيلةَ [في] أمر يُخلّ بدينه ثم يُخلّ بشرَفه ومروءَته، وأصبحت هذه الأجهزةُ بأيدي مَن لا حياءَ عندهم مِن رجالٍ ونساء، فكم تُلتَقَط صورٌ لأبرياءَ من رجالٍ ونساء، وكم تحوَّر وتدبَّج حتى يُظَّنّ أنها حقيقةٌ وليست بالحقيقة، لكنّها من مكرِ الشيطان ومكائده. فليحذر المسلمُ أن يشتغلَ بهذه الترَّهات وبهذه القاذورات.
يا أخي، لو أحدٌ حاول أن يلتقطَ صورةً لزوجتك أو بنتِك أو يلتقطَ صورتَك وأنتَ مع زوجتك هل ترضى بذلك؟ الجواب: لا ترضى ولا تطمئنّ، فكيف ـ يا أخي ـ تجعلُ هذه الوسيلةَ معك في اقتناصِ صُوَر الآخرين والاطّلاع على عوراتِ الآخرين ومحاولة اكتشاف ذلك؟! كلُّ هذا ـ يا أخي ـ من الأخطاء التي يجب علينا أن نبتعدَ عنها، وأن نسخِّر ما هُيِّئ لنا من تقنيةٍ فيما يعود علينا بالخير والمنفَعة، وأن لا نجعلَها وسيلةً للانحطاطِ والإضرار بالآخرين.
إنَّ أقوامًا بَلَغ بهم المُجونُ ما بلغ إلى أن يصوِّروا الفاحشةَ ومن يفعلُها ومن يمارِسُها وهو ينظُر ويلتقِط الصوَر ويشاهدها ثم يبثّها، أين الحياء من أولئك؟! وكيف يظُنُّ أولئك خيرًا؟!
فاتّقوا الله يا عبادَ الله، وسخِّروا ما يسّر الله لكم فيما يخدِم دينَكم ومصالحَ دنياكم دون أن تسخِّروها في التقاطِ صُوَر الآخرين وهتكِ أستار العفيفاتِ والعفيفين من الرجال والنساء. اتقوا الله في أنفسكم، وراقبوا الله في أحوالكم كلِّها.
أسأل اللهَ للجميع التوفيقَ والسداد، وأن يعيذَنا وإياكم من شرِّ أنفسِنا ومن شرّ الشيطان وشِركه، وأن لا نقترفَ على أنفسِنا سوءًا أو نجرّه إلى مسلم.
اعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
(1/3290)
رسالة إلى العفيفات
الأسرة والمجتمع
المرأة
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
28/5/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعاة السفور. 2- صيانة الإسلام للمرأة. 3- حال المرأة المتحرّرة من قيود الشرع. 4- ضرورة الفصل بين الرجال والنساء. 5- رسالة إلى المرأة المسلمة. 6- سدّ ذرائع الفساد. 7- رسالة إلى الآباء والأولياء. 8- منكرات الأفراح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله فإنّ تقواه أفضلُ زاد، وأحسنُ عاقبةٍ في معاد، إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49].
أيّها المسلمون،
زعَمَ السفورَ والاختلاطَ وسيلةً للمجد قومٌ في المجانةِ أغرَقوا
كذبوا متى كان التعرُّضُ للخنَا شيئًا تعزُّ به الشعوب وتسبق؟! [1]
قومٌ تعاظم حِقدهم، واشتدَّ عُدوانهم، ليأتيَ على الفضيلة أعنفُه وعلى الحِشمة أشنعُه وعلى الطّهارة أبشعُه؛ لأنّ العِفّة تثيرُ غيظَهم وتُمضّ أفئدتَهم وتحرِق قلوبهم.
وما على العنبَر الفوّاحِ من حرجٍ أن مات من شمِّة الزبّالُ والجعَل [2]
نشؤُوا في حضنِ الإسلام، وتربَّوا في بلاده، فلمّا شبُّوا عن الطّوق استساغوا علقمَ العِدا واستحبّوا العمَى على الهُدى وحمَلوا معاولَ الهدمِ ورفعوا لواءَ الكيدِ والمكر الصُّراح، فأيُّ خيرٍ يُرتجَى ممّن سبَق للعِدا تعبيدُه ورِقُّه وتعذّر فكُّه وعِتقُه؟! فهو الوكيلُ المكتَرى والمملوكُ المشتَرى والخادمُ المرتَضى.
فُسولُ الرجال، الغَشَشَة الضُّلاَّل، أثاروها عجابةً هوجاء، وخطّوها مقالاتٍ خَرقاء، ضدَّ المجتمعِ المسلم الطاهر، وضدّ المرأة المسلمة، لإسقاط حجابها وتدنيسِ شرفها وإنزالها في ميادينِ الرجال وزجِّها في جميع الوظائفِ والأعمال وتأسيس الاختلاط وغَرس نبتتِه الخبيثة ووضعِ لَبِنته النّجسة، فقطعها الله من أكفٍّ، وأخرسَها من ألسُن، وأخمدَها من أنفاس، وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة:107]، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
أيّها المسلمون، لقد وضَع الإسلام حدًّا وسَدًّا لحمايةِ المرأة من مُعابثة الفُسّاق ومطامِع أهل الرِّيَب والنفاق، وستظلّ بالإسلام في إطارِ الشّرَف والفِخار والإجلال والإكبار، درّةً مصونة وزعيمة شريفة وحرّة عفيفة وشقيقة كريمة. حجابها جمالُها، وسِترها جلالُها، وجلبابُها عِزُّها وكمالُها، مِن الإسلام تستمدُّ هديَها، وبسنّةِ رسول الله تشقُّ طريقَها.
وليخسأْْ دعاةُ الافتراءِ المفضوح وأنصار المذهب المقبوح، فلن تجنيَ المرأة من الاختلاطِ والظهور والتكشُّف والحسُور إلا النّظرات المتلطِّخة والتحرّشات العابثة والاعتداءات الفاحِشة والكلالَ والنكالَ والوبال، وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا [النساء:119]، أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً [الكهف:50].
أيّها المسلمون، لقد قامت هذه الدّعواتُ الآثمة والشّعارات المضلِّلة في غابرٍ من الزّمن في عددٍ من الأمصار والأقطار، ونجح مناصِروها في إنزال المرأة من قصرها المنيع وحِصنها الرّفيع، فخلعت حجابَها، وغادرت حِصنها ومخدعَها، وتحرَّرت من كلِّ سلطان، وانطلقت في كلِّ مكان، وعملت في كلّ ميدان، فماذا كانت النتيجة؟! انحسارٌ في أخسّ دركاتِ العبَثِ والفجور، وانغِماسٌ في أسفل دَركات الخلاعة والمجون. وحُقّ لنا أن نتساءل: ماذا أضحتِ المرأة المتحرّرة كما زَعموها والمرأةُ الحديثة كما نعَتوها والمرأة العصريّة كما وصَفوها؟ لقد ابتُذِلت غايةَ الابتذال، واستغِلَّت غايةَ الاستغلال، واستُعبِدَت واستُرِقّت، وغَدت أداة لهوٍ وتسليةٍ في يد العابثين الفُجّار والفَسَقة الأشرار، تعمل بثديَيها قبل يدَيها، راقِصةً في دورِ البِغاء، وعارضةً في دورِ الأزياء، وغانيةً في دور الدّعَارة والتّمثيل، فأينَ أُكذوبة تحريرِها وتكريمها؟! وصدق رسول الله : ((ما تركتُ بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النساء، فاتّقوا الدنيا واتّقوا النساء، فإنّ أوّل فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) [3].
أيّها المسلمون، إنّ حتميَّة الفصلِ الدقيق والعميق بين الرجلِ والمرأة يُعدُّ ضرورةً أخلاقيّة وسلوكيّة واجتماعية وأمنية؛ لأنّ تمكينَ الاختلاط بين الرجال والنساء أصلُ كلِّ بليّة ونقيصة وأساسُ كلِّ شرٍّ ورذيلة، فعن عقبة بن عامر الجهنيّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إيّاكم والدخولَ على النساء)) ، فقال رجل من الأنصار: يا رسولَ الله، أفرأيتَ الحموَ؟ قال: ((الحموُ الموت)) متفق عليه [4] ، وعن أمّ سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا سلّم ـ أي: إذا فرَغ من الصلاة ـ مكَث قليلاً، وكانوا يَرونَ أنّ ذلك كيما ينفذ النساءُ قبل الرجال. أخرجه أبو داود [5]. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لو تركنا هذا البابَ للنّساء)) ، قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات. أخرجه أبو داود [6]. وعن أبي أسيد الأنصاريّ رضي الله عنه أنّه سمع رسول الله يقول وهو خارجٌ من المسجد فاختلط الرّجال مع النساء في الطريق، فقال رسول الله للنساء: ((استأخِرن، فإنّه ليس لكنّ أن تحقُقن الطّريقَ، عليكنّ بحافّات الطريق)) أخرجه أبو داود [7]. ويقول جلّ في علاه في كتابه العزيز وكلامه البليغ الوجيز: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53].
تلك أدلَّةٌ من الكتاب والسنة تردُّ أباطيلَ كلِّ مارق وتحسِم أضاليلَ كلِّ ماذق ممّن عدَلَ عن مَوردهما العذبِ الزُّلال إلى آسِن قلّوطِ أهل الفِسق والضَّلال.
يا فتاةَ الإسلام، كوني كما أرادَك الله وكما أراد لك رسولُ الله ، لا كما يريدُه دعاةُ الفتنة وسُعاةُ التبرُّج والاختلاط، فأنتِ فينا مُربِّيةُ الأجيال وصانعةُ الرجال وغارسةُ الفضائل وكريمِ الخصال ومرضِعةُ المكارم وبانيةُ الأمم والأمجادِ، فحاشاك حاشاك أن تكوني مِعوَلَ هدمٍ وآلةَ تخريب وأداةَ تغيير وتغريب في بلادِ الإسلام الطّاهرة وربوعِه العامرة ضِدّ أمّة محمّد.
يا نساءَ المسلمين، إنّ الله رفعكنَّ وشرّفكنّ، وأعلى قدركنّ ومكانتَكنّ، وحفِظ حقوقكنّ، فاشكُرنَ النعمة، واذكُرن المنَّة، فما ضُرِب الحجابُ ولا فُرِض الجِلباب ولا شُرع النقاب إلاّ حمايةً لأغراضِكن وصيانةً لنفوسِكن وطهارةً لقلوبكنّ وعصمةً لكنّ من دواعي الفتنة وسُبُل التحلُّل والانحِدار، فعليكنّ بالاختِمار والاستِتار، واغضُضنَ من أبصاركنّ، واحفظن فروجَكنّ، واحذَرن ما يلفِت الأنظارَ ويُغري مرضَى القلوبِ والأشرار، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]. استُرن وجوهكنّ وزينتكنّ ومحاسنكنّ عن الرّجال الأجانب عنكنّ.
ولتحذَر المرأةُ المسلمة الرقيقَ من الثيابِ الذي يصِف ويشفّ، والضيِّقَ الذي يبين عن مفاتِنها وتقاطيعِ بدنها وحجمِ عظامها، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((المرأةُ عورةٌ، فإذا خرجت استشرَفها الشيطان، وأقرَب ما تكون من ربِّها إذا هِي في قعرِ بيتِها)) أخرجه ابن حبان [8].
ولتحذرِ المرأة المسلمةُ أن تمرَّ على الرجالِ متعطِّرةً متبخِّرة، يقول رسول الهدى : ((إذا استعطَرت المرأة فمرَّت بالقومِ ليجدوا ريحَها فهي زانية)) أخرجه أبو داود والترمذي [9] ، وعن عُبيد مولى أبي رُهم أنّ أبا هريرة رضي الله عنه لقيَ امرأةً متطيّبةً تريدُ المسجدَ، فقال: يا أمةَ الجبّار، أين تريدِين؟ قالت: المسجد، قال: وله تطيَّبتِ؟! قالت: نعم، قال: فإني سمعتُ رسول الله يقول: ((أيّما امرأةٍ تطيّبَت ثمّ خرجت إلى المسجد لم تُقبَل لها صلاةٌ حتى تغتسِل)) أخرجه ابن ماجه [10] ، وعن عمرةَ بنتِ عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت: لو أنّ رسولَ الله رأى ما أحدثَ النساءُ لمنعهنّ المسجدَ كما مُنِعَت نساءُ بني إسرائيل، قيل لعمرةَ: نساءُ بني إسرائيل مُنِعنَ من المسجد؟! قالت: نعم. أخرجه مسلم [11].
ولتحذرِ المرأة المسلمةُ أن تخضعَ بقولها أو تترَقرَقَ في لفظها أو تتميَّع في صوتها أو تتنظّم وتتكسَّر في كلامِها مع الرجال، فتُطمِعَ فيها ضعيفَ الإيمان، فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا [الأحزاب:32].
والمرأةُ الشريفة العفيفَة لا تقبلُ أن تكونَ نبعَةَ إثارةٍ أو مثار فتنة للأعين الشرِهَة والنظراتِ الخائنة الوقِحة والنفوس السافِلة الدنيئةِ والأقوال المهينةِ البذيئة، قال جلّ في علاه: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور:31]، ويقول تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:59].
فأين الامتثال؟! وأين الاستجابة في الحال؟! فعن أم سلمةَ رضي الله عنها قالت: لمّا نزلت هذه الآية: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ خرج نساءُ الأنصار كأنّ على رؤوسهنّ الغربان من الأكسية. أخرجه أبو داود [12]. وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كُنّ نساء المؤمنات يشهَدن مع رسول الله صلاةَ الفجر متلفِّعاتٍ بمروطهنّ، ثم ينقلبنَ إلى بيوتهنّ [حين] يقضين الصلاة، لا يعرفهنّ أحدٌ من الغَلَس. متفق عليه [13].
أيّتها المرأةُ المسلمة، تجلَّلي بأشرفِ إِكليل وتلفّعي بأهدَى سبيل وانتمي إلى خيرِ قَبيل، تجلَّلي بالتقوى والإيمانِ والخشية والخوفِ والحياء من الرحمن، واحذري كلَّ متبرِّجةٍ داعِرة وكلَّ حاسِرة وسافِرة وكلّ ماجنةٍ وكافرة، وأرعِي سمعَك لقول رسولِ الهدى : ((صنفان من أهلِ النار لم أرَهما: قومٌ معهم سياطٌ كأذنابِ البقر يضرِبون بها الناس، ونساءٌ كاسيات عاريات مميلاتٌ مائلات، رؤوسُهنّ كأسنِمَة البُخت المائلة، لا يدخلنَ الجنة ولا يجِدن ريحَها، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرةِ كذا وكذا)) أخرجه مسلم [14] والطبراني وزاد: ((العنوهنّ فإنهن ملعونات)) [15].
هذا مصيرُ العاريةِ من خشية الله، العاريةِ من شكر نعمةِ الله، العاريةِ من الأخلاق الكريمة، هذا مصير من تبرّجت وترجَّلت ومرجت وبرزت وتكشّفت وفتَنت وافتُتِنَت، فاحذَري سوءَ الخاتمة، ولا يحُل بينك وبين الخاتمة الحسنةِ والدارِ الطيبة في الجنّة العالية دعاةُ المخادنة وأعداءُ الشّرف وأنصار التحلُّل والتفسُّخ والانحدار.
أيّها المسلمون، كلّ ما أدّى إلى محذور فهو في الشّرع محظور، وإنّ من أعظم أسباب الفساد والحيدِ عن سبيل العِفَّة والرشاد سَفَرَ المرأة وليس مَعها ذو محرم منها أو خلوتها بأجنبيّ عنها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله يخطب ويقول: ((لا يخلوَنّ رجلٌ بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافِر المرأة إلاّ مع ذي محرم)) ، فقام رجلٌ فقال: يا رسولَ الله، إنّ امرأتي خرجت حاجَّةً وإني اكتُتِبتُ في غزوةِ كذا وكذا، فقال النبيّ : ((انطلِق فحُجَّ مع امرأتك)) متفق عليه [16] ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ عمر بن الخطاب خطبَ بالجابية فقال: قام فينَا رسول الله مقامِي فيكم فقال: ((لا يخلوَنّ أحدكم بامرأةٍ فإنّ الشيطان ثالثُهما)) أخرجه أحمد [17]. كلّ ذلك سدًّا للذرائع وحَسمًا للوسائل المفضِية إلى وقوع الفواحِش.
أيّها الآباء والأولياء، صونوا نساءَكم، واحفَظوا أعراضَكم وأنسابكم، واجتنِبوا التفريطَ والتشاغُل، وحاذروا التقصيرَ والتساهلَ الذي لا تُؤمَن لواحِقُه وتوابعُه وتواليهِ وعواقبه، بيدَ أنّ عاقبتَه بوار وخاتمته خَسار، كونوا أُباةَ العَار وحُماةَ العَرين، كونوا كمحافظٍ متنبِّهٍ لا يغفل، ومُراعٍ متيقِّظٍ لا يُهمِل. واعلَموا أنّ أشرفَ الناس أشدُّهم غيرةً على نفسِه وأهله وعِرضه، ومَن لا غَيرة عنده فبطنُ الأرض أولى به من ظهرها، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنّ اللهَ سائلٌ كلَّ راعٍ عمّا استرعاه: حفظ أم ضيَّع؟ حتى يسأل الرجلَ عن أهل بيته)) أخرجه ابن حبان [18] ، وفي الصحيحين: ((والرجلُ راعٍ على أهلِه ومسؤول عن رعيته، والمرأةُ راعية في بيت زوجها ومسؤولةٌ عن رعيّتها)) [19].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
جعلني الله إيّاكم من الهداة المهتَدين المتّبعين لسنّة سيّد المرسلين ، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] من قصيدة "السفور والخلاعة" للشاعر محمد حسن النجمي.
[2] من لامية ابن سند.
[3] هذا النص مركب من حديثين، فالجزء الأول منه أخرجه البخاري في النكاح (4706)، ومسلم في الذكر (4923) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، والجزء الثاني منه أخرجه مسلم في الذكر (4925) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[4] صحيح البخاري: كتاب النكاح (4831)، صحيح مسلم: كتاب السلام (4037).
[5] سنن أبي داود: كتاب الصلاة (876)، وهو عند البخاري في الأذان (793).
[6] سنن أبي داود: كتاب الصلاة (391، 484)، ورواه عقِبه موقوفا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: "وهو أصحّ"، وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط (1018)، وذكر الجزء المرفوع الألباني في صحيح سنن أبي داود (439، 534).
[7] سنن أبي داود: كتاب الأدب (4588)، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير (19/261)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (4392).
[8] صحيح ابن حبان (5598، 5599)، ورواه أيضا ابن خزيمة (1685، 1686)، والطبراني في الأوسط (2096) والكبير (10/108)، وقال الهيثمي في المجمع (2/35): "رجاله موثقون"، وصححه الألباني في الإرواء (273)، وانظر السلسلة الصحيحة (2688).
[9] سنن أبي داود: كتاب الترجل (3642)، سنن الترمذي: كتاب الأدب (2710) عن أبي موسى بنحوه، وأخرجه أيضا أحمد (4/400، 413، 418)، والنسائي في الزينة (5036)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (1681)، وابن حبان (4424)، والحاكم (3497)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3516).
[10] سنن ابن ماجه (3992)، وأخرجه أيضا أحمد (2/246، 297، 365، 444، 461)، وأبو داود في الترجل (3643)، وصححه ابن خزيمة (1682)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (3233).
[11] صحيح مسلم: كتاب الصلاة (676)، وهو أيضا عند البخاري في الأذان (822).
[12] سنن أبي داود: كتاب اللباس (3578)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3456).
[13] صحيح البخاري: كتاب المواقيت (544)، صحيح مسلم: كتاب المساجد (1020، 1021، 1022).
[14] صحيح مسلم: كتاب اللباس (3971) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[15] المعجم الصغير (1125) والأوسط (9331) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وهو أيضا عند أحمد (2/223)، وصححه ابن حبان (5753)، والحاكم (8346)، وهو في السلسلة الصحيحة (2683).
[16] صحيح البخاري: كتاب الحج (1729)، صحيح مسلم: كتاب الحج (2391).
[17] مسند أحمد (1/18)، وأخرجه أيضا الترمذي في الفتن (2091)، والنسائي في الكبرى (9225)، والبزار (167)، والبيهقي في الكبرى (7/91)، وقال الترمذي: "هذ حديث حسن صحيح غريب"، وصححه ابن حبان (7254)، والحاكم (387، 388، 389، 390)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1758).
[18] صحيح ابن حبان (4492)، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى (9174)، والطبراني في الأوسط (1703)، وابن عدي في الكامل (1/312)، وأبو نعيم في الحلية (6/281، 9/235)، وصحح إسناده ابن حجر في الفتح (13/113)، وهو في السلسلة الصحيحة (1636).
[19] صحيح البخاري: كتاب الجمعة (844)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (3408) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
أيّها المسلمون، إنّ ممّا يذيب القلبَ كَمدًا ويعتصِر له الفؤادُ ألمًا ما يحدثُ من مخالفاتٍ في الأعراس والأفراحِ ومنكراتٍ عظيمة في حفلات النكاح، أفراحٌ تعُجّ وتضِجّ بالمخالفات والمنكرات، استئجارٌ للمغنّين والمغنّيات والمطربين والمطرِبات الذين يتغنّونَ بأشعارِ الفِسق والفجور ويستخدِمون آلاتِ الموسيقى والطبول بمبالغَ باهظة وتكاليفَ عالية، سَفهٌ وإسراف ورِياءٌ وتبذير، وإيذاء واعتداء ناتجان عن رفع الصوت بالغناء، ونساءٌ متبرِّجات يلبسنَ ثيابًا شفّافةً وضيِّقة ومجسِّمة وعارية وشبهَ عارية، ورقص كرقص العاهرات، واختلاط للرّجال بالنساء، وبذلٌ طائش وإسرافٌ فاحِش في المآكل والمشارب الذي لا يخفَى مصيرُها، وسَهرٌ لا خيرَ فيه ولا تُحصَى مساويه.
أمورٌ مخجِلة ومحزنة سَرت إلى صفوف المسلمين بطريقِ العدوى والتقليدِ الأعمى، فاتقوا اللهَ أيّها المسلمون، فما هكذا تُشكَر النِّعم وتستدفَع النِّقم، فانتَهوا عمّا نهيتُم، واستدركوا الفائتاتِ بالتوجُّع للعثرات والخروج من التّبعات والتوبة من السيّئات، والله يتوب على التّائبين.
ثمّ اعملوا أن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيَّه بكم أيّها المؤمنون من جنّه وإنسِه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:59].
اللهمّ صلِّ وسلِّم على نبيّنا وسيّدنا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
(1/3291)
عتاب لمستبطئي الجواب
الإيمان
حقيقة الإيمان
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
28/5/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عتاب من الله تعالى لمن استبطأ الإجابة. 2- خطورة قسوة القلب. 3- مشكلة الالتزام الصوري. 4- التذكير والتحذير من عقاب الله تعالى. 5- الحث على الخشوع. 6- بين امتحان الدنيا وامتحان الآخرة. 7- قار محكمة العدل بعدم شرعية دار الفصل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: قال الله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الحديد:16، 17].
أيها المؤمنون، هذه الآية الكريمة عتاب من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين الذين لم يصلوا إلى تلك المرتبة التي يريدها الله لهم، وتلويح لهم بما كان من أهل الكتاب قبلهم من قسوة في القلوب وفسق في الأعمال، وتحذير من هذا المآل الذي انتهى إليه أهل الكتاب بطول الأمد عليهم، مع إطماع المؤمنين في عون الله الذي يحيي القلوب كما يحيي الأرض بعد موتها.
حقًا أيها المؤمنون، إنه عتاب مؤثّر من المولى الكريم الرحيم، واستبطاء للاستجابة الكاملة من تلك القلوب التي أفاض عليها من فضله، فبعث فيها الرسول صلوات الله وسلامه عليه يدعوهم إلى الإيمان بربهم، ونزّل عليه الآيات البينات، ليخرجها من الظلمات إلى النور، وأراها من آياته في الكون والخلق ما يبصَر ويحذَر. عتاب فيه الود، وفيه الحضّ، وفيه الدعوة إلى الشعور بجلال الله والخشوع لذكره وتلقي ما نزل من الحق بما يليق بجلال الحق من الروعة والخشية والطاعة والاستسلام، مع رائحة التنديد والاستبطاء في السؤال، إلى جانب التحذير من عاقبة التباطؤ والتقاعس عن الاستجابة، وبيان لما يغشى القلوب من الصدأ، حين يمتد بها الزمن بدون جلاء، وما تنتهي إليه من القسوة بعد اللين حين تغفل عن ذكر الله، وحين لا تخشع للحق.
أيها المسلمون، وليس وراء قسوة القلوب إلا الفسق والخروج. إن هذا القلب البشري سريع التقلب سريع النسيان، وها هو يشرق فيفيض بالنور، فإذا طال عليه الأمد تبلّد وقسى وانطمست أنواره وأظلم وأعتم.
أيها المسلمون، والعقاب وسيلة من وسائل التقويم، له الأثر الفعال في استنهاض الهمم وتوجيه النفوس إلى الأفضل والأمثل، مما يجب المصير إليه والأخذ به لصلاح الأمة. ولقد كان من تقويم الله للمؤمنين في صدر الإسلام عندما استبطأت قلوبهم في الإقبال عليه والخشوع عند ذكره أن عاتبهم، موقظًا شعورهم نحو ما يجب عليهم من تلقي إشعاع هذا الدين ونور الحق المبين وهداية القرآن الكريم بالخشوع الكامل الذي يعبر عنه الاستسلام والإذعان الشامل لكل ما جاء عن الله من تشريع وأحكام، وحذرهم أن يكونوا كسابقيهم من الأمم، ممن ذم الله صنيعهم حين أعرضوا عن هداية كتبهم المنزلة، وبدلوا وغيروا واشتروا بآيات الله ثمنًا قليلاً، فقست منهم القلوب، ووصفهم الله ونبّه على سوء أعمالهم وأفعالهم إمعانًا في التنفير من سلوك سبيلهم.
أيها المسلمون، ورد عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين). هذا مع أن الدين كان طريًا في قلوبهم، وكان الوازع الديني قويًا في نفوسهم ورقيبًا عليهم، لا يسرعون إلى معصية، بل لديهم الرغبة في الطاعة، فكيف حال الناس في أعقاب الزمن، وقد ابتعدوا كثيرًا عن عصر نزول القرآن الكريم، وضعف الوازع الديني، وأضحت العبارات المشروعة لهم رسومًا تؤدّى وطقوسًا تمارس دون أن تتأثر بها القلوب وتخشع، فيكون لها الأثر المحمود في صقل النفوس واستصلاح فاسدها.
فالصلاة مثلاً من أبرز آثارها مباعدة المسلم عن الزلل والخطأ وعصمته من التردي في مزالق الرذيلة، كما قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].
أيها المسلمون، ولكنّ الملاحظ في كثير من المسلمين أن لا أثر لهذه التزكية في نفسه، تراه يجترئ على المعصية في إصرار وعناد، أو يستمرئ الحرام في كسبه، كمن يسارع في أكل الرشوة التي تفسد الضمائر، تخدش الدين والحياء، أو يستهين في الكذب على الله وعلى العباد، أو التحايل على أكل الربا بما في ذلك فوائد البنوك، أو بإطلاق الأسماء الإسلامية على مؤسّسات ربوية واضحة المعالم والأهداف. وصدق الله العظيم حيث قال: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ [البقرة:9]. ولقد توعد الله العلي القدير أكَلَة الربا بقوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279]. ومن الناس من يغشّ في البيع ويدلّس، أو يحلف الأيمان الكاذبة لترويجها. كل ذلك مما يشعر أن الصلاة لم تؤت ثمارها، لأن المصلي لم يأت بحقيقتها، بل أتى بحركات من ركوع وسجود، جريًا على العادة، دون أن يستشعر فيها عظمة الباري جل وعلا، فلما فقد جوهر الصلاة فقد أثرها، فلم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر.
وكذلك الصوم والحج وكل عبادة تعبَّد الله بها العباد، لم يعد لها الأثر المطلوب في تزكية النفوس والارتفاع بها عن مجالات الإثم ومزالق الرذيلة، وما أكثرها، لأنها أضحت شكليات لم تؤدَّ على حقيقتها؛ لذا كان العتاب الذي عاتب الله به صفوة الأمة في الماضي لا يزال قائمًا على الأمة في أعقاب الزمان، بل هو بالنسبة للخلف أعظم وجوبًا، وهم له أكثر حاجة.
أيها المسلمون، وإذا لم يرفع المسلم بعتاب ربه رأسًا، ولم يحدث له العتاب تحولاً إلى الخير وتقويمًا وتهذيبًا، واستمر على طغيانه ومفاسده وعدوانه وانتهاكه لمحارم الله والعمل بمعصية الله، فإن له من وراء العتاب عقابًا شديدًا مؤلمًا سوف يلقاه جزاءً عادلاً، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء:14].
أيها المسلمون، ذكر الإمام القرطبي في تفسيره أن قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16] كان سببًا في توبة الفضيل بن عياض رحمه الله، فقد عشق جاريةً فواعدته ليلاً، فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع قارئًا يقرأ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ فرجع القهقرى، وهو يقول: بلى والله قد آن. فآواه الليل إلى خربة، وفيها جماعة من السابلة، بعضهم يقول لبعض: إن فضيلاً يقطع الطريق، فقال الفضيل: أواه أراني بالليل أسعى في معاصي الله، إنّ قومًا من المسلمين يخافوني، اللهم إني قد تبتُ إليك، وجعلت توبتي إليك جوارًا في بيتك الحرام.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وليكن لكم من عتاب الله على التفريط في جنب الله، فهو خير نذير من عذاب الله، وخير حافز للانتفاع بالتذكرة وسلوك سبيل المهتدين التائبين من عباد الله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والذين أثنى عليهم في محكم الكتاب بقوله: فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:17، 18].
روي عن صاحب رسول الله شداد بن أوس رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول: ((إن أول ما يرفع من الناس الخشوع)) ، فتصبح عبادتهم شكلية لا روح فيها، لا تستصلح فاسدًا، ولا يكون لها أثر في التقويم والتهذيب.
فاحرصوا ـ رحمكم الله ـ على الخشوع في عبادتكم، فهو المحور الأساس، واحذروا من النفاق والرياء والتستر بالدين، لأن العاقبة ستكون وخيمة والنتائج سلبية والفتنة شديدة. جاء في الأثر وفيما أنزل على بعض الأنبياء: "قل للذين يتفقهون لغير الدين ويتعلمون لغير العمل ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة، يلبسون للناس مسوح الكباش، وقلوبهم كقلوب الذئاب، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصبر، أإياي يخادعون، وبي يستهزئون؟! لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيها حيران"، أو كما قال.
التائب من الذنب كما لا ذنب له.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المؤمنون، أمران أودّ التعقيب عليهما:
الأمر الأول: قبل يومين كانت أعصاب الكثير من أهلنا وأبنائنا مشدودة ومتوترة بانتظار نتائج امتحان الثانوية العامة، ففرح الناجحون والمتفوقون، وحزن الراسبون والذين لم يحصلوا على المعدل المطلوب. ولا أحد ينكر أهمية النجاح والفوز في امتحان الدنيا، وفي المقابل سلبية الرسوب وعدم التفوق فيه.
وبهذه المناسبة أقول: إذا كان هذا الحال وهذا الشعور تجاه امتحان محدود في الدنيا لا يعطي تقويمًا حقيقيًا لمصير الإنسان، فكيف يكون الحال تجاه امتحان الآخرة الذي يتقرر فيه مصير الإنسان، إما الجنة وإما النار؟!
ولذا يجب أخذ العبرة والعظة والعمل لذلك اليوم الذي يفر فيه المرء من أمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، ولهذا اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ولا يسعني إزاء ذلك إلا أن أتقدم بالتهنئة الخالصة لأبنائنا الناجحين والمتفوقين بالرغم من كل الظروف الصعبة المحيطة بهم، متمنيًا لهم دوام التوفيق والنجاح، حتى يكونوا بناة لأمتهم وأوطانهم، فبالعلم والعقيدة نحرر البلاد ونبني الإنسان.
وأقول لمن لم يكتب لهم النجاح: لا تيأسوا ولا تقنطوا من رحمة الله، والفرصة أمامكم، أعدوا أنفسكم لكرّة أخرى، وضاعفوا جهودكم، وتوكلوا على الله، يكتب لكم النجاح بمشيئة الله تعالى.
أيها المؤمنون، وأما الأمر الثاني: فهو صدور القرار الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في لاهاي قبل بضعة أيام، والقاضي ببطلان شرعية جدار الفصل العنصري، لإنشائه على الأراضي الفلسطينية، ولتحويله حياة الفلسطينيين إلى جحيم لا يطاق، إلى غير ذلك مما جاء في حيثيات القرار.
ونحن الفلسطينيون، من جانبنا نرحب بصدور هذا القرار، ونتوجه بالشكر لكل من يقف إلى جانبنا وينادي برفع الظلم عنا، ونعتبر هذا القرار صفعة للسياسة الإسرائيلية في هذه البلاد.
ولكن من الملاحظ أن الضجة الإعلامية والسياسية حول هذا القرار الاستشاري مبالغ فيها من قبل الكثيرين، وقد أعطي حجمًا أكبر مما يستحقه، فليس هذا القرار فريدًا من نوعه، فقد صدرت آلاف القرارات المؤيدة لحقنا في هذه البلاد، وامتلأت خزائن وأروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن بالقرارات المشابهة، ولكنها بقيت حبرًا على ورق، لم ينفذ منها شيء، وبالتالي فقدت قيمتها، فالاعتماد عليها وحدها مضيعة للوقت ومضيعة للحقوق.
أيها المرابطون، إن الواقع الذي تعيشه مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك والأراضي الفلسطينية واقع مُر أليم؛ فمدينة القدس يجري العمل على تهويدها وعزلها عن بقية المدن والقرى الفلسطينية، والمسجد الأقصى يشكو من قلة المصلين فيه، حيث لا يستطيع أحد الوصول إليه باستثناء أهلنا في المدينة المقدسة، وأهلنا داخل الخط الأخضر، وهذا انتهاك صارخ لحرية العبادة وظلم كبير تنكره قوانين السماء وقوانين الأرض.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114].
ومما لفت نظري قبل يومين مشاهدة مجموعات صغيرة من أبنائنا الصغار الذين لم تتجاوز أعمارهم سن العاشرة تتجول في ساحات الأقصى وتهتف له. إنه مشهد رائع محزن في آن واحد.
رائع لأنه يثلج الصدور، ويبعث الأمل في النفوس، ويؤكد أن المسجد الأقصى يعيش في قلوب الصغار منا قبل الكبار، وأنه لا يمكن لأحد أن يتجاهل هذه الحقيقة، حقيقة بقاء المسجد الأقصى وأرض الإسراء والمعراج رمزًا لعقيدتنا وتاجًا لعزتنا وكرامتنا.
ومشهد محزن لرؤيتنا لهؤلاء الصغار الأطفال يهتفون للمسجد الأقصى بحناجرهم الضعيفة، بينما أكثر من مليار مسلم صامتون، لا يحركون ساكنًا، بل نراهم يصفقون لقرارات استشارية لا تسمن ولا تغني من جوع، فيا للعجب ويا للهول.
وأما الوضع في بقية المدن والقرى الفلسطينية فحدّث ولا حرج، فالمعاناة ما زالت قائمة والأوصال مقطعة والحواجز منصوبة في كل مكان وعمليات الاعتقال والاغتيال مستمرة.
فاللهم لا حول ولا قوة إلا بك، نسألك الفرَج القريب والنصر المبين، إنك على كل شيء قدير.
(1/3292)
أكل المال الحرام
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
حسين بن غنام الفريدي
حائل
13/7/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيان ضعف الإنسان. 2- شمولية الشريعة. 3- الرد على من نحى الشريعة عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. 4- تهافت الناس على الدنيا. 5- تساهل الناس في أكل الحرام. 6- من عواقب أكل الحرام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إليه جميعًا لعلكم تفلحون، واعلموا أن الله رغبكم في التوبة فقال: وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا يُرِيدُ ?للَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ?لإِنسَـ?نُ ضَعِيفًا [النساء:27، 28].
ففي هذه الآية يقرر المولى تبارك وتعالى ضعف الإنسان؛ فهو ضعيف في نشأته، خلقه من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ضعيف في علمه، وَمَا أُوتِيتُم مّن ?لْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85]، لا يعلم الغيب حتى فيما يخصه، وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَيّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]. ضعيف في إدراكه، فقد يرى الضارّ نافعًا والنافع ضارًا، ولا يدرك نتائج تصرفاته وأعماله، فمن أجل ذلك بعث الله الرسل وأنزل معهم الكتب لهداية العباد والأخذ بهم إلى سواء الصراط، ليخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، تحكمهم شريعة الله، حماية لهم من نظُمٍ من عند أنفسهم يسلكون بها مسالك المتاهات في الظلم والجور والنزاع والخلافات، فجاءت الشريعة الغراء منظمة للناس، ليس في العبادة فحسب، ولكن في العبادات والمعاملات والآداب، فكانت أكمل تلك الشرائع وأشملها وأرعاها لمصالح العباد، وذلك على مر العصور وتعاقب الدهور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هذه الشريعة التي ختم الله بها الشرائع لتكون للخلق كافة منهجًا للحياة شاملاً.
ومع ذلك فلقد ضلّ أقوام عن الحق حيث زعموا أن الشريعة إنما تنظم العبادات والأخلاق، ولا شأن لها في أمور الحياة المادية والسياسية، فاتبعوا أهواءهم، وتنكّبوا الصراط، وسنّوا لأنفسهم قوانين من وضع البشر، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [المائدة:44]، وقال تعالى: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:65]، فضلوا وأضلوا، وعموا وتعاموا عن نصوص كثيرة جاءت لتنظيم المعاملات في كتاب الله وسنة رسوله ، بل إن أطول آية في كتاب الله كانت في المعاملات في البيع والشراء الحاضر والمؤجل، وبيان وسائل حفظ ذلك من كتابة وإشهاد ورهن، فالشريعة كما تنظم العبادات فقد نظمت المعاملات، فكما أن في العبادات أمرا ونهيًا ووعدا ووعيدًا وترغيبًا وترهيبا، فكذلك الحال في المعاملات: وَأَوْفُوا ?لْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِ?لقِسْطَاسِ ?لْمُسْتَقِيمِ [الإسراء:35]، وقال تعالى: وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ [المطففين:1].
فكما أن المسلم مأمور أن يلتزم في عبادته ولا يتجاوز ما حدّه الله له، فكذلك هو مأمور بعدم التقصير ومجاوزة الحد في المعاملات؛ لأن ذلك كلّه من عند الله جاءت به شريعته التي رضيها لنا سبحانه، فكما أننا مسؤولون عن عباداتنا فإننا مسؤولون عن معاملاتنا ، فَلَنَسْئَلَنَّ ?لَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ ?لْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف:6، 7].
إن من رضي بالله ربًا فلا عذرَ له في أن يؤمن لبعض الكتاب ويكفر ببعض، يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً، فقد وصف الله من هذا حاله فقال: أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـ?فِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا [النساء:151]
عباد الله، وإن من أخطر الأمور تهافت الناس على الدنيا وأخذها من حلها ومن غير حلها، وأصبح همّ الواحد الحصول على المال، لا يبالي أمن حلال هو أم من حرام، همّه أن يكون من الأثرياء، فضلّ بذلك عن الهدى واتبع الهوى، أَفَمَن يَمْشِى مُكِبًّا عَلَى? وَجْهِهِ أَهْدَى? أَمَّن يَمْشِى سَوِيًّا عَلَى صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [الملك:22].
يقول الرسول : ((إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه. والذي نفسي بيده، لا يُسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمَن جاره بوائقه)) ، قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال: ((غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدّق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث)) أخرجه الإمام أحمد في المسند. إن في هذا الحديث لعبرة وعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
إن كثرة الدنيا وتنعّم العبد فيها ليس علامة على أنّ الله يحبه: فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْو?لُهُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ?للَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَـ?فِرُونَ [التوبة:55]، وقال عن قارون: فَخَرَجَ عَلَى? قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ ?لَّذِينَ يُرِيدُونَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا ي?لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَـ?رُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ وَقَالَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ?للَّهِ خَيْرٌ لّمَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ ?لصَّـ?بِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ?لأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ?للَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ?لْمُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ ?لَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِ?لأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ?للَّهَ يَبْسُطُ ?لرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ ?للَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ?لْكَـ?فِرُونَ تِلْكَ ?لدَّارُ ?لآْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي ?لأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:79-83]، فصار المال وبالاً عليه: وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ?لأَنْعَـ?مُ وَ?لنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ [محمد:12].
وجاء في الصحيحين قال : ((إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض)) ، قيل: وما بركات الأرض؟ قال: ((زهرة الدنيا)) ، ثم قال: ((إن هذا المال خضرة حلوة، من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، وإن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة)).
لقد برهنت الوقائع ـ يا عباد الله ـ صدقَ كلام رسول الله ، فها نحن نشاهد من يكتسب المال بالطرق المحرمة، قد ملأ الطمع صدره، وأحرق نفسه، وتلبس بالشح والبخل، أيديهم مملوءة وقلوبهم خاوية، يقول عنهم الناس: أغنياء وهم أشدّ طلبًا للمال من الفقراء؛ لأنهم ـ كما جاء في الحديث ـ كالذي يأكل ولا يشبع، فمن وقع في الربا لا تكاد تجده يتوب منه ولا يفتر في طلبه. والذي يأكل أموال الناس بالباطل قد زين له سوء عمله فرآه حسنًا، لا يرعوي عن حيلة ولا يتوانى في مكيدة. نرى من يتعامل بالغش والتغرير والتدليس على عباد الله. نسمع عمن يأخذ الرشوة على واجبات أنيطت به. نرى من يربح من وراء الطرق الملتوية في المساهمات العقارية وغيرها، لا يتورعون عن الكسب بهذه الطرق المحرمة. نرى من لا يعطي الأجير أجرته ويبخسه حقه.
فكيف يليق ـ يا عباد الله ـ بمن آمن بالله ربًا وبمحمد نبيًا وبالإسلام دينًا ،كيف يليق به وهو يعلم ما يترتب على ذلك من عقوبات ونتائج وخيمة في الدنيا قبل الآخرة؟! كيف يسعى لكسب المال من طريق حرام؟! كيف يرضى أن يخسر دينه ويبيعه بدراهم معدودة؟! أُولَئِكَ ?لَّذِينَ ?شْتَرَوُاْ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا بِ?لآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ?لْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:86].
يجعل الوسيلة غاية والغاية وسيلة، ألم يعلم أن المال وسيلة لقيام الدين والدنيا وأن اكتسابه بطريق حرام هدم للدين والدنيا؟! الحلال بيّن، والحرام بيّن مهما تأوّل المتأوّلون ممن يلفّقون بين الفتاوى ويلوون أعناق النصوص. الإثم ما حاك في صدرك وتردّد وإن أفتاك الناس وأفتوك.
فاتقوا الله عباد الله، وأجملوا في الطلب، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم تفلحون، واتقوا النار التي أعدت للكافرين.
وفقنا الله وإياكم للبصيرة في دينه والعمل بما يرضيه، وحمانا من أسباب سخطه ومعاقبه، وغفر لنا ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إليه جميعًا، توبوا إلى الله توبة نصوحًا، عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار.
واعلموا أن من يتقي الله يجعل له مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، إن الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرًا.
واقتدوا بالسلف الكرام؛ بالحذر من أكل الحرام، فلقد كانوا يتركون تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام، فها هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان له غلام يأتيه بطعام فيسأله: من أين لك هذا؟ فإذا اطمأن إليه أكله، ومرة جاءه بطعام فأكله، ثم سأله: من أين لك هذا؟ فقال: اشتريته بمال كسبته في كهانة تكهنتها في الجاهلية، فتلوّن وجه أبي بكر رضي الله عنه وأدخل أصبعه في فيه، فأخذ يتقيأ ذلك الطعام حتى أخرجه، فقال: ويحك يا غلام، كدت أن تهلكني، إني خشيت أن ينبت لحمي على هذا المال الحرام، كيف لي بذلك وقد سمعت رسول الله يقول: ((أيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به)).
فاحذر ـ يا عبد الله ـ أن تطعمَ نفسك وأولادك الحرام، سواء كان رِبًا أو غِشًا أو سرقة أو اختلاسًا أو رشوة وغير ذلك من بيع الأمور المحرمة، كبيع أشرطة الفيديو والتي تنشر الفساد والرذيلة وأشرطة الغناء، أو المجلات التي تهزأ بالفضيلة وتنشر الرذيلة، أو ببيع الدخان، وأشدّ من ذلك كله بيع الخمور والمخدرات وترويجها بين المسلمين.
إن أكل الحرام موجب لغضب الله ومانع من إجابة الدعاء، فاتقوا الله في أنفسكم، واحذروا الحرام مهما بلغت بكم الضرورة، واعلموا أن الله أرحم بعباده.
وصلوا وسلموا على نبيكم محمد...
(1/3293)
الاحتضار
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
حسين بن غنام الفريدي
حائل
12/4/1418
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- علاج قسوة القلب. 2- وصف حال المحتضِر. 3- نماذج من حال بعض السلف عند الاحتضار. 4- موعظة وتذكير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله الحيَّ الذي لا يموت ولا يفنى، وكل حيّ يموت ويفنى، قضى على عباده بالفناء وتفرد بالبقاء، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى? وَجْهُ رَبّكَ ذُو ?لْجَلْـ?لِ وَ?لإكْرَامِ [الرحمن:26، 27]. فمن أطاع الله ورسوله كتبت له نهاية السعداء، ومن عصى الله ورسوله فليس له طريق إلا طريق الشقاء.
عباد الله، إن للجانب المادي المسيطر على حياتنا دورا كبيرًا في بعدنا عن التفكير في مآلنا ومصيرنا، عند ذلك ضعفت الهمم وخارت العزائم وقست القلوب، وهذا حال لا يرضي الله، فجدير بنا أن نتلمس مواضع الداء لنفلح في وصف الدواء.
وإن أعظم دواء لهذا المرض تذكّرُ اللحظات الحاسمة التي سنصير إليها جميعًا، وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
قفوا وتأملوا قول الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
عباد الله، إن لحظة الاحتضار والتي سنعاني منها جميعًا لحظة حاسمة، لها وقع عميق مؤثر، وذلك حين تبلغ الروح الحلقوم، ويقف صاحبها على حافة عالم آخر، والجميع حوله لا يملكون له صرفًا ولا عدلاً: وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي ?لصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ ?لْوَعِيدِ [ق:19، 20].
إنها ـ والله ـ لساعة مهولة ذات كرب شديد، وما بعدها إلا وعد أو وعيد، لو تفكرت في حلولها وأنت في نعيم وهناء لتكدّرت حياتك، ولهانت الدنيا عندك، وصغر عظمها في عينك، وتبدل فرحك حزنًا وسعادتك كدرًا، كيف لا وأنت ستفارق الأموال والأولاد والأحباب والأصحاب، وتنقل إلى دار الحساب والأهوال، حتى يفضي بك إلى أحد الفريقين: فَرِيقٌ فِي ?لْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ?لسَّعِيرِ [الشورى:7].
إنها حقيقة ويقين أشبه ما تكون بالشكّ، وذلك عندما غفلت قلوبنا، نشيّع الجنائز ونجلس في العزاء وما في قلوبنا ذكر للموت، وما عندنا منه توجّس ولا خوف من سوء الخاتمة.
عباد الله، إن تذكّر الموت لا يقرّب آجالكم ولا ينقص من أعماركم، بل هو زيادة في يقينكم واستعداد لرحيلكم.
والموت يأتي على الصغير والكبير والعزيز والحقير والذكر والأنثى، وإن له سكرات شديدة لو صرفت عن عبد لصرفت عن أكرم الخلق عليه الصلاة والسلام، فقد كان يبلّ يده بماء ويمسح بها وجهه وهو يقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، اللهم أعني على سكرات الموت)).
ما أقرب الموت منّا تجاوز الله عنّا
كأنه قد سقانا بكأسه حيث كنّا
يقول الحسن البصري: "فضح الموت الدنيا، لم يترك لذي لبّ فرحًا".
هو الموت فاصنع كلّ ما أنت صانع وأنت لكأس الموت لا بدّ جارع
لو لم يكن ـ يا عباد الله ـ أمام العبد كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت لكان جديرًا أن ينغّص عليه عيشه ويتكدّر سروره ويفارق سهوه وغفلته، وحقيقًا أن يطول فيه فكره، ويعظم له استعداده، كيف لا ونحن نعلم أن وراء الموت القبر وظلمته والصراط وزلّته والحساب وشدته.
قال تعالى: كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ?لتَّرَاقِىَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ ?لْفِرَاقُ وَ?لْتَفَّتِ ?لسَّاقُ بِ?لسَّاقِ [القيامة:26-29].
إنه مشهد عظيم، إنه مشهد الموت الذي ينتهي إليه كل حيّ، الموت الذي يفرّق بين الأحبة، لا يستجيب لصرخة ملهوف ولا لحسرة مفارق ولا لرغبة راغب ولا لخوف خائف، الموت الذي يُصرع به الجبابرة ويقهر به المتسلطون. وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:27]، فيقال: فلان مريض ثقيل فهل إلى دواء من دليل؟ أو هل إلى طبيب من سبيل؟ فتنقل إلى المستشفى، ويدعى لك الأطباء وما يرجى لك الشفاء، قد ثقل لسانك ولا تقدر على مخاطبة إخوانك، وعرق عند ذلك جبينك، وتتابع أنينك، وثبت يقينك، وتحقق فراقك، وارتفعت أجفانك، وصدقت ظنونك، وبكى أولادك وإخوانك، وعند ذلك انقطع عُوّادك واستراح حسّادك، وانصرف أهلك إلى مالك، وبقيت مرتهنًا بأعمالك، فيا لها من رحلة ويا له من قدوم.
فما تزوّد مما كان يجمعه سوى حنوط غداه الين في فرق
لما احتضر عمرو بن العاص سأل ابنه أن يصف له حاله فقال: (لكأنّ جنبي في تخت، وجعل رضوي على عنقي، ولكأني أتنفّس من سمّ إبرة، وكأن غصن شوك يجرّ من قدمي إلى هامتي).
الموت فاعمل بجد أيها الرجل واعلم بأنك من دنياك مرتحل
كأنني بك يا ذا الشيب في كرب بين الأحبة قد أودى بك الأجل
فاعمل لنفسك يا مسكين في مهل ما دام ينفعك التذكار والعمل
عباد الله، إن هذه اللحظات لتصدق فيها اللهجات وتفتضح فيها العورات، ولقد كان للسلف معها حدث وحديث وعبرة وعبارات، فهذا عمر رضي الله عنه لما طعن وأخذ ينازعه الموت قال لابنه: (ضع خدي على التراب)، فوضعه فبكى حتى لصق الطين بعينيه وجعل يقول: (ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي).
وبكى أبو هريرة عند موته فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: (يبكيني بُعد المفازة وقلة الزاد وضعف اليقين والعقبة الكؤد التي المهبط منها إما إلى الجنة وإما إلى النار).
ولما حضرت الوفاة معاوية بن أبي سفيان قال: (أقعدوني)، فأقعدوه فجعل يذكر الله تعالى ويسبحه ويقدسه، ثم قال مخاصمًا نفسه: (آلآن تذكر ربّك ـ يا معاوية ـ بعد الانحطام والانهدام؟! ألا كان لك ذلك وغصن الشباب نضير ريان؟!) وبكى حتى علا بكاؤه، ثم قال:
هو الموت لا منجى من الموت والذي أحاذر منه الموت أوهى وأفظع
ثم قال: (يا رب، ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي، اللهم أقل العثرة واغفر الزلة، وجد بحلمك على من لم يرج غيرك ولا وثق بأحد سواك).
يا جامع المال والمجتهد في الحطام، ليس لك والله من مالك إلا الأكفان، بل هي ـ والله ـ للخراب والذهاب، وجسمك للهوام والتراب. يقول أبو حازم: "كل عمل تكره الموت من أجله فاتركه، ثم لا يضرك متى مت".
قال المزني: دخلت على الشافعي في علته التي مات فيها، فقلت: كيف أصبحت؟ فقال: "أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقًا، ولكأس المنية شاربًا، ولسوء عملي ملاقيًا، وعلى الله تعالى واردًا، فلا أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها أو إلى النار فأعزيها"، ثم بكى وأنشأ يقول:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سُلّما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منة وتكرّما
عسى من له الإحسان يغفر زلتي ويستر أوزاري وما قد تقدما
عباد الله، إذا كانت هذه حال الصالحين فإنا ـ والله ـ أجدر بالخوف والحذر.
عباد الله، إن الله لا يجمع على العبد أمنين ولا مخافتين، فمن خاف الآن أمن عند الاحتضار، ومن أمن الآن خاف عند الاحتضار.
عباد الله، لقد كثر موت الفجأة، فنرى الرجل الصحيح القوي وإذا به يخر صريعًا إما ضحية لحادث سيارة، أو بنوبة قلبية مفاجئة.
فيا أيها الناس، لقد جاء في الحديث أن النبي قال: ((تركت فيكم واعظين ناطقًا وصامتًا، فالناطق القرآن والصامت الموت)) ، فكفى بالموت واعظًا.
فيا أيها المساكين، وكلنا كذلك، لا بالقرآن عملنا، ولا بالموت تفكرنا، نمسي ونصبح وقلوبنا معلقة بعلائق الدنيا، ما عندنا من الموت خبر، ولا نحن منه على حذر، قلوبنا خالية من خوف الرحمن عامرة بخداع الشيطان، كأننا قد أمنّا الموت وطوارقه، ولا أدلّ على ذلك من أعمالنا التي نعملها.
فيا عباد الله، أما وعظكم أخذ آبائكم وأحبابكم وجيرانكم وإخوانكم؟! فإن فيهم لبلاغًا لمن تذكر وعبرة لمن تفكر.
لقد كانوا معكم يأكلون مما تأكلون ويشربون مما تشربون ويلبسون مما تلبسون، فأصبحوا وقد صارت لهم القبور بيوتًا، وصاروا بين أطباق الثرى سكوتًا، قد قسم الوارث أموالهم، ونكِحت نساؤهم، ومحيت آثارهم، صاروا بأعمالهم مرتهنين وعلى تفريطهم نادمين، ضعفت محنهم وعظمت مصيبتهم وتمنوا العودة إلى داركم هذه، فحيل بينهم وبين ما يشتهون.
فخذوا من ذلك العبرة والعظة، وحاسبوا أنفسكم واقدروا للأمر قدره، وخذوا له الأهبة والعدة، إِنَّ فِي ذ?لِكَ لَذِكْرَى? لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ?لسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
اللهم إنا نسألك حسن الختام، اللهم أحينا سعداء وأمتنا شهداء، اللهم إنا نسألك عيشة هنيئة وميتة سوية ومردًا غير مخزٍ ولا فاضح، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها برحمتك يا أرحم الراحمين.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن تذكّر الموت لا يعني كثرةَ الحزن وطول النحيب مع الإقامة على التفريط، إن تذكرنا للموت يجب أن يقترن بخوفنا من سوء الخاتمة، وما كان السلف يخافون أمرًا كسوء الخاتمة، أجارنا الله وإياكم منها. لما مُدِح أحدهم قال: "العبرة بالخواتيم".
فإياك إياك ـ يا عبد الله ـ أن ينطوي قلبك على شهوة محرمة، أو تصر على كبيرة موبقة، فلربما غلب ذلك عليك حتى ينزل بك الموت قبل التوبة، فيظفر بك الشيطان لتكون من أصحاب السعير.
فيا من قطعت صلتك بالمساجد، ماذا تقول إذا بلغت الروح الحلقوم؟! وماذا تقول عند ذلك يا من أنشأت أولادك على الفساد، وجلبت لهم ما يسيء إلى القيم والاعتقاد؟! ماذا تقول يا من أدمنت الخمور والمخدرات ووقعت في الزنا وهتك الحرمات؟! ماذا تقول يا من ظلمت العباد وسعيت بالفساد؟! وما تقول يا من تتبعت عورات المسلمين ووضعت لهم الكمين تلو الكمين؟! ماذا تقول يا من سخرت من الصالحين وآذيت عباد الله المتقين؟! ماذا تقول يا من غلبك هواك وصمت أذناك، يا من فرطت في الفرائض وأصررت على الصغائر وقارفت الكبائر؟!
يا ترى هل ستوفق للنطق بالشهادتين أم يحال بينك وبينها كما فعل بغيرك؟! وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَـ?عِهِم مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكّ مُّرِيبِ [سبأ:54].
أعاذني الله وإياكم من ذلك، وجعلني وإياكم ممن قال الله فيهم: يُثَبّتُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?لْقَوْلِ ?لثَّابِتِ فِي ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِي ?لآخِرَةِ وَيُضِلُّ ?للَّهُ ?لظَّـ?لِمِينَ وَيَفْعَلُ ?للَّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:27]، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
(1/3294)
التحذير من كيد الكفار
الأسرة والمجتمع, الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, الولاء والبراء, قضايا المجتمع
حسين بن غنام الفريدي
حائل
26/3/1415
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استمرار الصراع بين الإسلام وأعدائه. 2- الماسونية وخطرها على الإسلام وأهله. 3- آثار الماسونية في البلاد الإسلامية. 4- التحذير من المؤتمر المنعقد بمصر لنشر الرذيلة وحرب الفضيلة. 5- أهداف هذا المؤتمر. 6- التحذير من الفرقة والاختلاف الواقع بين الدعاة وطلبة العلم. 7- فتوى هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في التحذير من المؤتمر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: اتقوا الله تعالى، واعلموا أنكم مسؤولون عن دين الإسلام وما قمتم به نحوه في خاصة أنفسكم ومع غيركم، قال تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ ?لَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ ?لْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ. [الأعراف:6، 7].
عباد الله، أعداء الإسلام منذ بعث الله رسوله محمدًا وهم يكيدون له ويحاولون القضاء عليه، قال تعالى: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وقال تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:271].
حاولوا صدّ الناس عن اتباع الرسول، ووصفوه بأشنع الأوصاف، وحاولوا قتله والقضاء على دعوته، فلم يفلحوا بحمد الله، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [التوبة:32].
واستمر الصراع إلى أن ضعف المسلمون في العصور المتأخرة، فغزاهم الاستعمار الكافر، واستولى على كثير من بلادهم، وقسمهم إلى دويلات، وبث سمومه وأحقاده فيهم، فلما انحسر هذا الاستعمار السياسي بقي الاستعمار الفكري الذي هو عبارة عن الإلحاد في العقائد والفساد في الأخلاق والإغراق في الشهوات البهيمية، وتكونت لذلك المنظمات والإرساليات المنصرة.
ومن ذلك المنظمة الماسونية والمنظمة الصهيونية الحاقدة، واتجهت كل هذه المنظمات تكيد للإسلام والمسلمين بشتى الوسائل، هدفها في ذلك موحد، هو القضاء على الإسلام، وقد استخدمت هذه المؤسسات الكفرية قومًا من جلدتنا ويتكلمون بلغتنا، استأجرتهم لتنفيذ مخططاتهم في المسلمين، فاستغلوا بعض القادة العرب ليكونوا عملاء لهم في تنفيذ سياستهم، واستغلوا وسائل الإعلام من إذاعة وتلفزة وصحافة في جميع البلاد، ودسوا فيها البرامج الفاسدة والمنحلة من أفلام خليعة وأغان ماجنة وصور عارية ومعازف ومزامير ملهية وتمثيليات مغرضة وكتابات منحرفة في الصحف والمجلات، تندد بالدين تلميحًا وتصريحًا، وتدعو إلى الكفر والإلحاد والتحلل من الأخلاق الفاضلة. واستغلوا المناهج التعليمية في بعض البلاد العربية، فحولوا كثيرًا منها لخدمة أهدافهم ومبادئهم المنحرفة.
وبهذا تمكنت الصهيونية العالمية والماسونية وشقيقاتهما من المنظمات الكفرية التي تعمل ضد الإسلام، تمكنت من تنفيذ مخططاتها خطوة بخطوة، حتى وصل الأمر بهم إلى التصريح في الإساءة إلى الإسلام بكتابات تتهجم على تشريعاته في النكاح والطلاق والحدود والجهاد، يتهمونه فيه بالقسوة والوحشية، وأنه ظلم المرأة وعطّلها عن العمل، وحرم المجتمع من مشاركتها في التنمية والعمل، بل قالوا: إن الإسلام لا يصلح نظامًا للحكم في هذا الزمان، فيجب أن تستبدل القوانين الوضعية به، فاستجاب لهم من استجاب وبقيت هذه البلاد حرسها الله تحكم بالشريعة الإسلامية. فنسأل الله لها الثبات وأن لا يغير علينا هذه النعمة.
وأما الذين استجابوا فإنهم لا زالوا يقدّمون التنازلات تلو التنازلات، تخلَّوا بسببها عن مسلَّمات الدين وثوابت القيم. حتى جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، فيصل الحال إلى درجة لم يسبق لها مثيل من الوقاحة والاستخفاف بالمسلمين ومعتقداتهم، يتمثل ذلك بالحشد الكبير والمؤتمر الذي سيعقد في قلب العالم الإسلامي، في مصر الإسلام، على أرض عمرو بن العاص رضي الله عنه، يأتي قطعان من الغرب ممن تربّوا على الانسلاخ من كل قيم إنسانية، قد نشؤوا في محاضن الجنس والعربدة، يطلق عليهم خبراء، نعم خبراء ولكن بالفساد والإفساد وإركاس الشعوب في المعاصي والفجور والزنا وعمل قوم لوط، جاؤوا بدعوى مشكِلةِ التزايد السكاني في العالم أمام قلّة الموارد الذي بدوره يؤدي إلى مشكلة الفقر العام حسب مزاعمهم.
جاؤوا خوفًا على المسلمين من الفقر، كأنهم هم الموكّلون بخزائن الله، وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ?لأرْضِ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6]، قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ ?لإِنفَاقِ وَكَانَ ?لإنْسَـ?نُ قَتُورًا [الإسراء:100].
يا ترى ما الحل؟! ما العلاج عند هؤلاء المتآمرين؟! إنه يتلخّص بالدعوة إلى أمرين اثنين هما:
الدعوة إلى الحرية والمساواة بين الرجل والمرأة، والقضاء التام على أيّ فوارق بينهما حتى فيما قررته الشرائع السماوية واقتضته الفطرة وحتمته طبيعة المرأة وتكوينها.
الثاني: الدعوة إلى فتح باب العلاقات الجنسية المحرّمة شرعًا، واتخذت له من الوسائل ما يلي:
1- السماح بحرية الجنس وأنواع الاقتران الأخرى غير الزواج، والدعوة إلى الإجراءات الكفيلة بتسهيل ذلك.
2- التنفير من الزواج المبكر، ومعاقبة من يتزوج قبل السنّ القانونية، وإتاحة بدائل تغني عن الزواج المبكر من قبيل توفير فرص التعليم والعمل.
3- العمل على نشر وسائل منع الحمل، والحد من خصوبة الرجال، وتحديد النسل بدعوى تنظيم الأسرة، والسماح بالإجهاض وتقليل تكاليفه.
4- التركيز على التعليم المختلط.
5- التركيز على تقديم الثقافة الجنسية للجنسين في سن مبكر، واستغلال وسائل الإعلام لذلك.
6- إهمال التعاليم الدينية والقيم الإنسانية والمثل الأخلاقية.
7- سلب ولاية الآباء على الأبناء والبنات وقوامة الأزواج على الزوجات..
إلى غير ذلك مما جاء في برنامج المؤتمر المرفق بمذكرة الأمانة العامة للأمم المتحدة، وتناقلته وسائل الإعلام.
معاشر المصلين، إنني والله لأعلم أن هذا لا يقره أي إنسان، فضلاً أن يكون مسلمًا يدين بدين الفطرة، مهما كان حاله من الاستقامة أو عدمها، ولكن الذي يحز في النفس ويؤلم كل غيور كيف يصل كيد الأعداء إلى هذه الدرجة من الصراحة والوقاحة؟! أين مليار مسلم من ذلك؟!!
إنه ـ والله ـ ذلة وصغار وهوان ما بعده هوان.
إن أعداءنا لم يصلوا إلى هذه الدرجة إلا بسبب غفلتنا عن ديننا وإغراقنا في دنيانا وشهواتنا وملذاتنا. لم يجرؤ أعداؤنا حتى رأوا تبلّد إحساسنا. إلى متى ـ يا عباد الله ـ نغزَى في عقر دارنا؟! لا نستطيع أن نردّ كيد أعدائنا، ولا حتى بالكلام! إننا أصبحنا شذر مذر، أصبحنا كالأيتام على مأدبة اللئام.
يا دعاة الإسلام، يا طلبة العلم، يا أهل الغيرة، إلى متى نترك الميدان ونغفل عن إنقاذ الناس من السقوط في براثن الأعداء والاستجابة إلى مطالبهم؟! لماذا لا نأخذ بحجزنا وحجز إخواننا عن النار؟! أم أننا شغلنا ببعض همنا؛ تجريح علمائنا، والوقيعة بإخواننا، وهجر أحبابنا، والحقد على من خالفنا في الرأي ولو كان للاجتهاد فيه مجال. سلم منا اليهود والنصارى ولم تسلم أعراض إخواننا من ألسنتنا، أتقرب إلى الله ببغض أخي في الله!! ما هذه المفاهيم المنكوسة وما هذه البصائر المطموسة؟!!
إلامَ الخُلف بينكم إلاما وهذه الضجة الكبرى علاما
وفيم يكيد بعضكمُ لبعض وتبدون العداوة والخصاما
فلنعِد النظر ـ يا عباد الله ـ في أنفسنا وفيمن حولنا، علينا أن نعمل للإسلام ونبصر الناس بأمور دينهم، ولننبذ الخلاف جانبًا ونعمل جنبًا إلى جنب لخدمة هذا الدين، ولنرصّ الصف ونوحّد الكلمة ونعرف عدونا الحقيقي لنكون حربًا عليه، بكل ما تملك؛ باللسان، بالقلم واليد، إن استطعنا إلى ذلك سبيلاً، لنهتدِ بهدي أسلافنا ونسر على طريقتهم؛ فإنهم لما صدقوا مع الله نصرهم وأعزهم وأظهرهم على الناس، فإننا إذا سرنا على ذلك لا يضيرنا كيد أعدائنا، وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ ?للَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120].
عباد الله، إننا ونحن نذكّركم بكيد أعدائكم نذكركم بقوله تعالى: يُرِيدُ ?للَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:26، 27].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى، واشكروه على نعمه التي لا تعدّ ولا تحصى، واحذروا أسباب سخطه، فإن أجسامكم على النار لا تقوى.
عباد الله، إنه مما يثلج الصدر ويبعث في القلب الأمل أن يستنكر المسلمون جميعًا هذا المؤتمر.
ومن ذلك ما قام به علماؤنا حفظهم الله، وجعلهم الله ذخرًا للإسلام وأهله، يذبون عنه كيد الكافرين، ويكونون بأمر الله قائمين وبالمعروف آمرين وعن المنكر ناهين، فبينوا وأنكروا، وكان مما قالوا: "إنه لا يجوز شرعًا للمسلمين حضور هذا المؤتمر الذي هذا من مضمونه وثيقة عمله، ويجب عليهم مقاطعته وعدم الاشتراك فيه". وقالوا أيضًا: "يجب على كل من ولاه الله شيئًا من أمور المسلمين أن يتقي الله في نفسه وفي رعيته، وأن يسوسهم بالشرع الإسلامي المطهر، وأن يسدّ عنهم أبواب الشر والفساد والفتنة، وأن لا يكون سببًا لجرّ شيء من ذلك عليهم، وأن يحكم شريعة الله في جميع شؤونه" انتهى من كلام هيئة كبار العلماء حفظهم الله.
هذا، واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي رسول الله ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وضلالة، وكل ضلالة في النار.
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِيّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
(1/3295)
بين شباب اليوم وشباب الأمس
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الأبناء, الفتن
حسين بن غنام الفريدي
حائل
15/1/1415
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية مرحلة الشباب. 2- نماذج مشرقة لهمم الجيل الأول. 3- حال شبابنا اليوم. 4- وصايا عامة في المحافظة على الأهل والأولاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 5- التحذير من الغش في الاختبارات الدراسية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوه في فراغكم، واتقوه في شبابكم وفي جميع أحوالكم، اتقوه فالعاقبة للتقوى، وهي أقوم وأبقى.
لقد صح عن المصطفى قوله : ((لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه ما عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟)) أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح من رواية أبي برزة الأسلمي، وأما رواية ابن مسعود فزاد: ((وعن شبابه فيم أبلاه؟)).
معاشر المصلين، إن الشباب قوة وحيوية، والأمة إنما تحمل على أكتاف الشباب، وما قام هذا الدين ـ بعد توفيق الله وتسديده ـ إلا على سواعد شباب وفتيان، ما عرفوا حياة اللهو واللعب والبطالة، أمثال علي وجعفر وأسامة ومصعب وابن عباس وابن عمر وابن رواحة، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءامَنُواْ بِرَبّهِمْ وَزِدْنَـ?هُمْ هُدًى [الكهف:13].
فتعالوا بنا لنرى حال شباب الأمس، ثم لنعرج على شباب اليوم، فمن شباب الأمس؟ إنهم:
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابدٍ دمعُه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفرًا يشيدون لنا مجدًا أضعناه
هذا عبد الله بن رواحة كان في الثلاثين من عمره، يقبل على المعركة بقلب مؤمن ويقين صادق بموعود الله، يقطع علائقه بالدنيا ليكون من أبناء الآخرة، ويشدّد على نفسه لما حدثته بحديثها فيقول:
أقسمت يا نفس لتنزلنّه طائعة أو لتُكرَهِنَّه
قد أجلب الناس وشدّوا الرّنّه ما لي أراك تكرهين الجنّه
فطالما قد كنت مطمئنّه هل أنت إلا نطفة في شنّه
ثم يقول:
يا نفس إلا تقتَلي تموتي هذا حمام الموت قد صلِيتِ
وما تمنيتِ فقد أعطيتِ إن تفعلي فعلَها هدِيتِ
ويعني بذلك صاحبيه اللذين سبقاه بالشهادة، وهما زيد بن حارثة وجعفر الطيار.
جعفر ذاك الذي أقبل فقطعت يمناه، فأخذ الراية بيسراه فقطعت، فضمها بعضديه حتى تكسرت الرماح في صدره وهو مبتسم، ويقول:
يا حبّذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
علي إن لاقيتُها ضرابها
وذاك أنس بن النضر يخرج مجاهدًا في أحد وهو يقول: (والله، إني لأجد ريح الجنة من دون أحد)، فيضرب بثمانين طعنة، فيموت في سبيل الله، ولم يعرف إلا ببنانه.
مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
وأسامة يقود الجيوش ولم يبلغ السابعة عشر من عمره، ومحمد بن القاسم يفتح بلاد الهند والسند ولم يبلغ العشرين، وبقية بن نافع شاب في الخامسة والعشرين من عمره يفتح إفريقيا، وينتشر فيها الإسلام، ويجوب المغرب حتى وقف على المحيط موحّدًا مصلّيًا، وهو يقول: "والله، لو أعلم أن وراء هذا الماء أرضًا لخضته بفرسي هذا رافعًا لا إله إلا الله". وما علم ـ رحمه الله ـ أن وراء ذلك المحيط دولة أصبحت في عصرنا هذا مصدرًا للفساد والإفساد، ومصدرًا للدعارة والخنا، وحاضنة للعرايا والبغايا، ولم يحمل عقبة راية التوحيد إلى تلك الدولة، بل جاء شبابنا المقدام وحمل راية التوحيد متّجهًا إلى تلك البلاد، ولكن شتان بين الفريقين مشرّق ومغرب، شتان بين العزّة والذلّة، شتان بين الجد واللعب.
ذاك شباب الأمس، وهذا شاب اليوم، وما أدراك ما شباب اليوم.
إن من شباب اليوم من بلغ الثلاثين بل الأربعين وهو لا يعرف هدفه في الحياة، ولا يدري لماذا يعيش، وإذا علم غفل ولها وعمي وتعامى. كل شيء له في حياته ميزان إلا الموت، إلا القبر، إلا الآخرة، إلا الجنة، إلا النار، إذا حدثته بشيء من ذلك لم يأبه لما تقول، ونظر إليك نظرة شفقة، إن حدثته بذلك كأنك تحدثه عن منامات أو تخيلات. أهكذا الإيمان؟! أهذا هو اليقين؟! بأيّ شيء نلقى ربّنا وقد حذّرنا ووعدنا وتوعّدنا وأرسل إلينا من جعلنا على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك.
عباد الله، إن حال الكثير منا وحال من سبقنا يصدق عليه قوله تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا [مريم:59].
الصلاة عمود الدين من ضيعها فهو لما سواها أضيع، (لا حظّ في الإسلام لمن ترك الصلاة)، ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)).
إنّ من شبابنا بل من عقلائنا بل من شيبنا من يتخلف عن الصلاة لا سيما صلاة الفجر، ويعتذر بثقل النوم وصعوبة الاستيقاظ وعدم المعين وأنه لا يملك من أمر نفسه شيئًا، يا ترى ما الذي جعل هؤلاء يستيقظون ليلة الثلاثاء الماضي؟! ما الذي جعلهم يهجرون حلو المنام في ساعة متأخرة من الليل؟! هل كانوا يتهجدون؟! هل كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون، في تلك الساعة التي ينزل بها الجبار إلى سماء الدنيا ليغفر ذنوب العباد وليتوب على من تاب؟!
أيها العقلاء، أنصفونا من أنفسكم، فالعاقل كما يقال خصيم نفسه، هل تلك المباريات أهم من صلاة الفجر؟! هل قال فيها رسول الله : ((من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم)) أخرجه الإمام مسلم؟! هل سيسأل عنها في قبره؟! أم هل سيذكرها عند حشرجة الروح في صدره؟! هل سيذكرها يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه؟! هل سيذكرها يوم يقوم الناس لرب العالمين؟! هل سيذكرها يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها؟! هل سيذكرها يوم ينفخ في الصور؟!
إن من أضاع الصلاة واتخذ المباراة إلهًا له من دون الله حقيق به أن يكون من أولئك الخَلف الذين يَلقَون غيًّا وعذابًا. إنهم قلبوا الموازين، وسمّوا الأشياء بغير اسمها، واستعاظوا بكلّ حسن كلّ قبيح. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ذهب الذين يعاشوا في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
يا أمة محمد، يا أيها الشباب، يا أحفاد خالد والمثنى، يا أحفادَ عدي بن حاتم وزيد الخير، ما هكذا تورد الإبل، وما هكذا تعرف السّبل، وما هكذا تستعزّ الأمم، تفطّنوا لما يحاك لكم، وتنبهوا قبل أن تغرقوا.
أرى بين الرماد وميض جمر وأخشى أن يكون له اشتعالا
من يرفع راية التوحيد إن تخليتم عنها؟! من ينصر هذا الدين إن توليتم؟!
إنكم من خير بلاد الدنيا، بلاد شعّ منها النور، فأنتم للناس قدوة، وإليكم تهفو الأفئدة، هل تظنون أن من ارتمى في أحضان البغايا سيرفع راية التوحيد؟! وإن رفعها وهو على حاله فهل بذلك عزة وقوة؟! إن كلمة التوحيد بريئة منه ومما يعمل، ولكن إلى الله المشتكى.
عباد الله، إن هذا السعار الذي بلي به شبابنا خلف ما يسمّى بكرة القدم أشغلهم عن عبادة ربهم، وأشغلهم عن رسالتهم في الحياة، وأشغلهم عن أمور دنياهم، وإنه ـ والله ـ لمؤذن بهلاك وضياع، هلاك في الآخرة وضياع في الدنيا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَ?تْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ?لَّذِى ءاتَيْنَـ?هُ ءايَـ?تِنَا فَ?نْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ?لشَّيْطَـ?نُ فَكَانَ مِنَ ?لْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـ?هُ بِهَا وَلَـ?كِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ?لأرْضِ وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ?لْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذ?لِكَ مَثَلُ ?لْقَوْمِ ?لَّذِينَ كَذَّبُواْ بِايَـ?تِنَا فَ?قْصُصِ ?لْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175، 176].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وانصحوا لأنفسكم ولأولادكم ولإخوانكم، وأصلحوا ما فسد من أحوالكم، وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، وإياكم والازدواجية التي تجمع بين المتناقضات وتؤلّف بين المتضادات، بل أخلصوا لله جميع أعمالكم، وزنوها بميزان الشرع، وامتثلوا قول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
وإياكم والتقاعس عن نصح الناس وإن لم يسمعوا ممتثلين بذلك قول الله تعالى: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ?للَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى? رَبّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف:164]، فلا يحصل لك العذر إلا ببذل النصيحة.
عباد الله، إنني حين أعبُر بكم حجُب الزمان وأحدّثكم عن جيل مضى لا أعني بذلك التسلية ولا بث اليأس في النفوس الطامحين، فتلك الصور ليست ضروبًا من الأساطير ولا هي من نسج الخيال، بل هي واقع خرجته مدرسة محمد.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
ولا نأتي بها على سبيل الافتخار المجرد، بل لنسير سيرتهم ونقتفي أثرهم.
لسنا وإن أحسابنا كرمت يومًا على الأحساب نتّكل
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فعلوا
أيها الشباب، يا من قاربكم موسم الحصاد، يا من سهرتم الليالي لطلب المعالي، احذروا من التفريط في أمور دينكم ودنياكم، ثم إياكم والكسل بعد الاجتهاد واللعب بعد التعب، واحذروا متابعة هذه المباريات لئلا تشغلكم عن مصالحكم، فلن تجنوا من الشوك عنبًا.
واحذروا الغشّ في الامتحان، ((من غش فليس منا)) ، فهو أسلوب الكسالى والبطالين، وخلق يأنف منه الشّهم الكريم، ويترفع عنه صاحب الهمة العالية والمطالب السامية، ومن لجأ إليه فإن فيه خسّة ودناءة، وهو عرضة للفضيحة والندامة.
هذا، واسألوا الله الثبات على الأمر والعزيمة على الرشد، وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم بذلك اللطيف الخبير...
(1/3296)
تسلية المصاب
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, مكارم الأخلاق
حسين بن غنام الفريدي
حائل
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال الدنيا. 2- حال الناس عند نزول المصائب. 3- واجب الإنسان تجاه المصائب النازلة به. 4- فضل عشر ذي الحجة. 5- مشروعية الأضحية وبعض أحكامها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فالحمد لله ثم الحمد لله ثم الحمد لله، اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، أعطيت فأجزلت، وقضيت فلطفت، لا نرجو سواك، ولا نلجأ إلا إليك. الحمد لله الذي جعل الصبر جوادًا لا يكبو، وصارمًا لا ينبو، وحصنًا حصينًا لا يثلم.
عباد الله، فلتتقوا الله ولتعلموا أن المصائب في هذه الدنيا سهام مشرعة، ورماح للبلاء معدة مرسلة، فهي دار ابتلاء وامتحان ونكد وأحزان، لَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ فِي كَبَدٍ [البلد:4].
جبلت على كدر وأنت تريدها صفوًا من الأقذار والأكدار
عباد الله، ولقد أصاب الناس أمام هذه المصائب الضعف والوهن والجزع والسخط من أقدار الله، فأضحى الصابرون الشاكرون المحتسبون الحامدون هم القلة القليلة، وسنن الله على الجميع ثابتة لم تتغير، وقضاؤه على عباده سائر لم يتبدل.
فيا من تكالبت عليه الأيام وقلب له الدهر ظهر المجن، يا من ادلهمت عليه الخطوب وأغلقت في وجهه المسالك والدروب، فإذا به صابرًا محتسبًا ما اهتز له جنان وما ذرفت منه العينان. يا من فقدت الأبناء والأحباب والآباء والأصحاب، يا أيها المؤمن المهموم، يا أيها المبتلى المغموم، عظّم الله أجرك ورفع درجتك وجبر كسرك.
عباد الله، إن العبد في هذه الحياة لا يخلو من حالين، إما حصول محبوب أو وقوع مكروه. فالمؤمن الصادق يقابل المحبوب بالشكر والمكروه بالصبر.
والمشاهد من الناس ـ وللأسف الشديد ـ خلاف ذلك إلا من رحم ربك؛ جحد وكفران عند حصول المحبوب، وهلع وانزعاج عند حصول المكروب.
ولو تأمل العبد لتيقن أن الذي ابتلاه بمصيبته هو أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لأمَوَالِ وَ?لأنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة:155]. ابتلاه بذلك ليمتحن صبره ورضاه وإيمانه ويقينه.
والصبر ـ يا عباد الله ـ جزاؤه عظيم وثوابه جزيل، وقد ذكره الله في القرآن في نيف وتسعين موضعًا، وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر، وجعلها ثمرة له، وجمع للصابرين أمورا لم يجمعها لغيرهم، فقال: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة:157].
وليس للصبر أجر محدود، قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى ?لصَّـ?بِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، وقال : ((من يرد الله به خيرًا يصب منه)) رواه البخاري. سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن: ما منتهى العبد؟ قال: "أن يكون يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه".
وللصبر آداب منها: سكون الجوارح واللسان، قال بعض الحكماء: "الجزع لا يرد الفائت، ولكنه يسرّ الشامت".
ومن حسن الصبر أن لا يظهر أثر المصيبة على المصاب، قال قيس بن الحجاج في قول الله تعالى: فَ?صْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً [المعارج:5]، قال: "أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يعرف من هو".
وليس من الجزع أن تدمع العين ويحزن القلب، ولكن الجزع هو القول السيئ والظن السيئ، قال الله تعالى عن يعقوب: وَ?بْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ?لْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:84]، قال قتادة: "كظيم على الحزن فلم يقل إلا خيرًا".
وليعلم أن الجزع يشمت بك الأعداء ويسوء الأصدقاء، ويغضب الرحمن ويسرّ الشيطان، ويحبط الأجور ويضعف النفس ويصدع الجنان، ومن صبر واحتسب أخزى شيطانه وأرضى ربه، وسر صديقه وساء عدوه، وعزى إخوانه قبل أن يعزوه، هذا هو الثبات في الأمر.
قال بعض الحكماء: "العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلوَ البهائم".
ولقد عزى الإمام الشافعي رجلاً فقال:
إني معزيك لا أراني على ثقة من الخلود ولكن سنة الدين
فما المغرى بباق بعد ميته ولا المعزي ولو عاشا إلى حين
وليعلم المصاب أنه على الأثر، وإن كان أحد حقيق بالبكاء فهي نفسه التي هي أعز شيء عليه.
لقد أخبرتك الحادثات نزولها ونادتك إلا أن سمعك ذو وقر
تنوح وتبكي للأحبة إن مضوا ونفسك لا تبكي وأنت على الأثر
وروي عن جابر أنه قال: قال رسول الله : ((قال جبريل: يا محمد، عش ما عشت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه)).
عباد الله، إن فقد الأحباب وفراق الخلان لهو أعظم واعظ للقلوب الحية، فإلى متى والقلوب قاسية؟!
إن المصيبة إذا حلت بالعبد فلم توقظ قلبه فإن مصابه في دينه أعظم من مصابه في دنياه، نودّع الآباء ونحن في غينا سادرون؛ كسل ونوم عن الصلاة، وإغراق في المحرمات، وهجر للقرآن، وقطع للأرحام، وسطو على الحرمات. إذا لم نتعظ بموت آبائنا وأحبابنا فمتى نتعظ؟!
إن المطلوب من صاحب المصيبة ليس الصبرُ فحسب، فإنه إن لم يصبر صبرَ الاختيار صبر صبر الاضطرار، وهو ما يحصل له بعد زمن من المصيبة.
ستمضي مع الأيام كل مصيبة وتحدث أحداث تنسي المصائب
إنما المطلوب منه أن يستيقظ من غفلته، ولا يأمن الموت وفجأته، قال أبو حازم: "كل عمل تكره الموت من أجله فاتركه، ثم لا يضرك متى مت". ليكن مثل أولئك السلف، قال بكير بن عامر: "لو قيل لعبد الرحمن بن أبي نعم: قد توجه إليك ملك الموت ما كان عنده زيادة عمل".
هل أمنّا القبر وضغطته، والصراط وزلته، والحساب ودقته؟!
هكذا ينبغي أن توظّف المصائب، وإلا كنت كما قال الشافعي حين عزى أحدهم حين جزع على فقد ابنه جزعًا شديدًا فقال له: "يا أخي، عزِّ نفسك بما تعزي به غيرك، واستقبح من فعلك ما تستقبحه من غيرك، واعلم أن أرزى المصائب فقد سرور وحرمان أجر، فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر؟! فتناول حظك ـ يا أخي ـ إذا قرب قبل أن تطلبه وقد تناءى عنك، ألهمك الله عند المصائب صبرا وأحرز لنا ولك بالصبر أجرًا".
عباد الله، ولا طريق إلى حصول الموعظة إلا بالصبر، وأعظم من الرضا الشكر والحمد.
اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلّد
أوما ترى أن المصائب جمة وترى المنية للعباد بمرصد
من لم يصَب ممن ترى بمصيبة؟! هذا سبيل لست عنه بأوحد
وإذا ذكرت مصيبة تشجو بها فاذكر مصابك بالنبي محمد
ومن صبر وشكر جرى عليه قدر الله وهو مأجور، ومن اعترض وتسخط جر عليه قدر الله وهو مأزور، فلئن كان القدر جاريا عليه لا محالة، فيكون مأجورًا خيرٌ له من أن يكون مأزورًا، ولا مقارنة بين الحالين.
نعوذ بالله من عدم الصبر عند المحنة، ونسأله الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، فإنه ـ والله ـ ليخاف على العبد من سوء الخاتمة إذا تسخط أقدار الله، ونازع القضاء والقدر. نسأل الله لنا ولكم حسن الخاتمة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنكم تستقبلون عشر ذي الحجة، من أعظم الأيام وأجلها، العمل فيها معظم، والأجر فيها مضاعف، أقسم بها المولى لعظمتها فقال: وَ?لْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، وصح عن الرسول قوله: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)) يعني: أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)) أخرجه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
عباد الله، وإن من أفضل الأعمال في هذه العشر أداء الحج والعمرة، وصيام ما تيسر من هذه الأيام، لا سيما يوم عرفة، والتكبير والذكر في هذه الأيام، ومضاعفة الأعمال الصالحة من نوافل العبادات.
وليعلم أنه بدخول هلال ذي الحجة يبدأ التكبير المطلق ويستحب رفع الصوت به للرجال في الأسواق والمساجد والمجتمعات، ومن أراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا ظفره ولا بشره، روى مسلم رحمه الله عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي قال: ((إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره)) ، وفي رواية: ((فلا يأخذ من شعره ولا من ظفره ولا من بشرته شيئًا)) ، وهو خاص بمن أراد أن يضحي ويتولى الأضحية، ولا يشمل الزوجة والأولاد.
فاتقوا الله عباد الله، واستثمروا أوقاتكم بما يعود عليكم بالنفع، وإياكم والمعاصي والتقصير؛ فإنها مهلكة لكم، وتوجهوا بقلوبكم إلى المولى العزيز أن يغفر ذنوبكم ويقبل توبتكم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك...
(1/3297)
صلة الرحم
الأسرة والمجتمع
الأرحام
حسين بن غنام الفريدي
حائل
26/4/1418
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل صلة الرحم. 2- آثار صلة الرحم. 3- طرق الصلة. 4- حال كثير من الناس مع أقاربهم. 5- قطع الرحم من أعظم الذنوب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فقد أمركم بذلك المولى سبحانه القائل وهو أصدق القائلين: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِي خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
أيها المسلمون، لقد أمرنا الله تعالى بصلة الأرحام والإحسان إلى الأقارب؛ توثيقًا للروابط بين أفراد الأسرة لتكون متآلفة متناصرة، قال جل شأنه: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا وَبِذِى ?لْقُرْبَى? [الأنعام:36].
يا عبد الله، إن صلة الرحم من أجل الأعمال الصالحة التي تضمن لك الجنة مع توحيد الله في العبادة. قال رجل: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال النبي : ((تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم)) رواه البخاري ومسلم.
عباد الله، إن صلة الرحم بركة في الأرزاق وتوفيق في الحياة، يكتب الله بها العزة والمنعة، وتتحلى القلوب بها إجلالاً وهيبة، يفوز صاحبها بحسن الثناء، ويقيه الله بفضله وكرمه ميتة السوء، قال : ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)). ومعنى بسط الرزق: سعته وبركته، ومعنى إنساء الأثر أي: تأخير الأجل، وهو كناية عن زيادة العمر وبركته.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (من اتقى ربه ووصل رحمه نُسئ في أجله، وثري مالُه، وأحبه أهله) رواه البخاري في الأدب المفرد. وعن علي رضي الله عنه مرفوعًا: ((من سره أن يُمد له في عمره ويُوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه)) رواه الإمام عبد الله في الزوائد على المسند.
بصلة الرحم تقوى المودة وتزيد المحبة وتتوثق عرى القرابة وتزول العداوة والشحناء ويحِنّ ذو الرحم إلى أهله، إنهم العدة والسند وهم الأهل والقوة.
أخاك أخاك إن من لا أخا له كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح
وإن ابن عم المرء فاعلم جناحه وهل ينهض البازي بغير جناح
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي تطير به، وبهم تصول وبهم تجول، وهم العدّة عند الشدة، أكرم كريمهم، وعُد سقيهم، وأشركهم في أمورك، ويسر على معسرهم، ولا يكن أهلُك أشقى الخلق بك).
ولتعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن صلة الرحم والإحسان إلى الأقربين ذات مجالات واسعة ودروب شتى، فمن بشاشة عند اللقاء ولين في المعاملة، إلى طيب في القول وطلاقة في الوجه، إنها زيارات وصلات وتفقد واستفسارات، مكالمة ومراسلة، إحسان إلى المحتاج وبذل للمعروف، وتبادل في الهدايا، ينضم إلى ذلك غض عن الهفوات وعفو عن الزلات وإقالة للعثرات، عدل وإنصاف واجتهاد في الدعاء بالتوفيق والصلاح.
وأصدق من ذلك وأعظم مداومة الصلة ولو قطعوا، والمبادرة بالمغفرة إذا أخطؤوا، والإحسان إليهم ولو أساؤوا.
إن مقابلة الإحسان بالإحسان مكافأة ومجازاة، ولكن الصلة الواصلة بينة في قول نبينا محمد : ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها)) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة.
إن صلة الرحم حق لكل من يمت إليك بصلة نسب أو قرابة، وكلما كان أقرب كان حقه ألزم وأوجب ((أمك وأباك، ثم أدناك أدناك)). وطريق القيام بحق الأقارب والأرحام فشو المودة واتساع الصدور وسلامة القلوب.
فجدير بك ـ يا أخي ـ أن تسارع لصلة أرحامك، فواس بائِسَهم، وسلم على غائبهم، وشاركهم الأفراح، وأظهر السرور لهم، وشاطرهم الأتراح، وخفف آلام الحزن عنهم، وأسرع لقضاء حوائجهم والاجتماع بهم بين حين وآخر.
وإنه مما يثلج الصدر ـ يا عباد الله ـ ويدعو إلى السرور والغبطة ما يفعله بعض الأسر من الاجتماع فيما بينهم في الشهر مرة أو في السنة مرة أو مرتين، ليسلم بعضهم على بعض، ويتدارسوا أحوالهم وينظروا في أمورهم فيما بينهم، فتزداد بذلك الروابط قوة، ويتعرف الصغير على أقاربه وذوي رحمه، ويزداد الكبير معرفة وعطفًا وفرحًا وألفة.
وإن لي مع هذا الموضوع وقفة ـ بإذن الله ـ للحث عليه وبيان مزيته وتوظيفه في الدعوة إلى الله، وضبطه بضوابط الشرع، وإسداء بعض النصائح التي من شأنها أن تجعله ناجحًا ومستمرًا. سأخصص خطبة تتحدث عن هذا الموضوع إن شاء الله، فأسأل الله العون والتوفيق.
عباد الله، إن على من أنعم الله عليه بالمال أو الجاه حقوقًا وواجبات أكثر من غيره، وليحذر من البخل على أقاربه بماله وجاهه، وليسأل الله أن يقيه شح نفسه، فمن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون، والبخيل من بخل بجاهه.
ما أجمل أن يتصف الرجل بالإحسان إلى أقاربه، يتفقد أحوالهم ويسد غيبة غائبهم، ويقضي حوائجهم مهما كانت أخلاقهم وصفاتهم. حتى ولو وصل الحال أن يزور سجينهم بأي جرم كان، يتحبب له ويتودد إليه ويسأله عن حاجته فيقضيها، وعن أهله وعن أولاده وعن حاجتهم ليكسب بذلك محبته واحترامه، ولتكون هذه الأخلاق سبيلاً للتأثير عليه بسلوك طريق الاستقامة.
إن كثيرًا من الناس يلقون على أنفسهم رداء الوقار الكاذب؛ فيترفعون عن أقاربهم إذا ما وقعوا في مثل هذه المصائب خوفًا على جاههم وسمعتهم، وما ذاك من مكارم الأخلاق.
يقول الشاعر الجاهلي المقنع الكندي:
يعاتبني في الدَّين قومي وإنما ديوني في أشياءَ تُكسبهم حمدًا
أسدّ به ما قد أخلّوا وضيّعوا ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدّا
ولي جفنة لا يغلق الباب دونها مكلّلة لحمًا مدفقة ثردا
وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدًّا
إذا أكلوا لحمي وفَرتُ لحومهم وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجدًا
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم وإن هم هووا عني هويت لهم رشدا
وليسوا إلى نصري سراعًا وإن همُ دعوني إلى نصر أتيتهم شدًّا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
لهم جلّ مالي إن تتابع لي غنى وإن قلّ مالي لم أكلفهم رِفدا
ولئن كانت صلة الرحم تعني الإحسان إلى المحتاج ورفع الظلم عن المظلوم والمساعدة على وصول الحق، فليس من صلة الرحم المناصرة على الباطل والعون على الظلم والبغي والعدوان، فما هذا إلا من الحمية الجاهلية الممقوتة، تفشو بها العداوة وينشر بها الفساد وتتقطع بها الأرحام، ولن يكون البغي والعدوان طريقًا إلى الحق أو سبيلاً إلى العدل والخير.
فاعرفوا الحق وميزوه عن الباطل، ولا تأخذكم العزة بالإثم، استقيموا على أمر ربكم، ((أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله، وإياكم وقطيعة الأرحام، فلا تكونوا من الذين ذمهم لله تعالى في قوله: وّالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ?لأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?للَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ?لدَّارِ [الرعد:25].
عباد الله، إن مع كل ما سمعنا من الآيات والأحاديث التي تحث على صلة الأرحام، فإن في الناس من تموت عواطفه ويزيغ عن الرشد فؤاده؛ فلا يلتفت إلى أهل ولا يسأل عن قريب، بل ربما وصل الحال ببعضهم أن يتنكر لأقاربه، ويتعالى عليهم ويترفع أن ينتسب إليهم، فضلاً عن أن يشملهم بمعروفه ويمد لهم يد إحسانه، بل قد يصل به الحال إلى أشد من ذلك، فيقطع إخوانه وأشقاءه من أجل حطام الدنيا.
أما علم هؤلاء أن قطيعة الرحم شؤم وخراب وسبب للعنة وعمى البصر والبصيرة؟! فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:22، 23]. يقول الحسن البصري رحمه الله: "إذا أظهر الناس العلم وضيعوا العمل وتحابوا بالألسن وتقاطعوا بالأرحام لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم".
إن تقطيع الأرحام من أعظم كبائر الذنوب وعقوبتها معجلة في الدنيا قبل الآخرة. أخرج أبو داود والترمذي وصححه الحاكم عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم))، وروى الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد ـ ورواة أحمد ثقات ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن أعمال بني آدم تعرض كل عشية خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم))، ونقل عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان جالسًا بعد الصبح في حلقة فقال: (أنشد الله قاطع الرحم لما قام عنا، فإنا نريد أن ندعو ربنا، وإن أبواب السماء مرتجة ـ أي: مغلقة ـ دون قاطع الرحم).
عباد الله، إن المسلم المرهف الحسّ المتطلع إلى رضوان الله تعالى لتهزّه هذه النصوص من الأعماق؛ إذا تقرر أن قطيعة الرحم تحجب الرحمة وترد الدعاء وتحبط العمل، وإنه لبلاء كبير يحيق بالمرء أن يدعو فلا يستجاب له ويعمل فلا يرفع له عمل.
معاشر الأحبة، إن أسرع الخير ثوابًا البر وصلة الرحم، وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم، ومع هذا ترى في بعض من قلّ نصيبهم من الخير يسارع في قطع صلاته بأقاربه لأدنى سبب، إما لكلمة سمعها أو شيء صغير رآه، وما درى أنه بهذا قد جر على نفسه وأهله العداوة والجفاء والحقد والبغضاء، فيستحقون بذلك اللعنة وزوال النعمة وسوء العاقبة ، وَ?لَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ?للَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـ?قِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى ?لأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?للَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ?لدَّارِ [الرعد:25].
ولقد أوصى زين العابدين علي بن الحسين ابنه رضي الله عنهم أجمعين فقال: "لا تصاحب قاطع رحم؛ فإني وجدته ملعونًا في كتاب الله في ثلاثة مواضع".
أيها الإخوة في الله، سمعنا عمن يترك صلة أرحامه وزيارتهم بسبب ما عندهم من المنكرات. فيقال له: بل الواجب زيارتهم وصلتهم، ومن الصلة بهم النصح لهم، وله أن يستعمل الهجر معهم أحيانًا كعلاج لهذه الأمراض إن كان نافعًا، أما أن يترك صلتهم وزيارتهم بالكلية، فهذا لا يجوز.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على نبي الرحمة والملحمة...
(1/3298)
محنة الإمام أحمد
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
العلم الشرعي, الفتن, تراجم
حسين بن غنام الفريدي
حائل
11/4/1415
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البلاء سنة من سنن الله في خلقه. 2- ما يورثه الصبر على البلاء. 3- أقوال العلماء في الإمام أحمد. 4- حادثة القول بخلق القرآن. 5- ذكر ما تعرض له الإمام أحمد من البلاء. 6- فضل العلماء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن سنة الله جارية على خلقه في هذه الحياة الدنيا، يجمع للناس بين الخير والشر ابتلاء منه وامتحانًا، وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، فلا يخلو المرء من كوارث تصيبه ونوازل تحل بساحته في نفسه أو ولده وأهله.
ويعظم البلاء ويشتد في حياة الدعاة والمصلحين الذين يدعون إلى الله، ويعملون على تحكيم شريعته، ويجاهدون لإعلاء كلمته، فينقم عليهم أهل الأهواء ويعاديهم أنصار الباطل ويحاربهم المستبدون، وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيد ِ [البروج:8].
ولكن اعلم ـ يا عباد الله ـ أن البلايا والمحن تكشف عما في القلوب وتظهر مكنونات الصدور، ينتفي بها الزيف والرياء، وتنكشف الحقيقة بكل جلاء، تطهير لا يبقى معه زيف ولا دخل، وتصحيح لا يبقى فيه غش ولا خلل. وهو تمحيص وتطهير للمؤمنين، وَلِيُمَحّصَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ ?لْكَـ?فِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ?لصَّـ?بِرِينَ [آل عمران:141، 142]، ويقول تعالى: وَلِيَبْتَلِىَ ?للَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ?لصُّدُورِ [آل عمران:154]، بسم الله الرحمن الرحيم: آلم أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ?لْكَـ?ذِبِينَ [العنكبوت:1-3].
ولقد سئل المصطفى : أيّ الناس أشد بلاء؟ فقال: ((الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة)) رواه الإمام أحمد والترمذي قال: "حسن صحيح".
إن البلاء إذا أصاب المؤمن في ذات الله فصبر واحتسب فله بذلك العزة والكرامة.
إن من يصبر على مثل ذلك عزيز حقًّا، أنها نفوس سمت بعزة الله، وقويت بتأييد الله، فصبرت وصابرت ابتغاء مرضاة الله، تخرج من البلاء كالذهب الخالص بريقًا ولمعانًا، تخلصت من حضوض النفس وشر الهوى وتعلقت بخالقها وبارئها.
عباد الله، إن هذه النعوت ليست محالة، بل هي ـ ولله الحمد ـ كانت ولا زالت واقعًا ملموسًا في تاريخنا الإسلامي، جبال شماء ضربت أروع الأمثلة في الصبر والتضحية لأداء رسالتها واستجابة لربها، ولم يزدها كيد الكائدين وتدبير الخائنين إلا قوة وثباتًا، ولم يثنها عن القول بكلمة الحق لا ضرب السياط ولا إراقة الدماء، إنهم على الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! وليكن للباطل سلطانه، وليكن له هيلمانه، ولتكن معه جموعه وجنوده، إن هذا لا يصدّ المؤمن ولا يغير من الحق شيئًا.
إنها لمسة الإيمان في قلب متّصل ببارئه، فإذا هو قويّ قويم، وإذا بكلّ قوى الأرض ضئيلة أمامه، وكيف يخشى من قلبه متّصل بالله؟! ويأمل في حياة الخلد عند مليك مقتدر، إِنَّمَا ذ?لِكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:175]. لسان حالهم ومقالهم: ماذا يفعل أعدائي بي؟! أنا جنتي في صدري، أين اتجهت فهي معي، أنا سجني خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
إنها ـ والله ـ همم تتقاصر دونها همم الكثير منّا، ويعجز عن بلوغها من عمر قلبه بحبّ الدنيا والركون إليها.
وإليك ـ يا عبد الله ـ نماذج من ذلك ليحيا قلبك ولتتربى نفسك على هذه السمات العظيمة.
هذا إمام أهل السنة والجماعة شهد له الأئمة بالفضل، وأثنى عليه العلماء بالصبر، قال فيه الإمام الشافعي رحمه الله: "رأيت ببغداد شابًا إذا قال: حدثنا، قال الناس كلهم: صدق"، وقال فيه: "خرجت من بغداد فما خلفت رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى منه"، وقال فيه الرملي رحمه الله: "عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه، عرضت له الدنيا فأباها، والبدع فنفاها، قيل له: ما أكثر الداعي لك، قال: أخاف أن يكون هذا استدراجًا بأي شيء هذا".
أظنكم قد عرفتموه، قال فيه ابن معين: "أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل، والله ما نقوى أن نكون مثله، ولا نطيق سلوك طريقه".
إنه الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، إنه من أدخل الكير فخرج ذهبًا أحمر، وإن الصفحات المشرقة في حياة هذا الإمام لا يسمح لنا الوقت بذكرها، خاصة وأننا في زمن العجلة، زمن اقتصر فيه فضلاؤه على الواجبات وفرطوا في المندوبات، استكثروا من ساعات اللهو والعبث، وتقللوا من ساعات الجد والإيمان.
إخوة الإيمان، إن الصفحة المشرقة التي هي موضوعنا من حياة هذا الإمام الجهبذ هي محنته التي تعرض لها، وهي القول بخلق القرآن، التي دعا إليها المأمون وقتل وسفك الدماء لأجلها، ووقف لها الإمام أحمد كالطود الشامخ، قال علي بن المديني: "إن الله أعز هذا الدين بأبي بكر الصديق يوم الردة وبأحمد يوم المحنة".
وكان أحمد عالمًا بما ورد بمثل حاله من الآيات المتلوة والأخبار المأثورة، وبلغه بما أوصي به في المنام واليقظة، فرضي وسلم إيمانًا واحتسابًا، وفاز بخير الدنيا ونعيم الآخرة إن شاء الله، وهيأه الله بما آتاه من ذلك لبلوغ أعلى منازل أهل البلاء في الله من أوليائه.
فعُرض القول بخلق على القرآن على أحمد فامتنع، وحُمل هو ومحمد بن نوح على بعير، وسيرا إلى الخليفة لأمره بذلك وهما مقيّدان، وفي عرض الطريق جاورهما رجل من الأعراب، فسلم على الإمام أحمد وقال له: يا هذا، إنك وافد الناس، فلا تكن شؤمًا عليهم، وإنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحبّ الله فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل، وإنك إن لم تقتل تمت، وإن عشت عشت حميدًا، قال أحمد: وكان كلامه مما قوّى عزمي.
وبلغهم موت المأمون، فتولى بعده المعتصم فاشتدّ الأمر، قال: فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسرى ونالني منهم أذى كثير، وكان في رجليه القيود، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق، فصلى عليه وأودع بعد ذلك السجن نحوًا من ثمانية وعشرين شهرًا، وكان أحمد وهو في السجن هو الذي يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه، ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم بعد أن زيد في قيوده، قال أحمد: فلم أستطع أن أمشي بها، فبرطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاؤوني بدابة فحملت عليها، فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود، وليس معي أحد يمسكني، فسلم الله حتى جئنا دار المعتصم، فأدخلت في بيت وأغلق علي، وليس عندي سراج، فأردت الوضوء، فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء، فتوضأت منه ثم قمت ولا أعرف القبلة، فلما أصبحت إذا أنا على القبلة ولله الحمد، ثم دعيت فأدخِلت على المعتصم، وبعد انتهاء المناظرة التي دارت بينه وبين خصومه بحضرة المعتصم في موضوع خلق القرآن قال: ثم لم يزالوا يقولون له: يا أمير المؤمنين إنه ضال مضلّ كافر، فأمر بي فقمت بين العقابين، وجيء بكرسيّ فأقمت عليه وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأيّ الخشبتين فلم أفهم، فتخلعت يداي، وجيء بالضرابين ومعهم السياط، فجعل أحدهم يضربني سوطين، ويقول له ـ يعني المعتصم ـ: شدّ قطَع الله يدك، ويجيء بالآخر فيضربني سوطين، ثم الآخر كذلك فضربوني أسواطًا، فأغمي علي وذهب عقلي مرارًا، فإذا سكن الضرب يعود علي عقلي، وقام المعتصم إلي يدعوني إلى قولهم فلم أجبه، وجعلوا يقولون: ويحك الخليفة على رأسك فلم أقبل، فأعادوا الضرب ثم عاد إلي فلم أجبه، فأعادوا الضرب، ثم جاء الثالثة فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي، فلم أحس بالضرب، وأرعبه ذلك من أمري وأمر بي فأطلقت من رجلي. ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله، وكان جميع ما ضرب نيفًا وثلاثين سوطًا، وقيل: ثمانين سوطًا، ولكن كان ضربًا مبرحًا شديدًا جدًا.
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
ولما رجع إلى منزله جاء الجراحي فقطع لحمًا ميتًا من جسده، وجعل يداويه، ولما شفاه الله بالعافية بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد، وجعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى: وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ [النور:22]، ويقول: ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك؟! وقد قال تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ?للَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لظَّـ?لِمِينَ [الشورى:40]، وينادي المنادي يوم القيامة: ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، ومن تواضع لله رفعه الله)).
عباد الله، هؤلاء هم نجوم الأمة بعد محمد وأصحابه، إن سيرة واحدة منهم لعبرة وموقف، واحد منهم خير من كثير منّا، ولا أقول لنفسي ولكم إلا ما قاله الشاعر:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
سلام عليك يا إمام، وغفر الله لك وأجزل لك المثوبة وجزاك عن أمة الإسلام خير الجزاء.
أسأل الله العلي العظيم الكريم من فضله أن يعظم أجره ويكثر مثله وينفعنا بعلمه ويحشرنا في زمرته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب:56].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
فإن الله عز وجل وتقدست أسماؤه اختص من خلقه من أحب فهداهم للإيمان، ثم اختص من سائر المؤمنين من أحب فتفضل عليهم فعلمهم الكتاب والحكمة وفقههم في الدين، وعلمهم التأويل وفضلهم على سائر المؤمنين، وذلك في كل زمان وأوان، رفعهم بالعلم وزينهم بالحكمة، بهم يعرف الحلال من الحرام والحق من الباطل، والضار من النافع والحسن من القبيح، فضلهم عظيم، ورثة الأنبياء وقرة عين الأولياء، الحيتان في البحار لهم تستغفر، والملائكة بأجنحتها لهم تخضع، والعلماء في القيامة بعد الأنبياء تشفع.
مجالسهم تفيد الحكمة، وبأعمالهم ينزجر أهل الغفلة، هم أفضل من العُبَّاد وأعلى درجة من الزهاد، حياتهم غنيمة وموتهم مصيبة، يذكرون الغافل ويعلمون الجاهل، لا يتوقع لهم بائقة ولا يخاف منهم غائلة، الطاعة لهم من جميع الخلق واجبة، والمعصية لهم محرمة، من أطاعهم رشد ومن عصاهم غوى.
هم سراج العباد ومنار البلاد، وقوام الأمة وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا.
إن من هذا وصفهم وهذه طباعهم حقيق علينا أن نعرف قدرهم، ونحزن لما يصيبهم من مكروه وبلاء، وندافع عنهم، ونكون لهم يدًا وذخرًا نذب عن أعراضهم، ونحذر من السعاية بهم لأجل أن يعبد الله وحده ويحقق التوحيد الخالص، فلقد جاء في الحديث القدسي: ((من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب)).
اللهم اجعلنا من أنصار دينك يا رب العلمين...
(1/3299)
من أشراط الساعة
الإيمان
أشراط الساعة
حسين بن غنام الفريدي
حائل
28/6/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مهمة الرسل عليهم السلام. 2- فائدة معرفة أشراط الساعة.3- فضل العلماء ومكانتهم. 4- موت العلماء. 5- أضرار المخدرات والمسكرات. 6- أضرار الزنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أوثق العرى كلمة التقوى.
عباد الله، إن الله تعالى أرسل محمدًا بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، فبصر به من العمى وهدى به من الضلالة، حتى تركنا على مثل البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ما ترك خبرًا إلا دل الأمة عليه، ولا شرًا إلا حذرها منه، فهو خاتم الأنبياء، وأمته آخر الأمم، فخصت من بين الأمم بظهور أشراط الساعة وعلاماتها، فأصبحت تتوارد هذه العلامات واحدة تلو الأخرى كما أخبر بها المصطفى.
تذكرة من الله لعباده وعبرة وعظة، لئلا ينسى العبد يوم القيامة، يوم الجزاء والحساب، حتى إذا سبح العبد في مُتَع الحياة الدنيا ونعيمها الزائل جاءته إحدى هذه العلامات لتذكره بذلك اليوم العظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين. أمارات تدل على تحقّق قرب الساعة ووقوعها، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا [المعارج:6، 7].
ومن المعلوم ـ يا عباد الله ـ أن الصادق المصدوق إذا أخبر بشيء من هذه الأشراط سيقع عَلِم الناس علم يقين أن الساعة آتية لا ريب فيها، فينتبهوا من الغفلة ويستيقظوا، ويستعدوا بالعمل والتزوّد من الصالحات قبل فوات الأوان، قبل: أَن تَقُولَ نَفْسٌ ي?حَسْرَتَى? عَلَى? مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ?للَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ?لسَّـ?خِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ?للَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ?لْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الزمر:56-58].
ولقد ظهر ـ يا عباد الله ـ كثير من أشراط الساعة، وتحقق ما أخبر به المصطفى ، فكل يوم يزداد فيه المؤمنون إيمانًا به وتصديقًا له إذ يظهر من دلائل نبوته وآيات صدقه ما يوجب على المسلمين التمسك بهذا الدين الحنيف.
وإن ظهور هذه العلامات دعوة للتأهب لما بعد الموت، فإن الساعة قد قربت، وظهرت أشراطها الصغرى، وإذا ظهرت الكبرى تتابعت تتابع الخرز في النظام إذا انفرط عقده، وإذا طلعت الشمس من مغربها قفل باب التوبة وختم على الأعمال، فلا ينفع بعد ذلك إيمان ولا توبة، يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءايَـ?تِ رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَـ?نِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]، فيومئذ: يَتَذَكَّرُ ?لإِنسَـ?نُ مَا سَعَى? وَبُرّزَتِ ?لْجَحِيمُ لِمَن يَرَى? [الشعراء:91].
عباد الله، وإن مما ذكر النبي من أشراط الساعة ما جاء عنه من قوله: ((إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنا)). لقد تضمن هذا الحديث الشريف أمورًا أربعة من أهم أشراط الساعة وأبرز علاماتها.
إن هذه الأمور مقدمة تمهد لخراب العالم وانصرام الدنيا وفنائها، فلا تقوم الساعة حتى تميد الأرض بالشر وتضطرب بالكفر، فلا يبقى على ظهرها خير أبدًا، وتعم الحياة جاهليةٌ وعناء وشرور عمياء، وكفر بالله وجحودٌ لنعمه وضلال مطبق شامل، قال : ((لا تقوم الساعة وعلى ظهر الأرض من يقول: الله الله)).
وإن العلامات الصغرى قد ظهرت من خلال حياة المسلمين الحاضرة، وما فيها من فواحش ومنكراتٍ وتعدٍ للحياء والتراحم، ومجاهرةٍ بالمعاصي ومنع للزكاة وخيانةٍ للأمانة، وتهافت على الآثام وانتهاك للأعراض، وإن من أبرزها ما أشار إليه الحديث آنف الذكر، فالأولى والثانية: أن يرفع العلم ويثبت الجهل.
إن الله عز وجل لا يقبض العلم من صدور العلماء، وإنما يرفع العلم بموت العلماء، فيموت علمهم معهم. قال : ((إن الله لا ينزع العلم من صدور العلماء انتزاعًا، ولكن ينتزعه بقبض العلماء بعلمهم، فيبقى أناس جهال يستفتون فيفتون فيضلون ويضلون)).
إن العلماء هم نور الحياة ونبراس الهداية، وقبس الحق ووارثو علم الرسالة، خلفاء النبي في أمته، المحيون لما مات من سنته، هم مصابيح الدجى وأعلام الهدى ونجوم السماء، فيهم رجاحة الرأي وصرامة العزم وخلوص السرائر، إذا رأَوا حقًا أعانوا، وإن أبصروا عوَجًا نصحوا، وإن لمحوا تقصيرًا نبّهوا. بعلمهم ـ بإذن الله ـ يكون الناس أنقياء الفكر وأتقياء العمل، يصلحون في معاملات الناس ما كان فاسدًا، ويصلون منها ما كان مقطوعًا، يحتملون المكاره في سبيل ما يقدمون من نصائح، هم أسرع الأمة إلى الائتمار بما يأمرون والمباردة في الكف عما يحذرون، إنهم بحقّ أنوار ساطعة وأنوار لامعة، فإذا ماتوا ولم يكن من يقوم مقامهم ويملأ فراغهم انطفأ ذلك النور وأظلمت الحياة، وتخبط الناس في دياجير الجهل، قال : ((إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء؛ يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن يصل الهداة)).
وإننا ـ يا عباد الله ـ ما ابتلينا ببلاء أشدّ علينا في هذه الأيام من فقد علمائنا، ففي هذا العام الذي لم يذهب نصفه الأول فقدنا الكوكبة الخيرة من علمائنا، ابتداءً بالإمام القدوة عبد العزيز بن باز، وختامًا بمحدث العصر الشيخ الإمام أبي عبد الرحمن محمد بن ناصر الدين الألباني، الذي أمضى ما يزيد على ستين عامًا من عمره في الاشتغال بعلم الحديث النبوي وخدمة السنة المطهرة، دراسة وتدريسًا تأليفًا وتحقيقًا عملاً ودعوة، فرسخ في رياض الفقه قدمه، وسبح في بحار التخريج علمه، فأتى بتحقيقات نفيسة لم تحوها كتب الأكابر، شهد له بذلك أعداؤه قبل محبيه ومخالفوه قبل موافقيه، لا نبالغ إذا قلنا: لا يستغني باحث في علوم الحديث عن الرجوع إلى آرائه في التضعيف والتصحيح، فإنها محض الفصح الفصيح، ومحض عن زبد الحق الصريح، ينقح فيها ما لا يستغنى عن التنقيح، ويرجح ما هو مفتقر إلى الترجيح، ويوضح ما لا بد فيه من التوضيح.
إننا ـ يا عباد الله ـ لنرى بأم أعيننا أكابر العلماء والفضلاء يموتون فلا من يخلفهم في علمهم وفضلهم، فالشيخ الألباني سابع سبعة في هذا العام، منهم العالم النحرير والأديب المؤرخ، والفقيه البارع والمفسر البحر، وحامل لواء الفتيا والدعوة والمحدث والمحقق.
إن هذه المصائب تجلّى وتكمن خطورتها في آثارها على الأمة، وإننا لا نريد أن نغرق في التشاؤم ولا ينبغي أن نتشاءم، ولكننا نقرر واقعًا مشاهدًا ونحث أنفسنا وإخواننا أن نشمر عن ساعد الجد في طلب العلم، والالتفاف حول العلماء، ومعرفة قدرهم وفضلهم والالتزام بالأدب معهم. فرحمهم الله جميعًا وأجزل لهم المثوبة على ما قدموه، ورفعهم عنده درجات في الجنة لقاء ما بذلوه، وأحسن الله عزاءنا فيهم.
اللهم آجرنا في مصائبنا، واخلفنا خيرًا يا رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واحذروا أسباب سخطه وأليم عقابه، واستعدوا ما دمتم في دار المهلة فقد أعذر الله لكم وأنذر، فما لكم عليه من حجة.
عباد الله، وأما العلامة الثالثة والرابعة الواردة في الحديث فهي شرب الخمر وظهور الزنا.
فالخمرة أم الخبائث، والزنا رأس الفواحش، ما ظهر في أمة إلا كان ذلك دليلاً على بلوغها أبعد حدود الاحترام، وترديها في أعمق الكبائر والآثام، جاء في الحديث: ((الخمر أم الفواحش وأكبر الكبائر، من شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وعمته وخالته)).
إن المخدرات والمسكرات داعية إلى الفجور ومفتاح لكل الشرور، تفتك بالشعوب وتجعل حضارتها إلى أنقاض. إن من يتعاطى ذلك منسلخ من آدميته ليصير معدودًا من البهائم بل هو أضل؛ لأنه متقمص لشخصية القتل والإجرام والفحش والتفحش، ظالم لنفسه تمزقت عنده كل بادرة حياء أو غيرة، أرمل زوجته وأيتم أطفاله، ولا يقل عنه من يروج ذلك في الأمة، إنه عدو لدود وخائن وناقض للعهود تجب محاربته، ومن أخفاه وتستر عليه فقد آوى محدثًا فعليه لعنة الله، وما لنا لا نلعن من لعنه رسول الله.
وأما الزنا فهو أقبح القبائح؛ يبدد الأموال وينتهك الأعراض، ويقتل الذرية ويهلك الحرث والنسل، عاره يهدم البيوت ويطأطئ عالي الرؤوس، يسود الوجوه البيضاء، ويخرس ألسنة البلغاء، ويهبط بالعزيز إلى الهاوية، ينزع ثوب الجاه مهما اتسع، ويخفض عالي الذكر مهما علا.
بانتشاره تغلق أبواب الحلال، ويكثر اللقطاء، وتنشأ طبقات بلا هوية، طبقات شاذة حاقدة على المجتمع لا تعرف العطف ولا العلاقات الأسرية، فيعم الفساد ويتعرض المجتمع للسقوط. وقانا الله وإياكم من شروره، ودفع عنا وعنكم أسباب حصوله.
وبعد: يا عباد الله، فإن الساعة آتية لا ريب فيها، وإن الله يبعث من في القبور. فاتقوا الله وأديموا ذكر الله، واستعدوا للقاء الله، وطهروا أنفسكم ومجتمعكم من أرجاس الذنوب وأوضار المعاصي.
وصلوا وسلموا على الهادي البشير والسراج المنير، فقد أمركم بذلك اللطيف الخبير فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِيّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
(1/3300)
بدع الجنائز
التوحيد, فقه, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, الجنائز, الشرك ووسائله
أحمد حسن المعلم
المكلا
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رفع الصوت بالذكر مع الجنازة ومخالفة هدي النبي. 2- النهي عن اتخاذ القبور مساجد. 3- اقتداء القبوريين باليهود والنصارى. 4- نهي العلماء عن اتخاذ الأضرحة في المساجد وغيرها من بدع الجنائز.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون، لقد رسخت ـ وللأسف الشديد ـ المعاصي والبدع والمنكرات في المجتمع الإسلامي حتى أصبح عادة يصعب التخلص منها، بل أصبحت حجة يحتج بها أهل الهوى على من خالفهم.
إن تلك البدع والخرافات والمنكرات تظهر فلا يبادر الناس لإنكارها وبيان مفاسدها والتحذير من شرها، فإذا ألفها الناس وأدمنوا عليها أصبح منكرها هو المخالف المنبوذ، ولهذا جاءت النصوص الصريحة والصحيحة بالأمر ببيان الحق وإنكار المنكر، قال تعا لى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159، 160]، وقال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79]، وقال الرسول : ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).
وقد حصل في هذه البلاد حدثان منكران لم يعد لهما وجود منذ عقود طويلة من السنين، وذلك في جنازة السيد عبد الله الحداد رحمه الله، الأول رفع الصوت بالأذكار عبر مكبرات للصوت، وهذا أمر منكر منهي عنه، والسيد عبد الله نفسه كان ينهى عنه.
واسمع إلى ما قاله الإمام النووي رحمه الله عمدة المذهب الشافعي والذي إلى قوله يرجع المختلفون في المذهب، قال في كتاب الأذكار (ص271): "واعلم أن الصواب المختار ما كان عليه السلف رضي الله عنهم من السكوت في حال السير مع الجنازة، فلا يرفع صوت بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك، والحكمة فيه ظاهرة، وهي أنه أسكن لخاطره وأجمع لفكره فيما يتعلق بالجنازة، وهو المطلوب في هذا الحال، فهذا هو الحق، ولا تغترن بكثرة من يخالفه، فقد قال أبو علي الفضيل بن عياض رضي الله عنه ما معناه: الزم طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين.
وقد روينا في سنن البيهقي ما يقتضي ما قلته. وأما ما يفعله الجهلة من القراء على الجنازة بدمشق وغيرها من القراءة بالتمطيط وإخراج الكلام عن موضوعه فحرام بإجماع العلماء، وقد أوضحت قبحه وغلظ تحريمه وفسق من تمكن من إنكاره فلم ينكره في كتاب آداب القراء والله المستعان".
فعلام يدل ذلك؟! إننا لا نجد له تفسيرًا إلا اتباع الهوى وجر الناس وإرجاعهم إلى ما أحدثه المحدثون وصرفوا به المسلمين عن الصراط المستقيم في عهود الظلمات وتسلّط المتأكلين بالدين على عقول عوام المسلمين.
أما الحدث الآخر وهو الأدهى والأمرّ، وهو دفن السيد المذكور في القبة قبة يعقوب التي كان الواجب هو هدمها وإزالتها وإراحة الناس مما يتسبب فيه وجودها ووجود مثيلاتها من فتن ومصائب وإشراك بالله. كيف لا والرسول يقول: ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك)) ، وقال : ((إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذون القبور مساجد)) رواه أحمد وغيره، وعن عائشة وابن عباس قالا: لما نزل برسول الله طفق يطرح خميصه له على وجهه فإذا اغتنم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يحذّر ما صنعوا. متفق عليه.
هكذا يقول الصحابيان الجليلان: (يحذر ما صنعوا)، أفلا تحذروا ما صنعوا؟! لماذا يصرّ البعض على فعل ما حذر منه رسول الله ؟! هل اليهود والنصارى المحرفون المبدلون الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله أحق بالقدوة من رسول الله ؟! ألا يخاف الذين يقتدون باليهود والنصارى ويخالفون رسول الله أن يحشروا معهم بعيدًا عن رسول الله ؟!
أيها الإخوة المؤمنون، إن بعضًا من الناس يسهل جدًا عليهم أن يخالفوا حديث رسول الله ؛ فلذا تراهم يخالفونه بأنفسهم ولا ينكرون على كثير ممن يخالف سنته في العقائد وفي العبادات وفي الأخلاق والسلوك وفي كثير من أمور الدين، ولكنهم يغضبون ويثورون وينكرون وينددون بمن يخالف مذهب الشافعي رحمه الله، فهل هذا التصرف لوجه الله؟! هل محبةً في الإمام الشافعي وغيرةً على مذهبه أم أنه حاجة في نفس يعقوب؟!
لا أظن إلا أن ذلك شعار وراءه ما وراءه، وأسلوب عاطفي يدغدغون به عواطف الناس؛ لتسخيرهم فيما أرادوا، وإلا فكيف يليق بمن يندّد وينتقد ويثير الزوابع بسبب مخالفة الشافعي رحمه الله في أمور اجتهادية مثل الجهر بالبسملة والقنوت، كيف يليق به أن يخالفه في العقيدة، فالشافعي رحمه الله يقول: "إن الله على عرشه في سمائه" وهم يقولون: هو في كل مكان، والشافعي ينهى عن البناء على القبور وتخصيصها واتخاذ السرج عليها وهم يقيمون ذلك ويدعون إليه ويحاربون من أنكره.
واسمع إلى عمدة أهل حضرموت في الفقه الإمام ابن حجر الهيتمي وهو يقول في كتاب الزواجر: "الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون: اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثانًا والطواف بها واستلامها والصلاة إليها"، وبعد أن ساق الأحاديث الدالة على ذلك قال: "تنبيه: عد هذه السنة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية وكأنه أخذ ذلك مما ذكرته من هذه الأحاديث" إلى آخر ما قال، ثم نقل عن بعض العلماء قوله: "والقول بالكراهية محمول على غير ذلك؛ إذ لا يظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي لعن فاعله، وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور؛ إذ هي أضر من مسجد الضرار؛ لأنها أسست على معصية رسول الله ؛ لأنه نهى عن ذلك وأمر بهدم القبور المشرفة. وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره" انتهى.
وقبل ذلك قال الشافعي رضي الله عنه في الأم: "وقد رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما يبنى فيها، فلم أر الفقهاء يعيبون ذلك"، قلت: صدق رحمه الله وكيف يعيب الفقهاء شيئًا أمر به رسول الله ؟! ففي صحيح مسلم قال علي رضي الله عنه لابن الهياج الأسدي رحمه الله: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ، لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته).
وسبق النقل عن عمدة المذهب الشافعي الإمام النووي فيما يتعلق بالجهر بالذكر أمام الجنازة، وهكذا الجهر بالذكر بعد الصلوات، فمذهب الشافعي الإسرار، قال في المقدمة الحضرمية: "ويندب الذكر عقب الصلاة، ويسر به إلا الإمام المريد تعليم الحاضرين إلى أن يتعلموا" (المنهاج القويم، ص172).
وهكذا وصول القراءة للأموات يخالفون فيه مذهب الشافعي لأجل الختم والتوسع وغير ذلك.
فهل يليق ـ أيها الإخوة ـ بمن يفعل هذا كله من مخالفة الشافعي أن يدعي الغيرة على مذهبه؟! لا أبدًا، أما هذه الأمور فامتداد لمذهب الرافضة الباطنية الذي كان يتمذهب به بعض الناس من الوافدين إلى هذه البلاد في عهود مضت.
أيها الإخوة، ما كان لنا أن نخوض في هذه الأمور لولا أن الأحداث هي التي دفعتنا إلى ذلك، وإننا نخشى عندما نسكت أن يحتج بسكوتنا الجاهلون، فأكثر المناكر والبدع حجة العوام عليها أن أهل العلم سكتوا ولم يبينوها.
نسأل الله حسن القصود وقبول العمل، وأن يغفر لأحيائنا وأمواتنا، وأن يجمع كلمتنا على تقواه، إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن تعظيم الصالحين والغلو فيهم هو سبب الشرك بالله قال تعالى: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]. قال ابن عباس فيما ذكره البخاري في صحيحه: هم أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوصى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت، فهذا تدريج الشيطان وخطواته التي نهانا الله من اتباعها فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور:21].
وما نشاهده اليوم من شرك بالله وعبادة لغيره إنما سببها الغلو في الصالحين وبناء القبب والمشاهد عليها وزخرفتها حتى تبهر عقول المشاهدين لها، وهذا ما قاله الإمام الصنعاني رحمه الله: "أعادوا بها معنى سواع ومثله يغوث وود، بئس ذلك من ودّ.
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها كما هتف المضطر بالصمد الفرد"
وقال الشوكاني رحمه الله: "فلا شك ولا ريب أن السبب الأعظم الذي نشأ منه هذا الاعتقاد في الأموات هو ما زينه الشيطان للناس من رفع القبور ووضع الستور عليها وتجصيصها وتزيينها بأبلغ زينه وتحسينها بأكمل تحسين، فإن الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور قد بنيت عليه قبة فدخلها ونظر على القبور الستور الرائعة والسرج المتلألئة وقد سطعت حوله مجامر الطيب فلا شك ولا ريب أنه يمتلئ قلبه تعظيمًا لذلك القبر، ويضيق ذهنه عن تصور ما لهذا الميت من المنزلة، ويدخله من الروعة والمهابة ما يزرع في قلبه العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكائد الشيطان للمسلمين وأشد وسائله إلى ضلال العباد ما يزلزله عن الإسلام قليلاً قليلاً، حتى يطلب من صاحب ذلك القبر ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه، فيصير من عداد المشركين".
هكذا يقول هؤلاء الأعلام من علماء اليمن، ونقلنا قبل ذلك ما يقوله علماء الشافعية، كل هذا حتى لا يقول المغالطون: إن هذه وهابية واتباع لقرن الشيطان كما يرددون دائمًا.
وإذا كان مجرد البناء على القبور وتفخيمها سبب من أسباب الشرك فكيف إذا انضم إليه الدعايات والحكايات الكاذبة التي تنسب إلى تلك المشاهد وسالكيها من التصرف والقدرة على النفع وإغاثة من يستغيث به؟! فكيف يكون حال الجهلة الواثقين بمروجي تلك الإشاعات؟!
إن هناك عصابة مفسدة في الأرض تفسد العقائد وتهدم التوحيد تنشر للناس ما يقودهم إلى الشرك.
(1/3301)