هذا هو الذكر
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر, فضائل الأعمال
محمد الغزالي
القاهرة
عمرو بن العاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الذكر بين غفلة الماديين وجهل المبتدعين. 2- معنى الذكر وأثره في النفس. 3- أوقات الذكر. 4- ذكر الله يبعد عن الغفلة والذنوب. 5- ذكر الله ودرس الخضوع والذلة لله. 6- الصلاة مظهر من مظاهر ذكر الله. 7- بعض الصيغ المأثورة للذكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فحديثنا اليوم إن شاء الله ـ عن ذكر الله تبارك اسمه، وتعالى جَدّه، ولا إله غيره ـ.
وذكر الله تعالى في هذه الأيام يقع بين طوائف مُتناقضة بينها بُعد ساحق.. هناك الماديون الذين لا يعترفون بوجود الله، ولا يُقرون بشيء له بتة، وإذا حدث أن عزفوا عن الجدل، ورغبوا عن الحوار، فإنهم في سلوكهم لا ترى لله أثراً في أحوالهم، ولا في أعمالهم، لا يعترفون به في كلامهم، ولا يرعوّنه بتة في أمرهم أو نهيهم، في رغبتهم أو رهبتهم..
وهؤلاء الآن يمثلهم في العالم الشيوعيون والماديون ومن إليهم ممن رفضوا الدين، وكرهوا أن ينقادوا له.
وهناك مَنْ يذكرون ربهم وقد عجزوا عن أن يفهموا معنى الذكر.. فهم يظنون الدين لغواً على الألسنة، وربما فهموا الذكر مجالس جذب ووثب وقفز، ثم قلوبهم بعد ذلك بعيدة عن استشعار جلال الله، وإدراك هيبته، وقدره حق قدره.
إن ذكر الله تعالى يجب أن يأخذ صوراً كثيرة لمناسبة الأحوال التي يكون الناس بإزائها، فمثلاً أمام من يرفضون الاعتراف بالخالق، ويكرهون الإيمان به نقول لهم: ?للَّهُ خَـ?لِقُ كُلّ شَىْء وَهُوَ عَلَى? كُلّ شَىْء وَكِيلٌ لَّهُ مَقَالِيدُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَـ?تِ ?للَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الزمر:62، 63].
أما الذين يتخذون مع الله شركاء يكون ذكر الله بتوحيده، وإفراده بالعبودية، والتوجه إليه وحده بالدعاء والرجاء: قُلْ أَفَغَيْرَ ?للَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا ?لْجَـ?هِلُونَ وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ بَلِ ?للَّهَ فَ?عْبُدْ وَكُن مّنَ ?لشَّـ?كِرِينَ [الزمر:64-66].
ولهذا فنحن نشرح الذكر على نحو يتفق مع كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
إن ذكر الله تعالى أشرف ما يخطر بالبال، وأشرف ما يمر بالفم، وأِشرف ما يتألق به العقل الواعي، وأشرف ما يستقر في العقل الباطن.
والذكر له معانٍ نحب أن نضرب لها أمثلة، ونسوق لها نماذج حتى تُعرف:
الناس قد يقلقون للمستقبل، أو قد يشعرون بالعجز أمام ضوائق أحاطت بهم، ونوائب نزلت بساحتهم، وهم أضعف من أن يدفعوها.. إنهم إذا كانوا مؤمنين تذكروا أن الله على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء بصير، وأنه غالب على أمره، وأن شيئاً لن يُفلت من يده.. ولذلك يشعرون بالطمأنينة.. وهذا معنى قول الله عز وجل: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ?للَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ ?لَّذِينَ امَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ طُوبَى? لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ [الرعد:28، 29].
فذكر الله هنا يُشعر الإنسان بالسكينة النفسية.. لأنه يعلم أنه في جوار لا يُضام، وأنه إذا أوى إلى الله فإنما يأوي إلى ركن شديد، ولذلك يشعر بالطمأنينة.. وهذا نوع من الذكر!!.
وعندما ينطلق ناسٌ صوب الدنيا يعبدونها، يتشهون ملذاتها، ويربطون حاضرهم ومستقبلهم بها.. فذكر الله هنا: أن يستعفف الإنسان، وأن يشعر بأن مع اليوم غداً، وأن مع الدنيا آخرة، وأن الإنسان يجب أن يُقسٍّم مشاعره بين حاضره ومستقبله، فيعمل لمعاشه كما يعمل لمعاده.. وهذا معنى قول الله جل شأنه: فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى? عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ ?لْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ?هْتَدَى? [النجم:29، 30].
وذكر الله يُخامر قلب المؤمن عندما يزله الشيطان إلى ذنب يرتكبه في جنب الله.. إنه لا يبقى في وهدته التي انزلق إليها، إنه لا يبقى في سقطته التي جرّه الشيطان عندها، إنه يذكر أن له رباً يغفر الذنب، ويقبل التوب.. ولذلك فهو ينهض من كبوته، ويطهر نفسه، ويعود إلى ربه، ويستأنف الطريق إليه، كما قال الله: وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى? مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون [آل عمران:135].
والفارق بين مؤمن يذنب وفاسق يذنب أن المؤمن سرعان ما يعودُ ومض الإيمان إلى ضميره إذا استطاع الشيطان أن يكسف نوره بشيء من الظلمة، أو بنفث من الدخان.
أما الفاسق فإنه يبقى على ظلمته ما يرى فيها بصيص نور، فيبقى على نجاسته ما يعرف طريق التطهر.. قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ ?تَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ ?لشَّيْطَـ?نِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْو?نُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى ?لْغَىِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ [الأعراف:201، 202].
يجيء ذكر الله مثلاً في موقف المرء من المال.. إن المال صِنو الروح، والإنسان يعشقه ويحب جمعه وإدخاره.. ولكن الله يطلب إلى الإنسان أن ينفقه، وأن يرعى فيه غيره، كما يرعى فيه نفسه.. عندئذ يحاول الشيطان أن يغُل يديه عن النفقة، وأن يملأ فؤاده خشية المستقبل، وأن يغريه بالكزازة والشح.. ولكن ذكر الله يفك قيود البخل، ويغري المرء بالنفقة، كما قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْخَـ?سِرُونَ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـ?كُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ?لصَّـ?لِحِينَ [المنافقون:9، 10].
ويقول: ?لشَّيْطَـ?نُ يَعِدُكُمُ ?لْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِ?لْفَحْشَاء وَ?للَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].
ذكر الله يجيء للأفراد وللأمم، وهي على طريق الكفاح والجهاد.. يجيء للفرد عندما يقال له: ما الذي يعرضك للجهاد؟ تفقد فيه مالك، وقد تفقد فيه روحك، ولو أنك قعدت في أهلك وولدك لكان ذلك أطول لعمرك، وأضمن لنجاتك.. هنا يجيء الذكر مُعلماً للإنسان أن التعرض للحُتوف لا يُقرِّب أجلاً، ولا ينقص عمراً، وأن القعود في البيوت الآمنة أو التحصن في البروج المشيدة لا يدفع موتاً.. ذكر الله يجيء هنا عن طريق تعليم الإنسان الثبات: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَ?ثْبُتُواْ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
وقد يجيء للأمم عندما تكون في طريق الكفاح، وهي تواجه عدواً صُلب العود، قوي العدد، كثير البطش، فتشعر بالخوف.. ولكن إذا سيطر الإيمان فإن المؤمن ينظر إلى تاريخه الذي مضى ثم يعلم أن الله هو الذي يسوق النصر وحده، وأنه ساق النصر للمسلمين في أيام عصيبة بلغ الهرج فيها أن كان المسلمون يختنقون من الضيق والضياع!!.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً [الأحزاب:9].
ذكر الله تعالى يجيء للإنسان في أوقات فراغه.. وما أكثر أوقات الفراغ التي يخلو الإنسان فيها بنفسه.. وقد يسرح فكره على غير طائل، ويضرب في ميادين الوهم على غير هدى... ولكنه إذا أحسن استغلال هذه الفترات فذكر من خلقه؟ من رزقه؟ من علّمه؟ من ربّاه؟ من ستره؟ من أكرمه؟ من كساه؟ من آواه؟ إذ ذكر ربه، وأحسّ نعمته، واعتبر، ورقّ قلبه، ودمعت عينه.. فإنه يغفر له.. فإن من بين من يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله: ((رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) [1].
ومن نماذج ذكر الله أن تكون وحدك، قديراً على ارتكاب أية رذيلة، ولكنك تشعر برقابة الله عليك، ويتحرك قلبك في جنبك ليعصمك من الزلل.. هذا ذكر الله!!.
إن ذكر الله عز وجل معنى كبير.. إنه يجيء ضداً للنسيان.. قال تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ نَسُواْ ?للَّهَ فَأَنسَـ?هُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [الحشر:19].
إنه يجيء ضداً للغفلة.. قال تعالى: ?قْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَـ?بُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ ?سْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء:1، 2]. في محاربة الغفلة.. وما أكثر الغفلات، في محاربة النسيان.. وما أكثر ما يغشى عقل الإنسان من أسباب النسيان.. يجيء ذكر الله شعوراً معنوياً قبل أن يكون حركة شفتين.. يجيء هذا الذكر تحريكاً لأقفال القلب حتى تنفتح، كما قال تعالى: وَ?ذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ?لْجَهْرِ مِنَ ?لْقَوْلِ بِ?لْغُدُوّ وَ?لاْصَالِ وَلاَ تَكُنْ مّنَ ?لْغَـ?فِلِينَ [الأعراف:205].
تضرعاً وخيفة.. تذللاً وخوفاً من الله.. هذا هو الذكر الذي حوّله المسلمون إلى مجالس عبث، وإلى صيحاتٍ منكرة وإلى نوع من المجون والعبث، يساق فيه قول الله عز وجل: وَذَرِ الَّذِينَ ?تَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا [الأنعام:70].
ونحن مكلفون أن نذكر الله كثيراً.. لماذا؟ لأن الإنسان في هذه الدنيا تشغله مطالب نفسه، ومطالب أهله وولده، تشغله مظاهر الحس والحركة حوله، تستحوذ على انتباهه مظاهر الدنيا في فجاجها التي لا نهاية لها.. فلا بد أن يُقاوم هذا كله.. وهذه المقاومة إنما تكون بالذكر.. والذكر هُنا: يعني محاربة النسيان.. يعني محاربة الغفلة..
خذ مثلاً: الواحد منا قد يغتر، قد ينتفخ، قد يشعر بشيء من القوة.. فإذا ذكر الله بالكلمات المأثورة كان هذا الذكر دواء له.. وما الكلمات المأثورة هنا؟ ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) [2].
أي ليس لك حولٌ من ذاتك.. أنت صفر!!
بقواك الخاصة.. أنت تافه!!
ولكن مع عون الله عز وجل.. أنت شيء كثير!!
وهذا معنى قول: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)).
وهذا معنى كلمة ابن عطاء الله في حكمه: "ما تيسر طلب أنت طالبه بنفسك، وما تعسر طلب أنت طالبه بربك"!!.
هذا ذكر.. وإنما خذل ناس كثير من العرب والمسلمين لأنهم مع تفاهتهم ظنوا أنفسهم شيئاً!! بينما كان العمالقة قبلهم مع قوتهم يرون أنفسهم صفرا!! فكانت النتيجة أن وضع الله يده بالبركة واليُمن على من لاذوا به فنجحوا وانتصروا!! وسحب رضوانه وتأييده وكنفه عمَّن اعتز بنفسه فتركه مكشوف السوأة عُريان العورة!!.
إن الذكر معنى كبير... وليس له هذا المفهوم الضيق الذي يشيع بين الناس... لذكر الله معان شتى، ووسائل شتى، وكما يحتاج الجسم الإنساني إلى وجبات يتغذى بها صباحاً وظهراً ومساء حتى يحتفظ بالحرارة، ويتمكن من العمل والإنتاج.. فكذلك قلب الإنسان وهو مستودع إيمانه يحتاج إلى وجبات روحية من ذكر منتظم يعرف بها المرء به، ويؤدي حقه، ويزوَّد بها القلب الإنساني بالطاقة الروحية التي تجعله يتحرك على هدى، ولا يعمى في ضوضاء الحياة ولُججها الطويلة العريضة. ولا شك أن أول هذه الوجبات هي الصلاة.. فإن الله عز وجل إنما شرع الصلوات ليذكره الناس. قال تعالى: وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِذِكْرِى [طه:14].
والناس عندما يقرؤون أم الكتاب فإنما يُناجون ربهم، يشكرون نعمته، ويحمدونه على أفضاله، ويعاهدونه أن يبقوا عبيداً له مستعينين به، ثم يستلهمون منه أن يهديهم، ويحنون أصلابهم ركعاً وسجوداً ليذكروا الله باسمه العظيم والأعلى حتى يتعلموا في زحام الحياة أن العظيم هو الله، وأن الأعلى هو الله، وأن الخلائق صغرت أو كبرت ليست شيئاً !! فالله هو العظيم، والله هو الأعلى، ثم يجلسون ليحيوا ربهم: التحيات لله!!.
هذه هي الصلوات.. وأثرها ليس تربية فردية فقط.. ولكن الصلاة عصمة اجتماعية.. فهي للشعوب ضمان أن لا تفتك بها الشهوات، وأن لا تستشرى بها العلل.. ولذلك فإن الأجيال المنحطة هي التي تنصرف عن الصلاة.. لأن الشيطان يومئذ يستهلك أوقاتها في الضياع والشتات... قال تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً [مريم:59].
وعندما أبصر في شوارع القاهرة غلماناً نمت أجسادهم، وشمرت أفئدتهم وقلوبهم وعقولهم يلهثون وراء الوهم وينطلقون لا يحدوهم هدف رفيع، ولا غرض شريف. أنظر إليهم فأقول: ما ربَّتهم الصلوات، ما تعلموا أن يصفّوا أقدامهم بين يدي الله، إنهم بهذا المظهر والمخبر ما يصلحون لشيء، حسبنا الله على من رباكم بهذه المثابة من الحكام الشيوعيين، ومن الآباء المفرطين الكسالى المضيعين!!.
إن الصلوات ما أضاعها وما صرف الناس عنها إلا من يريدون لأمتنا أن تكون علفاً لمدافع بني إسرائيل!! ولو أنهم علّموا الأمم كيف تصطف في الصلاة، وتُناجي ربها، ما استطاعت أمة أن تفر في ميدان، ولا أن تخذل راية الإسلام في معركة!! وكذلك القرآن إنه طريق للذكر.. وهل نزل إلا للذكر!! إن الله تعالى يقول: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ?لْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر:17].
ويقول سبحانه: كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [ص:29].
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ أَمْ عَلَى? قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
يبدو أن على القلوب أقفالاً كثيرة !! فإن أعداء العرب، أعداء المسلمين، يذيعون القرآن من محطات الإذاعة.. لأنهم واثقون من أن المسلمين لا يفهمون، ولا يتدبرون، ولا ينفذون أمراً ولا يقيمون حداً.. وهم واثقون من أن القرآن يُذاع لتضطرب به أمواج الهواء وكفى!!.
لذلك تُذيع (تل أبيب) القرآن، وتذيع (لندن) القرآن!! وهي تدري أن المسلمين يهزون رؤوسهم، أو يتمتمون بألسنتهم، ثم ينتهي الأمر عند هذا الحد!! وما نزل القرآن لهذا.. إن القرآن نزل فأحيا أمة ميتة، وخلق من العرب ـ وكانوا شعباً لا قيمة له في دنيا الناس ـ خلق منهم شعباً ورَّث العالمين أضخم حضارة عرفتها الدنيا، وجُهدنا الآن أن نصل الناس بالقرآن.. لا بالسماع الميت، ولا بالخشوع المصطنع.. ولكن بالعمل.. بإحياء أحكامه، بالاستجابة إلى ما أودع الله فيه من ينابيع دفاقة بالخير والحق: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24].
لذكر الله تعالى بغير شك معانٍ كثيرةٍ.. وقد رأيت أن أشرح هذه المعاني.. ولكن لا يمنع هذا من أن إسلامنا العظيم زوّد الأتباع بصيغ للذكر، هي صيغ، قال العلماء: يُستحب أن تردد، لكن ما يُستحب ترداده من صيغ شيء غير ما وجب استشعاره من ذكر الله.
إننا نختم الصلاة بالتكبير والتسبيح والتحميد.. ترديد الكلمات مستحب.. لكن الشعور بأن الله الأكبر، وأن الحمد لله، وأنه مُنزه عن الضد، والند، والكفؤ، والزوجة والصاحبة.. تنزيهه عن هذا كله ركن.. وإذا أضعنا الركن ورددنا صيغاً لا نفهمها فلا قيمة لهذا الترديد.. نريد إحياء الفريضة أولاً.. أما الصيغ فكثيرة.
وللعلماء كلام أثبتوا فيه من معاني الذكر، ومن صوره، ومن صيغه ما يهز القلوب، ويشرح الصدور، ويفعِم النفوس نوراً وتُقى.. ومعروف في تاريخ النبي عليه الصلاة والسلام، ويعرف هذا الأصدقاء والأعداء، إن أحداً من الأولين والآخرين لم يتقن فنَّ ذكر الله كما أتقنه محمد عليه الصلاة والسلام.. لقد كان ذكر الله تعالى في قلبه وعلى لسانه يأخذ صوراً بلغت ـ لا أقصد الإعجاز البياني في شرف صياغتها، ونقاء أسلوبها، وجمال جُملها ـ ولكن ما تضمنته من حب لله، وحرارة في مناجاته، وإقبال عليه، ودوام على صحبته.
إن الصيغ التي وردت في هذا كثيرة إلى حد يحتاج إلى عرض خاص.. منها أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أوى إلى فراشه قال: ((اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت)) [3].
وكان إذا استيقظ من نومه قال: ((الحمد لله الذي عافاني في جسدي، ورد علي روحي، وأذِن لي بذكره)) [4].
وكان إذا لبس ثوباً جديداً قال: ((الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة)) [5].
وكان إذا انتهى من طعامه قال: ((الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين)) [6].
وكان إذا خرج من الخلاء قال: ((غفرانك)) [7] ويقول: ((الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني)) [8].
وكان إذا بدأ سفراً قال: ((اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا بُنصحك، واقلبنا بذمتك، اللهم ازوِ لنا الأرض، وهوّن علينا السفر، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب)) [9].
وكان إذا عاد من سفر أو غزوٍ قال: ((آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون)) [10].
وكان إذا رأى الهلال قال: ((اللهم أهله علينا باليمن والإيمان، والسلام والإسلام، ربي وربك الله)) [11].
وكان فنُّ الدعاء على لسانه غريباً.. كان يقول: ((اللهم اجعلني لك شكّاراً، لك ذكّاراً، لك رهَّاباً، لك مطيعاً، إليك مُخبتاً، إليك أوّاها منيبا)) [12].
وأدعيته وأذكاره في هذا كثيرة.. نفعنا الله بصاحب الرسالة وبما نزل عليه من كتاب جليل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] رواه البخاري في الأذان: باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة (1/168)، ومسلم في الزكاة (3/93)، وأحمد (2/439)، والترمذي (7/67-69).
[2] روى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ((ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قلت: بلى، قال : ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) (2/520).
[3] رواه البخاري في كتاب الدعوات باب ما يقول إذا نام (8/85)، ومسلم في ا لذكر – باب ما يقول عند النوم (8/77).
[4] رواه الترمذي في الدعوات باب ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه حديث (3461)، تحفة الأحوذي (9/345-347).
[5] رواه أبو داود في كتاب اللباس حديث (4004)، عون المعبود (11/64، 65).
[6] حديث ضعيف، رواه الترمذي في الدعوات باب ما يقول إذا فرغ من الطعام، حديث (3522)، تحفة الأحوذي (9/425).
[7] رواه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب ما يقول إذا خرج من الخلاء حديث (300، 301)، (1/110).
[8] التخريج السابق.
[9] رواه الترمذي في الدعاء باب ما يقول إذا خرج مسافراً حديث (3500)، وقال : هذا حديث حسن غريب. تحفة الأحوذي (9/398).
[10] عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات – باب الدعاء إذا أراد سفراً أو رجع ومسلم في كتاب الحج – باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره. وفي رواية أخرى عن البراء بن عازب أن النبي كان إذا قدم من سفر قال : ((آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون)) أخرجه الترمذي في الدعوات – باب ما يقول إذا رجع من سفره. وقال : هذا حديث حسن صحيح. تحفة الأحوذي (9/401).
[11] رواه الترمذي في الدعوات باب ما يقول عند رؤية الهلال، حديث (3515)، وقال هذا حديث حسن غريب. تحفة الأحوذي (9/413).
[12] رواه ابن ماجه في كتاب الدعاء – باب دعا رسول الله حديث (3830)، (2/1259).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله: وَهُوَ ?لَّذِى يَقْبَلُ ?لتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ ?لسَّيّئَـ?تِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَيَسْتَجِيبُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَيَزِيدُهُم مِن فَضْلِهِ وَ?لْكَـ?فِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [الشورى:25، 26].
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين.
وأشهد أن محمداً رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، واعلموا أيها الإخوة أننا مكلفون أن نذكر ربنا كثيراً في هذه الأيام.. أقصد بذلك: الذكر بالمعنى الذي شرحته.. ذلك أن (مصر) كان يجرها إلى الكفر بالله وترك دينه ناس كثيرون ميدان الحُكم وفي ميدان القلم.. كانت مراكز القوة تقود بلدنا إلى الشيوعية بيقين.. وقد جرّتنا مراحل طويلة في هذا الطريق.. ونحن لا نريد أن نكفر بالله، ولا نريد أن ننسى وجوده، ولا أن نجحد حقه في سيرتنا، وفي سلوكنا، وفي أعمالنا.. وهناك طلاب كثيرون الآن حريصون على أن تبقى (مصر) مؤمنة، وعلى أن يختفي كل أثر للمدِّ الشيوعي في بلادنا.. ونحن بقلوبنا ودعواتنا نريد فعلاً أن يختفي من نفوسنا ومن صفوفنا كل تهوين للعلاقة بالله، وكل إساءة إلى دين الله، وكل تفريط في جنب الله.. نريد أن تعود مرة أخرى إلى النفوس خشيتها من الله، وانتظامها في صفوف الصلاة، وإعزازها للمساجد، وتعلق القلوب بعبادة الله في ساحاتها.. نريد أن نعرف أن الإنسان لا كما يقول بعض الكتاب اليوم حيوان تاريخي!! لا.. الإنسان عبْدٌ لله في هذه الدنيا، خُلق ليؤدي حق الله، وليقوم ـ إن كان مسلماً ـ بأكمل رسالة نضَّرت وجه الإنسانية وأعلت قدرها.. وهي رسالة الإسلام.
إن الفكر المادي الوضيع يفرض نفسه عن طريق لغطٍ لا آخر له، وبغام دواب ملكت ناصية الكتابة والتوجيه.
ونريد أن يعلم الناس أن هؤلاء ومن ساندهم من أسباب السُلطة قديماً جرُّروا بلدنا في ميدان المادية، وفي منحدرات الشيوعية، حتى كانت النتيجة أن هان رُبنا علينا، هان القرآن علينا، هان دُيننا علينا، هُنَّا على أنفسنا، فسقطنا من عين الله، ومن أعين الناس في الميدان العالمي!!.
إننا لكي نسترجع ما فقدنا، ولكي نسترد خسائرنا يجب أن نذكر الله.. ومعنى الذكر هنا أن نُنعش تعاليم الإسلام بردِّ الحياة إليها بعد أن كادت تموت، وأن نعيد للإيمان نضارته وقوته بعد أن كاد يذبُل ويذوي ويضعف ويتلاشى.
إذا كنا قد جُررنا في طريق المادية والشيوعية، ومشينا طوعاً أو كرهاً خُطوات في هذا الطريق فينبغي أن نعود أدراجنا إلى كتاب ربنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام.. الموت أفضل من أن نعيش وقد انقطعت صلتنا بمحمد وكتابه.. الموت أفضل من هذا الضياع والشتات.
((اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دُنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر)).
رَبَّنَا ?غْفِرْ لَنَا وَلإِخْو?نِنَا ?لَّذِينَ سَبَقُونَا بِ?لإَيمَـ?نِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10].
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، وأقم الصلاة.
(1/3132)
نظرة الإسلام إلى المال
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الزكاة والصدقة, محاسن الشريعة
محمد الغزالي
القاهرة
عمرو بن العاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المال سلاح ذو حدين. 2- نظرة الإسلام إلى المال. 3- حق التملك وحرمة المال. 4- ضوابط في الملكية الخاصة. 5- فرائض الله في المال ومسنوناته وآدابه. 6- سبق الإسلام الاشتراكية إلى تقرير الحقوق والتكافل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن المال لا يطلب لذاته في هذه الدنيا، وإنما يطلب عادة لما يضمنه من مصالح، ولما يحققه من منافع، إنه وسيلة، والوسيلة تحمد أو تعاب، بمقدار ما يترتب عليها من نتائج حسنة أو سيئة.
المال كالسلاح، والسلاح في يد المجرم يقتل به الآخرين, ولكنه في يد الجندي قد يدفع به عن وطنه أو يحرس به الأمن في بلده، فليس السلاح محموداً أو معيباً لذاته، والمال كذلك، وقد قال الله تعالى في المال وما يسوق لأصحابه في الدنيا والآخرة من خير أو شر، قال: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى? وَ?تَّقَى? وَصَدَّقَ بِ?لْحُسْنَى? فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى? وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَ?سْتَغْنَى? وَكَذَّبَ بِ?لْحُسْنَى? فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى? وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى? [الليل:5-11].
والمال كما يكون زينة الحياة ييسر مباهجها، ويقرب شهواتها، فقد يكون كذلك سياج الدين وضمان بقائه، ومدد تسليحه وحماتيه، وقد قال الله في وصف المال والبنين: ?لْمَالُ وَ?لْبَنُونَ زِينَةُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا [الكهف:46]، وقال كذلك في قيمة المال والبنين لإحراز النصر، ورفع الشأن، قال: ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ?لْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَـ?كُم بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَـ?كُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء:6].
فتنتصر الأمم بالمال والبنين، وتنهزم كذلك بالمال والبنين يوم يكون مالها أداة ترف، ويوم يكون مصدر استعلاء وطغيان، ويوم يكون أبناؤها طلاب ملذة، وأحلاس لهو ولعب.
وللإسلام موقف من المال نحب أن نشرحه، فإن بعض المثقفين الجدد يظنون أن الدين تحدث في العقائد أو في العبادات، وأن حدوده شرقاً وغرباً تنتهي بالعقائد والعبادات، أما حديثه عن المال والاقتصاد فإن هذا الحديث مستغرب منه ومستكثر عليه، وما درى أولئك المثقفون الجدد من ضحايا الغزو الثقافي الاستعماري العالمي، ما درى هؤلاء أنهم ينتمون إلى دين ما ترك خيراً إلا أمر به ولا شراً إلا نهى عنه، ولا مصلحة تقرب العباد إلى الله إلا أكدها، ولا مضرة تصرف الناس عن ربهم إلا أبعدها وندد بها وبإرتكابها.
والإسلام ينظر إلى المال من نواح عديدة، والناحية التي نتحدث عنها اليوم نريد أن نتدبرها بأناة لأنها تفرق بينه وبين بعض المذاهب الاقتصادية السائدة في الدنيا.
الإسلام يضمن أو يبيح ويقر حرية التملك، ويعتبر حق التملك حقاً له قداسته ومكانته، ويعتبر أن الجور على هذا الحق أو توهينه في المجتمع ليس من شأن المسلمين، ولا هو من مسالك الأتقياء، لكل إنسان الحق المطلق في أن يكتسب بكد يمينه، وعرق جبينه ما يقيم به معايشه، وما يصون به مروءته، وما يربي به ولده، وما يحفظ به عرضه، لكل إنسان الحق كاملاً في هذا.
والله عز وجل يأبى أي عدوان على حق التملك أو اجتياح لحقوق الناس المالية دون سبب مشروع، فيقول جل شأنه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُمْ بِ?لْبَـ?طِلِ [النساء:29]، ويقول جل شأنه: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُم بِ?لْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ?لْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ ?لنَّاسِ بِ?لإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188].
ويقول جل شأنه: وَلاَ تُؤْتُواْ ?لسُّفَهَاء أَمْو?لَكُمُ ?لَّتِى جَعَلَ ?للَّهُ لَكُمْ قِيَـ?ماً [النساء:5]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) [1].
وكما أن العدوان على الدم والعرض منكر لا يقبل، فكذلك العدوان على المال، وفي خطبة الوداع بين النبي عليه الصلاة والسلام ما ينبغي لحقوق الناس المالية من قداسة فقال بعد أن تساءل: أي شهر هذا؟ أي بلد هذا؟ قال: ((فإن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا)) [2].
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقف على ممر الناس إلى طريق الجهاد ويقول: ((أيها الناس من كان يعلم أنه إذا مات في هذا الوجه وعليه دَين لا يدع له قضاء فليرجع فإنه لن يصيب أجراً بجهاده)).
أي أنه يقول للمدين: قبل أن تجاهد سدد الدين الذي عليك، ربما خرجتَ فمتَّ، دون أن تدع تركة تكفي سداد دينك، فتلقى الله وأنت مدين، وهكذا كان المسلمون يحترمون حق التملك.
لكن الإسلام الذي احترم حق التملك أثقله بالقيود، وقبل أن نقول ما هي القيود التي أثقل الإسلام بها حق التملك، أريد أن أشرح شرحاً عقلياً السبب في أن الإسلام احترم الملكية الخاصة، ورفض ما تبنته بعض النظريات القديمة والحديثة من شيوع المال ورفض الملكية الخاصة لأنه يحترم حرية الإنسان، ولما كان حق التملك جزءاً من الحرية الإنسانية فإن الإسلام لم يصادره، والله سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان ليكون عبد أحد، وإنما خلقه ليكون عبد ربه وحده جل شأنه، ومن حق الإنسان أن يكون حُراً، ومن تمام حريته أن يمتلك، هذا سبب.
وسبب آخر أن تشمير الأموال وزيادة الإنتاج إنما يكونان بالملكية الخاصة، فإن صاحب المال الذي يعلم أن يده عليه وحقه فيه يسهر على حمايته، ويفتنُّ في إبعاد الآفات عنه، ولكنه يوم يعلم أن هذا المال ليس له، وأن زيادته لن تعود عليه فإنه لا يبالي زاد أم نقص، وإن بالى فإن دوافعه إلى حفظه ستكون أضعف من دوافعه النفسية يوم يكون المال ملكاً له.
وقد ثبت عن طريق التجربة أن المال الخاص أنمى وأقدر على المضي في سلم الترقي والزيادة من أي مال عام!! هذه هي الأسباب، وهناك أسباب أخرى جعلت الإسلام يحترم الملكية الخاصة.
ومع احترام الإسلام للملكية الخاصة فإنه أثقل هذه الملكية بالقيود ولعل أول هذه القيود وأجدرها بأن ينبه إليه أن الإسلام لا يحترم الملك الخاص إلا إذا كان من وجه صحيح ومن طريق مباح.
أما أن يكون التملك من ربا، أو من احتكار، أو من غصب، أو من قمار، أو من احتيال، أو من أي باب من أبواب السُّحت فإن الإسلام يرفض هذا التملك رفضاً باتاً، بل يرى أن المرء إذا كسب ثوباً من حرام فصلى فيه لم تقبل صلاته، وإذا نمى جسمه من سحت فإلى جهنم: ((لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به)) [3].هكذا قال رسول الله.
وفي الأرض الزراعية بالذات يقول: ((من ظلم قيد شبر من الأرض طُوِّقه من سبع أرضين)) [4].
أول ما يقيد الإسلام الملكية به أن يقول لك: أبصر جيداً القرش الذي تكسبه أمن حرام هو أم من حلال؟ فإن كان من حرام فلا حق لك فيه، وما يجوز أن تستبقيه، بل يجب أن تتركه فوراً، فإذا كسبت من حلال، فللإسلام هنا توجيهات:
التوجيه الأول: أن لا تظن نفسك المالك الأصيل لهذا المال، بل تشعر أن المالك الأصيل له هو ربك الذي خوّلك وملكك ومنحك وأعطاك!! وأنت لست إلا صاحب يد عارضة عليه، ومن فضل الله عليك أن جعل يدك في هذا المال تعطي نفسك، وتعطي غيرك، والمالك الأول هو رب العالمين.
وهذا المعنى هو الذي أكده القرآن في قوله جل شأنه: وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7].
سئل أعرابي كان في قطيع غنم يملكها... سئل: لمن هذا القطيع؟ كان جواب الرجل: هو لله عندي!! وهذا جواب سديد، فلا تظن نفسك بالتملك قد أصبحت مالك الملك لِلَّهِ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ [الشورى:49].
فاعتبر نفسك مستخلفاً، وهذه النظرية ـ نظرية الاستخلاف ـ تجعلك تدقق فيما تنفقه على نفسك أو على غيرك، أي ليست حريتك مطلقة، فأنت مراقب في تصرفك، مراقب من صاحب المال الذي وظفك فيه، المال مال الله، هذه ملاحظة.
الملاحظة الثانية: أن الإسلام يطلب من أبنائه أن يكونوا أصحاب همم، فكسب المال عندهم يخضع لتصرف الهمة الكبيرة، قد يكون المال قريباً منك، ولكن لا ينبغي أن تأخذه من أيسر سبيل وتقعد.
عندما عرض على عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن يتملك وأن يعيش على فضل أخيه، كان جواب عبد الرحمن: لا، دلوني على السوق.
وبهذا الخلق استطاع المهاجرون أن يزاحموا الاقتصاد اليهودي في المدينة المنورة، وأن يجعلوا المال إسلامياً، وهذا شيء له خطورته في كسب النصر للدين نفسه، فإن الاقتصاد يوم تعبث به أيدي من لا ملة لهم ولا شرف فإنهم يسخرونه في ضرب الملة السمحة.
ومن هنا اعتبر أن يد المعطي هي اليد العليا، الله هو الأعلى، ويد المعطي يد عليا، والآخذ يده دنيا، ولأن تكون أسداً تأكل الثعالب من فضلاته أشرف من أن تكون ثعلباً تأكل من فضلات الناس.
ولذلك كان الإسلام شديد الحض على أن ينطلق المؤمنون في المشارق والمغارب يكسبون رزقهم، ويطلبون فضل الله في فجاجه المبعثرة هنا وهناك، أو المخبوءة تحت طباق الثرى، وهذا سر قوله جل شأنه: وَلَقَدْ مَكَّنَّـ?كُمْ فِى ?لأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـ?يِشَ [الأعراف:10]، وقوله جل شأنه: هُوَ ?لَّذِى أَنْزَلَ مِنَ ?لسَّمَاء مَآء لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ?لزَّرْعَ وَ?لزَّيْتُونَ وَ?لنَّخِيلَ وَ?لاعْنَـ?بَ وَمِن كُلّ ?لثَّمَر?تِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ?لَّيْلَ وَ?لْنَّهَارَ وَ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ وَ?لْنُّجُومُ مُسَخَّر?تٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى ?لأرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ وَهُوَ ?لَّذِى سَخَّرَ ?لْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ?لْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:10-14].
والمدهش أن البحر المسخر للناس يستخرجون منه اللحم الطري أعجز أهل الأرض في استخراج سمكه هم المسلمون.
إن أمتنا في الحقيقة معطوبة في صميمها لأنها فقدت الكثير من حسها الدقيق بالدين والدنيا معاً.
احترام الإسلام حق التملك، ييسر للناس أسباب التملك كما سمعتم: هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ ?لأرْضِ وَ?سْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [هود:61].
ومع ذلك يجيء من ينتسب إلى العلم الديني، وهو جهول يجب طرده من ميدان العلم والدين معاً، يروي عن رسول الله أنه بعث بخراب الدنيا لا بعمارتها.
وما أكثر الأكاذيب التي تشاع باسم الإسلام، والتي جعلت المسلمين يعيشون في الدنيا على فضلات الأقوياء، وبذلك أصبحت أيديهم الدنيا... وفي الوقت نفسه أصبح دينهم في المرتبة الدنيا، لأنه ما ينتصر دين بغير دنيا، كيف تنصره إذا كنت فارغ اليد؟ كيف تحميه إذا كنت فقيراً لا ثروة لك؟ كيف... كيف..؟
فإذا ملكت من حلال فإن الإسلام يوجب عليك أموراً، أول ما يوجب الإسلام فريضة الزكاة، وهي فريضة ليست هينة، ولو أن المسلمين أخرجوا زكاة أرصدتهم وأموالهم وتتبعوا بها ثغرات المجتمع وعورات الناس لأراحوا الأمة من بلاء كثير.
ولقد حدث أيام الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وكان أميراً عادلاً وخليفة راشداً، حدث ببركة العدل، وبركة الإيمان والتراحم أن الزكاة أخرجت في أفريقيا، أي في مصر، وليبيا، وتونس، والجزائر، ومراكش، خرجت الزكاة فلم يوجد لها من يأخذها في هذه الأقطار الرحبة كلها، لأن الله أغنى الناس بعدل عمر، فماذا صنع عمر؟ أمر بأن يُشترى بالزكاة عبيد ويحررون بمال الزكاة، واعتبر ذلك مصرفاً بنص الآية: وَفِى ?لرّقَابِ [التوبة:60].
إن الخير الكثير يمكن أن يتحقق إذا وجدت فيه نية التراحم والعطاء، ووُجد القصد الذي يستهدف وجه الله بما يعطي وبما ينفق، وقد قاتل الإسلام من أجل الزكاة، وكان قتاله فيها حاسماً، ولعله أول قتال ظهر في تاريخ البشرية.
كان الناس يتقاتلون لأمور كثيرة، ولكن أول جيش ظهر في تاريخ الإنسانية يحارب ليرغم الأغنياء على إخراج الحق المعلوم للفقراء والمساكين ما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
قد تكون الزكاة حداً أدنى، فإن المجتمع ربما ظهرت له حاجات، وهنا على الناس أن ينفقوا، وهنا يجيء دور الصدقة، وهو ما أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام، وهو يعلم الناس في مجتمع المدينة المنورة كيف يتعاونون ويتراحمون: ((من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، وإن أربع بخامس أو سادس)) [5] وفي الحديث أيضاً: ((من كان معه فضل ظهر فليعُد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له)) قال أبو سعيد: ((فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في الفضل)) [6].
وفي حديث رواه أبو داود قال رسول الله : ((تكون إبل للشياطين وبيوت للشياطين، فأما إبل الشياطين فقد رأيتها، يخرج أحدكم بنجيبات معه قد أسمنها فلا يعلو بعيراً منه، ويمر بأخيه قد انقطع به فلا يحمله)) [7].
إن النبي عليه الصلاة والسلام طبق على نفسه هذه القضية، فعندما كانوا يسيرون إلى (بدر)، والمسافة بين بدر والمدينة المنورة أكثر من مائة كيلو متر، كانوا يتعاقبون، كل ثلاثة على جمل، وكان الرسول واحداً من ثلاثة فيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فخجل من مع رسول الله أن يمشي وهم يركبون، فقالوا: يا رسول الله، اركب أنت ونمشي نحن، فرفض.. وقال: ((ما أنتما بأقوى مني على المشي، ولا أنا أغنى منكما عن الأجر)) [8].
لست بأغنى منكما عن ثواب الله.. الخطوات في سبيل الله لها أجرها، وأنا فقير ـ وهو رسول الله ـ إلى هذا الأجر، هذه هي طبيعة الكبار، طبيعة النفس الكبيرة!!.
وما قرره الإسلام في هذا جاءت به مكارم الأخلاق في بلاد العرب من قديم.. ومما نحفظه من شعر حاتم يقول:
إذا كنت رباً للقلوص فلا تدع رفيقك يمشي خلفها غير راكب
أنخها فأردفه فإن حملتكما فذاك وإن كان العقاب فعاقب [9]
القلوص: الناقة.. وإن كان العقاب فعاقب: أي إن كانت تضعف عن حملكما معاً فتعاقبا عليها.. أي أنت تسير وتعقبه وهو يركب ثم يعقبك.. وهكذا.
ومما يعرف في تاريخنا العربي الأدبي ـ ولكن العصر الحديث لا يعرف هذا ـ أن شاعراً اسمه عروة بن الورد يقول مخاطباً آخر، ويبدو أن الآخر كان بديناً قوياً، يقول:
إني امرؤ عافي إنائي شركةٌ وأنت امرؤ عافي إنائِك واحدُ
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى بوجهي شحوب الحق والحقُ جاهد
أقسِّمُ جسمي في جسوم كثيرة وأحسو قَراح الماء والماءُ باردُ [10]
ومعنى الأبيات الثلاثة يقول الرجل لصاحبه أنت تهزأ بي لأن شحوب الحق أجهدني، والحق قد يجهد أصحابه، إذا كنت تهزأ بي فالسبب واضح، إني امرؤ طبقي شركة بيني وبين غيري، أما أنت فتنفرد بطبقك تأكله وحدك.
هذه المعاني أو هذه الآداب لو كانت في أوربا أو أمريكا لكتبت بماء الذهب كما يقولون.
وقيل: هذا تراثنا من أنضر صور الاشتراكية، وهذه كلمة ضقت بها من كثرة ما لوثت من تطبيقات رديئة، ومما اكتنفها من لصوصيات خبيثة.
إن عندنا في الإسلام نظماً اجتماعية لا نظير لسموها وشرفها، يقول ابن حزم في كتابه (المحلى): "ولكل مسلم الحق في بيت يأوي إليه ويصونه من الحر والبرد وعيون المارة".
لو قال هذه الكلمة كلب من كلاب الشيوعية لطوَّفت الدنيا على أن هذا المبدأ يعطي الناس كراماتهم المادية والأدبية، ويجعل لكل إنسان بيتاً، لكن قائل الكلمة فقيه مسلم مسكين!! فقيه مسلم ليس له أهل.. ليس له ورثة.. ليس له رجال يحتضنون مواريثه!! فقيه مسلم.. هذا عيب الكلمة.. وهكذا الدنيا.
صح ما قيل: إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإن أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه.
إن الاقتصاد الإسلامي اقتصاد فريد، وليس شيئاً مجلوباً من شرق أو غرب ؛ لأنه ناضح من وحي السماء، ومن كتاب الله وسنة رسوله ، وقد تحدث فقهاؤنا عن التسعير، والمعروف أن الإسلام يعتبر التجارة حرة، ويتدخل في التسعير للضرورة، ولكنه عندما يسعر، وهو دين فقه وتشريع لا أظن أحداً ممن درس الفقه الروماني، أو الفقه الفرنساوي، لا أظن أحداً قرأ أن هناك تسعيراً للخدمات الاجتماعية والأدبية، لكن في كتاب (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) لابن القيم، وجدت تسعير الخدمات، وهو ما يطبق الآن في البلاد الراقية.
ففي انجلترا يُضرِب العمال لأنهم يرون أن جهدهم ينبغي أن يباع لصاحب العمل بجنيه، وصاحب العمل يرى أنه ما يساوي غير نصف جنيه.
فالتسعير للجهد، للمواهب، للنواحي العلمية والفنية، للشهادات والإجازات العلمية، هذا التسعير من تحدث فيه؟
وجدت أن فقهاء المسلمين تحدثوا فيه، ويمكن لأي هيئة قضائية محترمة أن تسعر الجهد المبذول، المواد التي يستهلكها الناس في ضروراتهم.
إن الإسلام دين خصب، وفيه من النصوص في الكتاب والسنة ما يؤسس اقتصاداً له ملاحمه المتميزة، وله آثاره المباركة، وعندما نرفض وصفاً يستجلب من الخارج فنحن إنما نقدم بدله من تراثنا الأصيل ما يغني.
الآفة أن بعض الناس لا يعرف هذا التراث، ولذلك لا يعرف الأصالة لأمتنا، ولذلك هو بجهله حرب عليها، ودققوا النظر فإن بعض الصحف تريد أن تطبق العلمانية، أي مبدأ العيش بلا دين، وهي تسعى إليه بالكلمة بالصورة، بالالتفاف والدوران كي تهيء النفوس لهذا.
ونحن نريد أن نلفت النظر إلى أصالتنا، وإلى أن لدينا من لبنات البناء ما يمكن أن نقيم به مجتمعاً صلباً، واقتصاداً ناجحاً، وليس من الضروري أن نتسول من شرق أو غرب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] رواه مسلم في البر – باب تحريم ظلم المسلم (8/10/11)، وأبو داود في الأدب باب في الغيبة – عون المعبود (13/226)، والترمذي في البر – باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم تحفة الأحوذي (6/54)، وابن ماجه في الفتن – باب دم المؤمن وماله (2/1298)، وأحمد (2/277، (3/491).
[2] رواه البخاري في الحج – باب الخطبة في أيام منى (2/215)، ومسلم في القسامة – باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (5/107، 108).
[3] رواه أحمد (3/321، 399)، والدارمي في الرقاق – باب في أكل السحت (2/318)، وذكره الهيثمي في المجمع وقال: رواه الطبراني في الأوسط من رواية أيوب بن سويد عن الثوري وهي مستقيمة (10/293).
[4] رواه البخاري في المظالم باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض (3/170)، ومسلم في المساقاة – باب تحريم الظلم وغصب الأرض (5/58)، وأحمد (4/173)، (6/64).
[5] رواه البخاري في مواقيت الصلاة – باب السمر مع الضيف والأهل (1/156).
[6] رواه مسلم في اللقطة – باب استحباب المؤاساة بفضول المال (5/138)، ورواه أبو داود في الزكاة –باب حقوق المال عون المعبود (5/81)، ورواه أحمد (3/34).
[7] وبقية الحديث: ((.. وأما بيوت الشياطين فلا أراها إلا هذه الأقفاص التي يستر الناس بالديباج)) رواه أبو داود في الجهاد – باب في الجنائب عون المعبود (7/236).
[8] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر كان كل ثلاثة على بعير كان علي بن أبي طالب وأبو لبابة زميلي رسول الله قال فكان إذا كانت عقبة رسول الله فقالا: نحن نمشي عنك، فقال: ((ما أنتما بأقوى منى ولا أنا أغنى عن الأجر منكما)) ذكره الهيثمي في المجمع وقال رواه أحمد والبزار وفيه عاصم بن بهدلة وحديثه حسن وبقية رجال أحمد رجال الصحيح (6/68).
[9] ديوان حاتم الطائي (27) دار بيروت.
[10] ديوان عروة بن الورد (29).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله: وَهُوَ ?لَّذِى يَقْبَلُ ?لتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ ?لسَّيّئَـ?تِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَيَسْتَجِيبُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَيَزِيدُهُم مِن فَضْلِهِ وَ?لْكَـ?فِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [الشورى:25، 26].
وأشهد أن لا إله إلا الله الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد:
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.. واعلموا أيها الناس أن الإصلاح ليس تجارة التافهين.
إن للإصلاح قواعده، وإن له رجاله. والمصلحون الأصلاء قبل أن يمحوا وضعاً رديئاً يعرفون كيف يجيئون بالبدل الصالح، هناك ناس تغلب عليهم نزعة التدمير، ونزعة العداوة للماضي. أنا لست من أنصار لبس الطربوش، لأني لم أبسه، ولم آلفه، ولكن العقل المحترم الذي يريد محاربة الطربوش، كان ينبغي عليه قبل أن يحاربه أن يقول: دعوا هذا... هذا خير منه، لكن الطبيعة المدمرة عند بعض الناس عرت رؤوس المصريين، وجعلتهم شعباً عاري الرأس في أرض الله، ليست له شارة قومية خاصة يعرف بها فوق رأسه، والسبب أن الذي دمر كان يحسن التدمير فقط، ولا يحسن البناء، ويوجد ناس كثيرون من هذا النوع، وهذا سر قول القائل:
أيها العائب أفعال الورى أرني بالله ماذا تفعل
لا تقل عن عمل ذا ناقص جيء بأوفى ثم قل ذا أكمل
إن يغب عن عين سارٍ قمرٌ فحرام أن يلام المشعل
لكن هناك ناساً يحسنون النقد والتدمير، ولا يحسنون البناء والتعمير وما أكثرهم في بلادنا، وعداوتهم تكون ضارية عندما يشتبكون بالإسلام وأهله.. ألفت النظر إلى هؤلاء، إننا نريد أن نبني على ديننا وأن ننطلق من قواعدنا، وأن نحترم الأصالة التي أفاءها الله علينا.
((اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر)).
رَبَّنَا ?غْفِرْ لَنَا وَلإِخْو?نِنَا ?لَّذِينَ سَبَقُونَا بِ?لإَيمَـ?نِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10].
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
(1/3133)
العوازل الحرارية
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
محمد بن إبراهيم النعيم
الهفوف
24/4/1423
جامع الصيهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهوال يوم القيامة وما فيه من دنو الشمس من الخلائق. 2- ذكر بعض الأعمال التي تقي من حرارة شمس ذلك اليوم (إنظار المعسر – الجهاد في سبيل الله بالمال – التحاب في الله – حفظ سورتي البقرة وآل عمران – الصدقة – حكم الرعية بالعدل – تنشئة الشباب على طاعة الله عز وجل – تعلق القلوب ببيوت الله – تجنب دواعي الزنا – البكاء عند ذكر الله – إخلاص العمل لله والخشية).
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن يوم القيامة يوم شديد، مليء بالكُرَب والأهوال، كُرَبٌ ستشيب منها الولدان، ويفر المرء فيها من الأهل والخُّلان.
فمن الكُرب التي سيواجِهُها الناسُ يوم القيامة؛ كَرْب الإغْراقِ بالعرق؛ فقد جاء في الحديث الصحيح أن الناس يحشرون يوم القيامة ((حفاة عراة غرلا ـ أي غير مختونين ـ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)) ؛ وقد روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: تلا رسول الله الآية: يَوْمَ يَقُومُ ?لنَّاسُ لِرَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [المطففين:6]، فقال رسول الله : ((كيف إذا جمعكم الله كما يُجمَع النَّبْلُ من الكِنانة خمسين ألف سنة ثم لا ينظر إليكم)) رواه الحاكم. والذي سيزيد هذا الكَرب شدة: هو الوقوف والانتظار تحت لهيب شمسٍ؛ ستقترب من الرؤوس بمقدار ميل، حتى يغرق الناس بعرقهم؛ والعياذ بالله من ذلك الحال والمقام. فقد روى المِقْداد بن عمرو قال: سمعت رسول الله يقول: ((تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق؛ حتى تكون منهم كمقدار ميل؛ فيكون الناس على قَدْر أعمالهم في العَرق، فمنهم من يكونُ إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حِقويه، ومنهم من يُلجِمُه العرق إلجامًا)) ، وأشار رسول الله بيده إلى فِيه. رواه الإمام مسلم.
ويزداد كَرْب الناس وضَنْكُهم بالعَرق ما لا يطيقون، إذ يغوصُ عَرقُهم في الأرض سبعين ذراعًا ثم يرتفع فيَصلُ عند بعضهم حتى رؤوسهم؛ فقد روى أبو هريرة أن رسول الله قال: ((يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهبَ عرقهم إلى الأرض سبعين ذراعًا ويُلجِمُهم حتى يبلغ آذانهم)) رواه البخاري.
فماذا أعددنا لذلك الكَرب الشديد من عمل؟! إن الناس في فصل الصيف لا يطيقون حرارة الشمس ويتذمرون منها؛ فتراهم يهربون من وهْجها وحرارتها إلى أماكن الظل؛ سواء أكانت تلك الأماكن: تحت مِظلة أو شجرة أو سيارة، وقد يبقون في البيت أو يسيحون في بلاد باردة.
وإنك تسمع الناس، يوصي بعضهم بعضًا، بعدم المشي في الشمس لكيلا يتعرضَ الواحد منهم لضربة شمس تُخِلُّ بدماغه؛ بل ويُوصَى دوليًا وعلى مستوى العالم عبر منظمات حقوق الإنسان؛ بمنع تشغيل العمال ميدانيًا؛ إذا تجاوزت الحرارة خمسين درجة مئوية؛ حفاظًا على صحة الإنسان وعقله من حرارة الشمس الشديدة والملتهبة صيفًا. ونسي أولئك الناس أن هذه الشمس التي يهربون منها، أنهم ملاقوها يوم القيامة بأشدّ وأقرب ما يكون؟! ألا ينبغي أن نسأل عما يقينا من حر تلك الشمس التي سنقف تحت وهجها ليس ليوم أو يومين ولا لسنة أو سنتين، وإنما لخمسين ألف سنة، نعم لخمسين ألف سنة حتى إنه رُوي أن الناس في ذلك اليوم؛ يتمنون لو بدئ بالحساب ليستريحوا من هَمِِّ ما هُمْ فيه، ولو ذُهِبَ بهم إلى النار؛ عياذًا بالله من ذلك المقام.
فماذا أعددنا لذلك الكرب الشديد من عمل؟! إن الناس اليوم يحرصون على وضع عوازلَ حراريةٍ في بيوتهم لِتَقِيهم حرَّ شمسِ الظهيرة؛ لِيَنْعُموا بجوّ بارد منعِش طوال يومهم؛ وإن الواحد منّا إذا قرّر بناء منزل تراه يبحث عن أفضلِ وأجودِ العوازلِ الحراريةِ التي توضع في الجدران، والتي توضع على الأسطح، ولو كلّفه ذلك عشراتِ الآلاف من الريالات؛ وفوق ذلك كله تراه يضع المُكيِّفات المركزية في كل البيت؛ ليعيش في جو بارد وهادئ؛ لا يعرف فيه الحرارة؛ كل ذلك من أجل أن يتقي حَرّ شمسٍ تبعُد عنا مسافة تُقدَّر بحوالي ثلاثة وتسعين مليون ميل، ولا تستغرقُ ذروةُ أشعتِها أكثر من ثمانِ ساعات يوميًا على سطح الأرض، خلال فصل الصيف. ولو حسب إجمالي هذه المدة متوسط بعمر الإنسان نجد أنها لا تزيد على ثمانِ سنوات متواصلة. ومع ذلك يدفع الإنسان مبالغَ طائلة؛ تصل إلى عشرات الآلاف؛ ليتقي حر هذه الشمس.
وها هو رسولنا يخبرنا ـ وهو الصادق المصدوق ـ أننا سنحشر يوم القيامة ليوم مقداره خمسون ألف سنة تحت أشعة شمسٍ حارقةٍ لا تغْرُب أبدًا؛ فماذا أعددنا لذلك اليوم من عوازل؟ ألا يجدرُ بنا أن نسأل عن عوازلَ تقينا شمسَ الآخرة! وما هي العوازل التي يمكنها مقاومة حرارة تلك الشمس يا ترى؛ التي ستقترب منا بمقدار ميل؟! والميل الشرعي يُقدّر بحوالي أربعة آلاف ذراعًا. وهل يمكن أن ننقل معنا العوازل الحرارية التي صنعناها في دنيانا؟! هل سألت أخي المصلي عن الأعمال والعوازل؛ التي تنجّي صاحبَها من حر شمس يوم القيامة، وتحفظه في ظل الله يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه؟
إنها عوازلُ أخبر بها رسولنا الكريم ليست من البرولايت ولا من الفلِّين؛ وإنما هي أعمالٌ صالحة أُمِرْنا بالتحلّي بها لنستظلّ بسببها تحت ظل عرش الرحمن في ذلك اليوم العصيب؛ ومن استظل تحت ظل العرش، سيمر عليه يوم القيامة كقَدْرِ الانتظار ما بين الظهر والعصر. فقد أخرج الحاكم عن أبي هريرة مرفوعًا قال: ((يوم القيامة على المؤمنين كقدْر ما بين الظهر والعصر)).
أيها الأخوة الحضور، إذا كنتم تسألون عن أفضل العوازلِ الحرارية لبيوتكم، فإني سأنبئكم عن أفضل عوازل حراريةٍ ضد شمس يوم القيامة. سأذكر لكم طرفًا من الأعمال الموجبة لظل عرش الرحمن لعلنا نسارع إليها بعد أن أدركْنا وتصورْنا وآمنا بأهميتها يوم القيامة.
العازل الأول: إنظارُ المعسِر حتى يسدد دينه أو تخفف الدين عنه؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من أنظر معسرًا، أو وضع له، أظله الله يوم القيامة، تحت ظل عرشه، يومُ لا ظلَّ إلا ظلُّه)) رواه الإمام أحمد، والترمذي. وفي رواية أن رسول الله قال: ((إن أول من يستظلُّ في ظل الله يوم القيامة لرَجُلُ أنظر معسرًا أو تصدق عنه)) رواه الطبراني بإسناد حسن. وروى أبو قتادة أن رسول الله قال: ((مَنْ نَفَّسَ عن غزيمه أو مَحَا عنه؛ كان في ظل العرش يوم القيامة)) رواه الإمام مسلم، وأحمد.
العازل الثاني: الجهاد في سبيل الله بالمال؛ فقد روى سَهل بن حُنَيف عن أبيه أن رسول الله قال: ((من أعان مجاهدًا في سبيل الله، أو غارمًا في عُسْرَتِه، أو مكاتَبًا في رَقَبَتِه، أظله الله يوم لا ظل إلا ظله)) رواه أحمد، والحاكم.
العازل الثالث: التحاب في الله عز وجل وليس لأجل مصلحة دنيوية؛ فقد روى أبو هريرة قال: قال رسول الله : ((يقول الله تعالى يوم القيامة: أين المتحابون لجلالي، اليوم أظِلُّهم في ظلِّي يوم لا ظل إلا ظلي)) رواه الإمام مسلم، وأحمد. وروى معاذ بن جبل أن رسول الله قال: ((المتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يومَ لا ظلَّ إلا ظله)) رواه أحمد، والطبراني.
العازل الرابع: حفظُ سورتي البقرة وآل عمران؛ فقد روى بُرَيْدَة الأسْلَمي أن رسول الله قال: ((تعلموا البقرةَ وآلَ عمران فإنهما الزَّهْراوان يُظلاّن صاحبَهما يوم القيامة كأنهما غَمامَتان أو غَيايَتان أو فِرقان من طيرٍ صوافَّ)) رواه الإمام أحمد. وروى النواس بن سمعان أن رسول الله قال: ((يأتي القرآنُ وأهلهُ الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمُه سورةُ البقرة وآلُ عمران يأتيان كأنهما غَيابتَان وبينهما شَرْقُ أو كأنهما غَمامَتان سَوداوان، أو كأنهما ظُلَّتان من طَيرٍ صَوَافَّ يجادلان عن صاحبهما)) رواه الأمام مسلم، وأحمد، والترمذي. فاحفظ ـ أخي المصلي ـ هاتين السورتين بدلاً من حفظ الأغاني التي لا تزيد القلب إلا نفاقًا وفسقًا وبعدًا عن الله.
العازل الخامس: الصدقة على الفقراء والمحتاجين؛ فقد روى عُقْبَة بن عامر أن رسول الله قال: ((الرجل في ظل صدقته حتى يُقْضَى بين الناس)) رواه أحمد، وابن خزيمة. وفي رواية قال : ((كلُّ امرئ في ظلّ صدقتِه حتى يُقضى بين الناس)). فَحَرِيٌّ بكل مسلم أن يكثر من الصدقات ليستظل بها في يومٍ؛ شديدٌ كرُبه؛ يغرق فيه الناسُ في عَرقهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين؛ فاستغفروه، وتوبوا إليه؛ إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا خسارة إلا على المتقاعسين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصَفِيُّه من خلقه؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وسارعوا إلى مرضاة الله وإلى الأعمال التي ستنجيكم من كُرب يوم القيامة؛ فإن رسولنا لم يذكرْها لنا إلا رحمة بنا لعلنا نتشبث بها؛ فإن كل أمر، وكل عمل، أمرنا الله ورسوله به في الدنيا، فإنه فضل ومنجاة لنا من كرب يوم القيامة.
ولقد ذكرت لكم خمسة أعمال؛ ستنجي أصحابها من كُرب الإغراق وتظله في ظل عرش الرحمن، ولا يزال هناك مزيد من الأعمال والعوازل؛ التي تنتظر من يشتريها ويعمل بها؛ فإن الأمر جِدٌّ وليس بالهزل.
أما العازل السادس: حكم الرعية بالعدل.
والعازل السابع: تنشئة الشاب على طاعة الله.
والعازل الثامن: تعلق القلب ببيوت الله.
والعازل التاسع: تجنب دواعي الزنا التي تبثها بعض وسائل الإعلام ليلَ نهار.
والعازل العاشر: البكاء عند ذكر الله عز وجل.
والعازل الحادي عشر: إخلاص العمل لله وخشيته. ويجمع هذه الأعمال الجليلة حديث واحد رواه أبو هريرة أن رسول الله قال: ((سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلٌ قلبهُ معلَّقٌ بالمسجد إذا خرج منه حتى يعودَ إليه، ورجلان تحابَّا في الله فاجْتَمَعا على ذلك وافْترقا عليه، ورجلٌ ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأةٌ ذاتُ منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شِمالُه ما تنفق يمينُه)) رواه البخاري، ومسلم، وأحمد. إنها لأعمال جليلة يستحق كل عمل منها وقفة بل خطبة كاملة.
فحري بك أخي المستمع يا من تحرص على عدم التعرض للهيب الشمس المحرقة في الدنيا، وتوصي أبناءك بذلك؛ أن تحرص كل الحرص على أن تقي نفسك وأهلك حر هذه الشمس يوم القيامة؛ قال أبو موسى الأشعري : (الشمس فوق رؤوس الناس يوم القيامة، وأعمالهم تظللهم وتصحبهم).
هذه بعض الأعمال التي تظلل صاحبها، وتعزله من حر شمس يوم القيامة، فالأمر جد خطير ولا وقت للمسلم ليضيعه فيما لا ينفع، فَإِذَا نُفِخَ فِى ?لصُّورِ فَلاَ أَنسَـ?بَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ فَمَن ثَقُلَتْ مَو?زِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَو?زِينُهُ فأُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَـ?لِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ?لنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَـ?لِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ ءايَـ?تِى تُتْلَى? عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـ?لِمُونَ قَالَ ?خْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَ?غْفِرْ لَنَا وَ?رْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ?لرحِمِينَ فَ?تَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى? أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِى جَزَيْتُهُمُ ?لْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ هُمُ ?لْفَائِزُونَ [المؤمنون:101-111].
(1/3134)
الفرصُ التي لا تعوَّض
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
محمد بن إبراهيم النعيم
الهفوف
25/11/1422
جامع الصيهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من اغتنام الفرص الدنيوية الزائلة وإهمال اغتنام الفرص الأخروية الباقية. 2- ذكر بعض الفرص الأخروية المذكورة في الأحاديث النبوية والحثّ على اغتنامها (الشباب قبل الهرم – الصحة قبل السقم – الغنى قبل الفقر – الفراغ قبل الشغل – الحياة قبل الموت – بر الوالدين قبل موتهما – اتباع السيئة الحسنة – الشهادة في سبيل الله – التحلل من المظالم – إنكار المنكر).
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة في الله، كثيرًا ما نسمع ونقرأ، في مختلف الوسائل الإعلامية بعض الإعلانات والدعايات التجارية، عن عقارات أو معارضَ أو مُجمّعات تجارية فيها من التنزيلات والعُروض والتخفيضات التي تلفت الأنظار؛ لا سيما إذا رافقها بعض العبارات الجذابة كقولهم: (لا تدع الفرصة تفوتك)، وقولهم: (فرصة العمر)، وقولهم: (آخر فرصة)، وقولهم: (فرصة لا تعوض)، وقولهم: (حقق أحلامك ولا تدع الفرصة تفوت)، وقولهم: (اغتنم الفرصة الأخيرة)، وقولهم: (اغتنم الفرصة وتسوَّقْ قبل انتهاء فترة العرض)، ونحوها من كلمات وعبارات تجارية رنانة.
إننا نجد كثيرًا من الناس قد قَصَر، وحجرَ استخدام كلمة الفرصة على النواحي المادية، فقلَّما تستخدم هذه الكلمة في مكانها الحقيقي لتمثل فرصة العمر على حقيقتها. (وأقصد أن تستخدم كلمة الفرصة لأمر الآخرة). إن في حياة المسلم فرصًا كثيرةً لكسب الخير لا تعوض البتة طَوال الحياة؛ وكثير من الناس لا يلتفتون إلى ذلك.
فهناك فرص قد لا تتكرر في حياتنا فهلا انتبهنا لذلك! روى الحاكم عن ابن عباس أن رسول الله قال: ((اغتنم خمسًا قبل خمسٍ شبابَك قبل هرمِك، وصحتَك قبل سقمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبلَ شَغَلِك، وحياتَك قبل موتِك)). قوله : ((اغتنم خمسًا قبل خمس)) معناه: اظفر على وجه المغالبة وقهر النفس خمسَ نِعَم قبل خمس مِحَن؛ فإن النعمة لا تدوم على ما هي عليه في جميع الأحوال؛ لأنه كما يقال من المُحال دوامُ الحال، فالشباَب يَبلى ويذبل، والصحة تضعُف وتذوي، والمال ظل زائل، سرعان ما يذهب ويزول، وينتقل من مورث إلى وارث، والفراغ نعمة من النعم التي يُغبن فيها الإنسان، وسرعان ما تأتي الشواغل، على حين غفلة، فيجدُ المرء نفسه عاجزًا عن تحقيق مآربه وأحلامه؛ بل وحتى الواجبات التي عليه؛ لِفَواتِ وقت الفراغ، وضياع الفرصة التي لم يَغتنمْها.
والحياة أنفاسٌ معدودة تنقطع بالموت في وقت ربما لا يكون في الحسبان، فيندم المرء على ضياع العمر فيما لا ينفع؛ ولا يُجْدِيه ذلك الندمُ شيئًا، فالفرصة إذا لم تُنتهَز فهي غُصّة، قال خالد بن مَعْدان: إذا فُتح لأحدكم بابُ خير؛ فليسرع إليه، فإنه لا يدري متى يُغلَق عنه؛ فاغتنم كما يقول لك من جعله الله رؤوفًا رحيمًا بالمؤمنين : ((اغتنم خمسَ فرص قبل فواتها)) ، وأول تلك الفرص أن تغتنم ((شبابك قبل هرمك)). أن تغتنم هذا القَدْر من العمر فيما ينفعُك في دينك ودنياك ولا تضيّعه في اللهو واللعب والشهوات، وإن الشباب هو زمن العمل الجاد؛ لأنه فترة قوة بين ضعفين: ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة، والشباب هو وقت القدرة على الطاعة على تمامها، والشباب ضيف سريع الرحيل؛ فإن لم يغتنمْه العاقل؛ تقطّعت نفسُه بعدَه حسراتٍ. إن المرء منا يمر بعدة مراحلَ طَوال حياته؛ مرحلة الطفولة، ثم مرحلة الشباب، ثم مرحلة الكهولة، ثم مرحلة الشيخوخة.
ولقد رغب النبي بأن تكون مرحلة الشباب في حياة الفرد مليئة بالطاعات. (ومرحلة الشباب هي التي لا يتجاوز فيها العمر ثلاثين سنة). وما زاد عن ذلك حتى أربعين أو خمسين سنة يسمى المرءُ فيها كهلاً؛ فالذي تجاوز الثلاثين سنة، ولم ينشأ على طاعة الله فاتته فرصة عظيمة هي الاستظلال تحت ظل عرش الرحمن يوم القيامة؛ يوم تدنو الشمس من الخلائق بمقدار ميل؛ فيغرق الناس في العرق على قدْر أعمالهم؛ قال : ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ـ وذكر منهم ـ شابّ نشأ في عبادة الله)) ؛ فيا حسرة الرجل منا الذي تجاوز الثلاثين عامًا ومرت عليه مرحلة الشباب ولم ينشأ على طاعة الله، إنها لفرصة فاتت ولن تعوض.
أخي المسلم، فإذا فاتتك هذه الفرصة، التي لن تعوض البتة فلا يفوتك أن تعلِّقَ قلبك بالمساجد، وأن تخفيَ صدقتك؛ كي لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك، وأن تفيض عيناك عند ذكر الله خاليًا؛ كي لا تحرم من الاستظلال تحت ظل عرش الرحمن.
أما الفرصة الثانية: فهي أن تغتنم ((صحتَك قبل مرضِك)) ؛ أي: أن تظفر بالوقت الذي تكون فيه صحيح الجسم لتقضيه في ميدان العمل الصالح، وأن لا تؤخر فضيلة من الفضائل، وتقول: حتى أكبر وأتفرغ، فإنك لا تدري هل تظل صحيحًا معافى؛ أم يعتريك ما يُعِلُ صحتك ويقلل نشاطك؛ فتقول: يا ليتني صليت من الليل، ويا ليتني صمت من النوافل؛ ويا ليتني بذلت جهدي وقت قوتي، في الدعوة إلى الله، ونحو ذلك. كما إنها لفرصة عظيمة أن تكثر من الأعمال الصالحة وقت صحتك؛ لكي يكتب لك الثواب كاملاً في حال مرضك؛ فقد صحَّ عن النبي أنه قال: ((إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب الله له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا)).
وأما من لم يستغل صحته قبل مرضه بكثرة الأعمال الصالحة، فسيفوته الخير الكثير وسيندم في حين لا ينفع الندم؛ فقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((ما من مسلم يُصاب في جسده إلا أمر الله تعالى الحفظة: اكتبوا لعبدي في كل يوم وليلة من الخير، ما كان يعمل ما دام محبوسًا في وَثاقي)).
فاغتنام فرصة صحتك قبل مرضك، هو أن تبادر إلى شتى الطاعات قبل حلول المفاجآت؛ ولهذا رغب النبي أيضًا بالتعجل بالحج خشية مفاجأة المرض فقال : ((من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة)) رواه أحمد، والبيهقي عن الفضل.
روى شقيق قال: مرض عبد الله بن مسعود ؛ فعدناه فجعل يبكي فعوتِب. فقال: إني لا أبكي لأجل المرض؛ لأني سمعت رسول الله يقول: ((المرض كفارة)) ؛ وإنما أبكي أنه أصابني على حال فَتْرَةٍ، ولم يصبْني في حال اجتهاد؛ لأنه يكتب للعبد من الأجر إذا مرض ما كان يُكتب له، قبل أن يمرض فمنعه المرض. رواه رَزِين (مرقاة المفاتيح 4/57)؛ فاغتنم صحتك قبل مرضك.
أما الفرصة الثالثة أن تغتنم فرصة ((غناك قبل فقرك)) ؛ بأن تكثر من الصدقات، وبذل المال في وجوه الخير، قبل تغير أحوالك الاقتصادية، أو قبل تغير أحوال المجتمع، الذي من حولك؛ فإن أعظم الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح؛ تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغتِ الحلقوم قلتَ: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان.
إنها فرصة أن تتعرف على الله في الرخاء؛ ليعرفك في الشدة؛ كما ويحتمل أن يكون معنى قوله : ((وغناك قبل فقرك)) : أن يكون هذا إنذارًا للغني من الفقر؛ إذا لم يُنفقْ من ماله في وقت الغنى؛ لا سيما وأن رسول الله أخبرنا بأن مَلكيْن يدعوان كل صباح: ((اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، وأعطِ ممسكًا تلفًا)).
لقد أخبرنا الله عز وجل بأن المسلم؛ ليتمنى إذا مات؛ لو أنه أعطي فرصة أخرى للعودة إلى الحياة؛ لا ليتمتع فيها، أو يلهو فيها، وإنما ليتصدق ويكون صالحًا؛ ويبادر إلى الفرص التي فاتته طَوال حياته؛ قال الله تعالى: وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـ?كُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ?لصَّـ?لِحِينَ وَلَن يُؤَخّرَ ?للَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَ?للَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10، 11].
الفرصة الرابعة: أن تغتنم ((فراغك قبل شَغَلك)) ؛ أي: أن تغتنم أوقات الفراغ في شَغْلِ النفس بما ينفعك؛ فالنفس إن لم تشغلْها بالحق شغلتك بالباطل؛ أن تغتنم فرصة فراغك لتصرفه ليس في سياحة ولا في لهو؛ وإنما فيما ينفعك في أمر دينك ودنياك؛ أن تستغل هذا الفراغ ـ الذي يكثر في مرحلة الشباب، وقبل تحمل المسؤوليات ـ، أن تستغله في حفظ كتاب الله وتعلم العلم الشرعي؛ لأنك إذا كبرت قد تخجل أن تتعلم، وقد يصعب عليك الحفظ؛ بل ولا تجد الوقت الكافي للتعلم؛ لأنك ستكتشف؛ أن الواجباتِ أكثر من الأوقات؛ ولهذا صدَق عمر بن الخطاب حينما قال: (تعلموا العلم قبل أن تسودوا)؛ أي: تعلَّمْ قبل أن تصبح مسؤولاً، وتنشغل، فلا تجد الوقت للتعلم؛ كما وإن الاستفادة من العلماء، والتعلم منهم عن قرب قبل موتهم فرصة لا تعوض، وقد قال : ((إن الله لا يَقبضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يَقْبضُ العلمَ بقبْضِ العلماء؛ حتى إذا لم يُبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسُئِلوا فأفْتَوا بغير علم، فضِّلوا وأضَلُّوا)) مسلم. ففرصة عظيمة أخي المسلم أن تغتنم ((فراغك قبل شَغَلِك)).
الفرصة الخامسة والأخيرة في هذا الحديث: أن تغتنم ((حياتك قبل موتك)) ؛ بأن تقدم لنفسك ما ينفعك بعد موتك، ولا تسوِّف؛ حتى إذا جاء الموت قلت: ي?لَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى [الفجر:24]، يا ليتني تصدقت، ويا ليتني صمت، ويا ليتني صليت، ويا ليتني فعلت...؛ فيكون حالك كحال الذين قال الله تعالى عنهم: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ?لإِنسَـ?نُ وَأَنَّى? لَهُ ?لذّكْرَى? يَقُولُ ي?لَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى [الفجر:23، 24]. إن وجودك في هذه الحياة أعظم فرصة لجمع الحسنات وَللرُّقِيِّ في الجنة إلى أعلى الدرجات؛ فاغتنامُ حياتك قبل موتك؛ يكون بالمبادرة إلى التوبة قبل حلول الأجل، وقبل أن تغرغر فتلتف الساق بالساق. فقد قال : ((إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)). فإن اغتنام فرصة الحياة قبل الممات؛ هو أن تغتنم وقتك فلا تضيعْه في لهوٍ بَلهَ معصية. فكم من مستقبلٍ يومًا لا يستكملُه، وكم من مُؤمِّل غدًا لا يدركُه، وقد صحَّ عن الحسن البصري أنه قال: "ما من يوم ينشق فجرُه إلا وينادي: يا ابن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزودْ مني بعمل صالح؛ فإني إذا مضيت؛ لا أعود إلى يوم القيامة".
فكل دقيقة من حياتك هي فرصة؛ لن تعوض لأنه لا يمكن إرجاعها، أو تدراكها؛ فأمسِ الذي مرَّ على قربه يَعجَزُ أهل الأرض عن رده؛ وقد صح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((ما من ساعة تمرّ بابن آدمَ لم يذكر الله فيها إلا حسر عليها يوم القيامة)). كما إنها فرصة إلى المبادرة إلى التوبة؛ قبل ظهور بعض علامات الساعة الكبرى؛ فقد روى أبو هريرة أن رسول الله قال: ((ثلاثٌ إذا خرجْنَ لم ينفع نفسًا إيمانُها لم تكنْ آمنت من قبلُ أو كسَبَتْ في إيمانها خيرًا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض)) رواه الإمام مسلم.
فاغتنم ((حياتك قبل موتك)) إنها خير كلمة جامعة في استغلال الوقت.
أيها الإخوة في الله وإذا انتقلنا إلى أحاديثَ نبويةٍ أخرى؛ كي نبحثَ فيها عن فرصِ الخير التي لا تُعوَّض؛ فستجد أن هناك الكثير من الأحاديث التي تدعونا إلى العمل بسنته قبل فوات الأوان.
فمن الفرص التي لا تعوض؛ وهي الفرصة السادسة في هذه الخطبة: أن تستغل وجود والديك على قيد الحياة لتبرَّهُما. فإن أعظم الفرص لك؛ لكي تدخل الجنة، أن تلزم والديك وتَبِرَّهما، فهما بابان لك إلى أبواب الجنة. قال : ((رَغِمَ أنفُ، ثم رَغِمَ أنفُ، ثم رَغِمَ أنفُ)) قيل: من يا رسول الله؟! قال: ((منْ أدركَ أبويهِ عند الكِبَر؛ أحدهما أو كليهما فلم يدخلِ الجنة)) رواه مسلم.
وقال في حديث آخر: ((الوالد أوسط أبواب الجنة، فأضِعْ ذلك الباب أو احفظْه)) رواه ابن ماجه.
فيا حسرةَ من مات والداه؛ ولم يَبِرَهما حيث فاتته فرصة عظيمة لا يمكن بأي حال أن يعوضها؛ لكي ينالَ رضاهما ويدخلَ بسببهما الجنة؛ فإن رضا الرب سبحانه في رضا الوالدين، وسخط الرب سبحانه في سخطهما.
أيها الإخوة الحضور؛ أما الفرصة السابعة، فهي أن تتبع السيئة الحسنة؛ إنها فرصة عظيمة، بأن تتوب من الذنب مباشرة قبل أن يسجَّل عليك؛ نعم قبل أن يسجل عليك فيسوِّدَ صحيفتك. فقد روى الطبراني، والبيهقي ـ في شعب الإيمان ـ؛ وصححه الألباني عن أبي أمامةَ أن رسول الله قال: ((إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ ، فإن ندم واستغفر ألقاها، وإلا كتبت واحدة)) لذلك لا نعجب إذا علمنا أن رسول الله ـ وهو الرحيم بنا ـ وقد وجهنا بقوله : ((اتق اللهَ حيثُما كنت وأتبعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها وخالق الناس بخلق حسن)) ؛ فتأملْ رحمة َالله بك؛ كيف يعطيك هذه الفرصة؛ بأن يجعل الملك، ينتظر ست ساعات؛ ـ لعله ينتظر منك توبة أو استغفارًا ـ وتأمل أيضا شفقة النبي ؛ وهو ينصحك بقوله: ((وأتبع السيئة الحسنة تمحُها)) وكلمة أتبع تفيد المبادرة وعدم التواني؛ لذلك بادر إلى التوبة وإلا مُلِئَتْ صحيفتُك سيئاتٍ فرأيتُها يومَ القيامة عليك حسراتٍ.
الفرصة الثامنة: أن تحظى بالشهادة. وهي ليست شهادة (الماجستير) ولا (الدكتوراه) ولا شهادة خبرة؛ وإنما فرصة الشهادة في سبيل الله؛ فإنه من المعلوم أن كلّ من حقق معنى الشهادتين سيدخل الجنة برحمة الله؛ ولكن من منا يستطيع أن ينال درجة الشهادة في سبيل الله؛ وهي أعلى الدرجات بعد منزلة النبوة والصديقية. تأمل معي يسر رحمك الله ـ كلام المولى عز وجل ـ وهو يصف لنا مجيء أفضل طبقات المجتمع البشري؛ وهم الأنبياء والشهداء أمام الخلائق؛ ليقضى بينهم؛ إنه لشرف ما بعده شرف؛ أن يحشر الشهداء، مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ قال تعالى: وَأَشْرَقَتِ ?لاْرْضُ بِنُورِ رَبّهَا وَوُضِعَ ?لْكِتَـ?بُ وَجِىء بِ?لنَّبِيّيْنَ وَ?لشُّهَدَاء وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِ?لْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَو هم لا يظلمون [الزمر:69]؛ فإنه لا توجد لك فرصة سانحة لتحقق هذا الحلم إلا بالجهاد في سبيل الله، وإن لم تستطع ذلك أو حال بينك وبينه حائل؛ فلا حَلَّ لك سوى أن تسأل الله الشهادة في سبيل الله بصدق؛ ومن فعل ذلك وصدَق مع الله؛ فإن الله سيصدقه؛ فقد وعد رسول الله من كانت هذه نيتُه ورغبتُه؛ أن يرزقه الله منازل الشهداء في الجنة؛ ولو مات على فراشه؛ فقد روى سَهْل بن حُنَيف أن رسول الله قال: ((من سأل الله الشهادة بصدق بلّغَهُ الله منازلَ الشهداء، وإن مات على فراشه)) رواه مسلم. فلا تدع الفرصة تفوتك ومن لم يفعل ذلك فإنه قد يموت على شُعبة من النفاق؛ والعياذ بالله من ذلك. فقد روى أبو هريرة أن رسول الله قال: ((من مات، ولم يغزُ، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق)) رواه الإمام مسلم.
الفرصة التاسعة: أن تبادر إلى التحلل ممن ظلمتَه قبل أن تُسلَب منك حسناتُك يوم القيامة. فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من كانت عنده مظلمةٌ لأخيه، من عرضه أو شيء فليتحلَّلْه منه اليوم؛ قبل أن لا يكون دينارٌ ولا درهم؛ إن كان له عملٌ صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)).
الفرصة العاشرة والأخيرة في هذه الخطبة ـ كي لا أطيل عليكم ـ أن نبادر إلى إنكار المنكر، قبل نزول العذاب؛ فقد روى الإمام أحمد، والترمذي، عن حذيفةَ بن اليمان أن رسول الله قال: ((والذي نفسي بيده لَتأمرُنَّ بالمعروفِ، ولَتَنْهَوُنَّ عن المنكر، أو لَيوشِكَنَّ اللهُ أن يبعثَ عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه، فلا يُستجابُ لكم)).
إن المنكراتِ لتنتشرُ في أسواق المسلمين ومنتدياتهم وبيوتهم ومجالسهم انتشار النار في الهشيم؛ وإن التبرج في أوساط النساء المسلمات بات مألوفًا فقلَّ الحياء، وانعدمت الغيرة. وإنها لفرصة لنا لننكر هذه المنكرات قبل أن يستفحل الأمر؛ فينزل العذاب؛ ثم إذا دعونا الله عز وجل؛ ليكشف عنا ما حلَّ بنا؛ فلن يستجيب؛ هكذا قال لنا من جعله الله رؤوفًا رحيمًا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله من كل ذنب، لي ولكم ولسائر المسلمين؛ فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام، على سيد الأنبياء والمرسلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فكم واحدٍ منا لا يزال يَعَضُّ على أصابع الندم؛ كلما تذكر كيف فاتَتْه فرصةٌ من فرص الحياة؛ لا يمكن تكرارها ولا تعويضها. وقليلٌ من الناس من يفعل ذلك في أمور الآخرة؛ إما لجهله بالثواب الذي فاته، أو لغفلته بالعقاب الذي ينتظره.
إن ما يجب أن نعرفه أن كل طاعة تَعِرض لك فتفوتك؛ إنما هي فرصة؛ لا يمكن تعويضها؛ لأن الأيام ليست متكررة؛ وإنما كلُّ يوم هو خَلْقٌ جديد، وإذا مضى فإنه لا يعود، إلى يوم القيامة، فإذا ضيعت يومك في غير طاعة، وفيما لا ينفع؛ فإنما ضيعت عليك فرصة الطاعات؛ التي مرت في هذا اليوم.
فهل أديت شكر اليوم الذي مضى؟ أي يوم الخميس؟! فقد قال : ((من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة، أو بأحد من خلقك؛ فمنك وحدك، لا شريك لك؛ فلك الحمد، ولك الشكر، فقد أدى شكر ذلك اليوم)). فمن لم يقل هذا الدعاء بالأمس؛ ضاعت عليه فرصة شكر ذلك اليوم إلى الأبد.
هل أديت شكر نعمة مَفاصِلِك بالأمس؟ فقد قال : ((على كل سُلامى من ابن آدم في كل يوم صدقة)).
وهكذا فإن هناك كثيرًا من الفرص؛ التي إذا فاتت، لا يمكن تعويضها؛ وكل عمل صالح يفوتك لا يمكن تعويضه، وكل دقيقة، تمر عليك، في غير طاعة؛ قد كانت لك فرصة من الله؛ لا يمكن تعويضها، أو تداركها. لذلك البِدارَ البِدارَ إلى استغلال الأوقات، وتدارك باقي الأعمار جعلني وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
(1/3135)
صبراً يا أهل العراق
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
25/1/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعاء النبي في العريش يوم بدر. 2- بُعد المسلمين عن دينهم اليوم. 3- سعي أنس بن النضر إلى الجنة يوم أحد. 4- وفاء النبي. 5- تخلي المسلمين عن شعب العراق في محنته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي وهو في قبته يوم بدر: ((اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبَد بعد اليوم)) فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك يا رسول الله، فقد ألححت على الله، فقد ألححت على ربك، وهو في الدرع فخرج وهو يقول: سَيُهْزَمُ ?لْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ?لدُّبُرَ بَلِ ?لسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَ?لسَّاعَةُ أَدْهَى? وَأَمَرُّ [القمر:45، 46] [1] ، صدق الرسول الكريم.
تذكّروا ـ يا عباد الله ـ أنّ الهزائم لا تنزل على المؤمنين الصادقين، إنما تنزل على المعاندين المكابرين، تنزل على المنافقين الذين يحاربون الله تبارك وتعالى.
وتذكّروا أن أمة الإسلام لا ترفع إلا راية واحدة كتب عليها: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله". مهما تغيرت الأحداث قبل المعركة وبعد المعركة، الثبات على المبدأ مهما تغيرت الأحداث.
وتذكّروا كذلك أن أحوالنا في هذه الأيام لا ترضي الله ولا ترضي رسول الله، نكاد لا نصدق أن هذه أمة محمد. أهذه أمة التوحيد؟! أهذه أمة الإسلام؟!
أيّها المؤمنون، الصحابي الجليل أنس بن النضر رضي الله عنه استعدّ لدخول المعركة يوم أحد، توجّه إلى ميدان القتال، ولقي الصحابي الجليل سعد بن معاذ رضي الله عنه، فسأله: إلى أين يا أنس؟ قال له: (إني متوجّه إلى أُحد، إنّني أجد ريحَ الجنة دون أحد) [2].
هذه كلمات صدرت من قلب عامر بحب الله، من قلب عرف الله، فَسَوْفَ يَأْتِى ?للَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ يُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ يَخَـ?فُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذ?لِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54]. إلى أين يا أنس؟ إلى أحد، إني أجد ريح الجنة دون أُحد.
هذه نفوس كانت تحمل قلوباً مطمئنة، قلوباً صادقة، إن الله علّمهم أن يكونوا أكبر من الأحداث مهما احتدمت الخطوب، ومهما ادلهمّت المصائب والشدائد، إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ?لْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ ?لاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لظَّـ?لِمِينَ وَلِيُمَحّصَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ ?لْكَـ?فِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ?لصَّـ?بِرِينَ [آل عمران:140-142].
علّمهم الله تبارك وتعالى أن يكونوا أكبر من شدائد الأيام.
إن رسالة الإسلام ليست كلاماً، إن رسالة الإسلام تربية وتركيز وتوجيه، وكيف نربي الرجال إذا غفلنا عن تربية القلوب وبناء النفوس؟! لكي نخوض المعركة لا بد أن نبني القلوب. اسمعوا ماذا قال أنس بن النضر رضي الله عنه، أنس الذي جثا التاريخ على ركبتيه وتمرغت الدنيا تحت قدميه: (إني أجد ريح الجنة دون أحد). قد نزل إلى المعركة وقاتل قتال الأبطال وقتِل شهيداً، وجاء الناس ليتعرّفوا على جثمانه، فلم يستطيعوا أن يتبيّنوه، لقد ضرب أكثر من ثمانين ضربة، ما بين ضربة بسيف، ورمية بسهم، وطعنة برمح، تغيّرت معالم الشهيد من شدّة ما أصيب من ضربات، وقَلّما طعن بسهم، كان يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
إن هذه الضربات مهما قست، فإنها تنزل على جسم الشهيد كأنها قبلات، لا يشعر منها بألم، إنها تتحوّل إلى برد وسلام.
وجيء بأخت الشهيد لتتعرّف على أخيها، وأخذت تنظر إلى الجثمان الشريف، ولم تستطع أن تعرفه إلا بأصابع يديه.
قالت: إنه أخي، ماذا جرى عندما شيّع جثمان الشهيد؟ إن الذي شيّع جثمانه هم ملائكة الله تبارك وتعالى، فعزّى الله تبارك وتعالى المؤمنين، وحمل العزاء إليهم روح القدس جبريل، وأشاعه نبينا الكريم ، اسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ إلى عزاء الإله القادر للمؤمنين بأنس بن النضر قال الله تبارك وتعالى: مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
إننا في حاجة إلى رجال يعرفون الله، إن صلاح الدين الأيوبي عندما خاض المعركة ضد جيوش أوروبا كان يقوم قبل الفجر، كان يصلي قبل الفجر، ويدعو الله أن ينصره على أعدائه، وكان يقول: استعينوا بدعاء السحر على أعداء الله.
جلس ذات مرة بين إخوانه حين كان المسجد الأقصى بيد الصليبيين، جلس صامتاً فقالوا له: لم لا تبتسم يا صلاح الدين؟ فقال: أخشى أن يراني الله مبتسماً، والمسجد الأقصى في يد الصليبيين.
عباد الله، إن أعداء الإسلام يعملون للخراب والتدمير، أما أمة الإسلام فهم يعملون للبناء والتعمير، أصحاب رسول الله لم يتخبطوا في دياجير الظلام، إنهم ساروا على نهج الواحد العلام.
اللهم يا منزل الكتاب ويا مجري السحاب ويا هازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم يا رب العالمين، اللهم أنزل جام غضبك وسخطك عليهم، فإنهم قد طغوا وأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم من عندك سوط عذاب.
اللهم اجعل تدميرهم في تدبيرهم، ورد كيدهم إلى نحورهم، واجعل نار قذائفهم ترتد عليهم، واجعلها برداً وسلاماً على إخواننا في أرض العراق يا رب العالمين.
اللهم شُدّ من أزر إخواننا في أرض العراق، وزلزل الأرض من تحت أقدام عدوهم.
عباد الله، توجّهوا إلى الله تبارك وتعالى بقلوب صادقة، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب: ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم (2915).
[2] رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير (2806)، ومسلم في الإمارة (1903).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معزّ الإسلام بنصره، ومذلّ الكفر بقهره، ومستدرج الكفار بمكره، الذي قدّر الأيام دولاً بعدله، نحمده سبحانه على إظهاره وإظفاره وإعزازه لأوليائه، ونصره لأنصاره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى بها ربه، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، الذي نصر هذا الدين، وقمع كل جبار عنيد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، الذين أيّد الله بهم الإسلام، فمهّدوا قواعد الدين من بعده، وقاموا بنصرته أعظم قيام، صلاة وسلاماً عليه دائمين إلى أن نلقاه بدار السلام.
أما بعد: أيها المؤمنون، بعد عودة رسولنا في الطائف وامتناع أهلها عن اتباع دعوته، وبعد أن آذوه عاد إلى مكة المكرمة ـ زادها الله تشريفاً وتكريماً وتعظيماً ـ وطلب النصرة، ودخل في جوار المطعم بن عدي، وكان كافراً يومها، ورغم أنه كان يعلم خطورة الإقدام على هذه المغامرة، وأنه سوف يعادي قريشاً كلها، وقام المطعم على راحلته وقال: يا معشر قريش، إني قد أجرت محمداً، فلا يتعرض له أحد منكم، وهذا الموقف كان صفعة لزعماء قريش.
وحفظ له النبي هذا الموقف، وقال بعد أسر سبعين من صناديدهم في معركة بدر: ((لو كان المطعم حياً لوهبتهم له)) [1] إنه موقف الوفاء ولو مع غير المسلمين.
أيها المؤمنون، إذا كان هذا موقف واحد من أهل الكفر، فما بال المسلمين اليوم لا يهبون لنجدة إخوانهم في أرض العراق؟!
إن تخاذل زعماء المسلمين وقادتهم والذين يتابعون المجازر البشعة والتي ترتكبها القوات الأمريكية والبريطانية الغازية عبر شاشات التلفزة سيسجله التاريخ لهم، وهو موقف ذلّ وعار وخذلان، دول كافرة لا تدين بالإسلام وقفت موقفاً مشرّفاً، وإن كانت في واقع الأمر تدافع عن مصالحها في المنطقة، وأدانت العدوان، ورفضت عبور القوات الغازية من أراضيها أو مياهها الإقليمية، رفضت قطع علاقاتها مع العراق، أليس للأمة الإسلامية والعربية مصالح مع الشعب العراقي؟! ألم يعطِ من نفطه لبعض الدول العربية وبالمجان؟! وللأسف فقد سمحت دول عربية وإسلامية بعبور قوات التحالف من أراضيها، قواعد عسكرية تتمركز بالبلاد المحيطة بالعراق ممن ينتسبون إلى أمة الإسلام.
ومن المؤسف أيضاً أن زعماءكم قد تأسّفوا لما يجري في أرض العراق، ولم يدركوا أن الدور قادم عليهم، أين تصرف كلمة الأسف؟! هل تصرف في بحر الدماء والخراب والقتل والدمار؟! هل تصرف أمام أشلاء الضحايا من أطفال ونساء وشيوخ؟!
إن أعداءكم قتلة متعطّشون لسفك الدماء، يقتلون البشرية، ويسرقون الخيرات، ويدمرون الحضارة، لك الله يا شعب العراق المسلم، وأنت تواجه العدوان بالإيمان والعقيدة، وقد تخلى عنك زعماء العرب، لك الله يا شعب العراق الصامد، وأنت تواجه أسلحة الدمار الشامل.
وللأسف الشديد، إعلام الدول العربية لا يعكس إلا ما تملي عليه وسائل الإعلام الأمريكية، لا يتحدثون عن صمود العراق، لا يتحدثون عن شعب عانى من حصار دام اثني عشر عاماً، شعب رفض الاستسلام ورفض المذلة والهوان، آثر الاستشهاد لأنه يؤمن أن الموت بشهامة وكرامة أفضل من حياة ذلّ تدوسه فيها نعال المستعمرين.
عباد الله، المدينة المنورة طوّقت في غزوة الخندق من شتى أقطارها، والمسلمون كانوا في حصار شديد وبرد قارس، والمجاعة تكاد تقضم بأنيابها كلّ أخضر ويابس، ومع ذلك كان الأمل لا يفارق المسلمين، لا يفارق الرسول أن أمته ستفتح فارس وتفتح الروم، رغم حصار المدينة.
وأنتم أيها المؤمنون، لا تيأسوا من روح الله، لا تيأسوا من رحمة الله، فإن النصر آت لا محالة، والله تبارك وتعالى هو القائل: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]، وهو القائل: وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]، لقد آن الأوان أن نعود إلى الله تبارك وتعالى، فإن كثرة الذنوب ضيقت الأرزاق وأفسدت الأخلاق وضيعت المروءات ونزعت الرحمة من صدور العباد.
عباد الله، احفظوا الله يحفظكم، وانصروا الله ينصركم، واذكروا الله يذكركم، واشكروا الله يزدكم، الله أكبر، فتح الله ونصر، غلب الله وقهر، أذل الله من كفر، وأعز الله من نصر.
أيها المسلمون، أنتم ترون كيف أن أعداء الإسلام يضربون طوقاً وحصاراً مشددين لمنع أبناء فلسطين من الصلاة في المسجد الأقصى المبارك، اسمعوا قول الله تبارك وتعالى وهو يقول: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـ?جِدَ ?للَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ وَسَعَى? فِى خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِى ?لدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114]، وأنتم ترون أيضاً وتسمعون في كل يوم عن قتل وتشريد واعتقال وهدم للمنازل دون حسيب ولا رقيب، دون استنكار من قريب أو بعيد، وكأن أمتنا قد استسلمت لهذا الأمر الواقع المشين، فصبراً يا أهلنا في أرضنا المباركة، مزيداً من الثبات والرباط، فأنتم في رباط في سبيل الله، فقد اختاركم الله لحماية هذه الأرض المقدسة، والنصر آت لا محالة بإذن الله تبارك وتعالى.
أعاننا الله وإياكم على اتباع أمره، والازدجار بزواجره، وأيدنا معاشر المسلمين بنصر من عنده، إِن يَنصُرْكُمُ ?للَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ?لَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].
[1] رواه البخاري في فرض الخمس (3139).
(1/3136)
الغلوّ والإرهاب
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
26/2/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل بلاد الحرمين الشريفين وحسد الأعداء لها. 2- جريمة الاعتداء على رجال الأمن. 3- مظاهر الإفساد في الأرض وأضراره. 4- تجريم الأعمال التخريبية. 5- جرائم الخوارج. 6- أسباب انحراف الخارجين على الأمة. 7- خطر الغلو. 8- انسداد مسلك الغلاة. 9- وقوف الأمة ضد الغلاة والمفسدين في الأرض. 10- ثبات بلاد الحرمين في الشدائد والفتن. 11- المسؤولية عامة. 12- ثبات رجال الأمن واستبسالهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتقوا الله رحمكم الله، فمن تورّع واتَّقى فقد ارتقَى من مقاعدِ الصّدق أعلى مُرتَقى، وبالتقوى يتّقي العبدُ آثار البلوى، وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى [النساء:77]. نافسوا في معالي الرُّتَب، وغالبوا أهواءَ النفوس، فالفوز لمن غلَب، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:4-7].
أيّها المسلمون، هذه البلادُ بلاد الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية، هي بحمد الله ومنَّته مأرِز الإسلام ومنبَع الدعوة إلى الله وأمانُ الخائفين وعونُ المستضعفين، يدٌ حانية تداوي جراحَ المسلمين، تنطلق منها أعمالُ الإحسان وأنواع البرّ، هي بفضل الله مصدَر الخير بأنواعه. ولمّا تبيّن صحّة تديُّنها وصدقُ فِعالها وثمار أعمالها وقوّة رجالها وصلابةُ مواقف ولاةِ الأمر فيها وجّه إليها الأعداءُ السِّهام، يريدون تقويضَ خيامِها والعبثَ بأمنها ونهبَ خيراتها، فكالوا لها التُّهَم جزافًا، يريدون منها أن تُغيّر أو تبدِّل أو تحيد، وهيهات هيهات.
لا يُقال ذلك عاطفةً أو مجاملةً، حاشا وكلاّ، ولكن يقينًا وتحقيقًا ونظرًا في الآثار والسُّنن. إنّ من يصل الرحِمَ ويحمل الكلَّ ويُكسِب المعدوم ويقري الضيفَ ويعين على نوائبِ الحقّ لا يخزيه الله أبدًا، ومن كثُرت حسناته حسُنَت بإذن الله عاقبتُه وسلَّمه ربُّه في دنياه وآخرته وحفظه في دينه وأهله، فنحن بإذن الله مطمئنّون بحسن العاقبة، ولن يضرَّ كيدُ الأعداء، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120].
ومن أجلِ هذا ـ أيها الإخوةُ ـ فإنّ متغيِّرات العصر ومضلاّت الفتن وتكالبَ الأعداء وتداعيَ الأكلة تدعو المسلم الغيورَ على أمّته الصادقَ في تديُّنه الناصحَ لإخوانه أن يربأ بنفسِه أن يكونَ معولَ هدمٍ في يدِ أعدائه من حيث يدري أو لا يدري، يقع في إخوانه المسلمين، يكفِّر ويبدّع، بل ويتجرّأ فيقتل ويسفِك الدماء.
وإنّ ما حدَث هذه الأيام من اعتداءاتٍ على إخواننا رجالِ الأمن اعتداءٌ آثِم وفعل طائش وإجرام صارخ يصُبُّ في هذا السلكِ الضالّ. إنه اعتداءٌ وعدوان وقتل وترويع وإشاعَة للفوضى من أجل اختلاطِ الحابل بالنابل والتدمير والتخريبِ، وإنه إزهاقٌ لنفوس محرّمةٍ وسفكٌ لدماء معصومة. إنّه مسلكٌ رخيص فاضح، شذوذ وعدوان وإجرام، دافعُه استبطان أفكارٍ مضلِّلة وآراء شاذّة ومبادئ منحرفة، في خطواتٍ تائهة ومفاهيم مغلوطة.
أيّ قبولٍ لناشري الفوضى ومُهدِري الحقوق ومرخِصي النفوس؟! ولقد جمع هؤلاء ـ عياذًا بالله ـ بين قتل النفوس المحرّمة وقتل أنفسِهم، وقد قال الله عز وجل في محكم تنزيله: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30]، وقال عزّ شأنه: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وفي الحديث الصحيح عنه : ((لا يزال المرءُ في فسحةٍ من دينه ما لم يُصِب دمًا حرامًا)) [1] ، ويقول عليه الصّلاة والسّلام: ((لزوالُ الدّنيا أهونُ عند الله من قتلِ رجلٍ مسلم)) أخرجه النسائي والترمذي [2].
مفاسدُ عظيمة، وشرور كثيرة، وإفسادٌ في الأرض، وترويع للمؤمنين والآمنين، ونقضٌ للعهود، وتجاوزٌ على إمام المسلمين. جرائمُ نكراء، في طيِّها منكرات. أعمالٌ سيّئة شِرّيرة، تثير الفتنَ، وتولِّد التحزّبَ، تدمير للطّاقات، وتشتيت للجهود. أعمالٌ تهدِّد المكتسَبات، وتؤخِّر مسيرةَ الإصلاح، وتخذل الدعوةَ والدعاة، وتفتح أبوابَ الشرّ أمام ألوانٍ من الصّراعات، بل ربّما هيّأت فرَصًا للتّدخّلات الأجنبيّة، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
إنّ الموقفَ الصّريحَ الذي لا لبسَ فيه ولا يُختَلَف عليه إنكارُ هذا العملِ الشنيع واستنكاره ورفضُه وتجريمه وتحريمه. ولْيحذَر مَن أرادَ الخيرَ لنفسه من عمَى البصيرة وتزيين الشيطان، فيرى الحقَّ باطلاً، والباطل حقًّا عياذًا بالله.
إنّ مِن المعلوم أنَّ الخوارجَ كانوا أهلَ عبادةٍ، وفيهم مظاهرُ الصّلاحِ وإظهارٌ لبعض الشّعائِر كما في الحديث: ((تحقِرون صلاتكم عند صلاتهم، يقرؤون القرآنَ لا يجاوِز حناجرَهم)) [3].
هؤلاء الخوارجُ الشاذّون ظهَروا في خير القرونِ وأفضلها، في عهدِ صحابة نبيّنا محمّد ، فوصَل بهم الحال إلى أن حاربوا الصّحابةَ والمسلمين، بل قتلوا الخليفتَين الرّاشدَين عثمانَ عليًّا رضي الله عنهما. ألا يكفي زَيفًا وضلالاً أن يُجهِّل الخوارج صحابةَ رسول الله ويكفِّروهم ويحاربوهم؟!
لقد كان عند الخوارجِ شيءٌ مِن حماسٍ ونوع مِن إخلاص، لكن لم يكُن عندَهم عِلمٌ صحيح ولا فِقهٌ سليم، حارَبوا الصحابةَ، وقَتلوا الخلفاءَ، زاعمين أنَّ هذا هو طريقُ الإصلاح.
أيّها المسلمون، إنّ مِن أعظمِ أسباب انحرافِ هؤلاء الجهلَ والعزلةَ عن المجتمع وعدمَ أخذِ العلم من أهلِه وغفلةَ الأسرة، وإنّ في بعضِهم إعجابًا بالنّفس كبيرًا، وهذه كلُّها من الصوارِف عن الحقّ والفِقهِ وأخذِ العلم من أهله وأبوابه.
معاشرَ المسلمين، وثمّةَ سببٌ في الانحرافِ كبير، ذالكم هو الوقوعُ في دائِرة الغلو.
إنّ الغلوّ في دين الله هو ـ والله ـ سببُ الهلاك، فلقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إيّاكم والغُلوّ، فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ)) [4].
الغلوّ مشاقّةٌ حقيقيّة لهديِ الإسلام، وإعراضٌ عن منهجِه في الوسطيّة والاعتدال والرّحمَة واليُسر والرِّفق. الغلوّ ظلمٌ للنّفس وظلمٌ للنّاس، بل هو صدّ عن سبيل الله لِما يورِثه من تشويه وفتنةٍ وتنفير. الغلاةُ يتعَصّبون لجماعتِهم، ويجعلونَها مصدرَ الحقّ، ويغلُون في قادتِهم ورؤسائِهم، ويتبرّؤون مِن مجتمعاتِ المسلمين، ويكفّرون بالمعَاصي، ويكفّرون أهلَ الإسلام وحكّامَ المسلمين، ويقولون بالخروج على أئمّة المسلمين، ويعتزلون مجتمعاتِ المسلمين، ويتبرّؤون منهم، لا يصلّون خلفَ أئمّة المسلمين في مساجدِ المسلمين. لقد وصفهم نبيّنا محمّد بوصفَين ظاهرين خطيرَين في قوله عليه الصلاة والسلام: ((يقرؤون القرآنَ لا يجاوِز حناجرَهم، يقتُلون أهلَ الإسلام ويدَعون أهلَ الأوثان)) أخرجه البخاري ومسلم [5].
الوصفُ الأوّل: يقرؤون القرآن ولا يفقهونَه ولا يدرِكون مقاصدَه، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (إنّهم انطلَقوا إلى آياتٍ نزلت في الكفّار، فجعلوها على المؤمنين) [6].
الوصف الثاني: استحلالُ دماءِ المسلمين: ((يقتلون أهلَ الإسلام، ويدَعون أهلَ الأوثان)) ، يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنّهم يكفِّرون بالذّنب والسيّئات، ويترتّب على تكفيرهم بالذّنوب استحلالُ دماءِ المسلمين وأموالِهم، وأنّ دارَ الإسلامِ دارُ كفر، ودارهم هي دار الإسلام" [7] ، ولقد قال أبو قلابة: "ما ابتدَعَ رجلٌ بدعةً إلاَّ استحلَّ السيف" [8] ، فلا حول ولا قوّة إلا بالله، يجمعون بين الجهل بدين الله وظلمِ عبادِ الله، وبِئستِ الطّامّتان الدّاهيتان. إنّ مصيرَ الغلاة هو الهلاك بنصّ حديث رسول الله : ((هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون)) [9].
أيها المسلمون، إنّ مسالكَ الغلوّ وأساليب العُنف من تفجير وتدمير وسطوٍ ونسف وسفكٍ للدماء لا تهزم القيَم الكبيرةَ، ولا تقوِّص المنجزاتِ السامِقة، لا تحرِّر شعبًا، ولا تفرِض مذهبًا، ولا تنصُر حِزبًا. إنّ العنفَ والإرهاب وسفكَ الدماء لا يمكِن أن يكونَ قانونًا محتَرَمًا أو مسلكًا مقبولا، فضلا عن أن يكونَ عقيدةً أو دينًا. الغلوّ والعنفُ والإرهاب لا يحمِل غيرَ التخريب والإفساد. الغلوّ والعنف لم يفلح في أيّ مكانٍ من العالم في تحقيق أهدافه، بل إنّه يقضي على أصحابه. الغلوّ والإرهاب لن يغيِّر سياسة، ولن يكسبَ تعاطفًا، بل يؤكِّد الطبيعةَ العدوانيّة والروحَ الدمويّة لتوجّهات أصحابه الفكريّة، والمشاعر والعقول كلُّها تلتقي على استنكاره ورفضِه والبراءةِ منه ومن أصحابه، ومن ثَمَّ فإنّه يبقى علامةَ شذوذٍ ودليلَ انفراد وانعزالية.
ومن أجل هذا فإنّ الناظرَ والمتأمِّل ليقدِّر هذه الوقفةَ الواحدةَ التي وقفتها الأمّةُ ضدّ هذا التصرّف المشين والعملِ الإجراميّ الآثم، لقد وقفت الأمّة صفًّا واحدًا خلفَ قيادتها وولاةِ أمرها تستنكِر هذا العملَ وتدينه ولا تقبَل فيه أيَّ مسوِّغ أو مبرِّر، وتتبرّأ من فاعلِيه، والأمّة مؤمنةٌ بربّها، مستمسكة بدينها، مجتمِعة حولَ ولاةِ أمرها، محافظةٌ على مكتسباتها، وكلّنا بإذن الله حرّاسٌ للعقيدة حماةٌ للدّيار غيارَى على الدين غَيارَى على الحرمات، فيجِب على من اطَّلع على أنّ أحدًا يُعِدّ لأعمالٍ إجرامية أو تخريبيّة أن يبلِّغَ عنه، ولا يجوز التستُّر عليه.
إنّ هذه البلاد لن تهتزَّ بإذن الله من أيّ نوعٍ من أنواع التهديد أو الابتزاز الذي يحاول النيلَ من ثوابتِها الإسلاميّة وسياستِها وسيادتها، وإنّ الأمةَ والدولةَ واثقة من خَطوِها ثابتة على نهجِها في شجاعةٍ وصَبرٍ وحِلم وتوازُن وبُعدٍ في النّظر والرّؤية.
أيّها المسلمون، إنّ كيانَ هذه الدّولة قام واستقام على قواعدَ ثابتةٍ وأصولٍ راسخة من الدين والخِبرة والعِلم والعمَل، جهودٌ جبّارة في التأسيس والبناء لا يمكِن هزّها، فضلا عن تقويضها بمثلِ هذه التصرّفاتِ غيرِ المسؤولية.
إنّ كيانُ الدولة يعكِس نهجَ أهله في الجمع بين المحافظةِ على دين الله في عقائدِه وشعائره مع مسيرة التطوير والتحديث المشروعة في التّعليم والاقتصادِ والاجتماعِ والتّخطيط وصنع القَرار.
إنّ دولةً هذا شأنُها وهذهِ خصائصُها لا يصلُح لها ولا يناسِبها الخلطُ بين الإسلام الحقّ وبين الانحرافِ باسم الإسلام، كما لا تقبَل أن يُضربَ الإسلام أ ويُنتقصَ بحجّة وجودِ بعض الغلاة.
إنّ منهجَها وقفُ السلوكِ الشاذّ ليبقى الإسلام الحقُّ الأقوَم، وهذه الأحداثُ تبقى في دائرة شذوذِها، وليطمئنّ أهل البلاد والمقيمون على أنفسِهم وأهليهم وأموالهم وحقوقِهم.
وأهلُ هذه البلادِ وكلّ محبٍّ لها يتطلّع إلى المزيدِ من الاستمساك بدين الله والمزيد من الدّعم للدين وأهلِه والعلم الشرعيّ ورجاله والحِسبة وأهلها وكلّ عاملٍ مخلص من أيّ موقعٍ وفي أيّ مِرفق في شأن المجتمع كلِّه.
وبعد: أيّها المسلمون، فإنّ المسؤوليةَ عظمى، والجميع في سفينةٍ واحدَة، ومَن خرقها أغرقَ الجميع.
إنّ التهاونَ والتّساهلَ يؤدِّي إلى انفلاتٍ وفوضى، وإنّ الإحساسَ الجادَّ بالمسؤوليّة وخطر النتائج هو الذي يحمِل كلَّ عاقلٍ وكلّ مخلص على رفضِ هذه الأعمال وعدم قبول أيّ مسوّغ لها ولزوم فضح أهلها وآثارها ونتائجها. ولْيحذرِ المسلم أن يصدرَ منه شيءٌ يثير الفتنة، أو يسوِّغَ لهؤلاء وأمثالِهم ضلالَهم وجَهلهم وإجرامَهم.
ومع يقين المؤمِن بأنّ الله حافظٌ دينَه ومُعلٍ كلمتَه وجاعلٌ كيدَ الكائدين في تضليل إلاّ أنّ المسؤوليةَ عظيمة، فلا بدّ من الوقفةِ الصّادقةِ من أجلِ وضعِ الأشياء في مواضعها والأسماء في مسمّياتها، فالإسلام إسلام، والإجرامُ إجرام، والإصلاحُ غيرُ الفساد، وإيذاءُ المؤمنين وسفك دماء المسلمين غيرُ الجهاد المشروع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:204، 205].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبهدي محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الديات (6862) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[2] سنن الترمذي: كتاب الديات (1315)، سنن النسائي: كتاب المحاربين (3922) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعقبة بن عامر وابن مسعود وبريدة"، وأشار إلى أن وقفه أصح من رفعه، وكذا رجّح وقفه البيهقي في الكبرى (8/22)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (439).
[3] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5058)، ومسلم في الزكاة (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[4] أخرجه أحمد (1/215)، والنسائي في المناسك (3057)، وابن ماجه في المناسك (3029)، وابن الجارود (473)، والضياء في المختارة (10/30-31) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه ابن خزيمة (4/274)، وابن حبان (3871)، والحاكم (1/466)، ووافقه الذهبي، وقال ابن تيمية في الاقتضاء (ص106): "وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم"، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (1283).
[5] صحيح البخاري: كتاب التوحيد (7432)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[6] علقه البخاري بصيغة الجزم في كتاب استتابة المرتدين، باب: قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، قال الحافظ في الفتح (12/286): "وصله الطبري في مسند علي من تهذيب الآثار... وسنده صحيح".
[7] مجموع الفتاوى (19/73).
[8] رواه الدارمي في مقدمة سننه (99).
[9] أخرجه مسلم في العلم (2670) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله، أنار بنورِ هدايته قلوب أهل السعادة، فهي لربها طائعة منقادة، أحمده سبحانه وأشكره وقد تأذن للشاكرين بالزيادة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة الحقِّ والتوحيد واليقين [أعظم] من شهادة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله ذو الشرف الأسنى والكمال والسيادة، صلى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، والتقرّبُ إليه بحبّهم عقيدة وعبادة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون، إن هذه الاعتداءَات الآثمة والأفعال الطائشة والتصرّفاتِ الإجرامية لن تثني إخواننا رجالَ الأمن عن مواصلة استبسالهم في أداء واجبهم ومواقفهم البطولية المشهودة، في إخلاصٍ وتفانٍ وإتقان وكفاءةٍ؛ لأنهم مطمئنون أنهم على الحقّ والهدى بإذن الله. بأعمالهم ويقظتهم تبقي هذه البلاد عزيزةً محفوظة رافعةً لمنار الدين وراعية الإسلام بتوفيق الله وفضله ومنِّه.
إنهم مصدر الفخر والاعتزاز، بل هم بإذن الله صمّام الأمان في حماية دار الإسلام، بلاد الحرمين الشريفين ومهد مقدّسات المسلمين. إنهم بفضله وتوفيقه حماةُ الدين وحماة مهبط الوحي، وسيظلون تاج الرؤوس ومصدرَ طمأنينة النفوس.
أيها المسلمون، إن مسؤولية مواجهة هؤلاء الضالين ليست على رجال الأمن وحدهم، ولكنها مسؤولية الجميع، كلٌّ حسب موقعه.
إن الإحساسَ بالخطر على الدين والأهل والديار والفرقة والفوضى هو الأمر الذي يجب أن يستشعره الجميع؛ ليكونوا أكثر يقظةً وحذرًا ونباهةً، ولتكون التصرّفات أكثر وعيًا وحِكمة لما يُحاك ضدّ هذه الأمة ودينها وأهلها وأمنها وولاة الأمر فيها.
وبعد، فعلى الرغم ممّا ينبغي من يقظة وحذر فليهنأ المسلمون في هذه البلاد ـ مواطنين ومقيمين ـ بدينهم وأمنهم، ولتهنأ الدولة حفظها الله برجالها الفضلاء وجنودها البواسل المخلصين، ولتطمئن الأمة بإذن الله إلى وعي ولاة الأمور ويعظتهم في مواقف لا يُقبَل فيها إلا القوّة الحزم. فالحمد لله ثم الحمد لله ثم الحمد لله على نعمِه التي لا تُحصَى؛ جمع كلمتنا على الحق، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنة، جمعنا على إمام واحد ودين واحد وبلدٍ واحد، فنسأله سبحانه أن يزيدنا أمنًا واستقرارًا ونعمةً وفضلاً وصلاحًا وفلاحًا، وأن يردَّ كيدَ الحاقدين ومكر الماكرين على بلادنا وأئمتنا وولاة أمورنا وعلمائنا وأهلينا، كما نسأله سبحانه أن يمُدّ الساهرين على أمتنا وراحتنا بعونه وتوفيقه، وأن يسدِّد آراءهم وخُططهم ويبارك في أعمالهم وجهودهم ويربطَ على قلوبهم ويكشف لهم كلَّ غامض وأن ينصرهم على كلّ مفسد ومخرِّب ومحارب، إنه سميع مجيب.
ألا وصلّوا وسلّموا على نبيّ الرحمة والملحمة النبي المصطفى والرسول المجتبى، فقد أمركم بذلك المولى جلّ وعلا فقال في محكم تنزيله وهو الصادق في قيله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر والخلق الكمل، وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهمَّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/3137)
أمنيات الموتى
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, الموت والحشر
محمد بن إبراهيم النعيم
الهفوف
21/6/1423
جامع الصيهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أماني الأحياء. 2- الحديث عن الأموات. 3- ما يتمناه الميت في قبره. 4- الغفلة عن الموت. 5- التذكير بالموت. 7- الحث على اغتنام الأوقات.
_________
الخطبة الأولى
_________
لكل إنسان في هذه الحياة أمان كثيرة ومتعدّدة، وتتفاوت هذه الأماني وتتباين وفقا لاعتبارات عديدة، منها البيئة التي يعيش فيها الفرد، والفكر الذي تربى عليه، والأقران الذين يحيطون به. فلو سألتَ إنسانا: ما أمنيتك في هذه الحياة؟ فإن كان من وسط فقير وعاين الفقر وأحسّ بألمه واكتوى به لتمنى أن يعيش غنيا وأن يملك العقارات والسيارات ليعيش منعمًا كما يتنعّم غالب الناس. ولو قابلتَ مريضا طرحَه المرض على الفراش فشلّ حركته وقيّد حريته ومنعه حتى من لذة الطعام والمنام وسألته عن أمنيته لرأيتَه يتمنى أن يعافى من مرضه ولو افتدى بماله كله. ولو سألت طالبا جامعيا عن أمنيته لرأيته يتمنى وظيفةً مرموقة تكفيه وزوجةً حسناء تغريه ومنزلا واسعا يؤويه. ولو سألت بعض الأغنياء عن أمنياتهم لرأيتهم يتمنّون مزيدا من الغنى ليكونوا أغنى من فلان وعلان. وهكذا فالمقلّ لا يقنع والمكثر لا يشبع، وأماني الدنيا لا تنتهي، وصدق رسول الله حينما قال: ((لو كان لابن آدم واد من نخل لتمنى مثله، ثم تمنى مثلَه، حتى يتمنى أوديةً، ولا يملأ جوفَ ابن آدم إلا التراب)) رواه الإمام أحمد وابن حبان عن أنس رضي الله عنه، أي: لا يزال ابن آدم حريصًا على الدنيا حتى يموت ويمتلئ جوفه من تراب قبره.
أيها الإخوة في الله، ومع هذه الأماني المتباينة فإنّ الجميع تراهم يسعَون ويكدحون طوال حياتهم لتحويل أحلامهم وأمنياتهم إلى واقع، وقد يوفقهم الله تعالى إلى تحقيقها متى بذلوا أسباب ذلك، ولكن هناك فئة من الناس لا يمكنهم تحقيق أمنياتهم، ولا ينظَر في طلباتهم، فمن هم؟ ولماذا لا تحقَّق أمنياتهم؟ وهل يمكننا مساعدتهم أو تخفيفُ لوعاتهم؟ هذا ما سنعرفه في هذه الخطبة إن شاء الله.
أما عن هذه الفئة التي لا يمكنها تحقيق أمنياتهم فهم ممن أصبحوا رهائن ذنوب لا يطلَقون، وغرباء سفر لا ينتَظرون، إنهم الأموات يا عباد الله.
فماذا يتمنى الأموات يا ترى وقد انقطع عنا خبرهم واندرس ذكرهم؟ ومن يا ترى يستطيع أن يحدّثنا عن أمنياتهم؟ تعالوا لنتحدّث قليلا عن هذه الفئة المنسيّة، لنعرف أمنيات أناس بعد أن عاينوا الجنة والنار، ورأوا ملائكة الله، وأصبح الغيب لديهم شهادة، وعرفوا حقيقة الدنيا والآخرة، وأيقنوا وهم في برزخهم أنهم سيبعثون ليوم النشور، فهل يتمنون العودة إلى هذه الدنيا ليتمتعوا بالحياة ويحسّوا بلذتها وطعمها، أو ليملكوا مزيدا من العقارات ويجوبوا الأرض سياحة ولهوا؟!
إن أمنية الكثير من الناس في هذه الحياة لا يزيد على وظيفةٍ وزوجة ومركبٍ هنيءٍ وبيتٍ واسعٍ وأملاكٍ وعقاراتٍ وتمشياتٍ وسهراتٍ وحضورٍ ولائم وحفلات، أما الأموات فماذا يريدون من دنيا رحلوا عنها واغتروا بها وعرفوا حقيقتها وخلفوها وراء ظهورهم؟!
فلنسمع ما نقله لنا كتاب ربنا وسنة نبينا محمد عن أمنيات الموتى:
أولا: يتمنى الميت لو تعاد له الحياة ليصلّي ولو ركعتين، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله مر بقبرٍ فقال: ((من صاحب هذا القبر؟)) فقالوا: فلان، فقال: ((ركعتان أحبّ إلى هذا من بقية دنياكم)) رواه الطبراني وصححه الألباني، وفي رواية قال : ((ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون يزيدها هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم)).
فغاية أمنية الميت المقصر أن يُمدَّ له في أجله ليركع ركعتين يزيد فيها من حسناته ويتدارك ما فات من أيام عمره في غير طاعة. ألم تسمعوا وصية رسولنا وهو يقول لنا معشرَ الأحياء: ((الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليكثر)) ؟!
لقد عاين ذلك الميت وهو في قبره ثوابَ الصلاة، ورأى بأمّ عينه فائدة الصلاة، فتأسف على أيام أمضاها في غير طاعة، على ساعات مضت أمام شاشات اللهو والمجون، لم يجن منها سوى الحسرة والندامة، وها نحن نرى رسول الله يترجم لنا أمنية ذلك الميت وهو في قبره، يتمنى أن يصلي، يتمنى أن يعود إلى الدنيا لدقائق معدودة ليركع ركعتين فقط لا غير، لا يريد من الدنيا إلا ركعتين، لأنهما الآن أصبحتا عنده تعدل الدنيا بما فيها، وماذا عسى أن تساوي الدنيا عنده وقد خلّفها وراء ظهره وارتهن بعمله؟!
اغتنم في الفراغ فضل ركوع فعسى أن يكونَ موتك بغتة
كم صحيح رأيتَ من غير سُقم ذهبتْ نفسه الصحيحة فلتة
فغاية أمنية الموتى في قبورهم حياة ساعة، بل دقيقة، يستدركون فيها ما فاتهم من توبة وعمل صالح، أما نحن أهل الدنيا فمفرّطون في أوقاتنا بل في حياتنا، نبحث عما يقتل أوقاتنا لتذهب أعمارنا سدى في غير طاعة، ومنا من يقطعها بالمعاصي، ولا ندري ماذا تخبئ لنا قبورنا من نعيم أو مآسي، نسمع المنادي ينادي إلى الصلاة، ولكن لا حياة لمن تنادي.
أيها الإخوة في الله، أما الأمنية الثانية التي يتمناها الموتى فهي الرجوع إلى الدنيا ولو لدقائق معدودة ليتصدّقوا، ليقدّموا صدقة لله، ولقد نقل الله لنا أمنيتهم هذه في قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10، 11]. لقد اقتنعوا ـ ولكن بعد فواتِ الأوان ـ أن الصدقة من أحبّ الأعمال إلى الله، وأن العبدَ سيسأل عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ فتمنّوا الرجعة ليقدموا صدقتهم بعد أن منعوها الفقير وصرفوها على شهواتهم وسياحتهم، فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ، إنها أمنية مليئة بالحسرة والأسف، ولكنها جاءت متأخرة.
أيها الإخوة في الله، أما الأمنية الثالثة التي يتمناها الموتى فهي العودة إلى الدنيا ولو للحظات معدودة ليكونوا صالحين، ليعملوا أيَّ عمل صالح، ليصلِحوا ما أفسدوا، ويطيعوا الله في كل ما عصوا، ليذكروا الله تعالى ولو مرة، يتمنّون النطق ولو بتسبيحة واحدة، ولو بتهليلة واحدة، فلا يؤذن لهم، ولا تحقّق أمنياتهم، قال الله عز وجل في شأنهم: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100]، هذا هو حال المقصّر مع الله تعالى، يقول: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ، يقول: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:58].
أما المؤمن ـ يا عباد الله ـ فإنه إذا أدخل قبره وبشر بالجنة ورأى منزلته فيها فإنه لا يتمنى أن يعود إلى الدنيا، بل يتمنى أن تقوم الساعة ليدخل في ذلك النعيم المقيم الذي ينتظره. لقد ذكر لنا رسول الله أن العبد المؤمن إذا أجاب على أسئلة الملكين وهو في قبره ((نادى مناد من السماء: أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مدّ بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: ربّ أقم الساعة ربّ أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي)). هذه أمنية الرجل الصالح ـ يا عباد الله ـ في قبره أن تقوم الساعة.
وأما الكافر أو المنافق فعلى الرغم من شدّة العذاب الذي يلاقيه في قبره فإنه يدعو: ربّ لا تقم الساعة ربّ لا تقم الساعة؛ لأنه يعلم أن ما بعد القبر هو أشدّ وأفظع، كما صح عن النبي أن المؤمن إذا بشر في قبره بالجنة يتمنى أن يعودَ إلى أهله ليبشرهم بنجاته من النار وفوزه بالجنة، إذ روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إذا رأى المؤمن ما فسح له في قبره فيقول: دعوني أبشر أهلي)) ، وفي رواية: ((يقول: دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي، فيقال له: اسكن)) رواه الإمام أحمد.
ولقد قصّ الله عز وجل علينا قصة صاحب يس الذي كان حريصا على هداية قومه إلا أنهم قتلوه وهو يدعوهم إلى الإيمان بالله ورسله، فلما عاين كرامة الله عز وجل له وفوزه بالجنة تمنى أن يعلم قومه بذلك كي يؤمنوا، فقال تعالى في شأنه: قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ [يس:26، 27]، أي: تمنى أن قومه الذين حاربوا دين الله ورفضوا الاستجابة لأوامر الله أن يعلموا ماذا أعطاه الله من نعيم وثواب جزيل. هذا ما يتمناه المؤمن في قبره. أما الشهيد فبالرغم من عظم منزلته الرفيعة التي يراها أعدّت له في أعلى درجات الجنة فإنه يتمنى أن يعود إلى الدنيا ولكن ليستمرّ في جهاد أعداء الله، فيقاتل ويُقتل ولو عشر مرات، لما يرى من ثواب الجهاد وكرامة المجاهدين عند الله عز وجل.
اسمعوا ما نقله لنا الصادق المصدوق عن أمنية كلّ شهيد، حيث روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرّها أن ترجع إلى الدنيا وأن لها الدنيا وما فيها إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى لما يرى من فضل الشهادة)) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية أخرى قال : ((ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وأن له ما على الأرض من شيء غير الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة)).
أيها الإخوة في الله، إن الميت العاصي إذا هجمت عليه منيته وأحاطت به خطيئته وانكشف له الغطاء صاح: وا منيّتاه، وا سوء منقلباه، رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت. هذه هي أمنيته الوحيدة.
فالموتى قد انتهت فرصتهم في الحياة، وعاينوا الآخرة، وعرفوا ما لهم وما عليهم. أدركوا أنهم كانوا يضيعون أوقاتهم فيما لم يكن ينفعهم في آخرتهم، أدركوا أن الوقت الذي ضاع من بين أيديهم كان لا يقدّر بثمن، أدركوا أنهم كانوا في نعمة ولكن لم يستغلوها، وأصبحوا يتمنون عمل حسنة واحدة لعلها تثقل ميزانهم، فلا يستطيعون.
إن أكثر ما يكون الإنسان غفلة عن نعم الله عليه حينما يكون مغمورا بتلك النعم، ولا يعرف فضلها إلا بعد زوالها. فنحن ـ معشر الأحياء ـ في أكبر نعمة طالما أن أرواحنا في أجسادنا لنستكثر من ذكر الله وطاعته، ألا تعلم ـ أخي المسلم ـ بأن رسولنا محمدا أمرنا عند الاستيقاظ من النوم أن نحمد الله تعالى لأنه أحيانا بعد أن أماتنا وأذن لنا بذكره؟! لأن النوم هو الموتة الصغرى، فقد روى ابن السني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إذا استيقظ أحدكم فليقل: الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره)).
نحن نملك الآن نعمة الحياة لنزيد من حسناتنا ونكفّر عن سيئاتنا، فإذا متنا ندمنا على كل دقيقة ضاعت ليس فيها ذكر لله وليست في طاعة الله، فاغتنموا ساعات العمر ودقائقه قبل أن تندموا فتتمنوا ما يتمناه بعض الموتى الآن.
قال إبراهيم بن يزيد العبدي: أتاني رياح القيسي فقال: يا أبا إسحاق، انطلق بنا إلى أهل الآخرة نُحدثُ بقربهم عهدا، فانطلقت معه فأتى المقابر فجلسنا إلى بعض تلك القبور، فقال: يا أبا إسحاق، ما ترى هذا متمنّيا لو مُنَّ؟ ـ أي: لو قيل: له تمنَّ ـ قلت: أن يُردَّ والله إلى الدنيا فيستمتع من طاعة الله ويُصلح، قال: ها نحن في الدنيا فلنطع الله ولنصلِح، ثم نهض فجدّ واجتهد، فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات رحمه الله تعالى [إيقاظ أولي الهمم (ص357)].
فإذا زرت المقبرة قف أمام قبر مفتوح، وتأمل هذا اللحد الضيق، وتخيل أنك بداخله، وقد أغلق عليك الباب، وانهال عليك التراب، وفارقك الأهل والأولاد، وقد أحاطك القبر بظلمته ووحشته، فلا ترى إلا عملك. فماذا تتمنى يا ترى في هذه اللحظة؟ ألا تتمنى الرجوع إلى الدنيا لتعمل صالحا، لتركع ركعة، لتسبّح تسبيحة، لتذكر الله تعالى ولو مرة؟! ها أنت على ظهر الأرض حيًّا معافى فاعمل صالحا قبل أن تعضَّ على أصابع الندم وتصبح في عداد الموتى، تتمنى ولا مجيب لك. فإذا وسدت في قبرك فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد، فاعمل ليوم القيامة قبل الحسرة والندامة. قال إبراهيم التيمي: مثَّلتُ نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحا، قال: فقلت: أنت في الأمنية فاعملي. [حلية الأولياء (4/211)].
فيا عباد الله، نحن في دار العمل، والآخرة دار الجزاء، فمن لم يعمل هنا ندم هناك، وكل يوم تعيشه هو غنيمة، فإياك والتهاون فيه، فإن غاية أمنية الموتى في قبورهم حياة ساعة يستدركون فيها ما فاتهم من عمل صالح، ولا سبيل لهم إلى ذلك البتة.
لو قيل لقوم: ما مُناكمو؟ طلبوا حياةَ يومٍ ليتوبوا
فاعلمِ ويحكِ يا نفس ألا تيقظ ينفع قبل أن تزلّ قدمي
مضى الزمان في توانٍ وهوى فاستدركي ما قد بقيَ واغتنمي
فيا أُخيَّ المسلم، إذا زرتَ المقبرة أو شيّعت جنازة لا تكن عندها من الغافلين، ولا تكثر الحديث مع أحد، وإنما تذكّر أمنيات هؤلاء الأموات الذين من حولك المرتهنين بأعمالهم، واغتنم فرصتك في الحياة لتذكر الله كثيرا، لئلا تكون غدا مع الموتى فتصبح تتمنى كما بعضهم يتمنى. إذا هممتَ بمعصية تذكّر أماني الموتى، تذكّر أنهم يتمنّون لو عاشوا ليطيعوا الله، فكيف أنت تعصي الله؟! إذا رأيتَ نفسك فارغا فتذكّر أمنية الموتى، إذا هممتَ بمعصية فاذكر أمنية الموتى, إذا فترت عن طاعة الله فاذكر أمنية الموتى.
أيها الإخوة في الله، أما كيف نخفّف من لوعات الموتى فبالدعاء والاستغفار لهم والصدقة عنهم، فتلك أفضل هدية يتمنون وصولها منكم.
يا عباد الله، اجعلوا عبارة أمنيات الموتى على ألسنتكم، ودائما في مخيلتكم، فإنها خير معين لكم على فعل الخير، على الترحم على أموات المسلمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آل بيته الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واصرفوا أعماركم في طاعة الله، واعلموا أن كل ميت قصر في جنب الله قد عضّ على أصابع الندم، وأصبح يتمنى لو تعود له الحياة ليطيع الله ليرد حقّ إنسان. إن تسبيحة واحدة عندهم خير من الدنيا وما فيها. لقد أدركوا يقينا أنه لا ينفعهم إلا طاعة الله.
إن الذي يضيع وقته أمام وسائل اللهو، لو يعلم ماذا يتمنى الموتى لما ضيّع دقيقة واحدة. لو علمتَ ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك، ولرغبت في الزيادة من عملك، فاحذر زلل قدمك، وخف طول ندمك، واغتنم وجودك قبل عدمك. إنها قد تكون لحظات، فما ترى نفسك إلا في عداد الأموات، فانهل ـ يرحمك الله ـ من الحسنات قبل الممات. بادر إلى التوبة ما دمت في مرحلة الإمهال، قبل حلول ساعة لا تستطيع فيها التوبة إلى ربك، قبل أن يأتيك الموت بغتة فيحال بينك وبين العمل فتقول: يا ليتني قدمت لحياتي. اعلم أن الدقيقة التي تمر من حياتك يتمنى مثلها ملايين الموتى ليستثمروها في طاعة الله، ليحدثوا لله توبة، ليذكروا الله فيها ولو مرة، فلا تصرف دقائق عمرك في غير طاعة، لئلا تتحسر في يوم لا ينفع فيه الندم.
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:56-61].
نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا للاستعداد ليوم الرحيل، ولا يجعلنا في قبورنا من النادمين.
(1/3138)
أهمية الأمن
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
26/2/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شكر الله تعالى على نعمه. 2- نعمة الأمن جزء من الإسلام. 3- أركان الإسلام لا تتمّ إلا بالأمن وشعائره. 4- الأمن أساس المصالح الدنيوية. 5- نابتة العصر. 6- حادث قتل رجال الأمن. 7- وجوب التصدّي للمفسدين في الأرض. 8- دعوة الخارجين للرجوع إلى الحقّ. 9- الوصية بلزوم الجماعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حقَّ التقوى، وراقبوه في السرِّ والنجوى، فتقوى ربِّكم عدّتُكم للشدائد، وذخرٌ لكم يومَ القيامة، يوم لا تجزي نفسٌ عن نفس شيئًا ولا يقبَل منها عدل، ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصَرون.
أيّها الناس، اذكروا نعمَ الله عليكم التي لا تُعدُّ ولا تُحصَى، واحمدوا ربَّكم واشكروه على نعمة الإسلام الذي هو أجلّ النعم، فبه تدوم النِّعم، وتتمّ به، ويتمّ به إحسانُ الله على العباد.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن نعمةَ الأمن جزءٌ عظيم لا يتجزّأ من الإسلام. الأمنُ من تمام الدين، ولا يتحقَّق الإسلام إلاّ بالأمن، ولا يُعمل بشعائر الدين إلا في ظلِّ الأمن، قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55].
روى ابن جرير رحمه الله في تفسيره عن أبي العالية قال: مكَث النبي عشر سنين خائفًا، يدعو إلى الله سرًّا وعلانية، قال: ثم أُمر بالهجرة إلى المدينة، قال: فمكث بها هو وأصحابه خائفين، يصبحون في السلاح ويمسون فيه، فقال رجل: متى يأتي علينا يومٌ نأمَن فيه ونضَع عنا السلاح؟ فقال النبي : ((لا تلبثون إلا يسيرًا، حتى يجلسَ الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيًا فيه ليس معه حديدة)) فأنزل الله هذه الآية [1].
وبيّن الله تعالى أنَّ الصلاةَ لا تكون في تمامٍ وطمأنينة إلاّ في ظلّ الأمن، قال الله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:238، 239]، وقال تعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103].
والزكاة لا تتحقّق جبايتها في الزروع والثمار وبهيمة الأنعام إلاّ مع الأمن ووجود جماعة المسلمين وإمامهم؛ لأن نوّاب الإمام هم الذين يجبون الزكاةَ في الأموال الظاهرة، ويفرّقونها في مستحقّيها، وقد قال الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [النور:56].
وصيامُ رمضان لا يكون إلا برؤيةِ هلاله، والفطرُ برؤية هلال شوّال، كما قال النبي : ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)) [2] ، وهذا يقتضي ثبوتَ الرؤيةِ عند الإمام أو نُوّابه وتبليغَ المسلمين ليصوموا وليفطروا، ولا يتحقّقَ هذا إلا باستتباب الأمن.
والحجّ لا يتحقّق إلاّ مع الأمن، قال الله تعالى: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ [البقرة:196].
والحدود لا تُقام ولا يُؤخَذ على يدِ المفسدين المجرمين العابثين إلاّ مع تحقُّق الأمن؛ لأنّ ذلك يقتضي قوةَ ونفوذَ وليِّ الأمر على الجماعة، قال الله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].
ولو تتبّع المسلم نصوصَ الكتاب والسنّة لوجَد أنّ الأمنَ جزءٌ لا يتجزَّأ ولا ينفصِل عن الإسلام، ولعلِم يقينًا بأن الأمنَ من تمام الإسلام، كما قال رسول الله لعديّ بن حاتم حين وفد عليه: ((أتعرفُ الحِيرة؟)) قال له: لم أعرفها ولكن قد سمعتُ بها، قال: ((فوالذي نفسي بيده، ليُتمّنّ الله هذا الأمرَ حتى تخرجَ الظعينة ـ أي: المرأة ـ من الحِيرة حتى تطوفَ بالبيت في غير جوارِ أحَد، ولتُفتَحَنَّ كنوز كِسرى بن هرمز)) ، قلت: كسرى بن هرمز؟! قال: ((نعم كِسرى بن هرمز، وليُبذلَنَّ المالُ حتى لا يقبله أحَد)) ، قال عديّ: فهذه الظعينة تخرج من الحِيرة فتطوف بالبيت في غير جِوار أحد، ولقد كنتُ فيمَن فتح كنوزَ كسرى بنِ هُرمز، والذي نفسي بيده لتكوننّ الثالثة لأنّ رسول الله قالها [3].
أيّها الناس، دينُ المسلم مرتبِطٌ بالأمن، مصالح الناسِ الدنيويّة أساسُها الأمن، فتبادُلُ المنافع والمصالح وانتظامُ التّجارة وتوظيف الأموال واستثمارها واتّساع العمران وفشوّ الماشية وأمان الأسفار والطرق وتزايد التنمية وانبساط الآمال في الحال والاستقبال كلّ ذلك لا يكون إلاّ مع الأمن، وضدُّ ذلك كلّه لا يكون إلا مع الخوف والفوضى.
وقد امتنّ الله تعالى بالأمن على أهل حَرَمه فقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67].
وإنّ هذه البلادَ قد منّ الله عليها بالأمنِ والإيمان وبنعمٍ لا تُعَدّ ولا تحصى، حتى صارت ـ ولله الحمد ـ مضربَ المثل في الأمن، ولكنها ابتُليت في هذه الأيامِ بشِرذمةٍ اعتنقت أفكارًا تخالف كتابَ الله وتخالف سنة رسول الله ، وخرجت على جماعةِ المسلمين وإمامهم، وعصى هؤلاء الخوارجُ الله تعالى، وعصَوا رسوله ، وعصَوا الإمام، وقد أُمِروا بالطاعة في قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((على المرءِ المسلم السمعُ والطاعة فيما أحبَّ أو كره، إلاّ أن يؤمَر بمعصية)) رواه البخاري ومسلم [4].
وعصى هؤلاء الخوارج الوالدين لمن كان له والِد، وشَقّوا عصَى المسلمين، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من فارَق الجماعة شبرًا فقد خلَع رِبقة الإسلامِ من عُنُقه)) رواه أبو داود [5].
وإنَ أعمى العَمى الضلالةُ بعد الهدى والعياذ بالله، فهؤلاء الخوارجُ قاموا بأعمالٍ شنيعة، وجمعوا بين معاصٍ وكبائر كثيرة، لا تفسَّر إلا أنها تخدِم أعداءَ الإسلام والمسلمين، وتضرّ غايةَ الضرَر الدينَ والمجتمع، فسفكوا الدمَ الحرام، واستحلّوا ما حرّم الله تعالى من دِماء المسلمين وأموالهم، واستحلّوا من رِجال الأمن ما حرّمه الله تبارك وتعالى.
ندعو الله تعالى ونتوسّل إليه بقُدرته ورحمته أن يتقبّل رجالَ الأمن الذين قُتِلوا في الشهداء، وأن يرفعَ درجاتهم في جنّات النعيم بما قدّموا لدينهم وبما خدَموا وطنَهم، وأن يُطفئ فتنةَ الخوارج المفسدين ويكُفّ شَرّهم عن الإسلام والمسلمين أبدَ الآبدين.
وإنّ ما يقوم به هؤلاء المفسدون ومَن وراءَهم لا يؤثِّر ولا يهزُّ أمنَ هذه البلادِ ولله الحمد، فالمجتمع مع ولاة أمره وعلمائه يقفون صفًّا واحدًا، ويتّخذون خندقًا واحدًا، يصدّون ويحاربون منه كلَّ فِكرٍ منحرِفٍ وكلَّ متربِّص بهذه البلاد حاقد، سواءً كان من الداخل أو من الخارج، امتثالاً لقول الله تبارك وتعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وقوله تبارك وتعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].
وإنّنا نوصي بأن يكونَ الجميع يدًا واحدةً وقلبًا واحدًا ضدَّ هذه الأعمال الإرهابية الآثمةِ لتُدفَن في مهدها، ويجب شرعًا البلاغُ عن أيِّ عملٍ من هذه الأعمال المحرّمة الآثمة بالرفع للسّلُطات، ومن لم يفعل ذلك فقد خان الله ورسولَه والمؤمنين؛ لأنّ شرَّ ذلك عامٌّ على الكافَّة.
وإنّا لندعو هؤلاء الذين تشرَّبوا هذه الأفكارَ التكفيريّة أن يرجعوا إلى الله تعالى، وأن يعودوا إلى رُشدهم، وأن لا ينجرفوا وراءَ أحدٍ في الغيِّ والضلال كائنًا من كان، وأن يُقبلوا على العلم الشرعيّ من الكتاب والسنة، وأن يسألوا أهلَ العلم عمّا يُشكل عليهم ليرشدوهم ويزيلوا عن قلوبهم هذا العمى بقول الله وقول رسول الله ، وأن يحذروا هذه الأعمالَ الإرهابيّة المفسدة التخريبيّة التي أُهدِرت فيها الدماء المحرّمة والأموال المعصومة، ففي الحديث: ((لزوال الدنيا بأسرها أهون عند الله من قتل رجلٍ مسلم)) [6].
وندعو هؤلاء الخارجين على جماعةِ المسلمين أن يشكروا اللهَ على نعمةِ الأمن؛ فإنّ كفرانَ النِّعَم ضامنٌ لتحوُّلها إلى ضدِّها، ولينظُروا إلى ما منّ الله به على هذه البلاد من النِّعم التي لا تُحصَى، وأن يتذكّروا مصائبَ وفتنَ الخوف والفوضى والفتنَ المظلمة المضِلَّة، وليعلموا أنّ الخروج على وليّ الأمر جامعٌ لكلّ المفاسدِ في الدين والدنيا، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيِّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] جامع البيان (18/159-160)، وهو حديث مرسل. وأخرجه الطبراني في الأوسط (7029)، والبيهقي في الاعتقاد (ص265)، والواحدي في أسباب النزول (ص328) عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه مختصرا، وصححه الحاكم (3512)، والضياء في المختارة (1145)، وقال الهيثمي في المجمع (7/83): "رجاله ثقات"، وفي سنده علي بن الحسين بن واقد ضعفه بعضهم.
[2] أخرجه البخاري في الصوم (1909)، ومسلم في الصيام (1081) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (4/257) عن عدي رضي الله عنه، وهو عند البخاري في المناقب (3595) بنحوه.
[4] صحيح البخاري: كتاب الجهاد (2955)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1839).
[5] سنن أبي داود: كتاب السنة (4758)، وأخرجه أيضا أحمد (5/180)، وابن أبي عاصم في السنة (892، 1053)، والحاكم (401، 402)، والبيهقي في الكبرى (8/157)، وصححه الألباني في ظلال الجنة (2/434). وفي الباب عن ابن عمر والحارث الأشعري ومعاوية وابن عباس وأبي هريرة وأبي الدرداء وعامر بن ربيعة رضي الله عنهم.
[6] أخرجه الترمذي في كتاب الديات (1395)، والنسائي في كتاب تحريم الدم (3987) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وليس فيه ((بأسرها)) ، وقال الترمذي: "وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعقبة بن عامر وابن مسعود وبريدة"، وأشار إلى أن وقفه أصح من رفعه، وكذا رجّح وقفه البيهقي في الكبرى (8/22)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (439).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القويّ المتين، وأشهد أنَّ نبينا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الأمين، اللهم صلّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حقَّ تقواه، وتقرّبوا إليه بما يرضاه.
أيّها المسلمون، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:24، 25]، أي: اتّقوا أسبابَ كلِّ فتنةٍ، إذا وقع جزاؤها وعقابُها لا تختصُّ بمن ظلم.
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعَظنا رسول الله موعظةً وجِلت منها القلوب وذرَفت منها العيون، فقلنا: يا رسولَ الله، كأنها موعظة مودِّعٍ فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمعِ والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، فإنه من يعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنّتي وسنّةِ الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإنّ كلَّ بدعة ضلالة)) [1]. فتمسَّكوا بهذه الوصيّة العظيمةِ في أموركم كلِّها عباد الله.
أيها الناس، إنّ الله تبارك وتعالى أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلوا وسلّوا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95)، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
(1/3139)
أسراب البعوض
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, الكبائر والمعاصي
فيصل بن سعود الحليبي
الهفوف
24/10/1419
جامع النجار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مثل البعوض. 2- بعوض البشر. 3- حرمة أعراض المسلمين. 4- جريمة الإفساد بين الناس. 5- التحذير من تتبع العورات والتجسس. 6- مقصد الترابط والتآلف في الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: اتقوا الله عباد الله، وراقبوه في سركم وجهركم، واعلموا أنه يراكم في ليلكم ونهاركم، وحِلّكم وسفركم، ويعلم ما تكنّه صدوركم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أحبتَنا الكرام، يقول الله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26].
قد يعجب البعض من ضرب الله مثلاً بالبعوضة في القرآن الكريم، تلك الحشرة الصغيرة التي تبحث عن أكثر أماكن الإنسان نورًا لتحطّ رحالها فيه، فتحيل هدوءَه إلى تضجُّر وتبرّم، فتختفي مرة وتبدو مرة أخرى، محاولةً الانقضاض عليه في وقتٍ قد أخلدت جوارحه فيه إلى السكون والراحة، ثم تهبط بخلسة على ذلك الجسد الآمن، وصاحبه لا يشعر بهذا التخطيط، ولا يحسّ بذلك الكيد، ثم تسلّط رمحها البغيض على جسده المستقر، وفي برهة من الزمن ينتبه ذلك المسكين بأنه طعِن غيلة، وسُرق أفضل دمه من جسده، فيتلفّت يمنة ويسرة ليرى بأم عينيه أنها البعوضة، تلك الحشرة التي تعيش على الآخرين، تهجم عليهم في غفلاتهم، وتمتصّ منهم دماءهم، فلا يملك حين يراها قد أفلتت طائرةً من بين يديه إلا أن يطلق دعوات ممتزجة بزفرات التظلُّم والقهر بأن لا يحالفها التوفيق، وأن يشفي غيظ قلبه فيها بأن يراها ميتة ودمه يقطر منها.
عذرًا ـ أيها الأحبة ـ إن كنت اليوم قد جرحت مشاعركم وآذيت مسامعكم بالكلام عن هذه الحشرة أعزكم الله، غير أني وجدتها في هذا الزمن تقود فئامًا من الناس إلى قذارتها، وتنهج بهم سبيلها المظلم القاتم، فساروا خلفها، واتبعوا أثرها، يبنون حياتهم على أذى الآخرين، ويسعدون أنفسَهم على حساب غيرهم، فارتضى بعضهم أن يلوكَ لحمَ أخيه ميتا، فهو لا يشغل وقته إلا بذكر أسوأ أحوال إخوانه المسلمين، يتلذّذ باستنقاصهم، ويستطعم النيلَ منهم، يصفهم بأقبح الأوصاف، ويسمِهم بأشنع السِّمات، يُضحك القومَ بأخبارهم، ويبهج الأعداءَ بشرّ أقدارهم، سلِم من لسانه اليهود والنصارى، ولم يسلم إخوانه منه. فيا عجبًا من هؤلاء! كيف وقر الوقر في آذانهم من قول الباري سبحانه وتعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12]؟! أم كيف جهلوا قول الحبيب : ((لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)) رواه أبو داود؟!
فاتق الله ـ يا عبد الله ـ أن تكون ممن يخمشون وجوههم وصدورهم بأظفار من نحاس، بل واتق الله أن تكون ممن ينصت لهؤلاء في طعنهم في أعراض الناس والأكل من لحومهم، لا تتردّد أن تسكتَ ألسنتهم عن هذا الحرام، وكن درعًا لظهر أخيك في الغيب، ليردّ الله عنك النار يوم القيامة؛ فإن رسول الله يقول: ((من ردَّ عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن".
أيها المسلمون، وحملت فئة من كتائب البعوض لواءَ السعي بين الناس بالإفساد وإفشاء العداوة بين الأشقاء والأصدقاء، فلا يهدأ لهم بال حتى يرَوا الصديقين الحميمين قد تعاديا، والزوجين الحبيبين قد تفرّقا، والقريبين المتآلفين قد اختلفا، سرى حبّ النميمة مجرى الدم في عروقهم، يحرقهم صفاء الأفئدة، ويغيظهم حب التآلف، مرضت نفوسهم، واسودّت قلوبهم، فأيّ ذمّ نذمهم بعد ذمّ خالقهم لهم في كتابه العزيز حين قال: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم:11]؟! وأيُّ وعيد يذكر لهم بعد وعيد الرسول حين مرَّ بقبرين فقال: ((إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ)) رواه البخاري؟! فإذا كان هذا الحال الموحش لصاحب النميمة في قبره فما حاله يوم يقف بين يدي ربه وأمام خصمه؟!
وتستطيب فئة من معسكر البعوض البحثَ عن عيوب الناس، فيرون القذاةَ في أعين إخوانهم، ولا يرون الجذع في أعينهم، أصبح الاستهزاء لهم طبعًا، والسخرية لهم سمتا، ما إن يعثر أحدهم على عيب لأخيه ليس من كسب يده إلا ضخّموه، وأضافوا إليه الزور والبهتان، وطاروا به يذيعونه في المجالس والبيوت، يضحكون به أقرانهم، ويشفون به مرض نفوسهم، وقد حادوا بذلك عن منهج الله القويم في كتابه الكريم حيث قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11]، يقول الرسول : ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) رواه مسلم.
أحبتنا الكرام، لا تقلّ فئة من هؤلاء أذًى على المسلمين اعتادت أن تترصّد لأفعالهم وأقاولهم، فيستمعون منهم ما يكرهون سماعه، ويتجسّسون على ما يحبون إخفاءه، وقد تناسوا أن لعباد الله أسرارًا، بل قد تناسوا أن الله ينهاهم عن ذلك ورسوله ، يقول الحبيب : ((إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم، أو كدت تفسدهم)) رواه أبو داود بإسناد صحيح. ويضيف هؤلاء على خطيئتهم خطيئة حينما يلحقون هتكهم لأعراض الناس ـ بالغيبة والنميمة وغيرها ـ بالشماتة عليهم والفرح بمصائبهم، يقول الرسول : ((لا تظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله ويبتليك)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن".
اللهم آت أنفسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، وتوبوا إلى الله ـ أيها المؤمنون ـ لعلكم ترحمون.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، لقد حرص النبي على أمته أن تستظل بظل الإخاء والترابط، محذّرًا من العوامل التي تنقض عرى ذلك الرباط، ومخوّفًا من إنشاء العداوات وأسبابها الخفية منها والظاهرة، وإلا كيف يكون لهذا الدين كيان به تطبّق أحكامه ويهابه به أعداؤه؟! ولا سبيل ـ أيها الأحبة في الله ـ إلى هذه الغاية السامية إلا بتطهير القلوب من درن الغل المؤدي إلى تلك المساوئ التي تقدَّم الحديث عنها، والتي جمعها قول الهادي البشير حينما قال: ((لا تَحَاسَدُوا، وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ؛ لا يَظْلِمُهُ، وَلا يَخْذُلُهُ، وَلا يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا)) وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ((بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ)) رواه مسلم.
والخطر إنما يكمن في كون كثير ممن استمرأ الحياة على حساب الآخرين أن جعل الغيبة عنده تسلية، والنميمة نصيحة، والسخرية مزاحًا، والتجسّس حبّ اطلاع فحسب، والواقع أن العبرةَ إنما هي بالمعاني وليست بالألفاظ والأسامي.
لنعلم جميعًا أن كل هذه المحرمات توغر في الصدور الحقدَ والحسد، وتبني في القلوب صروحًا مظلمة من الشحناء والبغضاء، وإن أولها المزاح واللهو، ويكفي أنها تملأ الصحائف لغوًا ينكّس رأس الإنسان بين يدي خالقه يوم القيامة، ويخجله أمام خلقه، بل إنه وسيلة للإفلاس يوم لا سبيل إلى الغنى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟)) قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، فَقَالَ: ((إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)) رواه مسلم. فليتق الإنسان ربه، وليعط إخوانه المسلمين حقوقهم، لتحفظ له حقوقه، فما لا يرضاه لنفسه فيجب أن لا يرضاه لغيره.
صلوا ـ بعد ذلك ـ وسلموا على حبيب الله ومصطفاه، كما أمركم ربكم فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين...
(1/3140)
هل تسمع حقًّا؟!
الإيمان
حقيقة الإيمان
فيصل بن سعود الحليبي
الهفوف
9/3/1419
جامع النجار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغفلة عن الآخرة. 2- عبادة غير الله تعالى. 3- التسليم لأمر الله تعالى. 4- المستكبرون على أمر الله تعالى. 5- الخاضعون لأمر الله تعالى. 6- المبادرة إلى التوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:29].
كثيرة هي مشاغل الحياة، ومتتالية هي صروف الزمان، أحداث تتلوها أحداث، وخطوب تتبعها خطوب، والإنسان هو الإنسان، تغرّه الدنيا وقد علم دنوَّها، ويلهو عن الآخرة وقد أيقَن ببقائها، صبره على الطاعة قليل، وتطلُّعه إلى الهوى كثير، يكابِد الحياةَ بمرِّها وحلوها، ويغفل عن أسمى غايةٍ خُلق من أجلها، وربّه ينبهه إلى ساحلها فيقول سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
فسبحان الله، وجد من الإنس من لهث وراء الدرهم والدينار حتى عبده، ووجد منهم من عبد الزهو والفخر، ووُجد منهم من عبد زينة الدنيا الزائلة، فتعسًا لكل من رضي بغير الله ربًا، يقول الرسول : ((تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ)) رواه البخاري.
إن عبادة الدرهم والدينار والخميصة والقطيفة ليس ناتجًا من عقل صحيح، ولا من قلب سليم، بل من غفلة أعمتهم، حتى غدا الإنسان في زماننا يتخبط في مكابدته لهذه الحياة، يتجاهل أنه خلِق من أجل غاية، وغاية واحدة فقط، وهي عبادة الله وحده.
وهل أحد منا يعبد غير الله؟! سؤال يفترض أن يطرح وإن لم تتفوّه به الألسنة، ماذا فهمنا من معنى العبادة؟ أهي مسمّى الإيمان، أم هي رسم الإسلام، أم هي أن يفعل المسلم ما يحلو له من العبادات ويترك ما يخالف هواه منها؟! فيصلي وينظر إلى الحرام، ويصوم ويفطر على الحرام، ويتصدّق ولكن من الربا، ويتزوّج ويزني، ويصلي العشاء في وقتها، ويصلي الفجر في رابعة النهار، ويقوم بحقوق زوجته وذريته ويعقّ والديه، ويقرأ القرآن ويسمع الغناء، تلك هي صفة من صفات بني إسرائيل حينما أنكر الله عليهم ذلك فقال: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].
أخي الحبيب، كُرِّمت بعبادة ربك، فارعَ حقوقه، وفضِّلت برسالة نبيك محمد فأدّ أوامره، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]. فهل أخضعتَ قلبك وعقلَك لخالقك، فلم تجعل لنفسك رأيًا بعد رأي الله، ولا قضاءً بعد قضائه، ولم تجد في صدرك كراهية لما شرع، وسلّمت بعد ذلك تسليمًا؟! نعم، إننا نسمع الموعظة، ونحضر الجمع، ونصلّي مع الجماعات، ونتلو القرآن، وننصت للحديث، لكن ما حظّ جوارحنا من العمل بما سمعته آذننا وامتلأت به قلوبنا؟!
إنني أعلم وتعلمون أنّ النصيحة فيها ثقل على النفوس إلا على نفوس تربّت على محبة الله ورسوله ، وحرصت على النجاة بأنفسها وأهليها في يوم عظيم الكروب جسيم الخطوب، لكن ما فائدة السماع إن لم تصحبه الطاعة؟! وسائل نفسك: من الذي سمع فعصى؟ إنه أفجَر مخلوق عرفته البشرية منذ أن خلقها الله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ [البقرة:34]، فهل تعتقد أن إبليس لعنه الله لم يسمع أمر ربه؟! بل سمع فأبى أن يكون من الساجدين. أتعلم من الذي سمع ولم يطع؟! إنهم بنو إسرائيل، اسمع كيف خلّد الله معصيتهم له بقوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:93]. لقد كانوا يسمعون نداء الرحمن، ويدّعون الإيمان به، ولكن بئس السماع سماع لا يحيي في القلب طاعة، ولا يثمر في النفس استجابة.
أقوام عاشت على هذه الأرض، فأرسل الله لها من يرشدها إليه، فأبت إلا الطغيان والفساد، ولم ترض إلا بالرذيلة والفاحشة لباسًا، ولم ترغب إلا في الكفر وصفًا وسمتًا، فألبسهم الله لباسَ الخوف والجوع، وقلّب عليهم الديار رأسًا على عقب، وأغرقهم، وأنزل عليهم بأسَه الذي لا يردّ عن القوم المجرمين.
أيحبّ أحدنا إذا سمع الأمر بالخير والنهي عن الشر أن يكون كأمثال ذلك أو هؤلاء؟! الجواب بلا ريب: لا، ونِعم الجواب، ولكن ما معنى أن ينفر صاحب المعصية من النصيحة بتركها، وصاحب الفجور من الأمر بتركه؟! ما معنى أن نتبرم من نصيحة الناصحين وإرشاد المرشدين؟! نواجههم بالحجج، ونخاصمهم بالجدل. ألم يأن لألسنتنا حين يأتي الأمر من الله ورسوله أن تنطق فتقول: سمعنا وأطعنا؟! لقد امتثلتها الملائكة المقربون فهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ونطقت بها مخلوقات عظام ضخام، إنها السماوات والأرض حينما قال لها الله جل في علاه: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11]، وتفوّه بها أكرم خلق الله عليه فقال حكاية عنهم: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، وصدّق بها أصحاب محمد حينما جاءهم النهي عن شرب الخمر التي كانت لها الولع الشديد في نفوسهم، يتحفون بها مجالسهم، ويتناشدون في وصفها الأشعار، ويعاقرونها كلما اشتهوا، وما إن نزل قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] حتى دلق أحدهم إناءً قد وصل إلى فمه، لم يرض أن يؤجّل استجابته لربه ولو شربة واحدة، وقالوا بنفوس طيّعة راضية: انتهينا ربنا انتهينا، وكسروا القلال وأراقوها في طرق المدينة.
أما تنامى إلى أسماعنا قصة ذلك الصحابي البطل الذي زُفّ إلى زوجته في ليلة عرسه وعرسها، لكنه حينما سمع نداء الجهاد في سبيل الله، نهض بكل عزّة وكرامة ليستجيب لنداء ربه، فتوجه إلى أرض المعركة ليغرس قدميه فيها، إما أن يُزفَّ بعدها إلى زوجته منتصرًا مظفرا، أو يزفّ إلى الحور العين في جنّة ربه، وشاء الله تعالى أن يختاره شهيدًا، أما جنابته من عرسه فقد تكفّل الله تعالى أن تغسّله الملائكة الكرام، حتى رُئي أثر الغسل بعد استشهاده، وسمّي بعدها غسيل الملائكة، ذاك حنظلة بن عامر ، كل هذا الفضل وهذا التكريم بسبب استجابته لله ورسوله.
فهل فكّرنا في أن نترجم سماعنا للخير والموعظة إل عمل جاد واستقامة دائمة على دين الله؟! اللهم اهد قلوبنا لطاعتك، واشرح صدورنا لدينك، وتب علينا واغفر لنا، إنك أنت التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن دعى بدعوته واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله تعالى وطاعته، رضًا بأمره، وتسليمًا بربوبيته، وخضوعًا لعظمته.
أيها الأحبة في الله، ماذا ينتظر المسلم بعد سماع المعروف والأمر به، وبعد معرفة المنكر والنهي عنه؟! إن المسلم الواعي والمؤمن اليقظ هو من يبادر بالتوبة ويقلع عن الذنب بدون توانٍ أو تسويف، لأن الموت لا يطرق بابك يستأذنك في جذب الروح من الجسد، بل يأتيك بغتة، فاختر لنفسك ميتة حسنة تلقى بها ربك وتنال بها جنته ونعيمه. وماذا يظن صاحب المعصية بصاحب النصيحة؟! هل يظنه يريد أموالاً ودنيا وجاهًا ومنصبا؟! كلا، إنه يريد نجاتك فحسب، وإلا فأنت وهو ستقفان أفرادًا أمام الله تعالى، كل سيأخذ جزاءه، وينال نصيبه، فريق في الجنة وفريق في السعير والعياذ بالله، قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86]. إني أربأ بنفسي وبك أيضًا أن نكون ممن يقول الله فيهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:206].
فانتبه ـ يا رعاك الله ـ أن تستكبر على الموعظة بعد سماعها، أو أن تدبّر بظهرك عنها، أو تستحقر صاحبها، أو ترميه في نيته، وتسخر منه في خلقه أو خلقته، فإن من يهزأ بمثل ذلك يستهزئ الله به، وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:14، 15].
ولنعلم جميعًا أن أمتنا أمة الاستجابة لربها والرضا بدينها والاعتزاز بإسلامها، بنا يفاخر نبينا محمد أقوام الأرض كلها يوم القيامة، يقول الصادق المصدوق : ((عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، حَتَّى رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ أُمَّتِي هَذِهِ؟! قِيلَ: بَلْ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ، قِيلَ: انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ، فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلأُ الأُفُقَ، ثُمَّ قِيلَ لِي: انْظُرْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا فِي آفَاقِ السَّمَاءِ، فَإِذَا سَوَادٌ قَدْ مَلأَ الأُفُقَ، قِيلَ: هَذِهِ أُمَّتُكَ)) رواه البخاري.
هل أدركت ـ يا أخي ـ أن قلوبنا إلى الإيمان أقرب، وأنها فطرت على الاستجابة لربها سبحانه واتباع نبيه ؟! فقط تحتاج منك أن تجعل الدنيا كلها وراء ظهرك بما فيها من فتن وزينة ولهو ولعب وتقبل على الله تعالى، لترى بعينك سعادة لا تفوقها سعادة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24].
هذا وصلوا وسلموا على حبيب الله ومصطفاه، كما أمركم ربكم فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين...
(1/3141)
الديون وتدبير النفقة
فقه
الديون والقروض
عبد الرحيم بن إبراهيم الهاشم
الهفوف
جامع البندرية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفاوت الناس في الرزق والحكمة في ذلك. 2- الحكمة من تضييق الرزق على بعض العباد. 3- الواجب على من ضيِّق عليه في الرزق. 4- ضرورة تدبير النفقة. 5- التحذير من الإسراف والتبذير. 6- خطورة الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيها المؤمنون ـ بتقوى الله عزّ وجلّ لعلكم تفلحون.
تعلمون أنّ الله عز وجل خلق الخلق وتكفّل بأرزاقهم فقال سبحانه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، وفرق بينهم في أرزاقهم رحمةً بهم عن خِبرة وعلم وحكمة قال الله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [الإسراء:30]، ومن الحكمة في اختلاف أرزاقهم أن يعبده الأغنياء بالشكر والفقراء بالصبر، ولكي تعمر الأرض، وصدق الله العظيم: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32]، فالفقراء يرتزقون من الأغنياء بالعمل عندهم والتصدق عليهم، والأغنياء يرتزقون من الفقراء بقضاء حاجاتهم في البناء والصيانة والخدمة ونحوها، وبهذا تحصل عمارة الأرض وصلاحها.
أيها المؤمنون، إن ضيقَ الرزق على بعض الخلق رحمة من الله تعالى قال الله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ [الشورى:37]، لأنّ توسعة الرزق على بعض الخلق فساد له ولمجتمعه؛ قال رسول الله فيما يرويه عن ربه عز وجل: ((إن من عبادي من لا يصلح إلا الفقر إذ لو أغنيته لأفسده ذلك)) ، وفساده إما بتركه العملَ وجلوسه عاطلا وهذا فساد، أو باستعماله المال فيما يضر ببدنه ودينه ومجتمعه، فيضيّق الله تعالى عليه رزقه رحمةً به وبمجتمعه.
ومن ضيِّق عليه رزقه فعليه ثلاثة أمور:
أولاً: أن يحمد الله تعالى ويرضى بقضائه وقدره؛ فإنه عبادة لله تعالى يرتقي بها في درجات الجنة، وقد يكون تضييق رزقه عليه لأجل هذه العبادة.
ثانيًا: أن لا يترك العملَ ويأخذ من صدقات الناس؛ فإنها أوساخ أموالهم، بل يسعى في طلب الرزق بالحلال ولو كان العمل حقيرا. جاء رجل إلى رسول الله يسأله الصدقة، فأمره أن يشتري قدوما ويذهب ويعمل في جلب الحطب وبيعه مدة خمسة عشر يوما، وبعدها جاء ومعه عشرة دراهم، فقال له الرسول : ((هذا خير لك من أن تسأل الناس أعطوك أو منعوك)).
ثالثًا: تدبير النفقة على قدر رزقه، ولا ينظر إلى نفقة الأغنياء ولو كانوا أقاربه؛ فإنّ أبا ذر قال: أوصاني رسول الله أن أنظر إلى من دوني ولا أنظر إلى من فوقي.
عباد الله تعالى، دبّروا نفقاتكم على قدر أرزاقكم؛ فإنها طاعة لربكم ومجلبة لصحتكم وأمنكم وحفظُ نعمكم وسَعة أرزاقكم؛ قال الله تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:7]. فهذا أمر من الله تعالى بالإنفاق على قدر الرزق، ووعدٌ منه سبحانه للفقير باليُسر بعد العسر إذا أنفق على قدر رزقه، وهو وعد حق؛ لأن من أنفق على قدر رزقه ولم يستدِن ليجاري الأغنياء فإنه سيستغني؛ لأن تدبيره نفقتَه وعدم استدانته تؤول به إلى غناه بكسبه، فينفقه على نفسه وعياله، لا لسداد دينه فيبقى معسِرا.
ولا تسرفوا في نفقاتكم ولا تبخلوا؛ فإن الله تعالى وصف عباده المؤمنين بقوله: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، وبين سبحانه نتيجة التبذير والإسراف فقال: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [الإسراء:29]، فمن كان بخيلا لامه الناس، والبخل تركُ الإنفاق في الواجبات، ومن كان مسرِفا أو مبذّرا تحسّر على نفسه بذهاب أمواله. ، والتبذير الإنفاق فيما لا ينبغي، والإسراف الإنفاقُ فيما ينبغي أكثر مما ينبغي.
اللهم وفقنا للصالحات في الدنيا والآخرة، واكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك.
عباد الله، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها المؤمنون ـ بتقوى الله عز وجل، واعلموا أن من العبادة لله تعالى تدبيرَ المعيشة بطلب الرزق الحلال والاقتصاد في الإنفاق وعدم تحمّل الدين فيما يمكن الصبر على تركه، فإن الدين وسيلة إلى الكذب والسّجن والكدح الذي لا يطاق، وهو همّ بالليل وذلّ في النهار وحِرمان الثواب في القبر؛ قال رسول الله : ((يغفر للشهيد كلّ شيء إلا الدين)) ، ويقول : ((ذمة المؤمن مرهونة بدينه حتى يقضى عنه)) ، ولم يكن رسول الله يصلّي على ميتٍ عليه دين، ولذا فمن السنة تعجيل قضاء دين الميت قبل دفنه.
فاحذروا الدين، ولا تُقبِلوا عليه إلا عند الحاجة القصوى، واقصدوا سداده، وبادروا به قبل الموت، ولا تتّكلوا على الورثة في قضائه، فإن الصالح منهم قد يتأخر، وغير الصالح ومن لا يبالي لا يقضي، فأنقِذوا أنفسكم قبل أن تموتوا، ووثقوا ديونكم بكتابتها والإشهاد عليها حتى لا ينكرها الورثة فتأثمون أنتم دونهم.
أيها الإخوة، إنّ منا من يتجاهل حقوقَ الناس، فيتوسّع في الإنفاق في الكماليات وفي السفر للحج أو العمرة أو النزهة ونحوها، ويتصدّق ويهدي ويولم للآخرين، وهذه الأمور لا يحلّ فعلها من دَين أو ممن عليه دين إلا برضا الدائن؛ لأن قضاء الدين واجب، وهذه ليست بواجبة. ومن الناس من يتزوّج أو يتوسّع في أمور الزواج من دين، وهذا خطأ؛ لأن الله تعالى أمر العاجز عن الزواج بالصبر وليس بالاستدانة فقال الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ إلى قوله: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النساء:25]، وقال تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33]، وقال رسول الله : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم)) ، فأمر العاجزَ عن الزواج بالصوم وليس بالدين. فعلى الشباب تجنب مثيرات الشهوة، وعليهم الانشغال بما يعود عليهم بالخير والصبر من مجالسة الصالحين ودروس العلم، والكسب الحلال وإن قلّ أو ذلّ، وعليهم عدم الإسراف في المأكل والملبس والمركب؛ حتى يستغنوا ويتزوّجوا من سَعة لا مِن ضيق.
عباد الله، أكثروا من الصلاة والسلام على خير خلق الله تعالى؛ فقد أمركم الله سبحانه بذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك عليه وآله وصحبه...
(1/3142)
مسؤولية أمن الأمة
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
26/2/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مثل الآمرين بالمعروف والتاركين له. 2- وجوب الأخذ على أيدي السفهاء. 3- أمن الأمة مسؤولية الجميع. 4- المفسدون في الأرض. 5- حرمة الأنفس المعصومة. 6- مكر الأعداء بالأمة الإسلامية.
_________
الخطبة الأولى
_________
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في الصحيح عنه قال: ((مَثَل الواقع في حُدود الله والقائم فيها كمثل قوم استهموا سفينةً، فكان بعضهم أسفلَها وبعضهم أعلاها، فكان الذين في أسفلِها إذا استقوا فأتوا إلى مَن فوقهم فقالوا: لو خرقنا في نصيبنا خرقًا نستقي منه الماء ولم نؤذٍ من فوقنا)) ، قال رسول الله : ((فإن تركوهم وما أرادوا هلَكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجَوا ونجوا جميعًا)) [1].
أيها المسلم، إنَّ تدبُّر هذا المثلِ ليعطي المسلمَ تصوّرًا صحيحًا؛ أنّ الواجبَ على الجميع التعاونُ على البر والتقوى، وأن الواجبَ الأخذُ على أيدي السفهاء حتى لا يتمكّنوا من مرادهم، الأخذ على أيديهم وفرض الحق عليهم، فإنّ الأمةَ إذا لم يأخذ عاقلُها على يدي سفيهها وعالمها على يدِ جاهلها فإنّ الفوضى تعمّ الأمة، والنبي قال: ((والذي نفسي بيده، لتأخذنَّ على يد السفيه، ولتأطرنّه على الحق أطرًا، ولتقصرنَّه على الحقّ قصرًا، أو ليوشكنّ الله أن يضربَ قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم)) [2].
أيها المسلم، إنّ أمةَ الإسلام أمةُ تعاونٍ على الخير والتقوى، أمّةٌ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، تأمر بالمعروف وتحثّ عليه، وتنهى عن المنكر وتحذّر منه.
أمةَ الإسلام، إذا لم يؤخَذ على يد الظالم وإذا لم يكن لدى الجميع تعاونٌ على الحقّ وقطع خطِّ الرجعة على كلّ مفسدٍ وآثم، حتى يعلم أنّ الأمةَ في يقظةٍ وانتباه، وأن هذا المجرمَ والظالم لا يروج باطله وظلمُه على المجتمع المسلم.
أيها المسلم، إنّ واجبك أن تكونَ حريصًا على مصلحةِ أمتك حرصًا عظيمًا كما تكون حريصًا على مصلحة نفسك؛ لأنّ حرصك على مصلحة أمّتك يدلّ على وجود الخير والهدى في نفسك.
أيها المسلم، إنّ أهلَ الفساد والإجرام إذا لم يجِدوا لهم أرضيّة في أيّ مكان ووجدوا من المجتمع يقظةً وانتباهًا وأخذًا على يدِ كلّ مفسد وعدم تمكينه من إجرامه وفساده، عند ذلك يعلم أنّ الأمةَ في يقظةٍ فيكفّ شرّه وينتهي المسلمون من ضرره وأذاه.
أيها المسلم، إنّ نبيَّنا يقول: ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) ، قالوا: يا رسول الله، ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟! قال: ((تردعه عن الظلم، فذلك نصرك إياه)) [3].
أيها المسلم، إنّ أمةَ الإسلام تُصاب أحيانًا من فئاتٍ فسدت ضمائرها، ومن فئاتٍ ضعُف الإيمان في نفوسها، ومن فئات لا تبالي بمصلةِ دينها ودنياها، ومن فئاتٍ تغلغل الشرّ في نفوسِهم، فسَدت ضمائرهم، وقلّ حياؤهم، وانعدم الخير في نفوسهم، فهم لا يبالون بأيّ ضررٍ ألحقوه للأمة؛ لأنهم ـ والعياذ بالله ـ يعيشون مرضى القلوب، لا يهتمون بمصالح الأمة، ولا يقيمون لأمنها ومصلحتها أيَّ أمر.
هذه الفئةُ من الناس غرَّر بهم الأعداء، وخدَعهم الأعداء، وانقادوا للأعداءِ، فصاروا ـ والعياذ بالله ـ خنجرًا مسمومًا في نحور الأمة المسلمة.
هذه الفئةُ المنحرفة لا يمكن أن نتّقي شرَّها إلاَّ بتعاونٍ من الأمّة من أفرادها جميعًا؛ لأنّ الأمةَ تشعر أنّ ما تنعَم به من أمنٍ واستقرار وطمأنينة ورغدِ من العيش، تلك النعمةُ التي مَنَّ الله بها على الأمة، إنّ أولئك الفئة يسعَون في انتزاع كلّ خير من أيدي الأمة، يسعَون في ضرب الأمة بعضها ببعض، يسعَون في نشر الفوضى بين المجتمَع المسلم، والمجتمعُ المسلم يجِب أن يكونَ يقظًا حذِرًا منتبِهًا لكلّ مجرم يريد للأمة شرًّا، أن يأخذَ على يده، ولا يمكِّنه من ظلمه وجَوره، هذه مسؤوليةُ كلّ فرد منا، وإن تفاوتت المسؤولية على قدرِ مسؤولية الإنسان، لكن كلّ مسلم مسؤول عن أمن أمته، مسؤولٌ عن سلامة دينها ودنياها، مسؤول كلَّ المسؤولية؛ لأنّه إذا تقاعس كلّ فرد عن مسؤوليته وجد العدوّ المجرمُ أرضيةً خصبة ليبثّ فيها سمومه وأحقادَه.
فالواجب على الجميع تقوى الله، والتعاونُ على البر والتقوى، وأن لا يعينَ مسلم أحدًا على الإثم والعدوان، وأن يأخذَ على يدِ أيّ ظالم أو مفسدٍ يريد نشر الفساد في الأمة.
أيّها المسلم، إنَّ حرمةَ الدماء عند الله عظيمة، وقتل الأبرياء بلا حقٍّ كبيرة من كبائر الذنوب، ومن يستحلُّ قتلَ الأبرياء ويرَى حِلّ دمائهم فإنّ ذلك يخشى عليه أن يكونَ على غير الإسلام؛ لأن قتلَ المسلم كبيرة من كبائر الذنوب، متوعَّد صاحبها بلعنة الله وغضبه والخلودِ في عذابه، فمَن يستحلّ دمَّ المسلم بغير حقّ ويرى أن دمَ هذا المسلم حلالٌ له سفكُه فإنّ ذلك مصابٌ في دينه والعياذ بالله.
أيّها المسلم، إنَّ مسؤوليةَ أمن الأمة يجب أن يتصوّرها كلّ فرد منَّا، وأن يسعى كلّ فردٍ منا في تحقيقها. المجتمعُ المسلم إنما أوتي من تكاسُل أبنائه وضعفِ المسؤولية، فالواجبُ على الجميع القيامُ بهذا الواجب، كلٌّ على قدره؛ لأنّ أمنَ الأمة أمن يعمّ كلَّ أحد ونعمة يعيش في ظلالها كلّ أحد، فالواجب تقوَى الله في السرّ والعلانية، الواجبُ السعيُ في الخير ودفع الشرّ بكل مستطاع، هذه مسؤوليةُ كلّ فرد منا، من يتهاون في هذا أو يستخفّ بهذا أو لا يَرى هذا واجبًا فذاك لقلّة علمه وسوءِ تصوّره.
أيرضى المسلمُ لهذا الأمن العظيم أن يسعَى مفسدٌ في تكدير هذهِ النّعمة أو السعي على إضعاف شأنها؟! لا يرضى بذلك مسلم يؤمِن بالله واليوم الآخر.
إن هذه الفئاتِ المجرمة وما تقدم عليه من ضرر وبلاء لا شكّ أن هذا دليل على ضعفِ الإيمان في القلوب، إذ لو وجد إيمان صحيح لردَع عن تلك الجرائمِ العظيمة والفضائح الكبيرة.
أيّها المسلم، إنَّ الله جل وعلا يقول: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، وأيّ منكرٍ أعظم من منكرِ من يسِفك دماءَ الأمة ويسعى في الإفساد، والله جل وعلا لا يحب المفسدين؟! بأيّ وسيلةٍ استحلّوا دماء الأمة؟! بأيّ وسيلة سعوا في الأرض بالفساد؟! إن هذا دليلٌ على فساد إيمانهم، إنّ هذا دليل على أنهم مجرِمون في أنفسِهم، تلك الجريمة التي أدّت إلى سفك دماء الأبرياء وقتلِ الأبرياء والعياذ بالله من حالة السوء.
إنّ الله جل وعلا يقول لنا في كتابه العزيز: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:204، 205]، يعجبك قولُه وأنّه يدعو إلى خير ويدعو ويدعو، ولكن والعياذ بالله وراءَ تلك الدعوةِ الباطلة أعمالٌ سيّئة تدلّ على فساد هذا القول وكذِب هذا القول وتلك الادّعاءات الباطلة، إذ لو كان على حقّ وهدى لعلم أن احترامَ الدماء أمر مطلوب من المسلم شرعًا، وعلِم أنّ ترويع الآمنين خطرُه عظيم وذنبه كبير، فلا يحلّ لمسلم أن يتهاونَ في هذا الواجب، ولا يحلّ لمسلم أن يتساهَل في هذا الواجب، ولا يحلّ لمسلم أن يتغاضَى عن كلّ مجرم يريد للأمّة البلاءَ والشر.
إنَّ الأمة مسؤولة كلّها عن أمنها وعن طمأنينتها وعن رغَد عيشها، مسؤولةٌ عن حِفظ دينها وأخلاقها، وإنها مسؤوليةُ كلّ فرد منّا على قدره، وإن كان من له الأمرُ عليه واجِب، لكن كلّ فرد عليه أن يشعر بمسؤوليتِه نحو أمنِ أمّته واستقرارها، فهذا رسول الله يمثِّل بهذه السفينةِ، أناس في أعلاها وأناس في أسفلها، مَن بأعلاها عندهم ماء، ومن بالأسفل يصعدون ليأخذوا الماء، أرادوا أن يخرِقوا في السفينة خرقًا لينالوا الماء من قريب، فالنبيّ قال: ((إن هم تركوهم هلَكوا جميعًا)) [4] ، دخل الماءُ السفينةَ فقلب أوّلها وآخرها، وإن أخذوا على أيديهم ولم يمكّنوهم من مُرادهم فإنّ النجاة للجميع.
وهكذا المسلم إذا رأى من يفسِد في الأرض أو يسعَى في الفساد أو يخطّط لهذه المكائد والضلال، إذا علم به فإنّه يجب أن يكشِف حاله وأن يحولَ بينه وبين مرادِه حتى تأمنَ الأمة جميعًا، يأمنَ هذا وهذا، وإن تغاضى الناس عن المفسدين ولم يبالوا بهم وتستَّروا عليهم وتغاضّى أيّ إنسان عنهم فإنّ ذلك فساد يعمّ الجميع. فالواجب تقوى الله في كلّ الأحوال، الواجب التناصحُ والتعاون وتبصير الجاهلين وتوضيحُ الحقّ لأولئك المنحرفين حتى يعلَموا الخطأ الذي هم واقعون فيه، فيجتنبوا باطلَهم ويعودوا إلى رشدهم وينيبوا إلى ربهم.
أيها المسلم، مصلحةُ الأمة مصلحةٌ عظيمة، يشعر بأهمّيتها من في قلبه إيمانٌ وخوف من الله، من في قلبه إيمانٌ وخوف من الله يشعر بمسؤولية الأمّة وأنّ مسؤوليتَها مسؤولية عظمى، كلّ مسلمٍ يساهم في هذا الواجب ويسعى في الخير جهدَه لكي يحقّق للأمةِ ما تسمو إليه من خلق.
إنّ العالمَ الإسلاميّ وهو يواجه التحدياتِ العظيمة في كلّ أرضٍ من أرضه واجبٌ عليه أن يستيقظَ وينتبه ويحفظَ شبابه ويطهِّر مجتمعاته من دعاةِ الفرقة والضلال. المجتمع المسلمُ يعاني حملاتٍ من أعدائه في كلّ مكان، تسلَّط الأعداءُ على المسلمين، ففي كلّ مكانٍ تسمع قتالاً عظيمًا وقتلاً وسَلبًا ونهبًا والعياذ بالله، تلك الأمة المسلمةُ التي فرَّطت في دينها سلِّطت عليها هذه الفتن والمصائب. فالواجب تقوى الله، والواجب الرجوعُ إلى الله والإنابة إليه والقيام بالواجب والأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكَر على ما يحبّ الله ويرضاه، لكي يأمنَ المسلمون ويعيشوا حياةً سعيدة طيبة ويبصِّروا الجاهلَ ويأخذوا على يد السفيه ويدلّوه على الطريق المستقيم؛ لأنّ الأمة لا صلاح لها إلاَّ بذلك؛ بتعاونِ أفرادها مع مسؤوليها، وتعاونِ الجميع على الخير، واليقظةِ والانتباه لكلّ مَن يريد الفسادَ في الأرض أن لا يمكَّن ولا يترَك لكي ينفّذ جريمتَه وظلمه، بل يؤخَذ على أيدي الجميع لكي تعيش الأمة في سعادةٍ وأمن وطمأنينة، ولذا قال الله: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المجادلة:9].
إنّ المجتمعَ المسلمَ أفرادُه مسؤولون كلّهم جميعًا مطالبون بالسعي فيما يؤمن للأمة ويصلِحها ويدفع عنها كيد الكائدين. إنّ أعداء الإسلام لا يبالون بما يحصُل في الأمّة المسلمة من فتنٍ وبلاء؛ لأنهم يسخّرون ضعفاء العقول ومن قلّ إيمانهم وفسَدت ضمائرهم وتلوّثوا بكلّ شرّ وبلاء، يسعون في الاستحواذ عليهم وتوجيههم لأغراضهم الدنيئة، فلا بدّ للمسلمين من يقظةٍ وانتباه واستعانة بالله وثقةٍ بالله وتعاون على البر والتقوى وتآمر بالمعروف وتناهٍ عن المنكر، الأب يجب عليه أن يتّقي الله في أبنائه ويحرصَ على توجيههم ويحذَر أن ينزلقوا ويسألهم عمّن يصاحبون ومن يخالطون ومن يسهرون معه، لا بدّ للأمة من هذا حتى يكونَ عندها انتباهٌ واهتمام بالمصالح في الحاضر والمستقبل، وإذا حسُنت النية وصدَقت النية وأخلَص العبد لله أعماله فإنّ الله جل وعلا يوفّقه لكل خير، المهمّ التعاون على البرّ والتقوى، المهمّ أن لا ندعَ للمجرم أن ينفّذ إجرامه، ولا للمفسد أن ينفّذ فسادَه، ولا بدّ أن يكونَ يقظةٌ من الجميع حتى تسلمَ الأمة من خطر أولئك المفسدين.
نسأل الله لنا ولكم التوفيق والسدادَ والعون على كل خير، وأن يهديَ ضالَّ المسلمين ويثبّت مطيعهم ويحفظَ نعمته عنَّا من الزوال بفضله وكرمه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الشركة (2493) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه أحمد (1/391)، وأبو داود في الملاحم (4336)، والترمذي في التفسير (3047)، وابن ماجه في الفتن (4006) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وقد اختلف في إرساله ووصله، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1105).
[3] أخرجه البخاري في الإكراه (6952) عن أنس بن مالك رضي الله عنه بنحوه.
[4] تقدم تخريجه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أخي المسلم، أنتَ مسؤولٌ عن دينِك، مسؤولٌ عن إسلامِك، الله سيَسألك عمّا ائتمنك عليه، فقد ائتمنك على هذا الدين فهل قمت به خير قيام؟ مسؤول عن أمن أمّتك وسلامتها، عن سلامة هذا المجتمع، أنت مسؤول على قدر مسؤوليتك.
إنَّ أعداءَ الإسلام يحاربون الأمةَ المسلمة بكلّ ما أوتوا مِن قدُرات، فتارةً يحاربونهم بنشرِ المخدّرات وبثِّها في المجتمعات عندما يجِدون من هو ـ والعياذ بالله ـ شقيّ غلب عليه حبّ المادة حتى أدّى ذلك إلى أن يكون سمسارًا يروّج المخدّرات في بلاد الإسلام، ويسعى في بثّها بين المجتمع المسلم، أين الإيمان الذي يردعُك من هذا الشر والفساد؟! أين الإيمان الذي يحول بينك وبين هذِه الجريمة النكراء؟!
يجدون أناسًا يصغون إلى أعداء الإسلام الذين يريدون أن يبثّوا في الأمة الفرقةَ والاختلاف، وأن يكدّروا عليهم أمنهم وطمأنينتَهم، وأن ينشروا الفساد والإجرامَ بين مجتمعاتهم. فلا بدّ للمسلم أن يكونَ يقظًا، وأن يكون حذرًا، من أن يكونَ آلة بيدِ أعدائه، يوجّهونه كيف يريدون، ويسخِّرونه كيف يهوَون. واجبُ المسلم أن يكون له يقظة وانتباهٌ واهتمام بدينه وأمّته، حتى يكون مؤدّيًا للواجب مساهِمًا في صلاح أمّته وحمايتها من كيد المجرمين والضالين، فمن يسعى في فساد الأمّة لا يدري أنّه محارب لله ورسوله، إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33]. الفسادُ عامّ في الأخلاق، وفسادٌ في سفكِ الدماء ونهب الأموال وتدميرِ الممتلكات، الواجبُ أن يكونَ الجميع في يقظةٍ وانتباه وحذرٍ من مكائد الأعداء.
فيا أيها المسلم، اتق الله في نفسك، اتّق الله في دينك، واتّق الله في أمّتك، واحذَر أن تكون عونًا للأعداء على أمتك أمة الإسلام، احذَر أن تكونَ ساعيًا في فسادها أو ساعيًا في إلحاقِ الضرر بها، فذاك ينافي إيمانك الصادق، فصاحب الإيمان الصادِق يحمي هذا المجتمعَ بقدر إمكانيّته، ينصح ويدعو إلى الخير، ويوجّه الأمة للخير، ويسعى في بثّ الخير والتحذير من الشرّ ووسائله. أسأل الله أن يعينَ الجميع على كلّ خير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين الأئمة المهديّين...
(1/3143)
المرأة تربية ومكانة
أديان وفرق ومذاهب, الأسرة والمجتمع
المرأة, مذاهب فكرية معاصرة
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
20/2/1423
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إهانة المرأة في الجاهليات القديمة. 2- منزلة المرأة في الإسلام. 3- الجاهلية الجديدة ووأد المرأة باسم التحرر. 4- صور من المؤامرة على المرأة. 5- دور المرأة وإمدادها لهذا الدور. 6- واجبنا تجاه هذه المؤامرة. 7- الأنموذج الذي اتبعه دعاة التحرير والسفور في مصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه..
أيها الإخوة المؤمنون، أهينت كرامتها، وهضمت حقوقها، وكان يتشاءَمون منها، ليس لها حق الإرث. وليس لطلاقها عددٌ محدود.
ولا لتعدد الزوجات حد، كانت تورث وتباع كالبهيمة والمتاع.
و تكره على الزواج والبغاء بأنواعه المتعددة. وتعددت الجاهليات والنهاية واحدة.
جاهليةٌ تبيح للوالد بيع ابنتهِ ووأدها حيةٌ في مهدِها وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِ?لاْنْثَى? ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى? مِنَ ?لْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى? هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى ?لتُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58، 59].
كم من الأعاصير العنيفة التي واجهتها المرأةُ؟ وكم من حقول الشوكِ عبَرتها في عمق التاريخ؟ وكم من سياط الذل والخسفِ التي نزلت على جسدها وقلبها، أجمع الجاهليون القدماء على إهانتها. ونظروا إليها بعين الشكِّ والعار. وفرَضُوا عليها الفسادَ والعُهرَ امتداداً لجاهليات كانت تهين المرأة كالجاهلية الرومانية والبابلية واليونانية كما أثبت ذلك التاريخُ. فكانت المرأة بعد كلِّ ذلك مكلومةَ الفؤاد.. ممزقة النفس دامعةَ العين.. واهيةَ الجسد والروح.
لكن الإسلام الذي جاء مخلصاً للبشريةِ بتعاليمه الساميةِ.. أكرم المرأة وجعل لها المكانة الخاصةَ والرعايةَ الكريمةَ.. جاء الإسلام وأعطى للمرأةِ حقوقاً حمتها ورعى منزلتها وأعلا مكانتها، فالمرأة إلى جانب الرجل تكلَّف كما يتكلّف الرجلُ إلا فيما اختصَّ به مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً [النحل:97].
فمنزلة المرأة في الإسلام عزيزةً كريمةً أماً أو زوجة أو أختاً أو بنتاً، تقوم بدورها إلى جانب الرجل، تؤازره وتشدُّ من عزمِه، تناصره وتقوي همته، تحفظُه إن غاب وتسره إن حضرَ إليها، وتضحي بدورها لأجل دين الله، وتساهم في بعث الأمل بنصر الله.
فسميَّة رضي الله عنها أول شهيدةٍ في الإسلام وخديجةُ بنت خويلدٍ الزوجة التي شجعت رسول الله على دعوته لدين الله. وعائشةُ وأسماءُ وأم سليم وأمُّ عِمَارة كلَّها أسماءٌ سطَّرت تاريخاً حافلاً في نصرةِ الإسلام، وسجَّل لهن التاريخ ولغيرهن أروعَ المواقف في نصرتِه وتأييدِه. وتربية المنزل لذلك وتهيئة أولئك الأبطالُ في بيوتهن الذي صنعوا التاريخ الإسلاميَّ وفتوحاته.
وسارت تعاليمُ الإسلام بالمرأة فأدبَّها الإسلام، وحرَّرها من رقِّ الجاهلية وصان حقوقها، وخصها بما يناسب فطرتها.
ومع ضعف الإسلام في النفوسِ أهله وذلَّتهم وصلت المرأة في زمننا وعالمنا العربِّي والإسلاميِّ إلى جاهليةٍ معاصرةٍ في زمننا هذا، أرادت هذه الجاهلية إخراج المرأةِ عن دورها الحقيقيَّ، تعقد لها المؤتمرات أو قُل المؤامرات. وأنشأت لها منظمات الحرية المزعومة والتحرير الموهوم، فوأدت هذه الجاهلية المعاصرةُ المرأةَ، ليس وأداً بالتراب لكنه وأدٌ فكريٌ وأخلاقيٌ، وأدٌ لرسالتِها، وأدٌ لفكرِها، وأدٌ لأخلاقها، فتأثرت المرأة المسلمةُ بهذه الهجماتِ الشرسة وجَلَبتَ لها مدنية هذا العصرِ ذبحاً صارخاً للأعراضِ ووأداً كريهاَ للغيرةِ. وتحريفاً لدورها في الحياة، يمجِّدون الفردَ ويهمِّشون الأسرةَ، ويهتمون بالفرد ويهملون العائلةَ، لا يرون في المرأة زوجةً ولا أماً ولا بنتاً، وإنما يرونها عاملةً وموظفةً، المرأة في مسلكهم آلت إلى سلعةٍ في سوقٍ اللذات والشهوات، يستعبدها الرجل الذي يزعمُ تحريرها، يستمتع بها لأنه يريدُ حرية الوصول إليها، وليس حرَّيَّتها.
وهكذا ضاعت المرأة وتشتت الأسرةُ وهدم المجتمع وهُزِمَتْ وذلَّت الأمَّةُ، فالأم مربية الأجيال أصبحَتَ تربى على الانفتاح اللاأخلاقي وأُهمل إعدادها فضاعت المجتمعاتُ.
والأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
أيها الإخوة المؤمنون، إذا كان هذا حال المرأة في زمننا في بلاد الكفرِ والفسوقِ، فلاشك أن مما يُحْزَنُ له أنك ترى لوثات هذا الفساد قد سيطرت على عددٍ من بلدان العالم الإسلاميِّ حتى أصبحت المرأة في بعض دولِ العالم الإسلامية ـ بسعيٍ من مفسدِيها عبرَ الزمن ـ قرينةً للمرأة الكافرةِ، قرينةً لها بتبذُّلها وسوء أخلاقِها، وسفورها، تحللت من كلِّ الروابط والقيم الأسرية. وتغلَغلَت تلك الهجماتُ وتمكَّنَت بدعمٍ من وسائل الإعلام ورعايةٍ من بعض الجهات المسؤولة في تلك البلدان، لكننا بعد أن رأينا بوادر تلك الهجمات الشرسة تطالُ المرأة في بلادنا حجاباً وخلقاً وعلماً وتعليماً، بدأنا نرى ثماراً جناها بعض دعاة الفسوق والرذيلة في التأثير على المرأة المسلمة، غاظهم حال المرأة لدينا وكيف حافظت بالرغم من كل تلك التغيُّرات والهجمات على عفافها، غَاظَهم أنها استجابت لرَّبها وأقامت دينَها وأكملَت تعليمها مستقلة عن الرجالِ، فأصبحت مِثالاً حياً، وطريقاً يُحتذى، جمعَتَ بين تعاليم الإسلام آداب الدين، واستوعبت ما يفيدها من علوم العصر، ومن خلال ميادينها المستقلة تمكنت المرأة في بلادنا أن تساهم بعطائها في المجتمع والوطن مجتنبةً الويلات التي يعاني منها المستسلمون والمتخاذلون.
أيها الأحبة، ومع كلِّ هذه الفضائل التي تعيشُها المرأةُ في بلادنا إلا أنَّنا نَرى هجمات مبطنةً وظاهرةً، نرى بوادرها تغزو مجتمعنا.. وتستغلُّ المناسباتِ والأزماتِ لتمرير أهدافها على المرأة، ونشطُوا في حرب القيم وعكس المفاهيم، وارتبطت هجماتُهم الماكرةُ بمصالحَ ماديةٍ وإعلاميةٍ وأهدافٍ وطنيةٍ مزعومةٍ وضرورات عصريةٍ تراثيةٍ وعبر جهاتٍ مسؤولة.
وحدّوا جهودهم وشحذوا ألسنتَهم وبَرَوا أقلامهم، وعقدُوا المؤتمرات والندوات وسطَّروا المقالات.. وامتطوا صهوات الهيئات لتحقيق مآربهم. وأنت إذا نظرتَ إلى تلك المبادئ البائسة التي تحاك لنسائِنا ومجتمعنا فإنك تراه ينادي بها ويدافع عنها ويتحمس لها نخبٌ علمانيةٌ ذاتُ هيمنةٍ على مجرياتِ الفكرِ والصحافةِ والإعلامِ، تأملوا كيف تعاونت تلك الأقلامُ الساقطةُ والأفلامُ الهابطة، تمزق حجابَ العفةِ ثم تتنافسُ وتتسابق في شرحِ المعاصي وفضحِ الأسرارِ وهتك الأستارِ وفتح عيون الصغار قبل الكبار، انظروا كيف انبرت تلك الألسنة والأقلام للحرب على جهاتٍ الحكومية التي تخدم تعليم المرأة في الجرائد أو تقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويريدون بكيدهم إسقاط تلك الجهات ألا ساء ما يريدون أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ [الأنعام:31].
إن المعششَ في عقولِ هؤلاء أن التقدم العلمي والسباق التقنيَّ لن يتحَّقَقَ إلا على أنقاض الفضيلةِ والإيمان والالتزام بأحكام الإسلام وتقويض جهات التعليم والدعوة والحسبة التي تميزت بها بلادنا، لن يتحَّقَقَ التقدُّمُ في نظرهم إلا من خلالِ تقليدٍ صليِّبي أو بوذيِّ في تعليمهم واتباعِهم في إعلامهِم.. هُزموا في نفوسِهم ففقدوا القدرةَ على التمييزِ بين الحقِ والباطلِ، وسعَوْا بكلِّ ما أُوتوا لتنفيذِ خطَطِهم وأجلبوا خيلهم ورجْلهِم.. ولبَّسوا على المسؤولين وغشُّوا الناسَ وهم يُظهرُون حبَّ الإصلاحِ، في حيِن أنَّهم مفسدونَ، يدعَّون الوطنيَّةَ وهم يسعْون لخراب الوطنِ. وكيدهم هذا يظهر تارةً ويختفي تارةً، فكلما رأوا الأجواء مناسبةً أوقدوا نار حربهم وكثفوا هجومهم، فإذا كبتوا كما كبت الذين من قبلهم اختفوا كما الجرذان في جحورهم، لكنهم لا يلبثون أن يخرجوا إذا رأوا طعماً لهم. وإن كانوا قد حققوا بعض مراداتهم فلنعلم أنهم بإذن الله خاسرون أمام سياجات متينةٍ من إيمان المجتمعِ وأخلاقهم وغيَرِتهم على نسائِهم وتعاونهم فيما بينهم على مقاومة هذه الأدواء، ولنثقْ أنَّهم وإن تحقَّقَت لهمْ بعضُ مطالبهم لاسيَّما بدعمٍ صليبي، فإنَّهم لن يُحقِّقُوا آمالَهم في تغريبِ المجتمعِ وصرفِ المرأة عن مهمتها الأساس ببناءِ بيتَهِا على الإيمانِ والتقوى، ويجبُ أن نتكاتفَ جميعاً قادةً وشعباً ورجالاً ونساءً وآباء وأمهات على ردِّ هذه الهجمات وعلى أن نحُصِن أنفسنا تجاهها، وأن يبحث كلُ واحد منا عن دورٍ يساهم من خلاله في تحصينِ المرأةِ في مجتمعنِا أمام هذا المكر والكيدِ، لاسيما ونحن ولله الحمد نفاخر بنسائنا في بيوتنا من أمهاتٍ وزوجاتٍ وبناتٍ وأخواتٍ.
أيُّها الإخوةُ المؤمنون، إن طريقة السلامةِ لنسائِنا في المجتمع ـ لمن يريد السلامة ـ لن يكونَ إلا بعدَ الإيمانِ بالله ورحمتِه وعصْمتِه، إن طريقَ السلامةِ ينبعُ من البيتِ والبيئةِ.. فهناك بيئاتٌ تُنبتُ الذلَّ وأخرى تُنبتُ العزَّ، وثمة بيوتاتٌ تظلَّلها العفةُ والحشمةُ، وأخرى ملؤها الفحشاءُ والمنكَرُ. وإننا ولله الحمدِ في الوقتِ الذي نُفَاخِرُ فيه بما آلتَ إليه عددٌ من بيوتِ المسلمين من سترٍ للأعراض وحمايةٍ للمرأةِ فإننا نخْشى ونستغربُ من تغيِّرٍ سريعٍ طال عدداً من بيوتنِا الإسلاميةِ.
يجبُ أن نعلمَ أنَّ هذه الحربَ المبطنةَ والظاهرةَ على المرأةِ في بلادنا لن تُحَقِّقَ أهدافَها وتنالَ مرادَها إلا حينَ نغفلُ عن بيوتِنا ونهملُ التواصي فيما بينَنا على الحقِّ والتواصي على الصبِر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. إننا سنواجهُ هذه الهجمات على المرأةِ إذا استطعْنا أن نجعلَ منها عضواً فاعلاً في المجتمعِ محصَّناً تحصيناً ذاتيَّاً ضدَّ ما يرادُ بها.
ولنعلم أن تأسيسَ الجيلِ على إيثار الحقِّ والخيِر والفضيلةِ وحبِّ العلمِ ومآثر الأخلاق ومعالي الأمورِ يكون بفضلِ الله ثم بأمٍ عرفت قدّر نفسها ووعَت دورَها ورسالتَها، فهي المدَّرسةُ الأولى والمعلّمةُ الرؤوم، يستمدُّ منها الطفلُ ـ بتوفيق الله ـ مفرداتِ اللسانِ وأركانَ الإيمانِ ومعالَم الإسلامِ ومناهجَ السلوكِ، هذا الدورُ العظيمُ الذي يُوازي كلَّ وظيفة.
لكنَّ هذا الدورَ للمرأةِ لن يأتَّي بالأماني، ولا يتحقَّقُ بالتنظيِر فقط بل هو مهمةٌ كُبرى وجهادٌ مستمرٌ يبدأُ بإعداد المنزلِ والبيئةِ الصالحةِ التي تترَّبى فيها البنتُ من صِغَرِها تترَّبى على لوحاتِ الفضيلةِ ومناظرِ العفافِ والتفاهم لا التخاصم فيما بين الأبِ والأمِّ، على تربيةِ الأولادِ على الخيِر، حينَ ُتتْلى في المنزلِ آياتُ القرآنِ الكريم وتطبّق وتتلَقَّى أحاديثَ الرسولِ وتعيشُ سيرتَه وقصص صحابته.
يبدأ إعدادُ المرأة عندَما يخفقُ قلبُها بحبِّ الله تعالى وحبِّ الأنبياء والصالحين والمسلمين لا بحبِّ مغنٍ ساقط.. أو رياضيٍّ ضائعٍ.. أو إعلامٍ ماجن.. وفنٍ هابطٍ.
يبدأُ إعدادُ المرأةِ عْندَما ترى أبوين يُقلِقهُما تخبُّط المسلمين وتأخُرُّهم، فتحمُل الفتاةُ منهما همَّ الإسلامِ، فترتفعُ عن صغارِ الهمومِ ،و صغائرِ الأمورِ.
لابدَّ أن يبدأ إعدادُ المرأةِ لدينا من خلالِ أبوين مُتحابين جاديْن يعملان لبناءِ أسرةٍ قويةٍ في دينها صحيحةٍ في جسومِها لتكونَ هذه الأسرةُ لبنةً في بناءِ مجتمعٍ قويٍ، وذلكَ حين تترَّبى البنتُ في هذا البيت لتتهَّيأ لبيت الزوجيةِ الذي تؤدِّي فيه دورَها.
أيها الآباءُ والأولياءُ، إنها مهمةٌ عظيمةٌ أوجَبها اللهُ عليكم بتربية البناتِ وإعدادهِن لمواجهةِ أعباءِ هذه الحياةِ.. هذه المهمةُ الكبرى بالتربية التي أْعطى اللهُ لها الأجرَ العظيم بإحساِنها يقولُ رسول الله : ((من كان له ثلاثُ بناتٍ فصبَر على لأواِئهنَّ وضَّرائهنَّ أدخلَه الله الجنَّةَ برحمتِه إياهُن)) ، فقال رجل: وابنتان يا رسول الله قال: ((وابنتان)) ، فقال آخر: وواحدة، قال: ((وواحدة)) رواه الحاكم وصححه.
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((من عال جارتْين حتى تبلُغا جاءَ يومَ القيامة أنا وهو كهاتين وضمَّ أصابعَه)) رواه مسلم.
أيها المؤمنون، إن الهجومَ على المرأة يشتدُّ والمعركةُ ستكونُ أكثَرَ ضراوةٍ بقدرِ ما تكونُ المرأةُ مستمسكةً بعروةِ الإسلامِ الوثقى، وبقدر ما تُطبِّقُ تعاليم الدينِ ومبادئَ القيمِ عن علمٍ وحبّ وإيمان، كما هو حالُ غالب نسائِنا ولله الحمد.
وإن المرأة حين تحصن نفسها بهذا الإيمان فإن هذه الهجمات سترد عنها بطرف حسير. ولن تحقق شيئاً في بناء المرأة المتين، يجب أن نعلم أننا كلنا مستهدفون بيوتاً وأسراً ونساءً. وإذا لم نحصن نساءنا علمياً وعملياً وعقلياً وخلقياً، وإذا لم نجعلْ ذلكَ من أوَّل مهامِنا بحيثُ لا تدعُ لباغٍ مَنْفَذَاً ولا لداع للشهوات والشبهات مدخلاً، إذا لم نفعل ذلك فإن دعاة التغريب والغربة ـ وما أكثرهم هذه الأيام ـ ينتظرون غفلةً منا وتغافلاً ليتوجسوا خلال عقلِ الفتاةِ وقلبِها ويستغلِّوا تعليمَها لتميل ميلاً عظيماً.
أيها المسلمون، حذارِ ثم حذارِ أنُ تُقدِّموا على صلاحِ بيوتكم وبناتِكم همَّاً آخر مهما كانُ ملحاً، حذارِ ثم حذارِ أن تَدعُوا دعاةَ الرذيلةِ على أهوائِهم ليتركُوا بيوتنا قاعاً صفصفاً، وليكونَ العفافُ فيها أثراً بعد عين كما تحقَّقَ ذلك لقرنائِهم في عدد من بلادِ المسلمين.
حذارِ أن تلقي بالمسؤوليةِ عن المرأة في بيتكِ ومجتمعكِ على الحكومةِ وحَدها أو على العلماءِ فقط وإن كانوا مسؤولين بالدرجة الأولى، لكنه تعاونٌ وتعاضدٌ فيما بينَكَ وبينَهم سيُؤتي ثماره بإذن الله، إذا كان الوعُي حاضراً والحذرُ موجوداً والحرصُ مُشتركاً.
إن علينَا جميعاً محاصرةَ الفسادِ وأهلهِ بكل الطرقِ المشروعةِ والمتاحةِ والمباحة، كما علينا مصارحَة كُلِّ مسئول ومناصحته من منطلقِ الحرصِ وحبِّ الخيِر لا الحقد.
مناصحة العلماءِ والآباء، مناصحةُ الجميعِ بالأخطارِ القادمةِ إن أرخوا العنانَ لدعاةِ تحريفِ المرأةِ، وغضُّوا الطرفَ عن مشاريعهم الهدَّامةِ. وكتاباُِتهم الساقطة، إن الجميع سيجني بالسكوتِ مرارةً وعَلْقَماً، والساكتُ عن الحق شيطانٌ أخرس. ولنحذرْ من المغرياتِ الحديثةِ للمرأة التي تُغريها بالخروج مِن بيتها مهملةً دورَها الأساسَ في المنزلِ. ولنحذرَ كذلك طرائق تشويه حِجابِ المرأة الذي طالَتْه الموضاتُ والفتحاتُ مِن ُكلِ جانبٍ.
ولنعلمَ أن استقرارَ المرأة في بيتها خيرٌ لها، ووظيفتُها في بيتِهَا من أشرفِ الوظائفِ في الوجودِ، وما ُيحسنُ هذه المهمةَ ولا يتأهّلُ لها إلا من استكملَ أَزْكَى الأخلاقِ، وأنْقَى الأفكارِ.
ومن الخطأ في الرأي وفسادِ التصوُّر الزعمُ بأن المرأةَ في بيتِها قعيدةٌ لا عملَ لها، أو أنَّها عالَةٌ على أهلها كما يقولُهُ البعضُ، فهذَا سوءُ فهمٍ غليظ وجهلٌ بطبيعة المرأةِ في المجتمعِ. والأشدُّ الظنُ بأن هذه الوظيفَة قاصرةٌ على الطهي والخدمةِ، إن مهمَّتها الأساسُ تربيةُ الأجيالِ والقيام عليها، حتى تُنْبُتَ نباتاً حسناً ذكوراً وإناثاً، وهي مهمةٌ تعدِلَ في الإسلامِ شهودَ الجُمع والجماعات، وتعدلُ حجَّ التطوعِ والجهاد.
جاءت أسماء بنت يزيد الأنصارية رضي الله عنها إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله: إن الله بعثك للرجالِ والنساءِ كافَّةً، فآمنّا بك وبإلهك، وإنا معشرَ النساءِ محصوراتٌ، مقصوراتٌ، قواعدُ بيوتِكم، وحاملاتُ أولادِكم، وإنكم معشرَ الرجالِ فُضِّلْتُم علينا بالجمعِ والجماعاتِ، وفُضِّلْتُم بشهودِ الجنائزِ وفُضَّلْتُم علينا بالحجَّ بعدَ الحجِّ، وأعظمُ من ذلك الجهادُ في سبيل الله، وإن الرجلَ منكم إذا خرجَ لحجٍ أو عمرةٍ أو جهادٍ، جلسْنا في بيوتِكم نحفظُ أموالكم، ونربِّي أولادَكم، ونغزلُ ثيابكم، فهل نشاركُكْم فيما أعطاكم اللهُ من الخيِر والأجرِ؟! فالتفت النبي وقال: ((هل تعلَمون امرأةً أحسنَ سؤالاً عن أمور دينِها من هذه المرأة؟!)) قالوا: يا رسول الله ما ظننا امرأةً تسأل سؤالها فقال عليه الصلاة والسلام: ((يا أسماء أفهمي عنَّي.. أخبري من ورائك من النساء أن حسن تبعل المرأة لزوجها وطلبها لمرضاته، واتبعاها لرغباته يعدل ذلك كله)) فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر. أخرجه البيهقي.
إن تاريخ الأمة شاهد صدق لنساءٍ فضليات جمعن في الإسلام آداباً وستراً ووقاراً دون أن يتعثرن بفضول حجابهن أو يقبلن دعاوى الماكرين والماكرات. وإن من شواهد عصرنا في فتياتنا المؤمنات.. متحجباتٍ بحجابِ الإسلامِ، مستمسكاتٍ بهدي السنةِ والكتابِ، قائماتٍ بمسؤولياتهنَّ خيرٌ ثم خيرٌ من قريناتٍ لهنَّ شاردات كاسيات ـ عاريات – متبرجات تبرَّج الجاهليةِ الأولى لاهثاتٍ خلف سرابِ حُرِّية صليبيةٍ مزعومةٍ، فالله الله أيها الأولياء.
أيها الآباء، أخاطبُ فيكم مسئوليتكم، أناجي قوامتَكم ورعايتَكم، يجب أن نحذرَ من مكر الفسوقِ وجلب أجهزتِه ومجلاتِه لمنازلنِا ومن مكرِ العلمنةِ في بلادنا، نسألُ الله جلَّ وعلا أن يُعينَنَا جميعاً على دفعِ شرِّ كُلِّ من يُريدُ إفسادَ نسائِنا وخلطهنَّ مع الرجال، وأن يُعينَنَا جميعاً للتعاون على كُلِّ ما يُحقِّقُ صيانةَ المرأةِ وأن يُهيئَ للمجتمعاتِ الإسلاميةِ القادة الناصحين والعلماءَ العاملين والمربياتِ والمربين المخلصين، إنه ولي ذلك والقادرُ عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي ،بعده أما بعد فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
أيها الإخوة المؤمنون، نظراً لما يعيشه ويشاهده بعض الأخيار في مجتمعنا ولله الحمد من خير عظيم تتفيء ظلاله المرأة في بلادنا التي تنعم بالستر والعفاف وتتجنب السفور والاختلاط إلا من بعض لوثات التقليد وآثار السفر للخارج، إن كل ذلك الخير الذي يراه بعض الخيرين يدفعهم إلى أن يستغربوا كثرة الحديث عن المرأة. وقد يتهمون أصحابه بالمبالغة وتجاوز الحد.
وبعضهم يستغرب الخوف والقلق الذي ينتاب بعض الغيورين عند أي إجراءٍ يتعلق بالمرأة قائلين: إن المرأة في مجتمعنا محصنةٌ ضد أيِّ هجمةٍ. ويجب أن نعلم إخوتي أن هذا الخوف والحرصَ على المرأةِ وحجابها وتعليمها المستقل إنما هو نابع من حِرص الغيورين على المجتمعِ وخوفاً على المرأة وخشيةً من فتنتها، لاسيما مع التجارب المريرة التي رأينا أثرها في بلاد ليست بالبعيدة عنا، وكيف تحول حال المرأة فيها إلى حالٍ لا يرضي ربنا ولا يرضي أيُّ غيورٍ على محارمه.
كتب أحد المفكرين الإسلاميين عن بلده مصر: إن مصر في بداية القرن الماضي كانت تنعم بحجابٍ لنسائها، وكانت الطالبات مستقلاتٌ عن الطلبة، وكن يأتين إلى المدارس في عرباتٍ مقفلة ومع آبائهم ويأخذهم الآباء بعد انتهاء الدراسة ثم ذكر كيف بدأ الاختلاط بدعوى نقص المدرسات فوضعوا مدرسين ذكور ثم خلطوا صغار الطلبة مع الطالبات ثم خلطوا المرحلة المتوسطة ثم الثانوية تدريجياً، وتساهل الناس بتقبل ذلك.
وكتب وفقه الله كيف بدأ التغيير بالحجاب بألوانٍ للعباءات ورفعٍ لمستواها على الجسم وكشفٍ للوجه ثم جزءٌ من الرأس حتى ألغي تماماً في مظاهرة نسوية بدعوى مقاومة الاستعمار وفي ميدانٍ لازال يُسمى ميدان التحرير رمزاً لذلك.
ولما قام أهل الغيرة باستنكار ذلك عنفهم بعضُ المثقفين والنُخب ـ كما يُسمون ـ ووصفوهم بالمتزمتين وهكذا تكالبت مكائد الجهود الشيطانية لإفساد المجتمع المصري وتصدير الفساد منه إلى المجتمعاتِ الأخرى، هذا الفساد الذي يبدأ ببراءة وتسويق من أُناسٍ وكِل إليهم حمايةُ المجتمع.
وشاركتهم فيه غفلة الناس وحسن ظنهم الذي كان في غير محله، وإن ثار أحدهم فإنما ثورته للتقليد وليست للعقيدة وحماية المجتمع، فإن الحجاب حين يكون عقيدةً فإنه لا يسقط، لكن المحصلة في النهاية أن المجتمع تغير من جذوره إلا بقايا خيرٌ وصحوة لا زالت تزداد يوماً بعد يوم ولله الحمد، وإننا نتحدث عن المرأة ـ إخوتي ـ لكي نبين أن الكيد لها ولسترها يتخذُ وسائل شتى قد تكون بدايته بريئةً كل البراءة، لكن نهايته على المجتمع مريرة.. يأتي الحديث عن المرأة في بلادنا التي في وقت أصبحت الهجمات مركزة عليها وعلى حجابها وعفافها وتعليمها من قنواتٍ خارجية ومجلاتٍ داخلية ودعم صليبي ونفاق داخلي.
إننا نتحدث عن المرأة حرصاً على أهم كيانات المجتمع، وإذا كنا لا نرضى المبالغةَ والتهويل واتهام نيات الناس والتكفير فإننا ندعو العقلاء والخيرين، وأهل الغيرة والدين، إلى أن يكون لهم النصيب الراجح والسهم الوافر في الحفاظ على المرأة، نقول لدعاة الإصلاح وأصحاب الغيرة وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، فإن بداية الخطر الماحق للمجتمع بفتنة النساء إذا تساهلنا مع بدايتها، قال عليه الصلاة والسلام: ((اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت بالنساء)) ويقول كذلك: ((ما تركت فتنةً أضر على الرجال من النساء)) فلا مجال إذاً للتساهل، وينبغي أن يساهم كلٌ منا بدوره في الحفاظ على المجتمع بالحفاظ على المرأة وتربيتها وتعليمها وأن تلتزم الحجاب مظهراً ومخبراً.
ومن الواجب إيضاحُ الأمر وبيانُه ومقاومة مظهري الفساد وناشريه حتى لا تزَّل قدمٌ بعد ثبوتها، فيذوق مجتمعنا السوء، نسأل الله جل وعلا أن يحمي مجتمعنا ونساءَنا غوائل السوء ومن مكر العلمنة والفسوق.
أيها الأحبة، يجب علينا أن نثق بنصر الإسلام والمسلمين مهما احلولك الظلام، ويجب أن نعلم ـ إخوتي ـ أن تاريخ الأمة مملوء بالعظماء الذين سطروا بجهادهم قصص التضحية والبطولات والحرب المزرية على الأعداء، ويجب أن نستيقن أن فقد أولئك الأبطال وقتل الشهداء لن يفت فينا، فإن أرحام الأمهات الماجداتِ اللاتي أنجبنهم لن تعدمَ بإذن الله أن تنجب لنا أبطالاً عظاماً يعيدون لنا مجد الإسلام، وإن هذه التراكمات من الضحايا المؤلمة والتنازلات المخذِّلة والمصائب المهلكة التي تطال إخواننا في فلسطين وكل مكان ينبغي ألا تجلب لنا اليأس، بل هي دافع لمزيد من العمل وبذل الجهد لإكمال مشوار أولئك الأبطال في فلسطين والشيشان وغيرها من بلاد الإسلام.
(1/3144)
فلسطين: أمل بنصر الله
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صبر يعقوب عليه السلام. 2- المنحة في طيات المحنة. 3- صور من ضعف المسلمين وذلتهم وتكالب العدو عليهم. 4- زراعة الأمل في زمن الشدة منهج نبوي. 5- صدق التوكل على الله في الشدائد. 6- دعوة لصدق النصرة والولاء للمسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70، 71].
فقد الأب الشيخ الكبير ابنه الأثير لديه بعد أن تآمر على قتله أقرب الناس إليه من إخوته، ثم أصيب بفقد ابنه الآخر المقرب لديه فعلم أن أنفسهم سوّلت لهم أمراً، فصبر الصبر الجميل وَتَوَلَّى? عَنْهُمْ وَقَالَ ي?أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَ?بْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ?لْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ يوسف:84]، لكن يعقوب عليه السلام المصاب بهذه المصائب بعد أن صبر صبر الأنبياء لم يشكُ إلا إلى ربه قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى ?للَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [يوسف:86]، ثم أوصاهم بفعل السبب بالبحث عن إخوتهم وبعدم اليأس وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [يوسف:87].
أيها الإخوة المؤمنون، البلاء والمحن محكُُ تكشف ما في القلوب، وتظهر مكنونات الصدور ينتفي بها الزيف والرياء وتنكشف الحقيقة بكل جلاء، تطهيرُُ لا يبقى معه زيف ولا دَخَل، وتصحيح لا يبقى فيه غش ولا خلل، وذلك من فوائد الأزمات وَلِيَبْتَلِىَ ?للَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ?لصُّدُورِ [آل عمران:154].
إن من حكمة الله تعالى في الابتلاء والمصائب التي تصيب الأمة أن تستيقظ النفوس التي ابتعدت عن الله وتَرِقَّ القلوب بعد طول غفلة، فيتوجه الخلائق إلى ربهم، يتضرعون إليه، يطلبون رحمته وعفوه، يرجون تأييده ونصره، إعلان بالعبودية لله وتسليم كامل له، إنابة واستكانة وإصلاح للحال ونبذ للمنكر وتحررٌ من الشهوات والأهواء، فإذا ما فعلوا ذلك وجدوا بإذن الله الراحة والأمل والفرح بالنصر إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ?لخِزْىِ فِى ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى? حِينٍ [يونس:98]، وهل أعظم من الخزي ما نراه من حالٍ آلت إليه أمتنا هذه الأيام من ذبح وهتك الأعراض وحصارات وتخاذل عن النصرة.
عباد الله، في البلاء يتجلى توكل المتوكلين، ومن وجد في قلبه اعتماداً على غير ربه فليراجع إيمانه، وَعَلَى ?للَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة:23]، إن على المؤمنين جميعاً أن يعلموا أنهم مكفيون سوء البلاء ما استقاموا على أمر الله دولاً وشعوباً، محفوظون من كيد الأعداء ما اعتصموا بالله، حقيق بالأمة أن تعي حالها وتنظر في واقعها لمستقبلها، مجازر دموية بالعشرات، ومهانة وذلة، وتسلط وعنت وجَور وظلم، اعتداءُُ صهيوني، وحيف صليبي، صمت عالمي، خور عربي، وذلة وانكسار.
هل يعقل أن يكون حال خير الأمم بنص القرآن كهذا الحال؟! هل نصدق أن أمة تدنس مقدساتها، ويذل رجالها، ويقتل أطفالها، وتهان كرامة نسائها، ثم تراها لاهية عن مصاب أمتها؟! لا تملك إلا الحوقلة والتظاهر والصياح ولا يستجاب لها بل تقمع لذلك؟! هل نصدق المهانة والذلة التي وصل إليها عالمنا الإسلامي لنستجدي السلام على أعتاب بيت أبيض امتلأً تاريخه حقداً وسواداً عبر مؤتمراته وخياناته السافرة ونهبه مدخرات البلاد والعباد وتصريحات رئيسه السافرة والمستهجنة ضد شعوب الإسلام وقياداته!! هل يكون دعاةُ السلام الأخضر ورجال الصليب الأحمر أكثر خوفاً على شعبنا الذي يراق دمه ويحاصر في فلسطين وأفغانستان والشيشان وكشمير والفلبين؟! في ذات الوقت الذي ترى فيه موالاة لأعداء الله من يهود ونصارى؟! موالاة تخلى فيها كثير من قيادات الأمة عن غيرتهم، ولم يسمعوا صراخ أو نصح شعوبهم وتاهوا في غبار النكسات، وتفاهة القرارات، ودهاليز المؤامرات أو المؤتمرات، وأصبح جهادهم المسطر مبادرات الشجب والاستنكار وشجاعة السلام المزعومة، والصهاينة اليهود جادون في بناء دولتهم، ينطلقون من تعاليم دينهم، يعتمدون على تلمودهم، مدعومين من أوليائهم النصارى المتآمرين على قضايانا وعلى إسلامنا، ألبسوا مؤامراتهم أنواعاً من الألبسة، فهذا تحالف دولي ضد الإرهاب، إما أن تكون معه أو ضده، فمقاومة اليهود وقتلهم إرهاباً، أما فعلهم في إخواننا في فلسطين من قتل وحصار وانتهاك حقوق فدفاع عن النفس!! وهذه قرارات للأمم المتحدة على دولة مسلمة كالعراق لم يطبقها كما يدعون فيحاصر شعب العراق سنوات ويموت معه مئات الآلاف من الأطفال ويستشري في أهل الرافدين المرض، وكل ذلك بإقرار وصمت عالمي!! وهذه عولمة اقتصادية تسوّق لاقتصاديات الكفار وتهلك الضعفاء!! وهذا إعلام يسوق في بلادنا من قبلهم يفسد الأخلاق ويبث المهاترات ويستهزئ بالشعوب، فاقد للمصداقية محكوم بالهوى والمذهبية، ثم بعد كل ذلك لا زلنا نستجدي من هؤلاء المفسدين في الأرض التدخل، ونبحث عندهم عن الحلول لقضايانا، ظانين أنهم يحفلون بنا وبمصيرنا ومصائب شعوبنا، في حين أنهم والله وبالله وتالله لا يبحثون إلا عن مصالحهم ولا يسعون إلا لإرضاء الصهاينة اليهود، يستجدون من خلالهم انتخاباتهم وليستروا على فضائحهم الأخلاقية والمالية فأي ذلةٍ وصلنا إليها؟! أي مصير آلت إليه شعوبنا؟!
يتحدث التاريخ أن امرأةً واحدة، نعم امرأة واحدة قبل عصر الإعلام والفضائيات وما تعرضه علينا يومياً من محن وويلات امرأة واحدة تصيح: وامعتصماه، فيهب المعتصم بجيشه لينقذها ويهزم الروم ويحرر عمورية.
واليوم ما أخبار المسلمين، كيف ضاعت صيحاتهم؟! يحاصرون في مدن فلسطين الحبيبة رام الله، وبيت لحم، ونابلس ومخيم جنين بعد أن حوصر إخوانهم المسلمين في أفغانستان وجبالها يحاصر العشرات منهم من رجال ونساء وأطفال في مخيم جنين وكذلك كل يوم في شقق صغيرة حيث يمنع عنهم الطعام والماء، وتقطع الكهرباء، وتهدم عليهم البيوت، وكل ذلك معروض علينا صباح مساء.
نرى كل ذلك إخوتي، فلا نملك حولاً ولا طولاً، وإن عجز الإنسان عن نصرة إخوانه يقتله أكثر مرة مرأى تلك المناظر لجثث مطروحة في الشوارع، وجرحى منع عنهم الإسعاف، ونساء وأطفال يؤذون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، إنها حال من المهانة وصلنا إليها، وتسلط لأعدائنا من صنع أيدينا حين تركنا الجهاد واستعضنا عنه بجهاد المبادرات والمؤامرات والمفاوضات ومؤتمرات الفنادق الفخمة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا تبايعتم بالعينة -أي: الربا- وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن حجر.
أيها الإخوة المؤمنون، إن أعظم الأسباب الجالبة لغضب الله والمؤدية للذل والهزيمة هي اليأس حين يتمكن من القلوب، يأس يفقد بعضنا به الأمل بنصر الله، يأس يضخم قوة أعدائنا، ويضرب في شد حبال قوتهم وجبروتهم، يأسٌ يسمح للخائرين والمتخاذلين أن يبثوا دعاوى الإرجاف في أوساطنا، يأس نجنب فيه النصوص الشرعية من القرآن والسنة التي تحدثنا عن بذل الجهد، ولمّ الشتات، ورأب الصدع وجمع الكلمة، إنه يأس نهمل فيه موعودات الله ورسوله لنا بالنصر والتمكين إن التزمنا بشرعه وأوامره، إنه يأس نتشبه به بمن كفر بالله فلا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
إن روح الفأل بموعود نصر الله هو ما ينبغي أن نعيش عليه بعد أن نقدم الواجب علينا تجاهه ونساهم بدورنا في تحقيق أسباب هذا النصر ونتوكل على الله، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ليس فألاً مقصوراً على الأماني بدون عمل، أو على كلام أو جدل.
وعلى هذا كان حال نبينا صلوات الله وسلامه عليه ومقاله في سيرته العطرة التي امتلأت بالجهاد والمجاهدة، والصبر والمصابرة، آذاه المشركون وحاربوه، وضعوا الشوك في طريقه وسلا الجزور على ظهره وهو ساجد، وآذوا صحابته وعذبوهم فكان عليه الصلاة والسلام مقوياً للعزائم، شاداً على أيدي صحابته كلما جاؤوا إليه يشكون شدة العنت والعذاب والتضييق والحصار كان يبشرهم بالنصر والتمكين الذي فعلوا أسبابه قبل ذلك.
تروي السير أنه صلى الله عليه وسلم كان جالساً في ظل الكعبة فأتى إليه خباب ابن الأرت ومعه بعض الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فشكوا إليه ما يجدون من شدة عذاب قريش وقالوا: يا رسول الله ألا تدعوا لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقال لهم متفائلاً بالنصر: ((والله لقد كان الرجل فيمن كان قبلكم يؤتى به فيوضع على حفرة فينشر بالمنشار إلى نصفين ما بين لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله لينصرن الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخشى إلا الله والذئب على غنمه)).
وتعترض طريق الصحابة صخرة عظيمة يوم حفر الخندق، والمشركون يحاصرون المدينة في أشد أزمة مرت عليهم، فيأتي عليه الصلاة والسلام فيكسرها في المرة الأولى ثم يقول: ((لقد أضاءت لي قصور الحيرة في المدائن، وفي الثانية: أضاءت لي قصور الشام، وفي الثالثة: أضاءت لي قصور اليمن، كل ذلك وهو يقول: وأمتي ظاهرة عليها)) ، إذاً فقد كان عليه الصلاة والسلام أشد ما يكون تفاؤلاً في الأزمات، وما لبث صحابته رضي الله عنهم أن رأوا مصداق موعود الله وإخبار رسوله بالفتوحات التي نشرت الإسلام في أصقاع الدنيا كما بشر به سابقاً.
وعندما انقض الصليبيون من الغرب في القرن الرابع الهجري ثم أتبعهم التتار من الشرق لاجتياح العالم الإسلامي واقتلاع الإسلام وقف أحد المؤرخين شاكياً باكياً قائلاً: من يهون عليه نعي الإسلام؟! ولم يطل به وقت حتى رأى انكسار الصليبيين واندحارهم وانتصار التوحيد وأنصاره، أما التتار فدخل كثير منهم في دين الله أفواجاً.
وها نحن الآن نعيش هجمات شتى ومتنوعة على الإسلام وحالاً من الحصار على بلدان المسلمين وشعوبهم، حصار يوشك أن يطال أسس الإسلام وثرواته، إسرافاً وتبذيراً، ونهباً وتهريباً، كما نرى عدواناً استئصالياً على إخوانٍ لنا في العقيدة، مدججاً بأسلحة الحقد الصليبية، وأمام هذه الأزمة المدلهمة، والمناظر المأساوية، هل يقول أحد بنعي الإسلام؟! إننا نقول: لا بأفواهنا، وبقلوبنا الواثقة بنصر الله لدينه وأهله وباستخلافهم في الأرض وإظهار الإسلام على الدين كله وعلى الكون كله ولو كره الكافرون.
إن وعد الله تعالى لآتٍ إن شاء الله، وإن تفريج الكرب لقادم طال الزمان أو قصر، اشتد الكرب أم انحسر، نثق بمستقبل الإسلام والمسلمين وبموعود ربِّ العالمين، فالإسلام ليس حزباً ينتهي بهلاك رؤسائه، نثق بمستقبل الإسلام والمسلمين وبموعد رب العالمين، لأن الإسلام لا ينتهي بنهاية معركة عسكرية، نثق بمستقبل الإسلام وبموعود رب العالمين، لأن الإسلام ليس عالماً أو شيخاً أو ملكاً أو رئيساً أو مفكراً يرتفع الإسلام بحياته وينتهي بنهايته فالإسلام أكبر من اختزاله بأشخاص مهما كبروا، وأعظم من ربط مستقبله بحكومات وأنظمة مهما عدّلوا وحرفوا، أو بعلماء مهما قصّروا وتغافلوا.
إننا نثق بمستقبل الإسلام لأنه ليس مرتبطاً ببلد واحد ينتصر بانتصاره وينكسر بانكساره، فالدين لله وليس لأحد سواه، ولن يقبل الله دين غيره، وكل أزمات البشر لا مخلص لها إلا الإسلام، وثبت كيف أن غيره من الديانات والمذاهب والحكومات لا تنتج إلا مزيداً من التأزم والتخبط وفقدان للعدالة والحقوق أَفَغَيْرَ دِينِ ?للَّهِ يَبْغُونَ [آل عمران:83].
أيها الأحبة، يجب أن يكون لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته القدوة، وكذلك في تاريخ أمتنا بعده وانتصاراتها وكيف يتحقق دائماً موعود الله بالنصر عبر الأمل بالتحقيق إن نصرنا الله وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
فالتبشير خير من التنفير، والتفاؤل خير من التشاؤم، والصبر خير من الجزع واليأس، وكان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل في الأمر كله فَإِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5، 6]، ولن يغلب عسر يسرين والعاقبة لعباد الله المؤمنين.
نعم نتفاءل مع ما نراه هذه الأيام، نتفاءل بقرب نهاية حكم طاغوت اليهود شارون وأعوانه بغرقهم على أيدي سواعد الأبطال والشهداء والنساء المجاهدين والمجاهدات في رام الله وجنين وغيرها، نتفاءل بقرب نهاية نظام عالمي صليبي ودولة صليبية ملأت الدنيا جوراً وظلماً وانحيازاً مقيتاً ضد العرب والمسلمين وخسرت القريب قبل البعيد.
نتفاءل ونحن نرى قوة إخواننا في فلسطين والشيشان وكشمير والفلبين وأفغانستان إن الإسلام منصور بإذن الله ولو بقلة قليلة إذا صدقوا مع الله كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ?للَّهِ [البقرة:249].
وإذا كانت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تحمل بشائر النصر للإسلام والمسلمين فإن لذلك شروطاً لا بد من تحقيقها، النصر يأتي بإيمان قوي بالله واعتزاز بالإسلام وتطبيق لشرعه ونهجه، النصر يتحقق بالعلم والعمل ومكافحة أسباب العجز واليأس واستنبات بذور الأمل في صحارى الإحباط، واستشراف الآفاق الواعدة من ثقوب زنزان الذل والقهر والجهل،، واستغلال جهاد الأبطال الذي رفع هاماتنا في جنين ونابلس لتربية أطفالنا على ثقافة الجهاد وكيف يغرس العزة ويجلب النصر وينهي المذلة والهوان والقهر.
إن التمكين للإسلام ونصر أهله وانتصارهم لنا لا يكون بتبادل التهم، بل بتوفيق الله ثم بتبادل الرأي والرؤى حول أسباب التقدم والنصر.
إن التمكين ونصرة أهله لن يكون إلا في مناخ آمن ومجتمع متضامن وحكم يؤثر رضا الله على ما سواه ومن سواه ويجاهد في سبيله لا في سبيل مصالح شخصية، أو روايات جاهلية.
إن التمكين للإسلام ونصر أهله وانتصاره يجب أن يكون أساسه علم نافع وعمل متقبل وإخلاص لله ونية صادقة، وصدق الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ الرعد:11].
أيها المسلمون، إن المستقبل للإسلام بإذن الله أولاً وأخيراً، ولن نخاف على الإسلام، ولكن الخوف أن يستبدل الله تعالى قوماً غيرنا لتحقيق موعوده، مع هذا التقصير والخذلان من قبلنا، إن خيار الإسلام النصر والتمكين، أما المسلمون فعليهم أن يتساءلوا أين هم من هذا الخيار.
إننا من فوق هذا المنبر المبارك ندعو كل مسلمٍ، حاكماً أو محكوماً، عالماً أو مثقفاً، تاجراً أو عسكرياً أو فقيراً، رجلاً أو امرأة إلى أن يبادروا جميعاً إلى النصرة بعيداً عن الإثارة والتهييج وغرساً لنبات النصر وقلعاً لنبتة الخور والذلة والهوان التي تظلل الأعداء إن الأمل جزءُُ من عقيدتنا، إن الحرب على اليأس جزءُُ من إيماننا، وحذار ثم حذار أن نبني الأمل على شفا جرف هار فينهار، وحذار أن نحارب اليأس بالصمت والجزع.
إن حقاً على أهل الإسلام أن تربيهم التجارب والوقائع، وتصقلهم الابتلاءات والمحن، إن الأمر كله لله، بيده مصائر الأمور، كل شيء يجري في طريقه المرسوم حتى يبلغ أجله المحتوم، والموت أو القتل الذي نراه هذه الأيام طريق لنصر بإذن الله، لكنما الخوف والخور هو الداء العضال فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ?لْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ?لنَّاسَ كَخَشْيَةِ ?للَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ?لْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَـ?عُ ?لدُّنْيَا قَلِيلٌ وَ?لاْخِرَةُ خَيْرٌ لّمَنِ ?تَّقَى? وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً [النساء:77].
اللهم إنك أنت الله الواحد الأحد الفرد الصمد، نسألك اللهم أن تنصر إخواننا المسلمين في فلسطين وأفغانستان والشيشان، اللهم انصرهم نصراً مؤزراً، اللهم سدد رميهم وآمن خوفهم ووحد صفوفهم وفك حصارهم، اللهم خفف وطأتك عليهم، وكن لهم ولا تكن عليهم، اللهم احفظ عليهم دينهم ودماءهم واقتل اليهود والنصارى ومزقهم شر ممزق، اللهم أهلك طاغية اليهود شارون وأعوانه ودولة أمريكا ورؤساءها اللهم جمد الدماء في عروقهم اللهم اجعلهم أذلة صاغرين واجعلهم غنيمة للمسلمين، اللهم اشف صدور قومٍ مؤمنين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم تسليماً كثيراً.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه وتوفيقه وامتنانه، أحمده جل وعلا وأثني عليه الخير كله، وأصلي وأسلم على خير البرية وسيد البشرية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، لقد بذل الأعداء جهدهم لصرف هذه الأمة عن دينها، فأبعدوا أهل الإسلام عن كل طريق جاد، ونفخوا في القوميات الإقليمية والنعرات الجاهلية، وقطعوا حبال الأخوة الجامعة، وسعوا في إضعاف العقائد والفضائل، وأغرقوا الميادين بالشهوات والشبهات، لكن هذا الضعف وحد الأمة وأعاد لها عزتها بعد أن علموا أن لا ناصر لهم إلا الله، وأن لا راية تستحق الرفع إلا راية الإسلام، وما كانت قبلة المسلمين واحدة إلا ليكون التوجه كله واحداً، وما ارتفع الآذان من المآذن إلا ليرتفع صوت الحق.
إن نكبة الأخ امتحان لمروءة أخيه، ومحنة شعب من شعوب المسلمين امتحان لضمائر المسلمين جميعاً وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَ?لْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ?لرّجَالِ وَ?لنّسَاء وَ?لْوِلْد?نِ ?لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـ?ذِهِ ?لْقَرْيَةِ ?لظَّـ?لِمِ أَهْلُهَا وَ?جْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَ?جْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً [النساء:75].
إن العدو ـ إخوتي ـ لا يتسلل إلا من خلال الصفوف المنافقة، ولا تكون عدوى الضعف والخبال والتفرقة إلا من قبل أصحاب المسالك الملتوية داخل الصف، فالحذر الحذر منهم لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَـ?لَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ?لْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّـ?عُونَ لَهُمْ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ بِ?لظَّـ?لِمِينَ [التوبة:47].
فاتقوا الله أيها المسلمون، وأجمعوا أمركم، وتفقدوا إخوانكم الذين هم أشد في ما يكونون حوجة لكم، ولئن كانوا قاموا عنكم بواجب الجهاد والمجاهدة لحماية بلاد المسلمين ومقدساتهم في فلسطين فقوموا أنتم بواجبكم اليوم في مدِّ يد العون لهم وبالسخاء والبذل أداءً للواجب ونصرةً لهم ودفعاً لشرِّ أعدائهم وإطفاء لغضب الرب، تقبل الله منا ومنكم.
(1/3145)
كيف ضعف المسلمون
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض صور ذلتنا وبعدنا عن ديننا. 2- أمة الغثاء التي أخبر عنها النبي. 3- أسباب ضعف المسلمين. 4- قوة أمة الإسلام في إيمانها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله..
أيها الإخوة المؤمنون، تتعرض الأمم عبر تاريخها إلى كبوات من الضعف والتأخر والهزيمة.. لكنها لا تلبث أن تنهض من كبوتها هذه متى مارجعت إلى نفسها ونظرت في أحوالها فعالجت القصور وسدت النقص ورتقت الخلل.
أما إن أهملت نفسها وبعثرت جهودها فإنها تذهب في ركام الأمم الغابرة في التاريخ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد:38].
أيها الإخوة المؤمنون، لننظر في بعض أحوالنا:
- بعدٌ عن شرع الله وإبعاده عن مواطن الحكم والثقافة والأخلاق.
- هدم للمساجد وانتهاك للمقدسات واحتلال للأراضي ونهب للثروات.
- إراقة للدماء وهدم للبيوت وحرق للأحياء وهتك للأعراض.
- اقتصاديات مبنية على الحرام.. وإعلام يبث غالبه السيء من الأخلاق.
- تضييق على الخير ومجالاته، وفتح لباب الشر والفسق وخياناته.
إنها كلها مظاهر تدل على ضعف الأمة، وهي داعية إلى البحث عن أسباب هذا الضعف.. والبحث عن إصلاح حال الأمة.. لتستعيد عزتها ومجدها، إنك حين تقلب النظر في حال المسلمين في القرون الأخيرة ترى أن المسلمين لم يزدادوا إلا ضعفاً، ولم تزدد أخلاقهم على مر الأيام إلا انحطاطاً وتهوراً.. ولا أحوالهم وشؤونهم إلا فساداً.. ترى أمة في غالبها جوفاء.. لاروح فيها ولادم.. وأصبحت بلادهم مالاً سائباً لا مانع له.. وأصبحت دولهم فريسة لكل مفترس؛ حتى صدق فيها ماقاله صلى الله عليه وسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه: ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها)) ، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن)) قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) رواه أبو داود وغيره.
أيها المسلمون، إذاكنا خير الأمم التي أخرجت للناس بمنطوق القران، فما بال أمتنا أصبحت بهذه الحال من الضعف والتردي والهوان حتى أصبحت من أذل الأمم إن لم تكن أذل الأمم في واقعنا المعاصر؟
إذا كنا خير الأمم فكيف عظم فينا البلاء؟ حتى نطق الأخرس.. وتكلم الرويبضة، وأمسى من لا رأي له هو صاحب الرأي المقدم، نفوس صغيرة ذليلة فقدت طعم العزة، وأفئدة غافلة لاهية نسيت ربها واستخفَّت بوعده ووعيده في الدنيا والأخرة. لقد عظم البلاء حتى تدحرجت قضايا الأمة تحت أقدام يهود حاقدين وبدعم نصارى متآمرين، وتحت أنظار مستسلمين متخاذلين.
لقد عظم البلاء حين أصبح ديننا أقوالاً وشعاراتٍ بلا أفعال، وحين أصبح تعليمنا تنظيراً لا تطبيقاً، واقتصادياتنا في غالبها حراماً لا حلالاً. وحين لم تصبح المرأة لدينا مربية للأولاد ولامعلمة للأجيال ولا مهيئة للأبطال وإنما هي سلعة في سوق النخاس؛ للأزياء والجمال، فضاعت وأضاعت الأجيال إلامن رحم الله.
إذا كنا خير الأمم ـ ونحن كذلك بإذن الله ـ فلا بد أن نبحث في أسباب ضعفنا ومن أين أتينا؟ كيف استطاع الأعداء غزونا؟!.
إن المسلمين ـ إخوتي ـ لم يكونوا بحاجة إلى هذه الدماء المهدرة والحقوق المضيعة في فلسطين وغيرها من بقاع المسلمين ليكتشفوا ضعفهم وذلهم شعوباً وحكومات، فلقد مرت أحداث جسام ووقائع عظام عكس مرآها للمسلمين قزامة قاماتهم أمام العالم.. ورأوا تراجعهم وذبول عطائهم وتراجع اقتصادياتهم ونهب مدخراتهم وتدني دخولهم وشيخوخة دولهم.. وانتهاك حقوقهم، وهذه الصورة المحزنة جعلت بعض المسلمين ينحلون عن مبادئهم ويسعون حثيثاً في الجري خلف وعود الكفار وقرارات منظماتهم التي تظلم، وتعد ولا تنجز. مهملين أوثق عرى الدين، الولاء للمؤمنين والبراءة من المشركين.. وكذلك هرب البعض من مواجهة هذه الصورة القاتمة ليلجأ إلى استقدام آمال مشجعة، وإبر مخدرة يقتصر بجهده عليها بدون أن يقدم الحلول الناجحة ويرعى المشكلات القائمة، فأصبحت آمالهم سراباً بقيعة؛ يحسبه الظمآن ماء فإذا ماجاءته الأمة لم تجده شيئاً.
لكن طائفة ثالثة لم تهون من المشكلات ولم تقلل من خطرها على الإسلام حدوداً ووجوداً، وأنظمة وشعوباً، ولم تجابه واقعها المرير باليأس ولا بالهروب بل بالمواجهة المتعقلة واستكشاف سبل العلاج وإصلاح ما فسد من الناس وهذه هي الطائفة المنصورة بإذن الله، استعانت بالله على أسباب الضعف بالعمل بصبر وجلد وإتقان لردم هوة التخلف ونبذ ثقافة الفتنة وسياسة الشرذمة والتجسس والوشاية وتحسس أوجاع الأمة وعلاجها وإحياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رفعت الطائفة المنصورة النهج الإسلامي راية وسلوكاً.. وطرحت المنهج الإيماني عقيدة ومنهجاً.. عملت كل ذلك مستعينة بالله، فأعانها وسدد خطاها، فظلت في الأمة منصورة قائمة لايضرها من خذلها ولامن خالفها حتى يأتي أمر الله، نسأل الله جل وعلا أن نكون منهم.
أيها المؤمنون، لا بد لنا ونحن نرى هذا الضعف والهوان الذي لا يليق بخير الأمم من وقفة متأنية ونظرات تحليلية لتشخيص أعراض الضعف في المسلمين وكشف أسباب الوهن لنحاول علاجها وبث الحلول لإنهائها.
1– إن من أسباب ضعف المسلمين بعدهم عن دينهم وغياب الإيمان بالدين وتطبيق تعاليمه في كثير من الأمور التي تهمُّ حياة الناس من أنظمة الحكم والسياسة ومراتع الفن والثقافة ومجالات الاقتصاد والأسرة حتى جاهر الناس بالمعاصي واستعلنوا بها، وأصبحت بعض المعاصي غير منكرة في المجتمع المسلم.
لقد أصبح الالتزام بالإسلام عقيدة وشريعة لايعكس عظمة هذا الدين ورسالته بوصفه خير الأديان والمقبول منها عند الله.. لقد أصبح الدين شعاراً ومظهراً وليس دثاراً ومخبراً، هذا الدين حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والقرون المفضلة بعده إلى ذرى المجد وأحلَّهم في مواقع القيادة للعالم، لكن التأخر الحالي للمسلمين دليل خلل في علاقاتهم بدينهم، ولن نخرج من هذا الخلل بتمييع أو اختزال أو بعلمنة الدين أو إقصائه عن الناس وحياتهم، فهذا باطل ثبت أنه يضر الأمة ويضلها. وإن إحياء الدين في نفوس الأمة وعقولها لن يكون ـ بتوفيق الله ـ غلاً يكبلها بتعليم شرعي ودعوة إلى الله وتطبيق لنصوص القرآن والسنة، ونبذ الشرك والمعاصي التي أبعدت الأمة عن دينها.
2– إن من أسباب ضعف المسلمين جهود الأعداء خارجها لصرف هذه الأمة عن دينها.. فغزوا المسلمين عسكرياً وفكرياً وأبعدوهم عن كل طريقة جادة ونفخوا في القوميات الإقليمية والنعرات الجاهلية.. وقطعوا حبال الأخوة وسعوا في إضعاف العقائد والفضائل، وأغرقوا الميادين بالشبهات والشهوات وسفكوا الدماء وغصبوا الأراضي وصادروا الحقوق والحريات لشعوب المسلمين، وقصفوا بلدانهم وحاصروها ومنعوا عنها أبسط سبل العيش من غذاء ودواء.. ثم يدعون بعد كل ذلك حرصهم على إقامة السلام والعدل في العالم، وهو سلام وعدل لا يحقق إلا مصالحهم، ولا يبحث إلا عن إرضائهم وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217].
لكن هذا العدل الخارجي أثر على المسلمين حين تسلل من خلال صفوف داخلية منافقة من أصحاب المسالك الملتوية الذين مكن لهم في بلاد المسلمين ـ مع الأسف ـ فجاسوا خلال الديار بشبه وشهوات، وخانوا الأمة وشروا بلادهم بثمن بخس وفتحوها للأعداء، يعبثون فيها بتشجيع من هؤلاء المنافقين المستهزئين المستغلين للأزمات والفتن لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَـ?لَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ?لْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّـ?عُونَ لَهُمْ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ بِ?لظَّـ?لِمِينَ [التوبة:47].
3– إن من أسباب ضعف المسلمين ـ إخوتي ـ أن الأمة إنما ذلت وضعفت حين تراخت وركنت إلى اللهو والترف وتركت عزائم الأمور، ومن أعظمها ذروة سنام الإسلام، ألا وهو الجهاد قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا تبايعتم بالعينة ـ أي الربا ـ واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لاينزعه عنكم حتى تحدثوا توبة)).
إن المسلمين ضعفوا لما رضي بالقعود أولو الطول والقادرون ممن يملكون وسائل الجهاد والبذل، ضعفوا لما رضوا أن يسمى الجهاد إرهاباً والمقاومة المشروعة عنفاً، والاستسلام والتخاذل سلاماً، لا يذودون عن حرمة، ولا ينتصرون لكرامة، ولا يخشون لصََغَار ولا ذلة، استصغروا أنفسهم، واستعظموا أعداءهم، وتناسوا إيمانهم وجنود ربهم.
3- ماذا جنى المسلمون من ترك التناصر بالإسلام والأخذ بعزائم الأمور؟! ماذا جنوا حين تركوا الجهاد ولجؤوا إلى غربٍ كافر؟ يرجون عنده الحل لأزماتهم التي لا حل لها إلا بالجهاد ؛ وبالجهاد الشرعي، مع إعداد وسائله ومقوماته نرهب أعداء الله فلا ينصرون، وعلى ديار الإسلام لا يعتدون وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ?للَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال:60].
أيها المسلمون:
4– ومن أسباب ضعف المسلمين: هذا التفرق والتشرذم والخلاف فيما بينهم، الذي أصاب الأمة في مقتل، فمشكلات المسلمين فيما بينهم تمتد لسنوات طويلة وتطال دماءهم وأعراضهم وأموالهم وحدودهم التي زرعها الكفار فيما بينهم، وأرهق المسلمون واستنزفتهم هذه المشكلات التي أصبحت أسباب تفرقة، وقادتهم إلى حروب داخلية يكون بعضها أضرى من حروب خارجية فسببت العدواة فيما بينهم وزرعت البغضاء والأحقاد محل المحبة والتواد، وهذا من صور الاختلاف الذي نهى الله عنه وحذر عباده منه وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَ?خْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ?لْبَيّنَـ?تُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105].
وكان من نتيجة التفرق هذا أن استهان بهم الطغاة ورماهم العدا عن قوس واحدة أصابت الصميم. ففي الوقت الذي نرى فيه أعداءنا يتحِدون في العالم قوة ضاربة يتحكمون فيه كما شاءوا، نرى بلدان المسلمين كل يوم تزداد اختلافاً وتنازعاً وبعداً وتفرقاً، فأصبحوا لقمة سائغة لتداعي الأمم على حربهم، وصدق الله جل وعلا إذ يقول: وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].
5– ومن أسباب ضعف المسلمين أن الأمة فقدت الصلة التاريخية مع جيلها السابق الذي تمسك بالدين فتتحقق لهم الانتصار كما في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته والقرون المفضلة بعده.. فأهملت الأمة تاريخها بالرغم من أن القرآن الكريم امتلأ بقصص الأقوام السابقة؛ عظة وعبرة لنا بأحوال الأمم في كفرهم وإيمانهم وشقاوتهم وسعادتهم؛ ومما يفيد الإنسان في حياته؛ المثلات والوقائع السابقة وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِ?لسَّيّئَةِ قَبْلَ ?لْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ?لْمَثُلَـ?تُ [الرعد:6]، فهل رجعنا إلى تاريخ أمتنا فعرفنا أسباب قوتها فالتزمناها وأسباب ضعفها فاجتنبناها؟.. هل درسنا تلك الفتوحات العظيمة لبلدان العالم ودوله الكبرى زمن الصحابة والتابعين؟! هل درسنا كيف أثر أعداء الإسلام لاسيما المنافقون وفتنهم على المسلمين عبر العصور؟! هل بحثنا في أسباب حروبنا مع الصلبيين ثم كيف أخرجناهم؟! هل بحثنا في أسباب سقوط الأندلس؟! هل تأملنا كيف أسقطت خلافة المسلمين في تركيا؟! ثم هل بحثنا في أسباب نكبتنا في فلسطين منذ أكثر من خمسين سنة؟!
إننا يجب أن نتأمل التاريخ الماضي لنستلهم منه العبر للحاضر، وإن الأمم التي لا تقرأ تاريخها، وتهمله؛ سيأتيها مستقبل ليس لصالحها.
ليس بإنسان ولا عاقل من لا يعي التاريخ في صدره
ومن روى أخبار من قد مضى أضاف عمراً إلى عمره
6– إن من أسباب ضعف المسلمين ـ إخوتي ـ غياب التخطيط وعدم استشراف المستقبل حتى نحدد مكاننا ونبني قوتها ونعدها عندما نحتاجها، وحتى نجعل الإسلام والمسلمين في جوهر الحياة وتطوراتها بدلاً من هذا الإقصاء الذي نراه في العالم اليوم للإسلام.. فمن التخطيط والإعداد الجيد أن نعرف طاقاتنا التي نملكها ومشكلاتنا التي نعيشها لتعالج الطاقات بعون الله المشكلات.
إن هذا التخبط الذي تعيشه الأمة دليل غياب التخطيط ومعرفة العدو حق المعرفة لقد أصبحت تصرفات كثر من المسلمين تشنجات وردود أفعال للأزمات التي تفاجئهم والأحداث التي تتقاذفهم.. هذه التصرفات التي ضرت الأمة وأضعفتها أكثر مما نفعتها. فإن ردود الفعل لاتحل أزمة ولاتزيل تسلطاً واحتلالاً؛ بل يجب ـ بدون ضعف أو تخاذل ـ أن نفهم الأعداء جيداً كيف يفكرون ويتصرفون وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ?لْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55].
7– إن من أسباب ضعف المسلمين عدم تطور التعليم في بلدانهم وعدم صياغته علمياً وعملياً بحيث يحقق الأماني في تجاوز الواقع المؤلم، فالأمة تنهض بتوفيق الله ثم بتعليم مبني على كتاب الله وسنة رسوله الكريم، وتعليم يستوعب المفيد من علوم العصر الجديدة.
إننا حين نتأمل نتائج التعليم لدينا نراها متواضعة بما هو مرجو منها وما أنفق عليها.. إن التعليم لن ينجح ـ بإذن الله ـ بمعزل عن التفاعل بين المجتمع والمدرسة، لن ينجح إذا غاب عنه الإخلاص والتخطيط ولن ينجح إذا لازمه تعجل النتائج وتناقض المشارب، إن التعليم يزيل عن الأمة أسباب الجهل بدينها ويعطيها دوافع نمائها ويحقق أسباب وجودها ويساهم في أخلاقها لتتحصن ثقافياً وأخلاقياً وتقوى بعد الضعف؛ فتكون الأمة المسلمة مصدر الأصالة ومنبر التوجيه ومنار التأثير.
أيها الإخوة:
8– إن من الأسباب التي أضعفت المسلمين اختلال الأسس التي تقوم عليها الأسرة في مجتمعنا إما بإهمال أبوي للرعاية والقوامة، أو بسوء معاملة تبغضه لدى أهله وأولاده، أو بضعف دور الأم التي انشغلت عن بيتها وأولادها بالموضات والأسواق والسهرات أو بإغفال مواهب الأولاد من بنبن وبنات وهدر طاقاتهم في المنزل والخارج على ما يعود عليهم بالضرر أو بقلة نفعهم في الأمة، أو ترى قطيعة رحم بين الأقارب أبعدت ما بينهم وغير ذلك من مظاهر غزت الأسرة وهي اللبنة الأمتن في بناء المجتمع وأضعفت بناء الوطن والأمة.
9- إن من أسباب ضعف المسلين تسرب عدد من الأمراض إلى نفوسنا سببت للأمة الذلة والهوان والهزيمة والضعف، فالكثير منا رضي بفشله ولم يحرك ساكناً، وبعض المسلمين يزدري كل مايتصل به من دين وخلق، ويستحي من نفسه وأمته، ويؤمن بفضل الغربيين ويفضلهم وتتسرب ثقافتهم إليهم ويسعى لتغريب الأمة.. وسيطرت المادة وانشغل الناس في تحصيل الرزق فأصبحت المادة همهم وأصيبت الأمة بالتواكل الذي ضيع جهودها وفقدت الحكمة في الدعوة والموعظة وحصل استعجال للنتائج واختصار لمراحل الصراع مع الأعداء بلا إعداد، مما أدخل الأمة في متاهات ضيقة، فتحملت من العبء ما لا تستطيع، ومن العنت والعذاب ما لا تطيق.
10– كما أن من الأسباب التي أضعفت الأمة ركون بعض الأمة إلى الظَّلَمَة وزينوا لهم ظلمهم فاستفحل شرهم وعمّ الطغيان، فظهر جيل من الجلادين قساة القلوب فاقدي المشاعر.. يصبون العذاب والإيذاء فوق المسلمين من بني جلدتهم ويقهرونهم ويذلونهم، يصاحب ذلك إهانة للكلمة ومصادرة لسبب الإبداع وحرية الفكر؛ المضبوط بضابط الشرع والعقل، وهذا ما فقده غالب المسلمين بمصادرة حرياتهم وإهانة كرامتهم وانتهاك أبسط حقوقهم في التعبير والعيش التي كفلتها الشريعة لهم، فأقصي الإنسان المسلم وأشعر بالحصار فحرمت الأمة من عطائه ومشاركته فساهم في إضعافها.
11– إن من أسباب ضعف المسلمين المهمة هذا الإعلام الذي أصبح في غالبه يمثل الأمة شكلاً، لكنه بعيد مضموناً عن رسالة الأمة ونسبتها إلى دينها وتراثها؛ لقد بات إعلامنا في كثير من قنواته وصحفه باطلاً تختنق الفضائل في لُجته وَتنْبَتُّ الأجيال في حمأته، خلَّط ولبَّس، يصبح فيه المجرم ـ الذي باع وطنه وشعبه ـ بطلاً، والخائن أميناً، والغادر مجاهداً، والفنان واللاعب قدوة، إعلام يقدم الربح المادي على الفائدة، ويقلد الغرب الكافر بلا مواربة، إعلام زائف مضلل يعبث بعقول مشاهديه ومستمعيه وقارئيه ويطرح في غالبه ما يضر أو لايجلب النفع.. شعارات كاذبة وبطولات موهومة فضاعت من ورائها الشعوب وضعفت الأمة بإعلامها الذي كان من المفترض أن يقودها.
أيها الإخوة المؤمنون:
12– إن من أسباب ضعف المسلمين تهميش الخيرين الذين يريدون الخير بالأمة والمجتمع، ويسعون لإصلاحه والبحث عما يسعده، ومن ثَمَّ تقديم وإبراز المتلاعبين بمصير الأمة، الذين يسعون لإفسادها، ولا يحققون لها الخير من المنافقين والمتخاذلين.
فعلى مر التاريخ الإسلامي لم يستطع المسلمون أن يحققوا التقدم والنصر على الأعداء وتحرير المقدسات إلا حين أخذ برأي الخيرين الصادقين من العلماء والناصحين على عكس ما بليت به أمتنا به في الوقت الحاضر حين تصدى لقضاياها جيل من المسلمين متنور الذهن، ولكنه مظلم الروح، أجوف القلب، ضعيف اليقين، قليل الدين والصبر والجلد، ضعيف الإرادة والخلق، يبيع دينه بدنياه، ويبيع أمته وبلاده بمنافعه الشخصية وبجاه وعزة وهمية، ضعيف الثقة بنفسه وأمته، متكل على عدوه وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَـ?مُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ ?لْعَدُوُّ فَ?حْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ?للَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4].
13– أن من أسباب ضعف المسلمين التناقض الكبير لدينا بين القول والفعل، والكم والكيف، والجمود المسيطر على بعضنا في الوسائل التي يمكن لنا بها أن نتقدم ونتطور، ولو استفدنا بعضها من الغرب بدون ان نتأثر بعقيدتهم وفكرهم، فأصيبت الأمة بالضمور والتخلف العلمي والتقني. فنحسب كم أنفقنا ولا نحسب ما استفدنا، ونهمل غالباً من نجح، ولا نحاسب من قصر، نهدر طاقتنا التي نسرف فيها من أموال ومياه وغيرها، ونشوه مرافقنا أو نهمل الاستفادة منها ثم نقول كما قال قوم عاد: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]، وكأننا نتشبع بما لم نعط، نهمل الكثير، ونرضى بالقليل الذي لا ينفعنا، نفرح بما يرضي العاطفة، ولكننا لا نقدر العواقب ونحسب للمستقبل.
واعلموا أن نقد الذت، وتجاوز الأخطاء وتصحيحها من مظاهر الكمال الإنساني ودليل الصدق مع النفس.. كما أن الفشل في بعض المواطن أو الفترات لا يجوز أن يكون مثبطاً للعزائم مؤدياً إلى قتل الهمم.
أيها الإخوة المؤمنون، إنها كلها أسباب يجب أن أن لا تكون معرفتها سبباً لليأس والإحباط بل يجب أن تقوى عزائمنا على المضي في طريق نشر الإسلام والدعوة إليه.. إن ماذكرناه من أسباب ضعف وتأخر المسلمين ليست نصوصاً معصومة لا تقبل النقد، بل هي اجتهاد لم نرد منه إلا دفع الهمم لعلاجها، واستدراج الحوار نحوها لعلنا أن نوفق إلى مايخدم ديننا وأمتنا، إن ماذكرناه من أسباب الضعف لا ينسى أو يتناسى جوانب الخير والعودة إلى الدين ونشاط الأخيار في كل الأقطار الإسلامية، فهي ـ بحمد الله ـ موجودة، نسأل الله أن يكثرها وأن يبارك فيها ويزيدها نمواً وأن يخذل الشرَ وأهله، واليأسَ ومن ينعق من غربانه، والتحللَ ومن ينشره من أعوانه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ?لْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ ?لاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لظَّـ?لِمِينَ [آل عمران:140].
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه..
إذا كنا قد عرفنا أسباب الضعف فلا بد أن نعلم إخوتي أن مكمن القوة في المؤمن قوة إيمانه، وجميل صبره وحسن ثباته، غير هياب ولا وجل، ولو تكرر منه الإخفاق والفشل.
إن الأمة تكون عزيزة حين ترى أبناءها على خلق الشجاعة وصرامة العزم وعلو الهمة.. تكون عزيزة حين تلد أبطالاً، وتعد أجيالاً، وتبذل جهوداً لا يُقعِدها بخل، ولا يلهيها غنى.. لا يصنع التاريخ إلا الرجال أصحاب العزة أهل الحق والإيمان، الذين يغيرون مجرى التاريخ بعون الله ثم بكفاحهم المتواصل وعزائمهم التي لا تلين.. وإن أول من يجب أن يتحلى بالعزة.. رجال الأمة الذين وُكِّل إليهم تدبير شؤونها من العلماء والمعلمين والقادة والسياسيين وأولو الأمر وأصحاب النفوذ فيها.. يجلبون للأمة العزة لا الذل والضعف، حين يكونون قيادات صالحة مصلحة قوية راشدة طاهرة مؤمنة فذلك ركن من أركان العزة.
ولتعلموا رحمكم الله أن العزة لأهل الإيمان والحق باقية ما استقاموا على النهج وأصلحوا نفوسهم وأخذوا بدروب الاستقامة؛ فالعزة لا تجتمع مع الدنايا والبعد عن الله ومحاربة الله ورسوله والجرأة على انتهاك حرماته والمجاهرة بالفسوق والمعاصي، تذل الأمة وتضعف وتفقد كرامتها حين تنحرف نفوسها عن غاياتها وتضل أقدامُها طريقَها، حين يتلاشى الدين من مظاهر الحياة، وحين يقدَّم المنافقون العلمانيون ويؤخر الدعاة الصالحون.
أيها المؤمنون، لم تبن أمة مجدها ولم ينل شعب عزته باللهاث خلف الملذات أو بانتشار الفوضى والظلم أو غياب الحق والعدل.
اتقوا الله رحمكم الله، فإن عزة هذه الأمة ورفعة أهل الحق لا تتم ولن تكون إلا بالعضِّ على هذا الدين عقيدة وشريعة، صدقاً وعدلاً، إحلالاً للحلال، وتحريماً للحرام، ثباتاً في المواقف، ثباتاً لا يزعزعه تهديد ولا إغراء.
ومن رضي بالحياة الهينة واستمرأ المعصية واستثقل حمل الشدائد، فلن يحقق مجداً ولن يحوز عزاً، كما لن يحفظ حقاً مَن كَانَ يُرِيدُ ?لْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ ?لْكَلِمُ ?لطَّيّبُ وَ?لْعَمَلُ ?لصَّـ?لِحُ يَرْفَعُهُ وَ?لَّذِينَ يَمْكُرُونَ ?لسَّيّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر:10].
(1/3146)
غربة الدين والواقع المؤلم
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قيام حجة الله على خلقه في إرساله الرسل. 2- تحذير النبي من الافتراق والاختلاف. 3- مظاهر لغربة الإسلام بين أهله. 4- أسباب الغربة. 5- الحرب على الدين وعلمائه. 6- الكذب والخداع في صور الحرب على الإسلام. 7- صور جديدة لغربة الدين في مجتمعاتنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى.
أيها الأحبة، قام أنبياء الله ورسوله بأعظم رسالةٍ في تاريخ البشرية، فقد أدّوا رسالات الله وجاهدوا وصبروا وبلّغوا وبيّنوا وأعذروا إلى الله وبلغوا رسالاته رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ?للَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ?لرُّسُلِ [النساء:165]، أما رسالتهم فهي الحق، الحق الذي من أظهر صفاته وضوحُه وبيانه وقوة أدلته وظهور حججه، فللحق إشراق وضياء، وللباطل ظلمةُُ وغموضُُ وخفاء، والحقُّ أبلج، والباطل لجلج، والحق أبداً واضحُُ مبين يُرِيدُ ?للَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ الآية [النساء:26].
لقد أنزل الله آياته مبيّنات، وأرسل رسله بالبيّنات، وجاءت أصول ديننا الإسلامي كالشمس وضوحاً لا ينكرها أو يتعامى عنها أحدٌ، حتى اللغة التي أرسلت بها الرسل كانت بلغة أقوامهم وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4]، وكان في مقدمة هؤلاء الرسل نبينا ورسولنا محمدٌ الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين ولحق بالرفيق الأعلى بعد أن ترك أمته على المحجة البيضاء، ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها إلا الهالكون.
ثم نقل الدين بعده أصحابه رضي الله عنهم، ففارقوا من أجل هذا البيان أوطانهم وأولادهم، وضحوا بكل غالٍ لديهم، من أرواحهم أموالهم وأعمارهم، ثم تناقل الدين العلماء المخلصون والمجددون العاملون حتى وصلنا الدين صافياً كما أُنزل على محمد فكتاب ربنا وسنة نبينا بين أيدينا، لكن هذه الأمة التي غادرها النبي قوية، عزيزةً موحدةً على كلمة الله قائمةً بأمر الله، وبعد أن تولّت عنها الأزمنة الفاضلة نفذت إليها عوامل الضعف والترّدي كما نفذت إلى الأمم السابقة، وأثرت فيها أسباب التفرق والاختلاف والتنازع حتى أصبحت أهواءَ شتى وآراء متباينة، وفرقاً يكفر بعضها بعضاً، ويقتل بعضها بعضاً إلا من عصم الله منهم.
ولذلك فقد جاءت النصوص الشرعية من قرآن وسنة مبينة افتراق الأمم واختلافها، وكذلك التحذير الصحيح من الفتن وأسبابها ودواعيها ومبينة أثر هذا الافتراق على الأمة، وهو علامة من علامات غربة هذا الدين التي بدأ بها وسينتهي إليها.
أخي المؤمن، إذا قلبت نظرك في حال المسلمين اليوم تتبين لك غربة الدين واضحة، تراها في حال المسلمين رغم هذا الضياء لدين الله، ترى حال الأمة يؤول إلى ما أخبر عنه ، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز إلى المسجدين كما تأرز ـ أي ترجع ـ الحية إلى جُحرها)) رواه مسلم وغيره.
استحكمت غربة الدين في مظاهر كثيرة في واقعنا المعاصر وفي مجتمعنا الإسلامي، منها ما نشاهده في كثير من بلاد الإسلام من انحراف خطير في عقيدتهم في رب العالمين والإيمان به وتوحيده بالعبادة ومن عودةٍ إلى الوثنية وانتشار مظاهر الشرك وعبادة القبور وتقديس الأولياء المزعومين، عادت الغربة عبر مظاهر مزرية من الانحلال الخلقي في السلوك. أصبح ظاهراً ومعلناً ومحمياً من قبل الدول، وترعاه مؤسسات وقنوات، ويدخل إلى الأسر والبيوتات.
عادت الغربة من خلال تساهل كثير من المسلمين في كبائر الإثم ووقوعٍ في الموبقات والفواحش، عادت الغربة من خلال التفريط في العبادات وتضييع أوكد المفروضات، وجهل كبير بأحكام الحلال والحرام، وغير ذلك من الآفات والآثام، حتى صار الإسلام في نفوس كثير من المسلمين بالاسم والهوية، ليس إلا عاطفةً باردة، أو فكرةً جميلة، أو عصبيةً أو عرقيةً، أو قصةً عبر التاريخ، لا يبذل لها شيئاً يكلفه، ولا يدافع عنها بشيء يخسره، ولا يضحي لأجل الدين، وهكذا بقي ما بينه وبين الإسلام إلا اسمه الذي سمي به، أو وطنه الذي يعيش فيه، التبست لدى كثير من الناس معالم الدين ومكارم الأخلاق، وتداخلت لديهم الحدود بين الحلال والحرام، والمعروف والمنكر، إما بسبب غزوٍ فكري خارجي أو تراخٍ علمي، أو تراجع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى رفعَ في هذه الأجواء أهلُ الجهل رؤوسَهم، وشحذ أهل الجاهلية ألسنتهم وأسنتهم، وبرَوا أقلامهم ليتربصوا بالدين وأهله الدوائر.
إن من أهمِّ أسباب غربة الدين ما ذكره الله تعالى وحذرنا منه حين قال معاتباً أهل الكتاب: وَلاَ تَلْبِسُواْ ?لْحَقَّ بِ?لْبَـ?طِلِ وَتَكْتُمُواْ ?لْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]، إن لبس الحق وتزيين الباطل والتغرير بالأمة ومنع الحق وحبسه عن الناس ثم سوق الباطلُ في لباسِ الخيرِ، كلُّ ذلك سبب لضياع الحق وانتشار الباطل وظهور الفساد في البر والبحر، وهذا ما بليت به الأمة، فالحق كتمه أهله من العلماء والمصلحين، إما تواكلاً وفتوراً، وإما جبناً وخوراً، وإما جهلاً بوسائل نشره، وإما خشيةً من ذهاب بعض دنياهم، وإما طمعاً في جاه أو دنيا ينالونها بسكوتهم ويقدمون الثمن بالدين.
أليس من العار أن نرى الملايين من المسلمين يطوفون بالقبور ويتمسحون بالأوثان ويعظمون الأولياء ويقدسون الآيات في الحوزات، وقد فقدَ كثيرٌ منهم عقيدةَ الولاء للمؤمنين والبراءة من المشركين، ويشرك بعضهم بالله الشرك الأكبر بكل وسائله، ثم لا يجد هؤلاء من العلماء في بلدانهم نكيراً ولا توجيهاً ولا تعليماً، بل قد يجد بعضهم أعذاراً يتعذرون لهم بها عن هذا الشرك إلا ما قلّ، فهل بعد هذا من غربة؟!
أليس من العار أن نرى العالم الإسلامي يحكم غالبه بالجبت والطاغوت، عبر قوانين وضعية يهمل فيها شرع الله ثم لا تجد من أهل العلم إلا تنديداً واهياً لا يسمن ولا يغني من جوع، أما أهل الباطل فمكروا كل المكر، وكادوا المكائد، وكان سلاحُهم لبسَ الحق بالباطل وتقديمُ المنكرات في ثياب التغرير والتلبيس على الأمة، وتزعموا منابر لتوجيه في الإعلام والتعليم فإذا هم دعاة على أبواب جهنم سخروا ألسنتهم وأقلامهم، وصحفهم وبرامجهم لهدم الإسلام في نفوس المسلمين، نمقوا الباطل وقدموه بأسماء مختلفة وذرائع شتى، وهذبوه حتى هان في قلوب كثير من المسلمين، أسسوا لفكر مشبوه، وجعلوا من أنفسهم مراجعَ سلوكية، ومصادر معرفية تضخُّ إعلاماً عفناً وعلماً إبليسياً، ويملؤون الساحة صياحاً ونباحاً كلما تصدى متصدٍ وقاوم مقاوم محاولتهم تغريب المسلمين، مناهج ومدارس وأنظمة علمية ومنظومات فكرية.
لقد روَّج أهلُ الباطل باطلهم وخلطوا معه شيئاً من الحق حتى تقبَّله الناس وعمَّ وطمَّ وفُرض على الأمة وأصبح واقعاً محتوماً لا ينكر، أما الحق فقد شككوا فيه وسخروا من أهله ووصفوه بأقبح العبارات ورموا الدعاة إليه بأنواع التهم التي تحول بين المسلمين وبين الاقتداء بهم.
ثم حاربوا الحق جهاراً لما ضعُف ناصروه وقلّ أعوانه وسلكوا في سبيل ذلك مسالك شيطانية، وصاغوا الباطل في قوالب شتى وشخصيات مختلفة، وإذا ما دعا عالم أو طالب علم إلى تأسيس المعرفة على الإيمان وإقامة الحياة على الإسلام، وإحياء الجهاد تنظيراً وتطبيقاً، والولاء والبراء معتقداً، وصيانة المرأة عقلاً وقلباً وحجاباً، نعقت تلك الغربان في صحفها وإعلامها، ورفعت عقيرتها بالتعجب تارة والتهكم تاراتٍ والتهجم على تلك الأفكار، في عالم نحِّي فيه الدين وحكم العقل وعُطلت المبادئ وأعملت المصالح وهمَّش العفاف وقُدِّم السفور والتبذل.
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
تراهم يتهجمون على العلماء في بعض فتاويهم ودعوتهم وهم يعلمون أنهم إنما أفتوا بالإسلام، وحكموا بالكتاب والسنة حسب اجتهادهم، ولكنهم يهاجمون الإسلام ويحاولون نقض أساساته في صورة المفتين والدعاة، تراهم يسمُّون التمسك بالإسلام أصوليةً، والجهاد في سبيل الله إرهاباً، والبراءة من المشركين تشدداً، والتخاذل للأعداء سلاماً، وتعدد الزوجات والحجاب وقوامة الرجل على المرأة عاداتٍ وتقاليد بالية، وباتوا يتحججون بكتاباتهم في الجرائد، بمسمى الحرص والوطنية ونبذ الفتنة أَلا فِى ?لْفِتْنَةِ سَقَطُواْ [التوبة:49].
وهكذا وبفعلهم هذا استحكمت غربة الدين لدى الأفراد والمجتمعات في عالمنا الإسلامي وانقلبت الموازين، المعروف أصبح منكراً، والمنكر معروفاً، وانقلب الإفساد في الأرض إصلاحاً، والإصلاح إفساداً، صار الصدق سذاجة، والكذب دهاء، وأصبحت الوقاحة والتبجح جرأة، وأصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنةً وفضولاً وتدخلاً في شؤون الغير، وتُكال الهجمات المبطنة والظاهرة على جهاز الحسبة ورجاله، يريدون إسقاطه، أما المجاهرة بالمعاصي والاستعلان بالمنكر فحرية شخصية، وأما الاستهزاء بالدين والطعن فيه وفي جهاته فهذا من حرية التعبير والفكر التي لا يحاسب قائلها أو كاتبها.
لكن هذه الحرية تضيق جداً عن الجهر بالحق والدعوة إليه وتوضيح الحق للأمة، وهكذا أصبح وبات المسلمون، فشباب الأمة أغوتهم أنواع الانحلال وأغرتهم المحرمات من الشهوات، فإذا نظرت إليهم فإذا هم لاهون عن مصاب أمتهم التي يراق دمها وتدنس مقدساتها وتستباح أراضيها، وهم عكوف على دور اللهو والقنوات الفضائية حيث تذبح الفضيلة ويفْرى الحياء، وكأنهم يرقصون على جراح أمتهم، أو تراهم على مدرجات الملاعب حيث تبديد الطاقات والأوقات والأموال على الكرة.
أما الربا الذي هو حرب على الله وعلى رسوله من أكبر الكبائر واستحق مرتكبوه ومن شاركوهم فيه لعنة الله، خفّ كل ذلك في قلوب ومعاملة الكثيرين، وصار الربا مجرد فائدة أو عوائد بنكية، وأصبح مالاً حلالاً، له مؤسساته ومبانيه الشاهقة المحمية بقوة الأنظمة، أما المجون والعربدة والجنس الرخيص فصار يحاط بكلمة الفن من غناءٍ وتمثيل ورقص وغيرها، ومن ثم يتبجح به أهله وتقام له في بلاد المسلمين الدور والمعاهد لتعليمه للأجيال وتصرف من أجله الطاقات والأموال، لأنه بزعمهم من ضروريات الحياة العصرية، بل وتقام الحفلات والمهرجانات الغنائية الصيفية والشتوية بلا مراعاة لجراح الأمة ونكباتها، ويكرم أهل الفن وتصرف لهم الأوسمة، فأي غربة للإسلام نعيشها؟
كان لحن الحياة فينا أذاناً يتغنى به الأباة والصيد
يملؤون الوجود براً ونوراً حين يصحو على الآذان الوجود
وإذا اللحن صيحة من رقيع وإذا الترس في المعامع عود
كان أمس الأباة مشرق مجدٍ وإذا اليوم في حمانا اليهود
وأذل العدو منا جباهاً وتلاشا من راحتينا الحديد
ذل من يزعم الهزيمة نصراً تتهاوى من راحيته البنود
أيها الأحبة، كم زين دعاة الضلالة الباطل؟ كم هونوا من الجرائم الخلقية؟ كم حاولوا إبعاد الإسلام عن الصراع؟ وكم جابهوا الدعاة بأبشع الألقاب؟ وهم من بني جلدتنا ويتكلمون ويكتبون بألسنتنا، كم زيّنوا للمرأة عملها وإن كان بعيداً عن الحياء ؟ كم تجاهلوا عمل الأم في بيتها وتربيتها لأبنائها ليمجدوا خروجها من بيتها مهملةً أولادها ؟! كم حاربوا تعليم المرأة المستقل وسعوا بكل ما أُوتوا لاختلاطها مع الرجال؟! كم دعمت بعض وسائل الإعلام إن لم تكن أكثرها التغريب في عقول المسلمين وقلوبهم؟! وكما أن دعاة الباطل ورموزه قساة في حربهم على دعاة الحق فإنك تراهم رقيقين مع اليهود والنصارى ومن شايعهم من أديان الباطل يحزنون لمصابهم، ويتعاطفون معهم ضد المسلمين، ويتقاربون منهم.
أيها الإخوة المؤمنون، إن من غربة الإسلام اليوم أن يهان المسلمون ويذبحون ويحرقون وتطرح جثثهم في الشوارع والمخيمات لأجل دينهم، ثم لا تجد من ينصرهم من المسلمين، بل يتخاذلون عنهم، هذا إن لم تنبر فئة منافقةُُ لخيانتهم!!
إن من غربة الإسلام أن يصبح قاموس الأخلاق مبنياً على العبِّ من الشهوات بلا حساب وعلى كسب مادي يحرك هذه القنوات الفضائية بأفكار تدميرية تجوس في بيوت الناس!!
إن من الغربة المستحكمة أن يقوم كاتب أو روائيُُ في بلادنا بكتابةِ رواياتٍ ثلاثيةٍ ذات مفاسد أخلاقية، وامتلأت فسقاً ثم يعترف مؤلفها على رؤوس الأشهاد أنه بطل تلك الرويات ثم لا يجد محاكمة أو حتى محاسبة، هذا إن لم يكرم ويقدم ويؤخذ برأيه!!
إن من غربة الإسلام أن يلاحق الخيرون في عدد من بلاد العالم الإسلامي وتمتلئُ بهم السجون، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد!!
إن من غربة الدين أن يكرم الفنانون والمتلاعبون بمصير الأمة وأخلاقها وتصرف لهم الأوسمة، وكأن ما فعلوه في صالح الأمة، في حين أنهم هم المفسدون، ولكن لا يشعرون!!
إن من غربة الإسلام أن يؤخذ رأي فئة من فساق من كتبة الصحف ممن يستغلون الأزمات كما المنافقين، تؤخذ آراؤهم في قرارات مصيرية تتعلق بأمن الأمة وتعليمها وأخلاقها، في ذات الوقت الذي يهمش فيه رأي العلماء والصلحاء الغالبية الذين ينصحون للأمة!!
إن من غربة الإسلام هذه الهجمات الشرسة التي تكال للأمة، هجمات شاملةُ متنوعةُ وإجماع من طوائف الكفر على محاربة الإسلام وأهله!!
إنها أمثلةٌُ عجلى من لبس الحق بالباطل وأوصاف ومظاهر للغربة تطال الدين وأهله، وهكذا أصبح الإسلام يموج وسط أمواجٍ من الغربة التي بدأ بها وانتهى إليها، فأين، أين المصلحون ؟ قال رسول الله : ((بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء)) ! قالوا: يا رسول الله، ومن الغرباء؟ قال: ((الذين يُصلحون إذا فسد الناس، ولا يمارون في دين الله، ولا يكفرون أحداً من أهل التوحيد بذنب)).
إن علينا أن نجد لأنفسنا دوراً نحتسب من خلاله إصلاح فساد الناس وتخفيف مظاهر الغربة والمساهمة في نصرة الأمة، كل بما يستطيع، إن علينا أن نوقظ في حس كل مسلم ووعيه أن يزن الأمور بميزان الشرع ويحتكم إلى الكتاب والسنة، وألا ينخدع بزخرف أهل الباطل وكذبهم، إن علينا أن نقيم في الأمة وسائل دفع هذه الغربة وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك الثبات في مواجهة الابتلاء وبناء الدول والمجتمعات على الحق دعوتهم للخير والتمسك برباط الطائفة المنصورة الذين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، فالعزة لأهل الإيمان والحق باقية ما استقاموا على النهج وأصلحوا أنفسهم ومن حولهم، وإن خيرية الأمة محفوظة ما استقامت على الطريقة، وإن على المسلمين اليوم وبين أيديهم كتاب الله وسنة نبيهم أن يتقوا ربهم وأن يراجعوا أحوالهم وينظروا في سنن الله وأحوال من قبلهم ومع غيرهم ثُمَّ جَعَلْنَـ?كُمْ خَلَـ?ئِفَ فِى ?لأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14].
إن الخلافة والتمكين مرتبطةُ بالأعمال الصالحة، والله سبحانه ناظر كيف يعملون وما يبرمون ومن ظلم وخالف فلن يفلت من سنة الله في الظالمين.
وإن مما جلب الغربة للأمة وأعاق نصرها وسبب ماحاق بها من بلاءٍ أنها دانت بمنهاج على غير دين الله، اختلطت عليها السبل، واصطبغت بغير صبغة الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138]، تغيرت أحوالهم وفرطوا في دينهم، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وتركوا الجهاد، لم يكونوا أشداءَ على الكفار ولا رحماءَ بينهم، ولم يعدوا ما استطاعوا من قوة.
أما أعداء الأمة فإنهم مخذولون مهزومون بحول الله، وخَبَر الله فيهم لا يتخلف لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى [آل عمران:111]، إنه ضرٌ لا يؤدي إلى هدم كيان الأمة، وخبر الله فيهم مؤكد وَإِن يُقَـ?تِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ?لاْدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ [آل عمران:111].
إن النصر الموعود لهذه الأمة وللطائفة المنصورة من الله، وهذا النصر ليس مرتبطاً بشخص أو دولة، يزول بزوالهم، بل إن جذوره لتضرب في الأرض وتقاوم عوادي الحوادث، وعلى مر العصور ظلت دولة الإسلام ـ رغم ما أصابها ـ قائمة ممكنة، يستظل المسلمون بظلها قروناً طويلة، وبالرغم من حرب وكيد اليهود والنصارى ومن عاونهم ظل الإسلام يشمخ برأسه عزيزاً، يمثله المؤمنون المتمسكون، والعلماء العاملون، والمجاهدون المستبسلون تصديقاً لموعود الله ببقاء الطائفة المنصورة وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:171-173].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
أيها المؤمنون، إن من مظاهر الغربة في أمتنا الإسلامية ما نراه الآن من تغافل عربي وعالمي عن قضايانا الإسلامية في كل مكان، لكن قضية فلسطين بينت لنا كل مستور، وأبانت كل خبث وسوء طوية وتخاذل يؤخر نصرنا على اليهود، أليس من غربة أمتنا أن ترى جثث المسلمين في فلسطين في جنين ونابلس وغيرها مطروحة في الشوارع يعلوها الذباب وقد تفحم بعضها وهدمت البيوت فوق رؤوس أصحابها، وهذا معروضٌ علينا، ثم ترى من غربتنا أن فئاماً منا علَّقوا آمالهم على زيارة وزير صليبي لم يلبث أن أيد اليهود وشجعهم على عدوانهم، وهذا كله مما يوضح خبثهم إن كان أحدٌ لازال يظن بهم غير ذلك، أليس من العار أن يعلق بعضنا الآمال على رئيس دولة أُسِّ الكفر، أمريكا الصليبية الذي يتهم بلادنا قبل يومين بدعم الإرهاب ويصف طاغية اليهود شارون بأنه رجل سلام في حين أن عمل اليهود بزعمه ليس إرهاباً وإنما هو دفاعٌ عن النفس، ولا زال بعض زعمائنا يعلق عليهم الأمل برعاية السلام، فأي غربةٍ للإسلام والمسلمين حين تعرض مناظر جثث إخواننا في فلسطين وأطفالهم ونساؤهم في جنين، ونسمع الصراخ والأنين لأمهاتنا المكلومات هناك ونداءاتهم لطلب النصرة وإغاثة الجرحى الذين لم يسعفهم أحد منذ أيام، ثم ترى بعد كل ذلك أن جهادنا لجوءٌ إلى هيئة اللمم أو مجلس العفن الذي امتلأ حقداً صليبياً وجوراً وظلماً، ترى إخواننا في بيت لحم يلجؤون إلى الكنائس لعل اليهود يهابونهم أو لعل النصارى ينجدونهم عبر بابا الفاتيكان ثم ترانا لا يحرك ذلك في أكثرنا ساكناً، يفعل بنا اليهود تلك الفظائع التي نراها في مخيم جنين ونابلس وغيرها، وكأن العالم الإسلامي لا يملك حولاً ولا قوة ولا جيوشاً، بل ننتظر مبعوث الأمم المتحدة ليغيث إخواننا هناك فأي ذلة ؟أي مهانة أن يتأثر لمصابنا (لارسون) مبعوث الأمم المتحدة وغيره ممن زار أو رأى جرائم الصهاينة أكثر من تأثر السياسيين الذين يلهثون خلف اليهود لطلب السلام، أكثر من تأثر بعض التجار، ممن تخاذل وخذّل عن دعم إخواننا هناك، يتأثر أولئك أكثر من تأثر بعضٍ من أئمتنا الذين تركوا القنوت أو الدعاء في إهمال شنيع لمصاب إخوانهم.
أي ذلة وخورٍ وصلنا إليها حين يصاب المسلمين بكل هذه الفضائع المعروضة، ولا زلنا في عالمنا العربي والإسلامي من يرقص على جراحهم بأغانٍ مائعة وحفلات ماجنة والتشجييع على مدرجات الملاعب وبذل الأموال في المسابقات، فهل ننعي عاطفتنا الإسلامية التي ماتت!أو هل نندب نخوتنا العربية التي ولت؟! ونرثيها؟!
أيها القوم نحن متنا فهيا نستمع ما يقول فينا الرثاء
قد عجزنا حتى شكا العجز منا وبكينا حتى ازدرانا البكاء
وركعنا حتى اشمأز ركوع ورجونا حتى استغاث الرجاء
وشكونا إلى طواغيت بيتٍ أبيض مِلء قلبه الظلماء ُ
ولثمنا حذاء شارون حتى صاح: (مهلاً، قطعتموني) الحذاء
أيها القوم نحن متنا ولكن أنفت أن تضمنا الغبراءُ
قل لمن دبجوا الفتاوى رويداً ربُ فتوى تضج منها السماء
حين يدعى للجهاد يصمت حِبرٌ ويراعٌ والكتب والفقهاء
حين يدعو الجهاد لااستفتاء الفتاوى يوم الجهاد والدماءُ
إننا أيها الأحبة كلنا ثقة بموعود نصر الله، هذ النصر الذي نرى بشائره في صبر إخواننا في فلسطين، هذا النصر الذي نرى بشائره في الشيشان هذه الأيام بقتل أعداد من الملاحدة الروس على يد المجاهدين، وهذا النصر الذي نراه في تخبط الصليبيين وهم يقذفون بعضهم بعضاً بقذائفهم التي أرادوها لبلاد الإسلام.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تنصر إخواننا في فلسطين وأفغانستان والفلبين وكشمير والشيشان، اللهم آمن خوفهم وفك حصارهم، ووحد صفوفهم، وسدد رميهم واجبر كسرهم، اللهم ارحم موتاهم وتقبلهم شهداء في سبيلك، اللهم انصرهم يوم قلَّ الناصر وأعنهم يوم فُقد المعين، اللهم أهلك طاغية اليهود شارون وأعوانه ودولة أمريكا الصليبية وزعماءها، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك واجعلهم أذلةً صاغرين واجعلهم غنيمةً للمسلمين، اللهم واشف صدور قومٍ مؤمنين، بنصر الإسلام والمسلمين وكبت اليهود النصارى والهندوس الملحدين والعلمانيين، اللهم واحفظ بلاد المسلمين من كل سوء ونساء المسلمين من مكر العلمنة والفسوق إنك سميع مجيب.
وصلوا وسلموا على النبي المصطفى والرسول المجتبى كما أمركم الله بذلك حيث قال عز من قائلٍ عليماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1/3147)
تشديد النكير على التفجير الحقير
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
4/3/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية مطلب الأمن. 2- حقيقة الأمن وفضله. 3- حادث التفجير. 4- وعيد الاعتداء على النفس المعصومة. 5- نابتة العصر. 6- الاعتداء على رجال الأمن. 7- واجب المجتمع تجاه هذه الفئة الضالة. 8- عزاء ومواساة. 9- مفاسد التفجير. 10- بلاد الأمن. 11- الإرهاب الصهيوني والأمريكي. 12- دعوة للرجوع إلى الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنَّ أعظمَ الوصايا وصيّة ربِّ البرايا، فاتّقوا الله رحمكم الله، فإنّ تقوى الله أمانٌ من البلايا وحصنٌ من الرزايا، بالتقوى أمنُ الديار وحِفظ الذِّمار وهَناء العَيش والاستقرار وكَثرة الخيرات واستجلابُ البركات، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]، وبها النجاة فوقَ الأرض وتحتَ الأرض ويومَ العرض.
أيّها المسلمون، تاجُ أعالي الرؤوس ومطلَب كبار النفوس ليس في مادّيّات تزول وتنتهِي، ولا في شَكليات تضمحلّ وتنقضي، ولكنه في أمرٍ عظيم يرومُه الأفراد والمجتمعات، وتتطلّع إليه الدوَل والحكومات، وتُبنى على قواعدِه الأمجادُ وتُشاد الحضارات، وتتحطّم على صخرتِه الشمّاء التحدّيّات والمؤامرات، ذلكم ـ يا رعاكم الله ـ هو مطلبُ الأمن.
معاشرَ المسلمين، لا يختلِف اثنان ولا يتمارَى عاقلان أنّ هاتِفَ الأمنِ والأَمان وهاجِسَ الاستقرار والاطمِئنان هو المرامُ النبيل الذي تنشده المجتمعات البشريّة وتتسابَق إلى تحقيقِه السّلطاتُ العالمية بكلّ إمكاناتها المادّية والفكرية؛ إذ هو قِوام الحياة الإنسانيّة وأساسُ أمجادها المدنيّة والحضارية، بل حتى الطيور في أوكارها والبهائم في زرائِبها لتبحث عنه وتسعَى إليه، وهل يُرى الوَجِل المذعُور إلاّ خائفًا يترقّب غيرَ متلذِّذٍ بعبادة ومنام أو متهنِّئٍ بشراب وطعام، فضلاً عن المشاركة في التنمية والبناءِ والتفرُّغ للإعمار والإبداع والنّماء حفاظًا على المكتسبات وتحقيقًا لأفضل الإنجازات.
إخوةَ الإسلام، الأمنُ ضدُّ الخوف، وهو يعني الحفاظَ على البلاد والعبادِ في أمور المعاشِ والمعاد، وذلك بحفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم وأعراضِهم وأموالهم، وقد امتنَّ الله بالأمن على عباده فقال سبحانه: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3، 4]، وفي دعاء إبراهيم عليه السلام: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ [البقرة:126]. وتأمّلوا ـ يا رعاكم الله ـ تقديمَ الأمن على الرزق لأهمّيّته وضرورته.
وإذا اختلَّ فسطاطُ الأمن وزُعزِعت أركانه واختُرِق سياجه واضطربَت ظلالُه الوارِفة فلا تسأل عمّا وراء ذلك من الفتَن والفسادِ الكبير، فالدين مغتلَبٌ، والنفس تُستلَبُ، والعقلُ والمال منتهبٌ، والعِرض مغتصَب، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله.
إخوةَ العقيدة، الأمنُ بمفهومه الشامل هو انتظام أمور الدين والدنيا.
وما الدينُ إلا أن تقامَ شعائر وتؤمَن سبلٌ بيننا وشِعاب
والأمن والإيمان قرينان متلازمان، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
إنَّ أيَّ فِعلٍ أو تصرّف أو دعوةٍ لزعزعةِ أمن المجتمع تُعدّ جريمةً كُبرى وجنايةً عُظمى على الأمّة، وضربًا من ضروب الظّلم والبغي والعدوان، وصورةً من صُوَر الكيدِ والفساد والطغيان، والله عزّ وجلّ يقول: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، ويقول سبحانه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ [البقرة:220]، ويقول تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81]، ويقول سبحانه: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204-206].
يؤكَّد ذلك ـ أيّها المسلمون ـ في الوقتِ الذي عظُمت فيه الفتنة بسفكِ الدماء وقتل الأبرياء وتناثُر الأشلاء وإثارة الفتَن العمياء وتواصُل حَلَقات الإفسادِ والتكفير واستمرارِ مسَلسَل التفجير والتّدمير وغور الجراحات النازفة التي طال أمدُها فعسُر اندمالُها، حتى إنَّ الغيورَ ليرى فتنةً ذرّت بقرنها ورفعَت عيرتها، فتنةً هاجت وباضت وفرّخت، ولو تُركت صارت إليها فراخُها.
أمّةَ الإسلام، أمّةَ الأمنِ والإيمان، ولقد فُجِع كلُّ ذي دينٍ ومروءَة، بل كلّ ذي عقلٍ وإنسانيّة بالعمل الجبانِ الإجراميّ والفِعل المُسِفِّ التخريبيّ والتصرّف الأرعَن الإرهابيّ الذي حدَث مؤخّرًا في مدينة الرياض، رياضِ المجدِ والأصالة، ونجدِ التّوحيدِ والحضارة، حاضرةِ ديار الإسلام، وعاصمةِ بلادِ الحرمين الشريفين حرسها الله، فلا يرتابُ العقلاء ولا يتمارى الشّرفاء أنَّ ما حدث يُعدّ جريمةً شنعاء وفِعلة نكراء لا يُقِرّها دين ولا عقلٌ ولا منطقٌ ولا إنسانية، وهي بكلّ المقاييس أمرٌ محرَّم وفعلٌ مجرَّم وتصرّف مرذولٌ مقبوح وعملٌ إرهابيّ مفضوح وسابقةٌ خطيرة ونازلةُ شرٍّ مستطيرة، فإنَّ كلّ عملٍ تخريبيّ يستهدِف الآمنين ويروّع المسلمين الوادعين مخالفٌ لشريعة ربّ العالمين.
وإذا كان هذا الحكمُ عامًّا في كلّ زمان ومكان فكيف إذا كان في بلاد الحرمين ومهبِط الوحي ومنبَع الرسالة ومَهد الإسلام وموئِل العقيدة ومأرز الإيمان ومعقِل السنة والقرآن وقِبلة المسلمين ومحطِّ أنظارهم ومهوى أفئدتهم، بل العُمق الدينيّ والعقديّ والبعد الإستراتيجيّ والثِقَل الدولي في الأمّة، بل في العالم أجمع؟! وكيف إذا كان المستهدَفون مسلمين معصومين وأبرياء وادعين مواطنين ومقيمين؟! إنه لأمر مؤلمٌ حقًّا ومؤسِفٌ صِدقًا، يعجز البيان ويرجف الجنان ويضطرب البَنان في رسم هولِ وفظاعة المشهَدَ والتصوير ودِقّة الدلالة والتعبير الذي سطّره بمدادٍ قاتمة وأحرُف كالحة محترفو هذه الجريمةِ البشِعة، فكم من أنفسٍ مسلمة بريئة أُزهقت، وكم مِن نفوس مؤمنة رُوّعت، وكم من أموال وممتلكاتٍ أُتلِفت، لم يرحَم هؤلاء المجرِمون المخرِّبون طفلاً ولا شيخًا ولا امرأة، لم يراعوا أيَّ قِيَم دينيّة وأخلاقية، ولم يبالوا بشرعٍ ولا عقلٍ ولا إنسانية. فوا عجبًا لهم، أَقُدَّت قلوبهم من صخر أم رُميت عقولهم في بحر؟! أين يذهب هؤلاء القتلةُ المجرِمون من قوله سبحانه: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]؟! ألم تقرَع أسماعَهم نصوصُ الوعيد والتهديد والترهيب عن مِثل هذه الجرائم المروّعة التي هي قرينةُ الإشراك بالله، بل حتى في ترويع المسلم والإشارة إليه بالسلاح؟! أين هم من قوله عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)) [1] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((أوّلُ ما يقضَى بين الناس في الدماء)) [2] ، وقوله : ((لا يزال المسلم في فسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا)) [3] ، ((لزوال الدنيا أهونُ عند الله مِن قتل رجل مسلم)) خرجه الترمذي والنسائي وغيرهما [4] ؟! أين يذهب هؤلاء من شهادة أن لا إله إلا الله إذا جاءت تحاجُّهم يوم القيامة؟! كما في الصحيح من حديث أسامة رضي الله عنه، وفيه أن رسول الله قال له: ((أقتلتَه بعد أن قال: لا إله إلا الله؟!)) وغضِب عليه الصلاة والسلام واحمرّ وجهُه كأنما تفقّأ فيه حبُّ الرّمّان وهو يقول لأسامة: ((أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟!)) قال: يا رسول الله، إنما قالها تقيَّةً أي: خوفًا من القتل، قال: ((أشققتَ عن قلبه؟! كيف تصنعُ ـ يا أسامة ـ بلا إله إلا الله إذا جاءت تحاجُّك يوم القيامة؟!)) قال رضي الله عنه: فوددتُ أني لم أكن أسلمتُ يومئذ [5].
الله أكبر، هذا فهمُ الصحابة الأبرارِ والسلف الأخيار لحرمةِ الدماء المعصومةِ وحرمة قتلِ المرء نفسَه، والرسولُ عليه الصلاة والسلام يقول: ((من قتل نفسَه بحديدةٍ فحديدته في يده يجأ بها بطنَه في نار جهنم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا)) خرجه الشيخان [6].
فإلى الله المشتكى، إلى الله المشتكى من نابتةٍ أغرار وشِرذمة أشرار، حُدثاء الأسنان، سُفهاء الأحلام، ركبوا رؤوسَهم، وافتاتوا على ولاة أمرهم وعلمائهم، وهاموا زهوًا وتِيهًا وغرورًا، فأحدثوا فِتنًا وفواجعَ وشرورًا.
وبكلّ مرارةٍ وأسى أنهم أبناؤنا بغَوا علينا، وشبابُنا خرجوا علينا، وخرقوا سياجَ أمّتنا ووحدة بلادنا، سيّاراتٌ مفخّخة، وشاحنات مشرَّكَة، كفى بهم لؤْمًا ودناءة أن ينشؤوا على ترابها ويأكُلوا من خيراتها ثم يقلِبوا لها ظهرَ المجَنّ نسفًا وتدميرًا وتخريبًا وتفجيرًا. لقد بلغ السيلُ زُباه، وجاوَز الظلمُ والطغيان مداه، ووصل الأمر منتهاه، وذرفتِ الدُّموع السِّجام، وأُميط اللّثام عن خفافيشِ الظلام، وبرِح الخفاء، واتَّضح الأمر بجلاء عن هذا الفِكر الآحاديّ المنحرف والنظرِ الانشطاريّ المجترِف.
لقد أوسعونا من الفوضى والتخريب والعبَث، فجزاؤهم أن يُنفَوا كما يُنفَى الخبَث، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله فيهم وفي أسلافهم: "وهذا الضّرب من الناس من أغربِ أشكال بني آدم، فسبحانَ من نوّع خلقَه كما أراد" [7].
فيا ويحَ هؤلاء، ألا يفيقون؟! ألا يرجِعون ويرعَوون؟! أبعدَ كلِّ هذا يبقَى مجالٌ للتبريرات وتلمُّس التأويلات وحمّالةِ الأوجُه عن الشُّبَه والإشكالات؟! كلاّ وألفُ كلا.
سبَكناه ونحسِبه لُجَينًا فبان الكير من خبَث الحديد
لقد بدأت ضلالةُ القوم بدعاوى تلتبس على الدّهماء من قِتال غيرِ المسلمين، ومَع أنّ هذا لا يجوز في بلاد المسلمين لأنهم من المعاهَدين والمستأمَنين، فكيف يُقال اليوم والمستهدفون أبرياء مسلمون مواطنون ومقيمون؟!
إخوةَ الإسلام، إخوةَ الإيمان، لقد وصل الإجرامُ ذروتَه باستهدافِ فِئةٍ عزيزة علينا، هم عيوننا الساهرة وليوث عريننا الكاسِرة، فئةٍ تسهَر لينام الناس، وتتعَب ليستريح سائرُ الأجناس، إنهم رجالُ أمننا البواسل وجنود بلادنا الأشاوس. فيا رجال أمننا، هنيئًا لكم شرفُ خدمةِ دينكم وعقيدتكم وبلادكم ومقدّساتكم والذود عن حياضكم وأوطانكم ومقدّراتكم.
اللهَ اللهَ في الإخلاص والتفاني والتضحيةِ واليقظةِ والاهتمام، ولا يفتَّنَّ في عضدِكم تلك التصرفاتُ الرعناء والأفعال الحمقاء، فليس لها بعدَ الله إلا أنتم. قلوبُنا معكم، والدعاء مبذولٌ لكم، والمجتمع بأسرِه مَدين لكم بالتقدير والعِرفان والشكر والامتنان على جهودكم المتميِّزة في حفظِ الأمن والأمان والسَّهَر على خدمة الآمنين.
والدعوةُ موجَّهةٌ لكلّ مسلمٍ أن يكونَ عونًا لرجال الأمن في أداء مهمّتهم العظيمة، فكلٌّ على ثغرٍ من ثغور الإسلام، فاللهَ الله أن يُؤتى الإسلام من قِبله.
يجب على جميعِ أفراد المجتمَع أن يكونوا عيونًا ساهرةً في الحفاظ على أمنِ هذه البلاد والإبلاغ عن كلّ متورّطٍ أو داعمٍ لهذه الأعمال الإجراميّة والأفعال التخريبية، حفاظًا على سفينة المجتمع من قراصنة العُنف والإرهاب وسماسرة التخريب والإرعاب، فلم يعُد يُجدِي الصمتُ والتغاضي، لا بدّ من الحزم في اجتثاث جذوره والقضاء على فيروسه وجرثومته القاتلة.
وعزاؤنا المخلِص ودعواتنا ومواساتُنا الصادقة لولاة أمرنا وفّقهم الله، ولذوي المتوفَّين مِن رجال الأمن والمواطنين والمقيمين، رحم الله أمواتهم، وكتبهم في عِداد الشهداءِ الأبرار، وبوّأهم منازلَ الصديقين والأخيار، وعجّل بشفاءِ مرضاهم ومُصابيهم وجَرحاهم، ولا أرى البلادَ والعباد أيَّ سوء ومكروه، وحفِظ الله لبلادنا المباركةِ أمنها وإيمانها، فلن تزيدَها تلك الأعمال الإجراميّة بحول الله إلا تماسُكًا وثباتًا والتفافًا حول قيادتها وعلمائها، وشاهت وجوهُ المجرمين المعتدين، ولتهنأ بلادُ الحرمين، ولتبقَ دائمًا وأبدًا شامةً غرّاء وصخرةً شمّاء تتهاوى أمام صلابتها سهامُ المغرضين المعتدين والأعداء ونصالُ الحاسدين والحاقدين الألدّاء.
كفى تشويهًا للإسلام دينِ الرّفق والسماحة والإصلاح والتعمير، لا العنفِ والتدمير والتفجير. كفى تشويهًا لصورة الجهاد الشرعيّ ذروةِ سنامِ الإسلام بمثل هذا التخريب والإفساد والإجرام. كم من مصالحَ للأمة قدّمها هؤلاء؟! وكم من مكاسبَ للأعداء حقّقها هؤلاء، وكم تضرَّر الدين والمتديّنون والدعوةُ والدعاة والحسبة والأعمال الخيريّة بسبب هذه التصرّفات الرعناء.
والدعوةُ موجَّهةٌ لجميع أبناء الأمةِ ـ والأمّة تمرّ بمنعطفٍ خطير ـ إلى الالتفافِ حولَ الولاية الشرعية وتضييع الفُرص أمام كلّ مفسدٍ مأفون والعملِ على إعزاز جانب الدين وأهلِه والدعوةِ وشُداتها والحسبة ورجالاتها والإصلاح الشامِلِ في كلّ مرافِق الحياة، وصَرخةُ نذير وصيحةُ تحذير لشبابنا وأحبابنا بعدَم الاغترار بهذه المسالك والأخذ من العلماء الربانيّين في هذه الظروف الحوالك وسلوكِ مسلَك الوسطيّة والاعتدال والحذر كلَّ الحذَر من فتاوى أهل الكُنى المجاهيل والانجراف خلفَ دعايات الأغرار المهازيل.
لا بدّ من حراسة الأمن بكلّ صوَرِه، لا سيّما الأمن الفكريّ أمام الأفكار المنحرفة والتيّارات الضالّة، سواءً في جانب الغلوّ والعنف والفِكر التكفيريّ، أو التغريبيّ والعولميّ. وهنا يأتي دورُ البيت والأسرةِ والمسجد والمدرسة ووسائل الإعلام، حتى يسلَم العباد وتأمن البلاد. ويعلمُ الله الذي لا إله غيرُه أنّ ذلك عينُ الشفقَة والنُّحص للأمّة وبراءة الذمّة والقيام بمتطلَّبات الديانة ورعاية الكلمةِ والأمانة، في وقتٍ كثُرت فيه الأهواء وتعدّدت الآراء والحكمُ على النيات والمقاصد والتصنيفُ وسوءُ الظنّ بالمسلمين، والله المستعان.
به ألقى الإلهَ ولا أبالي وإن سَلقوا بألسنةٍ حدادِ
فذا فعلُ النبيِّ فلا تدَعه لإرضاءِ الصديق ولا المعادي
وإلى المغترِّين بأهوائهم المصرّين على لأوائهم أن أفيقوا قبلَ فوات الأوان، فأخشى ما نخشاه أن لا تستبينوا النصحَ إلا ضُحَى الغدِ، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
حفِظ الله بلادَنا وبلادَ المسلمين من شرّ الأشرار وكيد الفجّار، وأدام علينا نعمةَ الأمن والأمان وإن كرِه الحاقدون المغرِضون الحاسدون المتبربّصون.
وإن رغمِت أنوفٌ من أناس فقل يا ربّ لا ترغم سواها
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيّد الثقلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في العلم (67)، ومسلم في القسامة (1679) عن أبي بكرة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري أيضا في الحج (1639) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وورد عن غيرهما من الصحابة.
[2] أخرجه البخاري في الديات (6864)، ومسلم في القسامة (1678) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الديات (6862) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[4] سنن الترمذي: كتاب الديات (1395)، سنن النسائي: كتاب تحريم الدم (3987) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعقبة بن عامر وابن مسعود وبريدة"، وأشار إلى أن وقفه أصح من رفعه، ورجّح وقفه أيضا البيهقي في الكبرى (8/22)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (439).
[5] صحيح البخاري: كتاب الديات (6872)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (96) بمعناه.
[6] صحيح البخاري: كتاب الطب (5778)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (109) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] البداية والنهاية (7/286).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، لا يُرجَى إلا خيرُه، ولا يخشَى إلا ضَيره، ولا إله لنا غيرُه، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان الأزكيان الأشرفان على خير البريّة وهادي البشريّة نبينا محمّد عليه وعلى آله وصحبه أزكى سلام وأوفى تحيّه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، وعليكم بالجماعة، فإنَّ يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذّ في النار.
أيّها الإخوةُ الأحبّة في الله، إنّ ممّا يبعَث على الآمال في خضمِّ هذه التداعيات والآلام أنّ الله سبحانه وتعالى كتب الأمنَ والأمان لهذه البلادِ المقدّسة إلى قيام السّاعة، فالأمنُ فيها مِنّة ربِّ العالمين ودعوةُ أبينا إبراهيم، ثمّ هو بعد ذلك دأبُ هذه الولاية المسلمة وهمُّ الجنديّةِ المؤمنة المخلِصة، بل كلِّ غيور على دينه وبلاده، ومَن يروم غيرَ ذلك من الأوباش فإنما يروم المستحيلَ بإذن الله، وأنّى لناصحِ الصخرة الشمّاء أن يوهنَها، والشجرة الباسقة أن يهزَّها ويثنيَها؟! والأقزامُ إنما يرمون بالحجارة الشجرةَ المثمرة.
أمّةَ الإسلام، ولم تكن بلادُ الحرمين المحروسة بِدعًا في التعرَُّض للإرهاب والإرهابيِّين، ولشموليّة الشعور والإحساسِ بآلام الأمّة في هذا المجال لا بدّ من التذكير بمأساةِ إخواننا المسلمين في فلسطين الذين يعانون من إرهابِ الدّولة الذي يمارسُه الكيانُ الصهيونيّ تحتَ نير الاغتيالاتِ والأوضاع الدمويّة والتصفيات الجسدية للقيادات الفلسطينية، ممّا يتطلّب من الأمّة بل العالم أجمَع توفيرَ الحمايةِ لإخواننا ومقدَّساتنا هناك، في ظلِّ السلبيّة والتخاذُل الدوليّ أمام غطرسَةِ هذا العدوّ الصهيوني الغاشِم وتحدّيه السافِر لكلّ المواثيق والأعرافِ الدولية، وإلى متى لا يسمع الغيورُ إلا أصواتًا خافِتة تهمِس بالشَّجب والإدانة والمناشدة والاستنكار وضبطِ النفس؟!
أحبَّتي في الله، وصفحةٌ دمويّة أخرى يعيشُها إخواننا المسلمون في عراقِ التأريخ والعراقة، لا سيّما إخواننا في فلّوجةِ الصمود والبسَالة التي تعاني من ظُلم وحِصار وقتلٍ ودمار، تجاوز كلَّ الحدودِ الإنسانية، ممّا يدعو المنصفين في العالم إلى استنكارِ هذا العدوان الغاشِم والاحتلال الجاثم والعملِ بشتّى الوسائل على إيقافه ومنعِه، والنصيحةُ الأخويّة تقتضي حثَّ إخواننا هناك على الصّبر والمصابرة وتوحيدِ الكلمة ووحدةِ الصفوف، وليبشِر الجميع بنصرِ الله، فالتأريخ شاهدٌ على أنّ حَبلَ العُنفِ والإرهاب قصيرُ المدى، وأنّ النصرَ مع الصبر، والفرجَ مع الكرب، وأنّ مع العسر يُسرًا، وفي هذا بشارةٌ لأهل الإسلام، فإنّ آلام المخاض تعقبُها ولادةٌ مبشِّرة، وإنّ الظلمةَ تحمِلُ في أحشائها إشراقةَ الفجر المنتظَر، وشأنُ المسلم الواعي مع القَدَر والقضاء ومُرِّ الابتلاء الرضا والصبرُ والتسليم، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (لو كان العسرُ في جُحرٍ لطلبه اليُسر حتى يدخُل عليه) [1] ، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: (لن يغلبَ عسرٌ يُسرين) [2].
ونحن اليومَ ومع شدّة الكرب وعِظَم الخَطب أحوجُ ما نكون إلى بثّ روح التفاؤل والاستبشار والإيجابية، حيث تتابعت صنوفُ الإحباطات واليأس عند كثيرٍ من الناس، حتى نسُوا أو تناسَوا في خضمِّ الآلام فلولَ البشائر والآمال.
إنّ الأمةَ مطالبةٌ للخروج من أزماتها الخانِقة إلى توبةٍ عامّةٍ وأوبةٍ صادقة ورجوع إلى الله وتضرُّع ودعاء وتجديد الثقةِ بالله وحُسنِ الظنّ به سبحانه واستنزال نصره بطاعتِه والتقرّب إليه وإعادة الثقةِ بالنفس والعملِ الجادِّ الدؤوب في سُبُل الصلاح والإصلاح، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:4-6].
هذا، وصلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على نبيّ الرحمة والهدى، كما أمركم بذلك ربّكم جل وعلا فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على نبيّنا وإمامنا وقدوتنا وحبيبنا محمد بن عبد الله، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه ابن المبارك في الزهد (133)، وابن الجعد في مسنده (1099)، والطبري في تفسيره (30/236)، والبيهقي في الشعب (7/206)، والراوي عن ابن مسعود رجل مبهم.
[2] انظر: تفسير القرطبي (20/107).
(1/3148)
عدوان المفسدين
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
4/3/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عباد الله الصالحون المصلحون. 2- الإصلاح في الأرض. 3- التحذير من الفساد والإفساد. 4- المفسدون في الأرض. 5- حادث التفجير. 6- مقاصد المفسدين في الأرض. 7- مفاسد الخروج على ولاة الأمر. 8- التحذير من الفتن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى، واخشَوا ربَّكم خشيةَ من يعلَم أنه يَعلمَ السرَّ وأخفى.
عبادَ الله، إنَّ الربَّ جلّ وعلا أخبرَ في كتابه أنَّ الناسَ ينقسِمون إلى قسمين:
قسم صالح مُصلح قد رضيَ بالله ربًّا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيًّا ورسولا، وصفَهم ربُّهم بأحسنِ الصفات، وأنزلهم رفيعَ الدرجات، فقال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:63-70]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً [الكهف:107، 108].
غايةُ الإسلام هي إصلاحُ الإنسانِ بعبادة الله تعالى وحدَه لا شريكَ له، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. وغايةُ الإسلام أيضًا إصلاحُ الأرض بتوحيد الله تعالى وإقامة الحدود وحِفظِ الدماء والأموال وحِياطتها وحراستها وتعزيز الأمر بالمعروف ومحاربة كلِّ منكَر وفحشاء، مع العناية بعمارَة الأرض عمارةً تعينُ الإنسانَ على مهمَّته التي خُلِق لأجلها.
وقد وَعد الله مَن أصلحَ في هذه الحياة الدنيا بأنّه لا يخافُ ممَّا يُقدِم عليه بعدَ الموت ولا في مستقبَل حياته، ولا يحزَن على ما خلَّف وراءه من الذريَّة، وأنَّ له الجناتِ العلى، قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأعراف:35]، وقال تعالى: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأنعام:48]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف:170].
وقد أصلحَ الله تعالى الأرضَ بإرسال الرسُلِ وإنزال الكتب وبأتباعِ الرسُل عليهم الصلاة والسلام، فالانحرافُ عن طريقة الرّسُل إفسادٌ في الأرض، والله تعالى يقول: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأعراف:85]، ولكنَّ الإنسانَ المفسِد غيََّر وبدَّل وتمرَّد وعصَى، واتّبَع خطواتِ الشيطان، فأفسد في الأرض بالشركِ وسَفكِ الدماء المحرَّمة والعدوانِ على المال المعصُوم والزنا والفواحشِ والمحرَّمات وظُلم الأبرياء، فكان جزاءُ المفسدين في الأرض الخزيَ في الدنيا والآخرة، وعقوبةُ المجرمين أشدُّ العقوبة وأنكى النكال.
وهذا الصنف الثاني من الناس هم المفسدون في الأرض، وقد جعل الله عقوبتَهم في الآخرة جهنَّم وبئس المصير، قال الله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل:88]، وقال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204-206].
والعجبُ كلَّ العجَب أنَّ هؤلاء المفسدين في الأرض إذا نُصِحوا وطُلب منهم الرجوعُ إلى الحقّ والتمسُّك بالخُلُق والتوبة إلى الله أصرّوا على ما هم فيه من الإفساد في الأرض، كما قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
وهذا السلوكُ علامَةُ فتنةِ القلب وانتكاسِه والعياذ بالله، قال الله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:41].
وأما عقوباتُ المفسدين في الأرضِ في الدنيا المحاربين لله ولرسوله فقد بيَّنها الله تعالى في قوله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33].
وإنَّ ما وقع ظهرَ أمس في الرياض من التدمير والقتلِ للأبرياء عملٌ إجراميّ، بلغ الغايةَ في القبح والشناعة، يحاربُه الإسلامُ أشدَّ المحاربة. وهذا العمل الإرهابيّ البغيض حربٌ على الإسلام والمسلمين، يستهدف الدينَ والأمن والاستقرار ومقوّماتِ حياة المواطنين والمقيمين. وهذا العملُ عينُ الفساد والإفساد والغدْر والخيانة.
وهؤلاء المفسدون في الأرض عمِلوا وحقَّقوا ما عجز عنه الشيطان الرجيم، وما عجز عنه أعداء الإسلام، فهل يرضَون لأنفسهم بهذه المنزلةِ الشِّرّيرة؟! ماذا يريد هؤلاء المفسدون في الأرض بهذا الإرهاب؟! أيريدون الدنيا؟! فالتدمير والتخريب والغدْر والخيانة والخوف يفسد الحياة ولا يُبقي منها على شيء. أم يريدون الآخرة؟! فالجنةُ لا تُنال بقتلِ النفس أو بقتل المسلمين أو غير المسلمين المستأمَنين أو بعصيان الله ورسوله أو عصيان وليَّ الأمر، وهذه أعمالٌ من أعمال أهلِ النار، قال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30]، وقال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وفي الحديث عن النبي : ((من قتل معاهَدًا لم يرح رائحة الجنة)) [1] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]. أم يريدون الفوضى ونشرَ الرُّعب وقطيعة الآباء والأمَّهات والأرحام والجيران وتخريب الوطن؟! فليذكروا قولَ الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23].
وإذا كان هؤلاء المفسدون لا يطيقون البلدَ وما فيه من الإسلام والأمن والاستقرار فليذهَبوا إلى أيّ بلدٍ يريدون، ولينظُروا هل سيجدون بلدًا خيرًا من بلدِهم؟! وإذا كان هؤلاء المفسدون في الأرض المنفِّذون لهذه الأعمال الإرهابية المجرمة يتلقَّون أوامرَهم بلا تفكير في العواقِب الوخيمةِ فهل يرضَون لأنفسهم تعطيلَ نعمةِ العقل؟! وإذا كانوا يتلقَّون أوامرَهم من أحدٍ ما فهل هو عندهم مقدَّم على الله ورسوله ثم على ولاة الأمر؟! وإذا كانوا يتلقَّون أوامرَ بوسائط فهل يأمَنون أن تكونَ هذه الوسائط أبالسة شياطين يدفعونهم إلى هاويةِ جهنَّم ويجعلونهم معاوِلَ هَدمٍ لكلّ المقوِّمات في الدين والدنيا؟! بل نجزِم بأنّ وراءَ هذه الأعمالِ القَذِرة أعتى المفسدين وإن قال بلسانه ما يخدع به المغرورين، قال الله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16].
وإذا كان هؤلاء المفسدون ينفردون بتفسير للقرآن الكريم أو تفسيرٍ للحديث النبويّ لم يعلمه الصحابةُ والتابعون، ولم يعلمْه علماء الأمّة إلى هذا الوقت، فليظهَر هؤلاء المفسدون مِن جُحورهم، وليناظروا الراسخين في العلم في أفكارهم النابتةِ في كواليس الظلمات والسِّرِّيات، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "ما اجتمع قومٌ سرًّا على أمرٍ مِن أمور الدين إلاَّ كانوا على ضلالة" [2].
يا شبابَ الإسلام، أما تتَّعِظون؟! أما تتفكَّرون؟! أما تعتبرون بما حدث لأمَّةِ الإسلام في تاريخها الطويل من رؤوس البِدَع ومن رؤوس أهلِ الفِتَن؟! وهل قُتِل عثمان رضي الله عنه إلا بمثل هذه البِدَع والأفكار؟! وهل حُورب عليّ رضي الله عنه من الخوارج إلاَّ بهذه الطريق؟! وهل استُحِلَّ ما حرَّم الله من المسلمين إلا بالبدع المضلَّة؟!
وما أعظمَ الشريعةَ الإسلامية وأكملَها حيث جعلت الخروجَ على وليّ الأمر محرَّمًا، ففي الحديث: ((من مات وليس في عُنُقه بيعةٌ مات ميتته جاهلية)) [3]. وما أعظمها في حثِّها ووصايتها بأن يكون المسلمُ مع الجماعة، فإنَّ يدَ الله مع الجماعة، قال الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، أستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الجزية (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[2] أخرجه الدارمي في مقدمة سننه (307)، واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة (251)، وأبو نعيم في الحلية (5/338).
[3] أخرجه مسلم في الإمارة (1851) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عظيمِ السّلطان، شديدِ البرهان، ما شاء الله كان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29]، وأشهد أنّ نبينا وسيِّدنا محمدًا عبده ورسوله المبعوثُ إلى الإنس والجان، اللهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ذوي الإيمان.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وأطيعوه فإنَّ طاعته أقومُ وأقوى، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]، واحذَروا أسبابَ سخط الجبار، فإن أجسامَكم على النار لا تقوى.
أيها الناس، احذَروا الفِتنَ ما ظهر منها وما بطن، فإنها تضرّ بالدين والدنيا، وعليكم بالجماعة، فإنّ يدَ الله مع جماعة المسلمين، ومن شذّ شذّ في النار، واعتصِموا بدينكم، فإنه أمانٌ لكم من كلِّ مكروه، قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103]، وفي الحديث عن النبيّ أنه قال: ((الدينُ النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة)) ، قلنا: لمن؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسولِه، ولأئمّة المسلمين، وعامتهم)) [1].
وكونوا ـ عباد الله ـ قلبًا واحدًا ضدَّ هذه الفتنِ التي استحلَّ أصحابها الدّمَ الحرام والمالَ المعصوم، وأضرّوا بالدين، ووضعوا أنفسَهم في حربٍ مع الله ورسوله، واتّبعُوا غير سَبيل المؤمنين.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلَّى عليَّ صلاةً واحدة صلَّى الله عليه بها عشرا)).
فصلّوا وسلّموا على سيِّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا، اللهم وارض عن الصحابة أجمعين...
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (55) عن تميم الداري رضي الله عنه.
(1/3149)
الجواسيس
الإيمان
نواقض الإيمان
زهير بن حسن حميدات
الخليل
عبد الرحمن بن عوف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الأرض المقدسة. 2- تجنيد الصهاينة للجواسيس. 3- جريمة التجسس. 4- حكم الجاسوس المسلم. 5- أضرار المتجسسين. 6- انتشار ظاهرة التجسس. 7- نداء للجواسيس. 8- دعوة للتوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، يا أمة محمد ، لقد فضلنا الله عز وجل على كثير من عباده، فجعلنا في جهاد ورباط إلى يوم القيامة، وفضل الله فلسطين على كثير من البلاد، فبارك فيها وبارك حولها، إلا أن بعض المارقين من المنافقين والخائنين ضيعوا علينا فرحتنا، ونغصوا عيشتنا، وشوّهوا سمعتنا. أولئك الذين شذّوا عن جماعتهم، وخرجوا على صفهم، وخانوا قومهم، فتعاونوا مع اليهود الغزاة، يكشفون لهم العورات، ويدلونهم على أماكن رجال المقاومة، فيسهّلون لهم اغتيالهم. ولكن جرت سنة الله في خلقه أن يكون في كل شعب خونة، يبيعون آخرتهم بدنياهم، ويبيعون أمتهم بأعدائهم، حتى في عهد الرسول كان هناك منافقون، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16].
ولقد اجتهد الكيان الصهيوني منذ زمن طويل لتجنيد عدد غير قليل من أبناء فلسطين، ليعملوا لحسابه وتنفيذ خططه، واستخدم في ذلك كل وسائل الإغراء والترغيب، وبذرهم في وسط أقوامهم، ليقوموا بدورهم الخائن، فيتجسسون على أهلهم لحساب عدوهم، ويدلونهم على مواطن رجال المقاومة، وما من رجل اغتيل على هذه الأرض المباركة إلا وكان بمساعدة هؤلاء الخونة الذين يتعاونون مع أعداء أمتهم على الإثم والعدوان.
فالجاسوسية ـ يا عباد الله ـ هي موالاة للعدو المحتل، وهي جريمة وخيانة عظمى وكبيرة من الكبائر، وهي خيانة لله وللرسول وللمؤمنين، فهي حرام شرعا، حيث يصدق في الجواسيس قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، وقول الرسول : ((لا يحلّ دم امرئٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلا اللّه وأنّي رسول اللّه إلا بإحدى ثلاثٍ: النّفس بالنّفس، والثّيّب الزّاني، والمارق من الدّين التّارك للجماعة)) متفق عليه، والجاسوس تارك لدينه مفارق لجماعة المسلمين.
وقد أفتى العلماء المتقدّمون والمتأخرون بأن الجاسوس مرتدّ عن الإسلام، كافر يجب قتله، فقد روي عن الإمام مالك رضي الله عنه قوله: "الجاسوس المسلم الحكم الشرعي فيه القتل". كما صدرت فتاوى عديدة في هذا العصر من كبار علماء المسلمين، الحكم الشرعي فيها قتل الجاسوس، فالجواسيس يساعدون العدو، ويشتركون معه في قتل وتصفية واغتيال المناضلين والمجاهدين من أبناء الشعب الفلسطيني بالدلالة عليهم. والجاسوس يقتل ولو لم يقتل بنفسه؛ كأن يخبر عن مخبأ المجاهد، أو عن مكان بيته، أو أي مساعدة كانت، لقول رسول الله : ((من أعان على قتل مؤمنٍ بشطر كلمةٍ لقي اللّه عزّ وجلّ مكتوب بين عينيه آيس من رحمة اللّه)) رواه ابن ماجة.
وما كان العدو لينجح في قتل واغتيال واعتقال المئات من المجاهدين لولا مساعدة الجواسيس وتسهيلهم لمهمة الأعداء، فهؤلاء حكمهم حكم اليهود المحتلين؛ لأن ولاءهم لهم، وعونهم لهم، والله تعالى يقول: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]. والذي يدلّ اليهود على عورات المسلمين ويتسبب في قتل المجاهدين الأبطال يعدّ محاربا يجب قتله؛ لأنه تسبب في قتل المسلمين، وسبب السبب يأخذ حكم السبب، ومن أعان على القتل ولم يباشره كان قاتلاً أيضًا، لأن تجسّسه لصالح الأعداء يعدّ خيانة لله وخيانة لرسوله وخيانة لهذا الدين وخيانة للمسلمين، والله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]، وقد أفتى علماء المسلمين بقتل هذا الخائن الجاسوس؛ للضرر الذي يلحق بجماعة المسلمين منه، ويطبق عليه حد الحرابة.
أيها المؤمنون، يا خير أمة أخرجت للناس، إن التجسسَ على المسلمين لصالح أعدائهم عمل يعرّض مصالح المسلمين وبلادهم للضرر، وهو نوع من السعي بالفساد، وقد نزلت الآية الكريمة في عقاب من يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا، وهي قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33].
أما الأدلة من السنة الشريفة فهي كثيرة أيضا، منها قصة حاطب بن أبي بلتعة، يرويها لنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث يقول: بعثني رسول اللّه والزّبير وأبا مرثدٍ وكلّنا فارس، قال: ((انطلقوا حتّى تأتوا روضةَ خاخٍ، فإنّ فيها امرأةً معها صحيفة من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأتوني بها)) ، فانطلقنا على أفراسنا حتّى أدركناها حيث قال لنا رسول اللّه ، تسير على بعيرٍ لها، وقد كان كتب إلى أهل مكّة بمسير رسول اللّه إليهم، فقلنا: أين الكتاب الّذي معك؟ قالت: ما معي كتاب، فأنخنا بها بعيرها، فابتغينا في رحلها فما وجدنا شيئًا. فقال صاحباي: ما نرى معها كتابًا، فقلت: لقد علمنا ما كذب رسول اللّه ، ثمّ حلف عليّ: والّذي يحلَف به لتخرجِنّ الكتاب أو لأجرّدنّك، فأهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساءٍ فأخرجت الصّحيفة، فأتوا بها رسول اللّه ، فقال عمر: يا رسول اللّه، قد خان اللّه ورسوله والمؤمنين، دعني فأضرب عنقه، فقال رسول اللّه : ((يا حاطب، ما حملك على ما صنعت؟)) قال: يا رسول اللّه، ما لي أن لا أكون مؤمنًا باللّه ورسوله، ولكنّي أردت أن يكون لي عند القوم يد يدفع بها عن أهلي ومالي، وليس من أصحابك أحد إلا له هنالك من قومه من يدفع اللّه به عن أهله وماله، قال: ((صدق، لا تقولوا له إلا خيرًا)) ، فعاد عمر فقال: يا رسول اللّه، قد خان اللّه ورسوله والمؤمنين، دعني فلأضرب عنقه، قال: ((أوليس من أهل بدرٍ؟! وما يدريك لعلّ اللّه اطّلع عليهم فقال: اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكم الجنّة)) ، فاغرورقت عيناه، فقال: اللّه ورسوله أعلم. رواه البخاري. ونزلت فيه الآيات الأول من سورة الأنفال. وفي القصة جواز قتل الجاسوس وإن كان مسلمًا؛ لأن الذي منع قتل حاطب هو أنه من أهل بدر، ولولا هذا المانع لقتل.
كما أجاز النبي أن نفقأ عين من نظر إلى بيت غيره من نافذة أو غيرها ليتعرف ما بداخله بغير إذنهم.، وقال ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتّبعوا عوراتهم، فإنّه من اتّبع عوراتهم يتّبع اللّه عورته، ومن يتّبع اللّه عورته يفضحه في بيته)) رواه أحمد وأبو داود، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من استمع إلى حديث قومٍ وهم له كارهون أو يفرّون منه صبّ في أذنه الآنك يوم القيامة)) رواه البخاري.
أيها المسلمون، يا أهل الجهاد والرباط، لقد بلغ الجواسيس مبلغا لم نكن نتوقّعه، وخدموا العدوّ خدمة لم يكن هو نفسه يحلم بها. فهل تعلم ـ أخي المسلم ـ أن أحد الجواسيس قتل طفلا فلسطينيا بأمر من جيش الاحتلال، فكوفئ بنصف شيكل؟! وهل تعلم أن جاسوسا طلب منه رجل المخابرات أن يحفظ القرآن الكريم، فحفظه عن ظهر قلب؟! وهل تعلم ـ أيها المسلم ـ أن أحد الجواسيس كان يقوم الليل كله في ركعتين بحجة العبادة، فانكشف أمره، وتبين أنه كان يراقب المجاهدين؟! وهل تعلم ـ أخي المسلم ـ أن بعض الجواسيس قتل بيده عشرات المجاهدين؟! وهل تعلم أن أكثر هؤلاء أول ما يسقط أخته وأمه؟! وهل تعلم ـ أخي المسلم ـ أن بعض بيوت الجواسيس يزني فيها الرجل ببنته، والولد بأمه، والأخ بأخته؟! بل وأكثر من ذلك؛ عندما طلب رجل المخابرات من أحد الجواسيس أن يحضر له زوجته الطاهرة الشريفة، فلبى الجاسوس الطلب، وحاولت هي أن تدافع عن نفسها، إلا أن زوجها أمسك بها حتى انتهى رجل المخابرات من اغتصابها. بل وأكثر من ذلك؛ عندما يأتي الجاسوس بالشباب إلى بيته، فيصوّرهم فوق زوجته. فحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عباد الله، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: أيها المسلمون، يا من ترابطون على أرض الجهاد والاستشهاد، اسمحوا لي أن أخاطب الذين خانوا دينهم ووطنهم وشعبهم، أقول لهؤلاء الجواسيس: يا من خنتم الله ورسوله، يا من خنتم وطنكم وشعبكم، يا أحقر من عرفته الأرض والسماء، أيتها الفئة الضالة المضلة، إنكم أذلّ وأحقر من أن أذكركم من على هذا المنبر الطاهر، إلا أن للضرورة أحكامًا. فيا من تسترقون السمع على الشرفاء، اعلموا أنكم ابتلاء لهذا الشعب المجاهد، وهذا قدر الله أن نبتلى بأمثالكم، ليعلم الله المجاهدين منا والصابرين، فبأمثالكم يزداد الشرفاء شرفا، وبأفعالكم الخسيسة تزدادون أنتم حقارة وذلة ومهانة. قد تعيشون طويلا أيها المنافقون، قد تعيشون طويلا أيها الخائنون، لكنكم عبيد لأسيادكم، ضربت عليكم الذلة والمهانة في الدنيا والآخرة، تبيعون آخرتكم بدنيا غيركم، تسهرون على راحة إخوان القردة والخنازير، تحرسون قاتل آبائكم وإخوانكم، تتجسسون لمن انتهك عرض أخواتكم.
اعلموا أنكم الأذلاء في الدنيا والآخرة، اعلموا أن التاريخ سيذكركم، لكن على صفحاته السوداء، على صفحات الذل والعار، ليلعنكم من يقرأ عن خيانتكم، وليسبكم من يسمع عن بطولات تجسّسكم. افرحوا كما شئتم، واكتبوا ما بدا لكم، فما أنتم إلا حفنة من الحثالة التي غارت دماء الخجل في عروقهم، فلم يعد فيهم إحساس البشر. يرون أطفالا تذبح وشبابا تسجن وبيوتا تهدم وأشجارا تقلع ويستمرون في خيانتهم.
فيا من تخربون بيوتنا، يا من تزرعون الموت في دربنا، يا من أرعبتم الأطفال والثكالى، يا من تاجرتم بأعراضكم فكشفتم سوءات نسائكم وبناتكم لتسقطوا بها شباب بلدكم، أيها الجبناء في زمن البطولات، هل سلَّمتم بعد هذا أنكم كالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث؟! هل سلمتم بعد هذا أنكم كالحمار الذي يحمل على ظهره أسفارا؟!
انظروا إلى أنفسكم، وراجعوا حساباتكم، واتقوا الله ربكم، استحيوا من الذي خلقكم، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة. ألا تخشون من بيده ملكوت السماوات والأرض؟! ألا تخافون الله الذي يقول للشيء: كن فيكون؟! ألا تتقون الله في أولادكم وأزواجكم؟! ألا تتقون الله في أهلكم وصحتكم؟! ألستم في رعب دائم خوفا من أن يفتضح أمركم؟! ألا يكفيكم أنكم تتلعثمون إذا تكلمتم، وتتلفتون حولكم أينما سرتم؟! لا تذوقون طعما للنوم إذا نمتم، ولا تهنؤون في جلسة إذا جلستم؛ خوفا من أن تفلت من أحدكم كلمة تفضح خيانته.
فإلى من يسمعني من الجواسيس أقول: اعتبروا بمن كان قبلكم، اعتبروا بأبي رغال الذي دلّ أبرهة الأشرم على مكان الكعبة، والذي أصبح قبره مكانا للناس يتغوّطون فيه، وأصبح قبره يرجَم كما يرجم إبليس. اعتبروا بأولئك الذين علِّقوا على أعمدة الكهرباء، ولم يجدوا من يدفنهم. اعتبروا بالذين أعدِموا في أواسط المدن، وتلاعب الصبية بجثثهم، ثم ألقوا على المزابل وكأنهم جيف كلاب. اعتبروا بالجواسيس الذين عذّبوا حتى نسوا أنهم من البشر. اعتبروا بالذي اغتال يحيى عياش، والذي كان يملك الملايين، كان يملك العمارات الضخمة، كان يملك النساء والأولاد، أضحى في ليلة واحدة وحيدا فقيرا مطاردا خائفا عاريا إلا من الخيانة والذلة والمسكنة. اعتبروا بمن تجسّس على صلاح شحادة، والذي أعدم في شوارع غزة، فلقي ربه بدم سبعة عشر مسلما، أكثرهم من الأطفال. اعتبروا بمن تجسّس على عماد عقل، وقد كشفت خيانته، فيمكث في السجن من عشر سنين. اعتبروا بالذي تجسّس على محمود المدني، وقد أصبح له في الخيانة خمس وعشرون سنة، فكان جزاؤه الإعدام في شوارع نابلس.
اسأل نفسك أيها الجاسوس: ماذا جنيت من خيانتك؟ ماذا ينفعك المال إذا أعدِمت؟ ماذا ينفعك تسريح العمل إذا سجِنت؟ بماذا تنفعك السيارات والعمارات إذا انفضح أمرك، وكشفت خيانتك، وأصبحت منبوذا في مجتمعك، لا تجد من يزوجك، ولا تجد من يتزوج منك، ولا تجد من يكلمك، أو يطرح عليك السلام، ولا تجد من يعودك إذا مرضت، ولن تجد من يدفنك أو يترحم عليك إذا مت؟ بل ستجد من يلعنك، ويلعن من يحبك، ويلعن من يغسلك، ويلعن من يمشي في جنازتك، وسيلعنون من يعزي بك، أو يستقبل التعازي بك، وسترفضك القبور كلها، وسيرفضك الأموات قبل الأحياء، فتدفن في مقابر اليهود، ولا عجب في ذلك، فالمرء على دين خليله، وما حصل أمام الجميع خير دليل على ذلك.
وبعد ذلك أيها الجاسوس، ستلقى ربك بخيانتك وغدرك لعباد الله الصالحين، فيشتعل القبر عليك نارا، وتكون في الدرك الأسفل من النار، وعند ذلك ستندم في يوم لا ينفع فيه الندم، قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29]. وستكون ممن قال الله فيهم: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100].
تب إلى الله، فباب التوبة مفتوح لمن تورط في هذا الجرم ثم تبين له خطؤه وخطيئته، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10].
فهذه دعوة للتوبة، ولا بديل لك عنها؛ فإما أن تتوب، وإما أن تلقى مصير من سبقك، لتكون عبرة لمن يسلك نفس الطريق. توبوا إلى ربكم، عودوا إلى أهلكم وبلدكم، اندموا على ما فعلتم، وترجموا هذا الندم على الأرض كما ترجمه بعض التائبين الصادقين من قبلكم، فطريق الجهاد واضح بيّن، ومكان الأعداء لا يجهله إلا صغير أو مجنون.
أيها المسلمون الكرام، إني داع فأمنوا: اللهم إنا نسألك يا الله أن تجعل كيد من كادنا في نحره. اللهم عليك بالصليبيين واليهود والجواسيس. اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم. اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا. اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، فإنهم لا يعجزونك. اللهم بدّد شملهم، وفرّق جمعهم، واجعل الدائرة عليهم. اللهم لا تمكن الأعداء فينا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. اللهم انصر المجاهدين في فلسطين وفي كل مكان، اللهم اجعل قتلهم لليهود والجواسيس إبادة, واجعل جهادهم عبادة. اللهم احفظ دينهم وعقيدتهم ودماءهم, وانصرهم على عدوك وعدوهم، وطهر المقدسات من دنس اليهود والمنافقين والمتخاذلين. اللهم فرج همّ المهمومين, وفكّ أسر المأسورين, وكن لليتامى والأرامل والمساكين, واشف مرضانا ومرضى المسلمين. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم, وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم آمين.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90], فاذكروا الله يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
(1/3150)
الجواسيس
الإيمان
نواقض الإيمان
زهير بن حسن حميدات
الخليل
4/3/1425
عبد الرحمن بن عوف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الأرض المقدسة. 2- تجنيد الصهاينة للجواسيس. 3- جريمة التجسس. 4- حكم الجاسوس المسلم. 5- أضرار المتجسسين. 6- انتشار ظاهرة التجسس. 7- نداء للجواسيس. 8- دعوة للتوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، يا أمة محمد ، لقد فضلنا الله عز وجل على كثير من عباده، فجعلنا في جهاد ورباط إلى يوم القيامة، وفضل الله فلسطين على كثير من البلاد، فبارك فيها وبارك حولها، إلا أن بعض المارقين من المنافقين والخائنين ضيعوا علينا فرحتنا، ونغصوا عيشتنا، وشوّهوا سمعتنا. أولئك الذين شذّوا عن جماعتهم، وخرجوا على صفهم، وخانوا قومهم، فتعاونوا مع اليهود الغزاة، يكشفون لهم العورات، ويدلونهم على أماكن رجال المقاومة، فيسهّلون لهم اغتيالهم. ولكن جرت سنة الله في خلقه أن يكون في كل شعب خونة، يبيعون آخرتهم بدنياهم، ويبيعون أمتهم بأعدائهم، حتى في عهد الرسول كان هناك منافقون، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16].
ولقد اجتهد الكيان الصهيوني منذ زمن طويل لتجنيد عدد غير قليل من أبناء فلسطين، ليعملوا لحسابه وتنفيذ خططه، واستخدم في ذلك كل وسائل الإغراء والترغيب، وبذرهم في وسط أقوامهم، ليقوموا بدورهم الخائن، فيتجسسون على أهلهم لحساب عدوهم، ويدلونهم على مواطن رجال المقاومة، وما من رجل اغتيل على هذه الأرض المباركة إلا وكان بمساعدة هؤلاء الخونة الذين يتعاونون مع أعداء أمتهم على الإثم والعدوان.
فالجاسوسية ـ يا عباد الله ـ هي موالاة للعدو المحتل، وهي جريمة وخيانة عظمى وكبيرة من الكبائر، وهي خيانة لله وللرسول وللمؤمنين، فهي حرام شرعا، حيث يصدق في الجواسيس قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، وقول الرسول : ((لا يحلّ دم امرئٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلا اللّه وأنّي رسول اللّه إلا بإحدى ثلاثٍ: النّفس بالنّفس، والثّيّب الزّاني، والمارق من الدّين التّارك للجماعة)) متفق عليه، والجاسوس تارك لدينه مفارق لجماعة المسلمين.
وقد أفتى العلماء المتقدّمون والمتأخرون بأن الجاسوس مرتدّ عن الإسلام، كافر يجب قتله، فقد روي عن الإمام مالك رضي الله عنه قوله: "الجاسوس المسلم الحكم الشرعي فيه القتل". كما صدرت فتاوى عديدة في هذا العصر من كبار علماء المسلمين، الحكم الشرعي فيها قتل الجاسوس، فالجواسيس يساعدون العدو، ويشتركون معه في قتل وتصفية واغتيال المناضلين والمجاهدين من أبناء الشعب الفلسطيني بالدلالة عليهم. والجاسوس يقتل ولو لم يقتل بنفسه؛ كأن يخبر عن مخبأ المجاهد، أو عن مكان بيته، أو أي مساعدة كانت، لقول رسول الله : ((من أعان على قتل مؤمنٍ بشطر كلمةٍ لقي اللّه عزّ وجلّ مكتوب بين عينيه آيس من رحمة اللّه)) رواه ابن ماجة.
وما كان العدو لينجح في قتل واغتيال واعتقال المئات من المجاهدين لولا مساعدة الجواسيس وتسهيلهم لمهمة الأعداء، فهؤلاء حكمهم حكم اليهود المحتلين؛ لأن ولاءهم لهم، وعونهم لهم، والله تعالى يقول: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]. والذي يدلّ اليهود على عورات المسلمين ويتسبب في قتل المجاهدين الأبطال يعدّ محاربا يجب قتله؛ لأنه تسبب في قتل المسلمين، وسبب السبب يأخذ حكم السبب، ومن أعان على القتل ولم يباشره كان قاتلاً أيضًا، لأن تجسّسه لصالح الأعداء يعدّ خيانة لله وخيانة لرسوله وخيانة لهذا الدين وخيانة للمسلمين، والله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]، وقد أفتى علماء المسلمين بقتل هذا الخائن الجاسوس؛ للضرر الذي يلحق بجماعة المسلمين منه، ويطبق عليه حد الحرابة.
أيها المؤمنون، يا خير أمة أخرجت للناس، إن التجسسَ على المسلمين لصالح أعدائهم عمل يعرّض مصالح المسلمين وبلادهم للضرر، وهو نوع من السعي بالفساد، وقد نزلت الآية الكريمة في عقاب من يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا، وهي قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33].
أما الأدلة من السنة الشريفة فهي كثيرة أيضا، منها قصة حاطب بن أبي بلتعة، يرويها لنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث يقول: بعثني رسول اللّه والزّبير وأبا مرثدٍ وكلّنا فارس، قال: ((انطلقوا حتّى تأتوا روضةَ خاخٍ، فإنّ فيها امرأةً معها صحيفة من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأتوني بها)) ، فانطلقنا على أفراسنا حتّى أدركناها حيث قال لنا رسول اللّه ، تسير على بعيرٍ لها، وقد كان كتب إلى أهل مكّة بمسير رسول اللّه إليهم، فقلنا: أين الكتاب الّذي معك؟ قالت: ما معي كتاب، فأنخنا بها بعيرها، فابتغينا في رحلها فما وجدنا شيئًا. فقال صاحباي: ما نرى معها كتابًا، فقلت: لقد علمنا ما كذب رسول اللّه ، ثمّ حلف عليّ: والّذي يحلَف به لتخرجِنّ الكتاب أو لأجرّدنّك، فأهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساءٍ فأخرجت الصّحيفة، فأتوا بها رسول اللّه ، فقال عمر: يا رسول اللّه، قد خان اللّه ورسوله والمؤمنين، دعني فأضرب عنقه، فقال رسول اللّه : ((يا حاطب، ما حملك على ما صنعت؟)) قال: يا رسول اللّه، ما لي أن لا أكون مؤمنًا باللّه ورسوله، ولكنّي أردت أن يكون لي عند القوم يد يدفع بها عن أهلي ومالي، وليس من أصحابك أحد إلا له هنالك من قومه من يدفع اللّه به عن أهله وماله، قال: ((صدق، لا تقولوا له إلا خيرًا)) ، فعاد عمر فقال: يا رسول اللّه، قد خان اللّه ورسوله والمؤمنين، دعني فلأضرب عنقه، قال: ((أوليس من أهل بدرٍ؟! وما يدريك لعلّ اللّه اطّلع عليهم فقال: اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكم الجنّة)) ، فاغرورقت عيناه، فقال: اللّه ورسوله أعلم. رواه البخاري. ونزلت فيه الآيات الأول من سورة الأنفال. وفي القصة جواز قتل الجاسوس وإن كان مسلمًا؛ لأن الذي منع قتل حاطب هو أنه من أهل بدر، ولولا هذا المانع لقتل.
كما أجاز النبي أن نفقأ عين من نظر إلى بيت غيره من نافذة أو غيرها ليتعرف ما بداخله بغير إذنهم.، وقال ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتّبعوا عوراتهم، فإنّه من اتّبع عوراتهم يتّبع اللّه عورته، ومن يتّبع اللّه عورته يفضحه في بيته)) رواه أحمد وأبو داود، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من استمع إلى حديث قومٍ وهم له كارهون أو يفرّون منه صبّ في أذنه الآنك يوم القيامة)) رواه البخاري.
أيها المسلمون، يا أهل الجهاد والرباط، لقد بلغ الجواسيس مبلغا لم نكن نتوقّعه، وخدموا العدوّ خدمة لم يكن هو نفسه يحلم بها. فهل تعلم ـ أخي المسلم ـ أن أحد الجواسيس قتل طفلا فلسطينيا بأمر من جيش الاحتلال، فكوفئ بنصف شيكل؟! وهل تعلم أن جاسوسا طلب منه رجل المخابرات أن يحفظ القرآن الكريم، فحفظه عن ظهر قلب؟! وهل تعلم ـ أيها المسلم ـ أن أحد الجواسيس كان يقوم الليل كله في ركعتين بحجة العبادة، فانكشف أمره، وتبين أنه كان يراقب المجاهدين؟! وهل تعلم ـ أخي المسلم ـ أن بعض الجواسيس قتل بيده عشرات المجاهدين؟! وهل تعلم أن أكثر هؤلاء أول ما يسقط أخته وأمه؟! وهل تعلم ـ أخي المسلم ـ أن بعض بيوت الجواسيس يزني فيها الرجل ببنته، والولد بأمه، والأخ بأخته؟! بل وأكثر من ذلك؛ عندما طلب رجل المخابرات من أحد الجواسيس أن يحضر له زوجته الطاهرة الشريفة، فلبى الجاسوس الطلب، وحاولت هي أن تدافع عن نفسها، إلا أن زوجها أمسك بها حتى انتهى رجل المخابرات من اغتصابها. بل وأكثر من ذلك؛ عندما يأتي الجاسوس بالشباب إلى بيته، فيصوّرهم فوق زوجته. فحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عباد الله، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: أيها المسلمون، يا من ترابطون على أرض الجهاد والاستشهاد، اسمحوا لي أن أخاطب الذين خانوا دينهم ووطنهم وشعبهم، أقول لهؤلاء الجواسيس: يا من خنتم الله ورسوله، يا من خنتم وطنكم وشعبكم، يا أحقر من عرفته الأرض والسماء، أيتها الفئة الضالة المضلة، إنكم أذلّ وأحقر من أن أذكركم من على هذا المنبر الطاهر، إلا أن للضرورة أحكامًا. فيا من تسترقون السمع على الشرفاء، اعلموا أنكم ابتلاء لهذا الشعب المجاهد، وهذا قدر الله أن نبتلى بأمثالكم، ليعلم الله المجاهدين منا والصابرين، فبأمثالكم يزداد الشرفاء شرفا، وبأفعالكم الخسيسة تزدادون أنتم حقارة وذلة ومهانة. قد تعيشون طويلا أيها المنافقون، قد تعيشون طويلا أيها الخائنون، لكنكم عبيد لأسيادكم، ضربت عليكم الذلة والمهانة في الدنيا والآخرة، تبيعون آخرتكم بدنيا غيركم، تسهرون على راحة إخوان القردة والخنازير، تحرسون قاتل آبائكم وإخوانكم، تتجسسون لمن انتهك عرض أخواتكم.
اعلموا أنكم الأذلاء في الدنيا والآخرة، اعلموا أن التاريخ سيذكركم، لكن على صفحاته السوداء، على صفحات الذل والعار، ليلعنكم من يقرأ عن خيانتكم، وليسبكم من يسمع عن بطولات تجسّسكم. افرحوا كما شئتم، واكتبوا ما بدا لكم، فما أنتم إلا حفنة من الحثالة التي غارت دماء الخجل في عروقهم، فلم يعد فيهم إحساس البشر. يرون أطفالا تذبح وشبابا تسجن وبيوتا تهدم وأشجارا تقلع ويستمرون في خيانتهم.
فيا من تخربون بيوتنا، يا من تزرعون الموت في دربنا، يا من أرعبتم الأطفال والثكالى، يا من تاجرتم بأعراضكم فكشفتم سوءات نسائكم وبناتكم لتسقطوا بها شباب بلدكم، أيها الجبناء في زمن البطولات، هل سلَّمتم بعد هذا أنكم كالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث؟! هل سلمتم بعد هذا أنكم كالحمار الذي يحمل على ظهره أسفارا؟!
انظروا إلى أنفسكم، وراجعوا حساباتكم، واتقوا الله ربكم، استحيوا من الذي خلقكم، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة. ألا تخشون من بيده ملكوت السماوات والأرض؟! ألا تخافون الله الذي يقول للشيء: كن فيكون؟! ألا تتقون الله في أولادكم وأزواجكم؟! ألا تتقون الله في أهلكم وصحتكم؟! ألستم في رعب دائم خوفا من أن يفتضح أمركم؟! ألا يكفيكم أنكم تتلعثمون إذا تكلمتم، وتتلفتون حولكم أينما سرتم؟! لا تذوقون طعما للنوم إذا نمتم، ولا تهنؤون في جلسة إذا جلستم؛ خوفا من أن تفلت من أحدكم كلمة تفضح خيانته.
فإلى من يسمعني من الجواسيس أقول: اعتبروا بمن كان قبلكم، اعتبروا بأبي رغال الذي دلّ أبرهة الأشرم على مكان الكعبة، والذي أصبح قبره مكانا للناس يتغوّطون فيه، وأصبح قبره يرجَم كما يرجم إبليس. اعتبروا بأولئك الذين علِّقوا على أعمدة الكهرباء، ولم يجدوا من يدفنهم. اعتبروا بالذين أعدِموا في أواسط المدن، وتلاعب الصبية بجثثهم، ثم ألقوا على المزابل وكأنهم جيف كلاب. اعتبروا بالجواسيس الذين عذّبوا حتى نسوا أنهم من البشر. اعتبروا بالذي اغتال يحيى عياش، والذي كان يملك الملايين، كان يملك العمارات الضخمة، كان يملك النساء والأولاد، أضحى في ليلة واحدة وحيدا فقيرا مطاردا خائفا عاريا إلا من الخيانة والذلة والمسكنة. اعتبروا بمن تجسّس على صلاح شحادة، والذي أعدم في شوارع غزة، فلقي ربه بدم سبعة عشر مسلما، أكثرهم من الأطفال. اعتبروا بمن تجسّس على عماد عقل، وقد كشفت خيانته، فيمكث في السجن من عشر سنين. اعتبروا بالذي تجسّس على محمود المدني، وقد أصبح له في الخيانة خمس وعشرون سنة، فكان جزاؤه الإعدام في شوارع نابلس.
اسأل نفسك أيها الجاسوس: ماذا جنيت من خيانتك؟ ماذا ينفعك المال إذا أعدِمت؟ ماذا ينفعك تسريح العمل إذا سجِنت؟ بماذا تنفعك السيارات والعمارات إذا انفضح أمرك، وكشفت خيانتك، وأصبحت منبوذا في مجتمعك، لا تجد من يزوجك، ولا تجد من يتزوج منك، ولا تجد من يكلمك، أو يطرح عليك السلام، ولا تجد من يعودك إذا مرضت، ولن تجد من يدفنك أو يترحم عليك إذا مت؟ بل ستجد من يلعنك، ويلعن من يحبك، ويلعن من يغسلك، ويلعن من يمشي في جنازتك، وسيلعنون من يعزي بك، أو يستقبل التعازي بك، وسترفضك القبور كلها، وسيرفضك الأموات قبل الأحياء، فتدفن في مقابر اليهود، ولا عجب في ذلك، فالمرء على دين خليله، وما حصل أمام الجميع خير دليل على ذلك.
وبعد ذلك أيها الجاسوس، ستلقى ربك بخيانتك وغدرك لعباد الله الصالحين، فيشتعل القبر عليك نارا، وتكون في الدرك الأسفل من النار، وعند ذلك ستندم في يوم لا ينفع فيه الندم، قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29]. وستكون ممن قال الله فيهم: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100].
تب إلى الله، فباب التوبة مفتوح لمن تورط في هذا الجرم ثم تبين له خطؤه وخطيئته، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10].
فهذه دعوة للتوبة، ولا بديل لك عنها؛ فإما أن تتوب، وإما أن تلقى مصير من سبقك، لتكون عبرة لمن يسلك نفس الطريق. توبوا إلى ربكم، عودوا إلى أهلكم وبلدكم، اندموا على ما فعلتم، وترجموا هذا الندم على الأرض كما ترجمه بعض التائبين الصادقين من قبلكم، فطريق الجهاد واضح بيّن، ومكان الأعداء لا يجهله إلا صغير أو مجنون.
أيها المسلمون الكرام، إني داع فأمنوا: اللهم إنا نسألك يا الله أن تجعل كيد من كادنا في نحره. اللهم عليك بالصليبيين واليهود والجواسيس.
(1/3151)
بواعث محبة النبي
الإيمان, سيرة وتاريخ
الشمائل, خصال الإيمان
ياسر بن محمد بابطين
جدة
جامع الأمين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حب النبي من خصال الإيمان. 2- بواعث حب النبي في نفس المسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: مَن مِنا الذي لا تتحرّك نفسه حبّا، ولا يهتز فؤاده شوقا، ولا تدمع عينه أسفا أنه لم يرَ رسول الله ولا أنِسَ بصحبته؟! مَن مِنا الذي لا يفيض قلبه بمشاعر الوفاء لذاك النبي العظيم الذي أنقذنا الله به من النار، حين تقرأ سيرته، أو تزور مسجده، أو تسمع أمره ونهيه؟!
أيها المؤمنون، إنّ حب النبي عمل قلبي من أجلّ أعمال القلوب، وأمر وجداني يجده المسلم في قلبه، وعاطفة طيبة تجيش بها نفسه.
محبته أن يميل قلبك ـ أيها المؤمن ـ إليه ميلاً يتجلى فيه إيثاره على كل محبوب من نفس ووالد وولد والناس أجمعين.
فتعال ـ أيها المؤمن ـ لنحرك في أنفسنا بواعث حبه، فكلما ازددت له حبا ازددت إيمانا وقربا وطاعة لله.
كيف لا نحبه والله جل في علاه قد أحبه واصطفاه؟! أخرج مسلم عن جندب قال: سمعت النبي قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ((إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك)).
كيف لا نحبه وحبه من حب الله تعالى؟! عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((أحبوا الله لما يغدوكم به من نعمه، وأحبوني بحبّ الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي)) رواه الترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
كيف لا نحبه ولا إيمان لعبدٍ حتي يحبه؟! إن محبة الرسول أصل عظيم من أصول الإيمان يتوقف على وجودِه وجودُ الإيمان، فلا يدخل المسلم في عداد المؤمنين الناجين حتى يكون رسول الله أحبّ إليه من الناس أجمعين، بل ومن نفسه التي بين جنبيه، يقول الله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6]، ويقول سبحانه: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].
قال القاضي عياض: "فكفى بهذا حضّا وتنبيها ودلالة وحجة على إلزام محبته ووجوب فرضها وعظم خطرها واستحقاقه لها ، إذ قرَّع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وتوعدهم بقوله تعالى: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ، ثم فسقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضلّ ولم يهده الله".
أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال: قال النبي : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)) ، وأخرج البخاري عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي : ((لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك)) ، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي : ((الآن يا عمر)).
كيف لا نحبه والجبال والشجر تحبه وتسلم عليه؟! عن علي بن طالب قال: كنا مع النبي بمكة، فخرجنا معه في بعض نواحيها، فمررنا بين الجبال والشجر، فلم نمرّ بشجرة ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله. رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، وأقره الذهبي.
وعن يعلى بن مرة الثقفي قال: بينا نحن نسير مع رسول الله فنزلنا منزلاً، فنام النبي ، فجاءت شجرة تشقّ الأرض حتى غشيته، ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ ذكرت له ذلك، فقال: ((هي شجرة استأذنت ربها عز وجل في أن تسلم علي، فأذن لها)) رواه أحمد والطبراني وأبو نعيم والبيهقي ورجال أحمد وأبي نعيم والبيهقي رجال الصحيح.
وعن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: كان رسول الله يصلّي إلى جِذع ويخطب إليه، إذ كان المسجد عريشًا، فقال له رجل من أصحابه: ألا نجعل لك عريشًا تقوم عليه يراك الناس يوم الجمعة وتسمع من خطبتك؟ قال: ((نعم)) ، فصنع له الثلاثة درجات هنّ اللواتي على المنبر، فلما صنع المنبر وضع في موضعه الذي وضعه فيه رسول الله ، قال: فلما جاء رسول الله يريد المنبر مر عليه، فلما جاوزه خار الجذع حتى تصدّع وانشق، فرجع إليه رسول الله فمسحه بيده حتى سكن، ثم رجع إلى المنبر، وفي رواية: فلما قعد نبيّ الله على ذلك المنبر خار الجذع كخوار الثور حتى ارتجّ المسجد حزنًا على رسول الله ، فنزل إليه رسول الله من المنبر فالتزمه وهو يخور، فلما التزمه رسول الله سكن، ثم قال: ((أما والذي نفس محمد بيده، لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة)) حزنا على رسول الله فدفن. رواه الإمام الدرامي قال الوادعي: "والحديث صحيح على شرط مسلم، وأصله عند البخاري وأحمد وغيرهما".
وعن أنس بن مالك قال: خرجت مع رسول الله إلى خيبر أخدمه، فلما قدم النبي راجعًا وبدا له أحُدٌ قال: ((هذا جبل يحبنا ونحبه)) متفق عليه.
كيف لا نحبه وهو النور الذي يهدينا الطريق؟! يقول الحق تبارك وتعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:151]. فهو من عرّف الأمةَ الطريقَ الموصل لهم إلى ربهم ورضوانِه ودارِ كرامته، ولم يدع حسنًا إلا أمر به، ولا قبيحًا إلا نهى عنه.
ويقول جل شأنه: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت:51].
عن أبي سعيد الخدري قال: لما أصاب رسولُ الله الغنائمَ يومَ حنين وقسم للمتألفين من قريش وسائر العرب ما قسم، ولم يكن للأنصار منها شيء قليل ولا كثير، وجدَ هذا الحيّ من الأنصار في أنفسهم، حتى قال قائلهم: لقي ـ والله ـ رسول الله قومه، فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، فقال: ((فيم؟)) قال: فيما كان من قَسْمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، ولم يكن لهم من ذلك شيء، فقال رسول الله : ((فأين أنت من ذلك يا سعد؟)) قال: ما أنا إلا امرؤٌ من قومي، قال: فقال رسول الله : ((فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فإذا اجتمعوا فأعلمني)) ، فخرج سعد فصرخ فيهم فجمعهم في تلك الحظيرة، حتى إذا لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له أتاه فقال: يا رسول الله، قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار حيث أمرتني أن أجمعهم، فخرج رسول الله فقام فيهم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: ((يا معشر الأنصار، ألم آتكم ضلاّلا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم)) ، قالوا: بلى، ثم قال رسول الله : ((ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟!)) قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ وبماذا نجيبك المَنُّ لله ولرسوله؟ قال: ((والله، لو شئتم لقلتم فصَدَقتم وصُدِّقتم، جئتنا طريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، وخائفا فأمناك، ومخذولا فنصرناك)) ، فقالوا: المنّ لله ولرسوله، فقال رسول الله : ((أوَجَدتم في نفوسكم ـ يا معشر الأنصار ـ في لُعاعة من الدنيا تألفتُ بها قومًا أسلموا ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام؟! أفلا ترضَون أن يذهبَ الناس بالشاء والبعير وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟! فوالذي نفسي بيده، لو أنّ الناس سلكوا شِعبًا وسلكت الأنصار شِعبًا، لسلكتُ شعبَ الأنصار، ولولا الهجرة لكنتُ امرأ من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار)) ، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا بالله ربا وبرسوله قسما، ثم انصرف وتفرقوا. [البداية والنهاية (4/258)].
كيف لا نحبه وهو رحمة الله للعالمين؟! أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن جعفر قال: ركب رسول الله بغلته وأردفني خلفه، فدخل حائطًا لرجل من الأنصار فإذا فيه ناضِح له، فلما رأى النبي حنّ وذرفت عيناه، فنزل رسول الله فمسح ذفراه وسراته فسكن، فقال: ((من ربّ هذا الجمل؟)) فجاء شاب من الأنصار فقال: أنا، فقال: ((ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟! فإنه شكاك إليّ وزعم أنك تجيعه وتدئبه)) قال الوادعي: "صحيح على شرط مسلم وقد أخرج بعضه".
وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قيل لرسول الله : ادعُ على المشركين، قال: ((إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة)) ، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلا وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إن ربي غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله جل شأنه وعز سلطانه، له الحمد في الأولى والآخرة وهو الحكيم الخبير، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، اللهم صلّ على البشير النذير والسراج المنير، وعلى آله ومن اقتفى أثره إلى يوم النشور.
أيها المؤمنون، كيف لا نحبه وهو يحبنا ويشفق علينا؟! قال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، خرج مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي [ إبراهيم:36]، وقال عيسى عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، فرفع يديه وقال: ((اللهم أمتي أمتي)) وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد ـ وربك أعلم ـ فسله، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله فأخبره رسول الله بما قال، فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنّا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك. وقد أرضاه الله في أمته فشفعه فيهم يوم الفزع الأكبر وجعلهم ثلثي أهل الجنة، فأمته ثمانون صفّا من مائة وعشرين صفا هم أهل الجنة، جعلنا الله من أهلها، فنحن الآخرون في الدنيا، السابقون يوم القيامة ببركة نبينا محمد ودعوته.
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة، فهي نائلةٌ إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا)).
لقد أوذي ـ بأبي هو وأمي ـ وعودي وحوصر وطُرد وحورب وقُتل أصحابه وكُسرتْ رباعيته وكيد له، فما تعجل دعوةً له عند الله مستجابة، بل اختبأها ليفكّ بها عنا غلَّ يوم كان شره مستطيرا.
قال الحليمي رحمه الله: وجاء عن النبي أنه ضحى بكبشين فقال في أولهما: اللهم عن محمد وآل محمد، وقال في الآخَر: اللهم عن محمد ومن لم يضح من أمة محمد، وعنه أنه قال: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء والسواك عند كل صلاة)) ، وامتنع من الخروج في الليلة الثالثة من رمضان لما كثر الناس، وقال: ((قد رأيتُ الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت عليكم أن تفرض عليكم)).
كيف لا نحبه وهو أكمل الخلق خَلقًا وخُلقًا؟!
أما خِلْقته فعن جابر بن سمرة قال: رأيتُ رسول الله في ليلة إضحيان ـ أي: مقمرة ـ وعليه حُلة حمراء، فجعلتُ أنظر إليه وإلى القمر، فلهو عندي أحسن من القمر. أخرجه الترمذي في الشمائل وصححه الألباني. وعن أبي الطفيل قال: كان أبيضَ مليحًا مقصّدًا. أخرجه الترمذي في الشمائل وصححه الألباني.
وأمّا خُلُقه فيقول ربه عزّ وجل مثنيًا عليه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وعن جرير بن عبد الله قال: ما حجبني رسول الله منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي. رواه الجماعة إلا أبا داود. وعن أنسٍ قال: خدمتُ رسول الله عشر سنين فما قال: أُفٍّ قط، وما قال لشيءٍ صنعتُه: لم صنعتَه؟ ولا لشيءٍ تركتُه: لم تركتَه؟ وكان رسول الله من أحسن الناس خُلُقًا، ولا مسستُ خَزًا ولا حريرًا ولا شيئًا ألين من كفِّ رسول الله ، ولا شممتُ مِسكًا قطُ ولا عطرًا أطيب من عرق النبي. أخرجه الترمذي في الشمائل وصححه الألباني.
كيف لا نحبه والمرء مع من أحب؟! أخرج البخاري عن أنس أن رجلاً سأل النبيّ : متى الساعة يا رسول الله؟ قال: ((وماذا أعددت لها؟)) قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: ((أنت مع من أحببت)) ، قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحَنا بقول النبي : ((أنت مع من أحببت)) ، قال أنس: فأنا أحب النبي وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم.
قال الحسن البصري: "ابن آدم لا تغتر بقول من يقول: المرء مع من أحب أنه من أحب قوما اتبع آثارهم، ولن تلحق بالأبرار حتى تتبع آثارهم وتأخذ بهديهم وتقتدي بسنتهم وتصبح وتمسي وأنت على منهاجهم، حريصا على أن تكون منهم، فتسلك سبيلهم وتأخذ طريقهم وإن كنت مقصرا في العمل، فإنما ملاك الأمر أن تكون على استقامة".
كيف لا نحبه وهو سلوى الغرباء والمحزونين؟! عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال : ((إذا أصيب أحدكم بمصيبة، فليذكر مصيبته بي، فإنها من أعظم المصائب)) رواه ابن ماجه والبيهقي والطبراني، وهو حديث صحيح بطرقه.
وأيّ مصيبةٍ وإن عظمت تعدل مصابنا بفقده ولوعتنا ببعده، وظمأنا إلى نور وجهه؟! اللهم فاحشرنا في حزبه.
عن أنس بن مالك قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله المدينة أضاء من المدينة كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه رسول الله أظلم من المدينة كل شيء، وما فرغنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا. رواه أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم وصححوه.
وأخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((والذي نفسي بيده، ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني، ثم لأن يراني أحب إليه من أهله وماله معهم)).
ألا وصلوا وسلموا...
(1/3152)
حماة الأمة في زمن الفتن
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي, الفتن
ياسر بن محمد بابطين
جدة
جامع الأمين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة الفتن. 2- المصطادون في أيام الفتن. 3- ذهاب العلم وظهور الجهل. 4- ضرورة لزوم العلماء الربانيين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بنور ربكم، عضوا بالنواجذ على هدي كتابه، وسنة نبيه وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، والزموا الجماعة، وإياكم والفرقة، فمن فارق الجماعة قيد شبر هلك.
أيها المؤمنون، حين يُظلّ الناسَ زمان الفتن، فتحار العقول وتضطرب الألباب وتتلجلج القلوب، حتى يعمى الحق على أكثر الناس، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، إذا نزلت بالأمة فتنٌ تموج كموج البحر الهادر، وتطيف بالقلوب كالنار تسري في الهشيم.
إذا كان كلّ هذا فما العاصم؟! وأين المخرج؟!
إننا لا بد ـ معاشر المؤمنين ـ أن ندرك خطرَ الفتن والتباسِ الحق فيها بالباطل ورواجِ الشبهات بين يدَيها حتى تُنزل منزل المسلَّمات. عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: (ما الخمر صِرفًا بأذهب بعقول الرجال من الفتن) رواه ابن أبي شيبة، وعنه رضي الله عنه أنه قال: (تكون فتنةٌ تعوّج فيها عقول الرجال، حتى ما تكاد تَرى رجلاً عاقلاً) رواه نعيم بن حماد في الفتن، وروى ابن عبد البرِّ في الاستيعاب عن حذيفة رضي الله عنه أنه سئل أي: الفتن أشد؟ قال: (أن يُعرض عليك الخير والشر، فلا تدري أيهما تركب).
إن المؤمن لتعترضه الفتنة تلوَ الفتنة، الواحدة منها تكفي لتفتك به وتُذهب دينه، شعر أو لم يشعر، إلا أن يعصمه الله بمنه وفضله.
تعصف الفتن بالأمة، ولو لم يكن إلا عصفها لكفى، كيف وفي الأمة منافقون ومخذّلون، ومن يحبون أن تشيع الفاحشة والفرقة والضلالة في الذين آمنوا؟! يخرجون أيام الفتن، ينفثون سمومهم، ويصطادون في الماء العكر، يتصدرون للناس إذا غاب أهل الصدارة، فيَضلّون ويُضلون.
أيها المؤمنون، لقد عصم الله هذه الأمة من أن تجتمع على ضلالة، وجعل النجاة فيها لمن استمسك بالكتاب والسنة ولزم الجماعة.
لقد حبا اللهُ هذه الأمة نجومًا تُزيّن سماءها تهدي السالكين، وتهوي على الشياطين، إنهم العلماءُ الربانيون، أنقى صفحات تاريخ هذه الأمة، بهم يهتدي الناس، إليهم يرجعون، وعنهم يصدرون، إنهم صمام الأمان أمام شبهات المرجفين وزيغ الضالين.
فإذا ذهبوا ذهب العلم وأقبل الجهل، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويُبث الجهل، وتشرب الخمر، ويظهر الزنا)) رواه البخاري ومسلم. ولهما عن ابن مسعود وأبي موسى رضي الله عنهما قالا: قال النبي : ((إن بين يدي الساعة لأيامًا ينزل فيها الجهل، ويُرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج، والهرج القتل)). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يرفعه إلى النبي : ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهّالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) رواه الشيخان.
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: (لا يأتي عامٌ إلا وهو شرٌ من الذي قبله، أما إني لست أعني عامًا أخصب من عام، ولا أميرًا خيرًا من أمير، ولكن علماؤكم وخياركم يذهبون، ثم لا تجدون منهم خلفًا، ويجيء قوم يقيسون الأمور بآرائهم، فيُهدم الإسلام ويُثلم).
أيها المؤمنون، إننا لنشهد اليوم كيف يتناقص العلماء، يذهب العالم فتُثلم ثُلمةٌ لا تُسدّ، ولا ينهض لمكانه مثله، لقد قلَّ العلماء الربانيون، وقلّت الحفاوة بمن بقي منهم وإنزالهم منازلهم، قلَّ الذين يرجعون إليهم في كلّ أمر ذي بال يعرض لهم، إننا اليوم لنرى ـ وما أكثر ما نرى ـ ما حدَّث به الصادق المصدوق ، من هوًى متبع وشحٍّ مطاع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، نرى الرؤوس الجهال يفتون بغير علم فيضلون ويُضلون.
يظن أحدهم أن العلم إنما يلزم من أفتى في مسائل الفقه وقضايا العبادات، فيترك ذلك لأهل العلم، وما أحسن ما صنع، لولا أنه يطلق للسانه وقلمه العنان في قضايا الأمة الخطيرة، في عقيدتها، فكرِها، سياستها، أصول دينها، يتورع عن الكلام في القضايا الفرعية والأحوال الشخصية، لكنه يسوِّغ لهواه ورأيه أن يجولا في أمور العامة ومشكلات الأمة المصيرية. أولئك هم الرويبضات، يهرفون بما لا يعرفون، ويهذون ولا يدرون، تراهم على بعض أعمدة الصحف وبرامج الإذاعات والقنوات الفضائية، إن لم يكن أكثرها، كان الأولى أن يسكتوا إذ جهلوا، أو يسألوا فإنما شفاء العيِّ السؤال، أما وقد تكلموا فحريٌ أن لا يجدوا فينا قارئا ولا سامعًا، وصدق الله: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47].
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن أمام الدجال سنين خداعة، يُكذّب فيها الصادق، ويُصدق الكاذب، ويُخوّن الأمين، ويؤتمن الخائن، ويتكلم فيها الرويبضة)) ، قيل: وما الرويبضة؟ قال: ((الفويسق)) وفي رواية: ((الرجل التافه)) وفي ثالثة: ((السفيه يتكلم في أمر العامة)).
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، اللهم اعصمنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، أنت مولانا وحسبنا، نعم المولى ونعم النصير.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، عن زياد بن لبيد رضي الله عنه قال: ذكر النبي شيئًا فقال: ((ذاك عند أوان ذهاب العلم)) ، قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟! قال: ((ثكلتك أمك يا زياد، إن كنتُ لأراك من فقهاء أهل المدينة، أوليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما؟!)) رواه الإمام أحمد وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
لقد ضلّ اليهود والنصارى وعندهم التوراة والإنجيل فيها حكم الله، ثم ما لبث أن تمادى بهم غيهم حتى حرفوها ولعبوا بهما، فويلٌ لهم، وويل لأقوامٍ منعهم حفظُ الله كتابَه من أن يحرفوه، فراحوا يحرّفون معانيه ويتلاعبون بدلالاته، يُفسرونه كما يحلو لشهواتهم وشبهاتهم، إنهم كما قال ابن مسعود: (يقيسون الأمور بآرائهم)، فاحذروهم عباد الله، احذروا شبهاتهم التي يبثونها وسمومهم التي يدسونها، فإن غُمَّ عليكم فقد جعل لكم عند أهل العلم جَلوةً وبيانًا فالزموا غرسهم، والتفوا حولهم، ذُبُّوا عن أعراضهم، واحفظوا عيباتهم، وإن رأيتم منهم ما تكرهون فاستبينوا أمرهم، وانصحوا لهم فإنهم بشرٌ لهم وعليهم، ومن نال منهم فإنما ينال من حملة الدين، ويثلم في بنيانه، وينخر السفينة التي تحمل الأمة إلى برِّ الأمان، إننا اليوم ـ أيها المؤمنون ـ أحوجُ ما نكون إلى الرجوع إلى أهل العلم والاستماع إليهم وتوحيد الصفوف تحت راياتهم، وأن لا ندع لمغرضٍ علينا سبيلاً.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ...
(1/3153)
علامات محبة النبي
الإيمان
الإيمان بالرسل, خصال الإيمان
ياسر بن محمد بابطين
جدة
جامع الأمين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حبّ النبي رصيد في قلب كل مؤمن. 2- تقديم حب النبي على كل المحبوبات. 3- طاعة النبي. 4- توقير النبي وتعظيمه. 5- تعظيم سنة النبي. 6- الذب عن النبي. 7- الصلاة على النبي. 8- محبة آل النبي وصحابته. 9- محبة ما يحب النبي. 10 الشوق إلى رؤيته. 11- التحذير من الغلو فيه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، فلا يزال الحديث موصولاً في ظلال محبته ، إذ مضى شطرُه في بواعِث المحبة، وركائزها في النفوس، وبقي في ذمّة المحبين نصبُ ميزان الحب وإقامة برهانه والوفاء بثمنه، فالحب ليس ادعاءً فيتحلى به غيرُ أهله، ولا كلامًا سهلاً يتصنعُه من لم يذق حلاوته في قلبه.
أيها المؤمنون، إن لحبّ النبي رصيدًا في قلب كل مؤمن، فما من مؤمن إلا وله من حبه نصيب، فمستقلٌ ومستكثر، وعل قدر أمارات المحبة تكون حقيقتها، فسل نفسك وفتش في قلبك وعملك.
فإن كنت تحبه فقدم حبه على حب ما سواه، أخرج البخاري ومسلم عن أنس أن رسول الله قال: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)) الحديث. وسُئل علي بن أبي طالب : كيف كان حبكم لرسول الله ؟ قال: كان ـ والله ـ أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ.
روى ابن هشام في السيرة عن سعد بن أبي وقاص قال: مرَّ رسولُ الله بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله بأُحد، فلما نُعوا لها قالت: ما فعل رسول الله ؟ قالوا: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبّين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، قال: فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل. أي: هينة.
إن كنت تحبه فأطعه، فالطاعة علامة صدق المحبة وشرطها وثمرتها، قال القاضي عياض: "اعلم أن من أحب شيئا آثره وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقا في حبه وكان مدعيا، فالصادق في حب النبي من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها الاقتداء به واستعمال سنته واتباع أقواله وأفعاله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه".
لما كان يومُ بدر خرج رسول الله وأصحابُه يريدون عيرَ قريش، حتى أتاه الخبر بمسير قريش ليمنعوا عيرَهم، فاستشار رسول الله الناس وأخبرهم الخبر، وقال: ((أشيروا عليّ أيها الناس)) ، فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امضِ لما أمرك الله به فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرتَ بنا إلى برك الغِماد ـ يعني الحبشة ـ لجالدنا معك مَن دونُه حتى تبلغه، فقال له رسول الله خيرا ودعا له بخير، ثم قال: ((أشيروا عليّ أيها الناس)) ، وهو إنما يريد الأنصار، فقام سعد بن معاذ فقال: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: ((أجل)) ، فقال سعد: آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض ـ يا رسول الله ـ لما أمرك الله، فوالذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضتَه لخضناه معك ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غدا، إنا لَصُبْرٌ عند الحرب، صُدْقٌ عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسِر بنا على بركة الله.
هل رأيت أعظم من هذا الحب أو أصدق من هذا الوفاء؟! إنها ليست طاعةً في ركعتين يركعها، ولا امتثالاً لنهي عن لذة يشتهيها، إنها أنفسٌ تُباع، وأشلاء تُمزق، وأرواح تُزهقُ طاعةً لله ورسوله.
عن الشعبي قال: لما دعا رسولُ الله الناس إلى البيعةِ يوم الحديبية كان أولَ من انتهى إليه أبو سنان الأسدي، فقال: ابسط يدك أبايعك، فقال النبي : ((علام تبايعني؟)) فقال أبو سنان : على ما في نفسك، على ما في نفسك، يقولها وهو يعلم ما يقول، يعلم أن ثمن مقالته أن يأخذ الله من دمه حتى يرضى.
أيها المحب إن كنت تحبه فوقره وعظِّمه، ألسنا نقرأ قوله جل في علاه: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157]، وقوله: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح:8، 9]؟!
قال أبو بكر بن العربي: "حرمةُ النبي ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثورُ بعد موته في الرفعة مثلُ كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه وجب على كلّ حاضر أن لا يرفع صوته عليه، ولا يُعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به".
روى البخاري في صحيحه عن عروةَ بن مسعود أنه قال لقريش وقد بعثته في شأن الصلح: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكًا قطّ يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمدًا، والله إن انتخم نخامةً إلا وقعت في كفّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له.
وعن بريدة بن الحصيب قال: كنا إذا قعدنا عند رسول الله لم نرفع رؤوسنا إليه إعظامًا له. رواه البيهقي.
وعن عمرو بن العاص قال: ما كان أحد أحب إلي من رسول الله ، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه. رواه مسلم.
وروى مسلمٌ عن أنس قال: لقد رأيت رسول الله والحلاق يحلق رأسه، وأطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل منهم. وكيف لا يكون الأمر كذلك؟! ألم يكن كلَّ شيءٍ في حياتهم؛ معلمَهم، مربيهم، قائدهم، قدوتهم، إمامهم في الدنيا والشهيد عليهم في الآخرة؟!
روى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول الله إلى النجاشي ونحن نحوٌ من ثمانين رجلاً، فلما سألَنا عن مقالتنا في عيسى ابن مريم وأمِّه أجابه جعفر بقول الله فيهما، فرفع النجاشي عُودا من الأرض ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيهما سوى هذا، مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجدُ في الإنجيل، وأنه الرسول الذي بَشّر به عيسى ابنُ مريم، انزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا الذي أحملُ نعليه.
وإن كنت تحبه فعظم سنته، فلقد كان سلفنا الصالح إذا ذُكر عندهم النبي أو حديثٌ من أحاديثه ظهر عليهم من الهيبة والإجلال والتأدب كما لو كان النبي أمامهم، عن عمرو بن ميمون رحمه الله قال: كنتُ لا تفوتني عشيةُ خميس إلا آتي فيها عبد الله بن مسعود ، فما سمعتُه يقول لشيء قط: قال رسول الله حتى كانت ذات عشية فقال: سمعتُ رسول الله ، قال: فنظرتُ إليه وهو قائم محلولة أزرار قميصه قد اغرورقت عيناه وانتفخت أوداجه، فقال: أو دون ذلك أو فوق ذلك أو قريبا من ذاك أو شبيها بذاك، وفي رواية: فنظرتُ إليه وهو معتمدٌ على عصا فنظرت إلى العصا تزعزع، وفي أخرى: فأرعد وارتعد، قال: هكذا أو قريبا من هذا أو فوق ذا أو دون ذا، فقالوا له: ما لك يا أبا عبد الرحمن؟! قال: إني حدثت بحديث عن النبي فتخوفت أن أزيد فيه شيئا أو أنقص منه شيئا. رواه الدارمي وابن ماجه بإسناد صحيح.
قال مصعب بن عبد الله: كان مالك رحمه الله إذا ذُكر النبي يتغير لونه، وينتحب حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يومًا في ذلك فقال: لو رأيتم ما رأيت ما أنكرتم علي ما ترون، لقد كنت أرى محمدَ بنَ المنكدر وكان سيدَ القراء لا نكادُ نسألُه عن حديثٍ أبدًا إلا بكى حتى نرحمه، وكنت آتي صفوانَ بنَ سُليم فإذا ذُكر النبيُ بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه.
قال ضرار بن مرة الشيباني: كانوا يكرهون أن يحدثوا بحديث على غير وضوء، وكان الأعمش رحمه الله إذا أراد أن يحدث وهو على غير وضوء تيمم.
قال عبد الرحمن بن مهدي: مشيت مع مالك يومًا إلى العقيق، فسألته عن حديث، فانتهرني وقال لي، كنت في عيني أجلَّ من أن تسأل عن حديث رسول الله ونحن نمشي.
أين أنتم ـ أيها المحبون ـ من تعظيم سنته والعمل بها والذب عنها وإحيائها في الناس؟!
وإن كنت تحبه فذُبَّ عنه وافده بنفسك ومالِك.
أجمع أهلُ العلم على وجوبِ قتل من سبَّ الرسول أو عابه أو ألحق به نقصًا في نسبه أو دينه أو خصلةٍ من خصاله، أو عرّض به أو شبَّهه بشيءٍ على طريق السبِّ له والإزراءِ عليه أو التحقير لشأنه، قالوا: ويُقتل بلا استتابة، وإن كان ذِمِّيا قُتل ودمه هدرٌ وعهده منقوض، كلُّ ذلك رعايةً لعظيم حقه على أمته.
لقد قدّم الصحابة رضوان الله عليهم صوَرا رائعة في ذبِّ المحب عن حبيبه، حدّثت أم سعدٍ بنتُ سعد بن الربيع قالت: دخلت على أم عمارة فقلت لها: يا خالة، أخبريني خبرك، فقالت: خرجت أولَ النهار أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله، فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف، وأرمي عن القوس، حتى خلصت الجراحُ إليّ، قالت: فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور، فقلت لها: من أصابك بهذا؟ قالت: ابن قمئة أقمأه الله، لما ولى الناس عن رسول الله أقبلَ يقول: دُلوني على محمد لا نجوتُ إن نجا، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأُناسٌ ممن ثبت مع رسول الله، فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كانت عليه درعان، يقول : ((ما التفتُ يمينًا ولا شمالاً يومَ أحد إلا ورأيتها تقاتل دوني)).
وفي غزوة الرجيع لما غدر بنو لحيان بأصحاب النبي كان فيمن أسروه زيدُ بن الدِّثِنَة، فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فاجتمع رهطٌ من قريش فيهم أبو سفيان، فقال له حين قُدِّم ليُقتل: أَنشدك بالله يا زيد، أتحبّ أن محمدًا الآن عندنا مكانك نَضرب عُنقَه وأنك في أهلك، قال: والله ما أحبّ أن محمدًا الآن في مكانِه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي، قال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدًا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يخلق ما يشاء ويختار، أجرى بحكمته الأقدار، يكور النهار على الليل ويكور الليل على النهار، اللهم صل وسلم على إمام الأبرار وسيد الأطهار، وعلى السابقين من المهاجرين والأنصار.
أما بعد: أيها المحب، إن كنت تحبه فأكثر من ذكره والصلاة عليه.
أخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من صلى عليَّ واحدة، صلى الله عليه عشرًا)) ، وعند الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عَلَيّ)) ، وفي المسند عن أُبيٍّ قال: قلتُ: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ((ما شئت)) حتى قال: أجعلُ لكَ صلاتي كلها، قال: (((إذا تُكفى همَّك، ويُغفر لك ذنبُك)). قال القاضي عياض: "فذِكره شُرع لإظهار محبته واحترامه وتوقيره وتعظيمه وهذا من علامات محبته".
إن كنت تحبه فأحب آله وصحبه، قال ابن تيمية: "من أصول أهل السنة والجماعة إنهم يحبون أهل بيت رسول الله ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله "، يقول جل شأنه: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23].
ومن علامات حبه حبُّ أصحابه ومعرفةُ فضلهم وقدرِهم، يقول الحق تبارك اسمه: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100]، قال شيخ الإسلام: "وَمِنْ أُصُول أهل السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ سَلامَةُ قُلوبِهِمْ وَأَلسِنَتِهِمْ لأَصْحَابِ رَسُول اللهِ كَمَا وَصَفَهُمْ اللهُ بِهِ فِي قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، وَطَاعَةُ النَّبِيِّ فِي قَوْلهِ: ((لا تَسُبُّوا أَصْحَأبي، فَوَاَلذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْل أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ)) " متفق عليه".
روى الشيخان عن أنس قال: قال رسول الله : ((آية الإيمان حبُّ الأنصار، وآية النفاق بغضهم)) ، ولمسلم من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قال : ((من أحبني فليحب أسامة)).
إن كنت تحبه فأحبَّ ما يحبه، قال ابن رجب: "فمن أحب الله ورسوله محبةً صادقةً من قلبه أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله، ويكره ما يكرهه الله ورسوله، ويرضى ما يرضي الله ورسوله، ويسخط ما يسخط الله ورسوله، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحبّ والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئًا يخالف ذلك بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله أو ترك بعض ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه دلّ ذلك على نقص محبته الواجبة، فعليه أن يتوب من ذلك ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة".
لقد تجاوز الصحابة الكرام مسألة إيثار محابِّ النبي المأمور بها وراحوا يحبون ما أحبه بطبعه من لباس أو زينة أو طعام، في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: إن خياطًا دعا رسول الله لطعام صنعه، قال أنس بن مالك: فذهبت مع رسول الله إلى ذلك الطعام، فقرب إلى رسول الله خبزا من شعير ومرقًا فيه دُباء وقديد، قال أنس: فرأيت رسول الله يتتبع الدباء من حوالي الصحفة، قال: فلم أزل أحب الدباء منذ يومئذ، وفي روايةٍ لمسلم قال أنس : فما صُنع لي طعامٌ بعد أقدر أن يُصنع فيه دباء إلاّ صُنع.
إن كنت تحبه فهل تشتاق إلى رؤيته، أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من أشدّ أمتي لي حبًا ناس يكونون بعدي يودّ أحدهم لو رآني بأهله وماله)) ، وله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((والذي نفسي بيده، ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني، ثم لأن يراني أحب إليه من أهله وماله معهم)) ، وعن الشعبي قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله فقال: لأنت أحب إلي من نفسي وولدي وأهلي ومالي، ولولا أني آتيك فأراك لظننت أني سأموت، وبكى الأنصاري، فقال له رسول الله : ((ما أبكاك؟)) قال: ذكرتُ أنك ستموت ونموت، فتُرفع مع النبيين ونحن إن دخلنا الجنة كنا دونك، فلم يخبره النبي بشيء، فأنزل الله عز وجل على رسوله : وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء:69، 70]، فقال له النبي : ((أبشر)). أخرجه البيهقي في الشعب وللحديث طرق يقوي بعضها بعضا.
إن كنت تحبه فلا تخالف وصيته، فلقد كان يخاف علينا أن يجد الشيطان إلينا منفذا من طريق حبه، فنرفعه فوق ما أنزله الله، فنهلك كما هلك من كان قبلنا، أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل برسول الله الموتُ طفق يطرح خميصةً له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) ، يُحذِّر ما صنعوا، ولولا ذلك أُبرز قبره، غيرَ أنه خشي أن يتخذ مسجدا، وفي المسند بإسناد صحيح على شرط مسلم عن أنس أن رجلاً قال: يا محمد يا سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله : ((عليكم بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل)) ، وقال : ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله)) ، وفيه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رجلاً قال للنبي : ما شاء الله وشئت، فقال له النبي : ((أجعلتني والله عدلا، بل ما شاء الله وحده)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3154)
لبيك اللهم لبيك
فقه
الحج والعمرة
ياسر بن محمد بابطين
جدة
جامع الأمين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أذان إبراهيم عليه السلام بالحج. 2- حب المؤمنين لبيت الله الحرام. 3- المبادرة للحج. 4- فضائل الحج. 5- أسرار التلبية. 6- من حِكم الحج.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد: يقول الله تبارك وتعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27]، عن ابن عباس قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له: أذن في الناس بالحج، قال: يارب، وما يبلغُ صوتي؟ قال: أذن وعليّ البلاغ، فنادى إبراهيم: أيها الناس، إنّ ربكم قد اتخذ بيتًا فحجّوه، فتواضعَت الجبال حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من بالأرحام والأصلاب، وأجابه كلّ شيء سمعه من حجر أو مدر ومن كتَب الله أن يحجّ إلى يوم القيامة. قال سعيد بن جبير: وقرت في قلب كلّ ذكر أو أنثى. وقال مجاهد: من حجّ اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم يومئذ.
لقد نادى بها الخليل عليه السلام، وبلغها رب العالمين كل سمع وقبل، فها هو الوعد يتحقّق منذ إبراهيم عليه السلام وإلى اليوم، وسيظلّ حتى يُظلّ الناس زمان لا كعبة فيه، فعند الحاكم والطبراني وصححه الألباني عن النبي قال: ((استمتعوا من هذا البيت ـ يعني الكعبة ـ فإنه قد هدم مرتين ويرفع في الثالثة)) أي: يهدم فلا يبنى إلى قيام الساعة. فيا لله، إذا أظل زمانٌ لا كعبة فيه، ينقضها ذو السويقتين رجلٌ من الحبشة حجرًا حجرًا، فلا تبنى بعد ذلك، ولا يكون حجٌ ولا قبلةٌ ولا حجرٌ ولا مطاف، كيف بالأرض يومها إذا أقفرت من هذه المعالم، فاستوحشت واستوحش أهلها، عن شعبة قال: "لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت".
أيها المؤمنون، لقد جعل الله حبّ البيت الحرام سرًّا في قلوب عباده، يستنفرهم من كل فج رجالاً وركبانًا، فما تزال الأفئدة تهوي إليه وتتوق إلى رؤيته والطواف به. الغني القادر الذي يجد الظهر يركبه والفقير المعدم الذي لا يجد إلا قدميه، مئات الألوف من هؤلاء وهؤلاء يتقاطرون من أصقاع الأرض الشاسعة ليلبوا نداء إبراهيم الذي نادى به منذ آلاف السنين. يا إبراهيم، نادهم ليحصل نفعهم في معادهم، وأتِ بهم من بلادهم، وأخرجهم عن أهلهم وأولادهم، فليقصدوا بابي مسرعين رجالا، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً. يا غافلا عني أنا الداعي، يا متخلّفًا عن زيارتي أنا ألقى الساعي، يا مشغولاً عن قصدي لو عرفت اطّلاعي، أنا أقمت خليلي، يدعو إلى سبيلي، وأقبلت بتنويلي على محبيّ إقبالاً، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً. لله در أقوام فارقوا ديارهم، وعانقوا افتقارهم، وآثروا غيارهم، وطهروا أسرارهم، يدعون عند البيت قريبًا سميعا، ويقفون بين يديه بالذلّ جميعا، ويسعون في مراضيه سعيًا سريعا، قد ودّعوا شهواتهم توديعا، فأفادهم مولاهم أن رجعهم من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم أطفالا، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً. أيّ قلب لا يشتاق إلى تلبية النداء وإجابة الدعاء والانضمام إلى وفد ملك الأرض والسماء؟! أيّ عين لا تذوب بدمعها شوقا إلى البيت وحنينًا إلى الصلاة فيه والأنس في رحابه؟!
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نحر رسول الله يوم الحديبية سبعين بدنة، فلما صُدّت عن البيت ـ لأنه لم يعتمر بل صالح قريشا ورجع ـ حنّت كما تحنّ إلى أولادها. لا إله إلاالله، الإبل تحنّ لما صدّت عن البيت وقلوب البشر لا تحن! الإبل تُصَدّ فتشتكي وبعض الناس يعرِض والسبل ميسورة! فيا من تيسرت له السبل وانفتح أمامه الطريق، هذا ربك يستزيدك فحيّ على زيارته، ولا تقعدن وتكسلن فتحرم يوم يربح المجدّون، وتندم يوم يكرّم الفائزون، فإذا رأيت مقامهم غدًا قلت: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا. عن أبي سعيد مرفوعًا: ((إن الله عز وجل يقول: إن عبدًا صحّحت له جسمه وأوسعت عليه في المعيشة يمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إليّ لمحروم)) رواه أبو يعلى والحاكم وصححه الألباني.
فبادر أيها المؤمن، فما للحج المبرور جزاء إلا الجنة، وأقبل لتُغسل من خطاياك فترجع نقيّا كيوم ولدتك أمك، ولا تقل: غدًا؛ فإن لغدٍ مقادير لا تملكها ولا تدري بها، عن الفضل عن رسول الله : ((من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة)) رواه الإمام أحمد بإسناد حسن.
أيها المؤمنون، أليس يكفي الحاج أنه ضيف على الله تعالى؟! فعن ابن عمر مرفوعًا: ((الغازي في سبيل الله عز وجل والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم)). أليس يكفيه أنه في ضمان الله وحفظه ورعايته؟! أليس يكفيه أن أفضل العمل عند الله عز وجل الإيمان بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حجة برة تفضل سائر الأعمال كما بين مطلع الشمس إلى مغربها؟! أليس يكفيه أن يسير في ركب المؤمنين دليلهم: ((خذوا عني مناسككم)) وحداؤهم: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك؟! وما أحلاه من حداء.
"لبيك اللهم لبيك": إجابةً ـ يا رب ـ بعد إجابة، يلبي الحاج بهذا النداء الحبيب إلى الله، مستجيبًا لنداء الله، فيذكر الخليل وهو يستجيب لربه يوم أراه في المنام أن يذبح ابنه، فمضى الشيخ الجليل بابنه الشاب يذبحه، يُمرّ السكين على رقبته والابن يقول: يا أبت، افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين. أليس تمتلئ نفس الحاجّ بروعة هذا المشهد وعظمة تلك القلوب المؤمنة يوم استجابت لله في أعزّ ما تملك؟! إن للتلبية في الحج أسرارًا عجيبة، فعن أبي هريرة مرفوعًا: ((ما أهل مهلّ قط ولا كبر مكبّر قط إلا بشر بالجنة)).
"لبيك اللهم لبيك" لبى بها الأنبياء من قبل، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبي مر في حجه بوادي الأزرق فقال: ((أي وادٍ هذا؟)) قالوا: هذا وادي الأزرق، قال: ((كأني أنظر إلى موسى عليه الصلاة والسلام هابطًا من الثنية له جؤار إلى تعالى بالتلبية)) ، ثم أتى على ثنية يقال لها ثنية هرشي فقال: ((أي ثنية هذه؟)) قالوا: ثنية هرشي، قال: ((كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه الصلاة والسلام على ناقة حمراء جعدة ـ أي: مكتنزة لحمًا ـ عليه جبة من صوف، خطام ناقته خُلبة ـ أي: من الليف ـ وهو يلبي)).
نحج لبيت حجّه الرسل قبلنا ونشهد نفعًا في الكتاب وعدناه
"لبيك اللهم لبيك" نداء الوحدة الإسلامية يجأر بها الحجيج كلهم؛ عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم، رجالاً وركبانًا، صغارًا وكبارًا، وقفوا على صعيد واحد بلباس واحد يدعون ربًا واحدًا، كلهم يلهج بالتلبية.
"لبيك اللهم لبيك" خرج بها الحاج من بيته وأهله، فذكرته رحيله عن الدنيا ليلقى ربًا كريمًا، تجرّد من المخيط ولبس ثوبين أبيضين فتذكّر يوم يُجرّد ثم يلفّ في كفنه، واغتسل وتطيّب فتذكر يوم يغسل ويطيب، فما أشبه الحال بالحال.
تفيض نفس الحاج بهذه المشاعر الإيمانية الحساسة، يختلط بالناس ويزاحمهم، فيذكر زحام المحشر، لا أنساب ولا أحساب ولا لغات، الكلّ يجأر بشكواه وينادي: رباه رباه. ينصرف من عرفه فيذكر المنصرف من الحساب، فريق في الجنة وفريق في السعير. يذكر بالحر حر جهنم، وبالشمسِ يوم تدنو الشمس من الخلائق قدر ميل فيلجمهم العرق. مشاعر إيمانية صادقة تمتلك قلب الحاج، فتفيض عَبَراته وتتلعثم عِباراته، يريد النجاة وقد أقبل على الكريم أهل التقوى وأهل المغفرة. عن ابن المبارك قال: جئت سفيان الثوري عشيةَ عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه وعيناه تهملان فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له.
"لبيك اللهم لبيك" لطالما سمعناها من الحجيج، ولكن أجمل من تردادها على أفواههم تردادها على أفواه أناس يبعثون يوم القيامة ملبين، يقوم الناس من قبورهم فزعين ويقومون هم يلبون: لبيك اللهم لبيك، عن ابن عباس رضي الله عنهما: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته فمات، فقال النبي : (( اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبه، ولا تطيبوه ولا تخمروا رأسه ولا وجهه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا)) متفق عليه.
فلا إله إلا الله، ما أعزها من ميتة، وما أشرفه من قدوم، أن يقدم على الله يوم القيامة ملبيًا. كان الحافظ البرزالي إذا قرأ حديث ابن عباس هذا بكى ورقّ قلبه، فأكرمه الله بأن توفي وهو محرم في طريقه إلى الحج، رحمة الله عليه.
روح دعاها للوصال حبيبها فسعت إليه تطيعه وتجيبه
يا مدعي صدق المحبة هكذا فعلُ الحبيب إذا دعاه حبيبه
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:26-29].
أقول ما تسمعون...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3155)
مصعب بن عمير
سيرة وتاريخ
تراجم
ياسر بن محمد بابطين
جدة
جامع الأمين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصحابة. 2- موقف عظيم بعد غزوة أحد. 3- مصعب بن عمير في مكة. 4- إسلام مصعب رضي الله عنه ومعاناته. 5- من حياة الدلال إلى حياة الشدة. 6- الهجرة إلى الحبشة. 7- سفير الإسلام. 8- مثال الولاء والبراء. 9- شجاعته واستشهاده. 10- ثناء الصحابة عليه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بهداه، تحظوا برضاه، وينلكم الخير في دنياكم ويوم لقاه.
أيّها المؤمنون، يقول حبيبنا : ((النجوم أمنَة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)) رواه الإمام مسلم، وفي المسند عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون عن دينه)، وعند أبي نُعيم في الحلية من قول ابن عمر رضي الله عنهما: (من كان مستنّا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد ، كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوبا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه ، ونقلِ دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد ، كانوا على الهدى المستقيم والله رب الكعبة).
اللهم ارض عن أولئك النفر الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، اللهم إنا نُشهدك أنا نحب محمدًا وصحبه، اللهم فأحينا على طريقهم واحشرنا في زمرتهم.
أيها المؤمنون، ما أشدّ الشوق إلى أن نخترق أربعة عشر قرنًا إلى الوراء لنُطلّ على الحجاز يتهلّل بِشرًا وفرحًا برسول الله ومن معه، بين مكة والمدينة والإيمان يأرز بينهما.
ما أجمل أن نعيش لحظاتنا هذه مع واحد من تلاميذ محمد، مع سائر في ركب النور، مع رجل يمشي على الأرض وقلبه معلّق بالسماء.
لما انقضت غزاة أحد مرّ رسول الله على الشهداء يتفقّدهم، يعرّج على الأجساد الطاهرة، على القلوب الوفية، على من قدموا أرواحهم لنصرة الدين، وبذلوا أنفسهم ثمنًا لجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، مرَّ بهم واحدًا واحدًا، فلما حاذى واحدًا منهم وقف عنده ورفع يديه إلى السماء يدعو له، ثم قرأ قول الله عز وجل: مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23]، ثم قال: ((أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يُسلّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه)).
كانت وقفةً مؤثرة ودعوة مؤثرة وقولة مؤثرة، فبين يدي مَن كان هذا الموقف؟ ولمن كان هذا الدعاء؟ من ذلكم الشهيد الذي استوقف المصطفى واستعبره؟ وكيف قضى نحبه ووفى ما عليه؟
أما من؟ فلقد كان أبا عبد الله مصعب بن عمير ، وأما كيف فهلمّ نسأل عنه عن سيرته عن بطولته، ولئن سألنا فلنسمعن عجبا.
تُحدثنا عن مصعب شوارع مكّة وطرقاتها، نواديها وعرصاتها، يحدثنا عنه أريج المسك والأطياب وناعم المسكن والثياب ولذيذ المطعم والشراب، تحدّثنا عنه مكّة بأسرها، فتياتها اللاتي لطالما تمنّينه، شبانها الذين كانوا يغبطونه على عيشه، أمه التي كانت تدلِّلُه وتلبي له كلَّ مطلب، كلُّ أولاء يحدّثوننا أنّ مصعب ألقاهم وراءَ ظهره وسار إلى الله، ألقى الدنيا بكل أوضارها وعلائقها، وسار يحدوه الشوق، ويدفعه الأمل، ليرقى في منازل المحبين.
لما أسلم مصعب انقلب نعيم عيشه بؤسًا وفقرًا، وحالُ ترفه جوعًا ونصبًا، لكنه لم يبال، فكل شيء لله يهون.
إذا صحَّ منك الودُّ فالكل هينٌ وكلُّ الذي فوق الترابِ ترابُ
فليتك تحلو والحياةُ مريرةٌ وليتك ترضى والأنامُ غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ وبيني وبينَ العالمينَ خرابُ
أقبل مصعبُ يومًا بعد أن صار إلى ما صار إليه بعد إسلامه، أقبل وعليه نمرة قد وصلها بإهاب يستر بها بدنه النحيل، فلما رآه أصحاب النبي نكسوا رؤوسهم رحمةً له، ليس عندهم من الثياب ما يقدمونه له، ولمن يقدمون لو وجدوا؟ يقدمونه لمن كان يومًا أنعم قريش عيشًا وأعطرهم، وهو اليوم يرحم لحاله.
فلما أقبل على رسول الله وصحبه سلّم فردّ السلام عليه وأثنى عليه وقال: ((الحمد لله، يقلب الدنيا بأهلها، لقد رأيت هذا ـ يعني مصعبا ـ وما بمكة فتى من قريش أنعم عند أبويه نعيما منه، ثم أخرجه من ذلك الرغبة في الخير وحب الله ورسوله)) ، وعن علي رضي الله عنه قال: إنا لجلوس مع رسول الله إذ طلع علينا مصعب بن عمير ما عليه إلا بردة له مرقوعة بفرو، فلما رآه بكى للذي كان فيه من النعمة والذي هو اليوم فيه، ثم قال : ((كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة وراح في حلة، ووضعت بين يديه صحفة ورفعت أخرى، وسترتم بيوتكم كما تُستر الكعبة)) ، قالوا: يا رسول الله، نحن يومئذ خير منا اليوم فنفرغ للعبادة ونُكفى المؤونة، فقال : ((لأنتم اليوم خير منكم يومئذ)).
لقد صار مصعب مضرب المثل في الزهد والفقر وقلة الحال بعد أن كان مضرب المثل لفتيان مكة في الترَف ورغد العيش، لذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رآه يومًا: (انظروا إلى هذا الرجل الذي نوّر الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، ولقد رأيت عليه حلَّةً اشتريت له بمائتي ألف درهم، فدعاه حبُّ الله ورسوله إلى ما ترون). نعم، حب الله ورسوله إذا ملأ قلبَ العبد هانت في عينه الدنيا وصغرت، فما يبالي بما أقبل منها أو أدبر، افتقر أم اغتنى، صحَّ أم مرض، شبع أم جاع، لا يهم شيءٌ من ذلك لأنّ همّه وشغله: "إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي".
لما أسلم مصعب لم يكن بلاؤه في انتزاعه من حياة النعيم التي ألِفها فحسب، بل لقد تعرّض للعذاب والإذاء جسديًا ومعنويًا، وبالله عليكم كيف ترون الجسد الناعم المرفّه إذا عذّب في رمضاء مكة؟!
حلفت أمه أن لا تأكل ولا تشرب ولا تستظل حتى يرجع عن دينه ويترك محمدًا، غير أن الإيمان يأبى عليه ذلك، يأبى عليه أن يبيع النور بالظلام والهدى بالضلال، فثبت على دينه حتى كادت أمه تموت وإنه لغير مكترث. أخذه قومه فقيدوه بالأصفاد وحبسوه حتى تغير لونه ونحل جسده ونهك جسمه، وإنه لغير مكترث، ومضى مصعب يجرُّ قدميه فوق الشوك، يعالج طريق الجنة التي حفت بالمكاره، حتى إذا سهل الله الفرج هاجر إلى الحبشة، فترك وطنه، وودع حبيبه رسول الله فارًا بدينه مع ثلة من المؤمنين الصادقين.
وفي الحبشة يبلغهم أن قريشًا هادنت المسلمين وتركتهم وما يريدون، فيعود مصعب مع من عاد، فإذا قريش لا كما عهدوا من كفرها وغيها، بل قد ازدادت شراسةً عمّا كانت عليه من قبل، ولا حقيقة لما بلغهم من أمر الهدنة، فرجع مصعب فارًا بدينه مع أهل الهجرة الثانية إلى الحبشة.
وتمضي الأيام ويعود مصعب إلى مكة مشتاقًا إلى رسول الله وليشهد هذه المرة محنة الحصار في الشعب، وفي الشعب صبر مصعب وصابر حتى أنهكه الجوع والعطش، فخارت قواه حتى صار لا يقدر على المشي، فكان المسلمون يحملونه على أكتافهم.
وبعد أعوام تأتي طليعة الأنصار الأولى لتسلم وتبايع البيعة الأولى، فيبعث رسول الله معهم أول سفير في الإسلام أبا عبد الله مصعب الخير معلّمًا وداعية وإمامًا، وفي عام واحد تسلم المدينة كلها إلا من شاء الله، تسلم على يد مصعب سادةً وأتباعًا، صغارا وكبارا، رجالا ونساءً، الأنصار كلهم حسنة في ميزان مصعب رضي الله عنه، ومن الأنصار؟ إنهم الذين لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، إنهم بطانة المصطفى وحماة الدين ورجال الإسلام الأُوَل، الذين لم يقم الدين إلا على أكتافهم، إنهم المرحومون المرحوم عقبهم بدعوة المصطفى، أولئك هم تلاميذ مصعب وغنيمته.
وبعد أن قضى مصعب مهمته في المدينة، بعد أن جادل أهلها ودعاهم ورباهم، فأتم ما أرسل لأجله، ما تراه صنع رضي الله عنه؟ هل طلب أوسمة شرف وشهادات تقدير؟! هل أخذ إجازة ليتخفف من العناء؟! هل ابتنى منتجعًا أو اكترى مشداحًا ليهدأ باله قليلاً؟! هل نال ترقية أو علاوة في المرتب؟! كلاّ فما لأجل هذا خرج ولا بذل ما يبذل، لقد فعل ما فعل لله، فلما أدى ما عليه لم يركن ولم يسترح، بل عاد إلى مكة إلى أرض البلاء والمحنة لتنعم عيناه بصحبة رسول الله ، وليكون في طليعة المهاجرين يوم أذن لهم بالهجرة، فيا لله ما أوقدها من همة، لم يهاجر مرة ولا اثنتين، بل أربع هجرات: ثنتان للحبشة وثنتان للمدينة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً.
أقول ما تسمعون...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
أما بعد: فلقد ضرب لنا مصعب رضي الله عنه أروع الأمثلة في الولاء والبراء، فإنه لما أسلم رضي الله عنه عادته أمه ومارست عليه شتى الضغوط ليعود في الكفر بعد الإيمان، فلم يلتفت إليها، بل ثبت على دينه، وقطع صلته بكلّ من عادى الله ورسوله، ولم تكن تلك حماسة الإيمان في بداياته فحسب، بل ظلت حرارة الولاء والبراء في قلبه مدى حياته، ففي غزوة بدر مرّ مصعب رضي الله عنه بأنصاريّ قد أسر أخاه ابن أمه وأبيه، فقال مصعب لما مر بهما يوصي الأنصاري بأخيه: شُدَّ يديك به فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك، فقال أخوه: هذه وصاتك بي يا أخي؟! فقال مصعب يشير إلى الأنصاري: إنه أخي دونك.
أما شجاعته رضي الله عنه فأيُّ شيء ينتظر من جندي فذّ من جنود الإسلام الأوائل؟! أستاذه محمد وشعاره: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]، رتبته: وَاللَّهُ مَعَكُمْ [محمد:35].
تعالوا ـ أيها الأحبة ـ نقف على المحطة الأخيرة من حياة هذا البطل غزوة أحد، وأي شيء غزوة أحد؟! إنها الفصل الأخير من مشهد البطولات والتضحيات في حياة مصعب الخير، فلقد حمل الراية يومئذٍ، فما اهتزت في يده رغم شدة القتال، سقطت راية قريش سبع مرات، تأخذها يد إثر يد، وراية حزب الله ثابتة في كفّ أبي عبد الله.
ثم لما شاع في الناس مقتل رسول الله وانكشف منهم من انكشف ثبت مصعب مع الثابتين، وأقبل يحمل الراية ويهتف مردّدًا قول الحق عز شأنه: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144]، فتقدم إليه عدوُّ الله ابن القمئة يبارزه، واشتد القتال بينهما، فأهوى ابن القمئة على يمنى مصعب فقطعها، فتناول الراية بيسراه فقُطعت، فاحتضنها بين جنبيه، فحمل عليه عدو الله الثالثة فأهوى بالرمح على جسده الشريف الطاهر، فخرَّ رضي الله عنه على الأرض صريعًا، وشاع في الناس أن الذي قتل إنما هو رسول الله ؛ لأن مصعبًا كان من أشبه الناس به خَلقًا، وهكذا قضى مصعب نحبه، باع الدنيا بالآخرة، وقدم الرخيص فظفر بالغالي. سقط جسده على الأرض وحلّقت روحه إلى بارئها، شاط في دمائه الزكية، ويُبعث يوم القيامة يثغب جرحه دمًا، اللون لون الدم والريح ريح المسك.
فتًى ماتَ بين الضربِ والطعنِ ميتةً تقومُ مقامَ النصرِ إنْ فاتَه النصرُ
وما ماتَ حتى ماتَ مضربُ سيفِِِِه من الضربِ واعْتَلّتْ عليهِ القنا السُمر
ألا في سبيلِ اللهِ مَنْ عُطلتْ لهُ فجاجُ سبيلِ اللهِ وانثغرَ الثغرُ
تردَّى ثيابَ الموتِ حُمرًا فما دَجى لها الليلُ إلا وهي من سندس خُضرُ
ثوى طاهرَ الأردانِ لم تبقَ بقعةٌ غداةَ ثوى إلا اشتهتْ أنها قبرُ
عليكَ سلامُ اللهِ وقفًا فإنني رأيتُ الكريمَ الحُرَّ ليسَ له عُمْرُ
قال خباب رضي الله عنه: هاجرنا مع رسول الله في سبيل الله نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من قضى ولم يأكل من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير، قُتل يوم أحد، فلم نجد ما نكفنه به إلا نمرة، كنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه، فقال : ((اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه شيئًا من الإذخر)) ، ومنا من أينعت ثمرته فهو يهدبها.
لقد ذهب مصعب ليلقى جزاءه عند رب شكور، طلّق الدنيا فتلقفته الجنة عجلى متشوقة إليه، رحل مصعب ولم ترحل ذكراه ولا ذكرى بطولاته ولا ذكرى تضحياته من قلوب أصحابه أصحاب محمد ، فهذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بعد مرّ السنين يؤتى بإفطاره يومًا وقد كان صائمًا، فلما أُدني منه بكى وقال: (قُتل أخي مصعب بن عمير وهو خيرٌ مني، كُفِّن في بردة، إن غُطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت رجلاه بدى رأسه، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا). وأيُّ شيء ترانا نقول إن كان هذا يقوله ابن عوف رضي الله عنه أحد المبشرين بالجنة؟!
اللهم ارحم مصعبًا وألحقنا به في ركاب محمد ، واجعل في هذه الأمة من يحذو حذوه ويتبع أثر ذلك الجيل الصالح.
عباد الله، ألا وصلوا وسلموا على صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر حامل لواء العز في بني لؤي وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي ذي الغرة والتحجيل المؤيد بجبريل المذكور في التوراة والإنجيل...
(1/3156)
الموقف الشرعي من أعداء الأمن
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
4/3/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة الابتلاء. 2- نعمة الإسلام. 3- نعمة الأمن. 4- السبيل لتحقيق الأمن والمحافظة عليه. 5- فضل بلاد الحرمين. 6- نابتة المفسدين. 7- واجب الأمة تجاه المفسدين في الأرض. 8- مسؤولية أمن المجتمع. 9- واجب المعلمين والأئمة ورجال الإعلام وعمداء الأحياء ورجال القبائل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ مِن حكمةِ الله ابتلاءَ عبادِه بالضرّاء والسرّاء، ابتلاءَهم بالسرّاء ليتبيَّن شكرُ النعم، فيظهرَ شكرُ من كان شاكرًا لله، وابتلاءً بالضراء ليظهرَ صبرُ الصابرين الموقِنين الصادقين، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].
أمةَ الإسلام، نِعَم الله على العباد عظيمة، وآلاؤه جسيمة، نعمٌ لا يستطيعُ العبادُ عدَّها ولا إحصاءها، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53].
أيّها المسلم، أجلُّ النِعَم وأكبرُ النعم نعمةُ الإسلام، فمن هداه الله للإسلام وشرح صدرَه للإسلام فقد أنعم الله عليه بالنعمةِ الكبرى، يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17].
مبعثُ محمّدٍ نعمةٌ أنعمَ الله بها على أهل الأرض قاطبة، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].
الأمنُ في الأوطان نعمةٌ عظيمة من نِعم الله على عبادِه، ذكَّر الله بها العبادَ ليقابِلوا تلك النعمةَ بشكر الله والثناء عليه: لإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [سورة قريش]. إذًا فليقابلوا نعمةَ رغَد العيش ونعمةَ الأمن بعبادة الله وإخلاص الدين لله.
نعمةُ الأمن نعمةٌ من ضروريات الإنسانيّة ومن مقاصد الشريعة. نعمةُ الأمن فيها يعبُد العبد ربَّه ويؤدّي واجبَه، فيها يتعلَّم المتعلِّم، ويدعو الداعي، ويسعى الساعي في كلِّ ما يحقِّق له سعادتَه في الدنيا والآخرة.
بالأمنِ تطمئنّ النفوس وتنشرح الصدور ويتفرَّغ العبادُ لمصالحِ دينهم ودنياهم، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]، أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص:57].
نعمةُ الأمن عَرف قدرَها الكُمَّل من البشر وهم أنبياءُ الله، يقول الله عن صالحٍ عليه السلام وهو يذكِّر قومَه هذه النعمةَ ويحذِّرهم من الاستخفاف بها: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَا هُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [الشعراء:146-152]. وأبونا إبراهيمُ عليه السلام عندما فرغ من بناءِ البيت دعا لسكّانه بتلك الدعوات: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ [البقرة:126]، فبدأ بنعمةِ الأمن لأنَّ بحصوله يتحقَّقُ الخير بتوفيقٍ من الله.
أيها المسلم، بم يتحقّق الأمن؟ إنّ الأمنَ في الأوطان يتحقَّق بعبادة الله والخضوع له والقيام بشرعه، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55].
كيف نحافظُ على هذا الأمن؟ نحافظُ عليه أولاً بشكر الله على هذه النعمَة بقلوبنا، بألسنتِنا، بجوارحنا، أن نتصوَّرَ عظَمَ هذه النعمة ونعلَم عظمةَ من تفضَّل بها وجادَ بها وهو ربّنا جل وعلا، فنرفعَ الشكرَ والثناءَ لربِّ العالمين على هذه النعمة، نعتقدها في قلوبنا، وأنها من الله فضلاً وإحسانًا وجودًا وكرمًا، فنقابلها بشكره، وشكرُه يزيد النِّعَم، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
نأخذُ على يدِ كلِّ من يريد زعزعةَ هذه النعمة وتكديرَها، نأخذ على يده حتى لا يتمادى في شرِّه وطغيانه، فإنَّ تركَ أولئك كفرٌ بهذه النعمة التي أنعمَ الله بها، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال:53].
أمةَ الإسلام، بلادُكم بلَدُ العقيدة الصافيةِ ولله الفضل والمنّة، بلدٌ ظهرت فيها شعائر الإسلام، وحُكِّمت فيها شريعة الإسلام، بلدُ العلم والتعلُّم، بلد الخيرات، بلدٌ آوت فئاتٍ من المسلمين، عاشوا في ظلِّها في أمنٍ واستقرار وطمأنينة، بلدٌ يفِد إليها الحجّاج والمعتمرون فيجدون حرمًا آمنا، رغدًا سخاءً في كلِّ نعمة، فضلٌ من الله ورحمة. بلدٌ هيَّأ الله له قيادةً ترعى شأنَه، نسأل الله لها المزيدَ من التوفيق والهداية والسّداد والعون على كلّ خير.
فيا أهلَ الإسلام، لتكن كلمةُ المسلمين واحدةً وعلى قلبٍ واحد في الدفاع عن هذا الدين وعن تعاليمه الساميةِ والأخذِ على يدِ المفسدين والعابثين والمغرَّر بهم ومن ليس لهم حظّ في العلم والتعلّم.
يا أهلَ الإسلام، إنَّ هناك فِئةً من الناس تريد زعزعةَ أمن هذه الأمّة، ليس غرَضها صحيحًا، ولا هدفها مقبولاً، ولا تصرفاتها إلاَّ دالة على ضررِ أولئك وضعفِ الإيمان أو انعدامه من قلوبهم والعياذ بالله، همُّهم التفجير والتدمير، همُّهم القتلُ والإفساد، غايتهم الخروجُ على الأئمّة وقتل الأمة والسعيُ في الأرض فسادًا.
نِعمُ الله التي يتمتَّع بها الصالحون ويدعو إلى شكرها العلماء المخلِصون ويضيق بها ذَرعًا الحاقدون الكارهون، هؤلاء تغيظهم تلك النّعم، يريدون للأمّة أن تعيشَ في فوضى وبلاء، ويأبى الله والمؤمنون ذلك.
أمةَ الإسلام، تلك فِئةٌ ضالّة مضلِّلة منحرِفة شاذّة عن الطريق المستقيم، تريد بالأمّة كيدًا، وتريد بالأمة ضررًا وفسادًا. إذًا فالواجب على الجميع تقوى الله وتضافر الجهود في سبيل الحيلولة بين أولئك وما يريدونه بالأمّة من بلاءٍ وفساد.
إنَّ الأمّةَ إذا عرفتِ الأمرَ وتدبَّرت حقيقةَ أولئك فلم يبقَ شكّ ولا ارتيابٌ في أنَّ أمرَ هذه الفئة واضحٌ للملأ، وأنه الإفساد والإضرار والسعي في الأرض فسادًا وتحقيقُ مطالب أعداء الإسلام وتسهيل المهمّة لهم، هكذا يقصدون، قومٌ غُرِّر بهم، وقومٌ تلاعب بهم الأعداءُ حتى جعلوهم وَقودًا لهذه الفتنة، وإنَّ المسلمَ ليكون حَذِرًا يقظًا، لا يغترّ بكلِّ رأيٍ وبكلّ فكر يفدِ إليه من غير أن يمحِّصه ويضعَه في الميزان العادل، فيعرف حقائقَ الأمور.
كم من مدَّعي الإصلاح والصَّلاح، وكم من مدَّعي الخير، والله يعلم ما وراء ذلك، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ [البقرة:220]، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:206].
قومٌ ضلَّ سعيهم، وزيَّن لهم الشيطان الباطلَ فرأوه حقًّا، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر:8]، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104].
قتلُ الأبرياء بلا سبب، سفكُ دماءِ رجالِ الأمن بلا سببٍ يدعو إليه، وإنما هو الحِقد الدَّفين ومحاولةُ إلحاق الأذى بالأمة، ولكنّ الله بالمرصاد لكل من يريد الشرَّ والبلاء، وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر:43].
إنّ الأمةَ يجب أن تكونَ حذِرةً، وأن تأخذَ عبرةً من هنا وهناك، كم من أناسٍ يعيشون في فوضى وبلاء، عجزوا أن يحقِّقوا لمجتمعاتهم أمنًا، خيراتٌ في الأرض وخيرات متعدِّدة، لكن والعياذ بالله أُلبِسوا شيَعًا وصار بعضهم عدوًّا لبعض.
إنَّ الفردَ المسلم يَدين لله بالمحبَّة لهذا الدين وأهله ومولاةِ المسلمين ودفعِ الأذى عنهم بكلِّ مستطاع، ومَن يرضى بالأذى للمسلم فإنَّ ذلك مخالفٌ لتعاليم الإسلام، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].
إنَّ سفكَ الدماء كبيرةٌ من كبائر الذنوب، عظيمةٌ من العظائم، جريمة من الجرائم، لا يستحلُّ دمَ امرئ مسلم إلاَّ من فارقَ الإيمانَ والعياذ بالله، فإنَّ المؤمنَ حقًّا يعظِّم دماءَ الأمة ويحفظها، و((لا يزال العبدُ في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)) [1] ، ولا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يسفِك دمًا حرامًا.
فليتَّق اللهَ أولئك، وليتوبوا إلى الله من جُرمِهم، وليندَموا على ما مضى، وليعزموا أن لا يعودوا إلى تلك الجرائمِ والخطرات، وليعلَموا أن اللهَ مُجازٍ كلاً بما عمل، وأن أوّلَ ما يقضي به بين العباد من حقوقهم الدماءُ يوم القيامة، أوّل ما يُنظَر في العباد في قضاياهم يومَ القيامة الدماء، فحافظوا ـ رحمكم الله ـ على أرواح أمَّتكم، وصونوا بلادَكم، واحذروا من أولئك المفسدين، وإياكم أن تكونوا أعوانًا لهم أو متعاطفين معهم أو مسوِّغين لهم فعلَهم أو متأوِّلين لهم، فإنَّ الأمرَ واضحٌ جليّ لا يرتاب فيه مسلم، أنّ هذا إفساد وفسادٌ، وليس لهم أيّ مبرِّر ولا تأويل، ولكنه الخطأُ الواضح والجُرم الكبير.
نسأل الله أن يحفَظَ بلادَ المسلمين من كلِّ سوء، وأن يعيذَنا وإيّاكم من الشرّ والفساد، وأن يمنحَنا الاستقامة والثباتَ على الحقّ، وأن يعيذنا من زوال نعمته ومن تحوُّل عافيته ومن فُجاءة نقمته، وأن يهديَ ضالّ المسلمين ويبصِّر جاهلَهم ويوقِظ غافلهم ويدلَّهم على الخير والهدى، إنّه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الديات (6862) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول : ((من أصبح آمنًا في سِربه معافًى في بدنِه عنده قوتُ يومه وليلته فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)) [1].
إذًا فالأمنُ نعمة، ((من أصبح آمنًا في سربه)) : آمنًا على دينه، آمنًا على أهله، آمنًا على نفسه، آمنًا على ماله، فكأنما أعطِيَ الدنيا بأسرها؛ لأنّ هذا الأمنَ هو نعمةٌ من أجلِّ نعَم الله على عبده، وسلْبها والعياذ بالله عقوبةٌ من الله على العباد، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].
أمّةَ الإسلام، نعمةُ الأمنِ مُهمَّتها ليست موكولةً فقط إلى الجنديّ المسلم، ولا إلى جنديٍّ أو أمير أو وزير، ولكنّها مسؤولية الأفراد كلِّهم على اختلافِ مسؤوليّاتهم، فهي مسؤوليّة الجميع، ذلك أنَّ الأمنَ ينتفع به الجميع، وإذا غُيِّر والعياذ بالله انضرَّ به الجميع، فكما أنه أنا وأنت ننتفِع بهذا الأمن ونرعى هذا الأمن، إذا سلِب والعياذ بالله صار الضررُ على الجميع، إذًا فلمّا كان الانتفاع به عامًّا والتضرّرُ بضدِّه عامًّا كان مسؤوليّة كلِّ فردٍ مسلم أن يسعَى في تحقيق هذا الأمن، وأن لا يتعاطفَ مع أيِّ مجرم وأيِّ مفسد، وأن يعلمَ أنّ أولئك لم يريدوا بأمّتهم خيرًا، وإنما هم دُمًى تسخِّرُهم الأعداء، وتسيِّرهم كيف يشاؤون، ويخطِّطون لهم، وينفّذ أولئك مرادَ أعداءِ الإسلام، إمّا أن يتستَّروا باسم الدين أو باسم الغَيرة وباسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله يعلم ما وراء ذلك من الشرِّ والفساد.
أيّها المسلم، طبقاتُ المجتمع كلّها واجبٌ عليهم النهوضُ بمسؤوليّتهم، والوقوف أمام هذه التحدِّيات بقلوبٍ ثابتة ونفوس مطمأنّة وصِدقٍ وأمانة في تحمُّل المسؤولية.
أيتها المعلّمة الكريمة، أيّها المعلم الكريم، هذا واجبُك أن تتَّقيَ الله وتبصِّر للتلاميذ أمامك من مراحلِ التعليم المختلِفة تبصِّرهم بحقيقة الأمر، وتجعلُ من درسك توعيةً لهم تكشِف عنهم اللبسَ، وتوضِح لهم الحقيقة، وتبيِّن لهم أنَّ هذه الفتنَ والمصائب ما أراد بها الأعداء إلاّ شرًّا.
فيا أيّها المعلِّم، اتَّق الله، وليكن عندك توعيةٌ لشباب المسلمين، وتحذير لهم وإنقاذٌ لهم من الشرّ، وإذا سمعتَ عن شبهةٍ لدى أحدهم، فأزِل تلك الشبهةَ عنه، وبيِّن له حقيقة الأمر وأوضِح له السبيل.
أيتها المعلِّمة، إنَّ واجبَك أمام الفتيات أن تعلّميها الخير، وتنشُري بينهنّ الدعوةَ إلى الخير والتحذير من أولئك وأمثالهم.
خطباءُ المساجد أئمة الجوامع واجبهم بينَ كلِّ آنٍ وحين أن يعرّفوا العبادَ نعمَ الله، ويوصوهم باجتماع الكلمة وتآلُف القلوب، وأن يحذِّروا المجتمعَ من دُعاة الفُرقة والاختلاف، من دعاة الفتنة والبلاء.
واجبُ الجميع رجالِ الإعلام مِن صحافةٍ وغيرها، يجب أن تكونَ صحافتُنا تخدم مبدأنا وهدفَنا الإسلاميّ، وأن ننشرَ فيها باعتدال كيف نعالج هذه الجريمة، وكيف السعيُ في تحجيم هذه الجريمة، ونوضِح للقارئ الخطواتِ التي ينبغي أن يتّخذوها ويسيروا عليها في سبيل مكافحة هذه الجريمة.
عمداءَ الأحياء ورجالَ القبائل وكلّ فرد من هذا المجتمع المسلم، يجب أن يكونَ يقِظًا حذِرًا ناصحًا لله وكتاب الله ورسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم، أن يكونَ لدى الجميع توعيةٌ صادقة ونصيحة خالِصة، نحذِّر فيها الأمّة من هذه البلايا ومن هذه الأباطيل، فعسى الله أن يجعلَ في ذلك خيرًا، فإنّ الأمةَ إذا تكاتفت وتعاونت على البرِّ والتقوى نجَحَت بتوفيق الله، ألم تسمعوا الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ [المجادلة:9]؟!
احذَروا أن تكونَ مجتمعاتُكم في أماكنِ استراحاتكم يسودُها التناجي بالباطل والفساد، ليكن التناجي على الخير وما فيه خدمةُ الأمّة والسعي في تخليصها من هذه الوبالات العظيمة، وليحذَر الآباء والأمّهات أن يؤتَى شبابُهم من حيث لا يعلمون، وليسألوهم عن أيِّ مكانٍ ذهبوا، وأين ذهبوا، ومن التقَوا به، ليكونَ الجميع أعوانًا على البر والتقوى، لنغلقَ على أولئك كلَّ المنافذ، ونقطَع عنهم خطّ الرجعة، حتى لا يكونَ لهم في بلادنا أرضيّة ينطلقون منها، بل نكون على حذَرٍ لأنّ هذه نعمة الله التي نرعاها، ورعاها آباؤنا من قبلُ في أمانٍ واستقرار، ولكن تلك الحوادث التي فاجأتنا لا عِلمَ لنا بها ولله الحمد، وليست من أرضِنا ولا من طبيعةِ أمَّتنا، ولكنها من كيدِ الأعداء، فنسأل الله أن يبصِّر شبابَنا وأن يرزقَهم الفهمَ الصحيح لدينهم، حتى يحذروا من تلك المكائد، ويستقيموا على الهدى، ويقوموا بما أوجب الله عليهم، ولا شكَّ أنَّ للذنوب والمعاصي آثارًا في حصول ما حصل، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41].
فالواجب على الجميع تقوى الله وإصلاحُ الأخطاء والسعي فيما يجمع الكلمة ويوحِّد الشمل، وإنّ الأمة لا نجاةَ لها ولا سعادةَ لها في الدنيا والآخرة إلاَّ إذا لجأت لربها، وتمسَّكت بدينها، وتمسّكت بعقيدتها الصحيحة علمًا وعملاً، وابتعدت عن كلِّ ما يثير الفتنةَ ويُسبِّب المشاكل، فإنّ التمسّك بهذا الدين والاعتصامَ بهذا الدين سببُ الخير والصلاح، يقول : ((وإني تاركٌ فيكم ما إنِ اعتصمتم به لن تضلّوا بعدي: كتاب الله)) [2] ، فكتابُ الله عِصمةٌ لنا من كلّ سوء، عصمة لنا من كلّ بلاء، عونٌ لنا على أعدائنا، سلاحٌ ماضٍ ضدَّ أعدائنا.
إن تمسّكنا بهذا الدين التمسّكَ الصحيح علمًا وعملاً وعلمَ الله منّا ذلك فإنَّ الله أكرمُ الأكرمين لا يغيِّر نعمَه على العباد حتى يكونَ العباد هم السبَب في زوالها، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال:53]، فإذا غيَّر العبادُ نعمةَ الله بكفرها وغيَّروا دينَ الله بالتهاون والتساهل غيَّر الله عليهم نعمتَه، وإذا التجأ العبادُ إلى الله ووثِقوا بالله وحكَّموا شرعَ الله وأقاموا دينَ الله وتآمروا بالمعروف وتناهَوا عن المنكر فإنّ الله جل وعلا سينصُرُهم ويؤيِّدهم، فالأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر صمامُ أمانِ هذه الأمة، يحفظها من كَيد الكائدين، ويأخذ على أيدي المفسدين، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متى ما قوِي جانبه وعظُم شأنه وتفاعل في المجتمع ففيه الحمايةُ بتوفيقٍ من الله؛ لأنّ دينَ الله هو السببُ في أمن الأمّة وسلامتها وثباتها.
نسأل الله الاستقامةَ على الهدى، وأن يعيذَنا من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، وأن يردَّنا ردًّا جميلاً، وأن يجعلنا وإيّاكم ممَّن عَرف الحقَّ واتبعه، وعرف الباطل فاجتنبه، إنه وليّ ذلك والقادر عليه.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (300)، والترمذي في الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، وابن ماجه في الزهد، باب: القناعة (4141)، والحميدي في مسنده (439) من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2318).
[2] أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب: حجة النبي (1218) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بنحوه.
(1/3157)
المستقبل لهذا الدين
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
10/6/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البشارة بمستقبل الدين رغم مرارة الواقع. 2- تنسم رسول الله النصر في أضيق الظروف وأصعب الأوقات. 3- أسباب تأخر النصر لن تمنع تحقيقه ولو بعد حين. 4- ما يبذله العدو من مال وجهد إلى تباب. 5- أحاديث البشارة النبوية بانتصار الإسلام. 6- واقع الإنسانية وإفلاس المدنيات المختلفة يبشر بالنصر القادم. 7- الصحوة الإسلامية العارمة تبشر باقتراب النصر. 8- متى يقترب النصر. 9- هل يتحقق النصر في ظل تكالب العدو وعجز الصديق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: كثيراً ما يرد على أسماع المصلحين والدعاة وطلاب العلم أن المستقبل لهذا الدين، وأن المستقبل للإسلام، وأن النصر قادم إن شاء الله تعالى. فيقول القائل في مرارة وحسرة: أيّة بشرى بمستقبل الإسلام والمذابح الوحشية تلاحق المسلمين في كل مكان، أية بشرى وأيّ أمل وقد بُتر من جسد الأمة القدس الحبيب، أولى القبلتين ومسرى الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، أية بشرى وأي أمل وقد اتفق أعداء الإسلام ـ على اختلاف مشاربهم وتعدد دياناتهم ـ على القضاء على الإسلام واستئصال شأفة المسلمين، أية بشرى وأي أمل وقد مات العام الماضي ثلة من علماء الأمة الربانيين والمصلحين المخلصين واحداً تلو الآخر رحمهم الله تعالى جميعا، وبالرغم من كل هذا بل وأكثر من هذا نقول:
لئن عرف التاريخ أوساً وخزرجا فلله أوس قادمون وخزرج
وإن كنوز الغيب تخفي طلائعاً صابرةً رغم المكائد تخرج
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل، وكان صلوات ربي وسلامه عليه عند تناهي الكرب والشدائد يبشر أصحابه بالنصر والتمكين كما فعل يوم الأحزاب. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
نعم أيها المؤمنون فإن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم لا محالة كقدوم الليل والنهار، وإن أمة الإسلام قد تمرض وتعتريها فترات من الركود الطويل، ولكنها بفضل الله جل وعلا لا تموت، وإن الذي يفصل في الأمر في النهاية ليس هو قوة الباطل وإنما الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق، ولا شك أنه معنا الحق الذي من أجله خلقت السماوات والأرض، والجنة والنار، ومن أجله أنزلت الكتب وأرسلت الرسل، معنا كما قال سيد قطب رحمه الله تعالى رصيد الفطرة.
فقال في فصل جميل له بعنوان رصيد الفطرة، قال: يوم جاء الإسلام أول مرة وقف في وجهه واقع ضخم، وقفت في وجهه عقائد وتصورات، ووقفت في وجهه قيم وموازين، ووقفت في وجهه أنظمة وأوضاع، ووقفت في وجهه مصالح وعصبيات، كانت المسافة بين الإسلام يوم جاء وبين واقع الناس مسافة هائلة سحيقة، ولو أنه قيل لكائن من كان في ذلك الزمان أن هذا الدين الجديد هو الذي سينتصر لما لقي هذا القول إلا السخرية والاستهزاء والاستنكار! ولكن هذا الواقع سرعان ما تزحزح عن مكانه ليخليه للوافد الجديد، فكيف وقع هذا الذي يبدو مستحيلاً، كيف استطاع رجل واحد أن يقف وحده في وجه الدنيا كلها، إنه لم يتملق عقائدهم، ولم يداهن مشاعرهم، ولم يهادن آلهتهم، ولم يوزع الوعود بالمناصب والمغانم لمن يتبعونه، فكيف إذن وقع الذي وقع؟ لقد وقع الذي وقع من غلبة هذا المنهج لأنه تعامل من وراء الواقع الظاهري مع رصيد الفطرة. انتهى.
إذن معنا رصيد الفطرة، وقبل ذلك كله معنا الله، ويا لها من معية كريمة جليلة مباركة، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إنه وعد الله وكلمته وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173]. إن هذا الوعد المبارك سنة من سنن الله الكونية الثابتة التي لا تتبدل ولا تتغير، وإن هذا النصر سنة ماضية كما تمضي الكواكب والنجوم في أفلاكها بدقة وانتظام.
أيها المسلمون: قد يبطئ النصر لأسباب كثيرة جداً، ولكنه آت بإذن الله تعالى في نهاية المطاف مهما رصد الباطل وأهله من قوى الحديد والنار، ونحن لا نقول ذلك رجماً بالغيب ولا من باب الأحلام الوردية لتسكين الآلام وتضميد الجراح كلا، ولكنه القرآن الكريم يتحدث، والرسول الصادق الأمين يبشر، والتاريخ والواقع يشهد.
نعم، فمع بشائر القرآن العظيم: قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:9]، وقال تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8]، ووعد الله المؤمنين بالنصر فقال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنْ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد7]، ففي هذه الآيات أخبر الله سبحانه وتعالى أن من سنته في خلقه أن ينصر عباده المؤمنين إذا قاموا بنصرة دينه وسعوا لذلك، ولئن تخلفت هذه السنة لحكمة يريدها الله في بعض الأحيان فهذا لا ينقض القاعدة، وهي أن النصر لمن ينصر دين الله. ومن البشائر وعد الله للمؤمنين بالتمكين في الأرض وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55]، وقد وعد الله في هذه الآية وهو الذي لا يخلف الميعاد وعد المؤمنين باستخلافهم في الأرض، وأن يمكن لهم دينهم، وأيّ أمل للمسلمين فوق وعد الله عز وجل، وأيّ رجاء بعد ذلك للمؤمن الصادق.
ومن البشائر في كتاب الله الإشارة إلى ضعف كيد الكافرين وضلال سعيهم، إن مما يجلب اليأس لكثير من المسلمين ما يراه من اجتماع الكفار على اختلاف طوائفهم ومشاربهم على الكيد للإسلام وأهله، وما يقومون به من جهود لحرب المسلمين في عقيدتهم وإفساد دينهم، في حين أن المسلمين غافلون عما يكاد لهم ويراد بدينهم، وحين يرى المرء ثمرات هذا الكيد تتتابع حينئذٍ يظن أن أيّ محاولة لإعادة مجد المسلمين ستواجه بالحرب الشرسة وتقتل في مهدها، فيا من تفكر في هذا الأمر اسمع لهذه الآيات: قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36]، فكم من المليارات أنفقت ولا زالت تنفق بسخاء رهيب للصد عن سبيل الله لتنحية دين الله عز وجل، ولكن بموعود الله عز وجل فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون.
نعم فكم من المليارات أنفقت وبذلت لتنصير المسلمين، وكم من المليارات أنفقت لتدمير كيان الأسرة المسلمة، وكم من المليارات أنفقت لتقويض صرح الأخلاق بإشاعة الرذيلة عن طريق القنوات الفضائية وعن طريق الأفلام الداعرة والمسلسلات الفاجرة والصور الخليعة الماجنة والقصص الهابطة، والآن عن طريق شبكات الإنترنت، يعرض كل هذا وأكثر، ويدخل لا أقول كل بيت، بل كل غرفة بيسر وسهولة ودون رقيب، ولكن ما هي النتيجة، النتيجة بإذن الله عز وجل وموعوده: فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ، وتأمل في قول الله تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق:15-17]، وقوله عز وجل: ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ [الأنفال:18]، فهما كاد هؤلاء لدين الله ومهما بذلوا لمحاربته، فالله لهم بالمرصاد، وهم أعداء الله قبل أن يكونوا أعداء المسلمين.
في وثيقة التنصير الكنسي صرخ بابا الفاتيكان بذعر لكل المنصرين على وجه الأرض قائلاً: "هيا تحركوا بسرعة لوقف الزحف الإسلامي الهائل في أنحاء أوربا".
سبحان الله إنه دين الله، تأمل أخي الحبيب جهود بسيطة لكنها مباركة تفعل فعلها في نفوس الكافرين، ترعبهم وتزعجهم، إنه دين الله، ووالله الذي لا إله إلا هو لو بذل الآن للإسلام مثل ما يبذله أعداء الإسلام لأديانهم لم يبق على وجه الأرض إلا الإسلام.
وستظل هذه البشائر القرآنية تبعث الأمل في القلوب الحية المطمئنة الواثقة بنصر الله جل وعلا، وإن تأخر النصر وطال الطريق.
أيها المسلمون: وتأتي البشائر النبوية الكريمة لتؤكد هذه الحقيقة، اسمع يا أخي المحب: روى الإمام أحمد في مسنده عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر)).
ومن البشائر النبوية أحاديث الطائفة المنصورة وقد وردت عن عدد من الصحابة، جاء في حديث سعد بن أبي وقاص عند مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لايضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) وإن المسلم عندما يطرق سمعه هذا الوصف ليتمنى من أعماق قلبه أن يكون من هذه الطائفة وأن يضرب معها بسهم في نصرة دين الله وإعلاء كلمته، فتتحول هذه الأمنية وقوداً تشعل في نفسه الحماسة والسعي الدؤوب للدعوة لدين الله على منهج الطائفة الناجية أهل السنة والجماعة.
أيها المسلمون: إن البشائر النبوية التي سمعتها لهي بشائر عامة مطلقة، وقد جاءت أحاديث تبشر بانتصار الإسلام في حالات خاصة، فمن ذلك مثلاً قتال اليهود.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود)) وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "بينما نحن جلوس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطينية أم رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مدينة هرقل تفتح أولاً)) يعني: القسطنطينية. قال العلامة الألباني رحمه الله: وقد تحقق الفتح الأول على يد محمد الفاتح العثماني كما هو معروف، وذلك بعد ثمانمائة سنة من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح، وسيتحقق الفتح الثاني بإذن الله تعالى ولا بد، ولتعلمن نبأه بعد حين.
وقد جاءت البشائر النبوية أيضاً بأن للمسلمين صولة وجولة وملاحم عظيمة مع الروم تكون فيها الغلبة للمسلمين والنصر لعباده المؤمنين، روى ذلك مسلم في صحيحه في كتاب الفتن وأشراط الساعة، وعد صادق وقد خاب من افترى.
أيها المسلمون: إن الإسلام قادم والله الذي لا إله إلا هو، لأنه الدين الذي ارتضاه الله للبشرية ديناً. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
وهناك بشائر أخرى تعرف من طبيعة هذا الدين وفطرة الله وسنته في خلقه، ومن ذلك أن الدين الإسلامي هو الذي يتوافق مع الفطرة ويحقق للناس مصالحهم في الدنيا والآخرة، فالرسالات السماوية قد نسخت وحرف فيها وبدّل، والأنظمة البشرية يكفي في تصور قصورها وفشلها أنها من صنع البشر، فمن طبيعة هذا المنهج الإسلامي نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دوراً في هذه الأرض هو منزّل لأدائه، أراده أعداؤه أم لم يريدوه.
ومن البشائر: أن العالم اليوم يشكو من إفلاس الأنظمة البشرية ويتجرع مرارة وويلات هذه النظم التي دمرت الإنسانية وقضت على كل جوانب الخير لديها، ومن أقرب الشواهد على ذلك انهيار الأنظمة الشيوعية واحدةً تلو الأخرى، وحقٌ على الله ما ارتفع شيء إلا وضعه، والدمار قادم بإذن الله لمن على شاكلتهم من الكفر والضلال ومحاربة الإسلام وأهله، وصدق الله العظيم: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [الرعد:31]، والعالم اليوم يتطلع إلى المنقذ الذي يخلصه من ذلك، ولا منقذ إلا الإسلام.
سلام على قلب من الطهر أطهر وروح شفيف في رُبى الخلد يَخطُر
وأطياف جنات وأنسام رحمة وحبٌ عفيف رائق الذل أخضر
وساعات إسعاد يظل غمامها على كل ساحات المحبين يمطر
ترفق بقلبي فالأعاصير تزأر وسود الرزايا في الظلام تزمجر
ترفق بقلبي فالجراح كثيرة وذي أسهمٌ شتى عليه تكسّر
ففي أرض شيشان الشهيدة مأتم فهل تسمع الدنيا الضجيج وتُبصر
و في الشام أنّاتٌ ووطأة غاشم وليل وآهات ودمع وأقبر
و في دار هارون الرشيد زلازل وآثار مجدٍ أحرقوه ودمروا
حنانيك يا بغداد صبراً فربما يُتاح لهذا الكفر سيل مطهّر
لماذا دموع الحزن لستِ وحيدةً وأنتِ على الأيام عزٌ ومفخر
و كل بلاد المسلمين مقابر وهم صور الأحجار تنهى وتأمر
تماثيلُ لكن ناطقات وإنما بلاء البلاد الناطق المتحجر
جراح بني الإسلام غاب أُساتها وأنّاتهم في كل أرض تضّور
تساقيهم الدنيا كؤوس مذلة على أنهم عُزّل الأكف وحُسّر
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله...
أما بعد: أيها المسلمون، ومن البشائر بأن المستقبل لهذا الدين: هذا الذي يلوح في الأفق ويشرق كالفجر ويتحرك كالنسيم، إنه أكبر حدث إنساني في النصف الثاني من القرن العشرين بعد كل هذه المؤامرات والضربات المتلاحقة، هذا الحدث الكبير الذي هز كيان العالم كله متمثلاً في هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي نسأل الله أن يبارك فيها، تلك الصحوة الكريمة التي يغذيها كل يوم بل كل ساعة شباب في ريعان الشباب وفتيات في عمر الزهور، ينسابون من كل حدب وصوب، يمشون على الشوك، ويقبضون على الجمر في بعض البلدان تمسكاً بدين الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إنه الأمل إنه هذا الجيل الذي تفتحت عينه على نور الإسلام وانشرحت بصيرته لتقبل الحق ولم يخدع بصره بريق الحضارة الغربية الزائف الخاطف للأبصار، ولم يؤثر فيه سحرها المغير للعقول والأفكار، فحيثما توجهت بفضل الله عز وجل وجدت رجوعاً خاشعاً خاضعاً إلى الله تعالى، ووجدت نفوساً متعطشة إلى دين الله مشتاقة إلى الإسلام بعد أن أضناها لفح الهاجرة القاتل والظلام الدامس وحيثما توجهت سمعت آهات التائبين ودموع الخشوع تزين الوجوه تردد في خشوع وتبتل آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون.
وبعد ذلك كله نقول دون شك أو تردد إن المستقبل لهذا الدين، وإن العزة ستكون لأولياء الله، أوليس الله قد قال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنْ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، ومن أصدق من الله قيلا وهو الذي لا يخلف الميعاد، ولكن السؤال هو متى يكون هذا؟ اليوم أم غداً أم بعد سنوات؟
الجواب: كما قال سيد قطب رحمه الله: في ذلك اليوم سيعود الناس إلى الدين سيعودون إلى الإسلام، وتلك قوة أكبر من إرادة البشر لأنها مبنية على السنّة التي أودعها الله في الفطرة وتركها تعمل في النفوس، وحين يجيء ذلك اليوم فماذا يعني في حساب العقائد عمر جيل من البشر أو أجيال، ليس المهم متى يحدث ذلك، إنما المهم أنه سيحدث بمشيئة الله وعد صادق وخبر يقين، وحين يجيء ذلك اليوم وهو آت إن شاء الله، فماذا تساوي كل التضحيات والآلام التي تحملتها أجيال من المسلمين، إنها تضحيات مضمونة في السماء والأرض. انتهى.
ولكن هل يتنزل النصر كما ينزل المطر، ويمكّن للمسلمين وهم قاعدون خاملون لم يبذلوا أي جهد ولم يسلكوا أي سبيل للنصر، لنقرأ الإجابة في قوله عز وجل: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110]، إنها سنة الله في هذا الكون التي لا تتبدل ولا تتغير، لقد شاء الله وقضى أن يقوم هذا الدين على أشلاء وجماجم أوليائه وأحبابه وعلى أن توقد مصابيح الهداية بدم الشهداء الأبرار الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة قال الله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]، عن خباب رضي الله عنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: ((لقد كان من قبلكم يمشّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظام أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتِمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) ما أحسن الكلمة وما أروع العبارة، لقد كان لها وقع كبير في قلوب المستضعفين في كل زمان ومكان ((ولكنكم تستعجلون)) استدراك عجيب منه صلى الله عليه وسلم ليخبر الصالحين والمصلحين أن الصبر هو الوسيلة العظمى والزاد النافع لهم في طريقهم الطويل الصعب الشاق الوعر، ذاك الطريق الاستقامة على شرع الله والدعوة إليها المليء بالعقبات، وذكّرهم عليه الصلاة والسلام بمن سبقهم من المستضعفين ليكون لهم زاداً في طريقهم الطويل، ويسليهم حتى يعلموا أن هناك من صبر أكثر منهم وبشرهم ووعدهم حتى لاييأسوا من العاقبة والعاقبة للمتقين.
وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير شاهد على ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم لقي ما لقي من الأذى والبلاء، وهو خليل الله وسيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه، نعم إن من رحمة الله أن جعل طريق النصر محفوفاً بالأشواك والمصائب، وهذا من كمال حكمته وعلمه، وهو الذي لا يُسأل عما يفعل، وقد أشار الله في كتابه إلى شيء من هذه الحكم، فمنها تمييز الصادقين من غيرهم، واتخاذ الشهداء والأجر والمثوبة من عند الله، والهداية والتوفيق لأنصار دينه، وأن ذلك سبب لهم في دخول الجنة، إلى غير ذلك من الحكم العظيمة.
أيها المسلمون: وقد يسأل سائل ويقول: كيف يكون المستقبل للإسلام والأعداء قد اجتمعوا عليه وتكالبوا من كل جهة؟ كيف والأعداء يملكون القنابل النووية والأسلحة الفتاكة، والمسلمون عزّلٌ من السلاح؟.
إن هذا السائل لينسى أن الذي ينصر المسلمين هو الله لا بجهدهم ولا قوتهم قال الله تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة:14]، فالمسلمون سبب لتحقيق قدر الله وإرادته فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:17]، وينسى هذا السائل ثانياً أن الله يسبح له من في السموات ومن في الأرض، ومما يسبح له قنابل هؤلاء وأسلحتهم، وينسى ثالثاً أن الله إذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر:50]، والله غالب على أمر ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وينسى رابعاً أن الأعداء وصلوا إلى هذه القوة الهائلة والتمكين بجهدهم البشري، وهو ليس حكراً على أحد، وحركة التاريخ لا تتوقف قال الله تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140]، وتلك الأيام نداولها بين الناس، فمهما كادوا للإسلام وأهله واجتمعوا لحربه فإن الله ناصر دينه ومعلي كلمته، من كان يظن ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع قلة مؤمنة في مكة يعذبون ويضطهدون ويحاربون بل ويطردون من بيوتهم وبلدهم، بل ونال الأذى والبلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع التراب وسلى الجزور على رأسه وهو ساجد وفي تلك الحالة يعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم بكنوز كسرى وقيصر.
فما هي إلا سنوات قليلة إلا وإذ برسول الله صلى الله عليه وسلم يعود إلى مكة فاتحاً منتصراً يحيط به عشرة آلاف رجل، ويدخل الحبيب المسجد فتتهلل الكعبة فرحاً بشروق شمس التوحيد وتتبعثر الأصنام والآلهة المكذوبة في ذل وخزي شديد، ويردد الحبيب قول الله عز وجل: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81].
وبعد فترة يموت النبي صلى الله عليه وسلم، وتبرز فتنة الردة بوجهها الكالح حتى ظنّ بعض من في قلبه مرض أنه لن تقوم للإسلام قائمة، فنهض الصديق رضي الله عنه، ووقف وقفته الخالدة، وانتهت الفتنة، وازداد الإسلام رفعةً وعزةً.
ومن كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة بعد ما استولى الصليبيون على كثير من بلدانهم ودنسوا المسجد الأقصى ما يقارب قرناً من الزمان حتى حرر الله الأرض وطهر المسجد الأقصى على يد البطل الكبير صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين الحاسمة التي سطرها التاريخ.
أيها المسلمون: إن المستقبل بل كل المستقبل للإسلام، فلتكن كلك للإسلام دينك لحمك، دينك عرضك، دينك دمك.
سر في الزمان وحدث أننا نفرٌ شم العرانين يوم الهول نفتقد
عدنا إلى الله في أعماقنا قبس من السموات لا يغتالها الأبد
جئنا نعيد إلى الإسلام عزته وفوق شم الرواسي تنصب العمد
(1/3158)
خطر الذنوب والمعاصي
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
محمد الحسن الغربي
الرباط
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرر المعاصي على القلب. 2- العواقب الوخيمة لأصحاب المعاصي. 3- آثار الذنوب والمعاصي. 4- التحذير من الغفلة. 5- التقوى مجلبة للخير والبركات. 6- الحث على التوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، ولا تكونوا من المصرّين على الإثم والعدوان؛ لأن ضرر الذنب والمعصية في القلب كضرر السمّ في البدن، وما في الدنيا والآخرة شرٌّ ولا داءٌ إلا وسببه الذنوب والمعاصي، وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [النحل:61].
أليست هي سبب طرد إبليس من رحمة ربه؟! أليست هي سبب خروج آدم من الجنة؟! أليست هي سبب إغراقِ قوم نوح وهلاكِ قوم عاد وثمود وهدمِ قرية لوط وأخذِ قوم شعيب بيوم الظلة؟! إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:8، 9]، فما الذي دهى المسلمين اليوم في هذا الزمان حتى أصبحوا في سبات عميق وانهمكوا في الذنوب واللهو والفجور؟! أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]. ألا إن سَبَبَ المصائب والفتن كلِّها هو الذنوب والمعاصي، فإنها ما حلّت في ديار إلا أهلكتها، ولا في قلوب إلا أعمتها، ولا في أجساد إلا عذبتها، ولا في أمة إلا أذلتها، ولا في نفس إلا أفسدتها عنْ ثَوبَانَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ، وَلا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلا الدُّعَاءُ، وَلا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلا الْبِرُّ)).
ثم إنّ للمعاصي آثارا وشؤما تزول بها النعم وتحل النقم، قال عليّ رضي الله عنه: (ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة)، قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
فيا أيها المسلم، إذا كنت في نعمة فارْعَها، وحافظ عليها، واحذر أن تكون مذنبا غير تائب، فتصبح من النادمين، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النفال:53]، قال عبد الله بن المبارك رحمه الله:
رأيت الذنوب تُميت القلوب وقد يورث الذلَّ إدمانُها
وتركُ الذنوب حياةُ القلوب وخيرٌ لنفسك عصيانُها
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأعراف:100].
فاتقوا الله عباد الله، ولا تقترفوا الذنوب، ولا تستهينوا بها، قالت عائشة رضي الله عنها: (أقلوا الذنوب، فإنكم لن تلقوا الله عز وجل بشيء أفضل من قلة الذنوب). لذا فإن المؤمن العاقل يجتهد كلّ الاجتهاد في البعد عن الذنوب والمعاصي؛ لإن شؤمها قد يبلغه وهو لا يدري.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، ويرحم الله عبدا قال: آمين، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
عباد الله، كما أن للذنوب والمعاصي آثارا سيئةً في حياة الناس فكذلك الاستقامة والتقوى تجلبان الخير والبركةَ على العباد والبلاد، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
ولقد كان أصحاب محمد سامعين لله مطيعين له، ففتحت لهم كنوز كسرى وقيصر وغيرها من البلاد، وإنا لنرجو أن نكون مثلهم في يوم من الأيام، فنفوز بوعده تعالى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن للحسنة ضياءً في الوجه ونورا في القلب وسعةً في الرزق وقوةً في البدن ومحبةً في قلوب الخلق).
فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إليه توبة نصوحا بإتباع كل الذنوب بالاستغفار، فإن النبي يقول: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَيْهِ كلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ)). خذوا بأسباب المغفرة إذ ليس: r هناك أجلُّ ولا أحسنُ من الاعتراف بالذنب والندم عليه، قال : ((مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ الله إِلاَّ غَفَرَ الله لَهُ)). فاللهم صل على هذا النبي الكريم والرسول العظيم وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1/3159)
جرائم اليهود وغدرهم
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
أديان, المسلمون في العالم
زهير بن حسن حميدات
الخليل
12/2/1425
عبد الرحمن بن عوف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال الذل والمهانة. 2- مآسي المسلمين في فلسطين. 3- صفات اليهود وجرائمهم. 4- عداء اليهود وكيدهم للإسلام والمسلمين عبر التاريخ.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، أيها المرابطون في هذه الديار، وتظل الجراح تدمي القلب أسًى ولوعة على أمة أصبحت بأيدي الخائنين، ورخصت دماؤها أيما رخص، وإن كان يوسف عليه السلام قد ابتاعه من ابتاعه بثمن بخس دراهم معدودة، وكانوا فيه من الزاهدين، فإن دم المسلم اليوم لم يدفع فيه ثمن أصلا، حتى الثمن البخس، ولا دراهم معدودة، بل قيمته شهوة شارون وأعوانه عليهم لعنة الله، ورغبتهم في التسلط على المسلمين لسفك دمائهم والتلذذ بمنظرها. دماء المسلمين تسفك في أرض الله، تسفك دماء المسلمين لإرضاء جبلات شارون وأعوانه الغادرين، الذين يحملون بين جنبات صدورهم أنفسا شريرة، مجرمة لئيمة، تتلذذ بتعذيب المؤمنين، وترتاح أنفسهم إذا تألم المسلمون. يريدون تحويل البشرية المسلمة وقودا لشهواتهم ونزواتهم، وحماية لرغباتهم، في نشوة خسيسة، في نفس طاغية عربيدة مجنونة، مجنونة بالدماء وبالأشلاء، أثبتت ذلك خلال أكثر من خمسين عاما، راح ضحيتها الملايين من البشر.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، لقد تقرّحت أكباد الصالحين كمدًا مما يجري في هذه الأرض المباركة، مناظر مفزعة متوالية، وعربدة صهيونية غادرة، القتل بطريقة وحشية تفوق كل طريقة، مسلسلات من الرعب، وإراقة دماء الأطفال والنساء والشيوخ بأيد قذرة، لم يكفهم القتل، بل جاوزوه إلى كلّ ما يهلك الحرث والنسل، كما هو طبعهم، صور وآلام تصرع كل الجبابرة، فضلاً عن الإنسان العادي، لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [التوبة:10].
أيها المسلمون، هذه نعوتٌ في كيد الشيطان وتلاعبه بتلك الأمة المغضوب عليها، يعرف بها المسلم الحنيف قدرَ نعمة الله عليه، وما اتصف به آباء اليهود بالأمس يسير على ركابه الأحفاد اليوم، ظلمٌ في الأراضي المقدسة، إجلاءٌ من المساكن، تشريدٌ من الدور، هدمٌ للمنازل، قتلٌ للأطفال، اعتداءٌ على الأبرياء، استيلاءٌ على الممتلكات، نقض للعهود، غدرٌ في المواعيد، استخفاف بالمسلمين، هتكٌ للمقدسات. وإن أمةً موصوفةً بالجبن والخوَر وخوفِ الملاقاة وفزع الاقتتال حقيقٌ نصر المسلمين عليهم. إن دولة اليهود قد طغت واستكبرت في الأرض بغير الحق، وأمست تقترف الجرائم البشعة في كل صباح ومساء، تعيث في الأرض فسادا، وتهلك الحرث والنسل، تسفك الدماء، وتقتل الأبرياء، وتغتال النجباء، وتذبح الأطفال والنساء، وتدمر المنازل، وتجرف المزارع، وتقتلع الأشجار، وتنتزع الأرض من أصحابها بالحديد والنار، وتقيم جدار الفصل العنصري.
أيها المسلمون، يا من ترابطون على أرض أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، هؤلاء هم اليهود، سلسلةٌ متصلة من اللؤم والمكر والعناد، والبغي والشر والفساد، وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَادًا وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ. حلقات من الغدر والكيد والخسة والدناءة. ألا فلتعلم الأمة أن هؤلاء القوم قومٌ تاريخهم مقبوح، وسجلهم بالسواد مكلوح، ولن يرضوا إلا بتحقيق أطماعهم، لا بلّغهم الله مرادهم. ولعل ما شهدته الساحة الفلسطينية في هذه السنوات من مشاهد مرعبة ومآسي مروِّعة، حيث المجازر والمجنزرات والقذائف والدبابات، جُثثٌ وجماجم، حصار وتشريد، تقتيلٌ ودمار، في حرب إبادة بشعة، وانتهاك صارخ للقيم الإنسانية، وممارسة إرهاب الدولة الذي تقوم به الصهيونية العالمية، مما لم ولن ينساه التاريخ، بل سيسجّله بمداد قاتمة، تسطّرها دماء الأبرياء الذين ارتوت الأرض بمسك دمائهم، من إخواننا وأخواتنا على أرض فلسطين المجاهدة، الذين يُذبَّحون ذبح الشياه. عشراتُ المساجد دمِّرت، ومئات البيوت هُدّمت، وآلاف الأنفس أُزهقت، نساءٌ أيِّمت، وأطفال يُتِّمت، ومقابر جماعية أقيمت. إنها لا تقيم لهذه الدماء التي سفكت قيمة ولا وزنا؛ إجرام بعد إجرام، كان آخره حينما أمر عدوُّ الله شارونُ جنودَه بتسليط طائراته لتقذف صواريخه على الشيخ المجاهد أحمد ياسين، بعد صلاة الفجر من يوم الاثنين، على رجل يبلغ من العمر عتيّا، كان مقعدا ويمشي على كرسيه المتحرك، فإذا بصواريخ الغدر والخيانة تصل إليه فتقَطِّعُهُ ومن معه، فجعلتهم أشلاء متناثرة، فحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المؤمنون، يا أحباب محمد ، إن من قرأ كتاب ربّه وتأمل في آياته واتعظ بعظاته واهتدى بهداه يرى أن هناك آيات كثيرة حذّرت المسلمين من أعداء كثر، وأن هناك صنفًا هو الأكثر عداءً للمسلمين، فقد ورد الحديث عنهم في أكثر من خمسين سورة من سور القرآن الكريم، وما ذاك إلا لتحذرهم أمة الإسلام أشد الحذر، وتتنبه لألاعيبهم وحيلهم التي تخصصوا فيها على مر التاريخ، إنهم اليهود، وما أدراك ما اليهود. إنهم القوم المغضوب عليهم الملعونون على لسان الرسل والأنبياء، قوم تفنن آباؤهم وأجدادهم في قتل الأنبياء والمصلحين، عُرفوا على مر التاريخ بالإفساد والتخريب ونقض العهود. إن أشد الناس عداوة للمسلمين هم اليهود والذين أشركوا، قال تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ?لنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ [المائدة:82].
لقد واجه اليهود الإسلام بالعداء منذ اللحظة الأولى التي قامت فيها دولة الإسلام بالمدينة النبوية، وكادوا للأمة المسلمة منذ اليوم الأول الذي أصبحت فيه أمة، وقد تضمن القرآن الكريم من التقريرات والإشارات عن هذا العداء وذلك الكيد ما يكفي وحده لتصوير تلك الحرب المريرة التي شنها اليهود على الإسلام وعلى رسول الله محمد ، وسوء أدبهم معه، حتى في الألفاظ الملتوية، وكذلك على المسلمين في تاريخهم الطويل، والتي لم تَخْبُ لحظة منذ أربعة عشر قرنًا، وما تزال حتى اللحظة يستعر أوارها في أرجاء الأرض جميعًا.
أولئك اليهود الذين وصفوا الله سبحانه وتعالى بالنقص، تعالى الله عن ذلك وعما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، قالوا لعنهم الله: يَدُ ?للَّهِ مَغْلُولَةٌ، أي: يبخل ولا ينفق، فقال الله عز وجل ردًا عليهم: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَـ?نًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ?لْعَدَاوَةَ وَ?لْبَغْضَاء إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ?للَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَادًا وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]. أولئك اليهود الذين نقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ ?للَّهُ مِيثَـ?قَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَ?شْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187]. ولقد استخدم اليهود المكر والخداع في فجر الإسلام، ولا زالوا، ولن يتركوه حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام قبل قيام الساعة، فيختفي اليهود خلف الحجر والشجر، فينطق الحجر والشجر إلا شجرة الغرقد، يقول: يا مسلم، تعال، فإن ورائي يهوديًا فاقتله.
أيها الإخوة الأحباب، ولقد استخدم اليهود كل الأسلحة والوسائل التي تفتقت عنها عبقرية المكر اليهودية، أولئك اليهود الذين قتلوا أنبياء الله بغير حق، وسعوا في الأرض فسادًا، والله لا يحب المفسدين. الذين غدروا بخاتم النبيين محمد ، ونقضوا عهده، فإنه لما هاجر إلى المدينة قدمها وفيها ثلاث قبائل من اليهود، فعقد معهم العهد أن لا يخونوا ولا يؤذوا، ولكن أبى طبعهم اللئيم وسجيتهم السافلة إلا أن ينقضوا العهد ويغدروا، فأظهر بنو قينقاع الغدر بعد أن نصر الله نبيه في بدر، فأجلاهم الرسول من المدينة، على أن لهم النساء والذرية، ولرسول الله أموالهم. وأظهر بنو النضير الغدر بعد غزوة أحد، فحاصرهم الرسول ، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وخرّبوا بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، وطلبوا من رسول الله أن يجليهم على أن لهم ما تحمله إبلهم من أموالهم إلا آلة الحرب، فأجابهم إلى ذلك، فنزل بعضهم بخيبر وبعضهم بالشام. وأما قريظة فنقضوا العهد يوم الأحزاب، فحاصرهم الرسول ، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فحكم فيهم بقتل رجالهم وقسم أموالهم وسبي نسائهم وذرياتهم.
ومن ألوان غدرهم وخيانتهم بخاتم الأنبياء أنه لما فتح خيبر أهدوا له شاة مسمومة، فأكل منها، ولم يحصل مرادهم ولله الحمد، ولكنه كان يقول في مرض الموت: ((يَا عَائِشَةُ، مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ)) رواه البخاري. ولقد قالوا عن مشركي قريش بأنهم أهدى من الرسول ومن المؤمنين، حينما سألهم أبو سفيان عن ذلك، وبعد أن سجدوا لأصنامهم وكفروا بما في التوراة، فأنزل الله عز وجل قوله عنهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ ?لْكِتَـ?بِ يُؤْمِنُونَ بِ?لْجِبْتِ وَ?لطَّـ?غُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى? مِنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ وَمَن يَلْعَنِ ?للَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا [النساء:51].
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، أيها المرابطون في هذه الديار، ولما غلبهم الإسلام بقوة الحق ـ يوم أن كان الناس مسلمين حقًا ـ استدار اليهود يكيدون للإسلام بدس المفتريات في كتبه ومصنفاته، ولم يسلم من هذه المحاولة حتى كتاب الله عز وجل القرآن الكريم الذي تكفل بحفظه سبحانه، فقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر:9]، مع أنهم يطبعون ملايين من نسخ القرآن الكريم ليحرفوا آية أو كلمة، ومنها ما عملوه قبل أكثر من ثلاثين سنة، حينما طبعوا القرآن وحذفوا منه لفظة (غير)، أي: ثلاثة حروف فقط، قبل كلمة الإسلام في قوله تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85]. فحذفوا كلمة (غير)، حتى يصبح المعنى: ومن يبتغ الإسلام دينًا فلن يقبل منه، قاتلهم الله ولعنهم، كم كادوا للإسلام ومكروا به.
ولا يزال اليهود ومعهم النصارى يتربصون بالمسلمين، ولن يرضوا عنا أبدًا إلا باتباع ملتهم، نعوذ بالله من ذلك، ونسأل الله الثبات على دين الإسلام، ولنتأمل قول الله عز وجل الذي بدأه بلن المؤكدة للنفي، والتي تفيد عدم رضا اليهود والنصارى عن الرسول محمد وأتباعه ما داموا متمسكين بالإسلام، قال تعالى: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وقال تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـ?لُهُمْ فِي ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [البقرة:217]، وقال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ?لْحَقُّ [البقرة:109].
عباد الله، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة رسوله , أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، فتبارك الله رب كل شيء ومليكه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: أيها الإخوة الأحباب، لقد انتهى المطاف باليهود في هذا العصر الأخير إلى أن يكونوا هم الذين يقودون الحرب والمعركة ضدّ الإسلام والمسلمين في كلّ شبر على وجه الأرض، وهم الذين يستخدمون الصليبية والوثنية في هذه الحرب الشاملة. إن الذي ألّب الأحزاب على الدولة الناشئة في المدينة النبوية وجمع بين اليهود من بني قريظة وغيرهم وبين قريش في مكة وبين القبائل الأخرى في الجزيرة العربية هم اليهود. والذي ألّب العوام وجمع الشراذم وأطلق الشائعات في فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه وما تلاها من النكبات هم اليهود. واليهود هم الذين قادوا حملة الوضع والكذب في أحاديث رسول الله ، وفي الروايات والسير. واليهود هم الذين كانوا وراء إثارة النعرات القومية في دولة الخلافة الأخيرة، وهم وراء الانقلابات التي ابتدأت بعزل الشريعة الإسلامية عن الحكم والاحتكام إلى القوانين الوضعية بدلاً من الشريعة في عهد السلطان عبد الحميد، ثم انتهت بإلغاء الخلافة على يدي أتاتورك لعنه الله. اليهود هم وراء ذلك كله، وهم وراء النزعة المادية الإلحادية، والنزعة الحيوانية الجنسية، وأفلام الجنس المنتشرة اليوم بشكل مخيف عبر القنوات الفضائية وشبكة المعلومات المسماة بالإنترنت، ووراء النظريات الهدامة لكل المقدسات والضوابط. واليهود هم وراء البنوك الربوية التي انتشرت انتشارًا فظيعًا، حتى أصبحت دعاياتها وإعلاناتها تعلو المباني التي ترتفع أكثر من مآذن المساجد، حتى أصبح المسلمون هم الذين يعلنون الحرب فيها على الله ورسوله.
عباد الله، إني أدعوكم إلى رجعة صادقة إلى تعاليم القرآن، وإلى سنة رسول الرحمن. إن مقدسات المسلمين وديارهم لن تستعيد حريتها إلا بجهاد صادق في سبيل الله، وإلا فلا نصر ولا كرامة ولا عزة ولا هيمنة، قال رسول الله : ((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاً لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)) رواه أبو داود.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين، وأهلك الزنادقة والملحدين. اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم ارفع علم الجهاد، وانصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك ولإعلاء كلمتك، اللهم ثبت أقدامهم، واربط على قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، ووحِّد كلمتهم، وأنزل السكينة عليهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، إنك على كل شيء قدير. اللهم عليك بأمريكا ومن تحالف معها، اللهم اهزم الصليبيين واليهود ومن سار في دربهم، اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا، اللهم أرنا فيهم يوما أسود، اللهم ابعث عليهم صيحة من عندك، وزلزل الأرض تحت أقدامهم، وأرنا فيهم عجائب قدرتك. اللهم هذه أمريكا استكبرت في الأرض بغير الحق، وقالت: من أشد منا قوة؟! فأرنا فيها يا ربنا قدرتك، ودمرها كما دمرت عادا وثمود. اللهم ارفع راية الإسلام، اللهم انصر عبادك المستضعفين، يا رب العالمين، ويا أرحم الراحمين.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90], فاذكروا الله يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
(1/3160)
سيبقى الإسلام
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
سعد بن أحمد الغامدي
الظهران
جامع الأمير محمد بن فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من اليأس. 2- الإسلام ظاهر لا محالة. 3- حرب أعداء الإسلام للإسلام وأهله عبر التاريخ. 4- خيبة أمل أعداء الإسلام. 5- عدوان الصهاينة. 6- كيد أعداء الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أيها المسلمون، في هذه الأيام عندما ينظر المسلم ويرى ماذا يحصل للمسلمين من أعداء الدين من يهود ونصارى من قتل وإبادة واحتلال وغزو فكري وظلم وقهر واعتداءات على قتل الأطفال واغتصاب النساء وأخذ الثروات بقوة النار والحديد ظنّ بعض الناس أن لا قائمة سوف تقوم للإسلام والمسلمين، وهذه مصيبة أن يكون المسلم بهذا الظن.
أنزل الله الإسلام ليبقى، أنزل الله هذا الدين ليهيمن على جميع الأديان، أنزل الله الإسلام ليبقى إلى قيام الساعة، أنزل الله الإسلام حتى لا يدع بيت مدر ولا وبر إلا دخلة بعز عزيز أو بذل ذليل، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33].
فأول ما يجب عليك أن تعلمه ويتيقن قلبك له وبه أن هذا الدين سيظهره الله على كل دين، وأنه أرسل رسوله بهذا الهدى وبهذا الحق ليبلغ ما بلغ الليل والنهار، كما في صحيح مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن الله قد زوى لي الأرض ـ أي: جمعها ـ فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغها)) ، وفي حديث آخر يقول: ((ليبلغن هذا الأمر ـ أي: دين الإسلام ـ ما بلغ الليل والنهار)) وهل هناك قطعة من الأرض لا يبلغها ليل أو نهار أيها المؤمنون؟! ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر ـ بادية وحاضرة ـ إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر)) ، يعني يبلغ هذا الدين وينتشر هذا الإسلام، ويدخل كل بيت في الحاضرة والبادية بأحد خيارين: إما بعزٍ يسلم أهل ذلك القطر، ويؤمنون بالله واليوم الآخر فيعزهم الله، وإما بذلٍ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، ذلاً يذلّ الله به الشرك وأهله.
وحرب أعداء الله ليست وليدة اليوم، بل أعداء الإسلام من الكتابيين والمشركين والذين في قلوبهم مرض والمنافقين ما زالوا منذ بعثة النبي محمد يقاومون دين الإسلام الذي جاء به، يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32]. قاوموه بالجدال والخصام، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]، فلم يفلحوا. وقاوموه بالسلاح فهزموا، وقاوموه بالنفاق فدخلوا فيه ظاهرًا وقاوموه باطنًا، وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14]، ففضح الله سرائرهم وأبطل مكائدهم.
حاولوا الكيد له بالدخول فيه ثم الارتداد عنه ليتابعهم المسلمون في ذلك، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]، فلم يدركوا مطلوبهم وباؤوا بالفشل ولم يتزحزح المسلمون عن دينهم بهذه المكيدة، بل زادتهم ثباتًا وإيمانًا. أخرجوا النبي وأصحابه من مكة ليقضوا على دعوة الإسلام بزعمهم، وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، فخرج النبي من بينهم مختفيًا ولم يشعروا به، وعاد إليهم بعد سنوات قليلة بجيش التوحيد وكتائب الإيمان مدجّجين بالسلاح، ففتح الله له مكة، وجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وحطم رسول الله الأوثان وكسر الأصنام، وأعلن دين الإسلام على رؤوس أعدائه، ورفع الأذان في المسجد الحرام، وجلس أعداؤه بالأمس ينتظرون ماذا يفعل بهم لما مكنه الله منهم فقال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)). وجاء للحج ومعه نحو مائة ألف مسلم بعد أن منع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام.
ولما أكمل الله له ولأمته الدين وأتم عليهم النعمة ورضي لهم الإسلام دينا توفاه الله عز وجل كما هي سنته في خلقه، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء:34]، فقام بالأمر بعده خلفاؤه الراشدون، وأعاد أعداء الإسلام الكرة للقضاء عليه بعد وفاة الرسول ، فارتد كثير من العرب، فقاتلهم خليفة رسول الله أبو بكر الصديق ومعه إخوانه من المهاجرين والأنصار حتى أعز الله بهم دينه وأبطل كيد أهل الردة ومن وراءهم من الكفار حيث يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54]، فأتى الله بأبي بكر وإخوانه فقضوا على الردة.
وفي آخر عهد الخلفاء الراشدين دسّ اليهود رجلاً يقال له: عبد الله بن سبأ، فأظهر الإسلام وجعل يطعن في الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، يريد شقّ عصا الطاعة عليه، واجتمع حوله جماعة من الأوباش، فسطوا على عثمان رضي الله عنه فقتلوه ظانين بذلك أنهم يقضون على الإسلام ودولته، فخيب الله ظنهم وبقي الإسلام عزيزا. وقام بالأمر من بعده الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلجأ أعداء الإسلام إلى مكيدة جديدة، فخرجت طائفة الخوارج الذين يكفّرون المسلمين ويستحلون دماءهم، وخرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقاتلهم ونصره الله عليهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة في النهروان، ولم يبق منهم إلا القليل. ثم تآمروا على علي رضي الله عنه فقتلوه غيلة، وظن الكفار ومن نفذ خطتهم هذه أنهم سيقضون على الإسلام، ولكن بقي الإسلام عزيزا رغم أنوفهم، واستمرت دولة المسلمين عزيزة تنشر دين الله في المشارق والمغارب في عهد معاوية، كما قال تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33].
ثم قامت الدولة الأموية، ثم الدولة العباسية، والإسلام في عز وظهور رغم ما يحصل لأهله من ابتلاء وامتحان. حتى جاء جيش التتر من المشرق فاجتاح بلاد المسلمين، وقتل الخليفة العباسي، وجرت على أيديهم محنة شديدة على المسلمين، لكنهم ثبتوا في وجوههم في أكثر من معركة، حتى هزم الله التتر، وبقي الإسلام عزيزًا شامخًا كما أنزله الله، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
ثم جاء الغزو الصليبي بحقده وشرّه، وحصلت بينه وبين المسلمين معارك شديدة، واستولى النصارى على بيت المقدس فترة طويلة، حتى قيض الله للإسلام والمسلمين صلاح الدين الأيوبي، فدحر الصليبيين، وخلص بيت المقدس من حوزتهم، وأعاده إلى حوزة المسلمين.
وفي وقتنا الحاضر تجمعت الصهيونية اليهودية بمساندة من مغول العصر ومعها دول أخرى تحاول تغزو بلاد المسلمين وتتدخل في شئونهم الخاصة، وتملي عليهم رغباتها، وتتهم الإسلام بالإرهاب والتطرف والغلو، وتريد من المسلمين أن يتخلوا عن كثير من أحكامه وأصوله، وهي تتبجح بالديمقراطية وإزالة الظلم عن الشعوب، وترتكب أشد أنواع الظلم والقسوة، وهكذا تدعي أنها ستزيل الظلم وهي ترتكب أشد أنواع الظلم في حق الشعوب، وقد سنحت الفرصة للمنافقين والذين في قلوبهم مرض بترديد مقالة الكفار باتهام الإسلام بالتطرف والإرهاب واتهام مصادره وعلمائه بذلك والمناداة بحرية المرأة ومساواتها بالرجل وخلعها للحجاب وتوليها أعمال الرجال، ومناداتهم بإزالة الفوارق بين المسلمين والكفار باسم حرية الرأي وحرية الديانة وعدم كره الآخر وترك باب الولاء والبراء وحذفه من الكتب والمقررات الدراسية وعدم تكفير من كفره الله ورسوله ولو ارتكب نواقض الإسلام كلها، كل ذلك تحت مبدأ التسامح وحرية الرأي وقبول رأي الآخر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي القوة المتين، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المسلمون، إنهم يقولون: كل من خالف هذه المبادئ الخبيثة عندهم والتزم بالإسلام وأصوله وأحكامه فهو متشدد ومتطرف وتكفيري حتى تناولوا بهذه الاتهامات أئمة الإسلام ومجدّديه كشيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، حتى نادى بعضهم بإعادة النظر في كتب العقيدة وإخلائها من كل ما يتعارض مع مبادئهم ورغباتهم.
ودول الكفر احتلت أراضي المسلمين ابتداء من فلسطين ثم أفغانستان والعراق والشيشان ينشرون الحرية بزعمهم، وقد انغر وللأسف بعض المسلمين بهذه الدعاوى، فها هي الحرية: قتل وترويع للمدنيين، وعمليات قتل فورية، هدم وتحطيم للمنازل والأسواق والتجمعات السكنية، إعاقة عمليات الإسعاف واستهداف المساجد والمستشفيات والمراكز الصحية، ممارسة عمليات إذلال قاسية بحق المسلمين، واقتيادهم إلى مراكز اعتقال جماعية، بلغ عددهم فيها في العراق فقط عشرة آلاف حسب المصادر الأمريكية, ومائة ألف حسب مصادر عراقية، إفساد الأراضي المزروعة وقلع الأشجار، اقتحام وإتلاف محتويات بيوت الله، لكن سينتصر المسلمون عليهم ويوقعون بهم شر هزيمة إذا اجتمعت كلمة المسلمين وجاهدوا في سبيل الله لإعلاء كلمة الله كما أخبر بذلك النبي. ونقول لهؤلاء وهؤلاء ما قاله الله لهم: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119]، وسيبقى الإسلام وتموت المبادئ الهدامة وأهلها، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62].
(1/3161)
الأدب مع الله تعالى ـ عيد الحب
الإيمان
الولاء والبراء, حقيقة الإيمان, خصال الإيمان
إبراهيم بن عبد الله صاحب
جازان
22/12/1424
جامع قرية المجديرة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التفكر في نعم الله تعالى. 2- شكر النعم. 3- استحضار العبد اطلاع الله تعالى عليه. 4- استحضار العبد قدرة الله تعالى عليه. 5- الطمع في رحمة الله تعالى. 6- الخوف من عذاب الله تعالى وعقابه. 7- واجب المسلم عند الميل للمعصية وعند الطاعة. 8- عيد الحب والتحذير من التشبه بالكفار.
_________
الخطبة الأولى
_________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أيها الإخوة المؤمنون، لا بد للمسلم أن ينظر إلى ما لله تعالى عليه من منن لا تحصى ونِعَم لا تُعد، اكتنفته من ساعة علوقه نطفةً في رَحمِ أُمه، وتسايره إلى أن يلقى ربه عز وجل، فيشكر الله تعالى عليها بلسانه بحمده والثناء عليه بما هو أهله، وبجوارحه بتسخيرها في طاعته، فيكون هذا أدبا منه مع الله سبحانه وتعالى، إذ ليس من الأدب في شيء كفران النعم وجحود فضل النعم والتنكر له ولإحسانه وإنعامه، والله سبحانه يقول: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53]، ويقول سبحانه: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، ويقول جل جلاله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152].
وينظر المسلم إلى علمه تعالى به واطلاعه على جميع أحواله فيمتلئ قلبه منه مهابة ونفسه له وقارًا وتعظيمًا، فيخجل من معصيته، ويستحي من مخالفته والخروج عن طاعته، فيكون هذا أدبًا منه مع الله تعالى، إذ ليس من الأدب في شيء أن يجاهر العبد سيده بالمعاصي، أو يقابله بالقبائح والرذائل وهو يشهده وينظر إليه، قال تعالى: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح:13، 14]، وقال: يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النحل:19]، وقال: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [يونس:61].
وينظر المسلم إلى الله تعالى وقد قدر عليه وأخذ بناصيته، وأنه لا مفر له ولا مهرب ولا منجى ولا ملجأ منه إلا إليه، فيفر إليه تعالى، وينطرح بين يديه، ويفوض أمره إليه، ويتوكل عليه، فيكون هذا أدبا منه مع ربه وخالقه ، إذ ليس من الأدب في شيء الفرار ممن لا مفرّ منه، ولا الاعتماد على من لا قدرة له، ولا الاتكال على من لا حول ولا قوة له، قال تعالى: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [هود:56]، وقال عز وجل: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50]، وقال: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23].
وينظر المسلم إلى ألطاف الله تعالى به في جميع أموره، وإلى رحمته له ولسائر خلقه، فيطمع في المزيد من ذلك، فيتضرع له بخالص الضراعة والدعاء، ويتوسل إليه بطيب القول وصالح العمل، فيكون هذا أدبًا منه مع الله مولاه، إذ ليس من الأدب في شيء اليأس من المزيد من رحمة وسعت كل شيء، ولا القنوط من إحسان قد عمّ البرايا، وألطاف قد انتظمت الوجود، قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]، وقال: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ [الشورى:19]، وقال: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف:87]، وقال: لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53].
وينظر المسلم إلى شدّة بطش ربه، وإلى قوة انتقامه، وإلى سرعة حسابه فيتقيه بطاعته، ويتوقاه بعدم معصيته، فيكون هذا أدبا منه مع الله، إذ ليس من الأدب عند ذوي الألباب أن يتعرض بالمعصية والظلم العبد الضعيف العاجز للرب العزيز القادر والقوي القاهر، وهو يقول: وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11]، ويقول: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج:12]، ويقول: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران:4].
وينظر المسلم إلى الله عز وجل عند معصيته والخروج عن طاعته، وكأن وعيده قد تناوله، وعذابه قد نزل به، وعقابه قد حلّ بساحته، كما ينظر إليه تعالى عند طاعته واتباع شرعته، وكأن وعده قد صدقه له، وكأن حُلة رضاه قد خلعها عليه، فيكون هذا من المسلم حسن ظن بالله، ومن الأدب حسن الظن بالله، إذ ليس من الأدب أن يسيء المرء الظن بالله فيعصيه ويخرج عن طاعته، ويظن أنه غير مطلعٍ عليه، ولا مؤاخذَ له على ذنبه، وهو يقول: وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ [فصلت:22، 23]. كما أنه ليس من الأدب مع الله أن يتقيه المرء ويطيعه ويظنّ أنه غير مجازيه بحسن عمله، ولا هو قابل منه طاعته وعبادته، وهو عز وجل يقول: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ [النور:52]، ويقول سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، ويقول تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام:160].
وخلاصة القول: إن شكر المسلم ربه على نعمه وحياءه منه تعالى عند الميل إلى معصيته وصدق الإنابة إليه والتوكل عليه ورجاء رحمته والخوف من نقمته وحسن الظن به في إنجاز وعده وإنفاذ وعيده فيمن يشاء من عباده هو أدبه مع الله، وبقدر تمسكه به ومحافظته عليه تعلو درجته ويرتفع مقامه وتسمو مكانته وتعظم كرامته، فيصبح من أهل ولاية الله ورعايته، ومحط رحمته ومنزل نعمته، وهذا أقصى ما يطلبه المسلم ويتمناه طول الحياة.
اللهم ارزقنا ولايتك، ولا تحرمنا رعايتك، واجعلنا لديك من المقربين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله شرع لنا دينًا قويمًا، وهدانا صراطًا مستقيمًا، والحمد لله أكرمنا بالإيمان، وفضَّل ديننا على سائر الأديان. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حذرنا من اتباع الكفار وموالاتهم، وأمرنا بمخالفتهم، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:57]، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله القائل: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، أيها المؤمنون، إن الله سبحانه قد حبانا بدين عظيم، وهدانا إلى صراط مستقيم، فيه الغُنيةُ والكفاية، وبه السعادة والهداية، منه الأمن والسلام، وإليه الحبُّ والوئام، من أقبل عليه أعزَّه الله بقدر ما تمسَّك وأخذ، ومن أعرض عنه أذلَّه الله بقدر ما ترك وجحد.
إن الدين قد كمُل بالإسلام، فلا نفتقر بعده إلى رأيِ مخترِع ولا هوى مبتدِعٍ ولا تصويت مقنِّنٍ مشرِّع، وإن النعمة قد تمَّت بالإيمان، فاكتملت الفرحة وتمَّ السرور فلا نحتاج بعد ذلك إلى موسم بدعي ولا عيد مفرِّح، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]. فبالله عليكم، كيف يرضى المسلم لنفسه أن يضيِّع هذه المكانة التي جعلها الله بين يديه، وأن يرضى بالهوان والكتاب والسنة نصبَ عينيه؟! أم كيف يرضى لنفسه الأبيّة أن يكون مقودًا بعدما كان قائدًا، وأن ينقلب مقلِّدًا بعدما كان مرشدًا؟ كيف يرضى لنفسه أن يصبح ضالاً بعدما كان دالاً، وأن يصير عبدًا منفِّذا بعدما كان سيّدًا؟ ولكنه قول النبي: ((لتتبعُنّ سَنَنَ من كان قبلكم، شبرًا بشر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ تبعتموهم)) ، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!)) أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
ليس بخاف عليكم مكرُ اليهود والنصارى بالأمة الإسلامية، ومحاولتُهم القضاء على قيمها ومبادئها الأخلاقية، إنهم يبذلون في سبيل ذلك أعزَّ أوقاتهم وأنفسَ أموالهم، سخّروا لذلك العقول والطاقات، وسطَّروا المناهج والمخططات، ولقد ـ والله ـ أصابت سهامهم، وأثخنت رماحهم، كيف لا؟! والسنة الكونية تقرِّر أن من جدَّ وجد، ومن زرع حصد. فصرنا اليوم نرى مظاهر ما كنا نراها بالأمس القريب، صرنا نرى التفنّن في السفور والإمعان في التبرّج، صرنا نرى الجرأة على الدين والتبجّح بالمعاصي، ناهيكم عن التشكيك في ثوابت هذه الأمة، وزعزعة مبادئها وأصولها.
وزاد الأمر سوءًا الانفتاح الإعلامي بين كافة الشعوب حتى غدت شعائر الكفار وعاداتهم تنقل مزخرفة مبهرجة بالصوت والصورة الحية من بلادهم إلى بلاد المسلمين، عبر الفضائيات والشبكة العالمية الإنترنت، فاغتر بزخرفها كثير من المسلمين.
وها هي جيوش الكفر وجنود الإلحاد تَكِرّ من جديد، وتروّج لعيد ما أمكَرَه من عيد، عيدٍ سموه بغير اسمه تدليسًا وتلبيسًا، سمّوه باسم شريف، ليروج على التقيّ النقيّ العفيف، سموه عيد الحب أو عيد فالنتاين وهو في الحقيقة عيد الخنا والرذيلة والعهر، ينشرون الرذائل في أثواب الفضائل، وهذه سنة إبليسية قديمة، فضحها الله في كتابه، وكشف أمرها لعباده، فقال عن مكر إبليس بأبينا آدم وأمنا حواء: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21].
فاحذروا أيها المسلمون، احذروا المضِلَّ الخائن الذي يأتي في لباس الناصح الأمين، إنه لو جاء في ثوبه، ما أدرك مطلوبه ولا وصل إلى إربه، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
من أهم شعائرهم في هذا العيد:
1- إظهار البهجة والسرور فيه كحالهم في الأعياد المهمة الأخرى.
2- تبادل الورود الحمراء، وذلك تعبيرا عن الحب الذي كان حبًا إلهيًا عند الوثنيين وعشقًا عند النصارى، ولذلك سمي عندهم بعيد العشاق.
3- توزيع بطاقات التهنئة به، وفي بعضها صورة (كيوبيد)، وهو طفل له جناحان يحمل قوسا ونشابا، وهو إله الحب عند الأمة الرومانية الوثنية، تعالى الله عن إفكهم وشركهم علوا كبيرا.
4- تبادل كلمات الحب والعشق والغرام في بطاقات التهنئة المتبادلة بينهم عن طريق الشعر أو النثر أو الجمل القصيرة، وفي بعض بطاقات التهنئة صور ضاحكة وأقوال هزلية، وكثيرا ما كان يكتب فيها عبارة: (كن فالنتينيا)، وهذا يمثل المفهوم النصراني له بعد انتقاله من المفهوم الوثني.
5- تقام في كثير من الأقطار النصرانية حفلات نهارية وسهرات ليلية مختلطة راقصة، ويرسل كثير منهم هدايا، منها الورود وصناديق الشوكولاته إلى أزواجهم وأصدقائهم ومن يحبونهم.
وقد سُئلت اللجنة الدائمة سؤالاً حول هذا العيد هذا نصه: يحتفل بعض الناس في اليوم الرابع عشر من شهر فبراير من كل سنة ميلادية بيوم الحب (فالنتاين داي)، ويتهادون الورود الحمراء ويلبسون اللون الأحمر ويهنئون بعضهم، وتقوم بعض محلات الحلويات بصنع حلويات باللون الأحمر، ويرسم عليها قلوب، وتعمل بعض المحلات إعلانات على بضائعها التي تخص هذا اليوم، فما هو رأيكم؟
فأجابت اللجنة: "يحرم على المسلم الإعانة على هذا العيد أو غيره من الأعياد المحرمة بأي شيء من أكلٍ أو شرب أو بيع أو شراء أو صناعة أو هدية أو مراسلة أو إعلان أو غير ذلك؛ لأن ذلك كله من التعاون على الإثم والعدوان ومعصية الله والرسول، والله جل وعلا يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2].
ويجب على المسلم الاعتصام بالكتاب والسنة في جميع أحواله، لا سيما في أوقات الفتن وكثرة الفساد، وعليه أن يكون فطنًا حذرًا من الوقوع في ضلالات المغضوب عليهم والضالين والفاسقين الذين لا يرجون لله وقارًا ولا يرفعون بالإسلام رأسًا، وعلى المسلم أن يلجأ إلى الله تعالى بطلب هدايته والثبات عليها، فإنه لا هادي إلا الله، ولا مثبت إلا هو سبحانه، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فيا شباب وشابات الإسلام، اتقوا الله تعالى، وخالفوا اليهود والنصارى في كل شيء كما يخالفونكم، قال تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]، ويقول النبي : ((من تشبه بقوم فهو منهم)) أخرجه أحمد وأبو داود، قال شيخ الإسلام: "هذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]".
هذا، وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على سيد الأولين والآخرين محمد النبي الأمي الأمين.
اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين.
(1/3162)
التعاون
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
إبراهيم بن عبد الله صاحب
جازان
17/11/1424
جامع قرية المجديرة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصية حكيم أبناءه بالاتحاد والتعاون. 2- افتقار الإنسان وحاجته والحكمة من ذلك. 3- وجوب التعاون. 4- فضل الإخوان. 5- فضل قضاء الحوائج. 6- معاونة النبي لأصحابه. 7- التحذير من التفرق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
حضرت معن بن زائدة الوفاة وخشي أن يتفرّق أبناؤه من بعده فقال لهم: أُريد من كلّ واحد منكم أن يأتيني بعصا، فأحضروها، فأخذ من كل منهم عصًا وأمسكها وقال لصاحبها: اكسرها فكسرها بكل سهولة، فقال لهم: ليأتيني كل منكم بعصا، فأحضروها، فجمعها وقال لكل منهم: أكسرها فما استطاع. وقد أراد بذلك نصيحتهم بطريقة غير مباشرة وبوسيلة تعليمية واضحة وملموسة ومحسوسة. وقال بعد ذلك لهم: يا أبنائي، كونوا كرجلٍ واحد، لا يستطيع عليكم أحد، وأما إذا تفرقتم فسوف يستطيع القضاء عليكم أي إنسان، ثم أنشد:
كونوا جميعا يا بني إذا اعترى خطبٌ ولا تتفرقوا آحادا
تأبى العصي إذا اجتمعن تكسرًا وإذا افترقن تكسرت آحادا
اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الله تعالى لنافذ قدرته ولبالغ حكمته خلق الخلق بتدبيره، وفطرهم بتقديره، فكان من لطيف ما قدر ومن بديع ما دبر أن خلقهم محتاجين، وفطرهم عاجزين، ليكون بالغنى منفردا، وبالقدرة مختصًا، حتى يُشعرنا بقدرته أنه خالق، ويعلمنا بغناه أنه رازق، فنذعن بطاعته رغبة ورهبة، ونُقر بنقصنا عجزًا وحاجة. ثم جعل الإنسان أكثر حاجة من جميع الحيوان، لأن من الحيوان ما يستقل بنفسه عن جنسه، والإنسان مطبوع على الافتقار إلى جنسه، واستعانته صفة لازمة لطبعه، وخلقة قائمة في جوهره، ولذلك قال سبحانه وتعالى: وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28]، يعني عن الصبر عما هو إليه مفتقر، واحتمال ما هو عنه عاجز. ولما كان الإنسان أكثر حاجة من جميع الحيوان كان أظهر عجزًا، لأن الحاجة إلى الشيء افتقار إليه، والمفتقر إلى الشيء عاجز عنه. قال بعض الحكماء المتقدمين: استغناؤك عن الشيء خير من استغنائك به. وإنما خص الله تعالى الإنسان بكثرة الحاجة وظهور العجز نعمة عليه ولطفًا به ليكون ذُل الحاجة ومهانة العجز يمنعانه من طغيان الغنى وبغي القدرة، لأن الطغيان مركوز في طبعه إذا استغنى، والبغي مستول عليه إذا قدر، وقد أنبأنا الله تعالى بذلك عنه فقال: كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6، 7]، ثم ليكون أقوى الأمور شاهدًا على نقصه وأوضحها دليلاً على عجزه.
ولما خلق الله الإنسان ماس الحاجة ظاهر العجز جعل لنيل حاجته أسبابًا، ولدفع عجزه حِيلاً، دلّه عليها بالعقل، وأرشده إليها بالفطنة، قال تعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3]، قال مجاهد: "قدر أحوال خلقه، فهدى إلى سبيل الخير والشر". وقال ابن مسعود في قوله تعالى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]: (يعني الطريقين: طريق الخير، وطريق الشر). ولذا وجب على بني الإنسان الإخاء، ويتعين عليهم الاصطفاء، ويجب أن يميل المسلم لأخيه المسلم وإن كانوا مختلفين في الآراء ومتباينين في الأفكار، فإن بني الإنسان على طبقات مختلفة وأنحاء متشعبة، ولكل واحد منهم حال يختص بها في المشاركة، وثلمة في الناس يسدها في المؤازرة والمضافرة، وليس تتفق أحوال جميعهم على حدّ واحد، قال بعض الحكماء: الرجال كالشجر؛ شرابه واحد وثمره مختلف، فنظم الشاعر:
بنو آدمَ كالنبتِ ونبت الأرض ألوان
فمنهم شجر الصندل والكافور والبان
ومنهم شجر أفضل ما يحمل قطران
قال المأمون: :الإخوان ثلاثة طبقات: طبقة كالغذاء لا يُستغنى عنه، وطبقة كالدواء يُحتاج إليه أحيانًا، وطبقة كالداء لا يُحتاج إليه أبدًا".
وأنت أيها الأخ الحبيب، يا من أنت واحد من هذا المجتمع المسلم، يهمك ما يهمّهم، ويشغلك ما يشغلهم، فتسعد بفرحهم، وتحزن لبؤسهم، كن مع إخوانك من أبناء هذا المجتمع يدًا بيد، لكي تكون القلوب مجتمعة والآراء متحدة، فيحصل النجاح لكل عمل، ويكون التحقيق لكل أمل، وأنت ـ أيها الأخ الكريم ـ قد اندرجتَ تحت سلك هذا المجتمع المتعاون، وقد عُددت فردًا من أفراده وابنًا من أبنائه، لك ما لهم، وعليك ما عليهم، فمجتمعك ما هو إلا قريب أو جار، قد ربط بينهم رابط الدين والنسب والأصهار والأخوة والمروة والجوار، فتجدهم على الخير يحملونك، وعن الشر يردعونك، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]، وأبناء قريتك هم أول من بك يفرحون، وعليك يحزنون، وفيك يواسون، فهم أول من يستقبلونك ويفرحون ويستبشرون بمجيئك إلى هذه الدنيا، وهم أول من لك يودّعون، وعلى فراقك يحزنون، فتغسلك دموعهم، وتحنطك جفونهم، وتحملك قلوبهم، فإذا توفاك الله قاموا بغسلك وتكفينك، وصلوا عليك ودعوا لك بالثبات، وسألوا الله لك الرحمة والجنة، وأن يجمعهم بك في الجنة، فتتذكر وإياهم ذكرياتكم في الأيام الخالية، وأنتم جالسون تحت شجرة طوبى في الجنة، ويحملونك إلى قبرك على رقابهم، كل منهم يسابق ليحمل جنازتك، ويقوم بواجبك، وفي القبر أنزلوك على مهل، واختاروا لك موضعًا طيبًا وسهلا، ثم بالتراب أكرموك وستروك ودفنوك، ورجعوا وقد انخلعت منهم القلوب، وذرفت منهم العيون، وتصدعت منهم الرؤوس، يا لها من أُخوة قوية، ويا له من رباط متين، فهم لك في الشدة والرخاء، وفي السراء والضراء.
إن الرجال إذا ما أُلجئُوا لجؤوا إلى التعاون فيما جل أو حزبا
لا تعدم الهمة الكبرى جوائزها سيان من غلب الأيام أو غُلبا
وكل سعي سيجزي الله ساعيه هيهات يذهب سعي المحسنين هبا
وأنت واحد منا ونحتاج إليك، ليكتمل العقد، فكن عنصرًا فعالا، وصفّ مع الرجال، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4].
ما أنت بالسبب الضعيف وإنما نُجْحُ الأمور بقوة الأسباب
فاليوم حاجتنا إليك وإنما يُدعى الطبيب لشدة الأوصاب
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته. والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فقد روى ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج والطبراني عن ابن عمر وحسنه الألباني أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجه أحبّ إلي من أن أعتكف في المسجد شهرًا، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له ثبت الله قدمه يوم القيامة يوم تزل الأقدام)).
فهذه الأعمال المذكورة في الحديث النبوي الشريف تدلنا على صفقات رابحة، وعلى أثمان بالغة، فحذار من الخسران ومن التفكك والتشتت، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].
واعلموا أن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، وأن الأمة لن تجتمع على ضلالة، وإن لنا في رسول الله أُسوة حسنة وقدوة صالحة، فما كان جناب الرسالة مانعًا له من مشاركته أصحابه وتقديم العون لهم. ومن ذلك مشاركته عليه الصلاة والسلام لهم في حفر الخندق، فكان يحفر وبطنه معصوب بحجر من شدّة الجوع بأبي هو وأمي ، وشاركهم في بناء مسجده بالمدينة، يقول أنس رضي الله عنه: وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي معهم وهو يقول: ((اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة)) رواه البخاري ومسلم والنسائي.
ومن حديثه ما رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي عن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) وشبك بين أصابعه. وكذلك روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه قوله : ((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)). وربنا جل وعلا يأمرنا بقوله: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، ويقول سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ويأمرنا عز وجل فيقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103].
ولنعلم جميعًا أن في التفرق الفشل وفي التفكك الهزيمة وفي التشتت الضعف والخور، وبذلك تنتشر القطيعة وعدم الثقة، وترفع الأمانة، وتحل الخيانة، ويكثر النفاق، وتسوء الأخلاق، ويتناكر الناس، وتقسو قلوبهم على بعض، وتسود بينهم الوحشة، ويزول الأنس.
وإذا نظرت إلى قلوب رجالهِ فانظر حديد الطرف غير كليلهِ
تجد الرجال قلوبها شتى الهوى مد الشقاق بها حِبالةَ غُولهِ
متناكرين لدى الخطوب تناكرًا يعيا لسان الشعر عن تمثيلهِ
فالجار ليس بآمنٍ من جاره والخل ليس بواثقٍ بخليلهِ
إن المريض ليستريح إذا اشتكى مما به لطبيبه وخليلهِ
فكونوا ـ عباد الله ـ إخوانًا متحابين، على الخير متعاونين، بالمعروف آمرين، وعن المنكر ناهين، لتفوزوا في الدارين، وتسعدوا في الحياتين.
فشمروا وانهضوا للأمر وابتدروا من دهركم فرصة ضنت بها الحقب
هذا، وصلوا سلموا على رسولكم الكريم الصادق الأمين.
(1/3163)
القناعة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
إبراهيم بن عبد الله صاحب
جازان
14/1/1425
جامع قرية المجديرة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية موضوع القناعة. 2- غنى النفس. 3- صفات القنوع. 4- ذم الطمع. 5- حكمة الله تعالى في قسم الأرزاق. 6- السبيل لتحقيق القناعة. 7- التفكر في نعم الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها المسلمون، نتكلم اليوم عن موضوع خلقي تربويّ مهم، يهم كل واحد، فهو ركن أساسي من أركان السعادة، ولا يقف بناء السعادة في القلب إلا على هذا العمود. وهذه الصفة الخلقية والسمة التربوية توجد بنسب مختلفة وبمقاييس متعددة عند جميع الناس، لكن السعيد من أكثر من نسبتها في قلبه، وامتلأت بها نفسه، وتشرّبتها جوارحه.
هذه الصفة الخلقية الجميلة الحميدة الحسنة هي القناعة، يقول : ((إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)) رواه مسلم. والمراد بالغنى هو غنى النفس، فهذا هو الغنى المحبوب لقوله عليه الصلاة والسلام: ((ولكن الغنى غنى النفس)) ، قال ابن بطال: "معنى الحديث: ليس حقيقة الغنى كثرة المال؛ لأن كثيرًا ممن وسع الله عليه في المال لا يقنع بما أُوتي، فهو يجتهد في الازدياد ولا يبالي من أين يأتيه، فكأنه فقير لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أوتي وقنع به ورضي ولم يحرص على الازدياد ولا ألح في الطلب، فكأنه غني"، وقال القرطبي: "معنى الحديث: "إن الغنى النافع أو العظيم أو الممدوح هو غنى النفس، وبيانه أنه إذا استغنت نفسه كفت عن المطامع، فعزت وعظمت، وحصل لها من الحظوة والنزاهة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله من يكون فقير النفس لحرصه، فإنه يورطه في رذائل الأمور وخسائس الأفعال، لدناءة همته وبخله، ويكثر من يذمه من الناس، ويصغر قدره عندهم، فيكون أحقر من كل حقير، وأذل من كل ذليل" انتهى كلامه.
والحاصل ـ أيها الأحبة ـ أن المتصف بغنى النفس يكون قانعًا بما رزقه الله، لا يحرص على الازدياد لغير حاجة، ولا يلح في الطلب، ولا يلحف في السؤال، بل يرضى بما قسم الله له، والمتصف بفقر النفس على الضد منه لكونه لا يقنع بما أُعطي، بل هو أبدًا في طلب الازدياد من أي وجه أمكنه، ثم إذا فاته المطلوب حزن وأسف، فكأنه فقير من المال؛ لأنه لم يستغن بما أُعطي، فكأنه ليس بغني. ثم غنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله تعالى والتسليم لأمره، علمًا بأن الذي عند الله خير وأبقى.
يقول عليه الصلاة والسلام: ((قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنعه الله بما آتاه)) رواه مسلم وأحمد والترمذي والبيهقي والحاكم وابن حبان.
هي القناعة فالزمها تعش ملكًا لو لم يكن لك إلا راحة البدن
فأين من ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن
فإذا أردت أن تكن مساويًا بل أفضل حالاً ممن ملك الدنيا بمالها ونسائها وولدانها وذهبها وجواهرها وزخرفها ولهوها فما عليك إلا أن تكون قانعًا بما أعطاك الله، وذا قلب شاكر.
إذا ما كنت ذا قلب قنوعٍ فأنت ومالك الدنيا سواءُ
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لو قنع كل امرئٍ بما قُدر له لأصبحت الدنيا خرابا)، ويقول فرانكلين: "القناعة تجعل الفقراء أغنياء، والطمع يجعل الأغنياء فقراء".
وقد وصف لله تعالى المنافقين بعدم القناعة والطمع والجشع وجعلها من سماتهم فقال: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة:59]. وكان ابن عباس يقول: احفظوا هذا الحديث وكان يرفعه إلى النبي وكان يدعو به بين الركنين: ((رب، قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كل غائبة لي بخير)) رواه ابن خزيمة في صحيحه. وعن ابن عباس قال في قوله تعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97] قال: (القنوع)، قال: وكان رسول الله يدعو يقول: ((اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كل غائبة لي بخير)) رواه الحاكم وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
والنفس دائمًا إذا ربيتها على الأخذ وعدم العطاء وعلى البخل وعدم البذل وعلى الرغبة في كل شيء والطمع والجشع وعدم القناعة والزهد والعفاف فإنها تتعود على ذلك، وتتربى عليه، ولا تبالي من أين أكلت أمن حلال أمن حرام، ولا من أين بطشت أمن طيب أم من خبيث، لكنك إذا ربيتها على القناعة والرضا بالقليل وبما قسمه لك العظيم الجليل فإنها ترضى بذلك، وتقنع بحالك، وتبتعد عن طريق الشر والمهالك.
والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا تُرد إلى قليل تقنع
واعلم ـ أيها المسلم ـ أن ما أعطاك الله هو خير لك، فقد يعطيك الله مالاً فيطغيك، قال تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى:27]. وقد أراد الله سبحانه وتعالى بحكمته البالغة وعلمه النافذ أن يفضل بعض الناس على بعض في الأموال والأولاد والمساكن والأراضي والبساتين والصحة والعافية والقوة والعقل والذكاء والحكمة واللسان والبيان والمراكب والمناصب، إلى غير ذلك مما فضل الله به بعض الناس على بعض، وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [النحل:71]. ولا يقدر أحد من الناس أن يغيّر حياته، وأن يزيد أو ينقص في رزقه أو عمره، فكل ذلك مسجل عند الله تعالى بمقدار، وقد قدره علينا الكبير المتعال، قال تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سبأ:36].
والقناعة لا تحد من الطموح والنجاح، ولا تسدّ الآفاق، ولا تحبسك عما كان لك من أبعاد، ولا تقيدك عن العلوم النافعة، ولا توقفك عن اهتماماتك، بل تعينك على كل حياتك.
إذا غامرت في شرف مرومٍ فلا تقنع بما دون النجوم
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على خير رسله وأنبيائه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه إلى يوم الدين.
وبعد: يقول ابن عبد ربه عن القناعة: إذا طلبت العز فاطلبه بالطاعة، وإذا أردت الغنى فاطلبه بالقناعة، فمن أطاع الله عزّ نصره، ومن لزم القناعة زال فقره. وفي القناعة تقول العرب: من يشتري الخبز بالدين يرحم، ومن يشتري الكماليات بالدين يرجم.
وتقول العرب أيضًا: العبد حر إذا قنع، والحر عبد إذا طمع. ويقول المثل الإنجليزي: القناعة هي الاكتفاء بالموجود، وترك الشوق إلى المفقود.
وتكون القناعة بشيء من الزهد في الحياة، وقد كانت العرب تحبّ القليل وتقنع به، ولا تطمع في الشيء الكثير، فها هي ميسون بنت بحدل الكلبيّة أم يزيد بن معاوية تنفر من قصور معاوية بن أبي سفيان ومن مظاهر الأبّهة فيها، وتحنّ إلى مسقط رأسها في البادية، وتنشد قائلة:
لبيت تخفق الأرواح فيه أحبّ إليّ من قصر منيف
ولبس عباءة وتقرّ عيني أحبّ إليّ من لبس الشفوف
وأكل كسيرة في كسر بيتي أحبّ إليّ من أكل الرغيف
وكلب ينبح الطراق دوني أحبّ إليّ من قط ألوف
وأصوات الرياح بكل فجّ أحبّ إليّ من نقر الدفوف
وخرق من بني عمي نحيف أحبّ إليّ من علج عليف
خشونة عيشتي في البدو أشهى إلى نفسي من العيش الظريف
فلما سمع معاوية الأبيات قال لها: ما رضيت ـ يا ابنة بحدل ـ حتى جعلتني علجًا عليفا، وقال لها: كنت فبنت، فقالت: لا والله، ما سررنا إذا كنا، ولا أسفنا إذا بنّا.
أيها الأخ المسلم، كن من المؤمنين الذين يعملون الصالحات لتحيى حياة طيبة، كما أخبر بذلك سبحانه وتعالى، وكما رسمه لنا عز وجل، وارض بما قضى الله عليك ولا تجزع.
دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفسًا إذا حكم القضاء
ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء
وبذلك سوف ترمي عنك بالهموم، وتبتعد عنك الغموم، ولن تبقى من الحزن مكظوم، وسوف يذهب عنك الباس، وينزل بك السرور والإيناس، ويهرب منك الشيطان الذي يسقي الناس حميم الأحزان، فأنت بعد ذلك رجل رشيدا، وصاحب عقل ورأي سديد، صرف الله عني وعنك العذاب الشديد.
وعليك ـ أيها المسلم ـ بقراءة القرآن؛ فإنه يذهب الأحزان، ويطرد الوحشة عن الإنسان.
ثم اعلم وافهم لكي تقنع وتسلم، أن من أعظم الأمور في جلب السرور الرضا بالمقدور واجتناب المحذور، فلا تأسف على ما قد فات، فإنه قد مات، واترك المستقبل حتى يُقبل، ولا تهتم بكلام الحساد، فلا يحسَد إلا من ساد، وعليك بالأذكار، فبها تحفظ الأعمار، وتدفع الأشرار، وهي أُنس الأبرار، وبهجة الأخيار، وعليك بالقناعة، فإنها أربح بضاعة، واملأ قلبك بالصدق، واشغل نفسك بالحق، وإلا شغلتك بالباطل، وأصبحت كالعاطل، وفكر في نعم الله عليك، وكيف ساقها إليك، من صحة في بدن، وأمن في وطن، وراحة في سكن، ومواهب وفِطن، مع ما صرف من المحن، وسلّم من الفتن، واسأل نفسك في النعم التي بين يديك: هل تريد كنوز الدنيا بدلاً عن عينيك؟ وأموال قارون بدلاً من يديك؟ أو الأراضي والقصور بدلاً من رجليك؟ أو الحدائق الغناء بدلاً من أُذنيك؟ أو هل تشتري ملك الملوك بأنفك ولسانك وفمك؟ كيف لا تقنع ومعك نعمة الإسلام، ومعرفة بالحلال والحرام، وطاعة للملك العلام؟! ثم قد أعطاك الله مالاً ممدودا، وبنين شهودا، ومهد لك في العمر تمهيدا، وقد كنت أنا وإياك في بطن الأم وحيدا فريدا، واذكر نعمة الغذاء والماء والهواء والدواء والكساء والظلام والضياء، ولا ننسى الهاتف والكهرباء ونعمة الهناء مع صرف البلاء ودفع الشقاء والتخفيف واللطف في القضاء والابتلاء.
ماء وخبز وظل ذاك النعيم الأجل كفرت نعمة ربي إن قلت: إني مقل
فاحمد ربك على العافية والعيشة الكافية والساعة الصافية، فكم في الأرض من وحيد وطريد وشريد وفقيد، وكم من رجل قد غلِب، ومَن ماله سلب، وملكه قد نهب، وكم من مسجون ومغبون ومديون ومفتون ومجنون، وكم من سقيم وعقيم ويتيم، ومن يلازمه الغريم والمرض الأليم. واعلم بأنّ للهمِّ مفتاحًا وهو السرور، وللذنب رب غفور.
أيها الأحبة الكرام، لو أن العالم كلَّه عاش في قناعة لما كان التجسس ولا التحسس، ولما كان الحسد ولا الكمد، ولا السرقة ولا القتل ولا أيّ جريمة إلا ما شاء الله تعالى، ولكن نقْص هذا الخلق ولّد الكثير من الأضغان والشحناء والكبرياء.
رغيف خبز يابس تأكله في عافية وكوز ماء بارد تشربه من صافية
وغرفة ضيقة نفسك فيها راضية ومصحف تدرسه مستندًا لسارية
خير من السكنى بأبراج القصور العالية وبعد قصر شاهقٍ تُصلى بنار حامية
أيها المسلمون، صلوا وسلموا على سيدنا وحبيبنا وقرة أعيننا محمد.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعنا معهم برحمتك وكرمك وجودك وعطائك وسخائك يا رب العالمين.
(1/3164)
الإرهاب الذي حدث في الرياض وقتل فيه رجال الأمن
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
26/2/1425
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التفكر في الأحداث. 2- النابتة النشاز. 3- جرائم التفجير والتخريب. 4- براءة الإسلام من الأعمال التخريبية. 5- الموقف الشرعي من العمليات التخريبية. 6- مقصد حفظ النفس. 7- أهمية مطلب الأمن. 8- استهداف الأعداء بلاد الحرمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ التقوى خير لباس، وأزكى ذُخر عند الشدائد والباس، وأفضل عُدّة وزاد، يبلّغ إلى جنان ورضوان ربّ العِباد، تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].
أيّها المسلمون، عند حلول حدَثٍ أيِّ حدَث يتساءل الناسُ بعامّتهم في سكرةٍ: ماذا حدث؟ ولماذا حدث؟ وكيف حدَث؟ وبعد مُضيِّ الحدَث يتساءل العقلاء والحكماء ويتنادى الغيورون والنبلاء: وماذا بعدَ الحدَث؟ في تفكّرٍ ومحاسبات ومعالجَة ومراجعات وتحليل ومتابعاتٍ وأبحاث ودراسات، تربِط النتائجَ بالمقدّمات، وتصل الأسباب بالمسبَّبات، لا سيّما في ما يمسّ دينَ الأمّة وأمنَ المجتمعات، وما يعكِّر استقرارَ الشعوب والبيئات، وما يعوق بناءَ الأمجاد وإشادة الحضارات، ويعبث بالمكتسبات والمقدَّرات، تشخيصًا محكَمًا للدّاء، ووصفًا ناجعًا للدّواء.
معاشرَ المسلمين، لا يفتَأ المتأمِّل في أدواء أمّتنا وعِللها المزمِنة أن يرى في بيداءِ الأحزان أشباحَ الأوهام تتقافز في أضواء بواطلِ الأحلام، فإذا ما دنَا منها وقف على فِئةٍ نشاز سَمجةِ الفكر صفيقةِ الروح ضيِّقة العطَن ضعيفة الرّأي عميقةِ العُقَد والنّزوات، أُرخِصت لدَيها الأعمار، فقامت بسَفك الدّماء وقتل الأبرياء وجلبِ الدمار وإلحاق العار والشنار وخراب الأوطان والإساءة إلى خُلاصة الشرائع والأديان. ولا يكادُ عجبُ الغيور يأخذ بالأفول من ضلالِ تلك العقول التي اتَّخذت وراءها ظهريًّا المعقولَ والمنقول فيتساءل بأسًى: ما بال هؤلاء يرتكِسون في حمأة الجهل الوبيل، ولا يصيخون إلى النّداء العلويّ الجليل الذي عظَّم حرمةَ الإنسان، ونأى به عن مساقِط الغلوّ والإجرام؟! ما لهؤلاء القوم قد افترستهم أفكارُ الضّلال واستقطبتهم موجاتُ الوبال؟! أذلك ناتجٌ عن عمَى الفكر والبصيرة، أم ضحالةِ العلم والتربية، أم سطحيّة الوعي والمعرفة، أم زيف شعاراتٍ وشرور، أم جهل ونزَق وغرور وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا، أم نتيجة لتراكمات نفسيّة وضغوطٍ اجتماعيّة، أم ماذا؟!
إخوةَ الإيمان، وعلى تلك السلالة ينبعِث صوتٌ مصدَّرٌ بأنّاتِ الأمّة ومسطَّرٌ بآلامها ومذيّلٌ بتوقيعِها المخضّب بالدّماء، وينطلق قولٌ يفور من أعماقِها المحزونة ويتصاعد من أنفاسِها المكلومة غداةَ يومِ الفاجعة النّكراء والجريمة الشّنعاء التي حلَّت بعاصمة المجدِ والشّموخ وحاضرة التوحيد والتأريخ، عاصمةِ بلاد الحرمين الشريفين، رياضِنا النّضرة، رياضِ العقيدة والسّلام، وربوعِ الأمن والأمان، ونجدِ المحبّة والإخاء، ورمزِ الحضارة والإباء: هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان؟!
تتوالى حلقاتُ سلسلةٍ من الأحداثِ في بلادِ الحرمَين الشّريفين، يذهَل المسلم لها ويتملَّكه العَجَب، بَل ويحَار القلم وتَعجز الكلماتُ مِن هول ما يَرى ويسمع. إنَّ ما حدث في والرياض من حوادثَ مؤلمةٍ قام بها فئة ضالة خونة أُشربوا في قلوبهم الحِقدَ وأوضَعوا في العدوان، ساءَهم تتابُع هذه النعم وترادفُ هذا الخير وتعاقبُ هذا الإكرام، فشَمَّروا عن سواعِد الإثم، واتَّبعوا خطواتِ الشيطان، فكان عاقبةَ ذلك هذه الجريمةُ الكبرى التي اقترفتها أيديهم على بِطاح مكّة بلدِ الله الحرام، وإذا هي حلقةٌ إجراميّة جديدة لحِقت بسابقاتِها التي سلفت في الرّياض وفي المدينة وفي حائِل لتكَوِّن مجتمعةً عملا إرهابيًّا آثمًا يأباه الله ورسوله وصالحُو المؤمنين في هذه البلاد وفي كلِّ الدّيار وفي جميع الأمصار؛ إذ كيفَ يكون أمرًا مقبولا ما وقعَ في بلدِ الله الحرام عشيَّة يوم السّبت من إقدام فئة ضالّةٍ عن سواء السّبيل على إطلاق النّار صوبَ عبادِ الله المؤمنين من رجال الأمنِ الذين كانوا يؤدّون ما وجبَ عليهم من إحباطِ المسعى الإجراميّ لهذه الفئةِ التي اتَّخذت من أحدِ المساكن في هذا البلد وكرًا لتصنيع وتجميع وإخفاءِ أسلحةِ القتل وأدواتِ التخريب والدّمار ـ أيّها الإخوة ـ مؤمنٍ صادق يحذَر الآخرةَ ويرجو رحمة ربِّه؟! وهل يقبل بهذا كلُّ من له بقيّةٌ من عقل أو صُبابة من فِكر أو أثارة من عِلم؟! فضلا عن أن يُجيزه أو يحرِّض عليه أو يقرَّ به أو يُسَرَّ به، ثمّ أوَليس هؤلاء الرّجال الذين أُطلِقت عليهم هذه النّيران فقضَوا نحبَهم مِن رجال الأمن وجُرح منهم ومِن غيرهم، أوَليس هؤلاء بمسلِمين؟!
وهذا العملُ خيانة وغَدر، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107]، وترويعٌ للآمنين. إنّ هذا الإجرامَ تحاربه مناهجُ التعليم لدَينا، ويحاربه علماء هذه البلاد، ويحاربه أئمّة الحرمين الشّريفين، ويحاربه مجتمعُنا ككلّ. والمناهجُ الدينيّة لدينا مبنيَّة على قولِ الله الحقّ، وعلى قول رسول الله الحقّ، والحقّ خيرٌ كلّه للبشرية، ولا يترتّب عليه باطل، وإذا شذَّ في الفكر شاذّ فشذوذه على نفسه كما هي القاعدة في الإسلام، قال الله تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، وقال تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ [النساء:111]، وهل يُلقى باللّوم على النحل كلِّه إذا جنت أعدادٌ منه ثمرةً سامّة.
وولاة أمر هذه البلادِ بالمرصاد لمن يَسعى بالقتل والتّدمير أو الإفساد الذي يستهدِف الأمنَ، انطلاقًا ممّا توجبه الشريعة الإسلاميّة من الحفاظ على دماءِ الناس وأموالهم وحقوقِهم، ينفِّذون فيه ما تحكم به الشريعة.
إنَّ الموْقفَ المبْدئيَّ الشَّرْعِيَ الصَّريحَ يجب أن يكون قدْرًا مشْتركًا لدى جميع المؤمنين وجميع العقلاءِ برفْض هذا العمل وتحْريمهِ وإدانتهِ شَرْعًا، فالشريعةُ جاءت بحفْظِ الأمْن وحفْظِ الدِّمَاءِ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ)) رواه مسلم، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ)) الترمذي والنسائي، وَقَالَ : ((لاَ يَزَالُ العَبْدُ فِي فُسْحَةٍ فِي دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)). فدم المسلم حرامٌ، وماله حرامٌ، وعرْضه حرامٌ، وقد صان الإسلامُ الدِّماءَ والأمْوَالَ والأَعْرَاضَ، ولا يجوز استحلالُها إلا فيما أحلَّه اللهُ فيه وأباحهُ، قَالَ : ((كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ)). وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: (مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ) رواه الترمذي. وقَتْلُ المسلم بغيْر حَقٍّ من كبائر الذُّنُوبِ، والقاتلُ معرَّضٌ للوعيدِ، وقد نهى اللهُ سبْحانهُ وتعالى عن قتْلِ النَّفْسِ بغير حَقٍّ فقال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الأنعام:151].
وحفاظًا على النَّفْس المسْلمةِ البريئةِ من إزْهاقِها وقتْلِها بغيْر حَقٍّ نهى رسولُ اللهِ عنِ الإشارةِ إلى مسلم بسلاحٍ ولو كان مزاحًا سَدًا للذَّريعةِ، وحَسْمًا لمادَّةِ الشَّرِّ التي قد تُفْضي إلى القتْل، فعن أبي هُرَيْرَةَ أن رسولَ اللهِ قالَ: ((لا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلاحِ، فَإِنَّهُ لا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ)) البخاري، وفي رواية لمسلم قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ : ((مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَدَعَهُ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ)).
فإذا كان مجرَّدُ الإشارة إلى مسلم بالسِّلاح نهى عنْه رسولُ الله وحذَّر منْه ولو كان المشيرُ بالسِّلاح مازحًا، ولو كان يمازح أخاه من أبيه وأمِّه، لأنه قد يقع المحذورُ، فكيْف بمنْ يزْرعُ القنابلَ والمتفجِّراتِ، فيستهْدفُ الأرْواحَ المسلمةَ البريئةَ، فيقْتُلُ العشراتِ ويجْرحُ المئاتِ ويروِّعُ الآلافَ من المسلمينَ؟! كيْف بمنْ يقتُلُ الصَّغيرَ والمرْأةَ والشَّيْخَ العجوزَ من غيْر جريرةٍ اقْترفوها؟!
إنَّ مَنْ فعلَ ذلكَ كان معرَّضًا لأشدِّ العذابِ والعقابِ والوعيدِ قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].
ومن أجْلِ ذلك فإنَّ كُلَّ عملٍ تخْريبيٍ يسْتهدف الآمِنين مخالفٌ لأحكام شريعةِ ربِّ العالمين، والَّتِي جاءتْ بعصْمةِ دماءِ المسْلمين والمعاهَدِين.
العُنْفُ لا يَحْمِلُ مشْروعًا غَيْرَ التَّخْريبِ والإفْسادِ. العُنْفُ يورِّثُ عَكْسَ مقْصودِ أصْحابهِ، فَالمشاعرُ والعقولُ كلُّها تلْتقِي على اسْتنْكارهِ ورفْضهِ والبراءةِ منْه ومن أصْحابهِ، ومن ثَمَّ فإنَّه يبْقى علامةَ شُذوذٍ ودليلَ انْفرادٍ وانْعزاليةٍ.
إِنَّ نَشْرَ الرُّعْبِ والتَّرْويع في أوْساطِ المجتمعِ يعدُّ فسادًا عظيمًا، ولذا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ أَنَّهُ قَالَ: ((لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا)) رواه أبو داود.
فالأمْنُ مطْلبٌ شرْعيٌّ، ومِنَّةٌ إِلَهيةٌ، ونفْحةٌ ربَّانيةٌ، امْتَنَّ اللهُ به على عبادهِ في مواضعَ كثيرةٍ من كتابهِ كما قال سبحانه: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3، 4].
والمحافظةُ على الأَمْنِ مسؤوليةُ الجميع حُكَّامًا ومحكومينَ، رجالاً ونساءً، كبارًا وصغارًا، والأَمْنُ ليس هو أَمْنُ الأجْسام فحسْب، بل هو أمْنُ العقولِ والأبدان، وسدُّ منافذِ الشرِّ، وأعْظم سببٍ لحفْظِ الأَمْنِ هو الإيمانُ باللهِ وتطْبيقُ شرْعه والاحْتكامُ إلى كتابهِ وسُنَّةِ رسولهِ وتنْقيةُ المجْتمع مما يضادُّه، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
في ظلِّ الأَمْنِ تُعْمَرُ المساجدُ وتقامُ الصَّلواتُ، وتُحْفظ الأعْراضُ والأمْوالُ، وتُأْمَنُ السُّبُلُ، ويُنْشَرُ الخيْر، ويعمُّ الرَّخَاءُ، وتُنْشَرُ الدَّعْوَةُ، وإذا اخْتَلَّ الأَمْنُ كانتِ الفوْضى.
فلْنكنْ كلُّنا جنودًا في حفْظ الأَمْنِ، أَمْنِ العقولِ والقلوبِ، وَأَمْنِ الأجْسادِ والأعْراضِ، ولتحْقيق ذلك لا بدَّ أن نبْدأ في تطْبيق شرْع اللهِ في أنْفُسِنَا وفي بيوتِنا ومجْتمعِنا.
أيّها الناس، إنّ أمنَ بلدِكم واجبٌ على الجميع، ويجب شرعًا على من علِم أحدًا يُعِدّ لأعمالٍ تخريبيّة أن يرفَع أمرَه للسلطات لكفِّ شرِّه عن الناس، ولا يجوز التستُّر عليه.
حفِظ الله على هذه البلاد دينَها وأمنَها، وردَّ عنها كيدَ الكائدين وحِقد الحاقدين، وزادها تمسُّكًا واجتماعًا وألفةً واتِّحادًا.
ألا فلتسلمي يا أرضَ الحرمين الشريفين، ولتهنئي يا موئِلَ العقيدة ومأرز الإيمان، فلقد أثبتِّ بفضلِ الله الخروجَ من الأزمات أكثرَ تماسُكًا وأشدّ تلاحمًا بحمد الله، ولتبقَي بإذن الله على مرّ الدهور وكرّ العصور شامةً في دنيا الواقع وأنموذجًا يحتَذَى ومَثلاً يُقتفى في الأمن والإيمان، وشاهَت وجوه الأعداء المتربّصين، وخسِئت أعمال المعتدِين المفسِدين المجرمين، وردّ الله كيدَ الكائدين إلى نحورهم، وحفِظ اللهَ بلادَنا وسائر بلاد المسلمين من شرّ الأشرار وكيد الفجّار، إنّه خير مسؤول وأكرمُ مأمول.
أقول قولي هذا، وأسأل المولى جلّ وعلا أن يغفرَ لي ولكم فضلاً منه وجودًا ومنًّا، لا باكتسابٍ منّا، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّ ربّي لغفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الواحدِ القهّار، وعد المتّقين جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار، وأوعد الزائغين عن شريعته عذابَ السعير وبئس القرار، وشكرًا لك اللهمَّ أن خيّبتَ آمال من أرادوا سوءًا بأهل هذه الديار، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها حطّ الخطايا والأوزار، وأشهد أن نبيّنا محمدًا عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المخصوصين بالتوقير والإكبار، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقبَ غروبٌ وإسفار.
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، فكلّ عَمل بالتّقوى يزكو ويرقى، وعليكم بالجماعة؛ فإنّ يدَ الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
أيها المسلمون، إنَّ العالمَ الإسلاميّ مستهدف، وهذه البلاد خاصّة مستهدفةٌ في دينها وأمنِها ووحدتها وخيراتها، والواجبُ علينا تفويت الفرصة على المتربّصين، والمحافظةُ على مكتسَبات الدّعوة والوطن، والتعاملُ مع الأحداث بالشّرع والعقل، ولا بدَّ من تماسكِ الصّفّ، مع وضعِ أيدينا في أيدي ولاةِ أمرنا وعلمائنا، مع بذل النّصح لهم جميعًا بالحكمَة والموعظة الحسنة.
إنَّ هذه البلادَ قامت على أسُسٍ راسخة ومبادئَ ثابتة ومنهج إسلاميّ، ومَن يرومُ تقويضَه أو زعزعتَه بمسالك العنف والتّفجير أو الاصطياد في الماء العكِر أو التذويب أو التمييع أو النيل من دعاةِ البلاد أو حلقات التّحفيظ أو محاضِن الدعوةِ فلن يبلغَ أحدٌ منه مرادَه، فبلاد الحرمَين كيان راسخٌ في بنيانِه، متماسِك في وَحدته، متراصّ في صفوفه، تتكسّر دونه مسالك الانحراف والتصرّفاتُ اللامسؤولة، ولن تبلغَ هذه الفئة أو غيرُها النيلَ من ثوابتنا وأمنِنا وقيَمنا ومناهجنا وهيئاتِ المعروف ومحاضنِ الدّعوة لدينا.
إنَّ هذه البلادَ تمثّل مركزَ الثقل وإشعاع الخير في العالم، وستبقى كذلك بإذن الله، والمروّجون للفساد والإفساد وطمس معالم التميُّز في التربية والتعليم يدمّرون الأمّة ويضربونها في عُقر دارها، وستعود أعمالهم وبالا عليهم، يجرّون أذيالَ الخيبة والهزيمة.
قال الله تعالى: وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص:57].
ألا وصلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على الهادي البشير والسراج المنير، سيِّد الأوّلين والآخرين ورحمة الله للعالمين، الرحمةِ المهداة والنعمة المسداة، نبيّكم محمد بن عبد الله، كما أمركم ربّكم جلّ في علاه، فقال تعالى في أصدق قيله ومحكمِ تنزيله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على النبيّ المصطفى والرسول المجتبى والحبيبِ المرتضى نبيّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(1/3165)
العناية بالشباب وتحذيرهم من الأفكار المنحرفة
الأسرة والمجتمع
الأبناء, قضايا الأسرة
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فطرة الله تعالى. 2- عقولُ الشباب هدفٌ لأعداء المسلمين. 3- تحصين الشباب بالعلم. 4- البعدُ عن مواطن الفتَن والشّبهات والشهوات. 5- لزوم الكتابِ والسنّة. 6- العناية بالمناهج الدراسية. 7- أهمية الإعلام في توجيه الشباب. 8- ربط الشباب بالقرآن الكريم. 9- خطورة الفراغ. 10- خطورة الفجوة بين الوالد والولد. 11- أهمية الجليس. 12- عرض الشبهات على العلماء. 13- أهمية الأسرة. 14- أسس الأسرة المسلمة. 15- العناية بقضايا الشباب. 16- تحذير الشباب من مسالك الغلو.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، فتقوى الله نِعم الأمل، والإعراض عنها بِئس العمل.
أيّها المسلمون، لقد خلق الله عبادَه على الفطرة السليمة السويَّة، وبعث الرسلَ لتقريرها وتكميلها، والناشئةُ في بكور حياتِها ديوانٌ مفتوح وسجلّ ناصع، تتلقَّى ما يرد عليها من حقٍّ أو باطل، أرضٌ تُنبِت أيَّ غراس من صحيح العقائد وفاسدِها، ومن مكارم الأخلاق ومساوئها، ((كلُّ مولود يولَد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه)).
وعقولُ الشباب هدفٌ لأعداء المسلمين الذين تنوّعت وسائلهم ليوقِعوا الشبابَ في شَرَكهم، وليزجُّوا بهم في وَحل الفتن تارة، ويلقوا عليهم الشبهاتِ تارةً أخرى، ليردّوهم ويورِدوهم مستنقعَ الهوى والشّهوات، ويغرِقوهم في الملهيات والمحرّمات، ولا أنفعَ بإذن الله للشباب من التحصُّن بعلم الشريعة، يزيدُ الإيمان، وينير البصيرةَ، ويهذِّب النفس، ويرفع عن دنيء الأفعال، طالبُه منظومٌ في سِلك العظماء، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، سلوكُه توفيقٌ للخلود في الجِنان، والخلق عنهم راضون، ولصنيعهم مستغفِرون، والملائكة لمجالسةِ أهله راغبون.
ومِن تعظيم الشريعة والدّين تعظيمُ العلماء، فهم خلَف أنبياء الله في دعوتِهم، قال عليه الصلاة والسلام: ((وإنَّ العلماءَ ورثة الأنبياء)) رواه أحمد. حقٌّ علينا تبجيلُهم وتوقيرهم، وعلى هذا سارَ أسلاف هذا الدين، يقول الربيع بن سليمان: "ما اجترأتُ أن أشربَ الماء والشافعيّ ينظر إليَّ هيبةً له". سؤالُهم عِلم، ومجالستهم سعادة، ومخالطتهم تقويمٌ للسّلوك، وملازمتُهم حفظٌ للشباب بإذن الله من الزّلل، يقول ميمون بن مهران: "وجدتُ صلاحَ قلبي في مجالسة العلماء".
ثمرةُ مجالسة العلماء ليست في التزوّد من العلوم والمعارف فحسب، بل الاقتداء بهم في الهدي والسّمت وعلوّ الهمّة ونفع الآخرين، علمٌ آخر نحتاج إليه، وبُعد ناشئة المسلمين عنهم يؤدِّي إلى تخبُّطٍ في طلب العِلم وإعجابٍ بالرّأي وقلّة في التعبّد.
وواجبٌ على الشباب البعدُ عن مواطن الفتَن والشّبهات والشهوات، ونبيُّنا محمّد تعوَّذ من الفتن، وأمر أصحابَه بالتعوّذ منها، ومن مدَّ عينيه إلى الفتن وأرخى سمعَه لها وقع فيها، يقول عليه الصلاة والسلام عن الفتن: ((ومن استشرف إليها ـ أي: تطلَّع إليها ـ أخذته)) رواه البخاري.
والإسلامُ الحنيف جاء بلزوم النورَين: الكتابِ والسنّة، ونهى عن ضدِّهما ممَّا يورث القلبَ الفساد، والشبهةُ إذا وردت على القلب ثقُل استئصالُها، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وإذا تعرَّض العبد بنفسه إلى البلاء وكَله الله إلى نفسه".
والتقصيرُ في أداء الواجبات والوقوع في المحرّمات وتشبُّث الناشئ بالفضائيّات ولهثُه وراءَ المنكرات بوَّابةُ فسادٍ للأخلاق ودنَس السلوك ومرتَعٌ للأفكار المنحرفة، والقلبُ إذا أظلم بكثرة المعاصي ثقُل عليه أداء المعروف، وسهُل عليه قبول المنكَر.
وتشكيكُ الناشئةِ في المناهج الدّراسيّة يُضعِف همَّتهم في التحصيل وأخذِ المعارف منها، ومتغيِّرات الزمان وتوالي الحوادِث وتعاقُب الأحداث وحلول الفِتن يُحتِّم تكثيفَ المناهج الدينيّة والتوسُّع فيها والبسطَ في شرحها وتسهيل فهومِها للناشئة، مع عدم إثقال كاهلِ الطّلاب بكثرة المواد غيرِ الدينيّة التي يغني بعضُها عن بعض، فالحاجة مُلحَّة إلى أمور الشريعة.
وبهذه المناهج المرتكزة على الدّين والعمل بالعلم أصبحت هذه البلاد بحمد الله تزخَر بالعلماء الذين يفهَمون أحكامَ الشريعة، ويُرجَع إليهم في الفتوى والمسألة، واكتسَبوا الثقةَ والتبجيلَ في التوجيه والإرشاد والدّعوة، وبفضلٍ من الله استوزَر ممَّن درس هذه المناهجَ الوزراء الناصحون، وبرع المستشارون المؤتمَنون، وتأدَّب الأدباء المثقَّفون، وبرز الصحفيّون الإعلاميّون، ونبغ الأطبَّاء الحاذقون، وتألّق الاقتصاديّون العارفون، وتخرّج منها مَن أسهَم في بناء وتنميَة الحضارة ومقوّمات الحياة في المجتمعات، ومِن الوفاء الثناءُ على المناهِج التي كان ثمرةَ علومها.
أيّها المسلمون، الإعلام نافذة واسعةٌ على المجتمع، والشّباب بحاجةٍ إلى نصيبٍ وافر منه في التوجيه والإرشاد وفي النّصح والفتوى، والتعرّض للدين المتين باللّمز أو لأهله بالسّخريّة والغَمز يوغِر الصدورَ ويؤجِّج المكامن، والثناءُ على الناشِئة واحتواؤهم وتوجيههم طريقٌ قويم يُسلَك حمايةً للشّباب لئلا يتَلقَّفهم الأعداء بحلاوة اللسان وحُسن البيان.
والقرآن العظيم كلام ربِّ العالمين، بتِلاوته تتنزّل السكينة، وبتدبُّره يزيد الإيمان، نورٌ يُبدِّد الظلمات، قال سبحانه: قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [المائدة:15]. وانتشار حلقات القرآن الكريم في بيوتِ الله في هذه البلاد ورعايةُ ولاة الأمور لها أمرٌ يدعو إلى الفخر والاعتزاز، ولقد صان الله بها كثيرًا من الناشئة عن الانحراف، وحفِظ الله بها الدين، كَم انتفع بها من يتيم، وكم أسدَت للناشئة من معروف، وكم أوصدَت من أبواب الشرور، وكم وسَّعت من مدارِك، وكم فتحَت من آفاق، والقرآن الكريم أصلُ العلوم وأسُّها، ومنه تُؤخَذ الآداب والأخلاق. وتوجيهُ الآباء أبناءَهم لحفظ كتاب الله حفظٌ لهم من الشرور والفتن، وحصنٌ من توغُّل الأفكار المنحرفة إلى عقولهم.
والفراغ عامِل من عوامل الانحرافِ الفكريّ والسلوكيّ والأخلاقيّ، كما أنَّ الملهيات الحضاريّةَ المحظورة والمحطّات الفضائيّة لها قِسط مظلمٌ في انحراف الأفكار وتلويث المعتقدات وتسميم العقول من المتربِّصين بالشباب، والأبُ الحاذق من يمنع دخولَ تلك المحطّات والملهيات إلى داره قبل أن تذرف منه دمعة الحزن والأسى، وقبل أن يُفجَع بخبر فاجع.
أيّها المسلمون، الفجوةُ بين الوالد والولد عامِل من عوامل حَجب الابن عن إظهار مكنون صدره لوالدِه، فيبوح بما في سريرته إلى غير والده ممَّن قد لا يُحسن التربيةَ والتوجيه، ولا يحمِل له المودَّة والشفقة، وقربُ الأب من أبنائه والتبسُّط معهم في الحديث ومبادلة الرأيِ من غير إخلالٍ باحترام الوالدين سلامةٌ للأبناء وطمأنينة للآباء وقاعدةٌ في تأسيس برّ الوالدين.
والجليس سببٌ في الإصلاح أو الإفساد، ورُسُل الله عليهم الصلاة والسلام عظَّموا شأنَه، فنبيّ الله عيسى عليه السلام يقول: من أنصاري إلى الله؟ ونبيّنا محمّد اتّخذ له صاحبًا مُعِينًا له على طريق الدعوة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لو كنتُ متَّخِذًا من أمّتي خليلا لاتَّخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخي وصاحبي)) ، وعائشة رضي الله عنها تقول: لم أعقِل إلا وأبويَّ يدينان الدين، وكان النبيّ يأتينا وهو بمكّة أوّلَ النّهار وآخره.
الجليس الصّالح يهديك للخير، يذكِّرك إذا نسيت، ويحضُّك إذا غفَلتَ، يُظهر ودَّك إذا حضرت، ويحفظُك إذا غِبت. ورفيقُ السّوء يجري خلفَ ملذاتِه وأهوائه، وإذا انقضت حاجتُه منك نبَذك، من كلّ شرٍّ يدنيك، وعن كلّ خير ينأى بك، على أمور الدنيا لا يُؤمَن، وفي الآخرة تندَم على مصاحبتِه، قال جلّ وعلا: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً [الفرقان:27، 28]، فجالِس الصالحين واشرُف بصحبتِهم، وابتعِد عن مصاحبة من يسوؤك في دينك ودنياك.
أيّها الشابّ المسلم، ربّما عرضَت لك شبهة، أو زيّن لك أحدٌ أمرًا وحسّن لك رأيًا، فيا أخي الشابّ المسلم اتّق الله، وإيّاك أن تقبَل كلَّ ما أدلِي إليك، وإيّاك أن تغترَّ بمن تظنّه ناصحًا والله يشهد إنّهم لكاذبون. اتّصِل بعلمائك وعلماءِ أمّتك لتجدَ عندَهم كشفًا لشبهتك، وإزالةً للبس العارض لك. إن يكن عندك شبهةٌ أو اضطراب في أمر فإيّاك أن تقبلَ من أناسٍ لا ثقة في دينهم، ولا ثقةَ في علمهم وتصوّرهم. اتَّق الله في ذلك، فاعرِض كلّ الشبَه على علماء أمّتك، فإنّ علماءَ أمّتك هم حريصون على تبيين الحقّ وكشفِ كلّ لبس حصل عندك حتى تكونَ في أمورك على المنهج القويم. ولا تنخدعْ بنفسك، ولا تسئ الظنَّ بعلماء أمّتك، ولا تقل كما يقول المتطاولون والكاذبون: أولئك كذا وأولئك كذا. لا، اتّق الله، وأتِ الأمورَ من أبوابها، وسترى عند أهل العلم من رحابةِ الصدر وسعةِ الأفق وحسن التعامل ما ـ إن شاء الله ـ يزيل عنك كلَّ الشبَه التي يمكِن أن يكونَ غرَّك بها مَن غرّك وخدَعك بها مَن خدَعك حتّى ظننتَ أنّ الأخطاءَ والفساد حقّ وصلاح، ظننتَها لقصور علمك ومعرفتك، فأتِ علماءَ الأمّة، واسألهم عمّا أشكل عليك، واعرض عليهم الشبهَ التي عرضَت لك حتّى يكونَ أمرك واضحًا، فيوضحون لك الحقّ، ويبيِّنون لك الباطل، ويزيلون عنك كلَّ لبس عرض عليك، حتى تكونَ في أمورك على منهج قويم وصراط مستقيم، أمّا أن تغترَّ بما يقال، تسمَع من هذه الاتصالات أمورًا يقولونها ونشراتٍ ينشرها من لا يدرَى عنه، وإنّما يريد غشَّ الأمّة والكذبَ وترويجَ الباطل، فهذا أمر لا يجوز أن تعتمدَ عليه، ولا أن تثقَ به، وإنّما ائتِ علماءَ أمّتك، واسألهم عمّا أشكلَ عليك، واعرِض لهم كلَّ الشبَه التي عرضَت لك، لترى كشفَها وإزالتها على وفق ما دلّ الكتاب والسنة عليه إن شاء الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، الأسرة مرتَكَز قويمٌ بالإسلام، في ظلِّها تلتقِي النفوس على المودّة والرحمَة والعفوِ والمحبّة، وقد أقسَم الله في كتابه بالأولاد والآباء فقال جلّ وعلا: وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ [البلد:3]، والعناية بصلاحِهم مَسلكُ الأخيار، وباستقامتِهم بهجَة الآباء والأمّهات، رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
وأوّل لبنةٍ في بناء الأبناء غرسُ مراقبةِ الله في نفوسهم، يقول النبي لابن عبّاس وهو غلام: ((يا غلام، احفَظ الله يحفظك، احفَظ الله تجدْه تجاهك)). وهم بحاجةٍ إلى التربيّة على المعرفةِ بالعلوم واغتِنام الأوقَات، يقول عليه الصلاة والسلام: ((احرِص على ما ينفعُك)).
وعلى الوالِد أن يسعَى لجلبِ ما ينفع أبناءَه، وإبعادُ ما يضرّهم، واختيارُ الرفقةِ الصالحين لهم، وإنَّ حُسن تنشئتهم مرتبطٌ باستمساك والديهم بدينهم، وكلّما استقام الوالدان اقتدى بهم الأبناء وكانوا بمنجاة من عواملِ الضياع وأسباب الضّلال.
فيا أيّها الآباء والمربّون حرّاس الجيل والمؤتمنون عليه، أنتم بناةُ عقولهم ونفوسهم، أسِّسوها على مبادئِنا الإسلاميّة الأصيلة، أشربوهم عرفانَ نفاستها وقيمتِها، فإنّ من لم يعرف قيمةَ الثمين أضاعَه. ولمّا أن ضاعت من آحاد وفُقِدت من أفرادٍ كان ما كان من القلاقل. واعتَنوا بتربيتِهم، واسألوهم عن كلّ ما عِندهم، وإذا شمَمتم من أحد شيئًا ممّا يخالف الشرع فاحرصوا على التحاقهم بأحد العلماء وذوي الرأي السديد، ليكشفوا عنهم هذا الباطل، ويبيّنوا لهم الحقّ، ويهدوهم إلى صراط الله المستقيم.
واعلم ـ أيّها الابن ـ أنّ أمَلَ والدَيك أن تكونَ ممَّن سِيَرهم فاضلة وأخلاقهم سامِية، مع الاستقامة والبُعد عن الرذائل والمهالك، وأن لا تقعَ فريسةً للانحراف، أو أسيرًا للملذّات والشّهوات، فلا تضيِّع أملك وأملَهم أمام لحظةٍ من شهوة أو ساعة من غفلة، وعليك بانتقاء الأصحابِ في المخالطة والمؤانسة، والزَم صحبةَ العلماء، وجالس الصالحين، تجنِ سعادةَ الدنيا والآخرة.
وفي المنعرج الحرِج تُوجّه الدّعوة بإلحاحٍ إلى إيلاء قضايا الشّباب عنايةً خاصّة؛ إذ هم في الأمّة محطّ أنظارها ومعقِد آمالها، هم مشاعلُ الحاضر وبناة المستقبل بإذن الله، هم ذُخر الأوطان وغيثُها المبارك الهتّان، فيجِب ـ ونحن أمّة ثريّة بحمد لله بدينها وقيَمها ـ أن نعملَ على إنشاء جيلٍ يحمِل مشعلَ الإيمان والعقيدة، ونورَ العقل والبصيرة، وبردَ الثقة واليقين، وسدادَ الفكر والرأي، واتّقادَ الذهن والضمير، وصفاءَ السيرة والسريرة، ليكون بإذن الله خيرَ مَن يغار على دينه وأمّته وبلاده ومقدَّراتها، يدفع عنها الأوضار، ويقيها بحول الله عاتياتِ الأشرار وعاديات الفتَن وهائجات المِحن.
فيا شبابَنا، اعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أنّ دينَكم الوسَط هو البرهان والنّور والظهور، فلا يزهِّدنّكم فيه جهلةٌ مؤوِّلون، ولا مارقون معطِّلون، ولا مشبوهو الدِّخلة والنِّحلة، ولا أنصافُ المتعلِّمين مِن ذوي الفتاوى الشاذّة والأحكام الجائِرة الفاذّة، مثل ما غرر به من شباب في ريعان شبابهم من أناس مارقين خارجين عن الإسلام يعلمونهم الفساد في البلاد، وأي بلاد؟! بلاد الحرمين الشريفين، وبجوار بيت الله العتيق، والذي كانت آخر أعمالهم حيث وجد مع هؤلاء الشباب أسلحة الدمار والتدمير في أطهر بقعة على الأرض، والذين تمكن رجال الأمن من القبض عليهم، وسيلاقون جزاءهم، وولاة أمر هذه البلادِ بالمرصاد لمن يَسعى بالقتل والتّدمير أو الإفساد الذي يستهدِف الأمنَ، انطلاقًا ممّا توجبه الشريعة الإسلاميّة من الحفاظ على دماءِ الناس وأموالهم وحقوقِهم، ينفِّذون فيه ما تحكم به الشريعة.
واعلموا ـ وفّقكم الله ـ أنّكم في دياركم المباركة تتقلَّبون بين أعطافِ العيش السعيد، وتنعَمون بأوفرِ أسباب الأمن الوارفِ الرّغيد، سواء في داركم أو في حِلِّكم وترحالكم، وإنّ هذا النّداء المترَع بالحبّ والحنوّ ليستجيشُ فيكم مشاعرَ النّخوة والاعتزاز في أن تكونوا خيرَ رادةٍ في رياضه، وخيرَ ذادَةٍ عن حياضه، ترِدون قرضَه، وتحفظون بإذن الله مجدَه وأرضَه، ائتِساءً بنبيّكم وَسَيرًا على نهج سلفِكم الصالح رحمهم الله.
فاللهَ الله ـ أمّة الإسلام ـ في أداءِ الواجب الملقى على عواتقِنا جميعًا، في معالجة هذه الظواهر الخطِرة على مجتمعاتِنا واستئصال شأفتِها، وأن نكون يدًا واحدة وعينًا ساهرة في الحفاظ على دين الأمّة وأمنِها وبلادها، كما يجِب تجفيفُ منابع الشرور والإرهاب والإبلاغُ وعدمُ التستّر على كلّ من أراد تعكيرَ أمن المجتمع أو الإخلال باستقرار البلاد والعباد أو السعي في الأرض بالفساد، وأن لا يُستجرَّ شباب الأمّة إلى منحدراتٍ فكريّة سحيقة، وأن يلتحِموا مع ولاتِهم المسلمين وعلمائِهم الربانيّين ودعاتِهم المصلحين النّاصحين.
ألا فلتسلمي يا أرضَ الحرمين الشريفين، ولتهنئي يا موئِلَ العقيدة ومأرز الإيمان، فلقد أثبتِّ بفضلِ الله الخروجَ من الأزمات أكثرَ تماسُكًا وأشدّ تلاحمًا بحمد الله، ولتبقَي بإذن الله على مرّ الدهور وكرّ العصور شامةً في دنيا الواقع وأنموذجًا يحتذَى ومَثلاً يُقتفى في الأمن والإيمان، وشاهَت وجوه الأعداء المتربّصين، وخسِئت أعمال المعتدِين المفسِدين المجرمين، وردّ الله كيدَ الكائدين إلى نحورهم، وحفِظ اللهَ بلادَنا وسائر بلاد المسلمين من شرّ الأشرار وكيد الفجّار، إنّه خير مسؤول وأكرمُ مأمول.
ألا وصلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على الهادي البشير والسراج المنير، سيِّد الأوّلين والآخرين ورحمة الله للعالمين، الرحمةِ المهداة والنعمة المسداة، نبيّكم محمد بن عبد الله، كما أمركم ربّكم جلّ في علاه، فقال تعالى في أصدق قيله ومحكمِ تنزيله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على النبيّ المصطفى والرسول المجتبى والحبيبِ المرتضى نبيّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحابه أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
(1/3166)
حرب أعداء الإسلام
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
أديان, المسلمون في العالم
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تجديد التقوى. 2- عداوة اليهود. 3- صفات اليهود وجرائمهم. 4- الحرب على الإسلام في القديم والحديث. 5- من قبائح اليهود في هذا الزمان. 6- حملات التنصير. 7- سلاح المقاطعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، ما أحوج المسلم إلى تجديد تقواه لربه في كل حين، ولا سيما عند اشتداد المحن وتوالي الكروب، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]. وما أشد حاجة المسلم إلى السلاح المَضّاء الذي يحميه من كيد الكفرة والفجرة والمنافقين، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120].
فهل ساءلنا أنفسنا عن هذه الحقائق؟! وهل عرضناها على هذه الموازين؟! فالصبر والتقوى سلاحان لمن أراد النجاة والخلاص والرفعة في الدنيا والآخرة.
أيها المؤمنون، إن من قرأ كتاب ربه وتأمل في آياته واتعظ بعظاته واهتدى بهداه يرى أن هناك آيات كثيرة حذّرت المسلمين من أعداء كُثر، وأن هناك صنفًا هو الأكثر عداءً للمسلمين، فقد ورد الحديث عنهم في أكثر من خمسين سورة من سور القرآن الكريم، وما ذاك إلا لتحذَرهم أمة الإسلام أشدّ الحذر، وتتنبه لألاعيبهم وحيلهم التي تخصصوا فيها على مر التاريخ.
فمن هم أيها المسلمون؟ إنهم اليهود، وما أدراك ما اليهود. إنهم القوم المغضوب عليهم الملعونون على لسان الرسل والأنبياء، قوم تفنن آباؤهم وأجدادهم في قتل الأنبياء والمصلحين، عرفوا على مر التاريخ بالإفساد والتخريب ونقض العهود.
وصفهم ربهم تعالى، وذكر بعض افتراءاتهم قائلاً في محكم كتابه: وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة:64].
فهم أحفاد اليهود الذين نقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187]. وهم قتلة الأنبياء ومكذبوهم، وهذا من تخصصهم القبيح، ألم يقل ربنا سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87]؟!
أولئك اليهود الذين غدروا بخاتم النبيين محمد ونقضوا عهده، فإنه لما هاجر إلى المدينة قدمها وفيها ثلاث قبائل من اليهود، فعقد معهم أن لا يخونوا ولا يؤذوا، ولكن أبى طبعهم اللئيم وسجيتهم السافلة إلا أن ينقضوا ويغدروا، فأظهر بنو قينقاع الغدر بعد أن نصر الله نبيه في بدر، فأجلاهم النبي من المدينة على أنّ لهم النساء والذرية ولرسول الله أموالهم. وأظهر بنو النضير الغدر بعد غزوة أحد، فحاصرهم النبي وقذف الله في قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله أن يجليهم على أن لهم ما تحمله إبلهم من أموالهم إلا آلة حرب فأجابهم إلى ذلك. وأما بنو قريظة فنقضوا العهد يوم الأحزاب في يوم عصيب وكرب شديد حين اجتمعت العرب على حرب النبي ، فحاصرهم النبي بعد انتهاء المعركة، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم بقتل رجالهم وقسم أموالهم وسبي نسائهم وذرياتهم، فقتل رجالهم وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة.
هذا لون من ألوان غدرهم بخاتم الأنبياء ، ومن غدرهم وخيانتهم له أنه لما فتح خيبر أهدوا له شاة مسمومة، فأكل منها ولم يحصل مرادهم ولله الحمد، ولكنه كان يقول في مرض الموت: ((ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر، وهذا أوان انقطاع أبهري)) رواه أبو داود بسند حسن.
فعلينا نحن المسلمين أن نعلم ونتذكر أن العداوة بيننا وبين اليهود مبدأ ثابت لا يتغير ولا يزول كما قرره كتابنا وأخبرنا به ربنا عز وجل، ولذلك فالحرب بيننا وبينهم مستمرة منذ بعثة سيدنا محمد إلى أن تقوم القيامة، ومن المحال أن تحلّ المحبة محلّ العداوة وأن يحل السلام محل الحرب فيما بيننا وبين اليهود، كيف والله عز وجل يقول: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]؟!
عباد الله، إن دين الإسلام اليوم يحارَب بكل شدة وعنف من قبل أعدائه من الكافرين، وهم يستخدمون كل وسيلة في سبيل الصد عن سبيل الله وعن دين الله, فيستخدمون الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية.
ولكن اعلم ـ وفقني الله وإياك ـ أن هذا الأمر قد بدأ منذ بدأت الدعوة الأولى لهذا الدين على يد رسول الله ، وقد حاول كفار قريش منذ تلك الأيام منع انتشار الإسلام والصد عن سبيل الله كما يفعله اليوم الكافرون والمنافقون تمامًا، إلا أن كفار اليوم والمنافقين يستخدمون وسائل حديثة لأساليب قديمة، وتأمل في سيرة رسول الله تجد ذلك واضحًا بينًا. وخذ بعض الأمثلة:
أولاً: استخدم أعداء الدين قديمًا وسيلة التشويه، فحاولوا تشويه صورة النبي عند العرب لكيلا يقبل دعوته أحد، واستمع إلى ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية يقول: "عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم ـ يعني موسم الحج ـ، فقال: إن وفود العرب سوف تقدم عليكم فيه، وقد علموا بأمر صاحبكم هذا ـ يعني رسول الله ـ، فأجمعوا فيه رأيًا واحدًا، ولا تختلفوا فيه فيكذّب بعضكم بعضًا، فقيل: يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأيًا نقول به، فقال: بل أنتم فقولوا، وأنا أسمع، فقالوا: نقول: كاهن، فقال: ما هو بكاهن، رأيت الكهان فما هو بزمزة الكهان، فقالوا: نقول: مجنون، فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته، فقالوا: نقول: شاعر، فقال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر، قالوا: نقول: ساحر، قال: ما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لِقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجني، فما أنتم بقائلين شيئًا من هذا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول أن تقولوا: هذا ساحر، فتقولون: هو ساحر، يفرق بين المرء وزوجه، وبين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك. فجعلوا يجلسون للناس حتى قدموا الموسم فلا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره، يعني يقولون لهم: احذروا هذا الساحر".
هذه صورة واحدة من صور كثيرة قد ذكرت في كتب السيرة لا نريد الإطالة بذكرها.
واليوم يجددون عداوتهم على النبي المصطفى علية أفضل الصلاة والسلام، ويتعمدون الإساءة لشخص النبي عبر صحفهم القذرة، حيث نشرت صحيفة أمريكية هذا الأسبوع لرسام صور في رسمةً رجلاً يرتدي ثيابًا عربية على أنه الرسول ، وهو يقود شاحنة نقل، وقد حُملت الشاحنة بصواريخ نووية، وعليها عبارة استفسار وتشكيك: "ماذا سوف يقود محمد؟!". وبحمد الله صدر بيان من رابطة العالم الإسلامي يوم أمس الخميس فورَ علمهم بشأن الرسم الآثم وتطاول الصحيفة الأمريكية على النبيّ الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام بالاستنكار والتنديد، وطالبت الرابطة من الصحيفة بعدم تكرار نشر ما يسيء للإسلام وبالاعتذار لعدد المليار والنصف من أمة الإسلام في أنحاء العالم لما قامت به من إساءة بالغة المسلمين.
أيها الموحدون، هذا وما يلقاه الإسلام اليوم من حرب دعائية من خصومه بحيث تسلطت الأجهزة اليهودية والصليبية والشيوعية والمنافقين، كلّ أجهزتهم ووسائلهم الإعلامية لتشويه الإسلام وتصويره دينًا وثنيًا أو إرهابيًا أو متخلفًا يمثل حضارة الجمل والصحراء.
وهذا دليل على استمرار هذا الخطّ الدعائي ضدّ الإسلام، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يصورون المسلمين بأنهم متخلّفون لأنهم متمسكون بإسلامهم ويحمِّلون الإسلام كلّ التخلف الحضاري الموجود عند المسلمين، ويمثلون الصحوة الإسلامية المعاصرة بأنها يقودها الأصوليون والمتطرفون الذين يريدون تدمير كل منتجات الحضارة البشرية المعاصرة ويريدون العودة بالبشرية إلى القرون الوسطى وعهود التخلف.
عباد الله، وكان من أعظم ما فرح به المسلمون هو إنزال قوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائدة:60]، فكان المسلمون يعيرون اليهود بأنهم أبناء القردة والخنازير وهم كذلك.
فيا أيها الأحبة، إنما سردت هذه الوقائع والقصص لتعلموا قبح أفعال اليهود وحقدهم على أهل الإسلام، ولا تقولوا: تغيروا أو تبدلوا، لا والله، هم على حقدهم وكفرهم، ولا تجوز موالاتهم، ولا حبهم، ولا الفرح لهم، ولا تهنئتهم بعيد أو مناسبة، ولا مشاركتهم في ذلك، ولا تسليتهم في مصيبة، ولا استقدامهم في شيء إلاّ في شيء ضروري عجز عنه المسلمون، بدليل أن عمر الفاروق علم أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنهما قد اتخذ كاتبًا نصرانيًا وكان حفيظًا عليمًا، فأمره عمر بطرده، فقال أبو موسى: إنه أفضل من في البصرة، فقال عمر: فكيف تصنع إذا مات؟!
فاحذروهم عباد الله، واحذروا موالاتهم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51].
إن اليهود ـ يا عباد الله ـ أهل شر وخبث، وإن تبسموا وصالحوا وعاهدوا، وقد روي في بعض الأحاديث عند ابن مردويه: ((ما خلا يهودي بمسلم إلاّ هم بقتله)).
ومن قبائح اليهود في زماننا هذا ما يفعلونه الآن من كتابة لفظ الجلالة على الأحذية وما شابهها، وقيامهم بدهس المصاحف ونشر الصور المشوهة للإسلام ولنبيّ الإسلام عليه الصلاة والسلام، ومع كل ذلك فالمؤمنون غافلون أو متغافلون، كأن لم تحرّك لديهم ساكنًا، وما لجرح بميت إيلام، وتجد الكثير من المسلمين قد مسحوا اسم المسجد الأقصى من ذاكرتهم، وما فكّر أحدهم يومًا أن يرفع يديه إلى العزيز القدير، ويرسل على اليهود سهامًا وصواريخ من سهام "يا رب"، تخترق الدنيا لتمطر على اليهود النكبات والمصائب. ومع كل هذا فإن وعد الله لنا بالنصر والتمكين لا بد حاصل، فقد وعدنا الله بالنصر على أبناء القردة والخنازير، ((حتى لا يبقى حجر ولا شجر إلاّ ويقول للمسلم: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي ورائي فاقتله)).
أيها المسلمون، استمعوا إلى نصح ربكم في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:118-120].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أعزنا بالإسلام، ولا عزة لنا بسواه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من سأله أعطاه، ومن استهداه هداه، ومن توكل عليه كفاه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد: وهكذا أيها المؤمنون، ما يفعله أعداء الإسلام اليوم مع المسلمين لصرفهم عن دينهم كذلك، والتنصير الذي ينتشر في كثير من بلاد المسلمين اليوم خير شاهد على ذلك، وما هذه الفتن التي تعرض في وسائل الإعلام إلا نوع من فتنة الإغراء بالشهوات لإفساد المسلم، ولكن ليعلم كل مسلم أن الله ناصر هذا الدين، وستعلو كلمة الله، وأن المستقبل لهذا الدين كما أخبر رسولنا ، فعن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله يقول: ((لا يبقى على الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل)) رواه ابن حبان.
أيها المسلمون، وإني لأدعوكم ومن على هذا المنبر إلى مقاطعة المنتجات الأمريكية والبريطانية؛ لأن هاتين الدولتين هما أشدّ الدول دعمًا لدولة اليهود في فلسطين المحتلة، ولا يخفى عليكم أن من الناس من عارض هذا النوع من المقاطعة بحجة أن تلك الأموال التي ندفعها لوجبة طعام أو لمشروب غازي أو لقطعة حلوى لا يُعتبر شيئًا مقارنة بما تدفعه تلك الدول لإسرائيل، فنقول لأولئك: إنّ الريال مكوّن من قروش، والقرش مكون من هللات، وكل ما ندفعه يصبّ في قناة الأموال التي تذهب إلى إسرائيل، فقطرة مني وأخرى منك تصنع نهرًا يُغذِّي دولة العدوان والكفر التي تحتل بلادنا وتستعبد إخواننا.
ولقد استجاب المسلمون ولله الحمد لنداء المقاطعة هذا، فامتنعوا بالجملة من منتجات تلك البلاد وطعامهم وثيابهم، وشعر المسلمون المكتوفو الأيدي الذين لا يتمكنون من الجهاد في سبيل الله بأنهم قد قدّموا بشيئًا ولو ضئيلاً لخدمة قضية الأقصى حرره الله، وما ينبغي للمسلم أن يستهين بهذا العمل الجليل، فلو أن مليونين من المسلمين في بلادنا امتنعوا عن شراء مشروب غازي بريال، فهذه مليونا ريال في اليوم، أي أن المبلغ يرتفع إلى ستمائة وسبعين مليون ريال سنويًا من مشروب غازي واحد فقط، ونبينا قال: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) ، فنحن كأفراد لا نستطيع قتالهم، ولكننا نستطيع أن نجاهدهم بأموالنا، فندفع ما نستطيع لكفالة يتيم أو لمعونة أرملة، ونستطيع أن نقاطع المنتجات الأمريكية والبريطانية قدر المستطاع والممكن، فالكل يستطيع الاستغناء عن منتجاتهم ومطاعمهم، فالبديل موجود وبكثرة، المحلي منه والمستورد، وأما ما لا بديل له فلا حرج على المسلم أن يقتنيه للحاجة إلى حين توفر البديل.
واعلموا ـ أيها المسلمون ـ أن لمقاطعة منتجاتهم فوائدَ، ومن فوائد المقاطعة إظهار العزة والانتصار للدين، فالذي يقاطع منتجات أعداء الله والمجاهرين بالمنكرات يُؤثّر على مبيعاتهم واقتصادهم مما يجعلهم يحسبون للإسلام والمسلمين ألف حساب، وعلى سبيل المثال: لو أن المسلمين قاطعوا تلك المنتجات التي تصدر بأموال مسلمين لأفلست تلك الشركات المنتجة ولانقطع عن المسلمين شرها وفسادها.
ومن فوائد هذه المقاطعة أن المسلم يقلّ اعتماده على بلد معين أو مكان معين، فيتحرر من ذل الرق والاستعباد والتبعية، فيكون حرًا في رأيه وتصرفاته واختياره لما يريد، وكم استعبدت المرءَ شهواته حتى صارت تسيره كيفما شاءت، وانظروا إلى المدخنين عافاهم الله وهداهم، لو أنهم قاطعوا تلك العادة الآثمة المذلة لشعروا بعز الطاعة ولذة الحرية، وفق الله الجميع لطريق الصواب.
ثم اعلموا أن من أفضل الأعمال وأزكاها لهج الألسن بالصلاة والتسليم على النبي الكريم، فصلوا وسلموا عليه كثيرًا، صلاة من يحيى قلبه بمحبته، وتهنأ حياته بمنهج سنته.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(1/3167)
عيد الفطر 1424هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
1/10/1424
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل يوم العيد. 2- بين المقبول والمردود. 3- السعادة في العيد. 4- التآلف والتصافي في العيد. 5- نداء للعاق. 6- التذكير بمواساة الفقير. 7- عيادة المرضى. 8- الإحسان للوافدين. 9- ضرورة اجتماع الكلمة ووحدة الصف. 10- التحذير من مكايد الأعداء. 11- كلمة للشباب المسلم. 12- توجيهات عامة. 13- التكبير في العيد. 14- صيام ستة أيام من شوال. 15- موعظة للنساء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على إدراك رمضان بالصيام والقيام حتى أكملتم عدته وقضيتم مدته بأمن وإيمان ورغد واطمئنان وعافية في العقول والأبدان، فالحمد لله الذي بنعمته أتم الصالحات، وبفضل رحمته هدانا للطيبات، ونسأله قبول الطاعات وتكفير الخطايا والسيئات ورفيع الدرجات.
أيها المسلمون، إنكم في يومٍ تبسمت لكم فيه الدنيا، أرضُها وسماؤها، شمسُها وضياؤها، صمتم لله ثلاثين يومًا، وقمتم لله ثلاثين ليلة، ثم جئتم اليوم إلى مصلاكم تكبرون الله ربكم على ما هداكم إليه من دين قويم وصراط مستقيم وصيام وقيام وشريعة ونظام، وقد خرجتم إلى صلاة العيد وقلوبكم قد امتلأت به فرحًا وسرورًا، تسألون الله الرضا والقبول، وتحمدونه على الإنعام بالتمام والتوفيق للصيام والقيام، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
أيها المقبولون، هنيئًا لكم. أيها المردودون، جبر الله مصيبتكم، ماذا فات من فاته خير رمضان؟! وأي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان؟! كم بين من حظّه فيه القبول والغفران ومن حظّه فيه الخيبة والخسران؟! متى يصلح من لم يصلح في رمضان؟! ومتى يصحُّ من كان فيه من داء الجهالة والغفلة مرضان؟! فيا أرباب الذنوب العظيمة، الغنيمةَ الغنيمةَ في هذه الأيام الكريمة، فمن أُعتق فيها من النار فقد فاز ـ والله ـ بالجائزة العظيمة والمنحة الجسيمة، أين حَرَق المهتمين في نهاره؟! أين قلق المجتهدين في أسحاره؟! فيا من أعتقه مولاه من النار، إياك ثم إياك أن تعود بعد أن صرت حرًا إلى رق الأوزار.
فهنيئًا للمسلمين في هذا اليوم المبارك، هنيئًا لهم بحلول هذا العيد السعيد، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن السعادة في العيد لا تكمن في المظاهر والشكليات، وإنما تتجسد في المعنويات وعمل الصالحات، واذكروا نعمة الله عليكم مما تنعمون به من حلول العيد المبارك في أمن وأمان وصحة وخير وسلام وإيمان، فهذه النعم سلبها كثير من الناس. عندما يقبِل العيدُ تشرِق الأرضُ في أبهى صورَة، ويبدو الكونُ في أزهى حللِه، كلّ هذه المظاهر الرائعةِ تعبيرٌ عن فرحةِ المسلمين بالعيد، وهل أفرحُ للقلب من فرحةٍ نال بها رضا ربّ العالمين لِما قدّمه من طاعةٍ وعمل وإحسان. إنَّها فرحةٌ تشمَل الغنيَّ والفقير، ومساواةٌ بين أفرادِ المجتمع كبيرِهم وصغيرِهم، فالموسرون يبسطون أيديَهم بالجود والسخاء، وتتحرَّك نفوسهم بالشفقة والرحمة، وتسري في قلوبهم روحُ المحبّة والتآخي، فتذهب عنهم الضغائن وتسودُهم المحبّة والمودة.
في العيد ـ عباد الله ـ تتصافى القلوب، وتتصافَح الأيدي، ويتبادَل الجميعُ التهانيَ. وإذا كان في القلوب رواسبُ خصامٍ أو أحقاد فإنها في العيد تُسلُّ فتزول، وإن كان في الوجوه العبوسُ فإنَّ العيدَ يدخل البهجةَ إلى الأرواح والبسمةَ إلى الوجوه والشِّفاه، كأنَّما العيد فرصةٌ لكلّ مسلمٍ ليتطهَّر من درن الأخطاء، فلا يبقى في قلبِه إلا بياضُ الألفة ونور الإيمان، لتشرق الدنيا من حوله في اقترابٍ من إخوانه ومحبِّيه ومعارفِه وأقاربِه وجيرانه. إذَا التقى المسلمان في يوم العيد وقد باعدت بينهما الخلافاتُ أو قعدت بهما الحزازات فأعظمُهما أجرًا البادئ أخاه بالسلام. في هذا اليوم ينبغي أن ينسلخَ كلّ إنسان عن كبريائه، وينسلخَ عن تفاخرِه وتباهيه، بحيث لا يفكّر بأنّه أغنى أو أثرى أو أفضل من الآخرين، وبحيث لا يتخيّل الغنيّ مهما كثُر مالُه أنّه أفضلُ من الفقير.
أيها المؤمن، العيد مناسبة طيبة لتصفية القلوب وإزالة الشوائب عن النفوس وتنقية الخواطر مما علق بها من بغضاء أو شحناء، فلنغتنم هذه الفرصة، ولتجدد المحبة وتحل المسامحة والعفو محلّ العتب والهجران مع جميع الناس، من الأقارب والأصدقاء والجيران، وتذكر قول النبي : ((وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزا)) رواه مسلم، وقوله : ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية عند أبي داود: ((فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار)) صححه الألباني. واستمع إلى حديث تقشعّر منه الجلود، قال : ((من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه)) رواه أبو داود وصححه الألباني.
ألا فاتقوا الله معاشر المتباغضين، وسارعوا إلى إصلاح ذات بينكم، وكونوا عونًا لأنفسكم وإخوانكم على الشيطان، ولا تكونوا عونًا للشيطان على أنفسكم وإخوانكم.
عباد الله، وإن من أعظم التشاحن والتدابر أن يعقّ الولد أو البنت والديه أو أحدَهما، فذلك ذنب عظيم لعن الله فاعله في القرآن: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23]، وأي رحم أقرب من الوالدين؟!
فيا أيها العاق، ويا أيتها العاقة، اعلما أن رضاء الله في رضاء الوالدين، قرن طاعتهما بعبادته، فالحذر الحذر من العقوق، وإن من العقوق رفع الصوت عليهما وإحداد النظر اليهما والتأخر عن قضاء حوائجهما حتى يتضجرا. فيا من عق والديه، سارع الآن باسترضائهما، واطلب التحلل منهما، وقبِّل رأسيهما صباح مساء، وأكثر من الدعاء لهما، وسترى من الله ما تقر به عينك وينشرح به صدرك.
أيها المسلمون، لا تنسوا فقراءكم فهم إخوانكم، أدخلوا البهجة والسرور عليهم، وآتوهم من مال الله الذي آتاكم، فإدخال السرور عليهم قربة من القربات، ادعوهم إلى ولائمكم، فخير طعام الولائم وليمة يدعى إليها الفقراء، وشر الولائم وليمة يمنع منها الفقراء، أعينوهم بما أنعَم الله عليكم، فكثير من الكماليات عندنا هي من الضروريات عندهم، فكم من فقير يكتم حاجته بسبب جلباب الحياء والعفة، وكم من فقير غلبت فاقته صمته فأظهرها من طرف خفي، فمعونة الفقراء من أسباب الرزق والنصر.
يا أهل العيد، لا تنسوا مرضاكم، أشركوهم في عيدكم، واجعلوا لهم حظًا من زياراتكم، ففرحة العيد ليست موقوفة على الأصحاء، بل للمرضى فيها نصيب، زوروهم واتصلوا بهم، وهنئوهم بالعيد وأوصوهم بالاحتساب والصبر، فهم بحاجة ماسّة إلى ذلك، واحمدوا الله الذي عافاكم مما ابتلاهم به، ولله في خلقه شئون.
أيها المؤمنون، إن من حق الدين والأخوة أن لا ننسى أولئك الإخوة الوافدين إلى بلادنا من المسلمين، فبعضهم قد ترك أولاده وفلذات كبده، وآثروا الغربة طلبًا للقمة العيش والتعفف عن سؤال الناس، فلهم حق البشاشة ولهم نصيب في العيد لا يقلّ عن نصيبكم.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أمة الإسلام، نحن اليوم بأمسِّ الحاجة إلى اجتماع الصفِّ ووحدة الكلمة والوقوف مع قيادتنا ضدَّ من يهدّد ديننا وأمنَنا وخيرنا، نحن بأمسِّ الحاجة إلى التحامٍ قويّ واتفاقِ الكلمة والتعاونِ المطلوب في حماية الدين والعقيدة وأمن هذا البلد ورخائه. هذا البلد الذي يعيش أمنا واستقرارًا يحسده الأعداء على نعمته، ولن يجدوا لذلك سبيلاً بتوفيق من الله إن نحن تمسكنا واجتمعت كلمتنا.
أيها المسلمون، احذروا مكائدَ الأعداء ووسائلَهم الخبيثة التي يخدعون بها من يخدعون، يريدون تشتيت كلمتنا وتفريق صفنا وبثَّ الفوضى بين مجتمعنا، ويأبى الله عليهم ذلك. إن بلادنا المسلمة بلادُ خير وبلاد دعوة إلى الخير، وبلادٌ تمدّ يد الخير لكل من أراد، وبلاد ـ ولله الحمد ـ سياستها قائمةٌ على العدل والإنصاف، ليس فيها ظلم ولا تعدٍّ، ولكن الخير وبثّ الخير والكلمة الطيبة هي الصادرة من هذا البلد، فهذا بلدٌ منّ الله عليه بهذه النعمة، فلنشكر الله على نعمته، ولنحذر من أسباب زوالها، فإن الله إذا أنعم على قوم أحبّ منهم أن يقابلوه بشكره على هذه النعمة، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]. لنحذر من أسباب زوال النعم، ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّرًا نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].
ألا فلتسلمي يا أرضَ الحرمين الشريفين، ولتهنئي يا موئِلَ العقيدة ومأرز الإيمان، فلقد أثبتِّ بفضلِ الله الخروجَ من الأزمات أكثرَ تماسكًا وأشدّ تلاحمًا بحمد الله، ولتبقَي بإذن الله على مرّ الدهور وكرّ العصور شامةً في دنيا الواقع وأنموذجًا يحتذَى ومَثلاً يُقتفى في الأمن والإيمان، وشاهَت وجوه الأعداء المتربّصين، وخسِئت أعمال المعتدِين المفسِدين المجرمين، وردّ الله كيدَ الكائدين إلى نحورهم، وحفِظ اللهَ بلادَنا وسائر بلاد المسلمين من شرّ الأشرار وكيد الفجّار، حفِظ الله على هذه البلاد أمنَها وإيمانَها، ووفّق قيادتَها وولاةَ أمرِها لكلّ خير، وزادَهم تمسّكًا بدين الله والعمَل على رفعتِه، وحفِظ ديارَ المسلمين من كلّ سوء ومكروه، إنّه سميع مجيب، إنّه خير مسؤول وأكرمُ مأمول.
أيها الفضلاء، أثمنُ ما في الأمة شبابها، فيا شباب الإسلام، تمسكوا بدينكم، وإياكم والاغترار بعمر الزهور واكتمال القوى.
فيا شباب الإسلام، أنتم أمل الأمة المشرق، وعدة المستقبل الوضاء، ورجال الغد المتلألئ، عليكم بالقيام برسالتكم، قوموا بواجبكم، واعرفوا مكانتكم، وتمسكوا بدينكم، وتلاحموا مع علمائكم، واسلكوا المنهج الوسط، فلا غلوّ ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط، حذار والاسترسالَ في الغفلة والشهوات والانخداع بالشبهات، واحذروا وسائل الشر فالمتربصون بكم كثير، احذروا أن تقعوا فيما نصبوه من الفخاخ فهم لا يرضون إلا بإفسادكم، بل إنهم ينفقون الأموال من أجل إفساد الأخلاق لدى الشباب والشابات، والمصيبة أنهم دخلوا كل بيت من بيوت المسلمين عبر الإنترنت وعبر الأطباق الفضائية المسماة بالدشوش وعبر الأغنية الماجنة وعبر المجلات الخليعة التي وللأسف أصبح يروجها لهم كثير من المحلات التجارية، نساءٌ فاتنات كاسيات عاريات، ما أرادوا بهن إلا إفسادكم.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله، أخلصوا لله توحيدكم. الصلاة الصلاة، حافظوا عليها واحفظوها، فهي الركن الثاني من أركان الإسلام، فهي عمود الإسلام، وهي الركن العملي الأول من أركان الإسلام، فحافظوا عليها ـ رحمكم الله ـ جماعةً، وأدوها في وقتها في المسجد، واعتنوا بها، ولتكن من أهمّ أموركم، فإن علامة حب الإسلام العناية بهذه الصلوات والاهتمام بها. أدوا زكاة أموالكم، وصوموا رمضان، احذروا السحرة والمشعوذين، واحذروا أن تقصدوهم وتأتوهم فما وراءهم إلا البلاء، ((من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)).
كن ـ أخي المسلم ـ داعيًا إلى الله على علم وبصيرة، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، على حكمة وعلم، صابرًا على ما أصابك.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، ليقم كل واحد منكم بحقوق إخوانه المسلمين عليه، ومن ذلك السلام وعيادة المريض وتشميت العاطس وإجابة الدعوة وأداء الأمانة ونشر المحبة والوئام وتحقيق التعاون على البر والتقوى، وأن يحب المرء المسلم لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه، بعيدًا عن الأثرة والأنانية وحب الذات والحسد والحقد والبغضاء والغيبة والنميمة والشحناء والغش والتزوير وأكل أموال الناس بالباطل والوقوع في المعاملات المحرمة من الربا والسرقة والغصب والرشوة وبخس المكاييل والموازين وتنفيق السلع بالأيمان الكاذبة وغيرها، واحذروا الربا والزنا والمسكرات والمخدّرات، فإن وبالها عظيم وشرها مستديم، تقود إلى الجريمة بشتى صورها، واحفظوا جوارحكم في هذا اليوم وغيره، احفظوا أسماعكم وأبصاركم وألسنتكم وبطونكم وفروجكم وأيديكم وأرجلكم أن تمتدّ إلى الحرام وتلتبس به وتتلطخ بسوئه، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].
وقوموا بما أوجب الله عليكم نحو أهليكم وأولادكم ونسائكم، فمروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر واحفظوهم عن المحرمات وأبعدوهم عن المنكرات ووسائلها وربوهم تربية إسلامية ووجهوهم وجهة صالحة.
فيا أيها الآباء والأمهات، اتقوا الله في أولادكم، كونوا قدوة لهم في الخير، أبعدوهم عن قرناء السوء، تابعوهم في صلواتهم وخلواتهم وجلواتهم، كونوا الرقابة المكثفة المقرونةَ بمشاعر المحبة والحنان والشفقة، حذار أن تتسلل إلى الأسر ألوان من الغزو الفكري والأخلاقي، فتهدم ما بنيتموه، وتنقضَ ما شيدتموه، نشِّئوهم على الخير والفضيلة والهدى والبعد عن الرذيلة والشر والردى.
اللهم اجعل عيدنا فوزًا برضاك، واجعلنا ممن قبلتهم فأعتقت رقابهم من النار، اللهم اجعل رمضان راحلاً بذنوبنا، قد غفرت فيه سيئاتنا ورفعت فيه درجاتنا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله ولي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله اكبر، ولله الحمد.
الحمد لله معيد الجمع والأعياد، ومبيد الأمم والأجناد، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا مضاد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المفضل على جميع العباد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وسلم تسليمًا.
أيها المسلمون، إن عيدكم هذا عيد كريم وجمع عظيم، تفضل الله فيه على أمة الإسلام بكل خير، وقد شُرع لهذا العيد أحكام مرعية وسنن نبوية.
أيها المسلمون، زيّنوا عيدكم بالتكبير وعموم الذكر، يقول المصطفى : ((أيام العيد أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى)) ، وأدخلوا السرور على أنفسكم وأهليكم، واجعلوا فرحتكم بالعيد مصحوبة بتقوى الله وخشيته، ولا تنفقوا أموالكم أيام العيد فيما حرم الله، يقول علي : (كل يوم لا نعصي الله فيه فهو لنا عيد).
وما أعظم المناسبة بين هذا الذكر وتمام الصيام، قال الله تعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
ثم اعلموا أن نبيكم قد ندبكم لصيام ستة أيام من شوال، ففي صحيح مسلم عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر)) ، فبادروا إلى فعل الطاعات وتسابقوا إلى الخيرات.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله، تمشيًا مع سنة المصطفى في تخصيص موعظة للنساء فإني أقول لأخواتي المسلمات: اتقين الله عز وجل في أنفسكن، يا نساء المسلمين، يا أمهاتنا يا أخواتنا يا بناتنا يا زوجات المؤمنين، أنتن المربيات، أنتن القدوات الصالحات، كل رجل عظيم حملته امرأة، وكل رجل صالح حضنته امرأة، فصلاحكن صلاح للبيوت والأولاد، بل صلاح للأسر وللمجتمعات، فعليكن رعاكن الله بتقوى الله تعالى في السر والعلن، احذروا دعاة السوء والفجور، دعاة التبرج والسفور، أصحاب الأقلام المسمومة والألسن المزعومة والأفكار المجذومة، لا يرقبون في العفة والحياء إلاًّ ولا ذمة، لا همّ لهم إلا أن ينزع الجلباب ويرمى الحجاب ويخدش الحياء والحشمة، يزعمون أن المرأة مظلومة بقوامة الرجل عليها، يشوّهون صورة الحجاب، ويثيرون التساؤلات.
يا أمة الله، أنتِ جوهرة مصونة، أنت أعراضنا، نفاخر بك وبأخواتك المسلمات، نفاخر بكن أمم الشرق والغرب، فاللهَ الله في لزوم الخير والحذر من دواعي الفتنة والشر، كيف ترضين ـ أيتها المسلمة ـ أن تزاحمي الرجال في المجامع العامة وأعين الرجال تنظر إليك من كل جانب والأجساد تكاد أن تتلامس؟!
يا أمة الله، يا من قدوتها حفصة وعائشة وزينب وفاطمة، عليك بالحجاب الساتر واللباس الواسع، إياك والملابس التي تبدي مفاتنك أو تصف عورتك، لا تنخدعي بالموضات الشيطانية ولا تغرّك من سقط الحياء من وجهها، فلبست ملابس تستحي الطفلة أن تلبسها، فضلاً عن الجارية، بل فضلاً عن المرأة العاقلة، فكيف بالمرأة المسلمة؟! يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:59].
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا، واجعلنا من عبادك الفائزين المرحومين، اللهم أعد علينا رمضان ومن َّ علينا بالصيام والقيام، اللهم إن كان سبق في علمك أن تجمعنا في مثله في الأيام القادم فبارك لنا في أيامه ولياليه، وإن قضيت بزوال أعمارنا فأحسن الخلافة على باقينا، ووسع الرحمة على ماضينا، وعمّنا جميعًا برحمتك ومغفرتك، برحمتك يا أرحم الراحمين اجعل هذا العيد عيد عز ونصر وتمكين للإسلام والمسلمين.
اللهم وفق ولاة أمرنا إلى ما فيه صلاح البلاد والعباد، اللهم اجعلهم مفاتيح للخير مغاليق للشر، اللهم كما جمعتنا في هذا المكان المبارك فاجعل جمعنا الأخير في روضات الجنات في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
وصلوا على رسول الله امتثالا لأمر الله، فقد قال عز قائلا عليما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب اللواء المعقود والحوض المردود والمقام المحمود، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، وعنا معهم بمنك وفضلك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/3168)
عقوق الوالدين
الأسرة والمجتمع
الوالدان
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظاهرة العقوق. 2- جريمة العقوق التي حصلت في البيشة. 3- فضل الوالدين. 4- من مظاهر العقوق. 5- البر والعقوق دَين ووفاء. 6- حقوق الوالدين بعد وفاتهما. 7- معنى العقوق وبيان عاقبته الوخيمة. 8- ضوابط طاعة الوالدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فهي وصية الله لنا ولمن قبلنا، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].
معاشر المسلمين، حديثنا في خطبة هذه الجمعة عن موضوع يهمّ كثيرا من الأبناء والأسر في المجتمع، وهو ما نسمع عن كثير من الناس وكثرة الأخبار المزعجة التي تفطّر القلوب وتدمي الأسماع، وهي نذير شؤم وعلامة خذلان، يجب على الأمة جميعها أن تتصدى لإصلاح هذا الخلل الذي بدأ ينتشر انتشار النار في الهشيم، ألا وهو عقوق الوالدين.
عقوق الوالدين ـ أيها الإخوة ـ من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله، وكيف لا يكون كذلك وقد قرن الله برهما بالتوحيد فقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151]، بل هو من المواثيق التي أخذت على أهل الكتاب من قبلنا: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]. وها نحن نسمع بين الحين والآخر ـ وللأسف ـ من أبناء الإسلام من يزجر أمه وأباه أو يضربهما أو يقتل أمه أو أباه.
أقول: أيها الإخوة، إن انتشار مثل هذه الجرائم البشعة، وبشاعتها ليس في الإسلام فحسب، بل في عرف جميع بني آدم، أقول: إن انتشارها نذير شؤم وعلامة خذلان للأمة، ومن هنا وجب على جميع قنوات التربية والتوعية والإصلاح تنبيه الناس على خطر هذا الأمر، وإظهار هذه الصورة البشعة لمجتمعاتنا بأنها علامة ضياع وعنوان خسارة.
أيها الإخوة في الله، ما سبب انتشار أمثال هذه الجرائم؟ ولا أقول: وجودها لأنها قد وجدت من قديم الزمان، لكن ما سبب انتشارها إلا انتشار الفساد والأفلام المقيتة بوجهها الكالح وتشبه طبقة من طبقات المجتمع بصورة الشاب الغربي الذي يعيش وحده، وليست له أي صلة تربطه بذي رحم أو قريب، فيتأثر البعض بهذه المناظر فيحصل ما لا تحمد عقباه من العقوق؟!
وإليك قصة غاية في البشاعة والإجرام والجحود. الجريمة المروعة التي طالعتنا بها جريدة الوطن ليوم السبت الماضي، لقد وقعت في محافظة بيشه جريمة مروعة شنعاء هي التي دفعتني إلى الحديث اليوم عن هذا الموضوع. وهو أنه في يوم الجمعة الماضية أثناء خطبة الجمعة والإمام يلقي الخطبة في الجامع أقدم شاب على طعن والده المسنّ بستّ طعنات حتى أرداه قتيلا.
من هو القاتل؟!! الابن. ومن هو المقتول؟! والده. ومتى؟! أثناء خطبة الجمعة. وأين؟! في بيت من بيوت الله. وما السبب؟! هو سوء تفاهم الولد وأبيه، ومهما كان السبب ما يصل الأمر إلى قتل الأب أو حتى التلفظ عليه بكلمة واحده. لا نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل، وعليه من الله ما يستحق، والله إن الحلقَ ليجفّ، وإن القلب لينخلع، وإن العقلَ ليشطّ، وإن الكلمات لتتوارى في خجل وحياء، بل وبكاء وعويل أمام هذه المأساة المروعة الشنعاء بكل المقاييس.
عباد الله، فإنّ بر الوالدين فريضة عظيمة وعقوقهما حرام، والبر هو الصلة الحسنة والخير، وهو اسم جامع للخير.
وأما عقوق الوالدين فهو أذاهما ومعصيتهما والخروج عليهما، ولا ينكر فضل الوالدين إلا متوغل في النذالة، ولن يستطيع الأبناء والبنات مجازاة الآباء والأمهات على ما قاموا به نحوهم من الطفولة إلى الرجولة من عطفٍ ورعاية وتربية وعناية إلا أن يجد الولد الوالدَ مملوكًا فيشتريه فيعتقه، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه)) ، لو حصل أن وجد ولد والده عبدًا ومملوكًا فاشتراه فأعتقه لجزاه بما فعله معه وبما قام به نحوه من التربية والعناية والعطف والرعاية، على أن الفضل دائمًا للمتقدم بالفضل، للذي تقدم وبدأ.
فشكر المنعم واجب، ولله سبحانه على عباده نعم لا تحصى كما قال سبحانه: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، من ذلك نعمة الخلق والإيجاد، وجعل سبحانه وتعالى للوالدين نعمة الوِلاد والتربية الفالحة والعناية التامة بالأولاد، وأكثر الخلق وأفضلهم نعمة على الإنسان بعد رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم الوالدان اللذان جعلهما الله سببًا لوجوده واعتنيا به منذ أن كان حملاً إلى أن كبر، فأمه حملته شهورًا تسعة في الغالب تعاني به في تلك الأشهر ما تعاني من آلام من مرض ووحم وثقل، وإذا حان وقت الوضع وجاءها المخاض شاهدت الموت وقاست من الآلام ما الله به عليم، فتارة تموت وتارة تنجو، ويا ليت الألم والتعب ينتهي بالوضع، كان الأمر إذًا سهلاً، ولكن يكثر النصَب ويشتد بعده كما قال تعالى في سورة الأحقاف: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا [الأحقاف:15]، ثم ترضعه حولين كاملين غالبًا، فتقوم به مثقلة وتقعد به مثقلة، وفي أثناء ذلك صياح الليل يحرم الوالدين النوم، وكذلك بالنهار يقلق به راحتهما ويتعب قلبيهما ويذرف دموعهما، ومرض يصيب الولد من وقت لآخر ينخلع له قلبهما انخلاعا وتنهدّ به أبدانهما هدًا، وتعهُّد من الأم لجسمه بالغسل ولثيابه بالغسل ولإفرازاته بالإزالة، ليس يومًا ولا يومين، ولا شهرًا ولا شهرين، ولا سنة ولا سنتين، هما به في متاعب ليلاً ونهارً، ومشاق تصغر بجانبها متاعب المحكومين في الأعمال الشاقة، يضاف إلى ذلك امتصاص دمها الذي هو اللبن مدة الرضاع، ولو لم يكن منه إلا هدم بدنها وإضعافه وإذهاب قوتها لكفى، ومن أجل ذلك قدم بر الأم على بر الأب، وكان لها من البر ثلاثة أمثال ما للأب لأنها تشقى بالحمل والوضع والرضاع، ومما يدل على تقدمها عليه في البر ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء للنبي فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)).
فإذا شبّ الولد وبرزت أسنانه وقويت معدته على قبول الطعام وهضمه وانفتحت شهواته له انفتح للوالدين باب فكر وكدّ لجلب طعامه وشرابه وسائر شئونه، وربما احتمل الوالد ألم الغربة والسفر إلى بلد بعيد لطلب المعيشة للأولاد، وكثيرًا ما يضحي الوالدان في سبيل راحة الأبناء والبنات.
أيها الإخوة المؤمنون، لا أظن أنه تخفى علينا النصوص الواردة من الكتاب والسنة في فضل بر الوالدين وحرمة عقوقهما وأن عقوق الوالدين من كبائر الذنوب، ولكن ينقصنا العمل بما نعلم، ونغفل أحيانًا كثيرة عن مواضع البر مع زحمة الأعمال الدنيوية، كزيارة الوالدين وتفقد أخبارهما والسؤال عن أحوالهما وسؤالهما عن حاجتهما.
وكم نجد ونسمع من يلتمس رضا زوجه ويقدمه على رضا والديه، فربما لو غضبت الزوجة لأصبح طوال يومين حزينًا كئيبًا لا يفرح بابتسامة، ولا يسرّ بخبر، حتى ترضى زوجه الميمون، وربما لو غضب عليه والداه ولا كأن شيئًا قد حصل
أيها المسلمون، إنّ بعض الناس يسمع لزوجته ويلبي مطالبها ويسعى لمرضاتها، وهذا حسن، ولكنه يسيء إلى أمه، فيهملها ولا يسأل عنها، ولا يجلس معها، وربما يسمع ما يقال فيها من قِبَل زوجته وأولاده فيغضب عليها ويتمنى فراقها.
هذه صورة من صور العقوق، يدخل الزوج وهو يعيش مع والديه أو أن والديه يعيشان عنده، يدخل البيت معبس الوجه مكفهرّ الجبين، فإذا دخل غرفة نومه سمعت الأمّ الضحكات تتعالى من وراء باب الحجرة، أو يدخل ومعه هدية لزوجه فيعطي زوجته، ويدع أمه، هذا نوع من العقوق والعياذ بالله، بل الواجب أن يسعى الإنسان إلى إرضاء والدته ولو غضب كل الناس.
عليك ـ أيها المسلم ـ أن تمنع أولادك من أذية أمك بقول أو فعل، وأن لا تقبل بحال من الأحوال شكوى زوجتك نحو أمك، بل عليك بحض زوجتك على احترام أمك والصبر على ما قد يصدر منها، فإن في ذلك خيرا كثيرا وبرا وفيرا.
ويا أخي المسلم، مَن أحق بالبر؟! أمك التي هي سبب وجودك، والتي حملتك في بطنها تسعة أشهر، وتألمت من حملك، وكابدت آلام وضعك، بل وغذتك من لبنها، وسهرت ونمتَ، وتألمت لألمك، وسهرت لراحتك، وحملت أذاك وهي غير كارهة، وتحملت أذاك وهي راضية، فإذا عقلتَ ورجَت منك البر عققتَها، وبررت امرأة لم تعرفها إلا سنةً أو سنتين أو شهرًا أو شهرين.
إني أدعوكم جميعًا ـ أيها الإخوان ـ أن لا تخرجوا من هذا المسجد المبارك إلا وقد عاهدتم الله أنه من كان بينه وبين والديه شنآن أو خلاف أن يصلح ما بينه وبينهم، ومن كان مقصرًا في بر والديه فعاهدوا الله من هذا المكان أن تبذلوا وسعكم في بر والديكم، ومن كان بارًا بهما فليحافظ على ذلك، وإذا كانا ميتين فليتصدق لهما ويبرهما بدعوة صالحة أو عمل صالح يهدي ثوابه لهما.
وأما أنت ـ أيها العاق ـ فاعلم أنك مجزي بعملك في الدنيا والآخرة، يقول العلماء: كلّ معصية تؤخر عقوبتها بمشيئة الله إلى يوم القيامة إلا العقوق، فإنه يعجل له في الدنيا، وكما تدين تدان.
ذكر العلماء أن رجلاً حمل أباه الطاعن في السن، وذهب به إلى خربة فقال الأب: إلى أين تذهب بي يا ولدي؟! فقال: لأذبحك، فقال: لا تفعل يا ولدي، فأقسم الولد ليذبحنّ أباه، فقال الأب: فإن كنت ولا بد فاعلاً فاذبحني هنا عند هذه الحجرة؛ فإني قد ذبحت أبي هنا، وكما تدين تدان.
اللهم أعنا على بر والدينا، اللهم وفق الأحياء منهما، واعمر قلوبهما بطاعتك، ولسانهما بذكرك، واجعلهم راضين عنا، اللهم من أفضى منهم إلى ما قدم فنور قبره، واغفر خطأه ومعصيته، اللهم اجزهما عنا خيرًا، اللهم اجزهما عنا خيرًا، اللهم اجمعنا وإياهم في جنتك ودار كرامتك، اللهم اجعلنا وإياهم على سرر متقابلين، يسقون فيها من رحيق مختوم، ختامه مسك.
اللهم أصلحنا وأصلح شبابنا وبناتنا، اللهم أعلِ همتهم، وارزقهم العمل لما خلقوا من أجله، واحمهم من الاشتغال بتوافه الأمور، وأيقظهم من سباتهم ونومهم العميق وغفلتهم الهوجاء والسعي وراء السراب.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي حكم بالخسران على العاقين لوالديهم وهم لا يظلَمون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يعلم ما تبدون وما تكتمون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن البر والعقوق دَين ووفاء، فإذا أطعت ـ أيها المسلم ـ والديك أطاعك أولادك، وإذا أكرمت والديك أكرمك أولادك، وبالعكس إذا توليت عن والديك وأعرضتَ عنهما سلط الله عليك من ذريتك من لا يراعي فيك عهدا ولا يحفظ لك ودًا ولا يقيم لك وزنًا ولا يعرف لك حقّ أبوّة ولا واجب بنوّة، جاء في الحديث: ((بروا آباءكم تبركم أبناؤكم)).
أيها المسلم، احذر عقوبة الله نتيجة لعقوقك، قال النبي : ((كل الذنوب يؤخر الله تعالى ما شاء منها إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات)) ، وقال النبي : ((رغم أنفه، رغم أنفه رغم أنفه)) ، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة)).
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "لا تصحب عاقا لوالديه، فإنه لن يبرك وقد عقّ والديه".
فاحذر ـ أيها المسلم ـ من العقوق وتضييع الحقوق، قال عمر رضي الله عنه: (إبكاء الوالدين من العقوق)، وقال مجاهد رحمه الله: "لا ينبغي للولد أن يدفع يد والده إذا ضربه، ومن شدّ النظر إلى والديه لم يبرهما، ومن أدخل عليهما ما يحزنهما فقد عقهما"، وسئل كعب الأحبار عن العقوق فقال: "إذا أمرك والداك بشيء فلم تطعهما فقد عققتهما العقوق كله".
ثم اعلم ـ أخي المسلم ـ أن لوالديك حقّا عليك بعد وفاتهما، ومن البر بهما بعد موتهما:
أولا: الدعاء لهما بالرحمة والمغفرة ودخول الجنة والنجاة من النار، قال تعالى: وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24]، وللحديث: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)).
ثالثا: سداد الديون المالية وقضاء الفرائض التعبدية كالحج والنذر.
رابعا: صلة أقربائهما، فقد جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: ((نعم الصلاة عليهما ـ أي: الدعاء لهما ـ ، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما ـ أي: العمل بوصيتهما ـ من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ـ مثل الجد والجدة والعم والخالة والخال وغيرهم ـ ، وإكرام صديقهما)).
وأمّا العقوق فهو مأخوذ من العقّ وهو القطع، والمراد به الإساءة إلى الوالدين في القول والفعل، وصور العقوق كثيرة، ومنها تقديم رضا الزوجة على رضاهم، سألت عائشة رضي الله عنها النبي : أيّ الناس أعظم حقا على المرأة؟ قال: ((زوجها)) ، قالت: فعلى الرجل؟ قال: ((أمه)). وكذا الغلظة والفظاظة ورفع الصوت والعبوس وعدم تلبية ندائهما وعدم الإنفاق عليهما وعدم استئذانهما لسفر فيه مشقة وعدم المبالاة بمشاعرهما أو التسبب في سبهما.
وأما عاقبة العقوق فالعقوبة العاجلة لحديث: ((كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يجعله لصاحبه في الحياة قبل الممات)) ، الخسران والهلاك لحديث: ((رغم أنفه، ثم رغم أنفه)) ، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة)).
الحرمان من كلمة التوحيد عند الموت فعن عبد الله بن أبي أوفي قال: كنا عند النبي فأتاه آت، فقال: شاب يجود بنفسه، فقيل له: قل: لا إله إلا الله، فلم يستطع، فقال: كان يصلي؟! فقال: نعم، فنهض رسول الله ونهضنا معه، فدخل على الشاب، فقال له: ((قل: لا إله إلا الله)) ، فقال: لا أستطيع، قال: ((لم؟)) قال: كان يعقّ والدته؟ فقال النبي : ((أحيّة والدته؟)) قالوا: نعم، قال: ((ادعوها)) ، فدعوها فجاءت، فقال: ((أهذا ابنك؟)) فقالت: نعم، فقال لها: ((أرأيت لو أجّجت نارا ضخمة، فقيل لك: إن شفعت له خلينا عنه وإلا حرقناه بهذا النار، أكنت تشفعين له؟)) قالت: يا رسول الله إذًا أشفع له، قال: ((فأشهدي الله وأشهديني أنك قد رضيت عنه؟)) ، قالت: اللهم إني أشهدك وأشهد رسولك أني قد رضيتُ عن ابني، فقال له رسول الله : ((يا غلام، قل: لا إله إلا الله)) ، فقالها، فقال رسول الله : ((الحمد لله الذي أنقذه من النار)). الجنة محرمة على العاقّ لحديث: ((ثلاثة حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقرّ الخبث في أهله)).
وأما موقف المسلم من البر بالوالدين فطاعتهما، وإن لطاعة الوالدين حدّا محدودا، فلا يجوز طاعتهما في أمر فيه معصية الله سبحانه، فلقد كان سعد بن أبي وقاص بارا بأمه فقالت: لتدعن دينك أو لا آكل ولا أشرب شرابا حتى أموت فتعيّر بي ويقال: قاتل أمه، فقلت لها: يا أماه، لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني، فلما رأت ذلك أكلت، قال تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].
ولا يجب أن يطلّق الرجل زوجته إذا طلبا منه ذلك، سأل رجل الإمام أحمد فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق زوجتي، قال: لا تطلقها، قال: أليس عمر أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته فطلقها؟! فقال الإمام أحمد: حتى يكون أبوك مثل عمر. أي: في تحريه للحق وعدم اتباع الهوى.
قال العلماء: إذا كانت الزوجة مؤذية للوالدين أو محرّضة للزوج أو الأبناء على إيذائهما وجب عليه طلاقها.
وإن تعارضت طاعة الأم مع طاعة الأب فطاعة الأم مقدّمة كما قال الجمهور، قال رجل: يا رسول الله، من أحق بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)). إلا أن تكون في طاعة أحدهما معصية فعليه أن يطيع الذي يأمر منهما بطاعة، وأما إذا تعارض برهما في غير معصية فيحرص على إرضائهما ما أمكن.
روي أن رجلا قال للإمام مالك رحمه الله: والدي في السودان كتب إلي أن أقدِم عليه، وأمي تمنعني من ذلك، فقال له مالك: أطع أباك ولا تعص أمك، أي: يبالغ في طاعة أمه ولو بأخذها معه مثلا.
اللهم وفقنا لصلة الرحم وبر الوالدين، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا وسيدنا وقدوتنا وحبيبنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذي النورين وعلي أبي السبطين، وعن السبطين العلمين وعن أصحاب بدر والعقبة وعن آل بيته الطيبين الطاهرين وعن الطاهرات أمهات المؤمنين وعن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(1/3169)
فضل عشر ذي الحجة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله يخلق ما يشاء ويختار. 2- بركة الطاعة. 3- الزمن المبارك. 4- فضائل عشر ذي الحجة. 5- ما يشرع من الأعمال في هذه العشر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله الذي يخلق ما يشاء ويختار، خلق السماوات واختار منها السابعة، وخلق الجنات واختار منها الفردوس، وخلق الملائكة واختار منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، وخلق البشر واختار منهم المؤمنين، واختار من المؤمنين الأنبياء، واختار من الأنبياء الرسل، واختار من الرسل أولي العزم، واختار من أولي العزم الخليلين، واختار من الخليلين محمدا صلى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين، وخلق الأرض واختار منها مكة، وخلق الأيام واختار من أشهرها شهر رمضان، ومن أيامها يوم الجمعة، ومن لياليها ليلة القدر، ومن ساعاتها ساعة الجمعة، ومن عشرها عشر ذي الحجة.
والمسلم يعيش مباركًا في العمل وفي الزمن، وأعظم البركة في العمل الطاعةُ؛ إذ هي بركة على أهلها كما يقول تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160]، وكما يقول : ((إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ومن همَّ بحسنة فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعلمها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ومن همَّ بسيئة فعملها كتبها الله سيئة واحدة، ولا يهلك على الله إلا هالك)).
وهذا يدل على أن الطاعة بركة في القول؛ إذ الكلمة الواحدة من الطاعة بعشر حسنات يكتب الله بها رضوانه، فيحفظ بها عبده حتى يُدخله الجنة، ويرضى عليه في الجنة فلا يسخط عليه أبدًا.
والطاعة بركة في العمل؛ إذ الصلاة بعشر صلوات كما في الحديث القدسي: ((أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي)) ، فهي خمس في الفعل وخمسون في الأجر والثواب. وصوم رمضان بعشرة أشهر كما في الحديث: ((رمضان بعشرة أشهر، وست شوال بشهرين)) ، ((والصدقة بسبعمائة ضعف)) ، ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
والطاعة طهرة من الذنوب، فالصلاة طهرة من الذنوب كما في الحديث: ((مثل الصلوات الخمس كمثل نهر غمر على باب أحدكم يغتسل منه خمس مرات في اليوم والليلة، هل يبقى عليه من الدرن شيء؟!)). والصوم طهرة من الآثام كما في الحديث: ((جاءني جبريل فقال: من أدرك رمضان فلم يغفر له أبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين)) ، ومن صامه وقامه وقام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه. و((الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)) ، و((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)).
والطاعة بركة في التعامل؛ إذ بالتعامل الحسن يدرك الإنسان درجة الصائم القائم، ويجاور الرسول ، ويحظى ببيت في أعلى الجنة، ويدخل الجنة، ويكمل إيمانه، ويثقل ميزانه.
وأعظم الزمن بركة عشر ذي الحجة، والتي تستقبلونها إن شاء الله هذه الأيام؛ إذ لها مكانة عظيمة عند الله تعالى تدل على محبته لها وتعظيمه لها، فهي عشر مباركات كثيرة الحسنات قليلة السيئات عالية الدرجات متنوعة الطاعات.
فمن فضائلها أن الله تعالى أقسم بها فقال: وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر:2]، ولا يقسم تعالى إلا بعظيم، ومما يدل على ذلك أن الله لا يقسم إلا بأعظم المخلوقات كالسماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والرياح، ولا يقسم إلا بأعظم الأزمان كالفجر والعصر والضحى والليل والنهار والعشر، ولا يقسم إلا بأعظم الأمكنة كالقسم بمكة، وله أن يقسم من خلقه بما يشاء، ولا يجوز لخلقه أن يقسموا إلا به، فالقسم بها يدل على عظمتها ورفعة مكانتها وتعظيم الله لها.
ومن فضائلها أن الله تعالى قرنها بأفضل الأوقات، والقرين بالمقارن يقتدي، فقد قرنها بالفجر وبالشفع والوتر وبالليل. أما اقترانها بالفجر فلأنه الذي بحلوله تعود الحياة إلى الأبدان بعد الموت، وتعود الأنوار بعد الظلمة، والحركة بعد السكون، والقوة بعد الضعف، وتجتمع فيه الملائكة، وهو أقرب الأوقات إلى النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل، وبه يُعرف أهل الإيمان من أهل النفاق. وقرنها بالشفع والوتر لأنهما العددان المكوِّنان للمخلوقات، فما من مخلوق إلا وهو شفع أو وتر، وحتى العشر فيها شفع وهو النحر، وفيها وتر وهو عرفة. وقرنها بالليل لفضله، فقد قُدّم على النهار، وذكر في القرآن أكثر من النهار، إذ ذكر اثنتين وسبعين مرة، والنهار سبعا وخمسين مرة، وهو أفضل وقت لنفل الصلاة، وهو أقرب إلى الإخلاص لأنه زمن خلوة وانفراد، وهو أقرب إلى مراقبة الرب تعالى إذ لا يراه ولا يسمعه ولا يعلم بحاله إلا الله، وهو أقرب إلى إجابة الدعاء وإلى إعطاء السؤال ومغفرة الذنوب إذ يقول الرب في آخره: هل من داعٍ فأجيبه، وهل من سائل فأعطيه، وهل من مستغفر فأغفر له. مُيِّز به أهل الجنة في قوله تعالى: كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17]، وفي قوله سبحانه: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]، وميِّز به عباد الرحمن في قوله: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان:63، 64]، قال بعض السلف: "لولا الليل ما أحببت العيش أبدا"، وقال آخر: "لم يبق من لذة الدنيا إلا قيام الليل وصلاة الجماعة وصحبة الصالحين".
ومن فضائلها أن الله تعالى أكمل فيها الدين؛ إذ تجتمع فيها العبادات كلها، وبكمال الدين يكمل أهله، ويكمل عمله، ويكمل أجره، ويعيشون الحياة الكاملة التي يجدون فيها الوقاية من السيئات والتلذذ بالطاعات ومحبة المخلوقات، وبكمال الدين تنتصر السنة وتنهزم البدعة ويقوى الإيمان ويموت النفاق، وبكمال الدين ينتصر الإنسان على نفسه الأمارة بالسوء لتكون نفسًا مطمئنة تعبد الله كما أراد، وتقتدي بالأنبياء، وتصاحب الصالحين، وتتخلق بالأخلاق الحسنة، وبكمال الدين ينتصر الإنسان على شيطانه الذي شطّ ومال به عن الصراط المستقيم، وينتصر على الهوى والشهوات. وقد كمل الدين حتى تركنا الرسول على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك شقي. وقد حسدنا اليهود على هذا الكمال، قال حبر من أحبار اليهود لعمر رضي الله عنه: آية في كتابكم، لو نزلت علينا ـ معشر اليهود ـ اتخذنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدًا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، قال عمر: (إني أعلم متى نزلت، وأين نزلت. نزلت يوم عرفة في يوم جمعة). وكمال الدين يدل على كمال الأمة وخيريتها.
ومن فضائلها أن الله أتم فيها النعمة؛ إذ تنعم الأرواح بشتى أنواع الطاعات القولية والفعلية والتعاملية، ومن تمام النعمة أن الله فتح قلوب العباد للإسلام، فدخل الناس في دين الله أفواجًا، إذ كان عددهم عند تمام النعمة أكثر من مائة ألف. ومن تمام النعمة أن الله أظهر الإسلام على جميع الأديان؛ إذ كان في الجزيرة أديان متنوعة، منها اليهودية والنصرانية والمجوسية والوثنية والنفاق، فأبيدت بالإسلام، وظهر عليها الإسلام، قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28]. ومن تمام النعمة منع الكفار من دخول الحرم واختصاص المسلمين بذلك، فتوحدت صفوف المسلمين حتى أصبحوا كالجسد الواحد، ووحدوا معبودهم، وتوحد دينهم، وتوحدت كلمتهم، وتوحد طريقهم، ويا لها من نعمة عظيمة أن ترى أهل الإيمان ظاهرين وأهل الكفر مهزومين.
ومن فضائلها أن العبادات تجتمع فيها ولا تجتمع في غيرها، فهي أيام الكمال، ففيها الصلوات كما في غيرها، وفيها الصدقة لمن حال عليه الحول فيها، وفيها الصوم لمن أراد التطوع، أو لم يجد الهدي، وفيها الحج إلى البيت الحرام ولا يكون في غيرها، وفيها الذكر والتلبية والدعاء الذي تدل على التوحيد، واجتماع العبادات فيها شرف لها لا يضاهيها فيه غيرها ولا يساويها سواها.
ومن فضائلها أنها أفضل أيام الدنيا على الإطلاق، دقائقها وساعاتها وأيامها وأسبوعها، فهي أحب الأيام إلى الله تعالى، والعمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى، فهي موسم للربح، وهي طريق للنجاة، وهي ميدان السبق إلى الخيرات، لقوله : ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام)) يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) ، وهذا يدل على أن العمل في أيام العشر أفضل من الجهاد بالنفس، وأفضل من الجهاد بالمال، وأفضل من الجهاد بهما والعودة بهما أو بأحدهما، لأنه لا يفضل العمل فيها إلا من خرج بنفسه وماله ولم يرجع لا بالنفس ولا بالمال، وقد روي عن أنس بن مالك أنه قال: كان يقال في أيام العشر: بكل يوم ألف يوم، ويوم عرفة بعشرة آلاف يوم، يعني في الفضل، وروي عن الأوزاعي قال: بلغني أن العمل في يوم من أيام العشر كقدر غزوة في سبيل الله، يصام نهارها ويحرس ليلها، إلا أن يختص امرؤ بالشهادة.
ومن فضائلها أن فيها يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، وهو يوم معروف بالفضل وكثرة الأجر وغفران الذنب، فهو يوم مجيد، يعرف أهله بالتوحيد، إذ يقولون: لا إله إلا الله، وقد قال : ((وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله)) ، ويعرف الإنسان ضعف نفسه إذ يكثر من الدعاء ويلح على الله في الدعاء، وفي الحديث: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة)) ، ويعرف إخوانه المسلمين الذين اجتمعوا من كل مكان في صعيد واحد، ويعرف عدوّه الذي ما رئي أصغر ولا أحقر منه في مثل يوم عرفة، ويعرف كثرة مغفرة الله في هذا اليوم لكثرة أسباب المغفرة من توحيد الله ودعائه وحفظ جوارحه وصيامه لغير الحاج، وهو يوم الحج الأعظم، قال : ((الحج عرفة)) ، وصومه تطوعًا يكفر ذنوب سنتين: سنة ماضية وسنة مقبلة، وما علمت هذا الفضل لغيره فكأنه حفظ للماضي والمستقبل.
ومن فضائلها أن فيها يوم النحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو أفضل الأيام كما في الحديث: ((أفضل الأيام يوم النحر)) ، وفيه معظم أعمال النسك من رمي الجمرة وحلق الرأس وذبح الهدي والطواف والسعي وصلاة العيد وذبح الأضحية واجتماع المسلمين في صلاة العيد وتهنئة بعضهم بعضًا.
وفضائل العشر كثيرة لا ينبغي للمسلم أن يضيِّعها، بل ينبغي أن يغتنمها، وأن يسابق إلى الخيرات فيها، وأن يشغلها بالعمل الصالح.
ومن الأعمال المشروعة فيها الذكر، يقول تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج:28]، وروى الإمام أحمد عن ابن عمر أن النبي قال: ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)).
وكان أبو هريرة وابن عمر ـ وهما أكثر الصحابة رواية للحديث وأكثر اتباعًا للسنة ـ إذا دخلت عشر ذي الحجة يخرجان إلى السوق يكبران كلّ على حدته، فإذا سمعهم الناس تذكروا التكبير فكبروا كل واحد على حدته، وهذا التكبير المطلق، ويُكثر مع التكبير من التسبيح والتهليل والتحميد والذكر، ويكثر من قراءة القرآن فإنه أفضل الذكر، وفيه الهدى والرحمة والبركة والعظمة والتأثير والشفاء، وليعلم المسلم بأن الذكر هو أحب الكلام إلى الله تعالى، وهو سبب النجاة في الدنيا والآخرة، وهو سبب الفلاح، وحفظ لصاحبه من الكفر ومن الشيطان ومن النار، به يذكَر العبد عند الله، ويصلي الله وملائكته على الذاكر، وهو أقوى سلاح، وهو خير الأعمال وأزكاها وأرفعها في الدرجات، وخير من النفقة، به يضاعف الله الأجر، ويغفر الوزر، ويثقل الميزان، ومجالسه هي مجالس الملائكة ومجالس الرسل ومجالس المغفرة والجنة والإيمان والسعادة والرحمة والسكينة، وفضائله كثيرة، قرنه الله بالصلاة فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [النساء:103]، وقرنه بالجمعة فقال: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ [الجمعة:10]، وقرنه بالصوم فقال: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185]، وقرنه بالحج فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200]، وقرنه بالجهاد فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ [الأنفال:45]، ولا يتقيد بزمن ولا حال، أمر الله به على جميع الأحوال فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103].
وينبغي للمسلم أن يسابق في هذه العشر بكل عمل صالح، ويكثر من الدعاء والاستغفار، ويتقرب إلى الله بكل قربة، فدونكم الفضائل فاغتنموها، وإياكم والتواني والكسل، ولنعلم أن لله جل وعلا نفحات في أيامه، فلنهتبل الفرصة ولنستكثر من الحسنات، عل الله جل وعلا أن يعفو عن زلاتنا وسيئاتنا.
اللهم وفقنا لأرشد الأقوال والأفعال لا يوفق لأرشدها إلا أنت، اللهم جنبنا سيئ الأقوال والأفعال والأهواء والأدواء لا يجنبنا سيئها إلا أنت، اللهم اهدنا وسددنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيَات والذكر الحكيم، ونفعَنا بهدي سيد المرسلين وبقَوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من ذلك ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ مستيقنٍ بها في جنانه، ومقرٍّ بها بلسانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله المبلغُ للوحيين: سنته وقرآنه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
وإن من أفضل الأعمال في هذه الأيام ـ يا عباد الله ـ الإهلال بالحج والتقرب إلى الله جل وعلا به، والتقرب إلى الله بصوم عرفة لمن لم يحج، وفضل الأضاحي، ولعل الله جل وعلا ييسر لنا الكلام عن فضلها في الجمعة القادمة.
ومن الأعمال في هذه العشر الإكثار من نوافل الصلوات بعد الفرائض، كالرواتب التي قبل الفرائض وبعدها، وهي اثنتا عشرة ركعة: أربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر. ويواظب على النوافل المقيدة، مثل أربع قبل الظهر، وأربع بعدها، وأربع قبل العصر، وركعتان قبل المغرب، وصلاة الليل، وهي إحدى عشرة ركعة كما في السنة عن رسول الله ، وكان يواظب عليها ويقضيها وقت الضحى لو نام عنها، وصلاة الضحى ركعتان أو أكثر، فالمحافظة على النوافل سبب من أسباب محبة الله، ومن نال محبة الله حفظه وأجاب دعاءه، وأعاذه ورفع مقامه، لأنها تكمل النقص وتجبر الكسر وتسد الخلل.
ويكثر من الصدقة في العشر، إذ الصدقة فيها أفضل من الصدقة في رمضان، وما أكثر حاجات الناس في العشر من النفقة والاستعداد للحج وللعيد وطلب الأضحية ونحوها، وبالصدقة ينال الإنسان البر ويضاعف له الأجر ويظله الله في ظله يوم القيامة، ويفتح بها أبواب الخير ويغلق بها أبواب الشر، ويفتح فيها بابا من أبواب الجنة، ويحبه الله ويحبه الخلق، ويكون بها رحيمًا رفيقًا، ويزكي ماله ونفسه، ويغفر ذنبه، ويتحرر من عبودية الدرهم والدينار، ويحفظه الله في نفسه وماله وولده ودنياه وآخرته.
ويكثر من الصيام في أيام العشر، ولو صام التسعة الأيام لكان ذلك مشروعًا، لأن الصيام من العمل الصالح، ولأنه ثبت في الحديث أنه كان يصوم يوم عاشوراء، وتسع ذي الحجة، وثلاثة أيام من الشهر، وما ورد عن عائشة أنه ما صام العشر فالمراد إخبار عائشة عن حاله عندها، وهو عندها ليلة من تسع، ولربما ترك الشيء خشية أن يُفرض على أمته، ولربما تركه لعذر من مرض أو سفر أو جهاد أو نحوه، وإذا تعارض حديثان أحدهما مُثبت والآخر نافي فإننا نقدم المثبت على النافي، لأن عنده زيادة علم.
وينبغي للمسلم إذا دخلت عليه العشر وهو يريد أن يضحي أن لا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئًا، فمن أراد منكم أن يضحي فثبت دخول شهر ذي الحجة فإنه لا يحلّ له أن يأخذ من شعره ولا من بشرته ولا من أظفاره شيئا، هكذا جاء الحديث عن رسول الله ، إذا دخل العشر وأراد الإنسان أن يضحي فلا يأخذن من هذه الأمور الثلاثة شيئا الشعر والظفر والبشرة يعني الجلد، وأما من يضحّى عنه وهم أهل البيت فلا حرج عليهم أن يأخذوا شيئا من ذلك لأن النبي إنما نهى من أراد أن يضحي وأهل البيت يضحى عنهم ولا يضحّون، ولهذا لا نعلم أن النبي كان ينهى أهله أن يأخذوا شيئا من ذلك مع أنهم كانوا يضحى عنهم، فقد كان رسول الله يضحي بأضحيتين: إحداهما عنه وعن أهل بيته، والثانية عن أمته جميعا، فجزاه الله عنا خيرا، وجعلنا من أتباعه ظاهرا وباطنا، وحشرنا في زمرته، وسقانا من حوضه، وجمعنا به في جنات النعيم، إنه هو الكريم الوهاب.
وأكثروا من الصلاة والسلام علي نبيكم محمد ، أكثروا من الصلاة عليه في كل وقت فإنه أعظم الناس حقا عليكم، أكثروا من الصلاة عليه فإنكم بذلك أمرتم، أكثروا من الصلاة عليه فإنكم تنالون بذلك أجرا عظيما، فإن من صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عشره.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهرا وباطنا، اللهم توفنا على ملته، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم اسقنا من حوضه، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أفضل أتباع المرسلين، اللهم ارض عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم ارض عنا معهم وأصلح أحوالنا كما أصلحت أحوالهم يا رب العالمين.
(1/3170)
خطبة استسقاء 11/2/1425هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
11/2/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة المطر. 2- سنة الابتلاء. 3- أنواع الغيث. 4- أسباب منع القطر. 5- حال الأمة اليوم. 6- دعوة للتوبة والاستغفار. 7- دعاء وابتهال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، نعمةٌ من نِعَم الله، وآيةٌ من آياتِه، لا غِنَى للناس عنها، هي مادّة حياتِهم وعُنصُر نمائهم وسَبَب بقائِهم، مِنها يشرَبون ويسقون، ويحرُثون ويزرَعون، ويرتَوون ويأكلون، تلكم هي نعمةُ الماء والمطر، وآيةُ الغيث والقطر.
إخوةَ الإيمان، الماء أصلُ النمَاء، الفائقُ على الهواءِ والغِذاء والكساء والدّواء، هو عنصر الحياةِ وسبَب البقاء. مَن الذي أنشأه من عناصره إلا الله؟! ومَن الذي أنزَله من سحائبه إلا الله؟! أإلهٌ مع الله؟! لا إلهَ إلا الله، وَجَعَلْنَا مِنَ ?لْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30].
صنعُ مَن هذا أيّها المسلمون؟! صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88]. خَلقُ مَن هذا أيها المؤمنون؟! هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان:11].
إنّه لو اجتمع الأوائل والأواخر على إنزال قطرة من المطر ما استطاعوا، وهل ذلك إلا من صُنع من شهدت له مخلوقاته ودلّت عليه آياته.
فوا عجبًا كيف يُعصَى الإله أم كيف يجحده الجاحدُ؟!
ولله في كل تحريكةٍ وتسكينةٍ أبدًا شاهدُ
وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنه واحدُ
سبحانه وتعالى عمّا يشرك به المشركون علوًّا كبيرا.
إخوةَ الإسلام، إنّه لا يقدر هذه النعمةَ قدرَها إلا من حُرِمها، تأمَّلوا في أحوالِ أهل الفقر والفاقة التي تغلب على حياة مَن ابتُلوا بالجدْب والقحطِ والجَفاف والمجاعة، سائلوا أهل المزارِع والمواشي: في أيّ حالة من الضرّ يعيشون، لقلّةِ الأمطار وغورِ المياه، وهي سبب خصبِ مزارعهم وحياةِ بهائمهم، أرأيتم يا من تنعمون بوفرةِ المياه، ماذا لو حبِس الماء عنكم ومنعتم إيّاه؟! هل تصلُح لكم حال؟! أم هل يقرّ لكم قَرار؟! وهل تدوم لكم حياة؟! قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ [الملك:30]، إنّه لا منجَى ولا ملجأ من الله إلا إليه.
ومِن حكمته تبارك وتعالى أن لا يديمَ عبادهُ على حالةٍ واحدَة، بل يبتليهم بالسراء والضّراء، ويتعاهدهم بالشدّة والرّخاء، ويمتحنهم خيرًا وشرًّا، نِعَمًا ونقمًا، محنًا ومنحا، وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لأمَوَالِ وَ?لأنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة:155].
ومِن ابتلاءِ الله لعباده حبسُ القطر عنهم، أو تأخيرُه عليهم، أو نزع بركتِه منهم، مع ما للمطر من المنافع العظيمة للناس والبهائم والزروعِ والثمار، وما في تأخيرِه من المضارّ الخطيرة عليهم.
عبادَ الله، لقد شكوتم إلى ربِّكم جدْب دياركم، وتأخّر المطر عن إبّان نزوله عن بلادكم وأوطانكم، فما أحرَى ذلك أن يدفعَكم إلى محاسبَة أنفسكم ومراجعةِ دينكم، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، أَوَلَمَّا أَصَـ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ?لَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
معاشرَ المسلِمين، الغيثُ نوعان: معنويّ وحِسّيّ. أولهما غيث القلوب والأرواح بالإيمان واليقين، وثانيهما غيث الأرض بالمطر، وإن الغيثَ الأول هو الأصل للثاني، كما أن للغيث الثاني أسبابا جالبة وأخرى مانعة، فهل ساءلنا أنفسنا ونحن في مواسِم الغيث: هل أخذنا بأسبابِ نزوله، أم قد نكون نحن بأفعالنا سببًا في منعه؟!
فإنّ الغيثَ ـ يا رعاكم الله ـ جِماع الرزق، قال تعالى: وَفِى ?لسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22]، والمطر أصلُ البركات، قال سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ [الأعراف:96].
وما ابتُلِي المسلِمون اليومَ بقلّة الأمطار وغورِ المياه وانتشار الجدْب والقحط وغلبة الجفافِ والمجاعة في بقاع كثيرةٍ مِن العالم إلا بسببِ الذنوب والمعاصي.
وإنّ من أسبابِ منع القطر من السّماء ـ يا عبادَ الله ـ غفلةَ العباد عن طاعة ربهم، وقسوةَ قلوبهم بما ران عليها من الذنوب والمعاصي، وتساهلَهم في تحقيق الإيمان والتقوى، وتقصيرهم في أداء الصلاة وإيتاءِ الزكاة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لم ينقص قومٌ المكيالَ والميزانَ إلا أخِذوا بالسنين وشدّة المؤونةِ وجَور السلطان عليهم، ولم يمنَعوا زكاةَ أموالهم إلا منِعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يمطَروا)) خرّجه ابن ماجه في سننه والحاكم في مستدركه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما [1].
وإنّ من أسباب منع القطر ـ يا عباد الله ـ إعراضَ كثير من الناس عن التوبة إلى ربهم واستغفاره، وهما من أعظمِ أسباب نزول الغيث، يقول تعالى عن نوحٍ عليه السلام: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12]، وقال تعالى على لسانِ هودٍ عليه السلام: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ [هود:52]، وقد خرَج عمر رضي الله عنه للاستسقاءِ فلم يزِد على الاستغفار، فقيل له في ذلك فقال: (لقد طلبتُ الغيثَ بمجاديح السماءِ التي يستَنزَل بها المطر) [2].
الله أكبَر، نَستغفِر الله، نستغفِر الله، نستغفِر الله، سبحانَك ربَّنا ما أعظمَك، سبحانك ربَّنا ما أكرمَك، سبحانك ربَّنا ما أحلمَك، سبحانَك ما قدَرناك حقَّ قدرِك، سبحانك ما عبدناك حقَّ عبادتك.
في الأثر عن عليٍّ رضي الله عنه قال: (ما نزَل بلاءٌ إلا بذَنب، ولا رفِع إلا بتوبة) [3]. وإنّ ذنوبَنا ـ يا عباد الله ـ كثيرة، وإنّ تقصيرَنا عظيم، وإنّ شؤمَ الذنوب والمعاصي لخطير، فما حلّت في ديارٍ إلا أهلَكتها، ولا في قلوبٍ إلاّ أفسدتها، ولا في مجتمعاتٍ إلا دمّرَتها، يقول ابن القيّم رحمه الله: "وهل في الدنيا والآخرة شرٌ وبلاء إلا وسببُه الذنوبُ والمعاصي؟!".
أمّةَ الإسلام، أوَليس ظلمُ العبادِ وغشُّهم ومطلهم حقوقهم وبخسُهم في المكاييل والموازين والمقاييس منتشِرًا بين صفوفِ كثيرٍ من المُسلمين وفي أسواقِهم ومعامَلاتِهم؟! أمَا هذه قلوبُ كثيرين قد انطوَت على الحِقد والحَسد والشّحناء والتقاطُع والتّدابر والبغضاء لأتفهِ الأسباب واستمراءِ حياةِ الفرقة والاختلافِ والتجافِي عن الوَحدة والائتلاف؟! أمَا هذه الزّكاةُ المفروضة قد بخِل بها كثيرٌ من النّاس، وظنّوها جبايةً وعَناءً، لا مواساة ونَماءً، وألهاهم التكاثر والتنافسُ في الدّنيا عن إخراج حقِّ الله فيها؟! أما مظاهرُ التّبرّج والسّفورِ والاختلاط والتساهل في الحجاب وقضايا المرأة وأصواتُ الملاهي والمعازف موجودةٌ في كثير من المجتمعات؟! مع التقصير في جانِب الحِسبة والدّعوة والإصلاح والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر مع أنه قِوام هذا الدين وبه نالت هذه الأمةُ الخيريةَ على العالمين. أمّا ما تبثُّه الشبكات والقنوات والفضائيّات ممّا يندَى له الجبين حياءً وخجلا وتئنّ منه الفضيلة وتعلو له الرذيلة فحدِّث ولا كرامةَ، وحسبُك من شرٍّ سماعُه، ولا حولَ ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:45-47].
ألا ما أوسعَ حِلمَ الله على عبادِه، لكن لعلّنا نُرحَم ونُغاث بحالِ المنيبين المخلِصين، ودعواتِ الأخفياء الصّالحين، وحالِ المعوِزين المستضعفين من الأطفال الرُّضَّع والشّيوخ الركَّع والبهائم الرتَّع، واللهمّ سلِّم سلِّم، ورُحماك ربَّنا رُحمَاك، وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
فأنِيبوا ـ عبادَ الله ـ إلى ربِّكم واستغفِروه، واعلَموا أنّ استنزالَ الغيثِ واستنباتَ الزّرع مُحالٌ أن يكونَ بالدّعواتِ الساهيَة أو بالقلوبِ الغافِلة والعقولِ اللاهية، فأظهروا ـ رحمكم الله ـ الافتقارَ إلى ربِّكم، واجتهدوا في أداء حقِّه وحقوقِ عباده، لا سيّما في الأموال والأعراض، اخرجوا من المظالم، واتركوا التشاحنَ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه من مالٍ أو عرض فليتحلّله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم)) [4].
جدِّدوا التوبةَ عباد الله، وجرِّدوا القلوبَ من الحسَد والبغضاء والغِلِّ والشحناء، وصونوا ألسنتكم عن الغيبةِ والنميمة وقولِ البهت والزور على البرآء، واحذَروا الوقوعَ في الأعراض وترويجَ الأكاذيب والشائعات، أدّوا زكاةَ أموالكم طيِّبةً بها نفوسكم، تراحَموا، وتسامحوا، وصِلوا الأرحام، وبرّوا الوالدين، وأحسِنوا إلى الفقراءِ والمساكين والأرامل والأيتام والمحاويج، كونوا إخوةً متحابّين، على البرّ والتقوَى متعاوِنين، تحلَّوا بالأخلاق الكريمة، وتخلّوا عن الأوصافِ الذّميمة، وتأسّوا بنبيّكم عند استسقائه، فقد خرج متذلِّلاً متخشِّعًا [5] ملِحًّا على الله بالدّعاء، فاهتَدوا بهَديِه، واقتدُوا بسنّته، واجتهِدوا في الدعاء، فإنّ الاجتهاد في الدعاء من أعظمِ الأسباب التي يُستنزَل بها المطَر، أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء ?لأرْضِ أَءِلَـ?هٌ مَّعَ ?للَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل:62]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وقد ورَد أن الله عزّ وجلّ يستحيي من عباده إذا رفَعوا أيديَهم إليه أن يردَّها صِفرًا، أي: خائبتين. خرجه أحمد وأبو داود من حديث سلمانَ رضي الله عنه [6].
إذا علمتُهم ذلك ـ يا عبادَ الله ـ فارفَعوا قلوبَكم إلى بارئكم وأيديَكم إلى ربِّكم ومولاكم، والهَجوا بالثناءِ عليه سبحانَه، طالبين الغيثَ منه، راجين لفضلِه، مؤمِّلين لكرمِه، ملحِّين عليه بإغاثةِ القلوب والأرواح، وسقيِ البلادِ والعبادِ، فخزائنه سبحانه ملأى، ويداه مبسوطتان بالعَطايا، سَحّاء الليلَ والنهار، فسبحانه، ألا هو العزيز الغفَّار.
لا إلهَ إلا الله غِياثُ المستغيثين، لا إلهَ إلا الله جابرُ كسرِ المنكسرين، لا إلهَ إلا الله راحمُ المستضعفين.
نستغفرُ الله، نستغفِر الله، نستغفِر الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم ونَتوب إليه.
لا إلهَ إلا أنت سبحانك إنّا كنا من الظالمين، لا إلهَ إلا أنت سبحانك إنا كنّا من الظالمين، لا إلهَ إلا أنت سبحانك إنّا كنا من الظالمين.
إلهَنا، كلُّ فرَحٍ بغيرِك زائِل، وكلّ شُغل بسِواك باطِل، والسّرورُ بِك هو السّرور، والسّرور بغيرك هو الغرور.
اللهمّ يا حيّ يا قيّوم برحمتك نستغيث، فلا تكِلنا إلى أنفسِنا طرفةَ عين ولا أقلَّ من ذلك.
لئن لم يرحَمنا ربّنا ويغفر لنا لنكوننّ من الخاسِرين، ربَّنا ظلَمنا أنفسنا وإن لم تغفِر لنا وترحَمنا لنكوننَّ من الخاسرين.
اللهمّ أنتَ الله لا إلهَ إلا أنت، أنتَ الغنيّ ونَحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانطين. اللهمّ أنتَ الله لا إله إلا أنت، أنتَ الغنيّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين.
اللهمّ أغثنا، اللهمّ أغثنا، اللهمّ أغثنا. اللهمّ اسقِنا, اللهمّ اسقِنا، اللهمّ اسقِنا.
اللهمّ أغِث قلوبنا بالإيمان واليقين، وبلادَنا بالخيراتِ والأمطار والغيثِ العميم يا ربّ العالمين.
اللهمّ إنّا خلق من خلقِك، فلا تمنَع عنّا بذنوبنا فضلك. اللهمّ إنّا خلق من خلقك، فلا تمنَع عنا بذنوبنا فضلك.
اللهمّ إنا نستغفرك إنّك كنت غفَّارًا، فأرسِل السماء علينا مدرارًا. اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفَّارًا، فأرسِل السماء علينا مدرارًا.
اللهمّ أغثنا غيثًا مغيثا هنيئًا مريئًا سَحًّا غدقًا طبَقا واسعًا مجلِّلا، نافعًا غيرَ ضار، عاجِلا غير آجل، عاجِلا غير رائِث، اللهمّ سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق.
اللهمّ اسق عبادَك وبهائمك، وأحيِ بلدك الميّت، وانشُر رحمتك، اللهمّ أغثنا غيثًا مباركا، تحيِي به البلاد، وترحَم به العباد، وتجعَله بلاغًا للحاضر والباد.
اللهمّ أنزل علينا الغيثَ، واجعل ما أنزلتَه قوّة لنا على طاعتك وبلاغًا إلى حين.
اللهمّ أنبِت لنا الزّرع، وأدِرّ الضّرع، وأنزل علينا من بركاتِ السماء، وأخرج لنا من بركاتِ الأرض يا ذا الجلال والإكرام.
اللهمّ ارحَم الشيوخَ الركّع، والبهائمَ الرتّع، والأطفال الرّضّع.
اللهمّ أخرج في أرضنا زينتَها، وأنبت فيها بهجتَها، ومتِّعنا بنضارتِها، وأكرمنا بخيرها وبركتِها.
اللهمّ ارفع القحطََ والجفاف والجوع والجَهد، واكشف ما بالمسلمين من البلايا، فإن بهم ـ يا حليم يا كريم ـ من اللأواء ما لا يكشفه ولا يصرفه إلا أنت، سبحانك وبحمدك.
اللهمّ اكشف الضرَّ عن المتضرِّرين، والكربَ عن المكروبين، وأسبِغ النعمَ على عبادك المؤمنين.
اللهمّ لا تهلكنا بالسنين، وأنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من الآيسين.
اللهمّ لك الحمد والشكر على ما أنزلتَ علينا من الغيثِ، اللهمّ فزدنا منه، اللهم فزِدنا منه، وعُمّ به أرجاءَ البلاد، وأتبِعه بخير منه يا ذا الجلال والإكرام، واجعَله على الضراب والآكام وبطون الأودية ومنابتِ الشجر.
اللهمّ هؤلاء عبادك، رفَعوا أكفَّ الضراعة إليك، يسألونَك الغيث، اللهمّ يا ذا الجلال والإكرام فأعطِهم سؤلهم، اللهمّ فأعطهم سؤلهم، وحقِّق أملهم يا حيّ يا قيوم.
أيها الإخوة المسلمون المستغيثون، لقد كان من سنّة نبيّكم بعدما يستغيثُ ربَّه أن يقلبَ رداءه [7] ، فاقلبوا أرديتكم اقتداءً بسنّة نبيّكم ، وألحّوا على الله بالدّعاء، فإنّه سبحانه يحبّ الملحّين في الدعاء، وأحسِنوا الظن بربكم، واحذروا اليأسَ من روح الله والقنوطَ من رحمة الله.
ربّنا لا تؤاخِذنا إن نسِينا أو أخطأنا، ربَّنا تقبل منا إنك أنتَ السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم، واغفِر لنا ولوالدينا ولجميعِ المسلمين، يا أرحمَ الراحمين.
اللهمّ لا تردَّنا خائبين، ولا عن بابِك مطرودين، ولا مِن رحمتك محرومين.
سُبْحَـ?نَ رَبّكَ رَبّ ?لْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَـ?مٌ عَلَى? ?لْمُرْسَلِينَ وَ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الصافات:180-182].
وصلّى الله على سيّد ولدِ آدم أجمعين النبيِّ المصطفى والرسول المجتبى والحبيب المرتضى نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبِعهم بإحسان وسارَ على نهجهم واقتفى، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
[1] سنن ابن ماجه: كتاب الفتن (4019)، شعب الإيمان للبيهقي (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[2] أخرجه عبد الرزاق (4902)، وسعيد بن منصور (5/353)، وابن أبي شيبة (29485)، والبيهقي (3/351) بسند جيد إلى الشعبي قال: خرج عمر يستسقي فذكره، قال أبو زرعة وأبو حاتم: الشعبي عن عمر مرسل، تحفة التحصيل (ص164).
[3] انظر: طريق الهجرتين (ص415). وروي من كلام العباس رضي الله عنه في دعائه لما طلب منه عمر بن الخطاب أن يستسقي لهم، عزاه الحافظ في الفتح (2/497) للزبير بن بكّار في الأنساب وسكت عنه. وروي من كلام عمر بن عبد العزيز، انظر: مجموع الفتاوى (8/163).
[4] أخرجه البخاري في المظالم (2449) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه أحمد (2039)، وأبو داود في الصلاة (1165)، والترمذي في الجمعة (559)، والنسائي في الاستسقاء (1489)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1266) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (1408)، وابن حبان (2862)، وابن الجارود (253)، والضياء في المختارة (9/501).
[6] أخرجه أحمد (23715)، وأبو داود في الصلاة (1488)، والترمذي في الدعوات (3556)، وابن ماجه في الدعاء (3865)، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب، ورواه بعضهم ولم يرفعه"، وصححه ابن حبان (876)، وهو في صحيح الترغيب (1635).
[7] أخرجه البخاري في الجمعة (969)، ومسلم في الاستسقاء (1489) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3171)
فتنة اختلال الأمن
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, قضايا المجتمع
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
11/3/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توالي الفتن. 2- ظاهرة الإخلال بالأمن. 3- كثرة القتل من علامات الساعة. 4- أهمية مطلب الأمن. 5- تجريم أحداث التفجير. 6- الاتزان في تشخيص الداء. 7- ما نزل بلاء إلا بذنب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيها الناس، إنَّ واقعَنا اليومَ لهو واقعٌ موحِش، تتلاطم فيه ظلماتُ الفِتَن كتلاطُم موج بَحر لُجِّيّ يغشاهُ موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب، ظلماتٌ بعضها فوق بعض. وإنّ غواسِقَ هذه الفتن قد أحاطت بنا من كلِّ جانب، وأخذت بأفئدتنا كلَّ مأخَذ، بل وتخطَّفتنا على غِرَّة كما تتخطَّف الزوابع نِثار الأرض. إنَّها لفتنٌ عمياء صمَّاء بكماء، تَدعُ الحليم حيرانًا واللَّبيبَ مذهولا، ذلكم الحليم الذي رُزق خَصلةً يحبُّها الله ورسوله ، الحليمُ الذي إذا شُتِم صبر وإذا ضُرِب غفَر، إنّه ليُرى إبَّان هذه الفتن حيرانًا من هول الوقع وعِظَم الخطب. وهذه الفتنُ التي تعترينا حينًا بعد آخر إنما هي في حقيقتها تمحيصٌ وابتلاء، لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ [الأنفال:37].
في الصحيحين أنَّ النبيَّ قال: ((ستكون فتنٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ فيها خير من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، من تشرَّف لها تستشرفْه)) الحديث [1] ، يقول الحافظ ابن حجر في معنى قوله: ((من تشرَّف لها)) : "أي: تطلَّع لها بأن يتصدَّى ويتعرَّض لها ولا يُعرض عنها" [2].
أيها المسلمون، لقد تكاثرت في هذه الآونةِ حلقاتُ الإخلال الأمنيّ في المجتمع المسلم، وقلَّت في واقعنا هيبةُ الدم المسلم وحرمتُه وعصمتُه، ولقد أشار المسلم بالسِّلاح على أخيه المسلم، بل وأفرَغ حشوَه فيه، وهذا ما لا كُنّا نعهدُه في زمَن الاستقرار الوارف والطمأنينةِ التي عمَّت المجموع، فما الذي غيَّر الأمرَ عن مجراه؟ ولأيِّ شيء يختلف اليومُ عن الأمس؟ وما هو السبيلُ للخروج من عُنُق الزجاجةِ القاتل؟ هذه كلُّها أسئلةٌ تستدعينا إلى التركيز على أهمِّ المعطَيَات التي ينبغي الوقوفُ أمامها بصِدق والتعامُلُ معها بنيَّة إصلاحِ ما في النفس ليصلِحَ الله ما في الواقع، وهذه المعطياتُ ليست بالقليلة، غيرَ أنَّ العجالةَ تضطرُّنا إلى ذكر الأهمّ، وذلك في الأمور التالية:
الأمر الأوَّل: أنّ الاختلال الأمنيّ المتمثِّلَ في كثرةِ القتل وإزهاق الأنفس البريئة دونَ بُرهانٍ من الله لهو من علامات آخر الزمان المنذِرةِ بدنُوِّ الساعة التي لا يعلَمها إلاَّ الله، ففي الصحيحين أنَّ النبيَّ قال: ((يتقاربُ الزمان، وينقُص العمل، ويُلقى الشحّ، وتظهرُ الفتن، ويكثر الهَرج)) ، قالوا: يا رسول الله، وما الهرج؟ قال: ((القتل القتل)) [3].
والأمر الثاني عباد الله: هو أنَّ استقرارَ المجتمع المسلِم الذي يهنأَ فيه بطعامه ويُسيغ شرابَه ويجعَل نهارَه فيه معاشًا ونومَه سباتًا وليله لباسًا لا يُمكن أن يتحقَّق إلاَّ تحتَ ظلِّ الأمن الوارفِ، فالأمنُ والأمان مطلبٌ مُلِحّ للمجتمعات طُرًّا، لا يُنكر ذلك إلاّ مُكابر أرعَن؛ لأنّ الأمنَ إذا اختلَّ فإنّ مغَبَّته لن تكونَ قاصرةً على المخلِّ به فحسب، بل إنّها ستطال نفسي ونفسَك أيّها المسلم، وولدِي وولدك، وأسرتي وأسرَتك، والواقع المقرَّر هو أنَّ المجتمعَ المتكامِل من جميع جوانبه هو ذلكم المجتمعُ الذي تتحقَّق فيه الأسُسُ الأمنية الثلاثة، ألا وهي الأمنُ العسكريّ والأمن الغذائيّ والأمن الصحِّي، وهذه الأسُسُ الثلاثة لا يمكِن أن تتحقَّق جميعًا دونَ اختلالٍ إلاَّ تحت ظلِّ الإسلام وشِريعته، فلقد صحَّ عن النبي أنه قال: ((من أصبَح آمنًا في سِربه معافًى في جسدِه عنده قوتُ يومِه فكأنَّما حِيزَت له الدنيا بحذافيرها)) رواه الترمذي وابن ماجه [4].
والأمر الثالث عباد الله: أنَّ أحداثَ التفجير الماضِية والتي استهدَفت معصومي الدمِ فيها لهي أمرٌ لا يرضاه دينٌ ولا عقل ولا عُرف، وشجبُه واستنكاره درجةٌ واجبة من درجاتِ تغيير المنكَر، وأما الرِّضا به والفرحُ فهو لونٌ من ألوان الخيانةِ في الباطن، فالنصوصُ الشرعية متكاثِرة في بيان حُرمة المسلم وعِصمة دمه وبيان احترامِ حقِّ السُّلطان المسلم وعدمِ الافتيات عليه وعلى أهلِ العلم، فاللهُ جلّ وعلا يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ويقول سبحانه: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، ويقول جلَّ شأنه حكايةً عن ابنَي آدم عليه السلام: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ [المائدة:27]، هذه هي حكايةُ ابنَي آدم؛ أنَّ بدايةَ القتل كانت مِن وَلَد ابن آدم.
وفي صحيح البخاري أن النبي قال: ((إذا مرَّ أحدُكم في مسجدِنا أو في سوقنا ومعه نبلٌ فليمسِك على نِصالها ـ أو قال: ـ فليقبِض بكفِّه أن يصيبَ أحدًا من المسلمين منها بشيء)) [5] ، وفي الصحيحين أنَّ النبي قال: ((من حَمَل السلاحَ علينا فليس منا)) [6] ، وفيهما أيضًا قوله : ((سِبابُ المسلم فُسوق وقتاله كفر)) [7] ، وروى الإمام أحمد في مسنده عن الحَسَن البصري أنه قال: إنّ عليًّا رضي الله عنه بعث إلى محمد بن مَسلمَة، فجيء به فقال: ما خلَّفك عن هذا الأمر؟ يعني القتال بينه وبين خصُومه رضي الله عنهم أجمعين، قال: دفَع إليَّ ابنُ عمك ـ يعني النبي ـ سيفًا فقال: ((قاتِل به ما قُوتل العدوّ، فإذا رأيتَ الناس يقتُل بعضُهم بعضًا فاعمَد به إلى صَخْرة فاضربه بها، ثم الزَم بيتَك حتى تأتيكَ منيةٌ قاضية أو يدٌ خاطئة)) ، فقال عليّ رضي الله عنه: خلُّوا عنه [8] ، ونقل ابن عبد البر عن بعض السلف قوله: "أحقُّ الناس بالإجلال ثلاثةٌ: العلماءُ والإخوان والسلطان، فمن استخفَّ بالعلماء أفسَد [دينَه، ومن استخفَّ بالإخوان أفسَد] مروءتَه، ومن استخفَّ بالسلطان أفسد دنياه، والعاقل لا يستخفّ بأحد" [9].
أما الأمر الرابع عباد الله: فهو ضرورةُ تشخيص هذا البلاء تشخيصًا نزيهًا عاريًا عن الشُبُهات والأهواء للوقوف على أسبابِه والبعثِ عن العلاج الأمثلِ له، وأن لا يجاوزَ التشخيصُ موضعَ الداء، بحيث إنه لا يجوز أن يُلقى باللاَّئمةِ إلى غير مرتَكبي تلكم الأحداث، فلا يجوز أن ينسَبَ السبب إلى التديُّن مثلاُ، أو إلى علوم الشريعة ومناهجها، أو إلى العلماءِ والدعاة المخلِصين، فإنَّ السرقةَ في المسجِد لا تستدعي هدمَ المسجد، كما أنَّ عدمَ فَهمِ الشريعة والتديُّن لا يعني إلغاءهما من واقع الحياة، ولو تستَّر لصٌّ في حجابَ امرأة فلا يعني ذلك إلغاءَ الحجاب بالمرَّة.
فليتَّق الله أولئك الذين يشوِّشون عند كلِّ حَدَث سانِح، فيرمون أصالتنا وتمسُّكَنا بديننا ردحًا من الزَّمن بأنه هو سببُ هذه الحوادثِ والمعضلات، فيكون هذا التَّشويش تكأَةً يتَّكئ عليها أعداءُ الإسلام من الكَفَرة الحاقدين ومن المعجَبين بهم، ومبرِّرًا سائغًا لهم في تمرير ما مِن شأنه فرضُ المسوِّغات المشروعة بزعمهم في الضغوط المتتالية على حِياض المسلمين، فيأتيهم مثلُ هذا التهويش والتشويش على طَبَق من ذهب ليجتاحوا بلادَ المسلمين بأدنى الحِيَل، ولا جَرَم ـ عباد الله ـ إذ الخَطَر من قِبَل التشويش الداخليّ أشدُّ وقعًا من التشويش الخارجي، وإنَّ مثَلَ الناعقين عبرَ وسائلَ متعدِّدةٍ في وجه الدين والتديُّن والمناهج النيِّرة والاستقامة المشهودة في المعتَقَد والفكر كمثل ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما عن النبي أنه قال: ((ضاف ضيفٌ رجلاً من بني إسرائيل وفي داره كلبة، فقالت الكلبة: والله لا أنبحُ ضيفَ أهلي، قال: فعَوى جِراؤها [10] في بطنها قال: قيل: ما هذا؟ قال: فأوحى الله عزّ وجلّ إلى رجلٍ منهم: هذا مثلُ أمَّةٍ تكون مِن بعدكم يقهَر سفهاؤها أحلامَها)) [11].
وحاصل هذا الأمر ـ عباد الله ـ هو أن يعالَجَ الفكرُ بالفِكر، وأن لا يستغلَّ الخطأ في إذكاء تفريق الكلمة وإضعافِ التديّن، فقد قُتل عليٌّ رضي الله عنه بأشدَّ من هذا ولم يُلقَ باللائمة على الدين وأهله، وإنما كانت اللاَئمةُ والرَّدع على ذوي الفِكر أنفسِهم وهم الخوارج الذين خرجوا عليه ورأوا أنَّ قتلَه رضي الله عنه وتخليصَ الأمة منه من أعظم القُرُبات إلى الله بزعمهم عليهم من الله ما يستحقّون، بل لقد وصفَ أحدُ شعرائهم عبدَ الرحمن بنَ مُلجم قاتلَ عليّ رضي الله عنه بأنه أوفى البريَّة عند الله ميزانًا، والقائلُ هو عِمران بن حِطّان الخارجي الذي قال مادِحًا قاتل علي:
يا ضربةً من تقيٍّ ما أراد بها إلاَّ ليبلغَ من ذي العرش رضوانًا
إني لأذكُره يومًا فأحسبه أوفى البريّة عند الله ميزانا [12]
كبُرت كلمةً تخرجُ من فمه، إن يقولُ إلاَّ كذبًا.
وقد ردَّ عليه بعضُ أهل السنة بقوله:
بل ضربةٌ من شقيّ أوردته لظى وسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
إني لأذكرُه يومًا فألعنه أيضًا وألعنُ عِمرانَ بنَ حِطّانا [13]
والشاهد من هذا ـ عباد الله ـ أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم لم يثنِهم فعلُ الخوارج عن زيادةِ تمسُّكهم بدينهم واستلهام لُطفِ الله ورحمته بهم والثباتِ على الدين رغمَ ما اعتراهم من نوابتَ شذّت عن سوادِهم الأعظم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة:105].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفارا.
[1] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7081، 7082)، صحيح مسلم: كتاب الفتن (2886) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] فتح الباري (13/31).
[3] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7061)، صحيح مسلم: كتاب العلم (157) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، سنن ابن ماجه: كتاب الزهد، باب: القناعة (4141) من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد (300)، والحميدي في مسنده (439)، قال الترمذي: "حديث حسن غريب". وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم. انظر: السلسلة الصحيحة للألباني (2318).
[5] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7075) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في البر (2615).
[6] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7070، 7071)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (98، 100) عن ابن عمر وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما. وصح أيضا من حديث سلمة بن الأكوع وأبي هريرة رضي الله عنهما عند مسلم في الإيمان (99، 101).
[7] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7076)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (64) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[8] مسند أحمد (4/225)، وأخرجه من طريقه الطبراني في الكبير (19/235)، قال ابن حجر في الإصابة (6/34): "الحسن لم يسمع من محمد بن مسلمة"، فهو لم يشهد القصة. وأخرجه ابن سعد في الطبقات (3/444)، وابن أبي شيبة (15/22) من طريق أخرى عن الحسن عن محمد بن مسلمة بالمرفوع وليس فيه قصة علي رضي الله عنه، وروى أيضا المرفوعَ غير الحسن عن محمد بن مسلمة، فهو بمجموع طرقه ثابت إن شاء الله، قال الحاكم في المستدرك (3/127): "فبهذه الأسباب وما جانسها كان اعتزال من اعتزل عن القتال مع علي رضي الله عنه وقتال من قاتله".
[9] نُقل هذا الكلام عن ابن المبارك رحمه الله، انظر: سير أعلام النبلاء (17/251).
[10] قال الرامهرمزي في الأمثال (ص100): "الجِراء جمع جِرو بكسر الجيم، وهو ولد الكلبة. وعوى الكلب إذا صاح، وهو العُواء بضم العين ممدود. وهذا مثل في استعلاء السفهاء وتطاول الأشرار. والسفه نقيض الحلم، وهو في معنى الجهل، وأصله التنقّص في العقل، ويستعمل في بذاء اللسان ورفث القول".
[11] مسند أحمد (2/170)، وأخرجه أيضا البزار (2412)، والرامهرمزي في الأمثال (60)، قال الهيثمي في المجمع (7/280): "فيه عطاء بن السائب وقد اختلط"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (3812).
[12] انظر: المحلى (10/484)، والاستيعاب (3/1128)، والسير (4/215)، والإصابة (5/303).
[13] انظر: الاستيعاب (3/1129)، والإصابة (5/303) نحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: فاتقوا الله معاشرَ المؤمنين، واعلموا أنَّ تمَّتَ أمرًا خامسًا لا يقلّ أهميِّةً عمّا مضى ذكرُه، ألا وهو التأمُّل في الحال والواقع ومحاسبةُ النفس على التقصير والتفريط في جنب الله وإصلاحُ مواطن الخَلل في النفس والمجتمع، فإنه ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رُفع إلاَّ بتوبة صادقةٍ إلى الله، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ [البقرة:155]، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112]، وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].
إنَّ الذنوبَ والمعاصي وضعفَ التمسُّك بشريعة الله في النفس والمالِ والمجتمَع لهي مِن دواعي الاختلال الأمنيّ وترادُف الكوارث والخطوب، ما يستدعي اللُّجوءَ إلى الله وارتقاب لُطفه وتغيير ما في النفس ليغيِّر الله الحالَ إلى ما هو خير، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11].
روى البيهقي وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنتُ عاشرَ عشرة رهطٍ من المهاجرين عند رسول الله ، فأقبل علينا بوجهه فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمسُ خصال أعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرتِ الفاحشةُ في قوم حتى أعلَنوا بها إلاَّ ابتُلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضَوا، ولا نَقَص قومٌ المكيالَ إلا ابتُلوا بالسنين وشِدّة المؤونة وجَور السلطان، وما منع قومٌ زكاةَ أموالهم إلاَّ مُنِعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطَروا، ولا خَفَر قومٌ العهدَ إلاَّ سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعضَ ما في أيديهم، وما لم يعمَل أئمَّتُهم بما أنزل الله في كتابه إلاَّ جعَل الله بأسَهم بينهم)) [1] ، ولقد صدق الله: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165].
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة...
[1] سنن ابن ماجه: كتاب الفتن (4019)، شعب الإيمان للبيهقي (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
(1/3172)
الأمّة بين تخريب القريب وعدوان الغريب
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
11/3/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مآسي الأحداث. 2- تجريم أعمال التخريب والإفساد. 3- مفاسد العمليات التخريبية. 4- أهمية مطلب الأمن. 5- واجب المجتمع تجاه هذه الأحداث. 6- خطورة العدو الداخلي. 7- التحذير من الذنوب المعاصي. 8- جرائم أعداء الإسلام في الفلوجة وفي فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
عبادَ الله، إنّ القلبَ ليحزن وإن العقلَ ليذهَل حين يرقُب المسلم هذه الأحداثَ التي ابتُليت بها هذه البلاد من أقوامٍ ضلّوا الطريقَ وتلوّثت عقولهم بأفكارٍ خاطئة، أعمال مهما كان فاعلها ومهما كانت حجّتُه ودافعه فهي تتضمّن مفاسدَ كبيرة وشرورًا عظيمة، فيها قتلُ الأنفس المسلمة ظلمًا وعدوانا، قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وقال رسول الله : ((لن يزال المؤمن في فُسحةٍ من دينه ما لم يُصِب دمًا حرامًا)) أخرجه أحمد والبخاري [1] ، وقال رسول الله : ((لزوالُ الدنيا أهون على الله من قتل رجلٍ مسلم)) أخرجه الترمذي [2] ، وقال رسول الله : ((لو أنّ أهلَ السماء وأهلَ الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبَّهم الله في النار)) [3] ، وحين قتَل أسامة بن زيد رجلاً تأوُّلاً بعد أن سمعه ينطَق بالشهادة قال له رسول الله : ((أقتلتَه بعد أن قال: لا إله إلا الله؟!)) [4].
إنّ هذه الأعمالَ التي تحصدُ أرواحَ العشرات من المسلمين لا تقوم على أساسٍ شرعيّ، ولا تقبلها العقولُ السليمة والفِطر السويَّة، وهي فِعلة مستهجَنة شنعاء، تتضمّن البغيَ والظلم، فليس من أخلاق المؤمن الإقدامُ على تفجير نفسه وقتل الغير وقطع الفريقِ على المسلمين وتهديدهم بالسّلاح والاعتداء على سياراتهم، بل هذه من أخلاق قُطّاع الطرُق المفسدين الأرض، قال رسول الله : ((من قتل نفسَه بحديدةٍ فحديدته في يده يتوجَّأ بها في بطنِه في نار جهنّم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا، ومن شرِب سُمًّا فقتل نفسَه فهو يتحسّاه في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا، ومَن تردّى من جبلٍ فقتل نفسَه فهو يتردّى في نار جهنّم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا)) أخرجه مسلم [5].
في هذه الأعمالِ حملُ السّلاح على المسلمين وقد أخرج البخاريّ ومسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يشير أحدُكم على أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعلّ الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرةٍ من النار)) [6].
فيها مفارقةُ الجماعة وشقُّ عصا الطاعة، وهي كبيرة من الكبائر، قال رسول الله : ((من خرج من الطاعة وفارق الجماعةَ فمات مات ميتةً جاهلية)) أخرجه مسلم [7] ، وقال : ((من فارق الجماعةَ شبرًا فقد خلع رِبقةً الإسلام من عُنقِه)) أخرجه أحمد وأبو داود [8].
فيها الاعتداءُ على رجال الأمن، وهذه جريمةٌ كبرى؛ لأنهم في الأصل مسلمون، والمسلم في شريعة الإسلام معصومُ الدمِ والعِرض، ولا يختلف المسلمون في تحريم الاعتداء على الأنفسِ المعصومة، ومهما كان من معاصٍ وأخطاء فليس هذا من الإصلاح، وهل يكون الإفساد والعبثُ بالأرواح والأمن إصلاحًا؟!
والذين يدعون إلى الجهاد دونَ النظر إلى آثار القتال غاب عنهم الهدفُ الأسمى الذي شرِع من أجله الجهاد، وهو إقامةُ الدين ورفعُ راية التوحيد؛ لأنّ القتالَ إذا أدّى إلى فتنةٍ ممنوعٌ شرعًا وعقلاً.
هذه الأعمالُ تُشيع الهلَعَ وتثير الفزع، ولا يجوز ترويع المؤمنين، تؤجِّج نارَ الفوضى، وخطورةُ ذلك لا تخفى، تشعِلُ شرارةَ فتنةٍ داخلية، تُدمَّر فيها الطاقات، وتهدَر فيها المكتسبات، وتُشتَّت الجهود، وتعيق بناءَ الخير والتنمية، وتُعطِّل مشاريعَ الإصلاح، وتشوّه مناشِط الخير وما يرتبط بها.
إنّ التفريطَ في أمن المجتمع تدميرٌ له ولمكتسباته ودعائمه، لذا يجب علينا جميعًا أن نسعَى للحفاظ على هذا الأمن بسدِّ الثغراتِ التي يمكن أن تُحدِث شرخًا في المجتمع أو تجعلَ جسدَه مثقَلاً بالجراح، فيشغَل بردمها عن دوره ورسالته وبناء مجتمعه وأمَّته.
بيَّن القرآن الكريم أنّ سمةَ المنافقين زعزعةُ أمن المجتمع والإفساد فيه وإشاعةُ الفتنة بدعوى الإصلاح، قال الله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
إذا تفيَّأ المجتمعُ ظلالَ الأمن والأمان وجدَ لذّةَ العبادة وذاق طعم الطاعة، يكون اليوم سباتًا والطعامُ هنيئًا والشراب مريئًا، فالأمن مطلَبٌ أساسٌ لجميع الناس، خاصّة في المجتمعات المسلمة التي تتمتّع بالإيمان، إذ لا أمنَ بلا إيمان، وقد قال رسول الله : ((من أصبح منكم آمِنًا في سِربه معافًى في بدنه عنده قوتُ يومه فكأنما حِيزت له الدنيا)) [9].
بالأمن تُعمَّر المساجِد، وتُقام الصلوات، وتُحفَظ الأعراض، وتؤمَّن السُبُل، وينشَر الخير، وتقام الحدود، وتنتشر الدعوة، وتُطبَّق الشريعة، وإذا اختلَّ الأمن حكم اللصوصُ وقُطّاع الطرق.
إذا ضعُف الأمن اشتعلت الديار وأحالت قلوبَ المؤمنين ذُعْرًا، وصُرِع إخوانُ الإسلام والعقيدة، وقد يُستخدَم لزعزة الأمن بعضٌ من المغرَّر بهم.
هذه البلادُ كغيرها من البلدان تعيش مرحلةً خطيرة ومنعطفًا صَعبًا، فلا بدّ من تماسُك الصفّ مع بذل النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطريقُ التغيير الإصلاحُ والبناء لا الهدم والتدمير.
على الجميع أن يُحِسّوا بواجبهم الشرعيّ لرأب الصَّدع في البناء، ومعظَم النار من مستصغَر الشرر، وإنّ فتنًا عظيمةً في أُممٍ ماضيةٍ ودُوَلٍ حاضرة كان أولّها شرارةً يسيرة، تساهل أولو العلم والرأي في إطفائِها، فألهبت الأرض جحيمًا لا ينطفئ ودمًا لا ينقطع وفتنةً تركت الحليم حيرانًا.
أمنُ الفردِ جزءٌ من أمنِ مجتمعه، وتوطيد الأمن يستلزم أن يؤدّيَ كلّ فردٍ مسؤوليتَه في حِفظ الأمن، قال رسول الله : ((كلُّكم راع، ولكّكم مسؤول عن رعيته)) [10].
إنّ شناعةَ الجريمة جليّة لا تكتنفُها شبهة، وناصعة لا شكَّ فيها، وممّا يثير العجَب كيف غيَّب هؤلاء نصوصَ الشرع وعقولهم حتى أراقوا دماءَ الأبرياء، وأسبَلوا دموعَ الثكالى، وأجَّجوا لوعَة كلِّ مسلم، وأحلّوا قومَهم دارَ البوار.
بماذا سيجيبون عن دماءِ المسلمين التي سالت وأشلاء بريئةٍ تناثرت وأفعالٍ طار بها العدوّ فرحًا وأحدثت شرخًا في لُحمة المجتمع وبنائه الداخلي؟!
إنّ الأمّة تعيش مآسيَ في مشارق الأرض ومغاربها، فلِمَ ينبري فئامٌ من بني جلدتِنا لإيقاد فتنٍ داخلية واحترابٍ لا مسوِّغ له؟! لن يكونَ فيه كاسبٌ سوى العدوّ المتربِّص، وسنبوء جميعًا بآثارها، ونُلذع بشَررها.
الأمّةُ ـ عباد الله ـ تضجّ ألمًا وتكتوي لوعةً وأسًى، ويشتدّ البلاء ويعظُم الخطب حين يُحدَث الخرق من الأقربين، والتاريخُ بأحداثه على مرِّ العصور يكشِف للأمّة أن أبرزَ مصائبها ولأوائها وخلخلةِ أركانها دبّ من داخلها، قال تعالى: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:104]، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [الشعراء:152].
على شبابِ المسلمين التبصُّر في أمورِهم والتزوُّد من العلم النافع، ومن زلَّت به القدَم أن يعودَ إلى الله ويرجع، فإنّ التائبَ من الذنب كمن لا ذنبَ له.
من أعظمِ أسباب الفِتن الذنوبُ والمعاصي التي تزيل النعمَ وتجلِب النقَم، والواجب على الأمّة كلِّها صغارًا وكبارًا حكَّاما ومحكومين التوبةُ إلى الله، قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30].
الأمّة إذا أرادت الأمنَ والأمان والسّلامة والاستقرار فلا بدّ أن تتّقيَ الله وتلتزم جادّةَ الاستقامة والطاعة لله ولرسوله، وإنّ التحصينَ لشبابنا هو ترسيخُ المنهج الوسَط للإسلام، ونشرُ العلم الشرعي في المدارس والجامعات والمساجد، ونبذُ الأفكار المنحرفة المتشدّدة أو المتساهلة، مع عدم إرسالِ التُّهَم دونَ تأنٍّ وتثبُّت، أو تعميم الأخطاءِ والتشكيك في منابِر الدعوة والإصلاح، ولا يقوله إلاّ حاقِد أو حاسد، يروم الاصطياد في الماء العَكِر.
نسأل الله أن يحفظَ علينا أمننا وإيماننا وسِلمَنا وإسلامنا، وأن يعيذَنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، كما أسأله أن يرينا الحقَّ حقًا ويرزقنا اتّباعه، ويرينا الباطلَ باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يرحمَ المتوفَّين من المسلمين في هذا الحادثِ وغيره، ويُلهم ذويهم الصبرَ واليقين، ويشفي الجرحَى والمرضى، إنه سميع مجيب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب (6862) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] سنن الترمذي: كتاب الديات (1395) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا النسائي في كتاب تحريم الدم (3987)، قال الترمذي: "وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعقبة بن عامر وابن مسعود وبريدة"، وأشار إلى أن وقفه أصح من رفعه، ورجّح وقفه أيضا البيهقي في الكبرى (8/22)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (439).
[3] أخرجه الترمذي في الديات (1398) عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وقال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/258): "في إسناده يزيد الرقاشي عن أبي الحكم وهو عبد الرحمن بن أبي نعم عنهما، ويزيد ضعيف جدّا، ولكن هذه الأخبار يشد بعضها بعضا "، ولذا صححه الألباني في صحيح الترغيب (2438، 2442).
[4] أخرجه البخاري في كتاب الديات (6872)، ومسلم في كتاب الإيمان (96) عن أسامة رضي الله عنه.
[5] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (109) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه أيضا البخاري في كتاب الطب (5778).
[6] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7072)، صحيح مسلم: كتاب البر (2617).
[7] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1848) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] مسند أحمد (5/180)، سنن أبي داود: كتاب السنة (4758) عن أبي ذر رضي الله عنه، وأخرجه أيضا ابن أبي عاصم في السنة (892، 1054)، وعبد الله في زوائد المسند (5/180)، والحاكم (401، 402)، والقضاعي في مسند الشهاب (448)، والبيهقي في الكبرى (8/157)، وفي سنده خالد بن وهبان مجهول، لكن له شواهد كثيرة من حديث الحارث الأشعري وابن عمر وابن عباس ومعاذ وإبي الدرداء وعامر بن ربيعة رضي الله عنهم، ولذا صححه الألباني في ظلال الجنة (2/434).
[9] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (300)، والترمذي في كتاب الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب: القناعة (4141)، والحميدي في مسنده (439) من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب". وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم. انظر: السلسلة الصحيحة للألباني (2318).
[10] أخرجه البخاري في العتق (2554، 2558)، ومسلم في الإمارة (1829) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي خلق فسوّى، والذي قدّر فهدى، أحمده سبحانه وأشكره على نعمٍ لا تُعدّ ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، يعلم الجهرَ وما يخفى، وأشهد أنّ سيّدنا ونبينا محمّدًا عبده ورسوله، وعده ربه بقوله: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيلَ الهدى.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
عباد الله، وفي الفلّوجة بل وفي العراق كلِّها وفي فلسطين يعيش الناسُ المأساة في أحلَك فصولها وأوضَح صُوَرها؛ تدميرٌ وقتلٌ وإبادة جماعية، بأيّ ذنب تُدكّ الأرض ومن عليها؟! وإلى متى تُقام هذه المجازر؟! متى تتوقَّف الحرب؟! متى تصمُت المدافع والدبابات؟! متى تسكُن الطائرات؟! متى يهنأ الأطفالُ وتأمن النساء؟! لقد جاوز الظالمون المدى، قطعوا شريان كلِّ حياة، دمَّروا الأخضرَ واليابس، أين الحريّة التي بها يتشدَّقون وتحت شِعارها يقهرون؟! أين العدالة التي باسمها يُفسِدون؟! أين حقوق الإنسان الذي يقتلونه ويسحقونه؟! أين المواثيق الدولية؟! أيُّ قانونٍ يسوِّغ لهم تلك الجرائمَ وقد ضجَّت الأرض وبكت السماءُ وتقطّعت الأكبادُ من هولها؟! وكأنّ العالم اليوم ألغى من قاموسِه معانيَ الرحمة ووشائجَ المودّة والعطف.
الظلمُ اليومَ بلغ من القسوةِ غايتَه ومن الجبروتِ أقصاه، لا تحرِّكه إلاّ لغة المصالح الأرضيّة والمطامع الدنيوية، ولو سقطت كلّ المبادئ والقيم، ولو على جماجمِ الثكلَى وصرخات الأطفال وأشلاء النساء وجُثث المصلّين الأطهار، نسأل الله السلامة والعافية.
ومهما بلغت جراحُ الأمّة فإنها لن تموتَ، كما أنّ ليل الظلم قد أزِف زواله، فإنّ الفجرَ قد دنا وأشرقت أنواره.
إننا نناشِد كلَّ من كان في قلبه ذرّةٌ من رحمة، ونخاطب كلَّ صاحبِ نخوة وغَيرة أن يَهُبَّ لرفع الظلم عن المظلومين وردع الظالم الذي تمادى في غيِّه وتجبَّر وتغطرس. ونحن هنا نملك أقوَى سلاحٍ وأمضى عَتاد، ألا وهو الدعاء.
(1/3173)
صلاة الفجر
فقه
الصلاة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
11/3/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب شكر النعم. 2- ختم اليوم وابتداؤه بذكر الله تعالى. 3- فضل القيام لصلاة الفجر. 4- ثناء الله تعالى على المحافظين علىصلاة الفجر. 5- فضل المحافظة على صلاة الفجر. 6- ذم النوم عن صلاة الفجر. 7- التحذير من السهر. 8- عداوة الشيطان لبني آدم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جل وعلا: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:62].
أخي المسلم، خلقَك الله لعبادته، وأنعمَ عليك بنعمِه الظاهرة والباطنة، وشُكرُ الله على نِعمته واجب، وعلامةُ شكرِ الله القيامُ بما أوجَب الله عليك، علامةُ شكرِك لله قيامُك بما أوجب عليك.
لله عليك نِعمٌ في ليلك ونهارك، قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:42]، فما لحظةٌ في ليلِك ونهارك في نومِك ويقظتِك إلاَّ ولله عليك فيها نعمةٌ، والعاقلُ مَن تبصَّر وقدَّم شُكرَ هذه النعمة وإن كان عاجزًا عن القيام بشكرها، وفي الحديث: ((لا نُحصِي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نفسك)) [1].
يومُك وليلتك يمضيان وقد قرضا من عُمُرك، وقرَّباك إلى أجلك. إذًا فالمسلم يغتنم تلك الأوقاتِ، يبدأ ليله بذكرٍ لله، فينام على ذكرٍ وثناء على الله وصلاةٍ قبل نومِه، ويفتتح نهارَه بأداءِ فريضةِ الفجر، فيفتتحُ بها نهاره شكرًا لله على نعمته وفضله.
أخي المسلم، صلاةُ الفجر فريضةٌ هي إحدى الصلوات الخمس، تلك الفريضةُ التي يؤدِّيها المسلم في وقتها، يقوم من لذيذ نومه ومن طيب فراشِه، يحدوه حبُّ الله ورجاؤه، يحدوه رغبةٌ فيما عندَ الله، يحدوه شكرُه لله وعِلمُه بعظيم نِعم الله عليه، فهو يقوم من لذيذ نومه ومن وثير فراشه، لا يحرِّكه سِوى طاعةٌ لله وابتغاء لثواب الله، لا دنيًا يريدها وأموال يحرِّكها، ولكن الحادي إلى ذلك ما في القلب من تعظيمٍ لله وحُبٍّ لله وشكرٍ لله على نعمته.
أخي المسلم، إنَّ القيامَ لِهذه الفريضة في وقتها عنوانُ الخير والهُدى، وإنَّ الذين يقومون لها قد أثنى الله عليهم ومدَحهم، ذلك الثناءُ ليس ثناءَ الخلقِ ومديحهم، ولكنه أصدقُ الثناء وأطيبُه، ألا وهو ثناء ربِّ العالمين عليهم: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:36-38].
يا مَن حافظ على صلاةِ الفجر في وقتها، اسمع الله يثني ويقول: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28]، واسمع الله يقول في الثناء عليهم: أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، أي: صلاةُ الفجر تشهَدها ملائكة الليل وملائكةُ النهار، في الحديث: ((يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكةٌ بالنهار، فيجتمعون في صلاةِ الفجر، فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربِّهم فيسألهم وهو أعلم بكم: كيفَ تركتُم عبادي؟ فيقولون: يا ربَّنا، أتيناهم وهم يصلّون، وتركناهم وهم يصلون)) [2].
فيا أخي، هل ترضى بضياعِ ذلك الثناء وذلك الفضلِ عليك في لحظاتٍ يسيرة تُرضي فيها ربَّك، وتشرح فيها صدرَك، وتقرّ عينك بهذا الخير العظيم؟!
أخي المسلم، إنَّ محافظتَك على صلاةِ الفجر في الجماعةِ سِتر لك من النار وفوزٌ لك بجنَّات ربِّ العالمين، يقول : ((لا يدخل النارَ رجلٌ صلَّى قبل غروبِ الشمس وصلَّى قبل طلوعها)) [3] ، يعني صلاةَ الفجر وصلاة العصر، ويقول : ((من صلَّى البردَين دخل الجنة)) [4] ، يعني الفجر والعصر.
أخي المسلم، محافظتُك على صلاةِ الفجر في الجماعةِ وملازمتُك على ذلك سببٌ يؤدِّي إلى نظَرك إلى وجه ربِّك في دار كرامته، وهذا أعظمُ نعيمٍ أنعم الله به على أهلِ الجنة، يقول : ((أما إنكم سَتَرون ربَّكم يومَ القيامة كما تَرَون القمرَ ليلة البدر، لا تُضَامّون في رؤيته ـ أي: لا تزدحمون ـ، فإن استطعتُم أن لا تغلَبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وعلى صلاةٍ قبل غروبها فافعلوا)) [5].
أيها المسلم، محافظتُك على صلاةِ الفجر جماعة يضاعِف الله لك بها الأجور، ويعظِم لك بها الثواب، يقول : ((من صلَّى العشاءَ في جماعة كان كمَن قام نصفَ الليل، ومن صلَّى الفجرَ في جماعة كان كمَن قام الليلَ كلَّه)) [6].
أخي المسلم، خروجُك للمسجِد في صلاةِ الفجر نورٌ يكون لك يومَ القيامة وخيرٌ يُهدَى إليك، يقول : ((بَشِّر المشَّائين إلى المساجِد في ظلمةِ الليل بالنور التامِّ يوم القيامة)) [7].
أخي المسلم، إنَّ محافظتَك على صلاةِ الفجر في الجماعة أمنٌ لك من عذابِ الله، أمنٌ لك من سَخَط الله، سببٌ لرضا الله عنك. كم يتعلَّق الضعيفُ بمن يراه قويًّا، ليأمنَ في ساحته، وأيُّ أمانٍ أعظم من أمان الله لك أن تأمنَ من عذابه؟! يقول : ((من صلّى الفجرَ في جماعة فهو في ذمّةِ الله، فلا يطلبنَّكم الله من ذمَّته بشيء، فإنه من يطلبه يدرِكه ثم ّ يكبُّه على وجهه في نار جهنم)) [8].
أخي المسلم، محافظتُك على العشاء والفجر جماعةً عنوانُ الإيمان وكمالِ التصديق والرَّغبة في الخير، يقول : ((ليسَ صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر، ولو يعلَمون ما فيهما لأتوهما ولو حبْوًا)) [9]. صلَّى الفجرَ بأصحابه فقال: ((أشاهدٌ فلان؟)) لأناسٍ من المنافقين، ثم قال: ((أثقلُ الصلاة على المنافقين صلاةُ العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبوًا)) [10].
أخي المسلم، نومُك عن صلاةِ الفجر عنوانُ استحواذ الشيطان عليك وتغلُّبه عليك وصدِّه لك عن سماع الأذان، فهل ترضَى أن يكونَ عدوُّ الله صاحبًا لك، وعدوُّ الله أنت أسيرٌ تحته، إنَّ هذا لهو الضَّعف. إنَّ نبيّنا سُئل عن رجلٍ لا يصلِّي الفجر قال: ((ذاك رجلٌ بال الشيطان في أذنيه ـ أو قال: ـ في أذنه)) [11] ، صدَّه عن الخير، وحال بينه وبين سماع الخير. فانهضْ بنفسك، واستعِن بربِّك، وحاول تخليصَ نفسك من عذاب الله.
أخي المسلم، إنَّ تخلُّفك عن صلاةِ الفجر جماعة سببٌ لعذاب الله، في حديث سمُرة في رؤية المنام الصحيح أنه قال: ((أتاني رجلان فبعثاني فقالا لي: انطلق، فانطلقتُ فإذا رجلٌ مضطجِع ورجلٌ فوق رأسه بحجر يريدُ أن يلقيه عليه، فألقاه عليه فثلَغ رأسه فتهدهَد الحجر، ثم أخذه ثم عاد رأسُه كذلك، وما زال يلقي الحجرَ عليه حتى يثلغ رأسَه، قالا لي: أمّا هذا الرجل الذي رأيتَ فرجلٌ أخَذ القرآن ورفضَه ونام عن صلاة الفجر)) [12].
أخي المسلم، كم مِن سَهرٍ طويل في الليل، وكم مِن استراحةٍ بقيلٍ وقال وكلامٍ فارغ إن لم يكن آثامًا وأوزارا، ويمضي معظمُ الليل في لهوٍ ولعِب وصدود عن الخير والهدى وقيلٍ وقال وما لا خيرَ فيه، وتأتي دقائق الفضائل وأوقات الفضائل، فتقصُر همّتُك عن هذه الأعمال الصالحة. كم من ليلٍ سهرته في لهوٍ ولعب وغفلةٍ وإعراض حتى إذا آن وقتُ الفجر نِمتَ على فراشك، معرضًا عن طاعة ربِّك، ناسيًا لفضله وإحسانه، متجاهلاً نِعمَه عليك، هلاَّ حياء من الله يمنعُك ويحول بينك وبين هذا التغافل وهذا الإعراض.
أخي المسلم، إنَّ مَن يُمضي ليلَه ونهارَه في غفلةٍ عن الله وإعراضٍ عن الله يوشِك أن يخسَرَ دنياه وآخرته. فاتَّق الله في نفسك، واعلم أنَّ قوَّةَ الإيمان في قلبك إنما تكون على قدر تعظيمك لفرائض الله ومحافظتك عليها وملازمتِك لها.
فيا أخي المسلم، إنما هي ساعةٌ يسيرة، تؤدِّي فريضةً من فرائض الإسلام، تفتتِح يومَك بطاعة الله، تفتتح بذلك العملِ الصالح، فيسجَّل في سجلِّ أعمالك تلك الفريضة التي أدَّيتها، وسترى يومَ قدومك على الله ثوابَ تلك الأعمال، وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الصلاة (486) عن عائشة رضي الله عنها.
[2] أخرجه البخاري في التوحيد (7429، 7486)، ومسلم في المساجد (632) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في المساجد (634) عن عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه بنحوه.
[4] أخرجه البخاري في المواقيت (574)، ومسلم في المساجد (635) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في المواقيت (554، 573)، ومسلم في المساجد (633) عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
[6] أخرجه مسلم في المساجد (656) عن عثمان بن عفان رضي الله عنه بنحوه.
[7] أخرجه أبو داود في الصلاة (561)، والترمذي في الصلاة (223) عن بريدة الأسلمي رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الروياني في مسنده (56)، والطبراني في الأوسط (4207)، والبيهقي في الكبرى (3/63) وفي الشعب (3/72)، وله شواهد كثيرة عن سهل بن سعد وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وعائشة وزيد بن حارثة وابن عباس وابن عمر وأبي أمامة وأبي الدرداء وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم، وهو في صحيح سنن أبي داود (525).
[8] أخرجه مسلم في المساجد (657) عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه بنحوه ليس فيه: ((في جماعة)).
[9] أخرجه البخاري في الأذان (657)، ومسلم في المساجد (651) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] أخرجه أحمد (5/140)، وأبو داود في الصلاة (554)، والنسائي في الإمامة (843)، والدارمي في الصلاة (1269)، والحاكم (904) عن أبي بن كعب رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (2056)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (518).
[11] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3270)، ومسلم في صلاة المسافرين (774) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[12] أخرجه البخاري في التعبير (7047) عن سمرة بن جندب رضي الله عنه بمعناه، وفيه: ((وينام عن الصلاة المكتوبة)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، عدوُّ الله إبليس سُلِّط علينا ابتلاءً وامتحانًا، وربُّك حكيم عليم، ولا ينجو من عداوته وشرِّه ووساوسه إلاَّ من التجأ إلى ربِّه وأناب إليه ووثِق به واعتمد عليه. عدوُّ الله يحاول إفسادَ ديننا وصرفَنا عن الخير ما وجَد لذلك سبيلاً، فلقد أقسَم بعزَّة الله ليغوينَّ بني آدم، قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16، 17]، ولكنَّ الله عصَم منه عبادَه المخلَصين، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر:42].
أخي المسلم، إنَّ عدوَّ الله يثقِّل الطاعةَ عليك، ويعظّمها في نفسِك، فيجعلُك تكسَل عنها، يقول: كيف تقوم من منامِك ووثير فراشك لتؤدِّي هذه الفريضةَ؟! انتظِر حتى تطلع الشمس، فتقوم إلى عملك، فتجمَع بين الأمرين، والكسلان ينقادُ لهذا الكسَل ويسترخي لتلك الوساوسِ الضالَّة، فيحرم نفسَه الخير، في الصحيح يقول : ((يعقِد الشيطانُ على قافِية رأسِ أحدِكم إن هو نامَ ثلاثَ عُقَد، يضرِب على كلِّ عُقدة: عليك ليلٌ طويل فنَم، فإن قام فذكر الله انحلَّت عقدة، وإن توضَّأ انحلَّت عقدَة أخرى، وإذا صلَّى انحلَّت العقد كلُّها، فأصبح طيِّبَ النفس نشيطًا، وإلا أصبَح خبيثَ النفس كسلانًا)) [1].
فأنت إذا قُمتَ من فراشك استجابةً للنداء: "حيَّ على الصلاة، حي على الفلاح"، وقمتَ طاعةً لله: لبيك سمعًا وطاعةً لله، وخرجتَ من منزلك قائلاً: اللهمَّ اجعل في قلبي نورًا، وفي سمعي نورًا، وفي لساني نورًا، وفي بصري نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، وأمامي نورًا، وخلفي نورًا، ومن فوقي نورًا، ومن تحتي نورًا، بسم الله، توكَّلت على الله، لا حولَ ولا قوّة إلا بالله، يتنحَّى عنك الشيطان ويقول: كيفَ لي برجل قد هُدي وكُفي ووقِي؟! هذا النورُ الذي أحاط بك من كلِّ الجهات نورُ الإيمان والعمَل الصالح، فتؤدِّي تلك الفريضة في المسجد، تنالُ بها الثوابَ العظيمَ والأجرَ الجزيل، وتكون في نهارك في راحة بالٍ وانشراح صدر وطيب نفس، وإلا أصبحتَ خبيثَ النّفس كسلانًا عن الخير، قد استحوذ الشيطان عليك فأغواك.
أيّها المسلم، إذا استيقظَ المسلم من منامه فذكّر الله وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وعلى كل شيء قدير، الحمدُ لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حولَ ولا قوة إلاَّ بالله، ثم دعا استُجيب دعاؤه، وإن توضَّأ وصلّى تُقُبِّلت صلاته.
فاحرِص ـ أخي ـ على هذا الفضلِ العظيم، وروِّض نفسَك على هذا الفضلِ العظيم، وإيّاك ودعاةَ الكسل والغفلة ومَن يزهِّدك في الجماعة ويقول لك: تلك سُنَّة افعَل أو لا تفعل، كلُّ ذلك حرمانٌ لك من هذا الخير العظيم.
أسأل الله أن يوفِّقني وإيّاكم للمحافظةِ على طاعته والقيام بما أوجب علينا، وأن يحبِّب لنا هذه الصلاة، أسأل الله أن يحبِّبها لنفوسنا، ويمكِّنها من قلوبنا، ويجعلنا جميعًا من المحافظين عليها المؤدِّين لها حقَّ الأداء، لننال ثوابَ الله، أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:10، 11].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربكم، قال الله جل جلاله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3269)، ومسلم في صلاة المسافرين (776) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/3174)
يأس الأمّة من مؤتمر القمّة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
11/3/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أزمة ضعف الثقة بالله تعالى. 2- بين يدي مؤتمر القمة. 3- توقع فشل مؤتمر القمة وبيان أسباب ذلك. 4- الإرهاب الأمريكي. 5- لا عزة إلا بالإسلام. 6- سنة الله في الجبابرة الظالمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عباد الله، إنّ الأزمة عندنا ليست أزمة مال أو ثروة، وإنما هي أزمة عدم الثقة بالله تبارك وتعالى والاعتماد عليه، ولو أننا وثقنا بالله وتوكلنا عليه لهانت علينا الدنيا وما فيها. نحن الآن نتحدث عن الثقة في مجتمع ضعفت فيه الثقة بالله، فهذا يقول: مالي، وذك يقول: سلطاني، وذلك يقول: صيتي وجاهي، وليس فيهم من يقول: إنِ الحكم إلا لله، فأصبح الواحد منا يقول: ماذا سأصنع غدا؟ متى يأتيني رزقي؟ ماذا أفعل لأولادي وقد كثروا؟ ماذا أفعل لأعباء الحياة وقد زادت؟ ماذا أصنع بمظاهر الحياة وقد ثقل كاهلها على عاتقي؟ ألم نقرأ قول الله تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58]؟! فاعتمدوا ـ أيها المؤمنون ـ على الله، ولا تعتمدوا على غيره أبدًا، فعندئذ لن تفلحوا.
أيها المؤمنون، يستعدّ الملوك والرؤساء والقادة العرب لعقد مؤتمر القمة المؤجل من شهر آذار، والجميع يعلم أن المؤتمر قد أجل بسبب الخلافات الحادة بين أعضاء الوفود، والتي لم تتفق على صيغة موحدة لإدانة جريمة اغتيال الشيخ أحمد ياسين رحمه الله تعالى وأسكنه فسيحَ جناته، والكل يعلم أن أمريكا قد مارست ضغوطَها على بعض القادة العرب لتمييع الموقف وعدم عقد المؤتمر في موعده المحدد، وها هم سيجتمعون ثانية، ويسبق اجتماعهم اغتيال الدكتور عبد العزيز الرنتيسي رحمه الله، وها أنتم تسمعون يوميا عن قوافل الشهداء من أبناء شعبنا تتسابق على ثرى فلسطين المسلمة دون أن يستنكر أحد هذه المجازر البشعة، فهل ينجح هذا المؤتمر؟! هل تصدر قرارات على قدر المسؤولية؟! والجواب معروف سلفا، فلن يكون المؤتمر كذلك وذلك لأسباب منها:
أولاً: استمرار الخلافات حول الدور الأمريكي سواء بالنسبة لما يحدث من مجازر دموية في العراق أو في الساحة الفلسطينية.
ثانيا: تأكيد الزعماء العرب وعلى لسان رئيس الجامعة العربية أنهم لا يزالون يتمسكون بالسلام كخيار استراتيجي، دون أي تحفظ على ممارسات الاحتلال ضدّ شعبنا ومقدساته.
ثالثاً: استمرار التهديد الإسرائيلي باغتيال القيادات السياسية والعسكرية على حدّ سواء، دون أيّ ردّ فعل صارم.
رابعاً: الخلافات الحادة بين الدول العربية حول ماهية الإرهاب وسبل محاربته، والخلط بين الإرهاب والنضال والدفاع عن المقدسات.
خامساً: التهديدات الأمريكية لعدد من الدول العربية وبخاصة السعودية وسوريا بأنهما يرعيان الإرهاب.
سادساً: تراجع المواقف الإسلامية لدى العديد من القادة العرب وارتمائهم في أحضان أمريكا وبريطانيا دون الالتفات إلى مصالح الأمة أو الدفاع عنها.
إننا لا نعوّل على مؤتمر القمّة القادم لأنه كسابق المؤتمرات، بل إنه أسوأ حالا، فعالمُنا لا يزال يعيش في فرغ قاتل وضعف كبير وضياع وانقسام لا حدود له، أعداؤنا ينهشون جسدَ الأمة بطول البلاد وعرضها، أمريكا تعدّ العدة للقيام بمجازر وحشية لتصفية ما تبقّى من مقاومين في مدينة النجف العراقية، وتستعدّ لارتكاب المجازر في مدينة الفلوجة، أمريكا التي زعمت أنها جاءت لتحرير العراق، فإذا بها تبطش به بطشا شديدا، فقد جاءت لاستعمار أرض الرافدين، أمريكا تعمل لتغيير أنظمة الحكم في السعودية ومصر وسوريا، فها هي التفجيرات التي حدثت مؤخّرا إنما نتجت عن المخابرات المركزية الأمريكية رغم أنّ القاعدة قد نفت نفيا قاطعا أنها تقِف وراءها، الأمر الذي دفع بوزير الخارجية السعودي إلى تهديد واشنطن بأنّ علاقات بلاده ستشهد انحسارا إن هي استمرّت في اتهامها بدعم الإرهاب على حد قوله.
أمريكا هي التي تقدم الدعمَ لسياسة الفصل العنصري التي تعتزم إسرائيل تنفيذها في قطاع غزة، وتؤيد النهج الإسرائيلي المعادي لحقّ اللاجئين بالعودة إلى ديارهم، ورغم كل ذلك فلم نسمع تصريحا لأيّ زعيم عربي بالتهديد لتعريض المصالح الأمريكية لخطر المقاطعة العربية أو الإسلامية إزاء مواقفها الإرهابية في العراق والداعمة لإرهاب الدولة في أرض فلسطين، لم نسمع بيانا واحدا من القادة العرب يهدد بأن سياسة إسرائيل العدوانية ستواجه بالرد الحاسم كقطع العلاقات الدبلوماسية مثلا.
هذا هو الواقع المزري لأمتنا لأننا نلهث وراء السراب، ويصرّ قادة العرب على تجاهل الإسلام كحل وحيد لكل الهزائم والذل الذي نحياه، فمتى يدرك هؤلاء أن عزة المسلمين لا تكون إلا بالسير على منهج الله دستورا ونظام حياة؟! متى يدرك القادة والحكام أن لا سبيل للخلاص إلا بإقامة دولة الإسلام، وأن الظلم لن يكون وأن الله سبحانه وتعالى سوف ينتقم من الظالمين؟! ألم نتعلم ـ أيها المؤمنون ـ من كتاب الله تبارك وتعالى ومن سنته في الأمم الماضية كيف عاقب الطغاة والظالمين؟! ماذا حل بالنمرود؟! ماذا فعل بفرعون وهامان وقارون؟! ماذا حل بأبرهة الأشرم وأبي جهل وأمثالهم؟!
الله سبحانه وتعالى عاقب النمرود عقابا أليما عندما قال: أنا أحيي وأميت، لم يرسل إليه قاذفات القنابل الثقيلة، ولا الأساطيل المدمرة، إنما أرسل إليه بعوضة دخلت في أذنه وأخذت تصنّ في مطئه، فكان لا يفيق إلا إذا ضرب بالنعال على أم رأسه. وفي يوم بدر وقف أبو جهل العنيد يعربد في الميدان وهو يطوّح بسيفيه في الفضاء، فمن الذي قتله؟ هل قتله عمر؟! إذا لكان القتل مشرّفا، هل قتله علي أو الزبير أو سعد أو خالد أو القعقاع؟! والجواب: لا، يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: بينما أنا قائم يوم بدر إذ جاءني غلام لم يتجاوز العاشرة من عمره، قال لي: يا عماه، أهاذا هو أبو جهل؟! فقلت له: ولماذا تسأل عنه أيها الغلام؟ قال: قد عاهدت الله إن رأيته لأقتلنه لأنه يبغض رسول الله، إن الذي قتل أبا جهل غلام لم يبلغ الحلم، ولم يجر عليه القلم، وضرب أبا جهل فخر صريعا على الأرض.
سبحانك يا رب، وأنت تؤدّب الملوك الظالمين، وأنت تؤدّب الجبابرة يوم نام أحدهم على فراش الموت، هذا يقيس نبضه، وذاك يقيس ضغطه، وذاك يحلل بوله، وهذا ينشّط قلبه، وعلى حين غفلة من هؤلاء وهؤلاء دخل ملك الموت بإذن من الله تبارك وتعالى، اخترق قيادة الجيش ولم يأبه بسلاح الطيران ولا سلاح المشاة، وجثم على صدره، وأودع الروح إلى خلاقها، ليقف بين يدي من يقول: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:94]، بين يدي من يقول: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:95].
إلهنا ومولانا:
ما في الوجود سواك رب فيعبد كلا ولا مولى هناك فيقصد
يا من له عنت الوجوه بأسرها رهَبا وكل الكائنات توحد
أنت الإله الواحد الحق الذي كل القلوب له تقر وتشهد
أخي المسلم:
دع المقادير تجري في أعنتها ولا تبيتنّ إلا خالي البال
ما بين غمضة عين وانتباهاتها يغيّر الله من حال إلى حال
توجّهوا ـ أيها المسلمون ـ إلى الله تبارك وتعالى، وادعو الله وأنتم موقنون بالاستجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3175)
مع الشهيدين
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
ياسر بن محمد بابطين
جدة
11/3/1425
جامع الأمين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فاجعتان متتاليتان. 2- نعي أمة الغثاء. 3- حديث دم الشهيد. 4- أمة لن تموت. 5- ميراث الشهيدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المؤمنون، تحار الكلمات وهي تقفُ عاجزةً أمامَ مشاعرِ الغيظِ التي تغلي بها قلوبُ المؤمنين، وقد دوت في الآفاق فجيعةٌ لم تمهلهم حتى يغيبَ دوِيُّ سابقتها، يحترق قلبُ كلِّ ذي قلب، للجرح يُنكأُ في إثرِ الجرح، والطعنةِ تشقُّ الطريقَ لطعنةِ أخرى، في جسدٍ توثقه القيود، وتلهيه الوعود، وتلعب بمصيره حفنةٌ من يهود.
قد سطّرت يدُ الشهيد بالدّماء أسطرا
للجنّ والإنس معا رسالةً لمن قرا
إذا ادْلهمّ ليلُنا والعير أعياها السُّرى
ولم يعد دليلُنا ولا كفيلنا يَرى
وأحْدقت بنا العدا قاد الشهيدُ العسكرا
فشقّ بالدِّما لنا طريقَنا المظفّرا
إذا الدماء لم تسِلْ فالقدس لن تُحرّرا
الحمد لله على نهر الدّم الذي جرى
حمدًا على ما خطَّ مولانالنا وقدّرا
جفّ الكتاب يا أُناسُ قبل أن نُصوَّرا
من الرماد فانهضوا للمجد أقوى جوهرا
لم تخلَق الشموسُ كي تُدسَّ في بطن الثرى
لله في أعناقنا عقد موثّقُ العرى
بعنا النفوسَ والدّما وربنا قد اشترى
فيا نسورَنا التي ليس لها ندّ يُرى
من الحضيض أقلعي وحلّقي على الذُّرى
أنْعم بكم من أسهم قهّارة لن تُقهرا
ترمي الرّدى في نحره ولا تعود القهْقَرى
مَن أمُّه القدس ومَن أبوه سيّد الورى
تبًّا له إن لم يَعِشْ ولم يمتْ غضنْفرا
لقد ذهب الشيخ الجليل، وها هو في أثره التلميذُ النبيل، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
أما هما فقد وفدا على ربٍّ كريم، يلقيان عنده الراحة بعد ذاك العناءِ الطويل، رَبٍ اشترى منهما يومَ بذلا، وأكرمهما حين نزلا، وأعطاهما ما سألا، وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:46]، نحسبهما كذلك ولا نزكي على الله أحدا.
ليس لنا اليومَ أن ننعاهما، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198]، وما مات من وافى شهيدا، بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171]، إنما ننعى أمةً كالغثاء، تُستباح أرضُها، وتُغتال أئمتُها، وتُنتهك حرمتُها، تَضيع حقوقها، ويُمرّغ أنفُها، وفي بنيها من لا يزال يُدغدغ عواطِفَه بألحانِ الغانيات، ويُرسل طرفه في مفاتنِ الراقصات، ويُغيّب ضميرَه في المدرَّجات، ويدسُّ رأسَه في أحضانِ الشهوات، ألا نستحي من الله؟! دمُ ابنِ ياسين لا يزالُ ينزف، وأكفٌ لا تزال تُصفِّق لأبطالِ "ستار أكاديمي"، فلسطين تغلي لمقتل الرنتيسي، وفي الوقت ذاته وقبله وبعده تغلي المدرجاتُ لشيءٍ آخر، أين نحن من الحدث؟! أين قلوبنا، همومنا، أموالنا، أبناؤنا؟!
إذا كنا لا نريد أن نصنع النصرَ لأمتنا فلا أقلّ من أن نبحث عن النجاة لأنفسنا، عما يعتق رقابنا من النار، ويفكها من غل السؤال بين يدي الجبار، فإن في عُنق كل واحد منا سؤال عظيم: ماذا قدمت لمسرى نبيك وللمستضعفين في الأرض المباركة؟
لقد حدّثنا دم الشهيد أن النصر رحلة أول خطواتها الانتصار على النفس، وأنه جسر أوله الإصلاح وآخره التمكين. وحدّثنا دم الشهيد أنّا أمةٌ لا يزيدها البلاء إلا تمحيصًا وتمايزًا في الصف ووضوحًا في التوجهات. لقد كنا نسمع قبل سنوات من يتكلم عن أمريكا الصديقة والسلام العربي الإسرائيلي، أما اليوم فليس يخفى على أحد زيف هذه الدعاوى، فعداوة أمريكا لنا عقيدةٌ تغذيها الأحداثُ وإن غابت عن المقررات، وخيارُ المقاومة اليوم علامةُ إيمانٍ أو نفاق، تجلت الحقائق، وسقطت الأقنعة، وذهب زمان الاستغفال.
حدّثنا دم الشهيد أنّا أمة تُطعَن فلا تموت، وتقهر فلا تستسلِم، باقيةٌ ما بقيت الدنيا، منتصرة ما دام الصراع، إن أهينت عزّت، وإن وخِزت هبّت، حرامٌ على بنيها أن يدبّ اليأس في قلوبهم، عار أن يهنوا للمصاب يصيبهم، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104].
لقد عاشت الأمة أحداثًا أفظع مما نرى اليوم، ففي سنة سبعَ عشرة وثلاثمائةٍ للهجرة، وفي يوم التروية، غزا القرامطةُ الرافضةُ بيتَ الله الحرام، فانتهبوا أموال الحجيج، واستباحوا قتالهم، فقتلوا في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة خلقًا كثيرًا، وكان الناس يفرون منهم، فيتعلقون بأستار الكعبة، فلا يُجدي ذلك عنهم شيئا، بل يُقتلون وهم كذلك، وجلس أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة يقول:
أنا لله وبالله أنا أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا
ثم أمر أن يدفن القتلى في بئر زمزم، وهدم قبّة زمزم، ونزع كسوة الكعبة عنها، وشققها بين أصحابه، ثم أمر بأن يُقلع الحجر الأسود، فجاءه رجل فضربه بمثقل وهو يقول: "أين الطير الأبابيل؟! أين الحجارة من سجيل؟!"، وأخذوا الحجر الأسود إلى بلادهم، فمكث عندهم حتى ردوه بعد ثنتين وعشرين سنة، ثنتين وعشرين سنة يُطاف بالكعبة لا حجرَ فيها، فسبحان من يمهل ولا يهمل.
وفي أواخر المحرم من سنة ست وخمسين وستمائة دخل التتار بغداد، فقتلوا جميعَ من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والشيوخ والكهول والشبان، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يومًا، ودخل كثير من الناس في الآبار والمزابل، وكمنوا أيامًا لا يظهرون، وكان الناس يهربون إلى الأسطحة فيلحقهم التتار فيقتلونهم، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، وقُتل الخليفة، وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن وتعطّلت مساجد بغداد، لا تُقام فيها الجماعة مدة شهور، وقتل في هذه الوقعة من المسلمين ثمانمائة ألفِ نفسٍ في أقلّ تقديرات المؤرخين، وانقضت الأربعون يومًا، وعادت بغدادُ كأنها خراب، ليس فيها إلا القليل من الناس، والقتلى في الطرقات كالتلول، فهل قُضي على الإسلام؟! هل هزّت هذه الضربة الموجعة عزيمة أسود مصر الذين أعادوا للأمة مجدها في عين جالوت؟!
والقدس أين تاريخ القدس؟! ألم يُسلِّمها العبيديون الرافضةُ للصليبيين بعد أن انتزعوها من أيدي المسلمين، فأعمل النصارى سيوفهم سبعةَ أيام، وقتلوا أكثرَ من سبعين ألفًا من المسلمين؟! ألم يشهد المسجد الأقصى مجزرة فظيعة بلغت فيها الدماء الركب، وظل المسجد الأقصى في قيده، ثنتين وتسعين سنةً، لا تُقام فيه صلاة، عُلقت به الصلبان، ودوّت النواقيس؟! وما مات الإسلام، ولا ماتت عزائم المسلمين، بل تحرك الغضب في النفوس المؤمنة ومضى وعدُ الله، إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]. إن تنصروه، فهل نصرناه؟! إننا لا نريد فألاً مخدّرًا، ولا يأسًا مقعِدًا، لن ينفعنا أمل لا يؤول إلى عمل، ولن نصبر على عمل لا يحدوه أمل، لكننا لا بد أن نغزل خيوط الفجر القادم، مهما اشتدّ الظلام، ومهما طغى اللئام، فالله مولانا ولا مولى لهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد:7-11].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله صدق وعده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أيها المؤمنون، لقد مضى الشيخان، فماذا تركا وراءهما؟ بحثنا فيما ورّثا، فما وجدناهما تركا مالاً ولا متاعًا إلا القليل، ولكنهما تركا دَينا عظيمًا وحِملاً ثقيلاً، برئت منه ذممهما، وبقي في ذممنا نحن، إنه الأقصى الجريح، الأقصى الأسير الكسير، قبلة الأنبياء، ومسرى محمد بن عبد الله ، تركا لنا قضية المسلمين الأولى، تركا لنا يتامى فلسطين وأراملها، أطفالها وشيوخها، في أعناقنا كل ذلك، في أعناقنا دمع الأم على دم ابنها، وبكاء الزوجة على قتل زوجها، وسؤال الصغار: متى يعود أبونا؟ في أعناقنا مساجدُ صارت حاناتٍ ودورَ فجور، وبيوتٌ لم يبق منها إلى الأنقاض، رحلة النصف قرنٍ وأكثر لا تُختزل في كلمات، ولا تصوّرها عبارات، ألا فلنُرِ الله منا خيرا، أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، واسوهم بمشاطرة الهم، تألموا لمصابهم، أكثروا من الدعاء لهم وعلى عدوِّهم، ذبوا عن أعراضهم، فنحن جسدٌ واحد.
(1/3176)
الموقف الحاسِم من الخطر الداهم
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
18/3/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة البصيرة في الدين. 2- المفسدون باسم الإصلاح. 3- جرائم التفجير والقتل. 4- واجب المسلم تجاه هذه الجرائم. 5- دعوة المتورّطين للتوبة. 6- ضرورة الوحدة والاجتماع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتَّقوا الله حقَّ التقوى، فإنها خيرُ زادٍ لقَطع أشواطِ الحياة بمنأًى عن الزَّللَ وسلامةٍ من الأوزار ونجاةٍ من هَولِ يومٍ تتقلَّب فيه القلوب والأبصار.
أيّها المسلمون، إنَّ مما أنعَم الله به على المؤمنين مِن سابغ النِّعم وما أكرمهم به من جميل العطايا وما حباهم به مِن وافرِ الهباتِ أن جعلَهم على بيِّنةٍ من ربِّهم، أي: على بصيرةٍ ويقين من أمرِ الله ودينه؛ بما أنزل عليهم في كتابه، وبما جاء في سنّة نبيِّه من الهُدى والعِلم، وبما جبلهم عليه من الفِطَر القويمة الباعِثة على التمييز بين الحقِّ والباطل الحاملةِ على التفريق بين الهُدى والضَّلال، ولذا فإنّهم وقَّافون عند حدودِ الله رجَّاعون إلى الحقِّ كلّما زلّت بهم الأقدام أو مسَّهم طائفٌ من الشيطان فحادُوا عنِ السبيل وجانبوا الصراط. وعلى العكسِ منهم أولئك الذين زُيِّن لهم سوءُ عَمَلهم فرأوه حسنًا وضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسّبون أنهم يحسِنون صنعًا، فإنهم يعيثون في الأرض فسادًا ويزعمُون أنهم مصلحون.
وقد بيَّن سبحانه بُعدَ الشَّأوِ بين الفريقين بقوله: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:14].
وإنَّ من ذلك ـ أي: من تزيين العمل ـ ما وقعَ من أعمالٍ إجراميّة نكراء في مدينةِ الرياض عاصمةِ هذه البلاد الطيِّبة المباركة، وما تلاها في مدينةِ ينبُع، وما سبقهما من أحداثٍ أليمةٍ تقضُّ لها مضاجعُ أولي النهي وتهتزُّ لها أفئدةُ أولي الألباب، لِما أزهِقت فيها من نفوسٍ معصومة، ولِما سُفكت فيها من دماءٍ محرَّمة، ولِما أحدثته من ترويعٍ وخرابٍ للأموال والعمران، وكيف يستقيم هذا الإجرامُ مع قول ربِّنا الأعلى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]؟! وأين من اجتَرأ على هذه الحُرُمات، أين هو من وصيَّة نبيِّ الرحمة والهدى الواردةِ في خطبته في حَجَّة الوداع وهي قوله عليه الصلاة والسلام: ((فإنّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرام كحرمةِ يومكم هذا، في بلدكم هذا ـ أي: البلد الحرام، أي: مكّة ـ ، في شهركم هذا ـ أي: في شهر ذي الحجة ـ ، ألا هل بلغت؟)) قالوا: نعم، قال: ((اللهم اشهَد، فلا ترجِعوا بعدي كفَّارًا يضرِب بعضُكم رقابَ بعض)) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده، إنها لوصيتُه لأمته: ((لا ترجِعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضُكم رقابَ بعض)) أخرجه البخاري في صحيحه [1] ؟!
وإذا كان للعقلاءِ مِن تمام الحِرص على إنفاذ وصايا موتاهم ما هو معلوم مشهورٌ، فكيف بوصيّة هذا النبيِّ الذي وصفه ربُّه سبحانه بقوله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]؟! أفلا تستحقُّ وصيَّته الرعايةَ والعِناية والعملَ بما جاء فيها؟! بل أليست هذه الوصيةُ دينًا نتعبَّد اللهَ به لأنّه سبحانه أمرنا بذلك بقوله عزّ اسمُه: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]؟! ثمَّ مَن المنتفِع بهذه الأعمال على الحقيقة؟! أهم المسلمون أم الأعداء؟! وهل حقَّقت لأصحابها شيئًا؟! وكيف يرتضي عاقلٌ لنفسِه أن ينقلِب إلى أداةٍ في يدِ أعدائه وأعداء بلدِه وأمّته، يبلغون بها ما يريدون، وهم موفورون لم يمسسهم سوء؟!
عبادَ الله، إنَّ على كلِّ مؤمن صادقٍ يحذَر الآخرةَ ويرجو رحمةَ ربِّه أن يرفعَ صوتَه بإنكار هذه الأعمال الإجراميّة لأنها محرَّمةٌ بنصوص الكتاب والسنة، ولأنها تعدٍّ لحدود الله وانتهاك لحرماته وعُدوان على عباده، ولأنها فسادٌ نهى الله عنه وأخبرَ أنّه لا يحبُّه، وأنه لا يُصلِح عملَ المفسدين.
وإنَّ على من تلوَّث بأرجاسِ هذا البلاءِ والنُّكر أن يتوبَ إلى الله تعالى قبلَ حلولِ الأجل وهو مقيمٌ على هذا الباطِل الذي لن يَجنِيَ من ورائه ما يحسَب أنه سيحظى به. والسعيدُ ـ يا عبادَ الله ـ من وُعظ بغيره ونأى بنفسه عن كلِّ ما يُفضي به إلى اتِّباع خطواتِ الشيطان وأصاخَ إلى نداء القرآن الذي يدعوه ويدعو المؤمنين كافَّة إلى النجاة بقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:208، 209].
نفعني الله وإيّاكم بهديِ كتابه وبسنَّة نبيّه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفروه، إنه كان غفّارًا.
[1] صحيح البخاري: كتاب الحج (1739) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الوليِّ الحميد، الفعّالِ لما يريد، أحمده سبحانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنّ سيِّدنا ونبينا محمَّدًا عبد الله ورسوله، اللهمّ صلِّ عليه وعلى آله وصحبه، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، إنه إذا كانت وَحدةُ الصَّفّ واجتماع الكلمة ونبذُ التفرُّق والاعتصام بحبل الله هو ممَّا أمِرنا به أمرًا عامًّا شاملاً لا يختصُّ بزمانٍ دون غيره، وذلك في قوله سبحانه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا الآية [آل عمران:103]، فإنَّ الأمرَ بهذه الوَحدة والاجتماع القائمَين على توحيد الله تعالى والاعتصام بحَبله أشدُّ تأكُّدًا وأعظم وجوبًا وقتَ النوازلِ وزمنَ الخطوب والشدائِد؛ لما فيها من حُسن المعونة على مواجَهَة الأخطار والتصدِّي للعدوان وإطفاء نار الفتنة.
فاعمَلوا ـ رحمكم الله ـ على الحِفاظ على أسباب اتِّحادكم واجتماعِكم، وكونوا يَدًا واحدة وقلبًا واحدًا في وجهِ هذا الخَطَر الداهِم، وأقِلُّوا من الجَدَل، وأكثِروا من العمَل، فإنّه ما ضلَّ قومٌ بعد هدًى كانوا عليه إلاَّ أوتُوا الجدَلَ وسُلِبوا العمل، كما أخبر بذلك وكما ثبَت عن الصادق المصدوق في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه بسند جيد [1].
واحذروا مِن تقديم الأهواء أو النَّزعات أو المصالح الفرديّة على مصالح الدِّين والوطن والأمّة، وإنها لأمانة أفلَحَ من أدّاها على وجهِها وقام بحقوقِها واتَّقى الله فيها.
ألا فاتّقوا الله عبادَ الله، واذكروا على الدّوام أن اللهَ تعالى قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدقِ الحديث وأحسنِ الكلام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة...
[1] مسند أحمد (5/252، 256)، سنن الترمذي: كتاب التفسير (3253)، سنن ابن ماجه: المقدمة (48) عن أبي أمامة رضي الله عنه، وليس فيه قوله: ((وسلبوا العمل)) ، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (3674)، وحسنه الألباني في تخريج شرح الطحاوية (175).
(1/3177)
تعريف الأنام بمقاصد الإسلام
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
18/3/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- علم المقاصد الشرعية. 2- ضرورة فهم مقاصد الإسلام. 3- القاعدة الكلية الكبرى. 4- مقصد العدل. 5- الضروريات الخمس. 6- الحذر من كل ما ينفر عن الإسلام. 7- مقصد الوحدة والائتلاف. 8- مقصد درء الفتن. 9- مبدأ الحكمة في الإعلان والنشر. 10- مقصد تحرير العقول من التقليد. 11- مقصد الولاية السلطانية. 12- تجريم حوادث التخريب والتفجير. 13- العناية بالفقه في الدين. 14- ضرورة الاجتهاد الجماعي والعمل المؤسّسي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فبها يحصل المخرجُ مِن كلِّ ضيق والتيسيرُ من كلِّ أمر عسير.
معاشرَ المسلمين، إنّ الشريعةَ الإسلامية ومِن منطَلقِ حِرصها على إسعادِ البشريّة وتحقيق الخير والفلاح للخليقة قد جاءت أحكامُها لمقاصدَ عاليةٍ وتحقيق غايات فاضلةٍ وأهدافٍ سامية، تلكم هي المقاصدُ الشرعيّة التي هي علمٌ من علوم الشريعة، حظِيت من المحقِّقين باهتمامٍ بالغ وعناية فائقة، ذلكم أنّ أيّ تصرُّفٍ يتصرّفه المسلم مهما حسُنت النوايا يجب أن يكونَ متَّفِقا مع مقاصدِ الدين، متمشِّيًا مع سنّة سيّد الأنبياء والمرسلين، حتى لا يهدم المرءُ إسلامَه من حيث لا يشعُر، ولا يُفسِد دينَه من حيث لا يعقِل، وحينئذٍ مَتى حصلتِ المخالفة لمقاصد الدين حصَل الضلال والإضلال والضررُ والفساد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حَقّ الخوارج الذين خرَجوا على صحابةِ رسول الله : "وقلَّ من خرَج على ذي السُّلطان إلاّ وتولَّد على فِعله من الشرِّ أعظمُ ممّا تولَّد من الخير ـ إلى أن قال رحمه الله: ـ فما أقاموا دنيا، ولا أبقَوا دينًا" انتهى [1] ، ويقول ابن القيم رحمه الله بعد أن قرّر مجيءَ الشريعةِ لمصالح العباد: "وهذا فصلٌ عظيمُ النفع جدًّا، وقع بسبَب الجهل به غلطٌ عظيم على الشريعة" انتهى [2].
وإنَّ أمّتنا وهي تعاني ما تعاني من الشدائدِ والمِحن لفي ضرورةٍ لتفهُّم المقاصد العامَّة لهذا الدين، وفي حاجةٍ ماسَّة لدراسة أهداف شريعة الإسلام والتعمُّق فيها والعَمَل على وقفها؛ لإصلاح المنهَج النظريّ العلميّ والمنهج العمليّ الاجتماعي التطبيقي، خاصّة شباب الإسلام الذين هم عِماد الأمة ومصدرُ قوّتها. نعم، إنَّ الواجبَ عليهم التبصُّر في مقاصد دينهم والوعيُ التامّ لها؛ ليتجنّبوا سوءَ المأخَذ وفساد الاستنتاج وقُبحَ الأعمال، وحتى تترقَّى مداركُهم وتظهرَ جهودُهم في أجمل المظاهرِ التي أرادها هذا الدين، ولتنبع أفعالهم من روحِ الإسلام وتنساق من مقاصِده وتوفِي بحاجات الدّعوةِ وتواكِب مقتضياتِ الزمان وتغيُّرات العصر.
معاشرَ المسلمين، مقاصِدُ الشريعة ترجِع في أصلها وتعود في مُجمَلها إلى تحقيق القاعدةِ الكلّية الكُبرى: الحرصُ الشديد على جَلب المصالح وتكثيرها، والتأكيدُ البالِغ على دَرء المفاسد وتقليلها. ومِن هنا فالغاية الجامعةُ والمقصَد العامّ من التشريع في الإسلام بعد تحقيق العبُوديّة لله هو حِفظ نظامِ الأمّة واستدامةُ صلاحها بعمارةِ الأرض، وحِفظُ نظام التعايُش فيها، والحرصُ على حِفظ نظام العالمَ وضبطِ تصرُّفات الناسِ فيه على وجهٍ يعصِم من التفاسُد والتهالك، يقول جل وعلا: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، ويقول سبحانه: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23]، ويقول جل وعلا: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة:64].
إخوةَ الإسلام، من المقاصدِ العليا للإسلام في هذه الحياة إقامةُ العدلِ بشتَّى صُوَره وإشاعة الرحمةِ بين الخلق بأوسَع معانيها وتحقيقُ الإحسان في جميع مجالاته، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى [النحل:90]، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء107]، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، ونبينا يقول: ((إنَّ الله كتَب الإحسانَ على كلِّ شيء)) [3].
معاشرَ المسلمين، ومِن المقاصِد الكبرى لشريعة محمّد تلك الملقَّبة عند العلماءِ بالضروريات الخمس: حفظُ الدين والنفوس والأموال والعقول والأنسابِ، تلك الكلِّيات الخمس التي هي بمنزلةِ الثوابت المطَّردة والقِيَم الخالدة في هذا الدين، والتي بها قِوام حياة الإنسان، وعليها مدارُ العمران، وبها انتظامُ الإسلام، لا يستقيم النظام باختلالها، ولا يهنأ عيشٌ بدون سلامتِها، بل إذا انخرمت تَؤول حالُ الأمّة إلى فسادٍ وتلاشٍ وضعفٍ وهوان، ونصوصُ الشريعة في مراعاةِ هذه الضروريّات أشهرُ من أن تُذكَر، وأبرز ما أن تُحصَر، ولذا ففي التطبيقاتِ العملية من سيِّد الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام ومن خلفائه الراشدين ممّا هو متواترٌ وشيء ظاهر مشتهِر في مراعاتها والعمِ في وفقها:
إنَّ النبيَّ وهو في حالة الحرب مع الكفار الحربيِّين ينهى عن قتلِ النساء والصبيان ومن ليس مِن أهل القتال حِفظًا للنفوس من الإهدار والإفساد.
وهذا عمر الفاروق رضي الله عنه ينطلِق في نظراته من هذه المقاصد، يقول: (والذي نفسي بيده، ما يسرُّني أن تفتَحوا مدينةً فيها أربعةُ آلاف مقاتِل بتضييع رجلٍ مسلم) أخرجه سيعد بن منصور في سننه [4] ، ونراه يكتب إلى عمّالِه كاتبًا لهم: (لا تستعمِلوا البراءَ بنَ مالك على جيشٍ من جيوش المسلمين؛ لأنّه كان شديدَ الجراءة، يقتحم المهالكَ بأمّة محمد ) [5].
وها هم علماءُ الإسلام يقرِّرون انطلاقًا من القرآنِ والسنّة بأنّ الكفار الحربيِّين متى تترَّسوا بمسلمين ولو واحدًا أو تترَّسوا بذمّيِّين يعيشون في ديار الإسلام فلا يجوز رميُهم صيانةً للنفوس إلاّ في حالات ضرورة قصوى يقرّرها وليُّ أمر المسلمين، بل وهكذا الحكمُ عندهم لو تترّس الكفّار الحربيّون بنسائهم وأطفالهم حِفظًا من الشريعةِ للنفوس البشرية التي خلقها الله جلّ وعلا، وما خلقه مكرَّمٌ كما قال: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70].
ومِن مقاصد الإسلام الحرصُ على درءِ كلِّ ما يعود على هذا الدين بالتنفير منه، ومَنع إظهار أيّ صورةٍ قد تكون سببًا للمَنع من دخول الناس في دين محمّد ، وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]، والنبيّ قد كفّ عن قتلِ المنافقين في المدينةِ مع كونه مِن أعظم المصالح ذاك الوقت لئلاّ يكون ذريعةً إلى تنفير الناس عن دين الإسلام وقولهم: إنّ محمّدًا يقتل أصحابه.
قال العلماء: لأنّ مفسدةَ التنفير أكثرُ من مفسدةِ [ترك] المنافقين، ومصلحةُ التأليف أعظمُ من مصلحة القتل؛ ولذا ففي عالم اليوم تجد المتربِّصين للإسلام يتصيَّدون لكلِّ تصرُّفٍ يصدُر من أبناءِ الإسلام لينالوا من الإسلام وخصائصِه ونبيِّه، مع أنَّ تلك التصرُّفات لا تمتُّ للإسلام بصلة؛ كترويع الآمنين وسفك الدماء وتخريب العمران.
ومن مقاصدِ شريعة الإسلام تحقيقُ وَحدة المسلمين والتأليف بين قلوبهم وجمعُ كلمتهم ومنع كلِّ ذريعة للتفرُّق والاختلاف والتنازُع، قال ابن القيم: "وهذا مِن أعظمِ مقاصد الشَّرع، وقد سَدَّ الشرع الذريعةَ إلى ما يناقضه بكلّ طريق حتى في تسوية الصفِّ في الصلاةِ لئلاّ تختلفَ القلوب، وشواهدُ ذلك أكثر من أن تُذكَر" انتهى [6] ، يقول الله جلّ وعلا: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، ويقول جل وعلا: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، ونبيُّنا يقول فيما رواه مسلم: ((من خرَج من الطاعة وفارقَ الجماعةَ فمات ماتَ ميتةً جاهلية)) [7] والعياذ بالله.
ومن هنا حرص الأعداءُ بكلِّ طريقٍ على تعميق الهوَّة بين أفرادِ الأمة وبين علمائها وولاةِ أمورها، حتى يحصل الشرّ العظيمُ بالأمّة ويتحقّق للأعداءِ ما يريدون، لذا فالضرورةُ اليومَ داعيةٌ إلى التكامُل والتعاضد بين العلماء والحكّام والمجتمع ككلّ على منوالِ الشريعةِ لتحقيق المقاصدِ الشرعيّة والأهداف المرعية التي جاء بها سيِّد الخلق محمد.
إخوةَ الإيمان، ومِن مقاصد شريعة الإسلام سدُّ الفِتَن وأبوابها ومنعُ الشرور وطُرُقها، يقول ابن القيم رحمه الله في تأصيل قاعدةِ سدّ الذرائع: "الوجه الثامن والتسعون: نهيُ النبيِّ عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا أو جاروا ما أقاموا الصلاة، سدًّا لذريعة الفسادِ العظيم والشرِّ الكثير بقتالهم كما هو الواقع، فإنّه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعافُ أضعافِ ما هم عليه، والأمّة في بقايا تلك الشرور إلى الآن" انتهى كلامه المتين [8] ، ويقول أيضًا في النهي عن إنكار المنكَر إذا كان يلزم منه ما هو أنكرُ منه، يقول رحمه الله في كلام عليه نورٌ: "وهذا كالإنكارِ على الملوك والولاة بالخروج عليهم فإنّه أساسُ كلِّ شرٍّ وفتنة إلى آخر الدهر ـ إلى أن قال: ـ ومن تأمّل ما جرى على الإسلام في الفِتن الكبار والصِّغار رآها مِن إضاعةِ هذا الأصلِ وهو إنكار المنكر إذا كان يترتّب عليه ما هو أنكرُ منه، ومِن عدم الصبر على المنكَر، فيُطلَب إزالتُه، فيتولّدُ منه ما هو أكبر منه" انتهى [9].
وانطلاقًا من هذا المبدأ قرّر محقِّقو العلماء مبدأً مهِمًّا يجب أن يُفعَّلَ في واقع المسلمين، وهو قولهم: ليس كلُّ ما هو حقّ معلومٌ يجوز نشرُه ممّا يؤدّي إعلانُه إلى مفسدَة من فتنةٍ وفوضى وشرّ، قال الشاطبي رحمه الله: "ومنها ـ أي: العلوم ـ ما لا يُطلَب نشرُه بإطلاق، وذلك ممّا يتضمَّن ضررًا محضًا" انتهى [10] ، خاصةً عند العامّة وشباب الأمة ممّن قد يكون لبعضهم فتنةً لعدم وجودِ العلم الكافي لديهم، وعدمِ الإدراك الكامل، وهذا منهَج معروف عند سلفِ هذه الأمّة، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (ما أنتَ بمحدِّث قومًا حديثًا لا تبلُغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) [11] ، وهذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في حادثةٍ يقول لعمر حينما أراد عمر رضي الله عنه التحذيرَ من النفَر الذين تكلَّموا في مسألةٍ من مسائل الإمامةِ وهو في موسم الحجّ، قال عبد الرحمن: (لا تفعَل، فإنّ الموسمَ يجمع رعاعَ الناس، ويغلبون على مجلسك ـ أي: يقترّبون منك ـ، فأخاف أن لا يُنزلوا مقالتَك على وجهها، وأن يُطيروها كلَّ مطير، وأمهِل ـ يا عمر ـ حتى تقدُم المدينة، فتخلصَ إلى أصحابِ رسول الله ، فيحفظوا مقالتَك، وينزلوها على وجهها)، فوافقه عمر وهو الموفَّق الملهَم [12].
ومِن مقاصد الإسلام تحريرُ العقول من التقليدِ والتَّبعيّة المجرّدَة، تلك التبعيّةُ التي تستعبد الأفكارَ وتستأسر العقولَ من باب الإعجابِ بالآراء ليس إلاّ كيفَ كانت، وتنزيهها من الخطأ، وبالتالي تنعدِم عند المسلمين ملكةُ النقد، وتسود عقليةُ التسليم مهما كانت الآراءُ المتلقّاة لا تنهَض على حجَّةٍ ولا يقودها دليلٌ سوى العاطفة والحماس.
لذا حريٌّ بشبابِ الأمّةِ شبابِ محمّد أن يتّقوا الله جلّ وعلا في دينهم، وأن لا يأخذوا الفتاوى والآراءَ إلا من أهلِها أصحابِ الدّراية والروايةِ، وليحذَروا من تلك الشّبكاتِ العنكبوتية التي تبرز الغَثّ والسمين والصوابَ والخطأ، لا يُعلَم مصدرُها، ولا يوثَق بخبرها، والله جل وعلا يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، وفي الحديث: ((حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتَّخذ الناسُ رؤوسًا جهّالا، فأفتوا فضلّوا وأضلّوا)) [13] عياذًا بالله.
معاشرَ المسلمين، استقراءُ الشريعة في أقوالها وتصرّفاتها حجّةٌ قاطعة بأنّ من مقاصدها العليا أن يوجَد للأمة ولاةٌ يسوسون مصالحها ويقيمون العدلَ وينفِّذون أحكامَ الله فيها، لذا كانت الولايةُ السلطانية من لوازم الشريعة، لئلاّ تكون في بعضِ الأوقات معطّلةً، يقول عليّ رضي الله عنه وهو من مدرسةِ محمّد : (إنّ الناسَ لا يُصلحهم إلا إمامٌ برّ أو فاجر) [14].
ومن هنا ألزمتِ الشريعةُ الحاكمَ بتقوى الله عز وجل في كلّ أموره، وبالسّعي في جلب مصالح الأمة ودرء المفاسد عنها، وأوجبت على الرعيّةِ طاعةَ الحاكم في غير معصية الله، وعدمَ الخروج أو الافتيات عليه، بل له في الشريعة الدعاءُ والنّصحُ الصادق برفقٍ ولُطفٍ، مع المعاونة له على الحقّ.
أيّها المسلمون، أمّةَ الإسلام، شبابَ الإسلام، ها هي بعضُ مقاصِد سيِّد الخلق ودين محمّد ، حينئذٍ فكلّ عاقلٍ وكلُّ متبصِّر لا يشكّ أدنى شكٍّ أنّ هذه الأعمالَ الإجرامية التي وقعت في أماكنَ من بلاد الحرمين كحادثة الرياض ثم حوادثِ جدّة ثم ما وقع أخيرًا في مدينة ينبع كلُّها أعمالٌ شنيعة، جمعت من القبائح ما لا يُحصَى، ومن مخالفةِ أمر الله ورسوله ما لا يعَدُّ ولا يُحصَر. أعمالٌ لا تستقيم مع مقاصد الشريعة التي سمعنا بأيّ وجهٍ من الوجوه، بل هي مضادَّة لها، مصادِمةٌ لمُجملها وتفصيلها، بل إنّ هذه الأعمالَ وأمثالها لا تصبُّ إلا في وخدمِة أعداء الإسلام وتحقيق مصالحهم في ضرب الإسلام وأهله، ولذا فما فرِح أعداء الإسلام بمثل فرحتِهم بمثل هذه الأعمال، فيا خيبةَ من كان وسيلةً للأعداء وآلةً سهلةً لهم في هدم مقاصدِ الإسلام، والله جلّ وعلا يقول: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:94].
ولنستمع إلى النورِ من مشكاةِ النبوَّة، يقول : ((من خرج مِن الطاعةِ وفارق الجماعة فمات ماتَ مِيتةً جاهلية، ومن قاتل تحتَ راية عمِّيَّة يغضَب لعصبيّة أو يدعو إلى عصبة أو ينصُر عصبةً فقُتل فقِتلة جاهلية، ومَن خرج على أمّتي يضربُ برّها وفاجرَها ولا يتحاشى من مؤمِنها ولا يفي لذي عَهدٍ عهدَه فليس مني ولستُ منه)) أخرجه مسلم [15].
وعن رفاعة بن شدّاد قال: كنتُ أقوم على رأس المختار، فلمّا تبيَّنتُ كذبَه ـ وهو الذي ادّعى النبوة ـ هممتُ ـ وايم الله ـ أن أسلّ سيفي فأضربَ عنقَه، حتى ذكرتُ حديثًا حدّثناه عمرو بن الحمِق قال: سمعتُ النبيَّ يقول: ((من أمَّن رجلاً على نفسِه فقتله أُعطِيَ لواء الغدر يومَ القيامة)) [16].
نفعنا الله بما سمعنا، وبارك الله لنا في القرآن والسنّة، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] منهاج السنة النبوية (4/527-528).
[2] إعلام الموقعين (3/3).
[3] أخرجه مسلم في الصيد (1955) عن شداد بن أوس رضي الله عنه.
[4] أخرجه الشافعي في الأم (4/252)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (9/42).
[5] أخرجه ابن سعد في الطبقات (7/16)، والحاكم في المستدرك (5271) عن محمد بن سيرين قال: كتب عمر بن الخطاب وذكره.
[6] إعلام الموقعين (3/145).
[7] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1848) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] إعلام الموقعين (3/159).
[9] إعلام الموقعين (3/4).
[10] الموافقات (4/189).
[11] أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه.
[12] أخرجه البخاري في الاعتصام (7323).
[13] أخرجه البخاري في العلم (100)، ومسلم في العلم (2673) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[14] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/463).
[15] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1848) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[16] أخرجه أحمد (5/223، 224، 436)، والنسائي في الكبرى (5/225)، وابن ماجه في الديات (2688)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2345)، والبزار (2306)، والطحاوي في شرح المشكل (1/77)، وقال البوصيري في الزوائد (3/136): "إسناده صحيح، رجاله ثقات"، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (440).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانِه، والشكرُ له على توقيفه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبيّنا وسيدنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أذكِّر نفسي وإياكم بتقوى الله عزّ وجلّ، فهي وصيّة الله للأوّلين والآخرين.
معاشرَ المسلمين، من مقاصدِ شريعة الإسلام التركيزُ على الفقهِ في الدّين ومداولةِ تعاليمه بعلمٍ شرعيٍّ فيه من الله برهانٌ مبين، فالخير كلُّ الخير للأفرادِ والأمّة جميعًا بثُّ العلوم الشرعيّة والمعارف السُّنِّيّة، فرسولنا يقول: ((من يُردِ الله به خيرًا يفقِّهه في الدين)) [1].
والأمّة على مستوى آحادِها ومجتمعاتها ينبغي أن لا تصدُر ولا ترِد إلاّ بعلمٍ دقيق وفقهٍ ضليع في عباداتها وفي جميع شؤون حياتها، وذلك لا يكون إلاّ عن طريق التلقِّي من العلماء ذوي النظرِ السديد في فقه الشريعة والتمكُّن الدقيق في معرفةِ مقاصدها، مع الخبرة بمواضِع الحاجة في الأمّة والمقدِرة على إمدادِها بالمعالجة الشرعية لاستبقاءِ عظمتِها واستِرفاء خُروقها.
وحينئذ فقضايا الأمّة ومسائلُها النازلة لا ينبغي بأيّ حالٍ عَرضُها على الاجتهادات الفرديّة، بل لا بدّ من جمع مجامعَ علميّةٍ من أكابر علماء الإسلام، ليبسطوا بينهم حاجات الأمة، ويصدروا فيها عن وفاقٍ فيما يتعيَّن عملُ الأمة عليه، فكفانا وكفانا تفرّقًا واختلافًا.
فتحقيقُ مقاصد الشريعة التي هي أمانةٌ على كلّ فردٍ من أفراد الأمة، تحقيقُها على نحوٍ أكمل غيرُ ممكِن بدون استيعابٍ لواقع الأمّة السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ وتقديرٍ دقيقٍ لحاجاتها وإحاطةٍ شاملةٍ لعلاقاتها مع غيرها من الأمم، وذلك كلُّه لا سبيلَ إليه إلاّ بالدراية العلميّة المتخصِّصة الرصِيفة، والعمل الدؤوب في إطارٍ عملٍ جماعيّ مؤسَّسي.
قال أهل التحقيق من علماء الإسلام قديمًا: "ومعرفة المقاصد الشرعيّة المتعلِّقة بالأمّة توكَل إلى نظر علماء الأمة وولاةِ أمورها الأمناءِ على مصالحها أهلِ الحلِّ والعقد ليُعيّنوا لها الوصفَ الجدير بالاعتبار في أحد الأحوال دون غيره". يقول هذا القولَ قبلَ أكثرَ من سبعين سنة.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وممّا ينبغي أن يُعلَم أنَّ أسبابَ هذه الفتنة تكون مشتركةً، فيرد على القلوب من الوارداتِ ما يمنع القلوبَ من معرفةِ الحقّ وقصدِه" انتهى [2].
وحينئذٍ فلا مفرَّ من ذلك إلاّ بالعلم وعدَم الإقدام على ما يمسّ قضايا الأمّة إلاّ بالاجتهادات الاجتماعية لا المعارف الفردية.
عباد الله، خير ما نختم به حديثَنا صلاةٌ وسلامٌ على نبينا محمد.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
[1] أخرجه البخاري في العلم (71)، ومسلم في الزكاة (1037) عن معاوية رضي الله عنه.
[2] منهاج السنة (4/538).
(1/3178)
الشجاعة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, مكارم الأخلاق
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اشتداد ضراوة الكفر وعداوته للإسلام. 2- ضرورة تربية الأمة على المثل والأخلاق العالية وفي مقدمتها الشجاعة. 3- الشجاعة ومجالاتها. 4- صور من شجاعة المسلمين. 5- خسة الجبن والتحذير منه. 6- شجاعة الأنبياء. 7- صور من شجاعة نبينا وأصحابه. 8- الأسباب المعينة على اكتساب الشجاعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فإن المتتبع لأحوال العالم الإسلامي في العقود المتأخرة، يرى عياناً أن الأمة مقبلة على ملاحم، بل ومعارك شرسة لا يعلم نهايتها إلا الله وحده.
بل إن الناظر بعين متأملة للتاريخ المعاصر، ومستشرفة للمستقبل، مهتدية بهدي القرآن والسنة، ليبصر حقيقة مُرة، ألا وهي أفول زمن الدعة والراحة، وأن ليس ثمت إلا نصال ونضال، وصهيل وعويل، وإراقة دماء، وتمزق أشلاء.
أيها المؤمنون، في العقود الأخيرة كشّر الكفرة عن أنيابهم، وسنّوا سيوفهم لنحر الإسلام وأهله، فأكثر من نصف مليون قتيل في البوسنة والهرسك في أوائل العقد الثاني من القرن الخامس عشر، ثم بعد ذلك بثلاث سنوات، عشرات الآلاف من القتلى في كوسوفا، وبعدها بسنتين، آلاف في أندونيسيا، وأعداد مماثلة في كشمير المسلمة على مر تلك السنوات كلها، وقل مثل ذلك في أرض فلسطين، ولا زالت أنهار من دماء المسلمين تروي هذه الأرض.
أمة الإسلام، لقد فرض الصراع بين الحضارات نفسه على بني البشر حتى ولو حاول المتخاذلون تفاديه، أو بذلوا كل ما في وسعهم لإغماض الأعين عن حقائقه، فإنه آت لا محالة، بل إن الصراع بين الحق والباطل هو سبب هذا الوجود، قال الله جل وعلا: تَبَارَكَ ?لَّذِى بِيَدِهِ ?لْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ ?لَّذِى خَلَقَ ?لْمَوْتَ وَ?لْحَيَو?ةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْغَفُورُ [الملك:1، 2].
عباد الله، المستقبل ماهو إلا امتداد للماضي، والمستقبل يصنعه التاريخ، فلن يكون مستقبلنا القريب بأفضل من تاريخنا القريب، فالكل حقبة زمنية واحدة، وكل شيء بقضاء الله وقدره، والعلم عند الله تعالى.
إن هذه الحقائق توجب على الأمة المسلمة، أفراداً وجماعات، تكييف حياتها وفق هذه التحديات الضخام التي تواجهنا كلنا، ومن تكييف النفس استعداداً لتداعيات المستقبل يجب أن يربي المسلمون أنفسهم بطريقة تتناسب مع ما ينتظرهم.
وإن من أهم المعاني التي يجب على المسلمين الأخذ بها وتربية النفس عليها، تلك المعاني التي تبعث في النفس التضحية، والاستعلاء عن الشهوات، وحب الموت والشهادة في سبيل الله، والتطلع إلى معالي الأمور، والتنزه عن سفاسفها، والزهد في الدنيا.
أمة الإسلام، ومن أهم الأخلاق التي ينبغي على الأمة المسلمة التحلي بها، خلق كريم، نبيل الطبع، لا يتصف به إلا السادة، ويرغب عنه العبيد، خلق يحمل النفس على الفضائل، ويحرسها من الاتصاف بالرذائل، هذا الخلق ـ أيها الإخوة ـ هو الشجاعة.
الشجاعة هي الصبر والثبات والإقدام على الأمور النافعة تحصيلاً وعلى الأمور السيئة دفعاً، وتكون في الأقوال والأفعال، ولا بد فيها من التغلب على رهبة الموقف، قال بعضهم: الشجاعة صبر ساعة.
الشجاعة يا عباد الله من أعز أخلاق الإسلام، ساعدت المسلمين على الفتوح والسيادة في الأرض.
الشجاعة ينبوع مكارم الأخلاق والخصال الحميدة.
قال الطرطوشي: اعلم أن كل كريهة ترفع أو مكرمة تكتسب لا تتحقق إلا بالشجاعة. ورؤوس الأخلاق الحسنة أربعة ـ تحمل على غيرها من محاسن الأخلاق ـ وهي:
1– الصبر: فإنه يحمل على الاحتمال وكظم الغيظ وكف الأذى.
2– العفة: وهي تجنب الرذائل والقبائح.
3- الشجاعة: وهي صفة تحمل على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق.
4– العدل: فإنه يحمل على الاعتدال والتوسط.
قال ابن القيم في زاد المعاد: الشجاعة من أسباب السعادة، فإن الله يشرح صدر الشجاع بشجاعته وإقدامه، وهذا معلوم لأن الهم والقلة والذلة وحقارة الحال تأتي من الجبن والهلع والفزع، وإن السعادة والانشراح والضحك والبسطة تأتي مع الشجاعة والإقدام وفرض الرأي وقول كلمة الحق التي علمها رسول الله أصحابه.
يقال: الشجاع محبب حتى إلى عدوه، والجبان مبغض حتى إلى أمه.
ولا تتصل الشجاعة بحجم البدن، ولا بشكل الإنسان، وليس لها علاقة بقوة البدن وضعفه، يقول كثير عزة:
ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور
ويعجبك الطرير إذا تراه فيخلف ظنك الرجل الطرير
وقد عظم البعير بغير لبّ فلا عرف لديه ولا نكير
عباد الله، لا يظن ظان أن الشجاعة تقتصر على القتال والنزال، بل إنها تمتد لتشمل قول كلمة الحق، والخطابة على المنابر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعلان الرأي قال تعالى: ِإِنَّ ?لَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ?لْبَيِّنَـ?تِ وَ?لْهُدَى? مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّـ?هُ لِلنَّاسِ فِي ?لْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ ?للَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ?للَّـ?عِنُونَ إِلاَّ ?لَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا ?لتَّوَّابُ ?لرَّحِيمُ [البقرة:159، 160]، فهذا تربية لشجاعة الرأي، وقد أخرج ابن ماجه، والإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي أن قال: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)).
كما قال النبي : ((سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)) [1].
روى أبو داود والترمذي: (سيد الشهداء يوم القيامة حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره أو نهاه فقتله).
وقف موسى عليه السلام أمام فرعون طاغية مصر، الذي قال لأهلها ما علمت لكم من إله غيري، فقال له بعد أن وعظه، وتمرد موسى على ذلك، قال له: (وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً).
أنكر الأوزاعي على عبد الله بن علي عم أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي، فيما قتل من المسلمين في دمشق وما فعل بهم، واشتد عليه في الإنكار، وسيوف حجاب الأمير حول الأوزاعي تقطر حوله دماً، حتى قال بعض الوزراء: كنت أجمع ثيابي خوفاً من دم الأوزاعي، فما هاب وما خاف.
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما
الشجاعة ـ يا عباد الله ـ سر بقاء البشر واستمرار الحياة وعمران الأرض. قال أبو بكر الصديق لخالد بن الوليد: احرص على الموت تُوهب لك الحياة. والعرب تقول: إن الشجاعة وقاية، والجبن مقتلة.
أمة القرآن، وكمال الشجاعة وزينتها أن تكون بإرشاد العقل، متزنة ومتوافقة مع الحكمة، وأن تعتمد على رأي حصيف وتبصر مع حسن حيلة وحذر وتيقظ، وإلا كانت انتحاراً.فإن الشيء إذا زاد عن حد الحكمة خشي أن يكون تهوراً وسفهاً وإلقاءً باليد للتهلكة، وذلك مذموم كما يذم الجبن فالشجاعة خلق فاضل متوسط بين خلقين رذيلين هما الجبن والتهور.
قال المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني
فإذا اجتمعا لنفس مرة بلغت من العلياء كل مكان
ولربما طعن الفتى أقرانه بالرأي قبل تطاعن الأقران
عباد الله، أمة الإسلام، وأعلى مراتب الشجاعة هو التقدم للتضحية بالنفس في سبيل الله تعالى.
عباد الله، وحتى نميز حقيقة الشجاعة، لا بد من معرفة ضدها، وقد قيل: وبضدها تتميز الأشياء، فالشجاعة ضدها الجبن، الذي يكون نتيجة تغلب المخاوف المرتقبة أو الحاصلة أمام الناظرين فيحجم الإنسان ولا يعود شجاعاً.
الجبن مرض خسيس، يورث المهالك، ويقعد بصحابه عن معالي الأمور، ويرضيه بالأدنى، ويجعله قرين الذل، ورفيق الهوان.
الجبن دليل على ضعف القلب، وانطوائه على أمر يخاف الإنسان من إظهاره، ولذا حكى الله عن المنافقين فقال: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون:4].
والجبن والخور والعجز من أسوء ما يوصف به الرجال، في سنن أبي داود عن أبي هريرة عن رسول الله : ((شر ما في رجل شح هالع وجبن خالع)) [2].
في الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن رسول الله كَانَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَال)) [3].
وعَنْ سعد بن أبي وقاص قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ يُعَلِّمُنَا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا تُعَلَّمُ الْكِتَابَةُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبر)).
وعدت العرب الجبن جريمة كبرى وسيئة في الرجل. الجبان يموت في اليوم مائة مرة والشجاع يموت مرة واحدة، الجبان يتوهم كل شيء ضده.
قال عمر بن الخطاب: اللهم إني أشكو إليك عجز الثقة وجلَد المنافق.
ولذلك كله فالأنبياء هم أشجع الناس لأنهم أعلى الناس إيماناً، ولأنهم باعوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى، فإن الله يقول : إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111].
إن عمل الأنبياء ومن سار على طريقهم، ومن حمل لواءهم إلى يوم الدين، من دعوة الخلق، ونشر الإسلام، والجهاد في سبيل الله بجميع أنواع الجهاد، بالسنان، واللسان، لا يقوم به إلا من أوتي أوفر الحظ من الشجاعة والإقدام، لأن هذه الأعمال لا تتم إلا بمواجهة حاسمة بين النبي أو الداعية إلى الله وبين أمته، لا سيما منهم من رفض الخضوع لرب العالمين، ولذلك كان الأنبياء أشجع الناس، كما أنهم أعلى الناس إيماناً ?لَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالـ?تِ ?للَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ?للَّهَ وَكَفَى? بِ?للَّهِ حَسِيباً [الأحزاب:39].
انظر إلى نوح عليه السلام وهو يواجه كل قومه قائلاً: ي?قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ ?للَّهِ فَعَلَى ?للَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ ?قْضُواْ إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ [يونس:72]، والتفت إلى ما قاله هود عليه السلام لقومه : قَالَ إِنِى أُشْهِدُ ?للَّهِ وَ?شْهَدُواْ أَنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ [هود:54، 55].
أما نبينا فهو أكمل الخلق، خلقاً، وعلماً، وعملاً، وهو أشجعهم.
في الصحيحين عن أنس قال: كان النبي أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس [4].
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ـ وهو من أبطال الأمة وشجعانها ـ قال: (إنا كنا إذا اشتد بنا البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله ، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله ، وهو أقربنا إلى العدو) رواه أحمد والطبراني والنسائي.
فما مات حتى مات مضرب سيفه من الطعن أو اعتلت عليه القنا السمر وفي فعله وهو قائد الأمة وقدوتها، تربية للصحابة، بل وللأمة من بعده على الشجاعة والإقدام.
ينام في بيت واحد ويُطوق بخمسين مقاتل ويخرج عليهم حاثياً عليهم التراب، ينام في الغار ويقول لأبي بكر الصديق : ((لا تحزن إن الله معنا)).
فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ رَاجِعًا وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ: ((لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا)) رواه البخاري ومسلم.
وفي غزوة ذات الرقاع، كان النبي نائما، وإذا بمشرك ينسل ويحمل سيف الرسول ، ليقتله، ويستيقظ النبي ، وإذا بالسيف مصلت على رأسه فيقول له المشرك: ما يمنعك مني، فيجيبه النبي بكل ثبات، ورباطة جأش، قال: الله. فيسقط السيف من يد المشرك، وأصل القصة في الصحيحين.
وفي حنين، حينما انكشف المسلمون، وولى كثير من الصحابة عن رسول الله ، وأحاط به المشركون، إذا به يقف موقف الأسد الهزبر، ينادي بكل ثبات ورباطة جأش: ((أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)) ، حتى عاد إليه أصحابه، والتفوا حوله، فتحولت الهزيمة إلى نصر مؤزر.
قيل لعلي بن أبي طالب: كيف تصرع الأبطال؟ قال: إذا لقيت كنتُ أقدر أني أقتله ويقدر هو أني قاتله فاجتمع أنا ونفسه عليه فنهزمه. قيل لعلي: إذا جالت الخيل فأين نطلبك؟ قال: حيث تركتموني. وكان يقول: والذي نفس أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من موتة على فراش.
لما بلغ عبد الله بن الزبير قتل أخيه مصعب قال: (إن يقتل فقد قُتل أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفاً، ولكن نموت قصعاً بأطراف الرماح وموتاً تحت ظلال السيوف).
ذكر الذهبي في ترجمة البراء بن عازب أنه من فرط شجاعته، ألقى بنفسه مقتحماً حديقة المرتدين، عند حرب مسيلمة الكذاب، واشتهر عنه أنه قتل 100 من الشجعان مبارزة.
وذكروا في ترجمة حبيب بن زيد الأنصاري لما أمسكه مسيلمة الكذاب، قطع مسيلمة أعضاء جسده قطعة قطعة، وهو صامد حتى آخر قطرة من دمه، بل قال لمسيلمة حينما قال له: اشهد أني رسول الله، قال: إن في أذني صمماً مما تقول.
معاذ بن عمرو بن الجموح: قاتل أبي جهل، روى ابن إسحق في السيرة، ونقل القصة الذهبي في السير، عن معاذ نفسه قال: عن معاذ بن عمرو قال: جعلت أبا جهل يوم بدر من شأني، فلما أمكنني حملت عليه فضربته فقطعت قدمه بنصف ساقه وضربني ابنه عكرمة بن أبي جهل على عاتقي فطرح يدي وبقيت معلقة بجلدة بجنبي، وأجهضني عنها القتال فقاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت قدمي عليها ثم تمطأت عليها حتى طرحتها. هذه والله الشجاعة،وليس كالآخر، من خدش بسهم ينقطع قلبه وتخور قواه [5].
ومن أعجب ما ذكر في قصص الشجاعة أن شبيب بن يزيد الخارجي كان من أشجع الناس، فقد قاتل الحجاج وهزمه بستين رجلاً، وكان جيش الحجاج ثلاثة آلاف ثم تتبع الحجاج في كل غزوة، كان من شجاعته ينام على البغلة في المعركة قال ابن كثير: وذلك من قوة قلبه.
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال سلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم
قيل لعنترة: كيف تغلب الأبطال؟ قال: أبدأ بالجبان فأضربه فأقسمه قسمين، فإذا رأى الشجاعُ الجبانَ مقسوماً فرّ مني، وقيل له: كيف تنتصر على الناس؟ قال: بالصبر.
أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم...
[1] تخريج السيوطي كتاب: الضياء، عن جابر. تحقيق الألباني (حسن) انظر حديث رقم (3675) في صحيح الجامع.
[2] تخريج السيوطي (تخ د) عن أبي هريرة. تحقيق الألباني (صحيح) انظر حديث رقم (3709) في صحيح الجامع.
[3] تخريج السيوطي (حم ق3) عن أنس. تحقيق الألباني (صحيح) انظر حديث رقم (1289) في صحيح الجامع.
[4] انظر صحيح الجامع (4634).
[5] سير أعلام النبلاء (1/251).
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: أيها المؤمنون، إن الإسلام دين ودولة، وعبادة وقيادة، ومصحف وسيف، واعلم أن الدين بغير قوة نظرية محضة، والدين بغير قوة مجرد فكرة مضيئة قلّ ما يعطيها الناس اهتماماً كالحصن من غير جنود يكون عرضة للنهب والسلب والاحتلال.
عباد الله، لا يظن ظان أن الشجاعة أمر فطري، لا سبيل إلى اكتسابه، بل إن الأخلاق كلها يمكن أن تكتسب، وإلا لما رتب الله عليها ثواباً ولا عقاباً، وقد قال النبي : ((إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه)) [1].
وهاهنا نذكر بعض الأسباب التي تعين على اكتساب الشجاعة وتنميتها:
أولاً: ترسيخ عقيدة القضاء والقدر، وإدراك أن الإنسان لا يصيبه إلا ما كتب الله له، ((وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) ، ومن علم ما قاله الله جل وعلا: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَـ?باً مُّؤَجَّلاً [آل عمران:145]، وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مّنَ ?للَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:175]، فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، علم أن ليس ثمة إلا الشجاعة والإقدام، وإلا ذل.
ثانياً: التوكل الصادق على الله جل وعلا، وانظر إلى حال هود عليه السلام حينما واجه قومه كلهم، بدعوتهم إلى عباد الله سبحانه وتعالى، ومعرفته أنهم سيكذبوه، إذا به يقول: إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى ?للَّهِ رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبّى عَلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [هود:56].
ثالثاً: الاقتناع بأن معظم مثيرات الجبن والخوف لا تعدو كونها أوهاماً لا حقيقة لها، فمن عرف حقيقة الخلق لم يخش إلا الله، وما تخافه من دون الله إنما هم أولياء الشيطان كما قال تعالى: إِنَّمَا ذ?لِكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، ومما يتصل بذلك استصغار شأن العدو، وأنه يخاف منك إن أنت أظهرت الشجاعة أمامه، واستبسلت في قتاله، وأظهرت حبك للموت، قال الله جل وعلا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
قال تعالى: إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ [النساء:104].
رابعاً: الكرم والإنفاق حيث يحميك من صفة البخل والخوف على الرزق، ويكسبك صفة الجود والكرم التي غالباً ما تلازم الشجاعة وتعين عليها، وهي سبب من أسبابها، كما قال الشاعر:
الجود بالمال جود فيه مكرمة والجود بالنفس أقصى غاية الجود
خامساً: الإعداد والتدريب العملي: كأنواع القتال والسلاح والرماية والسبق والرياضة والسباحة، وغيرها وهي جزء أصيل من منهج الإسلام في إعداد الرجال وإخراج الوهن والخوف من قلوبهم، قال الشاعر:
الرمي أفضل ما أوصى الرسول له وأشجع الناس من بالرمي يفتخر
سادساً: القدوة الحسنة والتمثل بالنبي في شجاعته، وقد بعث قدوة للناس في كل شيء، وكان أسرعهم إلى مكامن الخطر وصوت المنذر، وكان الصحابة يحتمون برسول الله إذا حمي الوطيس والتقى الشجعان.
سابعاً: قيام الليل وصف الأقدام بين يدي الكبير المتعال في جوف الليل البهيم، فإن شجرة الشجاعة تسقى بدموع السحر، وإذا طال التهجد أينعت ثمرته جهاداً وبطولة، قال ابن القيم رحمه الله:
في الليل رهبان وعند جهادهم لعدوهم من أشجع الشجعان
عباد الله، إن مما يقوي القلب، ويشحذ الهمم ويربي في النفس الشجاعة، ما يراه الإنسان من البطولات التي يخطها إخواننا في أرض الفداء، أرض فلسطين، تلك البطولات التي أزاحت وستزيح عن الأمة كابوس الرعب من العدو، وتدفعه دفعاً نحو العلياء، نسأل الله أن يتقبل شهداءهم وأن يسدد رميهم، وأن ينصرهم على عدوه وعدوهم.
أما الانهزاميون الذين لم يعدوا العدة فمثلهم ما ذكره المؤرخون عن قائد كان يضرب به المثل في الجبن أخذ القيادة بغير كفاية ولا قدرة ولا جدارة أخذ المسلمين إلى فارس وكان يمضي في الليل وينام بالنهار شهراً حتى استعد أهل فارس وتترسوا وقووا كتائبهم ثم بدأ الهجوم، فكان هو أول من انهزم ودخل المدينة على بغلته، وترك المسلمين يُقتَّلون فيقول الشاعر في قصيدة طويلة:
تركت أبناءنا تدمى كلومهم وجئت منهزماً يا ضرطة الجمل
وقال قتيبة بن مسلم عنه: والله لا أوليه ولا على شاة.
هذا ما تيسر لنا في هذه العجالة، ولعلنا نتناول جوانب أخر من هذا الموضوع في خطب قادمة إن شاء الله تعالى.
اللهم صل على محمد...
[1] (الدارقطني في الأفراد خط) عن أبي هريرة (خط) عن أبي الدرداء. (حسن) انظر حديث رقم (2328) في صحيح الجامع.
(1/3179)
أحداث القدس الأخيرة
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
20/5/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة العملية الاستشهادية الواقعة بالقدس الغربية بتاريخ 19/5/1422هـ. 2- موفق أمريكا من هذه العملية. 3- عهد عمر بن الخطاب لأهل إيليا. 4- حقيقة حزب الله. 5- جرائم يهود في فلسطين. 6- آثار هذه العملية على يهود. 7- حديث القرآن عن اليهود. 8- أسباب النصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لقد فرح المسلمون في كل مكان بالانفجار الذي حصل بالأمس في القدس الغربية على أيدي المجاهدين الفلسطينيين، والذي ذهب ضحيته ـ ولله الحمد ـ 19 قتيلا وأكثر من 100 جريح إلى الآن، وبعد ذلك وقع انفجار ثان على بعد كيلومتر واحد من موقع الانفجار الأول، كان الانفجار ضخما للغاية، وألحق خسائر بشرية ومادية جسيمة في صفوف الإسرائيليين، حيث وقع في وقت تزدحم فيه المنطقة بالمارة ورواد المطاعم في قلب الحي التجاري بالقدس الغربية، وقد أغلقت الشرطة الإسرائيلية منطقة الانفجار وأبعدت الصحفيين وحاولت منعهم من تصوير حالة الذعر والفوضى التي سادت المكان عقب الانفجار.
وذكر راديو إسرائيل أن الشرطة تخشى من وجود فدائي فلسطيني آخر طليق يستعد لتنفيذ هجوم ثان. وقال الناطق باسم حركة الجهاد الإسلامي في غزة: إن الانفجار أول أبواب جهنم التي انفتحت على إسرائيل ردا على جرائمها ضد الشعب الفلسطيني، ويعد هذا الانفجار ثاني أقوى هجوم يشنه الفلسطينيون منذ بدء الانتفاضة في شهر سبتمبر الماضي، بعد حادث التفجير الاستشهادي الذي وقع أمام ملهى في تل أبيب يوم الأول من يونيو الماضي، وأدى إلى مصرع واحد وعشرين شخصًا والحمد لله. والله، إن قلوبنا أشرقت بالخبر، ووالله لم نرَ منظرًا منذ مدة أجمل من منظر جرحى وقتلى الصهاينة، ولم نر لونًا أروع من لون دمائهم، وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [الأنفال:60].
أيّها المسلمون، يجب أن يفهم اليهود ومن يدعم اليهود سرًا وجهرًا وهي الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، أن الدماء الفلسطينية ليست رخيصة، بل دماء المسلمين في أي مكان من الأرض ليست رخصية، والجزاء من جنس العمل، والعجيب أن يأتي رئيس دولة الإرهاب الولايات المتحدة الإرهابية يدين ويستنكر، ويشجب ويندد بقتل الصهاينة حفدة القردة والخنازير، ويطلب من رئيس منظمة التحرير أن يستنكر هذا الهجوم الذي قام به شاب في العشرينات وضحى بنفسه فداء لدينه وأرضه وعرضه.
أين أنت ـ يا فخامة الرئيس ـ عن قتل أطفال فلسطين ونساء فلسطين وشيوخ فلسطين، بطائرات أمريكية وقذائف أمريكية ومدافع أمريكية أعطيت لهم مجانًا ودون مقابل ليقتلوا بها المسلمين، إن لغة الحوار والعقل لن تنفع مع أسلوب المكيالين لدولة الإرهاب أمريكا التي تتبنى بني صهيون.
أيها المسلمون، لقد حكم المسلمون هذه المدينة المباركة هذه الأحقاب الطويلة فما هدموا بيتًا لساكن، ولا معبدًا لمتعبد, التزموا بتعاليم دينهم, احترموا كل ذي عهد وعقد وذمة, وفاءً للعهد العمري, استمعوا ـ رعاكم الله ـ إلى هذا النص من العهد العمري لمن كان يسكن تلك الديار في عهده من أهل الذمة: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله ـ أمير المؤمنين ـ أهل إيليا من الأمان, أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم, سقيمها وبريئها وسائر ملتها أن لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم, ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم على ما في هذا الكتاب, عهد الله وذمة رسوله وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم"، شهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان وعمر بن الخطاب سنة خمس عشرة من الهجرة, شهد على ذلك وكتب وحضر رضي الله عنهم جميعًا وأرضاهم ورضي عن جميع صحب محمد.
لقد تضمن العهد العمري حرية المعتقد وحرية السكنى وحرية التنقل, وهو عهد منذ أكثر من ألف وأربع مائة سنة, لم يكن متأثرًا بشعارات حقوق الإنسان المنافقة في عصرنا, ولكنها كانت تطبيقًا لمنهج الإسلام في التعامل الراقي المخلص مع أهل الأديان الأخرى.
أما اليوم فبيت المقدس يجري فيه ما لم يحدث على أيدي أي غزاة في تاريخ البشرية كلها، ولم يجرِ ذلك في تاريخ المقدس الممتد آلاف السنين، لم يفعل غازٍ أو محتل مثلما فعله ويفعله اليهود اليوم, وليس بعد شهادة التاريخ من شهادة, وليس من رأى كمن سمع على ما تشاهدون في هذه الأيام بل في هذه الساعات.
أيها المسلمون، عندما تنعدم الخيارات أمام المظلوم، وتضيق المدائن بشعب مقهور، فإن كل سلوك متوقع وكل السياسات يمكن فهمها وإن صعب تبريرها, غزارة دم يسيل, وحرارة دم يغلي, ليسا طرفين متكافئين جيش احتلال مسلح ضد شعب أعزل, القتلى والضحايا في طرف، والقاتل والجلاد الذي يطلق النار في طرف آخر, قاتل ومقتول, وجلاد وضحية. إن القوة والقهر والظلم لا يمكن لها أن تنشئ حقًا أو تقيم سلامًا, إن العدوان لا يولد إلا العدوان, وإن مشاعر الشعوب هي معيار الضغط النفسي، وهي مقياس بواعث الانفجار.
أيها المسلمون، إن ما يجري في بيت المقدس وفلسطين المحتلة اليوم امتحان شديد لأمة الإسلام, أمة الإسلام أمة معطاء, تجود ولا تبخل, في تاريخها المشرق الطويل قدمت ما يشبه المعجزات، وهي اليوم تعيش مفترق طرق خطير يحيط بها وبقدسها وبأجزاء محتلة من ديارها, إنها لم تعجز عن إيجاد آلية منصفة قوية متزنة تعيد الحق إلى نصابه, وترد المغتصب إلى صوابه.
أمة محمد أمة الإسلام وأمة الجهاد وأمة عزة, لا تعجز ـ بإذن الله ـ أن تجد لنفسها ـ بتوفيق الله وعونه ـ مخرجًا من أزمتها, والقدس والأرض المباركة أغلى وأثمن وأكبر من أن تترك لمفاوضات أو لمساومات سلام مزعوم، وما أخذ بالقوة فإنه لا يرجع إلا بالقوة. وحادث الأمس ما هو إلا بداية سلسلة من القتل لليهود بإذن الله تعالى، يقوم بها المخلصون من أبناء فلسطين ردًا لشيء مما تفعله يهود من إجرام ووحشية لم يسلم منها حتى الأطفال والنساء.
كم ألقى حادث الأمس من رعب في قلوب اليهود، حصل بعدها اجتماعات عاجلة على أعلى مستوى في دولة ما يسمى بإسرائيل، لتفادي هذا الوضع، واليهود قوم جبناء، وهم مع كل أسف لم يواجهوا إلى الآن أمة الإسلام المجاهدة، لم يواجهوا إلا أبناء فلسطين فقط العزّل من كل شيء إلا الحجارة، ومع ذلك لم يدعوهم ينامون قريري العين، فكيف لو حصلت مواجهة حقيقية بين اليهود وبين بعض من قاتل الروس على أرض أفغانستان أو من يقاتل الآن على أرض الشيشان؟! وسيكون ذلك بإذن الله تعالى.
أيها المسلمون، إن قضية بيت المقدس وقضية فلسطين لا تنفصل البتة عن قضية الإسلام كله, إنها ليست أرضًا فلسطينية أو عربية فحسب، بل إنها ـ قبل ذلك وبعده ـ أرض المسلمين أجمعين, تُفدى بالأرواح والمهج, وإذا ضعف الإسلام في نفوس الأتباع ضعفت معه روابط الحقوق والحماس والفداء في قضاياه كلها, ويوم يترسخ الإيمان ويصفو المعتقد وتسود الشريعة وتعلو الشعائر ستحيا كل القضايا وسيتحقق كل مطلوب.
أيها المسلمون، إن من البشائر مما يبعث الأمل ويقوي العزائم هذا التفاعل الذي شهده المسلمون وقرت به الأعين, هذا التفاعل من الأمة كلها في الأقطار الإسلامية كافة, جراء هذه الاعتداءات الآثمة من هذا العدو الصهيوني المحتل الغاشم، والمآسي التي يتعرض لها إخواننا في فلسطين. وإن كان معظم من يتفاعل لا يستطيع أن يقدم سوى المال والدعاء، فنقول بأن هذا شيء من الدعم الذي يجب أن يستمر ليبقى الشعب الفلسطيني شوكة في حلق اليهود، فلا بد أن ندعم هذا الشعب المسكين بكل ما نستطيع ولا نتوقف أبدًا حتى يُنحر آخر يهودي على أرض الإسراء والمعراج.
أيها المسلمون، وإن كان من أمر يستحق التنبيه عليه في مثل هذه الظروف وفي هذه الأيام، وفي ظل اشتداد القصف الصهيوني الغادر، وفي ظل المجازر الوحشية التي ترتكبها القوات اليهودية ضد إخواننا في فلسطين المجاهدة، ما يقوم به حزب الشيطان اللبناني برفع شعار: "يا قدس نحن قادمون"، وإنا نسأل هذا الحزب وأتباعه: ما الذي يحول بينكم وبين فلسطين إن لم تكونوا في الأصل منافقين وخونة؟! يا من استغليتم وسائل الإعلام لنشر أفكاركم الشيطانية الهدامة، ولنشر مذهبكم الباطل، والجميع يعلم بأن جنوب لبنان أقرب نقطة إلى فلسطين، فلماذا لم تدخلوا إلى الآن وتضحوا لو كنتم صادقين كما ضحى غيركم؟! ثم إنا نقول لهم ولغيرهم:
إن الله سبحانه وتعالى لن يحرر الأقصى على أياديكم القذرة، فقد غرّكم الشيطان ولبّس عليكم حكم ربكم؛ لأن الأقصى بحاجة إلى رجال من أمثال عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهم، وهو بحاجة إلى رجال من أمثال أسود القوقاز مجاهدي الشيشان حفظهم الله، لا إلى أناس فاسدي المعتقد أصحاب بدع بعضها كفرية، تاريخهم يشهد بصور من الخيانات على مستوى الأمة، وأنتم يكفيكم ما تقومون به من زراعة للمخدرات في جنوب لبنان. فلا داعي للجعجعة الإعلامية، ونحن ينبغي علينا أن نتنبه لمثل هذه الحيل ولا نخدع بكل ما يبث عبر وسائل الإعلام.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد : أيها المسلمون، اتقوا الله رحمكم الله, واعلموا أن بيت المقدس والأرض المباركة في خطر عظيم, والعمل من أجل إنقاذها وتطهيرها فريضة شرعية وواجب ديني يستنهض عزم أبناء الأمة وبذل كل الجهود والوسائل لإحقاق الحق ونصرة القضية.
في نصوص الكتاب والسنة ربط متين صريح للأرض المقدسة والأرض المباركة بأصلها الأصيل, وهو الإسلام, فهو مستقبلها, وبه حياتها, ولن يتم لها أمر أو يعرض لها شأن إلا من خلال دين محمد , إن هذا الربط يعطي لقضية القدس والأرض المحتلة ولكل قضايا الأمة إطارًا رحبًا وعمقًا عميقًا لا يتحقق من خلال نظرة إقليمية أو دعوة قومية. فمكة المكرمة والمدينة النبوية وبيت المقدس هي سر القوة التي جابت خيولها العالم.
أيها المسلمون، إن الذي ينظر إلى القضية بمنظار القرآن لن يخدع أبدًا, فالقرآن الكريم يقول: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100]، ويقول: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة:64], ومن يتزود بزاد القرآن فلن يضعف أبدًا، لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [الحشر:14]، قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِم [التوبة:14، 15]. ومن يتعامل مع قضاياه على هدي القرآن فلن يضل أبدًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]، ومن صدّق بما في القرآن فلن يتنازل عن حق أبدًا، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا [الإسراء:7]. لكن مع الأسف إذا كان الإسلام ذاته في عقول بعض المسلمين وكتاباتهم وإعلامهم لا يستحق أن يحظى منهم بتفكير واهتمام، بل إذا كانت العقيدة عند بعضهم أهون من الأرض, والشريعة أرخص من التراب, فهيهات أن تنتصر القضية أو يتنزل نصر.
أيها المسلمون، إنه لا عودة للحق قبل العودة الصحيحة للإسلام, إن من سنن الله أن العاقبة للمتقين, وأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون, ولكن من سننه أيضًا إذا تخلى أهل الإيمان عن إيمانهم فإنه يستبدل قومًا غيرهم ويأتي بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.
(1/3180)
آخر الزمان منفرات ومبشرات
الإيمان
أشراط الساعة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
21/11/1423
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فساد آخر الزمان. 2- أسباب انتشار الجهل ورفع العلم. 3- الحرب ضد تعليم الدين. 4- من مظاهر فساد آخر الزمان. 5- بشائر تقع في آخر الزمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: ثبت عن النبي أحاديث كثيرة تتحدث عن آخر الزمان، وهذه الأحاديث تعطي تصورًا صحيحًا للمسلم لما سيحصل في المستقبل من خلال النصوص الشرعية.
والمقصود بآخر الزمان: هو آخر زمان الدنيا الذي يكون بين يدي الساعة، ولعل أوله بعثة الرسول كما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((بعثت أنا والساعة كهاتين)).
أيها المسلمون، سيظهر في آخر الزمان مساوئ نطق بها النبي ، محذرًا أمته أن يقعوا في شيء من ذلك. نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
عن أبي موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله : ((إن بين يدي الساعة أيامًا ينزل فيها الجهل، ويُرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهَرْج)) رواه البخاري. والهَرْج: القتل. وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزنا، ويُشْرَب الخمرُ، ويذهب الرجال وتبقى النساء، حتى يكون لخمسين امرأة قيِّم واحد)) رواه مسلم. وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي قال: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف)) أخرجه البخاري معلقًا.
فهذه الأحاديث ـ معاشر الأحبة ـ وما في معناها تدل على حصول بعض المساوئ التي تكون في آخر الزمان، ويرتبط بعضها ببعض، من فشوا الجهل وقلة العلم، وقد بدأ النقص في العلم من بعد أن أكمل الله الدين وأتم النعمة وانتقل الرسول إلى ربه عز وجل، ولا يزال ينقص إلى أن يُرفع بالكلية، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة ولا صدقة، ويسرى على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها)).
وقد ظهر هذا النقص في هذا الزمن بصورة واضحة جدًا، حتى صار أكثر الناس يجهلون المعلوم من الدين بالضرورة، ومن تأمل النصوص ونظر في الواقع أدرك أن هذا النقص إنما هو نتيجة حتمية لأسباب كثيرة، لعل من أبرزها موت العلماء، وقد فقدت الأمة أكبر علمائها العاملين وأبرز دعاتها المشهورين في فترة قصيرة، ومن حكمة الله تعالى أن تعاقب موتهم، فقدنا الأول ثم فقدنا الثاني ثم فقدنا الثالث، فإنا لله وإنا إليه راجعون، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء؛ حتى إذا لم يترك عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) رواه مسلم.
ومن أسباب النقص أيضًا عدم الإخلاص في طلب العلم، ويدل على ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا اتُخذ الفيء دولاً والأمانة مغنمًا)) وفيه: ((وتعلم العلم لغير الدين)). وقد حصل هذا عندما رُبط العلم الشرعي بالمال في كثير من البلاد، ورُبط العلم بالمناصب الرسمية، وأصبح الناس يطلقون على هذا بأنه عالم بحسب منصبه الرسمي، ولا تعرف ذاك ولا تستفتيه لأنه ليس لديه منصب رسمي، فنَزع الله من الأول الخشية والبركة والنفع والعمل إلا ما شاء الله، فمات العلم في القلوب، فهو لا يتجاوز التراقي والحناجر.
وكما شهد هذا الزمان موت كثير من العلماء الربانيين الذين كانوا منارات يُهتدى بها من ظلمات الشهوات والشبهات، فقد شهد الرؤوس الجهال الذين يتجرؤون على الفتوى بغير علم. والله المستعان.
وهناك الحرب ضد تعلم الدين، وسياسة تجهيل الشعوب بالإسلام تحت ستار مكافحة الإرهاب، ومن مظاهر ذلك تغيير المناهج وتقليص مواد الدين في كثير من البلاد، وقفل المعاهد والمدارس الشرعية، ومضايقة أهل السنة ودعم أهل البدعة، ونحو ذلك مما يساهم في إبعاد الناس عن العلم الشرعي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((سَيَلي أموركم بعدي رجال يُطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها)) ، فقلت: يا رسول الله، إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: ((تسألني ـ يا ابن أم عبد ـ كيف تفعل؟! لا طاعة لمن عصى الله)) حديث صحيح.
أيها المسلمون، ومن صور السوء في آخر الزمان فشو الزنا وكثرته، حتى أصبحت تجارة البغاء تشكِّل ربحًا هائلاً وموردًا ضخمًا من موارد المال في بعض البلاد التي أهلها مسلمون، وقد هيأ المجرمون وسائله ودواعيه حتى أصبح أسهل مما يتصور، ولا يزال يزداد ويكثر حتى تموت الغيرة في النفوس، وتسقط آخر مرتبة من مراتب الإنكار، فيُقارف الزنا علانية على قارعة الطريق، كما ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((والذي نفسي بيده، لا تفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق، فيكون خيارهم يومئذ من يقول: لو واريتها خلف هذا الحائط)).
ومن مظاهر السوء أيضًا ظهور الأغاني والمعازف، فقد وقعت هذه العلامة في العصور السابقة، وهي الآن أشد انتشارًا وتنوعًا، وقد استهان بحرمتها كثير من الناس، بل ممن ينتسبون إلى أهل العلم نسأل الله السلامة، وبات التهديد بالمسخ والقذف والخسف قريبًا ما دامت الأمة لاهية تستحل ما حرَّم الله عليها، من تعاطي أسباب الفسق والفجور، وقد ازداد هذا البلاء حتى تجاوز مرحلة السماع والاستمتاع إلى التقنين والتقعيد والتخطيط والتنظيم وجلب الخبراء وفتح المعاهد وصياغة المناهج، حتى أصبحت فنًا يدرَّس وعملاً يمارس، فأي ظهور بعد هذا الظهور؟!
ومثله انتشار الخمر في بلدان المسلمين وكثرة شربها وتداولها بين الناس، وحمايتها بالقوانين والأنظمة حتى أصبحت أمرًا مألوفًا يقدم مع الطعام ويوزع في الفنادق، وهو نديم المسافر في رحلاته، ورفيق الضال في سهراته وخلواته، وتُلحق به المخدرات بجميع أنواعها التي ابتليت بها البشرية فأصبحت شبحًا يهدد أمن الدول وحياة الأفراد.
ومن أبشع صور الشر والفساد في آخر الزمان ما أخبر به النبي من الاستخفاف بالدم وكثرة القتل، قال فيما صح عنه: ((بادروا بالأعمال خصالاً ستًا ـ وذكر منها ـ واستخفافًا بالدم)) ، وقد استُخِفّ اليوم بدم البشرية عندما تمكن المجرمون من قيادة الأمم، حيث أشعلوا الحروب الطاحنة في كل مكان بلا سبب ولا مبرر، واستخدموا أبشع الأسلحة المحرمة دوليًا، واستُنزفت خيرات وأموال دول وشعوب في هذه الحروب، كان بالإمكان أن تحل أزمات ومشاكل عشرات الدول والشعوب لو كان الساسة عقلاء، وقبل وبعد هذا يزعمون أنهم دعاة سلام. نسأل الله جل وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
قال رسول الله : ((بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)) رواه مسلم.
إن المبادرة بالأعمال الصالحة هي التي تكون حصنًا قويًا من الفتن العظيمة المظلمة التي تكون بين يدي الساعة، ومنها الفتنة في الدين حيث يضعف التمسك به ويعز الثبات عليه، لدرجة أن العبد يتقلب بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر في اليوم الواحد، حتى إنه يصبح مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصدَّق فيها الكاذب ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة)) ، قيل: وما الرويبضة؟ قال: ((الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)).
والمراد من الحديث بيان فساد آخر الزمان، حيث تختل المقاييس وتتقلب الموازين، فيتصدر الأمة من ليس لذلك بأهل، ويتزعم القبيلة أفسقُهم، ويسود القوم أرذلهُم، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا اتُّخذ الفيء دولاً والأمانة مغنمًا، والزكاة مغرمًا... )) وفيه: ((وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأُكرم الرجل مخافة شره)). ومن تأمل الواقع وأمعن في النصوص رأى سفينة الأمة تمخر عباب بحر متلاطم من الفتن والبلاء، يقودها الرجل التافه بمجموعة كاملة من الفسقة والمجرمين.
أيها المسلمون، إن ضعف المسلمين في كثير من المجالات وبُعْدهم عن مراكز التأثير ومواقع القيادة مكّن أعداء الإسلام من السيطرة التامة فأصبحوا قادة العالم وصنّاع القرار، يضعون من يشاؤون في المكان الذي يشاؤون، فيضمنون بذلك بقاء السيادة في أيديهم، وقد أخبر بذلك كما في الحديث الصحيح مرفوعًا: ((ليأتين عليكم أمراء يقرِّبون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكوننّ عريفًا ولا شرطيًا ولا جابيًا ولا خازنًا)).
ومن المظاهر المؤلمة ـ ونحن في أواخر الزمان ـ تداعي الأمم على الأمة الإسلامية ونهب خيراتها والعبث بعقول أبنائها، كما في حديث ثوبان رضي الله عنه عند الإمام أحمد وغيره قال: قال رسول الله : ((توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، فقال قائل: أمن قلة نحن يومئذ؟! قال: ((لا، بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن)) ، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حبّ الدنيا وكراهية الموت)).
وفي هذا الحديث إشارة إلى السرّ الحقيقي في ضعف المسلمين وتداعي الأمم عليها، وهو حب الدنيا وكراهية الموت، وقد تعلقت القلوب في هذا الزمن بالمال حتى عُبد الدينار والدرهم، وتَعَامل الناس بالربا، وانهَمَك الكثيرون بالحرث والزرع، وأَوغَلَ الناس في الترف، ونُسي الجهاد في سبيل الله، فتداعت علينا الأمم، ووقع الذل الذي لا يُرفع إلا بالعودة إلى الجهاد في سبيل الله تعالى، ولن يكون ذلك إلا إذا تعلقت القلوب بالله تعالى وحده، وقد أخبر رسول الله بهذا الواقع، كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)). وقد عانت الأمة من ذل الاستعمار المفروض بالنار والحديد ردحًا من الزمن، وهي اليوم تعاني أشكالاً جديدة منه، بسبب ما خلفه الكفار في الأمة من ثقافاتهم وعاداتهم، وقوانينهم التي تمارس من قِبل الأمة الغثائية بطيب نفس، أو تفرض عليهم فلا خيار لهم. والله المستعان.
فنسأل الله جل وعلا أن يعجل بفرج أمة محمد فرجًا عاجلاً غير آجل.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: ورغم كثرة المساوئ التي تقع في آخر الزمان، فإن هناك فضائل ومبشرات كثيرة تفتح باب الأمل للمسلم، وتزيد في يقينه وثقته بنصر الله تعالى، وقد جاءت تلك المبشرات في كثير من النصوص النبوية، من ذلك ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى)) ، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:9] أن ذلك تام! قال: ((إنه سيكون من ذلك ما شاء الله)) ، وقال : ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر)).
إنها بشارة من النبي بأن الأمة ستعود إلى دينها بإذن الله تعالى، وسيدخل هذا الدين الحواضر والبوادي، وسيظهر هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون، وذلك يوم تكون الأمة أهلاً لذلك، تعمل للدين وتضحي من أجله.
ثم إن هناك نصوصًا كثيرة تبشر بعودة الجهاد في هذه الأمة في آخر الزمان، وهذا من أعظم المبشرات، من ذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عندما سئل: أي المدينتين تفتح أولاً: القسطنطينية أو رومية؟ وفيه فقال رسول الله : ((مدينة هرقل تفتح أولاً)) ، يعني: القسطنطينية، ومثله ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج لهم جيش من المدينة)) رواه مسلم، ومثله حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر؟)) قالوا: نعم يا رسول الله، قال: ((لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفًا من بني إسحاق)) رواه مسلم، وأيضًا حديث أبو هريرة رضي الله عنه المشهور قال: قال رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه شجر اليهود)) رواه مسلم.
فهذه النصوص الكثيرة تبشر بعودة الجهاد في سبيل الله وكثرة الفتوحات وتطهير الأرض من نجاسة اليهود والنصارى وخبثهم، ولعل ما نراه اليوم من جهاد في مناطق عدة يكون بارقة أمل وبوابة إلى جهاد أعظم يؤذِن بنصر قريب وفرج عاجل إن شاء الله.
ومن المبشرات ما رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًّا ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبريًا ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)) ثم سكت. ففي هذا الحديث بشارة عظيمة بوقوع خلافة راشدة على منهاج النبوة، تكون بعد الملك الجبري.
ومن أعظم المبشرات ما رواه عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((تقوم الساعة والروم أكثر الناس)) ، يقول راوى الحديث فقلت: أبصر ما تقول! قال: أقول ما سمعت من رسول الله، قال: لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالاً أربعًا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك. رواه مسلم. استنبط العلماء رحمهم الله تعالى من هذا الحديث أن الروم يسلمون في آخر الزمان، وذلك من المبشرات ولا شك؛ لأن هذه الصفات قلما توجد إلا في أصحاب الإيمان الصادق، ويدل عليه قوله : ((والذي نفسي بيده، لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء)) ، يعني: فارس والروم.
ومن المبشرات قول النبي : ((إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا، ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءًا من النبوة)) رواه مسلم.
إن صِدْق الرؤيا من المبشرات في آخر الزمان كما في هذا الحديث، لكن بشرط الإيمان وصدق الحديث، ومن عظيم شأنها أنها جزء من النبوة، فهي دعوة للإيمان الصادق وصدق الحديث.
ومن المبشرات ظهور المهدي في آخر الزمان، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تذهب الدنيا حتى يملك العربَ رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي)) ، فهذا الحديث من المبشرات بالمهدي حيث تواترت النصوص بخروجه وصفاته ومدة حكمه، وأنه من مبشرات آخر الزمان.
ومن أعظم المبشرات نزول عيسى ابن مريم عليه السلام، كما صح الخبر بذلك عن النبي حيث قال: ((فيكون عيسى ابن مريم في أمتي حكمًا عدلاً وإمامًا مقسطًا، يدق الصليب، ويذبح الخنزير، ويضع الجزية، ويترك الصدقة، فلا يسعى على شاة ولا بعير، وترفع الشحناء والتباغض، وتُنزع حُمة كُل ذاتِ حُمة، حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا تضره، وتضرب الوليدة الأسد فلا يضرها، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة، فلا يعبد إلا الله، وتضع الحرب أوزارها، وتسلب قريش ملكها، وتكون الأرض كفاثور الفضة تنبت نباتها بعهد آدم، حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم، ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم، ويكون الثور بكذا وكذا من المال، ويكون الفرس بدريهمات))، وقال : ((طوبى لعيش بعد المسيح، يؤذن للسماء في القطر، ويؤذن للأرض في النبات، حتى لو بذرت حبك على الصفا لنبت، وحتى يمر الرجل على الأسد فلا يضره، ويطأ على الحية فلا تضره، ولا تشاحَّ ولا تحاسد ولا تباغض)).
(1/3181)
آفات اللسان (1)
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
25/12/1409
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اللسان نعمة من نعم الله علينا. 2- حال الأمة الإسلامية اليوم. 3- خطورة اللسان على مستوى الفرد والأمم. 4- الأمر بحفظ اللسان. 5- نموذج من أخلاقه. 6- أخلاق الناس اليوم. 7- التعوذ بالله من شر اللسان. 8- أعظم آفات اللسان الشرك بالله. 9- من صور الشرك بالله عن طريق اللسان. 10 – صور من الكذب على الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الله عز وجل قد أكرم هذا الإنسان على بعض مخلوقاته؛ بأن جعله يعبر عمّا في نفسه عن طريق هذا اللسان، فإن هذا اللسان، هذا العضو الصغير من أجل نعم الله عليك أيها المسلم.
تخيل نفسك ـ يا أخي المسلم ـ لو فقدت هذا اللسان كيف يكون حالك، كيف تخاطب الآخرين بما تريد، كيف تعبر عما يدور في خاطرك وتنقله لغيرك، حقيقة إنها نعمة عظيمة وعظيمة جدا.
وهذا اللسان ـ أيها الإخوة ـ سلاح ذو حدين؛ فإن استخدم في طاعة الله كان خيرا ونعمة على الإنسان، وإن استخدم في طاعة الشيطان كان نقمة على الإنسان وكفرانا لهذه النعمة العظيمة.
ويا للأسف، فإن كثيرا من المسلمين أساؤوا استخدام هذا اللسان، ووضعوه في غير موضعه الذى خلق له؛ فوقعوا في آفات كثيرة وكبائر منكرة، كل هذا بسبب سوء استخدام هذا اللسان.
ولو نظرنا إلى الموضوع بشكل أوسع وتأمل المسلم في حالة الأمة فإنه يرى من أمرها ما يبكي، أجل إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، كيف لا؟! والتمزق ينخر فيها، والفرقة تدب في صفوفها، والوهن أشرف في قلوب أصحابها، ثم تبحث في وسط هذا كله كلمة تخرج من لسان صادق يوحد بين الإخوة والأحبة فلا تجد، وكلنا ـ وللأسف ـ نرى في هذا الظرف المؤلم من يتسلل لواذًا بقيل وقال، ومنهم من وظف لسانه في التفريق بين صفوف الأمة، هل أدركتم ـ أيها الإخوة ـ خطورة هذا اللسان والدور الذى يمكن أن يلعبه؟!
فكم بهذه الألسنة عبِد غير الله تعالى وأشِرك بالله، وكم بهذه الألسنة حكم بغير حكمه سبحانه وتعالى، وكم بهذه الألسنة أحدثت البدع وأدميت أفئدة وقرحت أكباد، وكم بهذه الألسنة أرحام تقطعت وأوصال تحطمت وقلوب تفرقت، وكم بهذه الألسنة نزفت دماء وقتل أبرياء وعذب مظلومون، هذا على مستوى الجماعات والأمم.
أما على مستوى الأفراد فكم وقع أناس في مصائب وكبائر بسبب ألسنتهم، فكم بهذه الألسنة طلقت نساء مربيات وقذفت محصنات، كم بهذه الألسنة وقع أناس في الكذب والغيبة والنميمة، كم بهذه الألسنة وقع أناس في السخرية والاستهزاء والتنابز بالألقاب، كم بهذه الألسنة وقع بعض المسلمين في سب بعضهم لبعض، ووقع آخرون في التفاخر بالأنساب، ووقع غيرهم في الفحش وبذاءة اللسان، كم بهذه الألسنة تشدق أناس في كلامهم، ووقع آخرون في تزكية أنفسهم، ووقع غيرهم في الحلف حال البيع والشراء وغيرها.
أيها المسلمون، كل هذا وغيره يصدر من عباد الله بسبب اللسان، وصدق الشاعر إذ يقول:
ما إن ندمت على سكوتي مرة ولقد ندمت على الكلام مرارا
وقال آخر:
يموت الفتى من عثرة بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرجل
أيها المسلمون، عباد الله، إن الله عز وجل أمر في آيات كثيرة بحفظ اللسان، فقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:1-3]، وقال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وقال جل وعلا: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24]، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة المتفق عليه: ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) ، وعندما سئل عليه الصلاة والسلام: أي المسلمين أفضل؟ قال : ((من سلم المسلمون من لسانه ويده)) ، وجاء في صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله : ((من يضمن لى ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)).
والمقصود بهذا الحديث ـ أيها الإخوة ـ أن الذي يستطيع أن يضمن ما بين لحييه وهو اللسان، واللحيان: العظمان اللذان تنبت عليهما الأسنان، فالذي يضمن لسانه ويضمن ما بين رجليه وهو الفرج من الوقوع في أي نوع من أنواع الحرام ضمن له رسول الله الجنة.
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما تبين فيها نزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)) ، وفي رواية: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى لها بأسًا يهوي بها سبعين خريفًا في النار)). نسأل الله السلامة والعافية.
يخبر عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث الصحيح بأن الرجل يتكلم بكلمة لا يرى بها بأسًا، ولا يرى فيها شيئًا، ويظن أنها كلمة عادية، لكنها تهوي به في نار جهنم سبعين سنة، وهذا حديث صحيح يا عباد الله.
فأي خطورة بعد هذه من هذا اللسان؟! وهل بعد هذا الحديث شيء يجب أن يحافظ عليه المسلم بأشد منه محافظة على لسانه؟!
إن المحافظة على اللسان يجب أن تكون أكثر بكثير من المحافظة على المال، ولكن أين الذى يدرك هذه الحقيقة؟!
والمتأمل في حال الناس اليوم يرى العجب العجاب، كل قد أطلق للسانه العنان، يتكلم بما يريد ومتى يريد وعلى أي هيئة يريد، لا أحد يحسب حساب كلماته التى يطلقها، قليل من الناس من يزن كلامه، وينظر في عواقب ما يقول.
أين نحن ـ يا عباد الله ـ من الآيات والأحاديث التى سمعناها قبل قليل الله المستعان، ولهذا لا نستغرب إذا كان رسول الله أخوف ما يخاف على الإنسان من لسانه، فعن سفيان بن عبد الله رضى الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، حدثنى بأمر أعتصم به، قال: ((قل: ربي الله، ثم استقم)) ، قلت: يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف علي، فأخذ بلسان نفسه ثم قال: ((هذا)). والعجيب في أمر الناس اليوم أنهم يطمئنون لألسنتهم، وكل منا مطمئن وواثق بلسانه، والرسول أخوف ما يخاف على أمته من ألسنتهم.
والحقيقة أن ألسنة غالب الناس مصانع سوء ـ نسأل الله العافية ـ لا تكل ولا تمل.
أيها المسلمون، لو سأل سائل منكم وقال: كيف كان لسان رسول الله ؟ فإن أنسًا رضى الله عنه يجيب على هذا السؤال في الحديث المتفق عليه، حيث يقول: (ما مسست ديباجًا ولا حريرًا ألين من كفّ رسول الله ، ولا شممت رائحة قطّ أطيب من رائحة رسول الله ، ولقد خدمت رسول الله عشر سنين فما قال لى قط: أف، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا شيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟!)، فما أحسنه من لسان صلوات ربى وسلامه عليه.
انظر ـ أخي المسلم ـ إلى ألسنتنا الآن، كم مرة في اليوم الواحد، بل في الساعة الواحدة نقول كلمة: أف، وهذا أنس رضى الله عنه يقول: (خدمت رسول الله عشر سنين فما قال لى قط: أف)، عشر سنين لم تخرج هذه الكلمة ولم تظهر على لسان رسول الله ، ونحن لا نستطيع أن نعيش بدونها.
ولتعلم بعد ذلك ـ أخي المسلم ـ أنه قد جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله كان طويل الصمت قليل الضحك، فحبذا لو تعلمنا هذا الأدب، كان رسول الله طويل الصمت. أسألكم بالله: هل هناك كلام من كلام البشر أطيب من كلام رسول الله ؟! هل هناك من يشتهَى أن يسمع كلامه مثل رسول الله ؟! لأنه لا يقول عليه الصلاة والسلام إلا الخير، ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام طويل الصمت.
ونحن ـ أيها الإخوة ـ غالب كلامنا لا ينفع إذا لم يحصل من ورائه إثم، بعد ذلك تجد بعضنا لا يسكت أبدًا، وكأنه قد بلع مذياعًا. فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله أيها الإخوة، تعوذوا بالله من شر ألسنتكم، ليكن قدوتكم في ذلك المصطفى ، جاء في الحديث الصحيح أنه كان يدعو عليه الصلاة والسلام فيقول: ((اللهم إنى أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبى، ومن شر منيّي)).
تأملوا يا عباد الله، أيّ لسان هذا الذى كان يتعوذ من شره عليه الصلاة والسلام؟! إنه اللسان الذى جعله الله منهاة لكل سوء آمرًا بكل معروف، إنه اللسان الذى جعله الله دليل الجنة، إنه اللسان الذى نعجز أن نعطيه حقه من الوصف؛ لأنه لسان رسول الله ، ومع هذا فإن صاحبه عليه الصلاة والسلام كان يتعوذ بالله سبحانه، يستجير به ويعتصم به تعالى؛ كيلا يقع منه ما يغضب الله سبحانه.
فما بالنا نحن لا نتعوذ من شرور ألسنتنا؟! ما بالنا لا نهتم بهذه القضية؟! ولا ندعو الله تعالى أن يقينا شرور ألسنتنا؟!
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت خالق كل شىء ومليكه، نسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تقينا شرور ألسنتنا، اللهم إنا نعوذ بك من شر أسماعنا ومن شر أبصارنا، ونعوذ بك اللهم من شر ألسنتنا ومن شر قلوبنا، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفه عين ولا أقل من ذلك، إنك ولي ذلك والقادر عليه
أكتفي بهذا القول، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وعلى أصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: إن ما ذكرته لكم في الخطبة الأولى ما هي إلا مقدمة لما أود ـ بعد توفيق الله عز وجل ـ أن أواصل معكم سلسلة من الخطب في عثرات اللسان وآفاته وزلاته. فقد تبين لنا مما سبق أهمية هذا اللسان وخطورته في نفس الوقت، وسمعتم الآيات والأحاديث في ذلك، وسمعتم الوعيد لمن يطلق للسانه العنان.
أيها المسلمون، أن آفات اللسان كثيرة، وزلاته وسقطاته لا تعد ولا تحصى، ولكن قبل أن نبدأ معكم في هذه الآفات أسوق لكم هذا الحديث العظيم الذي يبين فيه رسول الله أن الناس لا يكبون في النار على وجوهم إلا بسبب ألسنتهم، فعن عبادة بن الصامت رضى الله عنه أن رسول الله خرج ذات يوم على راحلته وأصحابه معه بين يديه، فقال معاذ بن جبل: يا نبى الله، أتأذن لي في أن أتقدم إليك على طيبة نفس؟ قال: ((نعم)) ، فاقترب معاذ إليه فسارا جميعًا، فقال معاذ: بأبي أنت يارسول الله، أسأل الله أن يجعل يومنا قبل يومك، أرأيت إن كان شيء ـ ولا نرى شيئًا إن شاء الله تعالى ـ فأي الأعمال نعملها بعدك؟ قال: فصمت رسول الله ، فقال: الجهاد في سبيل الله؟ ثم قال رسول الله : ((نعم الشيء الجهاد)) ، والذي بالناس أملك من ذلك فالصيام والصدقة، قال: ((نعم الشيء الصيام والصدقة)) ، فذكر معاذ كل خير يعمله ابن آدم، فقال رسول الله : ((وعاد بالناس خير من ذلك)) ، قال: فماذا ـ بأبي أنت وأمي ـ عاد بالناس خير من ذلك؟ قال: فأشار رسول الله إلى فِيه، وقال: ((الصمت إلا من خير)) ، قال: وهل نؤاخذ بما تكلمت به ألسنتنا؟! قال فضرب رسول الله فخذ معاذ ثم قال : ((يا معاذ، ثكلتك أمك، وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا ما نطقت به ألسنتهم؟! فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو يسكت عن شر، قولوا خيرًا تغنموا، واسكتوا عن شر تسلموا)).
تبين لنا من هذا الحديث العظيم ـ أيها الإخوة ـ أن ما تنطق به الألسن هو الذي يكب الناس على وجوهم في نار جهنم، والعياذ بالله.
فتعالوا بنا ـ يا عباد الله ـ نتعرف على هذه الآفات؛ لأن خير دواء للإنسان هو معرفة الداء، وكما يقال إن الوقاية خير من العلاج.
الآفة الأولى من آفات اللسان ـ أيها الإخوة ـ وهي أشدها وأعظمها: الشرك بالله عز وجل، نعم الشرك بالله من أخطر آفات اللسان، وقد يستغرب بعضكم كيف يكون ذلك! فنقول: بأن هذا اللسان قد ينطق في بعض الأحيان بكلمات أو يقول شيئًا ما يخرجه بذلك من الإسلام بالكلية، ويدخله في الكفر بالكلية. نعم يا عباد الله، الذي لا يحسب حساب ألفاظه قد يشرك بالله عز وجل عن طريق لسانه وهو لا يشعر.
والشرك بالله عن طريق اللسان له صور متعددة، منها الكذب على الله تعالى، والكذب على رسول الله ، قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ [الأعراف:37]، وقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، وجاء في الحديث الصحيح: ((من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعدة من النار)).
إن المسلمين ـ يا عباد الله ـ متفقون على تحريم السرقة ومتفقون على تحريم الرشوة، واتفقوا على أن الكذب خلق ذميم، ولكن للأسف لم يستعظموا الكذب على رسول الله إلا من رحم الله، وذلك بسبب قلة العلم.
إن الكذب على الله يأتي في صور مختلفة، منها إطلاق صفات لله تعالى بلا دليل، أو الكذب على مراد قوله سبحانه بتفسير لا يليق. والكذب على الله تعالى ورسوله فيه تحليل حرام وتحريم حلال، وهذا كفر.
فإذا علمنا أن الدين قال الله وقال رسول الله علمنا أن الكذب على الله تعالى وعلى رسوله الكريم هو الإتيان بدين آخر غير الإسلام، وهذه جريمة من أعظم الجرائم. نسأل الله العافية.
ومن صور الشرك بالله تعالى عن طريق اللسان أيضًا الحكم والتحاكم بغير ما أنزل الله تعالى، قال الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ [الأعراف:44]، وقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا [النساء:60]، وقال تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [النور:51]، فالحكم والتحاكم بغير ما أنزل الله تعالى من أشد أنواع الكفر الذي يجنيه اللسان.
فقد يسأل سائل ويقول: كيف يكون ذلك؟! فنقول: إن القوانين الوضعية التى تحكم بلاد الدنيا ما هي إلا كلمات خرجت من ألسنه شرعت من الدين ما لم يأذن به الله، جعلت البشرية تتخبط في ظلمات بعضها فوق بعض، وبهذا يكون الحكم بغير ما أنزل الله من آفات اللسان العظيمة.
عباد الله، نكتفي بهذا القدر من آفات اللسان خشية الإطالة، وسوف نواصل معكم ـ بحول الله وقوته ـ سلسلة هذه الآفات في أسابيع قادمة إن شاء الله تعالى.
(1/3182)
آفات اللسان (6)
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
1/2/1410
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المدح وبعض سلبياته. 2- النهي عن كلمة: "لو" وبيان مفاسدها. 3- النميمة وأضرارها. 4- وفقة محاسبة مع النمامين. 5- أمور ليست من النميمة. 6- النهي عن الغيبة. 7- أسباب وقوع الإنسان في الغيبة. 8- حالات يظن أنها ليست من الغيبة وهي غيبة. 9- حالات يجوز فيها الغيبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، الآفات التى سوف نتكلم عنها في هذا الأسبوع ـ بعد توفيق الله عز وجل ـ هي آفة المدح، وآفة النهى عن لفظة: "لو"، وآفة النميمة، وآفة الغيبة.
أيها المسلمون، آفة المدح هي الآفة الثالثة عشرة من آفات اللسان وزلاته وعثراته، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم في صحيحة: ((إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)) ، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث معاوية رضى الله تعالى عنه: ((إياكم والتمادح؛ فإنه الذبح)).
إن المدح ـ يا عباد الله ـ له مساوئ كثيرة، ولا يمكن للمادح إلا أن يقع في أحد منها، فمن سلبيات المدح أنه قد يفرط فيه صاحبه فتنتهي به إلى الكذب؛ وذلك بأن يقوم المادح بذكر أوصاف ليست موجودة في الممدوح، وهذه هي مصيبة الشعراء في مدحهم وثنائهم على بعض الولاة، فيقومون بذكر أوصاف ليست فيهم، فيقعون في الكذب. قال خالد بن معدان: "من مدح إمامًا أو أحدًا بما ليس فيه على رؤوس الأشهاد بعثه الله يوم القيامة يتعثر بلسانه".
ومن سيئات المدح أيضًا أنه قد يدخله في الرياء؛ لأن المادح مظهر للحب ولا يعلم ما في قلبه حقيقة، ولا يعلم ما يعتقده، وقد يكون مبغضًا للممدوح لكن يمدحه لمصلحة معينة، فيكون بذلك مرائيًا منافقًا.
ومن سلبيات المدح أيضًا أنه قد يقول ما لا يعلمه ولا سبيل له إلى الاطلاع عليه، فيقوم بمدحه وذكر صفات قد لا تكون في الرجل الممدوح، عن أبي بكر رضي الله عنه أن رجلاً ذُكر عند النبي فأثنى عليه رجل خيرًا، فقال النبي : ((ويحك، قطعت عنق صاحبك ـ يقوله مرارًا ـ إن كان أحدكم مادحًا لا محالة فليقل: أحسب كذا وكذا، إن كان يرى أنه كذلك، وحسبه الله ولا أزكى على الله أحدًا)) ، وعن أبى موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سمع النبي رجلاً يثني على رجل ويطريه في المدح فقال: ((أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل)).
يروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع رجلاً يثني على رجل، فقال: أسافرت معه؟ قال: لا، قال: أخالطته في المبايعة والمعاملة؟ قال: لا، قال: فأنت جاره صباحَه ومساءه؟ قال: لا، فقال: والذى لا إله إلا هو، لا أراك تعرفه.
وأيضًا من سلبيات المدح ـ أيها الإخوة ـ أنه قد يفرح الممدوح وهو ظالم أو فاسق، وذلك غير جائز، يقول الحسن البصرى رحمه الله تعالى: "من دعا لظالم بطول البقاء فقد أحب أن يعصى الله تعالى في أرضه".
ومن مساوئ المدح أيضًا ـ يا عباد الله ـ أنه يحدث في نفس الممدوح الكبر والإعجاب، وهذا يقع فيه غالب الناس فإنها تتعاظم نفسه عندما يمدح، وتتطور القضية عنده، فيرضى عن نفسه ويعجَب بها، فيغتر عن العمل، ولهذا إذا انطلقت الألسنة بالثناء عليه ظن أنه قد أدرك، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((قطعت عنق صاحبك)).
أيها المسلمون، الآفة الرابعة عشرة من آفات اللسان: التلفظ بكلمة "لو"، لو فعلت كذا لكان كذا، أو ليتني فعلت كذا، وهذه لفظة منهي التلفظ بها يا عباد الله، ولكن مع الأسف كثيرًا ما نسمعها ولا ينجو منها أحد إلا من رحم ربي.
قال الله تعالى: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا [آل عمران:154]، وقال سبحانه: الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان)).
نعم إن هذه الكلمة تفتح عمل الشيطان، هذه الكلمة التي شاع استعمالها وعمّ وطمّ، فلم يكد يخلو منها لسان إلا وتلفظ بها، ولا فم إلا وتفوه بها، إنهما حرفان فقط، ولكنهما تدلان على أشياء كثيرة وعظيمة، تدلان على ضيق صدر المتلفظ بهما، وضعف إيمانه بقدر الله تعالى، وعدم تسليمه واستسلامه لله سبحانه، دلت على سوء الخلُق مع الأزواج والأحباب والإخوة والأصحاب، دلت على نقصان الصبر، أجل إنها تفتح عمل الشيطان، عن أنس رضي الله عنه قال: ما مسستُ ديباجًا ولا حريرًا ألين من كف رسول الله ، ولا شممت رائحة أطيب من رائحة رسول الله ، ولقد خدمت رسول الله عشر سنين، فما قال لي قط: أف، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا.
أجمِل به من خلق، وأحسِن به من ذوق إسلامي فاضل، أين نحن من هذه الأخلاق؟! ما أكثر تأففات القلب، وما أعظم تأففات اللسان، إنها نار تتأجج وحروف تلدغ وكلمات تقتل وأقوال تحرق، ويا لها من ألسنة.
ما أكثر ما يقول الناس: لم فعلت؟ ألا فعلت كذا وكذا؟ لو فعلت كذا، ويا ليتهم يعلمون أنهم يخطئون، بل يحسبون أنهم في هذا مهتدون.
اللهم اهدنا لكتابك وسنة نبيك العظيم، واجعلنا من المتخلّقين بأخلاقه النبوية عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
عباد الله، الآفة الخامسة عشرة من آفات اللسان النميمة، والنمام ـ يا عباد الله ـ هو الذي ينقل الحديث من إنسان إلى آخر على جهة الإفساد والشر.
قال الله تعالى: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم:11]، وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يدخل الجنة نمام)) متفق عليه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله مرّ بقبرين فقال: ((إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله)).
أيها النمامون، يا أعداء المحبة، يا هواة الفرقة والخلاف، انظروا لأنفسكم فعسى أن يكون قد اقترب أجلكم.
هل أشبعتم غيظكم وملأتم قلوبكم الحاقدة فرحًا وغبطة بالنميمة والأذى؟! ماذا جنيتم أيها البلهاء؟! أتظنون أنفسكم قد أحسنتم صنعا؟! فلا والله ما أحسنتم، كم فرقتم بين القلوب، وكم بألسنتكم الجائعة للشر قتلتم الأبرياء،كم حملتم من الأوزار والآثام والخطايا.
اعملوا ما شئتم فستجزون على كل ذلك، لا تحسبوه خيرًا لكم بل هو شر لكم، بئس السعاده هذه أن تفسدوا على المسلمين معيشتهم، ونِعم الشقاء الذي تعدونه شقاء أن يكفّ المرء لسانه عن إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس، ويحكم يا ساقطي الهمة، ما أشدّ جبنكم، إنكم تقاتلون بالنميمة من وراء جدر محصنة، تتسللون لواذا، لا تقوون على المواجهة، بالخفاء تدبرون مؤامراتكم، عذاب الناس حياة قلوبكم وذهاب غمومكم، لبئس ما أنتم عليه من حال، ولبئس ما سيكون لكم من مآل.
فاتقوا الله أيها المسلمون، إن شر النميمة عظيم؛ مذمومة عند الله وعند عباد الله. لا تعرضوا أنفسكم لغضب الله تعالى بذكر الناس وأكل لحومهم.
يحكى أن رجلاً ذكر لعمر بن عبد العزيز رجلاً بشيء، فقال عمر: يا هذا، إن شئت نظرنا في أول فإن كنت صادقًا فأنت من أهل الآية: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]، وإن كنت كاذبًا فأنت من أهل الآية: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم:11]، وإن شئت عفونا عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدًا.
أيها الإخوة، ليس من النميمة أن يخبر الرجل صاحبه بما يقال فيه إن كان في ذلك مصلحة كمأمور الزواج مثلاً، ودليل ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه قال: قسم رسول الله قسمة فقال رجل من الأنصار: والله، ما أراد بهذا وجه الله، فأتيت رسول الله فأخبرته، فتمعّر وجهه وقال: ((رحم الله موسى، لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر)). فالرسول عليه الصلاة والسلام لم ينكر على الصحابي الذي نقل له الخبر بأن فلانًا قال كذا وكذا؛ لأن نقل الخبر كان لمصلحة فدل على جواز ذلك.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، الآفة السادسة عشرة من آفات اللسان: الغيبة، قال الله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12]، وقد عرف الرسول الغيبة بقوله في الحديث الصحيح: ((الغيبة أن تذكر الرجل بما فيه من خلقه)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الغيبة ذكرك أخاك بما يكره)).
أيها المسلمون، إن الإنسان الذي عود لسانه اغتياب الناس لا يمكن أن يكون يفعل ذالك من غير دوافع.
فمثلاً: بعض الناس يقع في الغيبة عن طريق الحسد، وهذا كثيرا ما تجده، يحسد رجلاً إما لمنزلته في قلوب الناس، أو لوفرة ماله، فيقع الحسد في قلبه عليه، فيترجم ذلك عن طريق الغيبة.
وبعض الناس يقعون في الغيبة من أجل اللعب والهزل وإضحاك الآخرين؛ تجده من أجل النكته يغتاب عباد الله، فإننا نُذكّر مثل هذا بقول الرسول : ((ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له)).
ومن الناس من يمارس هواية الغيبة المحرمة لكثرة الفراغ عنده والشعور بالملل والسآمة، فيشغل وقته بذكر أعراض الناس وعيوبهم.
وبعض الناس يقع في الغيبة للتقرب لدى أصحاب الأعمال والمسؤولين، وهذا كثيرًا ما يحصل في مجال العمل؛ ليرتقى لمنصب أفضل، فيكون ارتقاؤه على أكتاف الآخرين.
ومن الناس من يوقعه لسانه في الغيبة لشعوره بالنقص، فيريد رفع نفسه، فليس له وسيلة كما يعتقد إلا بتنقيص غيره.
أيها المسلمون، هناك أمور يظن الناس أنها ليست من الغيبة وهي في حقيقتها غيبة محرمة وآفة من آفات اللسان، ولكن لاعتياد الناس عليها ظنوا أنها ليست من الغيبة.
فمن ذلك مثلاً: قد يغتاب الرجل شخصًا، ما فإذا أنكر عليه قال: أنا على استعداد للقول أمامه. فيا أخي المسلم، إن استعدادك للحديث أمامه أمر آخر مستقل، لا يمنع من أنك وقعت في غيبته.
ومن الأمثلة أيضًا: قول بعض الناس إن هذا صغير تجوز غيبته، فهذه أيضًا غيبة أيها الإخوة، وتعد من الكبائر؛ لأنه لا دليل على جواز غيبيه الصغير.
ومن الأمثلة الشائعة أيضًا: قولك: هذا هندي أو مصري أو بدوي أو قروي أو سباك أو غير ذلك إذا كان قلته تحقيرًا وتنقيصًا، فإنها تُعدّ من الغيبة وهي حرام.
أيها المسلمون، هناك ستة مواضع أجاز الإسلام للشخص فيها أن يغتاب:
الموضع الأول: حال التظلم، كالتظلم للسطان أوالقاضي أو ولي الأمر، ودليل ذلك أن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ـ عندما اشتكت هند زوجها أبا سفيان، فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال عليه الصلاة والسلام ـ : ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)).
الموضع الثاني الذي يجوز فيه الغيبة: حال الاستفتاء؛ كأن يقول للمفتى: ظلمني فلان فما طريقي في الخلاص.
الموضع الثالث: حال الاستعانة على تغيير منكر أو رفع بلاء عن مسلم.
الموضع الرابع: حال تحذير المسلمين ونصحهم من أصحاب الشر، ويدخل فيه المشاورة في أمور الزواج أو المشاركة أو المجاورة ونحو ذلك.
الموضع الخامس: في ذكر المجاهر بما فيه أو صاحب البدعة ببدعته. عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن على النبي فقال: ((ائذنوا له، بئس أخو العشيرة)).
قال النووي في رياض الصالحين: "احتج البخاري به في جواز غيبة أهل الفساد وأهل الريب".
الموضع السادس:حال التعريف إن كان معروفًا بلقب معين، كالأعرج والأصم والأعمى ونحو ذلك، ولا يحل إطلاقه على وجه التحقير والتنقيص، وإن أمكن تعريفه بغير ذلك فهو أفضل وأولى.
(1/3183)
الإيمان بالملائكة (2)
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الملائكة, فضائل الأعمال
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
16/10/1407
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من صفات الملائكة الحياء. 2- نموذج فريد من حياء عثمان بن عفان رضي الله عنه. 3- فوائد استشعار وجود الملائكة مع الإنسان. 4- من صفات الملائكة اتصافهم بالنظام. 5- الملائكة تتأذى مما يتأذى به بنو آدم. 6- أعمال ترضي الملائكة وأعمال تسخطهم. 7- الملعونون من قِبل الملائكة. 8- فئة من الناس تستغفر لهم الملائكة وتدعو لهم. 9- أهمية الاستمرار على العمل الصالح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، تكلمنا في الجمعة الماضية عن الإيمان بالملائكة، وبيّنا بعض الجوانب التي لا بد وأن تؤثر على سلوك الإنسان، وهذا شأن جميع أمور العقيدة، إذا لم يكن لها أثر في الواقع فإنها تبقى في الضمير لا تنفع صاحبها.
فكلنا ـ أيها الإخوة ـ يؤمن بوجود الملائكة، لا أحد من المسلمين ينكر ذلك، ولكن هل إيماننا بالملائكة غيّر شيئًا من واقعنا وأقام سلوكنا، أم أنه إيمان مجرد من كل ذلك؟!
تعرضنا لشيء من هذا في الخطبة الماضية، ونواصل حديثنا في هذه الجمعة أيضًا بذكر بعض من صفات الملائكة وأعمالهم، وما مدى تأثير ذلك في حياتنا العملية.
روى مسلم في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله كان مضجعًا في بيتها، كاشفًا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر الصديق رضي الله عنه فأَذن له وهو على تِلك الحال، فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله وسوى عليه ثيابه، فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تبالِه، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تبالِه، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)). والشاهد من هذا الحديث ـ يا عباد الله ـ هو حياء الرسول من عثمان لحياء الملائكة منه.
والحياء ـ أيها الإخوة ـ من الصفات الحميدة والجميلة، والملائكة قد اتصفت بهذه الصفة بنص الحديث، فالذي عليك ـ أيها المسلم ـ لكي تربط هذا الخلق الجميل من أخلاق الملائكة في واقعك أن تستشعر وجود الملائكة حولك دائمًا وهم حولك بالفعل، فلو استشعر الإنسان هذا في غالب وقته لاستحى من كثير من الأعمال التي يفعلها.
وما عَبَثُ الناس في هذا الوقت وما سوء الأخلاق التي نشاهدها في واقع الناس هذه الأيام وما هذه الألفاظ البذيئة التي نسمعها في كل رُكن وفي كل زاوية إلا نتيجة لعدم حياء الناس، وصدق رسول الله في الحديث: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)). ولو آمن الناس بوجود الملائكة الإيمان العملي الحق لانضبط كثيرٌ من سلوكهم، ولترسخت صفة الحياء عندهم.
وأضرِب لكم مثلاً في الحياء من سيرة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، فإنه كما مر معنا في الحديث أنه كان رجلاً حييًا. تروي كتب السيرة أن من حيائه رضي الله تعالى عنه أنه كان يغتسل من الجنابة جالسًا، كل ذلك أنه كان يستحي أن ينظر إلى نفسه وهو متجرّد من ثيابه ولو كان مخليًا بنفسه، وإن كان الناس لا يرونه، فإن هناك عالم آخر يراه بهذه الحالة، وهو عالم الملائكة. فأين نحن ـ يا عباد الله ـ في إيماننا بالملائكة من إيمان عثمان رضي الله تعالى عنه بالملائكة؟! وروي عنه أيضا أنه ما مس ذكره بيمينه منذ أن بايع رسول الله. فأين نحن من هذا كله أيها الإخوة؟!
عباد الله، إن العقيدة النظرية ـ كما قلت لكم ـ لا تؤتي أكلها ما لم يكن لها ترجمة واقعية في حياتنا.
فلنتق الله أيها الإخوة، ولنتّصف بصفة الحياء تأسيًا بالملائكة، وأن نستشعر وجودهم حولنا، ونزن بذلك أقوالنا وأفعالنا بميزان الكتاب والسنة. وأن نستحي كذلك من أنفسنا ونحن في خلوتنا، ولا ننسى بأن الملائكة من حولنا.
وهناك لفته أخرى أحبّ أن أذكرها في هذا المقام، وهو مقام استشعار وجود الملائكة مع الإنسان، فإن كلاّ منا ـ أيها الإخوة ـ تمر به بعض الفترات ينقبض فيها صدره، ويشعر بالوحشة والغربة، سواء كانت هذه الغربة أو الوحشة سببها البعد عن الأوطان، أو البعد عن الإخوان، أو البعد عن الأهل والجيران، فأيًا كان سبب هذه الغربة، فإن المؤمن الذي قد تشبّع قلبه وروحه من عقيدة الملائكة لا يشعر بهذه الغربة، ولا ينقبض صدره ذلك الانقباض الذي يحسه من هو أضعف منه إيمانًا بالملائكة، فلو مكّن المسلم هذه العقيدة في قلبه ورسخها في فكره وعقله وأشبع بها روحه كانت له عونًا في حالات الغربة، وكانت له سندًا في حالات الفتن نعوذ بالله منها؛ لأنه يستأنس بوجودهم حوله، فلو حاول كل منا أن يؤنس نفسه بالملائكة من حوله لزالت عنه كثير من الهموم وكثير من الوحشة.
عباد الله، وهناك خلق آخر نتمنى أن يتحقق في المسلمين إضافة إلى خلق الحياء، وهو من الأخلاق الجميلة أيضا عند الملائكة، وهو خلق النظام، سواء كان النظام في العبادة أو في الأمور الأخرى، فالملائكة ـ يا عباد الله ـ منظّمون في عبادتهم، وقد حثنا الرسول على الاقتداء بهم في ذلك فقال: ((ألا تصفّون كما تصف الملائكة عند ربها؟!)) قالوا: وكيف يصفون عند ربهم؟ قال: ((يكملون الصفّ الأول فالأول، يتراصون في الصف)). وفي يوم القيامة يأتون صفوفًا منتظمة، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، ويقفون صفوفًا بين يدي الله تعالى، يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ:38].
وانظر إلى دقة تنفيذهم للأوامر في حديث الإسراء، فإنه كلما استأذن الرسول في الدخول فإنه لا يفتح إلا بعد معرفته، وكما قال عليه الصلاة والسلام كما جاء في صحيح مسلم: ((آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك)). وأظن أن خُلق النظام لا يحتاج إلى تعليق، فإن واقع المسلمين في التزامهم بالنظام أمر لا يخفى على أحد، فما عليك إلا أن تراجع إحدى الدوائر وتنظر في تنظيم الصفوف، أو أنك تقف لعدة دقائق على أحد إشارات المرور، وسيتبين لك كيف أن أبعد ما يكون حال المسلمين بعدهم عن النظام والله المستعان.
عباد الله، وهناك من الآداب التي يجب على المسلم أن يتحلى بها مراعيًا بذلك شعور الملائكة أن تكون رائحته طيبة؛ لأنه ثبت في الأحاديث الصحيحة: ((إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)) ، فهم يتأذون من الرائحة الكريهة والأقذار والأوساخ. روى البخاري ومسلم أن رسول الله قال: ((من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)). وقد بلغ الأمر بالرسول أنه أمر بالذي جاء إلى المسجد ورائحة الثوم أو البصل تنبعث منه أن يخرج إلى البقيع، وهذا ثابت في صحيح مسلم.
كذلك نهانا رسول الله عن أن يبصق أحدنا عن يمينه أثناء الصلاة لوجود ملك، ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق عن أمامه؛ فإنه يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكًا، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها)).
وأعظم ما يؤذي الملائكة ـ أيها الإخوة ـ الذنوب والمعاصي والكفر والشرك، ولذا فإن أعظم ما يفرح الملائكة ويرضيهم أن يخلِص المرء دينه لربه، ويتجنّب كل ما يغضبه، لذا فإن الملائكة لا تدخل الأماكن والبيوت التي يعصى فيها الله تعالى، أو التي يوجد فيها ما يكرهه الله ويبغضه، كالأنصاب والتماثيل والصور، ولا تقرب من تلبس بمعصية كالسكران، فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح عن الرسول أنه قال: ((لا يدخل الملائكة بيتًا فيه صورة ولا كلب)) ، وفي رواية رافع عن أبي سعيد مرفوعًا: ((لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب أو تمثال)) ، وروى البزار بإسناد صحيح عن بريدة رضي الله عنه أن الرسول قال: ((ثلاثة لا تقربهم الملائكة: السكران والمتضمخ بالزعفران والجنب)).
عباد الله، وهناك بعض الأصناف من الناس تلعنهم الملائكة، يفعلون بعض الأعمال ويعرضون أنفسهم إلى لعن الملائكة، وفي مقدمتها الكفر، قال الله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [آل عمران:86، 87]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161].
ولا تلعن الملائكة الكفّرة فحسب، بل قد تلعن من فعلوا ذنوبًا معينة، ومن هؤلاء لعنة الملائكة المرأة التي لا تستجيب لزوجها، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح)).
وكذلك لعن الملائكة للذي يشير إلى أخيه بحديدة، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، وإن كان أخاه لأبيه وأمّه)).
ولعن الملائكة يدل على حرمة هذا الفعل؛ لما فيه من ترويعٍ لأخيه، ولأن الشيطان قد يطغيه فيقتل أخاه، خاصة إذا كان السلاح من هذه الأسلحة الحديثة التي قد تنطلق لأقل خطأ أو لمسة غير مقصودة، وكم حدث أمثال هذا.
وكذلك لعن الملائكة من سّب أصحاب الرسول ، ففي معجم الطبراني عن ابن عباس بإسناد حسن أن الرسول قال: ((من سبّ أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)).
فيا عجبًا لأقوام جعلوا سبّ أصحاب الرسول دينًا لهم يتقربون به إلى الله. بعض الفرق التي تدعي أنها فرق إسلامية، وهي أبعد ما تكون من الإسلام، وهم الرافضة، فكما قال الرسول في حقهم نقول نحن أيضًا أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وأيضًا فإن الملائكة ـ يا عباد الله ـ تلعن الذين يحولون دون تنفيذ شرع الله، ففي سنن النسائي وأبي داود وابن ماجه بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من قَتَل عمدًا فقود يديه، فمن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)). فالذي يحول دون تنفيذ حكم الله في قتل القاتل عمدًا بالجاه أو المال فعليه هذه اللعنة، فكيف بالذي يحول دون تنفيذ الشريعة كلها؟!
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، اللهم وإن أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، إذا كان هناك من الأعمال ما يوجب لعن الملائكة لبني آدم فإنه في المقابل هناك الكثير من الأعمال لو حرص الإنسان عليها لنال بذلك دعاء الملائكة له واستغفارهم له، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43]، والصلاة من الملائكة بمعنى الدعاء والاستغفار.
فمن هذه الأعمال تعليم الناس الخير، روى الترمذي في سننه بإسناد صحيح عن أبي أمامة أن الرسول قال: ((إن الله وملائكته حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير)).
فكم في هذا الحديث من حافز ودافع للدعاة إلى الله عز وجل الذين يحرصون على أن ينشروا الخير بين الناس، فالداعية الذي قد تشبعت روحه من الإيمان بالملائكة وأدرك هذه الحقيقة وهي أن الملائكة تصلي عليه ما دام معلمًا الخير للناس لن يتوقف لحظة واحدة، وكلما ضعف أو فتر استشعر هذا الحديث، فزاد ذلك من حيويته ونشاطه.
ومن الأعمال التي توجب صلاة الملائكة على بني آدم الحرص على الصف الأول، كما روى الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح من حديث البراء رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول )) ، وفي رواية الترمذي: ((على الصف المقدم)).
ومن الأعمال المكث في المصلى بعد الصلاة، جاء في الحديث الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام: ((الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث أو يقم: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه)).
ومن الأعمال أيضا سدّ الفرج بين الصفوف، فقد روى الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه بإسناد حسن عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن الرسول قال: ((إن الله تعالى وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف، ومن سدّ فرجة رفعه الله بها درجة)).
ومن الأعمال أيضا السحور، فقد صحح الألباني الحديث الذي رواه الطبراني في معجمه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين)).
وكذلك الصلاة على النبي ، لما روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن عامر بن ربيعه أن رسول الله قال: ((ما من عبد يصلي عليّ إلا صلّت عليه الملائكة ما دام يصلي علي، فليقلّ العبد من ذلك أو ليكثر)).
ومن الأعمال أيضًا ـ يا عباد الله ـ التي توجب صلاة الملائكة لبني آدم زيارة المرضى، فقد روى ابن حبان في صحيحه بسند صحيح عن علي أن رسول الله قال: ((ما من امرئ مسلم يعود مسلمًا إلا ابتعث الله سبعين ألف ملك يصلون عليه، في أي ساعات النهار كان حتى يمسي، وأي ساعات الليل حتى يصبح)) ، وفي رواية لأبي داود والحاكم: ((ما من رجل يعود مريضًا ممسيًا إلا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح، ومن أتاه مصبحًا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يمسي)).
ومن الأعمال الصالحة أيضا التي تقرّب الملائكة منا وتقرّبنا منهم طلب العلم، لما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)) ، وفي مسند الإمام أحمد عن أبي الدرداء مرفوعًا: ((إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع)).
فالأعمال الصالحة كما ترون ـ يا عباد الله ـ تقربنا من الملائكة، ولو استمر العباد في حالة عالية من السمو الروحي لوصلوا لدرجة مشاهدة الملائكة ومصافحتهم، كما في سنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : ((لو أنكم تكونون على كل حال على الحالة التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفّهم، ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم)).
(1/3184)
تذكيرأهل المعاصي بعذاب الله
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
2/3/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة انتشار المعاصي والمجاهرة بها في هذا الزمان. 2- من أسباب انتشار المعاصي عدم المبالاة بها والغفلة عن الآخرة. 3- التذكير بشأن المصير. 4- نداء إلى المستهترين بمحارم الله. 5- الرجاء المذموم. 6- وصفٌ لعذاب الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لا شك أن انتشار المنكرات وفشو المعاصي ومجاهرة كثير من المسلمين بالخطايا والمحرمات وترك الواجبات من أبرز سمات المجتمعات الإسلامية اليوم، واستفحل الأمر لما ظهرت المجاهرة واضمحل الحياء من الناس، فضلاً عن الحياء من الله، وهذا والله ـ يا عباد الله ـ نذير خطر، فلنتق الله جميعًا في أنفسنا وفي مجتمعاتنا وبيوتنا ومن نعول.
ويجب أن نعلم ـ أيها الإخوة ـ أن هذا الانغماسَ في المحرمات الذي صار معه المصلحون في حيرة، فهم لا يدرون أي منكر يزيلون وأي خطر يواجهون، أقول: هذه الجرأة العظيمة على انتهاك المحارم من قبل الكثيرين لها أسبابها الكثيرة، ونحن اليوم نتحدث عن سبب واحد فقط، ألا وهو عدم المبالاة بالحرام والوقوع فيه، وغياب منظر اليوم الآخر عن أذهان هؤلاء المستهينين بحدود الله ومحارمه.
إن أعظم ما يُزجَر به كل مستهين بحرمات الله هو عذاب الله الذي أعده للمخالفين المتمردين على عبوديته، الجاحدين لنعم الله عليهم، المبارزين لجبّار الأرض والسماء بالمعاصي. فهل يعلم هؤلاء أن الناس إنما هم أسرى عند الله جل جلاله محكوم عليهم بالنار والخسران إلاّ أن يفكوا رقابهم بعملهم الصالح؟! وهل نحن نتألى على الله بهذا القول؟! كلا والذي أنفسنا بيده؛ لأنه يقول: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر1-3].
إن أمامنا ـ يا عباد الله ـ عقبة عظيمة لا بد أن نحسب حسابها، وكيف سنتخطاها، ما هي هذه العقبة؟ إنه قول الله تعالى: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ [البلد:11-14].
إن أعظم الفوز والنجاح هو أن ننجو من نار الجبار، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].
وهذا محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه ينادي وهو الرحيم الرؤوف بأمته فيقول فيما رواه عنه الشيخان: ((يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئًا. يا بني عبد مناف، اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئا. يا عباس، لا أغني عنك من الله شيئًا. يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئًا. يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئتِ، لا أغني عنك من الله شيئًا)).
وها هو يضرب المثل لنفسه وللناس المعرضين عن هديه واتباعه الصادين عن شرعه، وهو يحاول إنقاذهم وهم يصرون على الهلاك والتردي في المهاوي والاستمرار في المعاصي، تحت ظل تزيين شياطين الإنس والجن، فيقول : ((مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارًا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يُذبّهن عنها، وأنا آخذ بحجزكم وأنتم تفلتون من يدي)) رواه مسلم.
إنه من المؤسف حقًا أن يدعو الأنبياء وورثتهم من المصلحين، يدعون الناس إلى النجاة من عذاب لا يطاق، ويأبى أكثر الناس إلا أن يكونوا وقودًا للنار، فأين العقول وأين فائدتها؟! يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [يس:30].
يا أمة القرآن، إن الحقيقة التي يجب أن نعترف بها وبسرعة دون أي تأخير هي أننا لم نعط الآخرة حقها من الاهتمام والتفكير، ولم نبحث في أمر المصير الذي ينتظرنا جميعًا، قال : ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى بالدعاء)) رواه الشيخان.
أيها المسلمون، نداء إلى المستهينين بالمحارم من المسلمين، الذين يظنون أنه لا يحول بينهم وبين شهواتهم المحرمة إلا رجل الهيئة أو رقيب الشرطة، نقول لهم: والله، لا يردعكم عن قبيح فعالكم وسيئ خصالكم وتضييعكم لمسؤولياتكم إلا أن تتصوروا خطورة مخالفة خالقكم الذي له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون. نعم إلا أن تتصوروا عذاب النار وهول الآخرة.
نعم المعاصي والاستهانة بها لها آثار سيئة في الدنيا، وهذا ـ والله ـ لا يعد شيئًا بالنسبة لعذاب الآخرة، فكيف بطامة عذاب الله؟! نعم قد يعلم الذي جعل الدشّ في بيته أثر هذا البلاء على خُلقه وخُلق أهله وأولاده وبناته، ولكن هذا قد لا يردعه؛ لأنه يوافق شهوته ولذته العاجلة، وقد يعتذر لنفسه بعذر أهل سقر : وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [المدثر:45], ولكن كيف لا يرتدع وهو يسمع ويقرأ آيات العذاب؟! فلمن أعد هذا العذاب؟! إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [الطارق:13، 14].
إن كثيرًا من المسلمين ـ مع الأسف الشديد ـ يغرهم إسلامهم، ويظنون أن ذلك يدفع عنهم دخول النار، ويمنون أنفسهم بشفاعة الشافعين وبرحمة رب العالمين، فيدفعهم ذلك إلى الاستهانة بالمعاصي والموبقات، ويتجرؤون على حدود الله، ويصنفون معاصيهم أنها من الصغائر على حسب أهوائهم، ولكن الأمر ليس كما يزين لهم الشيطان، بل إن الأمر كما قال تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15].
أيها المؤمنون، إن الصغائر وهي صغائر بالاستمرار عليها والإصرار تجتمع عند الله حتى تكون كالجبال، كما قال : ((إياكم ومحقرات الذنوب؛ فإنهن يجتمعن على المرء حتى يهلكنه، كرجل كان بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل يجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا من ذلك سوادًا وأججوا نارًا فأنضجوا ما فيها)) رواه أحمد.
كما أن المرء إذا اعتاد المعاصي وألِفها زالت من نفسه الوحشة منها، ثم إن الشيطان لسياسته اللعينة ينقله من خطوة إلى أخرى فيهوّن المعصية في عينه تارة، ويمنّيه أخرى بأنها تمحى بالتوبة، ويغرّه أخرى بكثرة حسناته، وقد يسلط عليه رفاق السوء الذين يشجّعون على المعصية فيتسلّى بصنيعهم، ثم يبغته الموت وهو على معاصيه، وهنا تحصل المصيبة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [الحشر:16، 17].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن الذي ينظر في كتاب الله تعالى سيلاحظ أن أكثر موضوع في القرآن ـ وهو الذي له النصيب الأكبر من الذكر ـ إنما هو موضوع الآخرة والحشر والحساب والجزاء والجنة والنار؛ لأن هذا الأمر هو سر النجاة أو الخسران.
كيف ـ يا عباد الله ـ لا ينزجر من لا يحافظ على الصلاة في المساجد؟! وكيف لا ينزجر أولئك الواقعون في المنكرات والمستهينون بأوامر الله تعالى ونواهيه وهم يقرؤون عن أصناف العذاب الأليم؟! كقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:56].
إنّ عذاب الآخرة لا يطاق، فهو مذلٌ لصاحبه، ملازم لا يفتر ولا يهدأ ولا يتوقّف ولا ينقطع، لا محال للخلاص منه، والموت يصير أمنية المعذبين، وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77]. إنّ الذي يتولى مهمة التعذيب ليس آدميًا يفتر ذراعه من السوط، ولكنهم مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
أما حرارة نار الآخرة فيخبرنا بذلك رسول الهدى : ((ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم)) ، قيل: يا رسول الله، إن كانت لكافية! قال: ((فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا، كلهن مثل حرها)) رواه الشيخان.
إن للعصاة أن يتصوروا عظمة النار التي تلقى فيها الشمس الملتهبة فتضيع فيها، ثبت في البخاري عن أبي هريرة مرفوعًا: ((الشمس والقمر ثوران مكوران في النار يوم القيامة)).
أيها المسلمون، أين الذين لا يعبؤون بأكل الحرام وشربه؟! أين هم عن طعام أهل النار وشرابهم؟! لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية:6]، فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة:35، 36]، والغسلين هو عصارة أهل النار من الدم والقيح والصديد.
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:15-17]، وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29]، وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15].
أين الذين يسخرون من حكم الإسبال ويظنون أن قضية اللباس ليست من الدين؟! وأين النساء اللواتي كشفن ما أمر الله بستره برضا أوليائهن؟! أين هؤلاء كلهم من وصف الله لثياب أهل النار المخالفين شرع الله في الدنيا: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج:19-21]، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ [إبراهيم:49- 51]؟!
أين نحن ـ يا عباد الله ـ من عمق النار، وقد بين لنا ذلك رسول الله في قوله: ((لو أن حجرًا مثل سبع خلفات ـ أي: بحجم سبع نوق حوامل ـ ألقي عن شفر جهنم هوى بها سبعين خريفًا لا يبلغ قعرها)) رواه الحاكم وأبو يعلى وهو صحيح.
أيها الإخوة المؤمنون، إن أي عاقل لا بد أن يفكّر في مصيره المحتوم، ثم ليختر لنفسه ما يشاء، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
(1/3185)
ثلاث قضايا عن الإسلام
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي, القتال والجهاد, المسلمون في العالم, مذاهب فكرية معاصرة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
13/6/1414
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لماذا لا يلتزم الناس بالإسلام؟! 2- ادخلوا في السلم كافة. 3- من أمراض القلوب اليأس من نصرة الدين. 4- الأمة الإسلامية أمة علماء. 5- صور من بلاء العلماء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فهذه ثلاث نقاط تدور حول بعض قضايا هذا الدين:
القضية الأولي: وهو سؤال: لماذا لا يلتزم الناس بالإسلام؟!
ولا أريد أن يكون جواب هذا السؤال بأن بُعد الناس عن الدين هو بسبب الانحرافات التي طرأت على الفطرة، وأن هناك جهودًا ضخمة تصرف من قبل جهات كثيرة في صرف الناس عن دينهم، فاليهودية العالمية تعمل، والنصرانية تعمل، والعلمانية تعمل، ومؤسسات ضخمة في داخل العالم الإسلامي وخارجه تنفق سنويًا المليارات لصد الناس عن الإسلام، فإني لا أريد الكلام في هذا الجانب، وإن كان جانبًا مهمًا يستحق أن يسلَّط عليه الضوء وأن يفرد بخطب مستقلة، لكن كلامي سينصب على الأفراد وهو نحن: أنا وأنت وأخي وأخوك ومن حولنا من الناس.
لماذا الكثير من الناس لا يريد الالتزام بالإسلام مع أنه ليس عن جهل؟! فغالبنا يعرف الكثير من أحكام الشريعة، لكن لا يلتزم ولا يطبق ولا يمتثل، إنها شهوات النفس القاتلة، إنها النفس الأمارة بالسوء وضعف الوازع الديني وقلة الخوف من الله.
لماذا لا يلتزم الناس بالإسلام؟! لأن نفسه تميل لأشياء معينه، رغبات وشهوات، نفسه تريد بعض الأشياء والإسلام يحرم عليه هذه الأمور، فلا يلتزم بالإسلام. وهذه مشكلة هي أيها الإخوة: أن نعرف ماذا يريد الله منا ونعرف ماذا أمرنا رسول الله ثم لا نفعل ولا نمتثل.
أيها المسلمون، إن نفوسنا إذا كانت تتحكم بنا وتلعب بنا إلى هذا الحد فستوردنا المهالك.
أيها المسلمون، هناك حد أدنى من الإسلام لا يقبل الله من أحد أقلّ من ذلك، وهذا الحد الجميع يمكن أن يأتي به، العالم والمتعلم والجاهل والقوي والضعيف والغني والفقير على حد سواء.
الحد الأدنى من الإسلام، وهو الإتيان بما أمر الله من الواجبات، وترك ما نهى الله عنه من المحرمات والمنهيات. هذا الحد لا خيار لأحد في الالتزام به من عدمه، ولو اكتفى الناس بهذا وحتى لا نكون متفائلين كثيرًا، معظم الناس لو اكتفى من الدين بهذا لحصل خير كثير فعلُ الواجبات وترك المحرمات، لكن الحاصل هو العكس: ترك الواجبات وفعل المحرمات من الغالبية إلا من رحمه الله. ولهذا لا يلتزم الناس بالإسلام، حتى لو أراد الشخص الالتزام بأوامر الدين فإنه لا يجد من يشجعه على ذلك، التيار الذي حوله يكونُ ضده في الغالب.
أيها المسلمون، يقول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208]، يأمرنا الله تبارك وتعالى في هذه الآية أن ندخل في السلم كافة، والسلم هو الإسلام، أي: ادخلوا في الدين بكافة أنفسكم، بكل جزئية من جزئيات حياتكم، فإن أي جزئية منكم لا تدخل في الدين فإنما هو صيد يتصيده الشيطان. لا يصلح أن تكون جزئية منك داخل الإسلام وأخرى خارجة عنه، لا يصلح أن تكون مسلمًا في جانب وتخالف تعاليم الشرع في جانب آخر.
وعلى رغم بساطة هذا المفهوم ووضوحه إلا أن الغالبية العظمى من الناس بعيدة في واقعها عن هذا المفهوم. فلا يصلح أن تكون مسلمًا في الصلوات فتصلي وتخالف الإسلام في المعاملات فترابي مثلاً، هذا الإنسان لم يلتزم بالدين ولم يدخل في السلم كافة. لا يصلح أن تكون حريصًا على العمرة والحج ولا تحرص على تنقية أموالك من أكل الحرام وهكذا.
تأتى وتكلّم إنسانًا حول أمر هو يخالف تعاليم َالشرع فيه، فيقول لك: وما دخل الدين بهذا؟! ما علاقة الدين بخروج المرأة؟! ما علاقة الدين بالتصرفات الشخصية؟! إذًا فعلاقة الدين بماذا؟!
صار قوم من الناس يجادل في كل شيء، شأنهم شأن قوم شعيب عندما كانوا يجادلونه، يقول الله تعالى: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ [هود:87]، وهذا هو كلام الكثير من الناس اليوم: هل هذه الصلاة تأمرنا أن لا نتصرف في أموالنا وحلالنا ما نشاء؟!
فاتقوا الله أيها المسلمون، وادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، إنه لكم عدو مبين.
القضية الثانية: ولها علاقة بالتي قبلها من وجه، وهو أن الإسلام قادم، وهذا الدين سوف يُظل هذه البسيطة، الإسلام قادم ومنتصر إن شاء الله، نقولها تحقيقًا لا تعليقًا، فهؤلاء الذين لا يريدون الالتزام بالإسلام نقول لهم ولغيرهم: إن التيار القادم، التيار الذي سوف يكتسح الواقع هو تيار الإسلام، فأنتم مع من ستقفون؟! الذين يحاربون الشريعة علانية والذين يقاومون الإسلام صراحة والأعداء المعلنين، هؤلاء موقفهم واضح من الإسلام الآن أو بالأمس أو غدًا، لكنّ المنتسبين للإسلام ولا يريدون الالتزام به هؤلاء الذين يجب عليهم أن يحددوا مواقفهم.
أيها المسلمون، ومما يتعلق بقضية قدوم الإسلام أن بعض الناس أصابه اليأس تجاه هذه القضية، يقول: سمعنا الكثير والكثير عن انتصار الدين، وأن المستقبل لهذا الدين، ونحن نرى القوة والمال والسلاح والعلم المادي كله في يد أعدائه، والمسلمون ما يملكون من هذا شيئا، ويقولون: إن العرب قد انهزموا في معاركهم مع اليهود وهم عدد قليل، فكيف ينتصرون على القوى العالمية الكبرى التي تملك العتاد والبشر والتقنية؟!
وهذا مع كل أسف هو منطق الذين غاب عن وعيهم روح الإيمان، فصاروا يحاكمون الأمور إلى الأصول المادية البحتة. إن هذا منطق ضعافِ الإيمان، أولئك الذين لم يطّلعوا على نصوص القرآن والسنة التي تبشر بانتصار الإسلام.
ثم حتى من النظر المادي فإن من طبيعة هذا الكون ومن النواميس الكونية المركبة فيه أن حياة الأمم والأفراد لا تستقرّ على حال، وأن حركة التاريخ البشري لا تتوقف، فنحن نسألهم: متى انتهت النوبة إلى أمة من الأمم ثم لم تنتقل إلى غيرها؟! هذا لم يحدث قط، بل إن الأيام دول كما قال تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].
يقول الشاعر وهو يصف إقبال وإدبار الأيام:
ملَكنا أقاليم البلاد فأذعنت لنا رغبةً أو رهبة عظماؤها
فلما انتهت أيامنا علقت بنا شدائد أيام قليل رضاؤها
وصرنا نلاقي الغائبات بأوجهٍ رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها
إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت علينا الليالي لم يدعنا حياؤها
أيها الأحبة في الله، وما يتعلّق بقضية انتصار هذا الدين. إن أعداء هذا الدين أيًا كانوا ودون تفصيل هم يحاربون من؟ إنهم يحاربون الله، وهل يستطيع أحد محاربة الله؟! مسكين هذا الذي يحارب الله، مسكين هذا الذي يفكر أن يضيق على شريعة الله، هذا جدير به أن يفكر في نفسه ويتأمل ويقلب بعض صفحات التاريخ ليعرف مصير الذين حاولوا محاربة دين الله؛ ماذا حصل لفرعون؟ وماذا حصل لقارون؟ وكيف كانت نهاية أبي جهل وأمية بن خلف وغيرهم وغيرهم؟
مَن ذلك الذي حاول أن يخفي دين الله في مكان ثم نجح؟! من الذي خطّط ودبّر لحجر دعوة الله في زاوية ثم تحقق له ما يريد؟! لا أحد، ولن يوجد أحد.
إن الدول الضخمة الآن والتي تملك من الإمكانيات ما تذهل العقول عجزت عن السيطرة من أن ينتشر الإسلام في بلادها، فكيف يمكن محو الإسلام أو حجر الإسلام في أرضه التي نزل فيها، وعلى ترابه الذي وطئته أقدام أنقى وأطهر الخلق بعد الأنبياء والرسل وهم صحابة رسول الله ؟!
وإني ـ أيها الإخوة ـ كلما سمعت في إذاعة أو قرأت في صحيفة أو مجلة عن الجهود التي تبذل لصد الناس عن دين الله وعن الأموال التي تنفق في سبيل ذلك تذكرت قول الله جل وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36]، ويقول جل وتعالى أيضًا مبينًا ضعف كيد الكفار وأعوانهم وضلال سعيهم، يقول سبحانه: ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ [الأنفال:18]، ويقول جل وتعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق:15-17]. فمهما كاد هؤلاء لدين الله ومهما بذلوا لمحاربته فالله لهم بالمرصاد، فهم أعداء الله قبل أن يكونوا أعداءنا نحن المسلمين.
فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: القضية الثالثة من جملة قضايا هذا الدين أن هذه الأمة أمة العلماء، تمتاز هذه الأمة دون سائر الأمم ويمتاز الإسلام دون سائر الأديان بالعلماء، علماء ربانيون مخلصون، يقدمون العلم والخير والإرشاد والبيان للناس في كافة شؤون حياتهم.
ما إن تقع الأمة في مشكلة أو ينزل بها مصيبة إلا تجد هناك من العلماء العاملين المخلصين من يبينون الحق للناس في هذه القضية أو تلك النازلة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يخفى الحق على الجميع.
فنقول: إن هولاء العلماء حفظوا للناس شريعة الله، أعطاهم الله عز وجل من العقل والفكر والمعرفة والحفظ والضبط ما حار أمام ما قدّمه واحد من علماء ومفكري الغرب أجمع، انظر مثلاً إلى إلى تراث ابن حجر هذه العقلية الجبارة العجيبة، أو شيخ الإسلام ابن تيمية أو تلميذه ابن القيم أو غيرهم، وهم كثير علىمدى تاريخ هذه الأمة.
فأعود وأقول: إن هذه الأمة أمة العلماء، وحب الناس وتقديرهم وتوقيرهم لعلمائهم أمر مركوز في قلوب المسلمين، فالناس كانوا وما زالوا يحبون ويجلّون علماءهم، يفرحون بفرحهم ويحزنون بحزنهم، وهذه أيضًا ميزة في هذا الدين. فمهما حاول العدو تشويه سمعة بعض العلماء أو الطعن فيهم فإن كيده في تباب.
أيها المسلمون، إن هذا المعين لا ينضب، وإن هذا النهر لا يجف، فالأمة في كل فترة من فتراتها يوجد وسيوجد بها علماء ودعاة مخلصون ربانيون.
ما الذي جعلني أقول هذا الكلام؟ هو ما سمعته من البعض من خوفهم على الإسلام، إذا سمعوا بموت عالم، أو بقتل عالم، أو بحرق بعض العلماء، كما حصل في بعض الأمكنة. أبدًا لا خوفَ على الإسلام حين يُنكّل بعلمائه، الخوف علينا نحن، وإلا فالإسلام دين الله.
فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فعِل به ما فعل، حتى مات رحمه الله في السجن، وقبله إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، سجن وجلِد وضرب، وفعل به ما فعل، ومن بعدهم سيد قطب رحمه الله تعالى، قتِل شنقًا، وعلّق على أعواد المشانق، وهناك من طُرد من بلدِه، وعاش غريبًا بعيدًا عن أهله وبلده، ومات ودفن في أراض لم يتوقّع هو أن تطأها قدمه في يوم من الأيام، وقبلهم رسول الله ، وما لاقى من الأذى من قومه وقبيلته وعشيرته.
فالقافلة سائرة، وهذه الأمة أمةٌ ولود، كلما نُكِل بعالم من علمائها رزق الله هذه الأمة بعالم آخر، وإن الأمة لا يصيبها العقم أبدًا.
لئن عرف التاريخ أوسًا وخزرجًا فللّه أوس قادمون وخزرج
وإن سجون الغيب تخفى طلائعًا مجاهدة رغم الزعازع تخرج
فليمت أعداء الدين غيظًا وغمًا، وليفعلوا ما بدى لهم أن يفعلوه، فإنّ الخير باقٍ في هذه الأمة حتى قيام الساعة، قال رسول الله : ((مثل أمتي مثل المطر لا يدرَى أوله خير أم آخره)).
تشابه يوماهُ علينا فأشكلا فما نحن ندري أيّ يوميه أفضل
يومُ بداءِ العمر أم يومُ يأسِه وما منها إلا أغزٌّ مجهل
وإن الإمة متفائلةٌ ـ في وسط هذا الكيد الذي في بعض مناطقها لا مثيل له في التاريخ ـ أن يخرج أمثال شيخ الإسلام والإمام أحمد، فيلتفّ الناس حولهم، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ [الروم:4-5].
اللهم استعملنا في طاعتك ولا تستعملنا في معصيتك.
(1/3186)
شبح الحرب
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
23/10/1423
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- آثار الحروب. 2- تعريف الحرب البيولوجية وبيان آثارها. 3- حرب المعلومات. 4- أنواع الحروب. 5- اجتماع اليهود والنصارى لمحاربة المسلمين. 6- سلسلة الحرب على الإسلام. 7- أسباب النصر. 8- نصائح وتوجيهات للأمة في الأزمات. 9- مهمة العلماء في الأزمات والمدلهمات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن أكثر كلمة تخيف الشعوب والدول هي كلمة الحرب، هذا الشبح الذي يخيّم على سامعه جوًا يتخيّل بسببه الدمار للبيوت والدماء والأشلاء المتقطعة للبشر، فهذا بيت قد سقط برمّته على ساكنيه، وتلك طفلة تبكي وقد مات أهلها، وهذا شيخ عجوز قد وضع أمتعته على ظهره وهو يحاول النجاة والهرب والقنابل تتساقط بجواره، مصانع تدمر ومنشآت تحرق، ومناظر أخرى تدمي القلب وتُحزن الفؤاد.
أيها المسلمون، لقد تنوّعت صور الحروب في هذا العصر، فبعد أن كانت أدوات الحروب الخيل والسيف والقوس والرمح، أصبحت البشرية اليوم تعاني أنواعا من الحروب مخيفة مرعبة، تهلك الحرث والنسل، وتبيد الناس كالحشرات، وتبقى آثارها لعشرات من السنين، وتظهر في أجيال لم تولد بعد. فظهر ما يسمى مثلاً بالحرب البيولوجية، وهو استخدام عسكريّ للكائنات الحية المجهرية مثل البكتيريا أو الفطريات أو الفيروسات بقصد إحداث الأمراض الوبائية أو الموت للإنسان أو الحيوان أو المحاصيل.
وتستخدم العناصر البيولوجية أيضًا لإصابة جنود العدوّ بالمرض لشلّ قدرتهم على القتال، أو إتلاف مخزون العدو من الأغذية. وتعتمد القدرة التدميرية للميكروبات على قدرتها الهائلة على الانقسام حيث تنقسم الجرثومة الواحدة إلى ملايين من مثيلاتها في اليوم الواحد. ويوجد عدة أنواع من الجراثيم التي تصلح للاستخدام سلاحًا بيولوجيًا منها الجراثيم المسببة لوباء الجدري والطاعون والكوليرا وشلل الأطفال والحمى الصفراء وغيرها.
وعدد من الدول تستخدم هذا النوع من الحروب لنشر هذه الجراثيم في صفوف العدوّ عن طريق نشرها في الهواء على شكل ضباب أو دخان عن طريق راجمات الصواريخ أو طائرات الرش أو قذائف المدفعية أو تلويث المياه أو الأغذية بهذه الجراثيم، كما يقومون بإسقاطها خلف صفوف العدو بين المدنيين على شكل لعب أطفال أو أغذية أو عملات معدنية وغيرها.
وهذا النوع من السلاح ليس جديدًا، فالدول الغربية النصرانية لها السبق في هذا الإجرام، فقد نشر الأوربيون وباءَ الجدري والحمى بقصدٍ بين صفوف الهنود الحمر السكان الأصليين لأمريكا للقضاء عليهم في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلادي.
وفي القرن العشرين استخدم السلاح البيولوجي في عدد من الحروب، فاستخدمته ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، ونشرت اليابان وباء الطاعون خلال الحرب العالمية الثانية في عدد من المدن الصينية عن طريق إنزال كميات من الجرذان المصابة بالوباء بواسطة المظلات، مما أدى إلى مقتل عدد كبير من الناس. والولايات المتحدة قد استخدمت السلاح البيولوجي ضد كوريا الشمالية والصين خلال الحرب الكورية، وأيضًا في فيتنام. والاتحاد السوفيتّي استخدم الأسلحة البيولوجية ضد أفغانستان خلال احتلاله لها في عقد الثمانينيات من القرن الماضي. ونُشر وقتها بأن النظام العراقي قد استخدم السلاح البيولوجي إلى جانب السلاح الكيميائي ضد الأكراد في حلَبجة عام 1988م. كما فجرت بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية قنبلة محشوة بجراثيم الجمرة الخبيثة في جزيرة أسكتلندية على سبيل أنه من تجاربها على الأسلحة الجرثومية، مما أدى إلى مقتل كثير من الحيوانات والنباتات.
وبعدما أدركت معظم الدول خطورة هذه الأسلحة على البشرية تم التوقيع في جنيف عام 1972م على اتفاقية دولية تحرّم استخدام الأسلحة البيولوجية، وتمنع إنتاج أو امتلاك أو استخدام مثل هذه الأسلحة، إلا أن الاتفاقية لم تتضمن إمكانية التفتيش على الدول الكبرى المصادقة عليها. ويعتقد عدد من المحللين الغربيين أن عددًا من الدول الموقعة على اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية تمتلك هذا السلاح بل وتستخدمه، تأتي في مقدمتها الولايات المتحدة التي تمتلك أكبر ترسانة من هذه الأسلحة وإن كانت تزعم أنها مخصّصة فقط للأغراض البحثية والدفاع عن النفس، ومثلها بريطانيا وفرنسا والصين وروسيا وكوبا والعراق وإيران وليبيا وإسرائيل، ودول أخرى مشكوك في امتلاكها للسلاح البيولوجي منها كوريا الشمالية ومصر وسوريا والهند وتايوان.
أيها المسلمون، إن مما يعزز المخاوف من خطر الحرب البيولوجية هو الدمار الشامل الذي يمكن أن تحدثه لشعب بأكمله قبل أن يكون لديه الوقت الكافي للدفاع عن نفسه، بخلاف الحرب التقليدية التي تستخدم فيها القنابل المتفجرة ويكون دمارها فقط على الذين تقع فوق رؤوسهم، أو حتى الحرب الكيميائية التي تصيب منطقة معينة وتتحكم عوامل الطبيعة في مدى اتساع المنطقة التي تجتاحها.
ومن أخطر ما تتميز به الأسلحة الجرثومية مقارنة بغيرها من الأسلحة هو استيطان هذه الجراثيم المنطقة الملوثة بها، ومكثها مدة طويلة تصل إلى عشرات السنين.
أيها المسلمون، وهناك أيضًا ما يسمّى بحرب المعلومات، إن العالم لم يعد يُدار بالأسلحة فقط، بل صار يدار بالأرقام والأصفار الصغيرة، إن هناك حربًا تحدث الآن، إنها ليست لمن يملك أكثر رصاصًا، إنها حول من يسيطر على المعلومات، والبشرية اليوم قد غدت في طور جديد ومرحلة لها طابعها الخاص وخصائصها المميزة. ويعتقد كثير من المحللين أننا دخلنا بهذه المواجهة نوعًا جديدًا من حرب المعلومات، فمن طائرة مزودة بأحدث ما وصلت إليه التقنية في مجال الاستطلاع والتجسس، بداخلها فريق عمل له القدرة على التقاط هذه المعلومات، أو بصورة أدق البيانات ثم تحليلها وغربلتها لاستنتاج الخطوط العريضة، وتفاصيل دفاعات الطرف الآخر. ثم تندلع بعدها حرب الفيروسات واختراقات أنظمة المعلومات على الإنترنت بين الطرفين التي لا زالت تتوالى فصولها حتى اليوم.
وهناك أيضا الحرب الاستخبارية، والحرب الإلكترونية، وحرب العمليات النفسية، وغيرها من الحروب التي نسأل الله جل وتعالى أن يكفي بلاد المسلمين شرها وخطرها.
أيها المسلمون، إن كل حرب في التاريخ لها هدف ظاهر أو خفي، حقًا كان أو باطلاً، وبهذا تجري سنة التدافع قدرًا وشرعًا، حتى تضع الحرب أوزارها، قال الله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ [البقرة:251].
وثمة فساد عريض في الأرض اليوم لا مناص من جريان سنن الله القدرية والشرعية لاستنقاذ الإنسانية منه بدفع أهل الإيمان على أهل الطغيان، وإلاّ فسدت الأرض أكثر وأكثر. ولا إفساد اليوم أكثر من إفساد كفار بني إسرائيل، من يهود ونصارى، ذلك أن طوائف من النصارى قد لحقت حكمًا باليهود في اعتقادهم وإفسادهم منذ زمان، بل كادوا يسبقون اليهود في العلو في الأرض فسادًا، أولئك هم طوائف الإنجيليين الصهيونيين النصارى الذين صنعوا على أعينهم الصهيونية اليهودية في القرون المتأخرة.
إنّ هناك عددًا من الحقائق الماثلة اليوم تستحق النظر والتأمل فيما يحدث من تواطؤ وتطابق بين الطائفتين المتزعمتين للفساد في الأرض عامة، وفي بلاد المسلمين خاصة، من ذلك أن نصارى الغرب هم أسبق من اليهود في اعتناق المذهب الصهيوني في العصر الحديث، هؤلاء النصارى هم الذين أقنعوا اليهود وذكّروهم ونظَّروا لهم لكي يتجمعوا في فلسطين، وهم الذين خططوا ونفذوا مشروع توطينهم فيها، وتكفلوا بحمايتهم ما بقيت دولتهم.
هؤلاء النصارى هم المسؤولون عن إبقاء الأمة الإسلامية في انشغال دائم بما يُدخلونه عليها من فتن وحروب، ونزاعات بسبب الحدود المصطنعة والعناصر والزعامات العميلة، وذلك عبر سلسلة طويلة بدأت في العصر الحديث بإسقاط الكيان السياسي العالمي الأخير للمسلمين ـ الخلافة العثمانية ـ والحيلولة دون إقامتهم كيانًا عالميًا آخر، باستخلافهم بعد الاستعمار لشرائح من المنافقين في أكثر ديار المسلمين، لضمان عدم نهوض الأمة بالإسلام مرة أخرى.
إنها حرب سافرة تعلنها الدول الغربية على الإسلام اليوم، لا يحجبها هذا التلاعب بالألفاظ مثل استخدام هذه الكلمة التي أصبحت ممجوجة: الإرهاب، كي لا يقال إنهم يحاربون الإسلام، إن المتابع لمؤتمر حلف الأطلسي الأخير الذي عقد من أجل قبول أعضاء جدد يجد ملامح هذه الحرب ظاهرة عادية تتبارى دول هذا الحلف في التبشير بها والاحتفال بالإعلان عنها، بل وتتسابق الدول الأخرى التي تطمح إلى الانضمام إلى بوتقة هذا الحلف بإظهار النفاق والمزايدة، والهروب بمراحل إلى الأمام لإعلان الحرب على الإرهاب، أي: الإسلام.
لقد أصبح الإرهاب والإسلام مترادفين، كما هو الواضح من تصرفات الدول الغربية وتصريحات ساستها، ولأمر ما تتهرب من الجلوس مع من يطالبها بتحديد مدلول هذا المصطلح اللزج، والاتفاق على تعريف جامع مانع له. وهذا أمر مقصود للهروب من المسؤولية أولاً، ولإطلاق العنان لقوى كثيرة غاشمة لتصفي حساباتها مع المسلمين، وهي بمنجاة من المساءلة والاعتراض ثانيًا.
أيها المسلمون، إن الكوارث العظام التي تصيب البشرية إنما هي نتيجة الظلم والفساد في الأرض، قال الله تعالى: قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ويُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [الأنعام:65]، وعند نزول الكوارث العظام لا بد من الرجوع إلى القرآن الكريم الذي يقول لنا: قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ، وإذا رجعنا إلى التاريخ الحديث سيتبين لنا كيف هو من عند أنفسنا.
لقد وقعت الكارثة الأولى للمسلمين عندما استطاع أعداء الإسلام هدم الخلافة الإسلامية عام 1923م، وقد ساعد فريق من العرب الإنجليزَ في الحرب العالمية الأولى، ساعدوهم على ضرب الأتراك طمعًا في دولة عربية، فكانت العقوبة أن عاش العرب تحت حكم الإنجليز والفرنسيين عشرات السنين. وجاءت الكارثة الثانية عام 1948م بإنشاء دولة إسرائيل على أرض فلسطين، فقامت على إثر ذلك انقلابات وثلت عروش، ولكن الناس اتجهوا إلى القومية العربية والوطنية والاشتراكية، وما زالوا في هذا التخبط إلى أن جاءت الكارثة الثالثة عام 1967م حين احتلت إسرائيل سيناء والضفة الغربية والجولان في الساعات الأولى من الحرب، وكانت صدمة عنيفة للناس.
لماذا يخاف البعض من اليهود والنصارى، وقد أثبتت الأحداث القديمة والجديدة أنهم أضعف مما نتصور؟! ورغم امتلاكهم للأسلحة المتطورة فإن عنصر الإنسان يبقى له دور مهم، وهؤلاء يعتمدون على التقنية، لأنهم لا يملكون الإنسان الجاد، وهذا يؤكّد لنا مرة أخرى أن المشكلة ليست في صعوبة مواجهة الكيان الصهيوني أو النصراني، بل في النية أصلاً لمواجهته.
أيها المسلمون، إن شبح الحرب في هذه الأيام مقلق للجميع، ولا أحد يدري ماذا في علم الغيب، لكن الله جل وتعالى أراد أن يكشف ما كان مستورًا، وهو التعصب النصراني والحقد الصليبي وكره الإسلام والمسلمين الذي كان مغطى بقشرة رقيقة من الحرية والديمقراطية، فهل من مدّكر؟!
لقد أثبت التاريخ أن العرب إذا لم يهتدوا بهدي الإسلام الذي يغيّر من تركيبتهم الداخلية ويصوغهم صياغة جديدة فإنهم سيعيدون حرب البسوس وداحس والغبراء التي يفنى فيها المال والأهل والولد. لقد قامت حرب البسوس بين ربيعة وبَكر لأسباب تافهة، من أجل ناقة جرباء ولم تنته إلا بعد أربعين عامًا. وإن الذين يراهنون على المد القومي يثبتون أنهم أغبياء للمرة الثانية، فليس هناك إلا الله أو الدمار.
إن الأمة الإسلامية تعيش هذه الأيام حالة من الاستنفار لم يسبق أن عاشتها في أزمنتها الأخيرة، كرد فعل على ما يمارس في حقها تحت شعارات تعددت أسماؤها وتلونت راياتها واتحدت أهدافها وغاياتها، فما كان مخبوءًا انكشف أمره، وما كان تورية انكشف عواره، لقد تقطعت الحجب، وانقشعت السحب التي كانت تلف جميع تلك الشهب، ولم تعد الأمور تنطلي حتى على الغافلين والمغفلين من أبناء هذه الأمة، الذين تصوروا ردحًا من الزمن أنه من الممكن أن يعيشوا وسط قرية عالمية، ملؤها المحبة والإخاء والمودة والعدل والمساواة، والكل سينهل من معين الديمقراطية، ويَغرف من زلال حقوق الإنسان، وينعم بخيرات حرية التجارة مهما تنوعت ثقافاتهم وتعددت أعراقهم وألوانهم. فكل هذه الفقاعات ذهبت وبان كذب مدّعيها.
إن استخدام القوة والتعدي على دول المنطقة يعيد إلى الأذهان الحملات الصليبية وحقبة الاستعمار، حينما كانت الجيوش المستعمرة تعيث بصلف في آسيا وأفريقيا، تستذل الشعوب وتستنزف الخيرات. وكما أن تلك العهود فتحت أبوابًا من الجهاد والمقاومة العادلة، وانتهت بدحر قوى الشر الصليبية المعتدية المتجبرة، فكذلك كل بادرة عدوان على الأمة أو استخفاف بها سوف تفتح أبوابا من الجهاد والمقاومة الشرعية العادلة التي ستنتهي بدحر قوى الشر الغازية من صليبية وصهيونية بإذن الله عز وجل.
وما ذلك على الله بعزيز، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن قدر المسلمين أن يكونوا أصحاب رسالة تتعقّبهم القوى الباغية وما أكثرها، وتضع في طريقهم العراقيل، لتحدّ من طموحهم، وتعمل على إعاقتهم وإضعافهم وإفقارهم وإشغالهم بأنفسهم، ومن عادتهم أن يتقبلوا ذلك بما يناسبه من الجهد والتحدي والرضا بقضاء الله وقدره، وبمثل هذه العقيدة التي لا يفهمها أعداء الإسلام ولا يعرفون طعمها نشر المسلمون دينهم في الدنيا ولا يزالون، وصمدوا أمام الروم والفرس فهزموهم، وتصدوا للصليبيين والتتار، فمنهم من اقتلعوه من أرضهم، ومنهم من استوعبوه. وواجهوا الاستعمار الغربي ونازلوه حتى حمل عصاه وارتحل، وصبروا للظلم الشيوعي الذي عجز عن إبادتهم وقد أراد، وأفشلوا العلمانية اللادينية، وأوصلوها إلى جدار مسدود ترفع يديها طالبة الغوث بكل ذلة وصفاقة من الدول الغربية، وهم يتصدون للصهيونية بما هو معروف ومشاهد في فلسطين هذه الأيام.
إن المسلمين أمة مجاهدة، وقد أثبتت تجارب التاريخ، البعيد منه والقريب أنهم يهون عليهم كل شيء في سبيل أن يبقى لهم دينهم الذي هو روحهم وعنوان وجودهم، وأنه لا شيء يجمعهم ويحشد طاقاتهم ويستنفر جهودهم مثل التعرض لهذا الحمى المنيع حمى الإسلام، فأين هؤلاء الذين تترنح نفوسهم بنشوة القوة وحب الهيمنة عن هذه الحقيقة البسيطة؟!
إن الغرب اليوم يستهين بالمسلمين استهانة غير مسبوقة، وتستفز مشاعرهم على جميع المستويات الرسمية والشعبية، وتعلن عليهم حربًا سافرة بلا قناع، حيث تستخدم هذا القناع الشفاف الذي تتستر به، قناع "الحرب على الإرهاب"، وقد جرّب غيرها كل أنواع الحروب، سافرة ومقنّعة ضد المسلمين، فلم يحققوا ما أرادوا لجهلهم بالعوامل التي يستمد منها المسلمون ثباتهم وصبرهم، وبالعناصر التي تؤلف سر قوة الإسلام واستعصائه على المقارنة بالمبادئ الأرضية الأخرى.
فلسنا كالنازية ولا الشيوعية، نحن عقيدة حية تسكن نفوسًا لا يمكن القضاء عليها بالتهديد أو باستخدام العنف، ونحن أمة تجمع شعوبًا كثيرة ذات أعراق ولغات مختلفة ولكنها كلها تنطق بـ: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والله أكبر، أكبر من كل كبير، وأعظم من كل عظيم، وأكثر جبروتًا من كل جبار متغطرس.
إن المسلم العادي الذي يجد يديه مكبلتين عن الحركة، بينما يجد حواليه الظلم قد تجاوز كل حد، والعدوان قد انطلق لا يردعه شيء، يحز في نفسه أن يصبح هدفًا لكل قوى الشر في هذا العصر، لكنه يطمئن إلى أن الله معه ولن يتخلى عنه، تحقيقًا لقوله عز وجل: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ [الأنبياء:11]، وقوله سبحانه: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58].
أيها المسلمون، إن المنطقة مقبلة على أزمات وكوارث وربما حروب، لذا يتعين أن نذكّر المسلمين أفرادًا وعلماء بعدد من القضايا:
أما ما يجب على الجميع فأولاً: العودة الصادقة إلى الله تبارك وتعالى ولزوم شرعه والتوبة النصوح إليه من جميع الذنوب والمعاصي الفردية والجماعية عملا بقول الله تعالى: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام:43].
ثانيًا: اليقين بنصر الله لعباده المؤمنين، كما قال تعالى: إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ [الشعراء:172، 173].
ثالثًا: وحدة الكلمة ونبذ الشقاق وتغليب مصالح الأمة، والحفاظ على وحدة البلاد التي بها تحفظ الحرمات ويعم الأمن وتقام بها الشعائر وتتحقّق مصالح المسلمين، فإن الخير في الوحدة والائتلاف، والشر في الفرقة والاختلاف، كما قال تعالى: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، ومن المعلوم أن تفرّق الأمة إلى شيع وأحزاب متناحرة يتيح للعدو استغلال بعضها ضد بعض.
أما العلماء والدعاة والمفكرين فهم الذين يوجّهون الأمة في الأزمات ويكشفون لها ما التبس عليها من الحق، وغيابهم عن الأحداث هو غياب للحق الذي معهم وغياب للعقل والحكمة. وإن من واجبهم الذي يُنتظر منهم في هذه مثل هذه الأيام:
أولاً: الاستمساك الذي لا تردّد فيه بكلام الله سبحانه وسنة رسوله وأخذ الدين بقوة.
ثانيًا: إشاعة الاعتدال في الأمة والتوسّط والتسامح القائم على الفهم الصحيح لرسالة الإسلام، وإبراز ثوابت الأمة ومجالات الاختلاف والتنوع، حتى لا يبغي بعض الأمة على بعض.
ثالثًا: القيام بواجبهم الشرعي في تثبيت الأمة وتبصيرها بدينها وبما يحاك ضدها، والقيام بواجب النصيحة والدفاع عن قضايا المسلمين.
رابعًا: الاجتهاد في تقديم الحلول الشرعية فيما ينزل بالأمة من مستجدات ونوازل والمبادرة في ذلك.
أيها المسلمون، إننا نهيب بالمنصفين ومحبي الحق والعدل وأنصار السلام في العالم أجمع من حكومات ومؤسسات وتجمّعات ومنظّمات حقوقية وأفراد أن يعبروا عن احتجاجهم على السياسة الغربية التي تقود العالم إلى صراعات تهدّد الأمن والاستقرار بكلّ وسائل التعبير الممكنة، وأن يظهروا رفضَهم لتلك السياسة التي تسعى إلى نشر الدمار في العالم، كما أننا نهيب بشكل خاص بأنصار العدل ومحبي السلام ومعارضي الحرب مؤسسات وأفرادًا أن يقفوا ضد أجنحة العنف والإرهاب من اليمين المتطرف وأنصار الإرهاب الصهيوني.
نسأل الله تعالى أن يتولى الأمة بحفظه، وينصرها على أعدائها، ويحفظ عليها دينها وأمنها، إنه سميع مجيب.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه...
(1/3187)
شرح حديث: ((لعن الله من لعن والديه))
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الكبائر والمعاصي, الوالدان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
23/5/1415
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف اللعن. 2- الملعونون في القرآن. 3- الملعونون في السنة. 4- شرح حديث: ((لعن الله من لعن والديه، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثًا، ولعن الله من غيرّ منار الأرض)).
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: روى مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه قال: قال رسول الله : ((لعن الله من لعن والديه، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثًا، ولعن الله من غيّر منار الأرض)).
اللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله جل وتعالى، فكل فعل ورد في حقّ صاحبه اللعن إما من كلام الله أو من كلام رسوله فيجب أن نعلم بأن هذا الفعل وهذا العمل مستقبح ومنكر ومحرم ولا يجوز فعله، إن لم يكن شركًا أو كبيرة من الكبائر.
وإليك أمثلة سريعة من كتاب الله جل وعز: قتل المؤمنين الأبرياء بغير ذنب: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء:93]. إيذاء الله ورسوله بأي صورة كانت: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [الأحزاب:57]. ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:78، 79]. الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23]. الكفر: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا [الأحزاب:64]. الظلم: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف:44].
ثم إليك أمثلة سريعة أخرى من كلام المصطفى : قال : ((لعن الله الراشي والمرتشي)) ، وقال: ((لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه)) ، وقال: ((لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، ولعن الله المتشبهات من النساء بالرجال)) ، وقال: ((لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها)) ، وقال: ((لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة)) ، وقال: ((لعن الله من سب أصحابي)) ، وقال: ((لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)).
إذًا فلنحذر ما ورد في حقه اللعن، ولنحذّر غيرنا أيضًا.
وحديث علي بن أبي طالب الذي قرأناه عليكم في مقدمة الخطبة هو ما سيتم التعليق عليه إن شاء الله تعالى.
((لعن الله من لعن والديه، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آذى محدثًا، ولعن الله من غير منار الأرض)).
الملعون الأول: ذلك الذي لعن والديه.
أيّ كرامة للإنسان الذي يلعن والديه؟! كيف لا يستحقّ اللعن من الله هذا الحقير المجرم الذي يلعن والديه؟!
عجيب أمر هذا الإنسان، وعجيب قسوة قلوب بعض البشر. وهذا الأمر لو لم يكن حاصلاً ما أخبر به الرسول ، نعم إنه يوجد من الأبناء من يشتم والديه، ويوجد من يقاطع والديه، بل جاءني مرة رجل في هذا المسجد بعد إحدى الصلوات وقال لي: أريد أن أتوب، فقلت له: إن باب التوبة مفتوح، لكن ما ذنبك؟ فقال: لقد ضربت والدي قبل الصلاة. لا حول ولا قوة إلا بالله.
فأقول عجيب أحوال بعض الناس، هذان الوالدان اللذان بسببهما كان وجودك، وعلى أيديهما ترعرعت وكبرت، وفي أحضانهما نشأت، يسهران الليل لترتاح أنت، يتعبان طوال النهار لتأكل وتشرب أنت، ينزعان ما عليهما لتلبس أنت، ثم يكون جزاؤهما أن يجدا منك السبّ والشتم واللعن، بئس الرجل أنت لو كان هذا حالك، كيف تريد من ربك بعد ذلك توفيقًا في عمل أو تجارة أو زواج أو أي أمر آخر وهذا حالك مع أقرب الناس إليك؟!
يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث، لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها، إحداها قوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة:92]، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه، الثانية قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [المزمل:20]، فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه، الثالثة قوله تعالى: أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14]، فمن شكر الله ولم يشكر والديه لم يقبل منه).
يقول عليه الصلاة والسلام: ((من صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه)) ، وليس في الوجود أحد بعد الله سبحانه أسدى إليك ـ أيها الإنسان ـ معروفًا أكثر مما أسدى إليك أبوك وأمك؛ فقد ربياك صغيرًا، وآثراك على أنفسهما كبيرًا، وكانا قبل ذلك السبب في وجودك وبروزك في الحياة شخصًا سويًا، فقد بذلا من أجلك الشيء الكثير، بذلا مهجهما وراحتهما ومالهما لإنعاشك وإسعادك. إن مرضت مرضا معك، وإن سهرت سهرا معك، إن حضرت خافا عليك، وإن غبت بكيا عليك.
فمن أجل هذا،ومن أجل أن توفّق لما أُمرت به من طاعة الله وبر الوالدين، فتسعد في دنياك وتنعم في أخراك، أمرك الله جل جلاله ببرهما والإحسان إليهما والعطف عليهما وخفض الجناح لهما والترحم عليهما ومخاطبتهما باللين والرفق واليسر والحسنى، ووصاك بهما تعالى توصية مُبَيّنة حكمتها، توصية تستجيش المشاعر وتهزّ القلوب: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]، وقال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14].
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وأطيعوه فيما أمركم من بر الوالدين وطاعتهما، فإن برهما وطاعتهما من أكبر القربات المقربة إلى الله، وعقوقهما وعصيانهما من أكبر السيئات المبعدة عن الله.
روى البخاري ومسلم رحمها الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله : أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) ، وعن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله : (( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاثًا، قلنا: بلى، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين ـ وكان متكئًا فجلس ـ فقال: ـ ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور)) ، فما زال يكرّرها حتى قلنا:ّ ليته سكت. رواه البخاري ومسلم.
فاتقوا الله عباد الله، بِرّوا تُبَرّوا، وأحسنوا يُحْسن إليكم، وأطيعوا الله في والديكم، يطع اللهَ فيكم أولادُكم، وإياكم ثم إياكم من لعن الوالدين، فإنه من موجبات لعن الله. نسأل الله السلامة والعافية.
والملعون الثاني: الذابح لغير الله تعالى.
إن الذبحَ لا يجوز أن يكون إلا لله، إن دم الذبيحة لا يجوز أن تُراق إلا لله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، وإنها من أفضل ما يُتقرّب به إلى الله جلّ وتعالى، ولا يجوز صرفُها لغيره، كمن ذبح لصنم أو لقبر أو للكعبة ونحو ذلك، فكلّ هذا حرام ولا يجوز، بل ولا تحل هذه الذبيحة.
فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله تعالى كان ذلك كفرًا، فإن كان الذابح مسلمًا قبل ذلك، صار بالذبح مرتدًا، والعياذ بالله.
وهذا الأمر ـ أيها الإخوة ـ موجود في بعض بلاد المسلمين، قرابين تقرّب لمقبورين، وطوائف من هذه الأمة ممن يَدّعون الإسلام دينهم، وهذه عقيدتهم، يذبحون لقبورهم أكثر مما يذبحون لله، أفلا يستحق هؤلاء اللعن من رب العالمين؟! كيف لا، وهم قد دخلوا في باب من الشرك لا يُدرى هل يخرجون منه، أم يموتون على هذه العقيدة الفاسدة.
فنسأل الله جل وتعالى أن يختم لنا بخاتمة السعادة، وأن يبصرنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فالملعون الثالث والذي تُوّعد بهذا الحديث هو ذلك الذي يأوي محدثًا: ((ولعن الله من آوى محدثًا)).
إن أصحاب البدع لا مكان لهم في المجتمع المسلم، وكما يقول ابن القيم: "وهذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه، فكلما كان الحدث في نفسه أكبر كانت الكبيرة أعظم".
إن الذي يتستّر على أصحاب البدع والمخالفات، هذا الإنسان قد ارتكب جرمًا عظيمًا في حق المجتمع المسلم، لذلك استحق اللعن.
إن تستره عليه وإيواءه يعني أنه راضٍ عما يصنع، هذا إذا كان مجرد إيواءٍ فقط، فما بالكم بمن يسهل هذه الأمور، ويدعم أصحابها بالمال، ويدافع عنهم، ولا يرضى بالتعرض لهم؟! وكل هذا يحصل في بلاد المسلمين.
ولهذا، فلا تستغرب إذا رفع أصحاب البدع عقيرتهم ولوحوا بأعلامهم وتكلموا بملء أفواههم، ليسمعهم القريب والبعيد، وصدق الصادق المصدوق : ((ولعن الله من آوى محدثًا)) ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يعلم خطورة هذا الأمر، وأنه ما أُحدثت بدعة إلا وأميتت سنة، ولأن البدع لو ترك لها المجال في الانتشار والتوسع، فإنها ستقضي على الدين كله، وستأكل الأخضر واليابس.
إنه لا بد من وقفة مراجعة ومحاسبة لأصحاب البدع، وذلك قبل أن يعض المجتمع المسلم أصابع الندم.
الإحداث في الدين ليس فقط التحريف في الأسماء والصفات، بل كل شرخ وحدث في أي جانب من الجوانب العقدية يعتبر إحداثًا.
وأما الملعون الرابع: ف هو من غير منار الأرض، قال ((ولعن الله من غيّر منار الأرض)).
منار الأرض هي علاماتها وحدودها التي يهتدي الناس بها في الطريق.
هناك علامات توضع في الطريق ليهتدي بها المسافر والغريب عن الأرض، والذي يعبث بهذه العلامات ويغيرها متوعد باللعنة. لماذا؟ لأن هذا نوع من الإيذاء لعباد الله، وتضليلهم عند سبيلهم. أرأيت ـ أخي المسلم ـ لو كنت تريد السفر إلى مكة وأنت غريب، ومعك أهلك وأولادك، ثم رأيت علامة تقول لك بأن مكة من ها هنا، وهذه العلامة قد جاء قبلك من غيرها عن وجهتها الصحيحة، هل تظن أنك ستصل إلى مكة؟! ماذا يكون حال النساء والأطفال معك وأنت ضائع تائه في الصحراء؟! ألا يستحق صاحب هذا العمل اللعن من الله؟!
أيها الأحبة، إن منارات الأرض، ضربان: منارات حسّية، وهي ما سمعتم قبل قليل، وهناك منارات معنوية، وعلامات وحدود وضعها الله عز وجل، ليهتدي الناس بها في هذه الأرض أيضًا، وهي أولى من سابقتها، ألا وهي شرعه ووحيه: الكتاب والسنة، إنهما لأعظم المنارات في هذه الأرض.
فماذا يستحق من الله عز وجل ذلك الذي أو أولئك الذين يغيرون في هذه المنارات، ويعبثون ويتلاعبون بها، وينتج عن هذا التغيير إضلال طوائف من البشر، وربما لأجيال متعاقبة؟!
إذا كان تغيير منارة من منارات الأرض في طريق ونحوه يستحقّ صاحبها اللعنة، وقد يكون المتضرر من هذا التغيير شخص أو شخصين قل حتى ولو ألف من الناس، فكيف بالذي يغيّر منارات بل ربما يزيل منارات، يكون المتضرر منها الأمة بكاملها، يترتب على تغيير هذه المنارات العبث بأفكار الناس وتصوراتهم ومفاهيمهم. لا شك بأن عقوبة هذا أشد وعاقبته أعظم؛ لأنه قد حرم ملايين من الناس من الاهتداء والاستفادة والأخذ والتلقي من هذه المنارات، فكلما اتسعت دائرة الضرر عظمت العقوبة. والله المستعان.
فنسأل الله جل وعز أن يصلح أحوال المسلمين، كما نسأله أن يعجل بفرج هذه الأمة.
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا...
(1/3188)
صلاة الخسوف
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
آثار الذنوب والمعاصي, الصلاة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
15/5/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحِكم الشرعية من الخسوف والكسوف. 2- آثار الذنوب على الفرد. 3- آثار الذنوب على المجتمع. 4- انتشار المنكرات اليوم. 5- قصة حادثة كسوف الشمس في عهد النبي. 6- آثار ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 7- أحكام صلاة الخسوف والكسوف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لقد صلّى عدد غير قليل من المسلمين فجر هذا اليوم صلاة الخسوف في عدد غير قليل من المساجد، أما من فاته صلاة الفجر فقد حرم هذا الأجر العظيم، وربما أعداد لم تعلم بأن صلاة الخسوف صليت هذا اليوم.
أيها المسلمون، إن هذا الحدث الكوني من خسوف القمر أو كسوف الشمس له أسباب طبيعية يقر بها المؤمنون والكافرون، وله أسباب شرعية يقر بها المؤمنون وينكرها الكافرون، ويتهاون بها ضعيفو الإيمان من المسلمين ولا يقيمون لها وزنًا، ولا يقومون بما أمرهم به رسول الله.
إذا حصل ذلك ينبغي على المسلم أن يتميز عن الكافر حال الكسوف أوالخسوف، وهو أن يفزع إلى الصلاة والذكر والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق، كما أمرنا بذلك رسول الله.
أيها المسلمون، إننا نحن المسلمين نقر بأن لهذه الظواهر الكونية أسبابا طبيعية، وأن أهل الفلك يستطيعون معرفة وقوعه قبل وقوعه عن طريق حسابات دقيقة ويحدد باليوم والساعة والدقيقة، ونقر أيضا ونعتقد بأن لهذه الظواهر أسبابا شرعية أيضا وهي المهمة، وأنها ابتلاءات يخوف الله بها عباده من عاقبة ما يفعلون، وعن جرم ما يرتكبون، جعلها الله أسبابا لنستيقظ من غفلتنا، ولنحاسب أنفسنا، ولنلتفت إلى واقعنا، فنحدث بعدها توبة، ونصحح ما نحن فيه من أخطاء.
إن ذهاب نور الشمس والقمر كله أو بعضه ـ أيها الأحبة ـ ما هو إلا إنذار وتذكير للعباد ليقوموا بما يجب عليهم من أوامر الله، ويبتعدوا عما حرم عليهم من نواهي. ولذلك كثر الخسوف في هذا العصر عما كان عليه الحال فيما مضى، فلا تكاد تمضي السنة حتى يحدث كسوف أو خسوف، في الشمس أو القمر أو فيهما جميعا، وذلك لكثرة المعاصي والفتن في هذا الزمن، مع أنه في زمن النبي لم يحصل إلا مرة واحدة.
لقد انغمس أكثر الناس في شهوات الدنيا ونسوا أهوال الآخرة، وأترفوا أبدانهم، وأتلفوا أديانهم، أقبلوا على الأمور المادية المحسوسة، وأعرضوا عن الأمور الغيبية الموعودة التي هي المصير الحتمي والغاية الأكيدة، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمْ الَّذِي يُوعَدُونَ [الذاريات:60].
أيها المسلمون، إن لذهاب ونقصان ضوء القمر ارتباطا مباشرا بأعمال بني آدم وبمعاصي بني آدم. إن المعصية شؤم كلها، ولها عواقبها على الأنفس والأهل والمجتمعات والدول، وحتى على الكون.
أما شؤمها على العبد فيهون العبد على ربه، ويرتفع مهابته من قلوب خلقه، وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18]، يقول الحسن رحمه الله: "هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم".
أخرج الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: لما فتحت قبرص رأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى.
بسبب الذنوب والمعاصي يكون الهم والحزن، ويكون العجز والكسل وفشو البطالة، ويكون الجبن والبخل، ويكون غلبة الدين وقهر الرجال. بالمعصية تزول النعم، وتحل النقم، وتتحول العافية، ويستجلب سخط الرب، فكيف لا ينخسف قمر أو ينكسف شمس إذا ابتلى العبد بالمعاصي؟! استوحش قلبه وضعف بأهل الخير والصلاح ارتباطه، قال بعض السلف: "إنى لأعصي الله فأرى ذلك في خلق امرأتي ودابتي".
وأما شؤم الذنوب والمخالفات على الدول والمجتمعات فأمر عظيم وخطر جسيم، فكم أهلكت من أمة، وكم دمرت من شعوب، وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ [الأنبياء:11]، كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ [الدخان:25-29].
بسبب المخالفات تتوالى المحن، وتتداعى الفتن، وترتفع الأسعار، وتتعقد المعيشة، وتكثر المخاوف، وتقل الوظائف، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
إن بلادا من بلاد الله الواسعة كانت قائمة شاخصة، فظلم سكانها أنفسهم، فحل بهم أمر الله وسنته، وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58].
فعمَّ قومَ نوح الغرق، وأهلكت عادا الريح العقيم، وأخذت ثمود الصيحة، وقلبت على اللوطية ديارهم، فجعل الله عاليها سافلها، وأمطر عليها حجارة من سجيل، فساء مطر المنذرين، فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40]. إنها الحقيقة الصارخة: فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ، تلكم الذنوب، وتلكم عواقبها، وما هي من الظالمين من أمثالنا ببعيد.
ما ظهرت المعاصي في ديار إلا أهلكتها، ولا تمكنت من قلوب إلا أعمتها، ولا فشت في أمة إلا أذلتها، ولا تخلّلت في دولة إلا أسقطتها.
أيها المسلمين، لقد فشا الزنا، وظهر الربا، وشُربت الخمور والمسكرات، وأدمنت المخدرات، لقد كثر أكل الحرام وتنوعت فيه الحيل، وارتفعت أصوات المعازف والمزامير المحرمة في كل مكان، وسمع الغناء في كل ناحية، لقد تهاون الناس في سماع الموسيقى وفي شرب الدخان وفي حلق اللحى وإسبال الثياب ومشاهدة التلفاز واستحلال الدشوش، وفشت رذائل الأخلاق ومستقبح العادات في البنين والبنات من المغازلات والمعاكسات، بل والخلوات المحرمات، ثم إنك لتسمع شهادات باطلة وأيمانا فاجرة وخصومات ظالمة، وبعد هذا كله نستغرب أنّ بسببه ينخسف قمر أو تنكسف شمس.
إن الأمة حين تغفل عن سنن الله فتغرق في شهواتها وتتنكب طريقها، يقع عليها حكم الله عز وجل، إنها سنة الله حين تفشو المنكرات وتقوم حياة الناس على الذنوب والآثام. إن الانحلال الخلقي وفشو الدعارة وانتشار أوكار الفساد وسلوك الناس مسالك اللهو والترف طريقة إلى عواقبِ السوء، إذ تترهل النفوس، وترتع في الفسق والمجون، وتستهتر بالقيم، وتهين الكرامات، وتقع في الأعراض، وترخص القيم العالية، فماذا يحصل بعد هذا كله؟! تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد قوتها وعناصر بقائها، فتهلك وتطوي صفحتها، وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:94-99].
أيها المسلمون، إنه لا تفسد الأحوال ولا تضطرب الأوضاع ولا تختلط النيات ولا تتميع المجتمعات ولا تضيع الأمة إلا حين يهدّ جدار ذلك الحصن الحصين وذلك الدرع الواقي والسياج الحامي ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنه الوثاق الذي تتماسك به عرى الدين، وتحفظ به حرمات المسلمين، وتهتك به أستار المجرمين. بارتفاع راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعلو أهل الحق والإيمان، ويندحر أهل الباطل والفجور، إذا تعطلت هذه الشعيرة ودكّ هذا الحصن وأقفلت معظم أبوابه وتفرق معظم أنصاره، فعلى معالم الإسلام السلام، وويل يومئذ للفضيلة من الرذيلة، وويل لأهل الحق من المبطلين، وويل للصالحين من سفه الجاهلين وتطاول الفاسقين. روى الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابا منه فتدعونه فلا يستجيب لكم)) حديث حسن، وفي حديث آخر صحيح يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب)).
أيها المسلمون، إذا كثر الخبث استحق القوم الهلاك، وبكثرة الخبث تنقص الأرزاق، وتنزع البركات، ويعم الفساد، وتفشو الأمراض، وتسود الفوضى، وتضطرب الأحوال. أقبل رسول الله يوما على أصحابه فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) أخرجه الحاكم وابن ماجه، وهو حديث حسن.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم من أرادنا بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره يا رب العالمين. اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم. اللهم رد عنا كيد الكائدين وعدوان المعتدين، واقطع دابر الفساد والمفسدين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من ذنب.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: ففي السنة العاشرة من الهجرة وفي أواخر حياته انكسفت الشمس في الوقت الذي توفي فيه ولده إبراهيم رضي الله عنه، فبعدما ارتفعت بمقدار رمحين أو ثلاثة خرج النبي فزعا إلى المسجد يجر ردائه مستعجلا، جاء في رواية مسلم أنه من فزعه أخطأ، فخرج بدرعِ بعض نسائه لظنه رداءَه حتى أدركوه بالرداء، قال ابن حجر: "يعني: أنه أراد لبس ردائه فلبس الدرع من شغل خاطره بذلك".
وكان يوما شديد الحر، وأمر مناديا أن ينادي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس في المسجد رجالا ونساء، فقام فيهم النبي وصفوا خلفه، فكبر وقرأ الفاتحة، ثم قرأ بعدها سورة طويلة بقدر سورة البقرة، يجهر بقراءته، حتى جعل أصحابه يخرون من طول القيام، ثم ركع ركوعا طويلا جدا، ثم رفع وقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قرأ الفاتحة وسورة طويلة لكنها أقصر من الأولى، ثم ركع ركوعا طويلا دون الأول، ثم رفع وقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، وقام قياما طويلا نحو ركوعه ثم سجد سجودا طويلا جدا نحوا من ركوعه، ثم رفع وجلس جلوسا طويلا، ثم سجد سجودا طويلا، ثم قام إلى الركعة الثانية، وسمع في سجوده يقول: ((رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم؟! ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون؟!)) ، ثم صنع في الركعة الثانية مثلما صنع في الأولى، لكنها دونها في القراءة والركوع والسجود والقيام، ثم تشهد وسلم، وقد انجلت الشمس، ثم قام فخطب الناس خطبة عظيمة بليغة، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: ((أما بعد: فإن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وإلى ذكر الله ودعائه واستغفاره)) ، وفي رواية: ((فادعوا الله وكبروا، وتصدقوا وصلوا حتى ينفرج عنكم. ـ ثم قال: ـ يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمة محمد، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا. وايم الله، لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقوة من أمر دنياكم وآخرتكم، ما من شيء لم أكن رأيته إلا رأيته في مقامي هذا، حتى الجنة والنار، رأيت النار يحطم بعضها بعضا، فلم أر كاليوم منظرا قط أفظع منه، ورأيت فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبة، ورأيت فيها امرأة تعذب في هرة لها، ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، ولقد رأيتكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال، يؤتى أحدكم فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: محمد رسول الله، جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا وآمنا واتبعنا، فيقال: نم صالحا، وأما المنافق فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ـ ثم ذكر الدجال وقال: ـ لن تروا ذلك حتى تروا أمورًا يتفاقم شأنها في أنفسكم، وحتى تزول جبال عن مراتبها ـ ثم قال: ـ ثم جيء بالجنة وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي فأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل)) إلى آخر تلك الخطبة العظيمة البليغة الجامعة.
فيا أيها المسلمون، هل تظنون أن فزع النبي وخروجه إلى المسجد ثم الصلاة ثم بعدها تلك الخطبة وما حصل له فيها من أحوال، هل كل ذلك يكون لأمر عادي؟! لا والله، إنه لا يكون إلا لأمر عظيم مخيف.
فعلينا ـ أيها المسلمون ـ في مثل هذه الأحوال أن نفزع كما فزع نبينا ، وأن نلجأ إلى مساجد الله للصلاة والدعاء والاستغفار، وأن نتصدق لندفع عن أنفسنا البلاء، وقد أمر النبي بالإعتاق في كسوف الشمس؛ لأن عتق الرقبة فكاك للمعتق من النار، فأسباب البلاء والانتقام بسبب فعل العباد عند حدوث الكسوف أو الخسوف قد انعقدت، والفزع إلى الصلاة والصدقة يدفع تلك الأسباب.
أيها المسلمون، صلاة الكسوف أو الخسوف سنة مؤكدة، تصلى في أي وقت، وفي أية ساعة من ليل أو نهار، ولم يستثن وقتا من الأوقات؛ لأنها صلاة فزع ومدافعة، وليس لها أذان ولا إقامة، بل يستحبّ أن ينادى لها: الصلاة جامعة، والقراءة فيها جهرية سواء كان بالليل أو بالنهار، والسنة أن تصلّى جماعة في المساجد كما صلاها النبي ، وصلى خلفه الرجال والنساء، وتصلى صلاة الكسوف أو الخسوف ركعتين في كل ركعة ركوعان وسجودان، فمجمل الصلاة أربع ركوعات وأربع سجدات في ركعتين، ومن فاتته الصلاة مع الجماعة فليقضها على صفتها، ومن دخل مع الإمام قبل الركوع الأول فقد أدرك الركعة، ومن فاته الركوع الأول فقد فاتته الركعة؛ لأن الركوع الثاني لا تدرَك به الركعة، فإذا دخل مع الإمام في الركوع الثاني من الركعة الأولى يكون قد فاته قيام وقراءة وركوع، وبناء عليه لا يكون قد جاء بركعة من ركعتي صلاة الخسوف، فلا يعتد بهذه الركعة، وعليه بعد سلام الإمام أن يأتي بركعة كاملة ركوعين وسجودين.
وفقني الله وإياكم لتعظيمه والخوف منه، ورزقنا الاعتبار بآياته.
(1/3189)
ولا تبرجن
الأسرة والمجتمع
المرأة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
17/6/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الاعنتاء بأمر المرأة. 2- أسباب انحراف المرأة. 3- من مظاهر انحراف المرأة. 4- نتائج انحراف المرأة. 5- عباءات لا يجوز بيعها ولا لبسها. 6- فتاوى للشيخ ابن عثيمين في تحريم النقاب العصري. 7- واجب الرجل على أهل بيته. 8- حال المرأة في الغرب. 9-استغلال أعداء الدين المرأة لمحاربة أهل الإسلام. 10- الغيرة على الأعراض. 11- طريق السلامة والنجاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، من الملاحظ منذ فترة أنه قد توسّع كثير من نساء المسلمين في المجتمعات بشكل عام وفي مجتمعنا بشكل خاص في التبرج والسفور وإلقاء الحجاب والحشمة جانبا، كأنه ليس عليهن رقيب من أحد، وباتت المرأة تتشبه بالنساء الساقطات السافرات اللواتي خلعن برقع الحياء، وانسللن من دينهن بدعوة تقولها الواحدة منهن: إنها حرة.
عباد الله، إن مشكلة النساء ليست بالمشكلة التي يُتهاون بها، وليست بالمشكلة الجديدة، إنها مشكلة عظيمة يجب الاعتناء بها ودراسة ما يقضي على أسباب الشر والفساد، إنها مشكلة الوقت قديما وحديثا، لقد كانت مشكلة بني إسرائيل، وهي مشكلة هذه الأمة، كما ثبت في الصحيحين عنه أنه قال: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) ، وكما هو معلوم أن أعز ما تملكه المرأة الشرف والحياء والعفاف، والمحافظة على هذه الفضائل محافظة على إنسانية المرأة في أسمى صورها، وليس من صالح المرأة ولا من صالح المجتمع أن تتبرج المرأة وتتخلى عن الصيانة والاحتشام، ولا سيما أن الغريزة الجنسية هي أعنف الغرائز وأشدها على الإطلاق، والتبذل وإظهار الزينة مثير لهذه الغريزة ومطلق لها من عقالها. والمرأة ـ كما نعلم ـ فتنة ليس أضر على الرجال منها، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان)) ، وتجرد المرأة من ملابسها وتبرجها وإبداء مفاتنها يسلبها أخص خصائصها من الحياء والشرف، ويهبط بها عن مستواها الإنساني.
وسبب هذا الانحراف هو الجهل والتقليد الأعمى للكافرات السافرات الساقطات، فأصبح من المعتاد أن يرى المسلم المرأة المسلمة متبذلة، عارضة مفاتنها، خارجة في زينتها، كاشفة عن وجهها ونحرها وذراعها وساقها، ولا تجد أي غضاضة في ذلك، بل تجد من الضروري وضع الأصباغ والمساحيق والتطيب بالطيب واختيار الملابس المغرية، وللمجلات مجال واسع في تشجيع هذه السخافات والتغرير بالمرأة للوصول إلى هذا المستوى المتدني الرخيص.
أيها المسلمون، إنه كلما عظم الخطر عظمت المسؤولية، وكلما كثرت أسباب الفتنة وجبت قوة الملاحظة، وإننا في عصر عظم فيه الخطر وكثرت فيه أسباب الفتنة بما فتح علينا من زهرة الدنيا واتصالنا بالعالم الخارجي مباشرة، أو بواسطة وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وخاصة ما يبث عبر قنوات البث المباشر والمقروءة، وبسبب ضعف كثير من الرجال وتهاونهم للقيام بمسؤولياتهم تجاه نسائهم، وترك الحبل لهن على الغارب؛ حتى إنك لترى المرأة الشابة تذهب من بيتها إلى أي مكان تريد دون أن تُسأل: إلى أين؟ وتتكلم بالهاتف الساعات الطوال دون أن يعلم ولي أمرها من تكلم، وترى بعض النساء يخرجن إلى الأسواق بلا رقيب، تطوف بها ليلا ونهارا صبحا ومساء، وما ذهابها إلى السوق من أجل شراء شيء تريده، وإنما من أجل التسلي والتسكع، ومن أجل تضييع الوقت، ومن أجل البحث عن الجديد من الأزياء أو المكياج حتى تكون الزينة لها هدفا لذاته، حتى إن بعضهن يلبسن ألبسة مغرية مزركشة سواء كانت عباءة خفيفة أو طرحة شفافة يظهر لون جلد وجهها وقسماته من خلاله، وبعضهن ينتقبن بنقاب ملفت للنظر، وتبدو مكحّلة العينين ملونة الوجنتين، تزاحم الرجال وتكلمهم، وربما تمازحهم إذا قوي تمرّدها وقل حياؤها. وبعض النساء يكشفن الوجه في السيارة أو في الشارع أو أمام البائع وكأنه أحد محارمها. نسأل الله السلامة والعافية. هذا غيض من فيض مما يفعله بعض النساء من أسباب الفتنة والخطر العظيم والسلوك الشاذ الخارج عن توجيهات الإسلام.
أيها المسلمون، إن من نتائج هذا الانحراف أن كثر الفسق، وانتشر الزنا، وابتعد الناس عن الزواج، وانهدم كيان الأسرة، وأهملت الواجبات الدينية، وانعدمت الغيرة، واضمحل الحياء، وتركت العناية بالأطفال، وأصبح الحرام أيسر حصولا من الحلال، وكثرت الجرائم، وفسدت أخلاق الرجال خاصة الشباب المراهقين، وأصبحت المتاجرة بالمرأة كوسيلة دعاية أو ترفيه في مجالات التجارة وغيرها، وكثرت الأمراض التي لم تكن في السابق، قال : ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) رواه ابن ماجه، وهو حديث صحيح.
ومن أعظم العقوبات التي هي قطعا أخطر من القنابل الذرية وغيرها استحقاق نزول العقاب الإلهي، وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعذاب)).
أيها المسلمون، لقد شاع في هذا الزمان بين أوساط كثير من النساء ما رأيتموه جميعا، بل كل يوم يأتينا عنه نبأ، ألا وهي هذه العباءات الغريبة، فتارة ترى عباءة مزينة بالقيطان، أو مطرزة في موضع الأكمام أو الصدر أو الظهر، أو عباءة مكتوب عليها بالذهبي عبارات ملفتة، أو ما يسمى بالعباءة الفرنسية، أو موديل الدانتيل، أو موديل التخريم وغيرها وغيرها.
ومن مشاهد الضياع في ارتداء الحجاب ما يفعله بعض النساء من وضع العباءة على كتفها ولف الطرحة على رأسها ليبدوَ قوامها، ولا شك ـ أيها الإخوة ـ أن هذا الفعل فتنة للمرأة وفتنة للرجل، وقد أفتى علماؤنا بحرمة هذه العباءات، فهي محرمة ولا يجوز للمرأة أن تلبسها، وبناءً عليه لا يجوز بيعها. فليتق الله أصحاب محلات بيع العباءات النسائية أن يستوردوا لنا مثل هذه الأشياء، وليعلموا أن كسبهم من ورائها حرام والعياذ بالله.
وقبل هذا وبعده، أين الرجال؟! وأين محارم هؤلاء النسوة؟! وليتق الله أولياء أمور هؤلاء النسوة، ولا يسمحوا لأعراضهن ارتداء أشياء محرمة ودخيلة على مجتمعاتنا وعاداتنا، والعباءة والحجاب لم يشرع للزينة، بل شرع للستر والحشمة.
ومن مظاهر الحجاب العصري الفاسد المنتشرة بين كثير من النساء بداعي التقليد والإثارة أو الجهل ما يفعله كثير منهن من إظهار العينين وجزء من الوجه، وربما اكتحلت إحداهن أو وضعت الأصباغ على وجهها لتبدو بشكل ملفت ومثير بحجة أنها متنقبة، وليس هذا هو النقاب الذي شرع في الإسلام للمرأة أن تلبسه إذا هي احتاجت إليه.
وقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين أطال الله في عمره وشفاه عما يسمّى بالنقاب وطريقة لبسه، ففي بداية الأمر كان لا يظهر إلاّ العينان فقط، ثم بدأ النقاب بالاتساع شيئا فشيئا، فأصبح يظهر مع العينين جزء من الوجه مما يجلب الفتنة، ولا سيما أن كثيرا من النساء يكتحلن عند لبسه.
فأجاب فضيلته: "في وقتنا هذا لا نفتي بجوازه، بل نرى منعه؛ وذلك لأنه ذريعة إلى التوسع فيما لا يجوز، ولهذا لم نفت امرأة من النساء لا قريبة ولا بعيدة بجواز النقاب أو البرقع في أوقاتنا هذه، بل نرى أنه يمنع منعا باتا، وأن على المرأة أن تتقي ربها في هذا الأمر، وأن لا تنتقب؛ لأن ذلك يفتح باب شر لا يمكن إغلاقه".
أيها الإخوة المؤمنون، إن هذه المظاهر الشاذة في مجتمعنا المسلم المحافظ لمما يبعث على الأسى والحسرة، ولكن ما واجبنا كرجال ملّكنا القوامة على النساء، وحمّلنا مسؤولية التوجيه والتربية لزوجاتنا وبناتنا؟
إن الواجب أن نتقي الله سبحانه أولاً وآخرًا، وأن ننصح لزوجاتنا وبناتنا، ونعلمهن ما هو حلال ونعينهن عليه، وما هو حرام فنزجرهن عنه؛ لأن الرجل هو الذي يغار على أهله، ويحفظهم من نظرات الساقطين والسافلين، فلنكن ـ أيها الإخوة ـ رسل هداية ومنابر توجيه لأهلينا.
إن من أعظم مقاصد هذا الدين إقامة مجتمع طاهر، الخلق سياجه، والعفة طابعه، والحشمة شعاره، والوقار دثاره. مجتمع لا تهاج فيه الشهوات، ولا تثار فيه عوامل الفتنة، تضيق فيه فرص الغواية، وتقطع فيه أسباب التهييج والإثارة. ولقد خُصَّت المؤمنات بتوجيهات في هذا ظاهرة ووصايا جليلة، فعفة المؤمنة نابعة من دينها، ظاهرة في سلوكها، ومن هنا كانت التربية تفرض الانضباط في اللباس سترة واحتشامًا، ورفضًا للسيرة المتهتكة والعبث الماجن.
ومهما قيل في الحجاب في كيفيته وصفته فما كان يومًا عثرة تمنع من واجب، أو تحول دون الوصول إلى حق، بل كان ولا يزال سبيلاً قويمًا يمكِّن المرأة من أداء وظيفتها بعفةٍ وحشمةٍ وطهرٍ ونزاهةٍ على خير وجهٍ وأتم حال.
وتاريخ الأمة شاهد صدق لنساء فُضْلَيات جمعن في الإسلام أدبًا وحشمةً وسترًا ووقارًا وعملاً مبرورًا، دون أن يتعثرن بفضول حجابهن أو سابغ ثيابهن.
وإن في شواهد عصرنا من فتياتنا المؤمنات متحجبات بحجاب الإسلام، متمسكات بهدي السنة والكتاب، قائمات بمسؤولياتهن، خيرٌ ثم خيرٌ ثم خير من قرينات لهن، شاردات كاسيات، عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، متبرجات بزينتهن تبرج الجاهلية الأولى.
وليعلم دعاة السفور ومن وراءهم أن التقدم والتخلف له عوامله وأسبابه، وإقحام الستر والاحتشام والخلق والالتزام عاملاً من عوامل التخلف خدعة مكشوفة، لا تنطلي إلا على مغفل ساذج، في فكره دخل، أو في قلبه مرض.
ودعاة السفور ليسوا قدوة كريمة في الدين والأخلاق، وليسوا أسوة في الترفع عن دروب الفتن ومواقع الريب، إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ [المائدة:55، 56].
أيها الأحبة، إن المرأة المسلمة هي أم المستقبل ومربية الليوث القادمة والحصن المنيع ضد تيارات الفساد والتدمير، بل إنها نموذج الصبر والتضحية، إنها قبس في البيوت مضيء، وجوهرة تتلألأ، ولكن لم يكن لأصحاب تيار الرذيلة والانحراف يد من نسف الحياة الطيبة التي تعيشها المرأة المسلمة في ظل دينها وإسلامها، فأصبحت وسائل الإعلام بمختلف أنواعها توجه المرأة، وغدت المنظمات الدولية والمؤسسات الحقوقية تتسابق في توجيه المسلمة، وتعريفها بمسؤولياتها وواجباتها، وتتباكى على حال المرأة المسلمة، فهل من وعي لهذه القضية؟!
لقد شاعت الفاحشة شيوعا لم يسبق له مثيل، فقد كان أول طوفان تحرير المرأة، لقد اكتسح الغرب التحرير، فلم تعد مزاولة الفاحشة ـ أجارنا الله وإياكم ـ مقصورة على دور البغاء، بل تجاوزت ذلك إلى الفنادق والمقاهي الراقصة والمنتزهات وعلى قارعة الطريق، ولم يعد من الغريب ولا الشاذ أن يقع الأب مع بناته، والأخ مع أخته، بل لقد أصبح ذلك في الغرب شائعا ومألوفا. وأصبحت الخيانة الزوجية ظاهرة عامة، ففي أمريكا من كل أربعة نسوة امرأة واحدة تخون زوجها، فالمرأة تخون زوجها، والرجل يخون زوجته، مما أدى إلى الطلاق وتفكك الأسر وتبعثرها.
أما الاغتصاب فإن معدله في الولايات المتحدة وحدها يزيد عن مثيلاتها في اليابان وإنجلترا وإسبانيا بعشرين ضعفا. أما التفكير في الانتحار في ظل الرفاهية المزعومة والحرية وحقوق المرأة التي ينادون بها في الغرب فإن أربعا وثلاثين بالمائة من النساء يفكرن في الانتحار. أما الأمراض التي ظهرت بسبب الفاحشة والشذوذ فقد انتشر الزهري والسيلان وهما مرضان خطيران في قمة الأمراض الخطيرة في الغرب، وجاء دور الإيدز، يقول مؤلف كتاب (يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة): "مئات الآلاف من الأمريكيين يكوّنون علاقات جنسية في كل ليلة من ليالي الأسبوع مع أشخاص يعتقدون أنهم مصابون بهذا المرض ـ ثم يقول: ـ إن استقراءً سريعًا لإحصائيات هذه الدراسة يشير إلى أن هناك ما نسبته: 2.2 مليون أمريكي على يقين بأنهم مصابون بمرض الإيدز، وسبعة ملايين يعتقدون أنهم في خطر كبير من الإصابة بهذا المرض، ومعظم هؤلاء المصابين بالإيدز أو الذين هم في خطر كبير بالإصابة به هم أشخاص أسوياء وغير شاذين، فكم تكون النسبة بين الشاذين؟!
هكذا ـ أيها الإخوة الكرام ـ تعيش المرأة في ظل الجاهليات، وإنه لشيء حتمي بسبب البعد عن الله، وهكذا تعيش المرأة المتحضرة المتحررة ـ زعموا ـ التي يسعى المنافقون والعلمانيون وأصحاب الشهوات عندنا أن تعيش نساؤنا وبناتنا حياة ضنكا، وأن تصطلي بنار البعد عن الإسلام، وأن تغدو معذبة محطمة تفكر في الانتحار كل يوم، وتعاني صنوف القسوة كل ذلك باسم الحرية والمساواة والتقدم والانفتاح، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27].
إنها الحرية العرجاء التي ينادون بها ويدعون إليها، يريدون إخراج المرأة من عفافها، من شرفها، من دينها، من مملكتها الأسرية وجنتها الزوجية، مدعين أنها في سجن، وأن جلبابها هو خيمة سوداء ترتديها، وأنها جاهلة ومتخلفة، ولن تعرف العلم حتى تلحق بركاب المرأة الغربية وتحذو حذوها: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لقد أخذت الأرض زخرفها وزينتها وظن أهلها أنهم قارون عليها، وانصرف الناس عن دينهم إليها، وانقادوا لغرورها وافتتنوا بحضارة الغرب وزخارف الشرق، وصادف هذا كله غفلة دعاة الحق، لكن أعداء الإسلام لم يغفلوا عنا، فحملوا بخيلهم ورجلهم، وجردوا الحملات المسلمة بسهام الشهوات وسموم الشبهات، لتعيث في قلوب المسلمين فسادا، وتجوس خلال ديارهم، لتسلخهم من دينهم الحق الذي ارتضاه الله لهم.
وقد كان هؤلاء الأعداء خبثاء ماكرين في حربهم؛ إذ تفرسوا في أسباب قوة المسلمين وحددوها، ثم اجتهدوا في توهينها وتحطيمها بكل ما أوتوا من مكر ودهاء. علموا أن المرأة من أعظم أسباب القوة في المجتمع الإسلامي، وهم يعلمون أنها سلاح ذو حدين، وأنها قابلة لأن يكون أخطر أسلحة الفتنة والتدمير، ومن هنا كان لها النصيب الأكبر من حجم المؤامرات على تمزيق الأمة وتضييع طاقاتها.
إن المرأة تملك مجموعة من المواهب الضخمة الجديرة بأن تبني أمة، وأن تهدم أمة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتن بني إسرائيل كانت في النساء)) ، وعن أسامة بن زيد وسعيد بن زيد رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء)).
أيها الأحبة، إن كل امرئٍ عاقلٍ، بل كل شهم فاضل لا يرضى إلا أن يكون عرضه محل الثناء والتمجيد، ويسعى ثم يسعى ليبقى عرضه حرمًا مصونًا لا يرتع فيه اللامزون، ولا يجوس حماه العابثون.
إن كريم العرض ليبذل الغالي والنفيس للدفاع عن شرفه، وإن ذا المروءة الشهم يقدم ثروته ليسد أفواهًا تتطاول عليه بألسنتها أو تناله ببذيء ألفاظها. نعم، إنه ليصون العرض بالمال، فلا بارك الله بمال لا يصون عرضًا، بل لا يقف الحد عند هذا فإن صاحب الغيرة ليخاطر بحياته ويبذل مهجته ويعرض نفسه لسهام المنايا عندما يرجم بشتيمة تلوث كرامته، يهون على الكرام أن تصاب الأجسام لتسلم العقول والأعراض، وقد بلغ ديننا في ذلك الغاية حين أعلن النبي فقال: ((من قتل دون أهله فهو شهيد)).
أيها الإخوة، بصيانة العرض وكرامته يتجلى صفاء الدين وجمال الإنسانية، وبتدنسه وهوانه ينزل الإنسان إلى أرذل الحيوانات بهيمية. يقول ابن القيم رحمه الله: "إذا رحلت الغيرة من القلب ترحَّلت المحبة، بل ترحل الدين كله".
ولقد كان أصحاب رسول الله من أشد الناس غيرة على أعراضهم، روي عن رسول الله أنه قال يومًا لأصحابه: ((إن دخل أحدكم على أهله ووجد ما يريبه أَشْهَدَ أربعًا)) ، فقام سعد بن معاذ متأثرًا فقال: يا رسول الله، أأدخل على أهلي فأجد ما يريبني أنتظر حتى أشهد أربعًا؟! لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت ما يريبني في أهلي لأطيحنَّ بالرأس عن الجسد، ولأضربنَّ بالسيف غير مصفح، وليفعل الله بي بعد ذلك ما يشاء، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أتعجبون من غيرة سعد؟! والله، لأنا أغير منه، والله أغير مني؛ ومن أجل غيرة الله حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)) والحديث أصله في الصحيحين.
من حُرم الغيرة حرم طُهر الحياة، ومن حرم طُهر الحياة فهو أحطُّ من بهيمة الأنعام، ولا يمتدح بالغيرة إلا كرام الرجال وكرائم النساء.
إن الحياة الطاهرة تحتاج إلى عزائم الأخيار، وأما عيشة الدَّعارة فطريقها سهل الانحدار والانهيار، وبالمكاره حفت الجنة، وبالشهوات حفَّت النار.
أيها الإخوة، إن الأسف كل الأسف والأسى كل الأسى فيما جلبته مدنية هذا العصر من ذبح صارخ للأعراض، ووأدٍ كريه للغيرة. تعرض تفاصيل الفحشاء من خلال وسائل نشر كثيرة، بل إنه ليرى الرجل والمرأة يأتيان الفاحشة وهما يعانقان الرذيلة غير مستورين عن أعين المشاهدين، لقد انقلبت الحال عند كثير من الأقوام بل الأفراد والأسر، حتى صار الساقطون الماجنون يُمثلون الأسوة والقدوة، وسامَ افتخارٍ وعنوان رجولة.
هل غارت من النفوس الغيرة؟! وهل غاض ماؤها؟! وهل انطفأ بهاؤها؟! هل في الناس دياثة؟! هل فيهم من يقر الخبث في أهله؟!
ما هذا البلاء؟! كيف يستسيغ ذوو الشهامة من الرجال والعفة من النساء لأنفسهم ولأطفالهم، لفتيانهم ولفتياتهم هذا الغثاء المدمر، من ابتكارات البث المباشر وقنوات الفضاء الواسع؟! أين ذهب الحياء؟! وأين ضاعت المروءة؟! أين الغيرة من بيوت هيأت لناشئَتها أجواء الفتنة، وجرتها إلى مستنقعات التفسخ جرًا، وجلبت لها محرضات المنكر تدفعها إلى الإثم دفعًا، وتدعُّها إلى الفحشاء دعًّا؟!
اطلعت امرأة شريفةٌ على الخمر، ثم سألت: هل تشرب هذا نساؤكم؟ قالوا: نعم، قالت: يزنين وربّ الكعبة.
أيها الإخوة، إن طريق السلامة لمن يريد السلامة ـ بعد الإيمان بالله ورحمته وعصمته ـ ينبع من البيت والبيئة، فهناك بيئات تنبت الذلّ، وأخرى تنبت العزّ، وثمة بيوتات تظلها العفة والحشمة، وأخرى ملؤها الفحشاء والمنكر. لا تحفظ المروءة ولا يسلم العرض إلا حين يعيش الفتى وتعيش الفتاة في بيت محتشم محفوظ بتعاليم الإسلام وآداب القرآن، ملتزم بالستر والحياء، تختفي فيه المثيرات وآلات اللهو المنكر، يتطهر من الاختلاط المحرم، وفي مقدمة هذا كله الحجاب الشرعي، قال الله تعالى: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33].
(1/3190)
يوسف عليه السلام (1)
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ
القصص, قضايا الأسرة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
10/2/1410
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة يوسف عليه السلام والدروس المستفادة منها. 2- الاختلاط وأضراره. 3- من أضرار السائقين والخادمات. 4- سعير الشهوة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: نقضي معكم دقائق هذه الجمعة، مع قصة نبي الله يوسف عليه السلام نأخذ فيها العبرة والعظة، كما قال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111].
تبدأ قصة يوسف عليه السلام بأنه رأى في منامه أحد عشر كوكبا، والشمس والقمر قد سجدوا له خاضعين، فلما أصبح قص على أبيه عجيب ما رأى، فأدرك أبوه يعقوب عليه السلام من هذه الرؤيا أن ابنه سيكون له شأن عند الله وعند الناس، لكنه خشي عليه من حسد إخوانه، فأوصاه بأن لا يقص خبره على إخوته: إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ [يوسف:4-7].
رأى أبناء يعقوب من إيثار ومحبة أبيهم ليوسف وأخيه الشقيق بنيامين ما لم يكن لواحد منهم، فغاظهم ذلك، وصاروا يحقدون على أخيهم، فأضمروا له الشر، وائتمروا فيما بينهم على الخلاص منه، وظنوا أنهم بهذا العمل يستأثرون بحب والدهم، ثم يتوبون بعد ذلك من عملهم هذا، ويكونون قومًا صالحين، فيقبل الله توبتهم، إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ [يوسف:8، 9].
ولنا وقفة ـ أيها الإخوة ـ مع أولئك الآباء الذين يفضلون بعض أبنائهم على بعض، وهذا أمر إضافة إلى أنه لا يجوز، فإنه يوقع العداوة والبغضاء بينهم، يحقد بعضهم على بعض، بل ربما يصل إلى قتل بعضهم البعض، كل هذا بسبب إساءة هذا الوالد في تربيتهم، وعدم الإنصاف في المعاملة بينهم.
نعم ـ أيها الإخوة ـ إن الحب القلبي لا يملكه أحد، فهو قد يحب أحد أولاده أكثر من البقية، لكن هذا الحب مادام أنه قلبي فلا بد أن يبقى في القلب، ولا يظهر على السلوك في المعاملة، فيعطيه أكثر من إخوانه على مرأى ومسمع منهم. ولنا في هذه القصة عبرة.
أيها المسلمون، أشار بعد ذلك أحد الإخوة بعدم قتل يوسف بل يلقوه بعيدًا عن العيون، في أغوار بئر، فلعل قافلة تلتقطه منه، وتحمله معها، وبذلك يتحقق لهم غرضهم من إقصائه عن أبيه، وينجون من إثم القتل، وعلى هذا استقر رأيهم.
ذهبوا إلى أبيهم وراحوا يحتالون لأخذ يوسف معهم، فقالوا له: يا أبانا، ما الذي رابك منا حتى تبعد يوسف عنا ونحن نحبه ونشفق عليه؟ أرسله معنا إلى المراعي غدًا ليلعب ويمرح، ويتمتع بالأكل والشرب معنا، وإننا لحريصون عليه حرصَنا على أنفسنا، فأجابهم يعقوب عليه السلام بأنه يحزنه أن يبتعد عن يوسف، ويخاف أن يأكله الذئب وهم في غفلة عنه، قال الله تعالى: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ [يوسف:10-14].
أذن يعقوب عليه السلام لأولاده باصطحاب يوسف معهم، وعندما خرجوا به نفذوا مخططهم، فألقوه في البئر. رجع إخوة يوسف في المساء يظهرون الحزن ويرفعون أصواتهم بالبكاء، فقالوا: يا أبانا، ذهبنا نستبق في الرمي والجري وتركنا يوسف عند متاعنا ليحرسه فأكله الذئب ونحن بعيدون عنه، وإنا نعلم بأنك لن تصدّقنا لاتهامك إيانا بأننا نكرهه، وأخرجوا له قميص يوسف وقد تلوث بالدم، لكن فراسة الأب كشفت له كذبهم، حيث أن القميص لم يكن ممزّقًا، ولا يمكن للذئب أن يأكله مع عدم تمزيق قميصه.
سبحان الله، كم في هذا الحادث من إشارة إلى أن أية جريمة مهما أحكم الإنسان ضبطها فإنه لا بد أن تفوته بعض جوانبها تكون سببًا لكشفها إما عاجلاً أو آجلاً، قال تعالى: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:15-18].
أيها الإخوة، بعد ذلك مرت قافلة أمام البئر بلطف الله عز وجل ورحمته، وكانت قاصدة مصر، فذهب أحدهم ليأتي لهم بالماء من البئر، فلما أدلى دلوه تعلق به يوسف حتى خرج من البئر، وفرح به الرجل فرحًا شديدا، وأتى به إلى رفقائه، وأخفوه بين أمتعتهم التي يرغبون في بيعها، باعوه بعد ذلك ـ أيها الإخوة ـ في مصر، بدراهم قليلة للتخلص منه، خشية أن يدركهم أهله، وكان الذي اشتراه وزير الملك، فأرسله إلى بيته وأوصى زوجته بالإحسان إليه، فصار ليوسف بعد ذلك مقام كريم في منزل وزير الملك، وألهم عليه السلام تفسير الرؤى، واقرؤوا معي ـ أيها الإخوة ـ هذه الآيات: وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [يوسف:19-22].
أيها المسلمون، تعرّض يوسف عليه السلام لفتنة عظيمة جدًا وهو في بيت وزير الملك، وذلك لما منّه الله تعالى عليه من الجمال، وذلك أن امرأة العزيز رأت بعين الأنثى جمال يوسف فخفق قلبها واضطرمت مشاعرها، لبثت وقتًا تتردّد في إظهار شعورها نحو يوسف إلى أن غلب الحبّ عواطفها، واستحوذ الضعف الطبيعي على مشاعرها، فانتهزت فرصة وجوده في بيتها يومًا، وأخذت تغريه بنفسها ليبادلها الحب، فعرضت عليه محاسنها ومفاتنها بعد أن غلقت الأبواب، وقالت له: أقبل عليّ فقد هيأت لك نفسي. والله، إنها لفتنة لا يقوى على تحملها وتجاوزها إلا من وفقه الله عز وجل، ولهذا كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله. فنفر منها يوسف نفرة المستنكر لهذا الأمر، ولكن الله أعمى قلبها فلم تبال بما قال وأصرّت أن تخالطه، ونازعته نفسَه إليها، لولا رحمة الله عز وجل بعبده فرأى نور الحق فاستضاء به فلم يطاوع ميل النفس، وامتنع عن المعصية، وهكذا صرف الله عنه سوء الزنا والخيانة؛ لأنه من عباد الله الذين أخلصوا له. أسرع يوسف عليه السلام إلى الباب يريد الإفلات منها، وأسرعت وراءه لتحول دون خروجه، وجذبت قميصه من الخلف لتمنعه من الخروج، فتمزق، لكنه تمكن من الخروج، وفي هذه الحال وجدا عند الباب زوجها، فبادرته باتهام يوسف بمحاولة اغتصابها، وحرضته على سجنه، لكن يوسف عليه السلام دفع التهمة عن نفسه بأنها هي التي حاولت أن تخون زوجها، وأنه امتنع عن الاستجابة لها، وبينما هما يتبادلان الاتهام حضر الجدال قريب لها، فحكم قائلاً: إن كان قميصه شقّ من أمام فقد صدقت، وإن كان قميصه شقّ من خلف فهذا يعني أنه كان يحاول الفرار، فقد كذبت في قولها وهو من الصادقين، فلما رأى الزوج أن قميصه شق من خلف علم صدقه عليه السلام، وتبين له كيد زوجته، لكنه رغب في ستر الفضيحة، فقال ليوسف: تناسَ ما جرى لك واكتمه، وقال لامرأته: استغفري الله لذنبك وتوبي إنك كنت من الآثمين، وفي هذا يقول الله تعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ [يوسف:23-29].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: تتمة لقصة هذا النبي الكريم يوسف عليه السلام، انتشر خبر الحادثة التي وقعت في بيت الملك إلى جماعة من نساء المدينة، وتناقلنه في مجتمعاتهن، قائلات بأن امرأة العزيز أغرت خادمها وراودته عن نفسه ليطيعها فيما تريده منه، وقد خالط حبه شغاف قلبها. وصل هذا إلى سمع امرأة العزيز، فقررت أن تريهن يوسف عليه السلام ليلتمسن لها العذر، فاستضافتهن يومًا، وبعد أن استقرّ المقام بالمدعوات أمرت جواريها بإعداد الطعام، وأعطت كل واحدة سكينًا لتقطع بها، جريًا على العادة من وضع السكاكين على المائدة لقطع اللحم والفاكهة. وفي هذه الأثناء أمرت يوسف أن يخرج إليهن فكان صدفة لهن، إذ بهرهن جماله الرائع، فجرحن أيديهن من فرط الدهشة والذهول، ولما رأت امرأة العزيز أن النساء شاركنها في إعجابها به، حينئذٍ باحت لهن بمكنون فؤادها قائلة: هذا هو الفتى الذي تلومونني في حبه، هذا هو الفتى الذي حاولت إغراءه فامتنع، وأُقسم لكنّ إن لم يفعل ما آمره ليعاقبن بالسجن ليكون من الأذلاء، لكن يوسف عليه السلام لم يلن، فلجأ إلى ربه مناجيًا، بأنه يفضل السجن على معصيته، ثم دعا ربه أن يصرف عنه شر مكرهن، فاستجاب الله دعائه، فصرف عنه المعصية، إنه وحده السميع لدعوات الملتجئين، قال تعالى: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكًَا وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف:30-34].
أيها المسلمون، نود أن نقف معكم وقفة مع هذه الحادثة، وهو ما أرادت أن تحصل عليه امرأة العزيز من نبي الله يوسف، وأرادت أن توقعه في الزنا، أن في هذا الحدث ـ أيها الإخوة ـ صورة لغواية المرأة للرجل، ودأبها المتواصل المستمر للحصول على مبتغاها. فالمرأة ذلك المخلوق الضعيف، ولكنها بفتنتها وإغرائها للرجل تصبح ذلك القوي الذي لا يقهر. فالذي نريد، ونود أن نسأل أنفسنا: ما الأسباب التي أدت إلى غواية امرأة العزيز ليوسف عليه السلام؟ ما الذي حملها في أن تلاحقه في جنبات القصر وهو يود الفرار منها خوفًا من الله عز وجل حتى مزقت قميصه؟ إنه سبب واحد ـ أيها الإخوة ـ ولا سبب غيره، ألا هو الاختلاط والخلوة.
إن اختلاطها معه ووجوده المستمر في القصر بجانبها من الدواعي التي أدت إلى إضرام شعلة الحب في قلبها، ولهذا كانت تتعرض له بالإغراء.
إن انفراد الرجل الأجنبي بالمرأة الأجنبية بعيدًا عن رقابة الأهل والمجتمع يؤدي إلى أضرار لا تحمد عقباها، ويؤثر التأثير السيئ على مستقبل الرجل والمرأة، ولهذا حذر الإسلام من الخلوة، وحرمه أشد التحريم، لما يترتب عليه من النتائج السيئة.
فلا أدري ـ يا عباد الله ـ بعد هذه الوقفة، هل يفيق من غفلتهم من أدخلوا بيوتهم من الرجال والنساء الأجانب تحت اسم السائق والخادمة؟!
إن السائق ـ أخي المسلم ـ رجل أجنبي، إن الخادمة ـ أخي المسلم ـ امرأة أجنبية، لا يحل لك النظر إليها، ولا الخلوة بها، وإن كان سائقًا فهو رجل فيه شهوة كما في باقي الرجال، وإن تلك المرأة وإن كانت خادمة فهي كبقية النساء تفتن وتغري وتحركها وتقودها شهوتها في حالات ضعفها. كم تسمعون يا عباد الله، كل يوم من المشاكل الأخلاقية التي تقع من الخدم والسائقين، فهل يتعظ أولئك الذين لا يغارون على أهليهم، ويجعل زوجته أو أحد بناته تذهب مع السائق لوحدها؟! هل يتعظ مما نقرأ ونسمع كل يوم ذلك الذي أدخل هذه المرأة الأجنبية بحجة أنها خادمة في بيته وله من الأولاد من هم في سن المراهقة، ينظرون إليها وهي تذهب وتجيء في أركان البيت، وربما شوهدت مستلقية أو نائمة، مما يزيد في الإغراء والفتنة؟!
فاتقوا الله أيها المسلمون، لا تعرضوا أهليكم للهلاك، لا تعرضوا أولادكم للفساد، تجنبوا أسباب الشر والفتنة. والله يا عباد الله، إن الشهوة إذا تحركت في جسم الإنسان فإنها لا تعرف خادمًا ولا سائقًا، لا تعرف سيدًا أو مسودا. كم خضع وركع أمام شهوة الجنس عظماء التاريخ من رؤساء وقواد جيوش، كم كُشفت أسرار دول عن طريق الشهوة، كم سمعنا بفضائح كبار الشخصيات في شتى دول العالم بسبب إغراء امرأة له.
فاتقوا الله أيها المسلمون، قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]. فها هي امرأة العزيز امرأة وزير الملك تذل نفسها تحت ضغط الجنس عند فتًى يعمل عندها وهي سيدته.
وها هو نبي من أنبياء الله يتعرض لفتنة صعبة جدًا، سعارها الشهوة الجنسية ، لكن رحمة الله عز وجل هي حفظت هذا النبي الكريم يوسف عليه السلام.
فنسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجنبنا وإياكم وجميع المسلمين وأولادنا وبناتنا، من الوقوع في الفواحش والمنكرات.
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي به قلوبنا...
(1/3191)
اليهود وتاريخ من الإرهاب
أديان وفرق ومذاهب, موضوعات عامة
أديان, جرائم وحوادث
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اليهود في ظل حكم الإسلام. 2- احتلال اليهود لفلسطين. 3- تاريخ اليهود الدموي في فلسطين. 4- جرائم اليهود وانتهاكاتهم. 5- كذب اتفاقية السلام. 6- لا مكان لليأس. 7- إرهاب أعداء الإسلام. 8- وقفات مع الأحداث.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فتقوى الله عروة ما لها انفصام، ونور تستضيء به القلوب والأفهام.
كانوا يعيشون باطمئنان، في نعمة من الله وأمان، يبيعون ويشترون، ويدرسون ويعملون ويتعاملون، يجمعهم بلد واحد تحت حكمٍ لا يحارب الأديان الأخرى ولا يتدخل في شؤون غيره، يعيشون مع المسلمين بكامل حقوقهم وعهودهم التي حفظها لهم الإسلام، وكفل لهم منذ العهد العمري حرية العبادة في كنائسهم وبيَعهم إلا من رغب منهم الدخول في الإسلام.
هكذا كانت معيشة المسلمين ومن جاورهم من المعاهَدين في فلسطين، وعلى هذا عاملهم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله حينما دخل القدس.
ثم أتى ما يسمَّى بالعصر الحديث، حينما أتى ذلك الشعب المسالم والاستعمار الصليبي فخرّب ودمّر وأذاقهم من البؤس ألوانًا، ولم يكتف بذلك، بل جلب اليهود الصهاينة إلى بلادهم في جريمة من أعظم جرائم العصر، ومن هنا تمتدّ مسيرة إرهاب حقيقي منظّم تقوده عصابات صهيون، إرهابٌ لا يفرق في القتل والتفجير والإهانة بين الصغير والكبير والمرأة والرجل والمسجد والمزرعة، إرهاب حقيقي يصادر حقوق الناس ويهين كرامتهم ويفسد تجارتهم ويهدم بيوتهم ويدمّر زروعهم ويفجؤهم ليلاً ونهارًا بالتشريد والإيذاء، ويخطط لهم بالمكائد والتفريق فيما بينهم وبين إخوانهم أو بغرس عملاء خونة فيما بينهم، في إرهاب منظّم لا يكتفي بحرب المواجهة، بل يكيد ويمكر للإفساد والتطبيع مع دول مجاورة، إرهاب مدعوم من الصليبية التي يسّرت له السلاح والعتاد والمال والاقتصاد وسكتوا عن قتله للأبرياء والأطفال في مهدهم وهدمه للبيوت وتشريده لمئات الآلاف من اللاجئين واحتلال للأراضي والدولِ وبناء للمستوطنات بلا وجه، فهل تريدون إرهابًا أشد وأعظم من هذا الإرهاب؟!
فهلمّ بنا ـ إخوتي ـ إلى تاريخ مليء بالإرهاب عبر تاريخ اليهود الصهاينة في فلسطين وخارجها. وإذا أردت أن تعرف الإرهاب وتضرب له المثال فإن أفضل الأمثلة هو ممارسات نستعرضها لليهود خلال نصف قرن أو أكثر في فلسطين تبيّن لنا أن مكر اليهود وخبثهم لا يبعد أن يكون وراء كل إرهاب ومكيدة وجريمة في العالم ويلصقونها من خلال إعلامهم ورجالهم وحلفائهم بغيرهم.
أيها الإخوة، لاقى المسلمون في فلسطين على يد اليهود ألوانًا من الإرهاب والمجازر في تطهير عرقي تبنّته الحركة الصهيونية لإفراغ فلسطين من سكانها والعمل على إحلال اليهود القادمين مكانهم، فقاموا بتجميع اليهود من بقاع الأرض وطرد أهل فلسطين.
ويبدأ تاريخهم الدموي في البراق في ليلة هادئة من ليالي عام ثمانية وأربعين وثلاثمائة وألف من الهجرة الموافق التاسع والعشرين وتسعمائة وألف ميلادية حين فاجؤوا أهله، قتلوا تلك الليلة ما يزيد عن مائتي مسلم فلسطيني، ثم أنشؤوا عصاباتهم الصهيونية المتنوعة التي يقود إحداها زعيمهم مناحيم بيقن والأخرى يقودها شارون، حيث نفّذوا في عام ألف وثلاثمائة وستة من الهجرة مائة وخمسين وتسعمائة وألف مذبحة، منها مذبحة كفر قاسم حين ذبحوا مائة من أهلها غيلة، وقبل طلوع الفجر يوم العاشر من أبريل لعام ثمانية وأربعين وتسعمائة وألف للميلاد الموافق لعام ثمانية وستين وثلاثمائة وألف هجرية في الساعة الثانية صباحًا قامت عصابات الأرتون تسفالي بقيادة بيقن بالهجوم على البيوت في دير ياسين وقتل النساء والأطفال والرجال المدافعين خلال نصف يوم، فقتلوا ثلاثمائة وستين مسلمًا ثم دفنوهم في قبور جماعية، ولا زال اليهود إلى اليوم يفاخرون بهذه المذبحة لأنها تسببت في تهجير ما يزيد عن نصف مليون فلسطيني.
وفي عام ثمانية وستين وثلاثمائة وألف هجرية الموافق للسنة الثامنة والأربعين وتسعمائة وألف للميلاد هاجمت عصابات الهاغناه بقيادة ابن غوريون وموشي دايان قرية الدوايمة ومن قوة الهجوم والقذائف التجأ الناس إلى المسجد والكهوف والبيوت، وسجلت ذلك اليوم بطولات كبرى وعظمى لشيوخ المجاهدين وعلمائهم، وقتل الصهاينة خمسة وسبعين مسنًا في داخل المسجد، وقتلوا النساء والأطفال داخل الكهوف، وقتل ما يزيد عن أربعمائة شهيد فلسطيني نسأل الله أن يتقبلهم.
وفي عام اثنين وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة الموافق لعام ثلاثة وخمسين وتسعمائة وألف للميلاد في قرية قبية القريبة من القدس بعدما يسمى بمعاهدة ألف وتسعمائة وتسعة وأربعين ميلادية قام اليهود باجتياز الحدود وخطف المواطنين ونسف المنازل، ثم قاموا بتطويق قرية قبية وهاجموها، فدمّروا ستة وخمسين منزلاً ومسجد القرية ومدرستها وقتِل سبعة وستين شهيدًا وجرح المئات، وكان قائد الهجوم شارون اليهودي في ولاية شارون أيضًا مشتركًا في جريمة كفر قاسم السابق ذكرها.
وقد عمل تحقيق في هذه المجزرة مع قائدها شارون وتم تغريمه 10 قروش وتوبيخه فقط، وتمتد المذابح لتسطر تاريخًا دمويًا صهيونيًا إلى مذبحة قرية قلقيلية ووادي عربة ثم مذبحة مخيم خان يونس الذي قتل فيه ما يزيد عن ثلاثمائة وخمسة وسبعين مدنيًا ثم اتبعوا بمائتين وخمسين شهيدًا آخر.
ثم إلى مذابح عام سبعة وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة الموافق لهزيمة عام سبعة وستين وتسعمائة وألف حين هزمت الجيوش العربية، فذبح المسلمون في القدس والضفة الغربية وسيناء والجولان، ويسيطر اليهود الصهاينة بعد خذلان العرب على معظم فلسطين، فهل انتهى هدفهم؟! وهل ارتوى عطشهم للدماء المسلمة؟! فقد قاموا في عام ألف وأربعمائة من الهجرة باجتياح لبنان وفي ألف وأربعمائة وثلاثة من الهجرة الموافق لعام اثنين وثمانين وتسعمائة وألف للميلاد قام الصهاينة بقيادة شارون بداية يوم الخمس ولمدة يومين بتمكين ودعم وحماية النصارى لتحصل مذبحة من المذابح العظيمة في هذا العصر في مخيمي صبرا وشاتيلا، بقتل الرجال والنساء واغتصابهن وقتل الأطفال وهم يقاتلون وليس بيدهم سلاح، وكانوا إذا هربوا يعيدهم اليهود بقوة السلاح إلى المخيم حتى أبيد في أربعين ساعة فقط نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة فلسطيني ولبناني من المدنيين وخلّفوا مناظر للجثث لا يمكن أن ينساها التاريخ، وبالرغم من أن العالم وهو يشاهد صور هذه المجزرة فقد ندّد وشجب كالعادة إلا أن قادة هذه المجزرة كرِّموا فيما بعد، بل أصبح حاميها شارون مجرم الحرب الذي نفذ قبلها عدة مجازر رئيسًا للوزراء في دولة بني صهيون، فهل يجرؤ أولئك على وصفه بالإرهابي؟!
وتمتد مسيرة الإرهاب الصهيوني في القتل لتمتدّ إلى المسجد الأقصى، فلم يكتفوا بحرقه عام تسعة وثمانين وثلاثمائة وألف من الهجرة الموافق تسعة وستين وتسعمائة وألف ميلادية وبمحاولات هدمه وحفر الأنفاق من تحته لم يكتفوا بكل ذلك، ففي يوم الاثنين إحدى عشرة وأربعمائة وألف من الهجرة في عام تسعين ميلادية وقبل صلاة الظهر قتلوا داخل ساحة المسجد الأقصى حوالي ثلاثين مصليًا وجرحوا مائة وخمسين منهم وحاصروا المسجد ومنعوا إسعاف الجرحى واعتقلوا ثلاثمائة منهم.
ويمتد إرهاب الصهاينة في المساجد حتى وصل بهم الحال في عام أربعة وتسعين ميلادية مدينة الخليل حيث المسجد الإبراهيمي المسمى نسبة إلى إبراهيم الخليل عليه السلام، حيث قام أحد الصهاينة بحراسة ومشاركة جنود الصهاينة للدخول إلى المسجد والمسلمون ساجدون لربهم في صلاة فجر يوم الجمعة الخامس عشر من رمضان من عام أربعة عشر وأربعمائة وألف من الهجرة، فقام الصهاينة بإطلاق النار العشوائي على المصلين فقتل في المسجد أكثر من ثلاثين مسلمًا وجرح المئات الذين ضرجوا بدمائهم في بيت من بيوت الله، وقد خطوا بدمائهم ذلك الفجر شكواهم إلى الله جل وعلا من جراء صمت عالمي وإسلامي تجاه إرهاب صهيوني لا يفرق بين الحرب والسلم والمدني والمقاتل والمرأة والطفل وبين المسجد والمنزل وبين ساحة الحرب.
إن مقتل المسلمين في فلسطين في انتفاضتهم الأولى وأكثرهم من الأطفال لأكبر دليل على إرهاب اليهود، فقد قتل من الفلسطينيين من عام ألف وأربعمائة وسبعة من الهجرة حتى عام أربعة عشر وأربعمائة وألف أكثر من ألف وأربعمائة شهيد، ربعهم من الأطفال، وبلغ عدد الجرحى أكثر من مائة وثلاثين ألفًا، واعتقل عشرون ألفًا، وقطعت مائتي ألف شجرة، وصودرت أراض كثيرة، وهدم أكثر من ألفي منزل فلسطيني، حتى جاء ما يسمى بالسلام الذي زعم للمسلمين أن يكفل حريتهم ويعيشوا فيه باطمئنان، لكنه كان فرصة لليهود لاستجماع قوتهم بعد انتفاضة أثرت عليهم تأثيرًا واضحًا، وأقرّ العالم مع الأسف هذا السلام المزعوم، فركز اليهود جهودهم على هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم، ثم بدؤوا بحرب أخلاقية وتطبيعية على العالم الإسلامي، وبنوا من المستوطنات خلال عشر سنوات لسلام مهترئ ما لم يبنوه طول فترة احتلالهم، فعرف المسلمون في فلسطين بعد ذلك أن حربهم مع إرهاب اليهود لا يمكن أن تنتهي إلا بالجهاد، فأعادوا انتفاضتهم، وبعد أن رأى العالم مقتل الأطفال كمحمد الدرة وإيمان حجو وأمل الخطيب وغيرهم عرفوا أن إرهاب بني صهيون قد تجاوز الحد، حيث قتل حتى الآن نحو خمسمائة شخص عدا الجرحى الذين يعدون بالآلاف، وإذا تجاوزنا القتل فما بالكم بإرهاب اغتيال القيادات في مكاتبهم ومنازلهم مع أسرهم؟! بل تعدوا فلسطين فنفذوا تلك الاغتيالات على مدى تاريخهم في بلدان أخرى، ثم هجروا أبناء فلسطين واستخدموا ضدهم الأسلحة المحرمة.
يقفلون المدارس والمتاجر بسبب وبلا سبب، ويحاصرون المدن بسكانها، وغير ذلك من ممارسات لا يمكن للمسلمين أن ينسوها لبني صهيون.
أيها الإخوة المؤمنون، بعد كل هذا الاستعراض الذي هو غيض من فيض دموي على يد اليهود ومن عاونهم وسكت عنهم وأقرهم، بل وأيدهم وأمدهم من نصارى وملحدين ومتخاذلين، فهل بقي من شك لأحد في اليهود ومن عاونهم أنهم هم زعماء الإرهاب ومنفذوه في العالم وهم الذين يصادرون الممتلكات ويهينون الكرامات ويلغون الحقوق؟!
وإننا بعد استعراضنا لهذه المآسي لا نملك ونحن نأسى لمصاب إخواننا في فلسطين عبر التاريخ إلا أن نعود إلى كتاب ربنا جل وعلا وسنة نبينا محمد حيث بينا أن أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، وأنها طبائع اليهود؛ يسفهون إذا أمنوا، ويغدرون العهود مهما وقّعوا، ويذكرون الناس بالمثل العليا لمصلحتهم وحدهم، ولا يدَعون غدرًا ولا يرعَون ميثاقًا.
إن هذا التاريخ الدموي معهم ينبغي أن يكون حاثًا لنا على استنهاض الهمم وشحذ العزائم لا سببًا لليأس والإحباط، فلا ييأس من رَوح الله إلا القوم الكافرون. ونحن بانتظار معركتنا الكبرى معهم على أرض الملاحم والرسالات التي وعدنا بها رسول الله : ((لتقاتلن اليهود على نهر الأردن، أنتم شرقيه وهم غربيه، فيفر اليهودي ويختبئ خلف الشجر والحجر، فيقول الشجر والحجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال اقتله)). لكن ذلك النصر يحتاج إلى إعداد للنفوس من خلال شرع الله وتربية على الجهاد في سبيل الله بوسائله الشرعية وبإعداد القوة ومواجهة اليهود ومن عاونهم وترك الخنوع والخضوع.
إننا حين نستعرض صور إرهاب اليهود فإننا لا نستثني صورًا أخرى للإرهاب في العالم الذي ذاق من بؤسه المسلمون ألوانًا ولا زالوا يتعرضون له كل يوم، سواء كان إرهاب الإلحاد إبان الحكم الشيوعي في الجمهوريات الإسلامية وحتى اليوم في الشيشان وغيرها، أو إرهاب النصارى عبر التاريخ في الفلبين والبوسنة والهرسك وكوسوفا ومكدونيا حيث المذابح الكبرى كمذابح الصرب وغيرها، أو إرهاب السيخ والهندوس في الهند وكشمير عبر المجازر وهدم المساجد كالمسجد البابري وغيره، أو الإرهاب الوثني في بورما وبورندي وسائر أفريقيا، أو إرهاب الحصارات والعقوبات الدولية وإرهاب المعتقلات والتعذيب أو الإرهاب الاقتصادي والعسكري والنفسي، فهل تجدون أمة تعرضت للإرهاب بصورة حقيقية أكثر من أمتنا المسلمة عبر تاريخها، وصدق رسول الله : ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، قالوا: أفمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((لا، إنكم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن)) ، قالوا: وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) أخرجه أحمد وأبو داود.
اللهم إنا نسألك نصرًا مؤزرًا للإسلام والمسلمين، واخذل أعداءهم من اليهود والنصارى والمشركين، إنك سميع مجيب.
عباد الله، إن الله يأمر بالعدل والإحسان...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله مقدر الأقدار، مكور الليل على النهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأطهار، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
إن الأحداث التي تصاب بها الأمة مهما كبرت أو صغرت ومهما تلاحقت لتكوِّن فرصة للأمة تصقل من خلال إيمانها بربها واختبارًا لثوابتها وتمييزًا للخبيث عنها، وهي لا شك أقدار من الله عز وجل لامتحان الأمة وعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا، لكننا ـ إخوتي ـ يجب أن نستذكر أمورًا مهمة ونذكّر بها لا سيما مع ذهول كثير من الناس فنقول: إن هذه الأحداث فرصة لتأكيد العودة إلى الدين والشريعة الحقّة غير المشوّهة كتابًا وسنة للاستقاء منهما وتطبيق ذلك حسب فهم علماء السلف والخلف، وأن يكون ذلك هو المرجع الأساس لا آراء سياسية ولا تحليلات إعلامية ولا تطبيقات لا تمتّ إلى الشرع بصلة.
كما يجب التأكيد أن التعلق أوجب ما يكون الآن أن يكون تعلقًا بالله؛ بقوته ونصره ورزقه وتمكينه ونبذ أعدائه، وأن يكون هناك استثمار لأي حدث للأمة للمراجعة وتقييم الوسائل والفرص والعلاقات والاستفادة منها لإصلاح ما تأثرت به الأمة خلال تاريخها، وأن يكون هناك رجوع كبير لأهل العلم الشرعي والتفاف حولهم والانطلاق من آرائهم، وأن تحرص الأمة على لمّ الشمل ونبذ أسباب فتن التفرق والخلاف، لا سيما في الأوقات العصيبة. كما أننا ـ أيها الإخوة ـ يجب أن نؤكد مبدأ من أهم مبادئ عقيدتنا الإسلامية وهو المبدأ الذي طالما غيب وتحتاجه الأمة خصوصًا هذه الأزمان ألا وهو مبدأ الولاء والبراء، وحاجة الأمة إليه لا سيما عند ظهور الفتن والهرج والمرج، الولاء الكامل للمؤمنين والبراءة من المشركين علميًا وعمليًا ظاهريًا وقلبيًا.
كما أننا لا بد أن نعلم ـ عباد الله ـ أن الجهاد في سبيل الله من أرفع العبادات أجرًا في الإسلام، والأمة بحاجة إليه دائمًا، لكن الإسلام بريء كل البراءة من أعمال لا علاقة لها حتى بمسمّى الجهاد وإن نسبت إليه.
والإسلام بريء كذلك من الإرهاب الذي يصمه به إعلام بني صهيون وغيرهم، فالإسلام ليس لترويع الآمنين كما يصفه أولئك المتشدقون. وإننا في الوقت الذي نرى فيه اليهود أخزاهم الله ومن عاونهم يستثمرون الأحداث التي تمر بها أمة الإسلام بإعلامهم وقنواتهم يستغلون ذلك في تشويه الإسلام ووصفه بأبشع الصفات وقد يكونون هم وراء الأحداث بالرغم من كل هذه الجهود المبذولة ترى أمتنا بإعلامنا وقنواتنا مع الأسف الشديد تعيش غفلة عظيمة وبعدًا كبيرًا عن اللجوء إلى الله في مثل هذه الأحداث، وترى بعضها يرقص ويغني في ذات الوقت الذي قد يدفع فيه شعب مسلم في دولة مسلمة كأفغانستان الحية أعمال لا علاقة لهم بها، بل تبرؤوا منها واستنكروها، وقد يتعرضون لحرب صليبية ظالمة تظلمهم.
وإننا والله ـ أيها الإخوة ـ ينبغي لنا أن نعود في مثل هذه اللحظات إلى إيماننا بالله لنستمد منه القوة والتمكين، فالله أحوج ما نكون إليه، وأن نعلم أن كل ما يصيب المؤمن فهو ضر، والمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وصدق الله جل وعلا إذ يقول: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأعراف:96-100].
(1/3192)
جاهلية جديدة
أديان وفرق ومذاهب
مذاهب فكرية معاصرة
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفتن التي حصلت بعد وفاة النبي. 2- الإسلام عقيدة وشريعة. 3- تعريف الردة. 4- من ألوان الردة في هذا العصر. 5- تطبيق الإسلام كاملا. 6- تجنيد أعداء الإسلام للعلمانيين. 7- جرائم الصليبيين. 8- حال المجتمعات الغربية. 9- الأسباب والعلاج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
أيها المسلمون، كم كانت المواقف عظيمة والآثار المضنية جسيمة حين كانت القلوب والعيون تبكي حزنًا وأسًى على فراق خير البرية وأزكى البشرية ، حين ثوى في مرقده في الأرض التي طهرها من وساوس الوطنية وأزاح من طريقها كل قوى التقهقر والشرك.
لحق بالرفيق الأعلى ليُحمّل أصحابَه من بعده مسؤوليةَ الدعوة، لكن الخطب بعد ذلك تعاظم، واشتدَّ الحال، وتفاقمت الفتنة، ونجم النفاق في المدينة، واشرأبت اليهودية والنصرانية، وارتد من ارتد من أحياء العرب حول المدينة، وامتنع آخرون عن دفع الزكاة.
حدث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يوم أتى إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه إبان خلافته حيث عزم الصديق على مقاتلة المرتدين، فحدثه عمر يريد ثنيه إلى أن يتألفهم حتى يتمكن الإيمانُ في قلوبهم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه، يقول عمر: فلما رأيت عزمه كذلك علمت أنه الحق، ووقف المؤمنون الصادقون وقفة إيمانية ظاهرة وصفّوا صفًا إسلاميًا واحدًا، فلم يخافوا تلك الجموع المرتدة، ولم يرهبوا تلك القوى المتألبة، وعلموا أن هذه الردة خطر عظيم يهدّد الإسلام في مكة والمدينة ومجتمع المسلمين كله، بل قام المنافقون على عادتهم في كل عصر ومصر يودّون نقض عرى الإسلام من جديد عروة عروة، ولذلك فقط كان جواب الصديق رضي الله تعالى عنه لعمر رضي الله تعالى عنه حاسمًا في هذه القضية، وهو الذي فهم الإسلام قولاً وعملاً، وعلم أنه منهج رباني متكامل، لا يتجزأ الإسلام حسب الأهواء وحسب المصالح وحسب الأنظمة وحسب الأوقات والعصور، فكان موقف أبي بكر هذا موقفًا عُدَّ من أعظم المواقف التي حمت الإسلام من التشويه والتغيير في شرائعه على مر الزمان.
أيها الإخوة المؤمنون، إن أمر الصلاة والزكاة والحج والصيام والجهاد وغيرها من شعائر الإسلام وتشريعاته ليس في الحقيقة إلا إخلاصًا في العبودية لله وحده، فالإنسان إما أن يكون مسلمًا أو لا يكون، فليس الدين قابلاً للتجزئة، وذلك حين يأخذ الإنسان من الإسلام ما يستهويه وينسب إليه ولا يتناقض مع مصالحه وشهواته ومطامعه، ثم يأخذ من الجاهلية ما يستهويه أيضًا، فذلك الضلال والشرك معًا.
إن إنقاص منهج الله في شريعة أو أمر من الأمور التي شرعها الله يعني الاعتقاد بأنه منهج ناقص قاصر، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. والدين الإسلامي منهج متكامل يقوم أساسًا على قاعدة الإيمان بالله وحده وأن محمدًا رسول من عنده، إيمانًا حقيقيًا واضحًا يكون من مقتضاه الاستسلام لله سبحانه ونزع كل عبودية لغير الله في جميع شؤون الحياة العامة والخاصة.
أيها المسلمون، الردة في الإسلام هي إبدال دين الإسلام وعقيدته لإحلال غيرها مكانها، أو هي إنكار شيء مما جاء به الرسول وثبت بالضرورة في دين الإسلام، أو هي كذلك الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض، ولذلك كان المرتد واضحًا ومنبوذًا في العصور الأولى للإسلام، وقد ظن كثير من الناس أن ظاهرة الردة عن الإسلام قد وئدت إلى غير رجعة بوأد أبي بكر لها، لكن الأمر خلاف ذلك، فإن الردة عن الإسلام قد تنطفئ نارها تارة وتضرم تارة أخرى، وقد تكون كالحرباء تتلون وتتغير بألوان تواكب العصر والحضارة ومتطلبات العصر المزعومة.
إن من ألوان الردة وألبستها الذي اكتسح جزءا كبيرًا من العالم الإسلامي ظاهرة غزت كثيرًا من الأسر والبيوتات، إنها ردّة لكنها لم تلفت انتباه كثير من المسلمين ولم تشغل خاطرهم، لأن صاحبها لا يدخل كنيسة ولا يتعبّد في بيعة.
هذه الردّة هي ما يسمى بالحرية الشخصية التي باتت الآن منتشرةً في كثيرٍ من العوالم، والتي يدّعي أرباب الفكر المادي الملحد أنهم ربحوها من وراء التحرر من الدين والتلبس بلباس العلمانية، بأن يكون الدين مظهرًا وشعارًا لا يطبق إلا في المساجد، أما في الحكم والسياسة ومراتع الفن والثقافة فهو بعيد عنها، وهذه الحرية التي يريدون هي العبُّ من الشهوات بلا حساب والانطلاق وراء الرغبات الحسية بلا حياء والتبعية المقيتة للغرب الصليبي الكافر والتحلّل من عرى الفضائل والأخلاق والقيم العليا وتنحية شرع الله عن واقع الحياة، إنها حرية مزعومة ليست كسبًا يسعى إليه ولا مغنمًا يحرص عليه، إنها ليست إلا خسارة جسيمة على البشرية جمعاء، قال تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
إن القيود التي يفرضها الإسلام على المسلم لا يريد بها عذابه وحرمانه، إنما يريد أن يرتفعَ بها من الحيوانية الهابطة إلى الإنسانية الصاعدة، وبذلك ينتصر المسلم على الدعة والتحررية، إنها حدود تجلب الخير، وفي تعديها الشر، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [البقرة:229].
إن عز أمتنا الإسلامية وعز بلدنا الإسلامي ورفعته هو في تطبيق الإسلام الكامل وليس في أجزاء منه، وإن ما نراه من كثرة مصائب الأمة وتخبط في حلولها وركون إلى طواغيت الغرب والشرق وحصارات نراها تهلك بعض الشعوب الإسلامية وحروب وتحالفات على بلاد المسلمين ومقدسات نراها تدعم تحت راية الصليب ويرعاها الصليب والتلمود، وكل ذلك عائد إلى بعد أمة الإسلام عن الإسلام الذي به وجدت وحَيِيَت، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا [النساء:60].
أمة الإسلام، إنها قاعدة واضحة، وعلى الرغم من هذا الوضوح والجلاء فما أن أحاطت بالعالم هذه الأزمةُ الأخيرة بتداعياتها وأشخاصها حتى استغلَّها أعداء الإسلام حين أبوا إلا وضع العراقيل وتلفيق التهم واختلاق الشبه بوسائله وقنواته، أن يجعل من بعض المسلمين خاصة من يسمّون بالمثقفين يستحيون من ذكر بعض شعائر الإسلام كالحدود والقصاص وتعريف الحجاب، ويجنّدون أقلامهم وبرامجهم للنيل من الإسلام وانتقاص أهله المستمسكين به، بل قد تجد منهم من يعلن ذلك ويكتبه عبر المقالات والصحف والقنوات ببرامجها الحوارية المدّعاة ذات الأهداف الخفية، وكأن هؤلاء لا يرون مانعًا أن تكون ديار الإسلام ميدانًا فسيحًا تنمو فيه الدنايا وسفاسف الأخلاق، ويحاولون هدم الإسلام عبر نقد مناهج التعليم في كتاباتهم، بل قد لا يتورع أحدهم في أحد تلك البرامج الفضائية أن يدعو الغرب وأن يدعو أمريكا حتى تنظم مناهج المسلمين في مدارسهم، بل ودعاهم إلى أن ينظموا مساجدنا وخطباءنا، وحين ترى حال كثير من هؤلاء الذين ينظرون في مسائل التعليم ومعاملاته ترى فيهم أناسًا ظاهرهم الفسق لا يعرفون الطريق إلى المساجد أو لا يتورعون عن الموبقات والمزالق، فتراهم يسرون أو يعلنون أن تحريم الخمر والزنا وقطع دابر اللصوص المفسدين تشدّد وهمجية.
فأيّ جاهلية ورِدّة وصلنا إليها في هذا القرن الحديث؟! أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
أيها المسلمون، إن ظاهرةَ الجاهلية الجديدة تعدّ من أخبث الظواهر وأخطرها التي تواجه المسلمين في هذا العصر، لا سيما حين تذكيها أقلام وأسماء إسلامية، حيث إن نتيجتها محو شريعة الله من الأرض وتغيير ولاء المسلمين الموحّد إلى ولاءات جاهلية متعددة. وإن دعاة هذه الظاهرة ورموزها مازال فكرهم مشتهرًا ومازال مكرهم منتشرًا، ودعواتهم تسري سريان النار في الهشيم، ومع الأسف أنك ترى مجاملة وتكريمًا لهم بالرغم من شرهم هذا الذي يصبّ في مصلحة الأعداء، وهم إنما يعلقون دعواهم تلك بألبسة شتى، فتارة باسم المصلحة والقومية، وتارة باسم الخوف على الوطن من الإرهاب والتطرف، وتارة باسم الحاجات الاقتصادية، وأخرى يسوقون من خلالها المنكر باسم المهرجانات الغنائية والتراثية والسياحية الترفيهية، وتارةً من خلال أنشطةِ جمعياتٍ نسويةٍ، وهكذا تتغيرُ الراياتُ وتتعدد، والهدف واحد، كله يصبّ في تغيير بنية هذه المجتمعات الإسلامية وصياغةِ إسلام وشريعةٍ تناسبُ تلك الأنظمةِ والجهاتِ الصليبيةِ.
وإن أولئك الدعاة لم يشتد نشاطهم أخيرًا إلا حين رأوا الناس يعودون إلى دينهم أفواجًا، فخافوا بذلك أن يفوتهم حظوظ من الدنيا، فاستغلوا الأحداث الأخيرة، فتقدموا حاقدين مضمرين الغدر والمكرَ لهذه الأمة، فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64].
إن أهل الكفر والصليب والتلمود الذين يغذّون مثل هذه الجاهلية والردّة الجديدة وقد يتسامحون في شيء من الإسلام وقد يحضر رؤساؤهم بعضًا من الشعائر الإسلامية بدعوى المساواة، لكنهم يطالبون بإسلام لا يكافح الاستعمار، وليس هو الإسلام الذي يقاوم الطغيان، إنهم يجوّزون أن يُستفتى الإسلام في الحج والزكاة والمسح على الخفين ونواقض الوضوء، لكنهم لا يجوّزون أن يستفتى الإسلام أبدًا في قتل الأنفسِ البريئة، في انتهاك الحقوق وتشريد المجتمعات الإسلامية في فلسطين وأفغانستان والشيشان وكشمير والفلبين والصومال وغيرها من بلاد المسلمين، لا يستفتى الإسلام في تطبيق شرع الله وإقامة حدود الله.
وقد رأينا الهجمات الشرسة التي يقودها الغرب الصليبي على بلادنا لأنها تطبّق الحدود، بل تجد أن الحكم بما أنزل الله يكون حسب هوى بعض الأنظمة والمحاكم الوضعية، فهذا قانون للأحوال الشخصية، وهذا قانون خاص بالعمل والعمال، وهذا قانون صحي، وهذا اقتصاد يقوم على الربا، وهذا أديب ومفكر يؤلف روايات سيئة السمعة والهدف، يذكر فيها منكرات الصِبا ولا يجد محاكمة أو حتى مناقشة، بل قد تجد أن أبواب الصحف قد فتحت مشرعةً له ولغيره، وغير ذلك من الهجمات المبطنة.
إخوتي، إن هذه الدعوات والتي يتلاطم غبارها ذات اليمين والشمال، إنها تريد للإسلام والمسلمين أن يعيش في نطاق ضيق لا يعرف المسلمون منه إلا اسمه، ولا يعرفون من القرآن إلا رسمه، وإن هذه الدعوة الماكرة تتلبس بألبسة شتى كالحرية الخاصة بالفرد، فللفرد أن يدين بما شاء، وأن يتبادل الحب والغرام مع من شاء، وأن في بعض أحكام الشريعة بعض الجمود وعدم الواقعية، ومنها إضفاء صبغة البهرجة الكاذبة والدعاية الرائجة للعلمانية ووصفها بأنها علامة التقدم ومسايرة روح العصر الذي سيطرت فيه المعارف والعلوم، فللفرد أن يأخذ ما يريد وأن يدع ما يريد، ومع الأسف أن كثيرًا من المسلمين وقع فريسة لهذا الغزو الماحق الماكر، وتعلق كثير منهم بتلك البهرجة والخواء، وانتشرت هذه الأفكار الجاهلية الجديدة حتى باتت تهدّد بلدًا احتضنت تاريخ الإسلام وبداياته، وفيها بيوت الله ومقدساته، وأصبح أهلها ومفكروها من المتأثرين بمثل هذه الدعوات والمظاهر باسم الأدب والفن وراياته ومواجهة التطرف والإرهاب وغاياته.
إن الإسلام هو من تكفل بإيجاد العدل والمساواة وضمان حقوق الناس في الأرض، وإن الضمان الحقيقي للأمن والسلام هو الحكم بشريعة الله على عباد الله، وهذا ليس انغلاقا أو تقوقعًا على الذات، بل انفتاح على الحضارات الإنسانية في تراثها النافع وإيجابياتها النافعة، وإن ما يطالب به هؤلاء الصحفيون والكتاب وأصحاب البرامج من انفتاح صليبي إنما هو دعوة للاستعمار، وكما أنه يسرق الأقوات فإنه يسلبُ العقائدَ ويسمّم الأفكار ويسعى في فتنة الأمة عن إيمانها وتضليلها عن أهدافها.
وإن رصدًا للنتائج الوخيمة والحديثة على الإنسانية لتلك الأنظمة الصليبية التي حكمت العالم خلال فترةٍ بسيطة في القرن الماضي لترينا عجبًا. هذه الممارسات الصليبية التي حكمت العالم والتي يطالب بها هؤلاء الببغاوات عبر كتاباتهم، فهل نحصي المآسي التي حصلت تحت حكمهم من عمليات القتل الجماعي في حربين عالميتين حصدت الملايين ولا زالت آثارها إلى اليوم؟! وها هي الدماء المسلمة تهراق أودية وأنهارًا في فلسطين وأفغانستان وكشمير والفلبين والشيشان، وأريقت قبلا في البوسنة وكوسوفا وغيرها، وكل ذلك برعاية وإقرار من هؤلاء الذين يدّعون طلب السلام للعالم ومقاومة الإرهاب والتطرف.
أما على الصعيد السياسي فلا نرى إلا بحثًا لمصلحتهم وحدهم، حين يفرضون عولمة اقتصادية تسوق منتجاتهم على حساب الضعفاء، وحين نرى الربا يُنهك كاهلَ العالم، حتى رأينا كيف أثرت تلك الاقتصاديات المهترئة كيف أثرت على إحدى تلك الدول هذه الأيام عبر إثارة الفتن والمشكلات فيها.
ثم على الصعيد الاجتماعي أليس إهانةً بشريةً مريعة أشكالُ الدعارة وأرقامها المتعاظمة؟! ماذا عن الأسرة وتماسكها ورعاية الأطفال في أحضانِها؟! وماذا عن الإباحية باسم الحرية؟! انحطت أخلاقهم وعُدِمَ حياؤهم حتَى أباحوا اللواط والسحاق، وأصبح للوطية جمعيات وأحزاب وتزاوج فيما بينهم مخالفة لسنن الله والفطرة، يقول الله جل وعلا: وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [الشعراء:166].
فهل يعقل بعد ذلك أن يأتي أحد هؤلاء الكتاب يحمل اسمًا إسلاميًا ويكتب بلغة القرآن ليدعونا إلى هذه الحرية المشئومة لأولئك القوم العادين باسم محاربة الإرهاب؟! فهل استطاعوا القضاء على الإرهاب كما يدعون؟! أليس إرهابًا التدخل في الشؤون الداخلية للدول والشعوب والجرأة على دينها ومعتقداتها؟! أليس إرهابا سياسيا ذلك الهجومُ المبطن على شريعةِ الإسلام عبر الهجوم على دوله ومناهجه التعليمية ومؤسساته الخيرية؟! أليس إرهابًا مدعومًا ذلك القصف الوحشي والتدخل السافر الذي رأيناه ونراه يوميا على المسلمين المدنيين في أفغانستان والفلبين حيث يقتل المدنيون هناك برعاية العالم وصمته باسم محاربة التطرف والإرهاب؟! وكذلك قتل أسراهم وسجنهم في أوضاع مهينة، وكذلك ما يحدث في فلسطين، وكذلك الهجمات المبطنة المبيتة الآن على المسلمين في الصومال، فهل يعقل بعد كل ذلك الوضوح أن نرى بعضًا من المنافقين يسارعون فيهم ليكونوا دعاة لهم ولبرامجهم التي لا تريد للإسلام إلا الشر والهزيمة؟!
أيها الإخوة المؤمنون، بعد ذلك يتساءل كل مسلم غيور: كيف انتشرت هذه الظاهرة بين المسلمين؟ كيف غزتهم في عقر دارهم وسيطرت على العقول والنفوس؟ وكيف النجاة؟
والجواب عن ذلك كله هو أن العالم الإسلامي قد ضعف ضعفًا شديدًا في العقيدة والعلم والدعوة، وبدا على كثير من أهله الإعياءُ والشيخوخة والركون إلى الترف والدعةِ، وأصبحَ تعلُّقنا بكثير من الأمور إنما هو نسب وذكر، لا حُسْن تطبيق، ولكن رونق الإسلام وجوهره بقي صافيًا نقيًا رغم تلك الشوائب، لأن الله هو الذي يحفظه، لكن المسلمين هم الذين ضعفوا فلا سعي ولا إقبال على العلم وطلبه، ولا حماسة في الدعوة، ولا تضحيات تبذل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عدا عن نباتات الشر التي نمت داخل الصف الإسلامي، وغاب العرض الجميل للإسلام بوصفه النجاة لأهل الأرض إلا ما قل، وقد تجد كذلك فئامًا من المسلمين والمنتسبين إلى الإسلام تشوّه صورة الإسلام والمسلمين إما بالتعجّل وتعجّل النتائج أو كذلك بالتميّع، إما أن يكون بقصد أو بدون قصد، وأصاب كثيرًا من المسلمين الانحراف في فهمهم للدين وتصورهم عنه، ولذلك فإن من الواجب أن يقوم المسلمون بتجلية هذه التصورات وكشف هذه الشبهات وفضح حقيقة هذه الجاهليات الجديدة، عند ذلك ينكشف الستار لأولئك الذين يستمدون قوتهم من العمل في الظلام، وتكشف أوكارهم وسراديبهم وطرقهم، وبذلك يكون فشلهم ساحقًا وماحقًا بإذن الله، وهم الذين أصبحوا أداة لغرب حاقد على الإسلام ودوله كما نراه في واقعنا الآن، وكيف كثرت الهجمات في صحفهم على بلادنا وهم لا يريدون ـ ولا أزلامُهم من الكتاب في بلادنا ـ من وراء ذلك إلا إسقاط الإسلام الذي تميزت به هذه البلاد ونشأ عليه نظامها وأهلها.
أيها المسلمون، إن الفتنة الكبرى التي ابتلي بها المسلمون في هذا العصر من محاولات الكفر والنفاق إبعاد شرع الله وحكمه عن الأرض لم تنجح ولن تنجح بإذن الله في القضاء على المسلمين، لأن وجودهم مرتبط بدين باق حفظه الله على مرور الأزمان وكثرة الطغيان، لكن إحياء الأمة الإسلامية من سباتها العميق والرفع بها إلى مكانها الطبيعي في مقدمة الركب لقيادة البشرية لن يتحقق بجهود أفراد قليلة أو تجمعات صغيرة متحزبة على نفسها، وكل يدعي أن الحق لديه وغيره ضال مبتدع.
إن الأمر أجلّ من هذا والخطر أشدّ وأدهى، والإسلام بحاجة إلى أوليائه الذين يعملون له وحده ويواجهون به الكفر والإلحاد ويعدّون الخطط اللازمة والعدّة والعتاد لمواجهة الكفر وأوليائه الذين يعرفون أن الإسلام يجب أن يحكم كي يؤتي ثماره كاملة. أولياؤه الذين لا تخدعهم أكاذيب الصهاينة اليهود وأكاذيب الصليب ولا تغريهم ابتسامة الصليبيين.
إن أهل الإسلام يطلبون باسمه عدالة إسلامية وشريعة ربانية، ولا يجعلون من الإسلام شعارًا وأداة لخدمة الأهواء والأدواء، ولكن يريدون عدلاً وعزة وكرامة، بذلك يمكن للإسلام بتوفيق الله أن يكون حاكمًا ومرجعًا، وحينئذ يتحقق الوعد ويتأكد التمكين وينزل النصر: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3193)
روائع من سيرة عمر الفاروق رضي الله عنه
سيرة وتاريخ
تراجم
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اختيار الله تعالى لصحابة النبي. 2- ضرورة الحديث عن سيرة الصحابة. 3- أفضل الصحابة. 4- إسلام عمر رضي الله عنه. 5- فضائل عمر رضي الله عنه. 6- إنجازات عمر رضي الله عنه. 7- استخلاف عمر رضي الله عنه. 8- خلافة عمر الفاروق. 9- مواقف عمر في عام الرمادة. 10- عمر مع ولاته وعماله. 11- عدل عمر رضي الله عنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعرفوا حكمته البالغة في شرعه وخلقة وتقديره، فإنه سبحانه اختار نبيَّه محمدًا للرسالة إلى الخلق بهذا الدين الكامل لينشره بين العالمين، واختارَ له من الأصحاب أفضل الناس بعد النبيين، أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقومها عملاً، وأقلها تكلفًا، جاهدوا في الله حق جهاده في حياة نبيهم وبعد وفاته، نصر الله بهم الدين ونصرهم به، أظهرهم على كل الأديان وأهلها. ولذلك فإن الحديث في سيرة صحابة رسول الله وما سطروه من عظمة واجب في هذا العصر الذي نعيش فيه اضطراب الموازين ومولاة الكفار والوقوع في الصحابة الأبرار من قبل أهل البدع والرفض والفجار. ذكرهم واجب لردع أهل الهوى من الزنادقة وأهل الكفر والابتداع الذين انتقصوا وسبّوا أخيَر جيل وجِد على الأرض، لا لشيء إلا لأنهم حملة الإسلام ورواة الحديث التي تهدم بدعهم وتظهر ضلالاتهم، فرضي الله عن صحابة رسول الله وأرضاهم، وسلط العذاب على من أبغضهم وعاداهم.
أيها الإخوة المؤمنون، كان منهم الخلفاء الراشدون الأئمة المهديون الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، فكانت خلافتهم أفضل خلافه في مستقبل الزمان وماضيه، تشهد بذلك أفعالهم وتنطق به آثارهم. أبو بكر الصديق عبد الله بن عثمان وأبو حفص الفاروق عمر بن الخطاب وأبو عبد الله ذو النورين عثمان بن عفان وأبو الحسن ابن عم النبي علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. وكان أفضلهم خليفة رسول الله ورفيقه في الغار الذي ثبّت الله به المسلمين يوم وفاة رسول الله ونصر الله به الإسلام حين ارتدّ من ارتدّ من العرب بعد موت النبي ، وكان من بركاته على هذه الأمة ونصحه لها ووفور عقله وصدق فراسته أن استخلف على هذه الأمة بعده وزيره وقرينه عمر بن الخطاب الذي قال فيه النبي : ((لقد كان فيما كان قبلكم من الأمم ناس محدَّثون يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر)) ، وسأل عمرو بن العاص رسول الله عن أحب الرجال إليه فقال: ((أبو بكر)) ، قال: ثم من؟ قال: ((ثم عمر بن الخطاب)) وعدَّ رجالاً. وأخبر النبي أنه كان ينزع من بئر فجاء أبو بكر فنزع ذنوبًا أو ذنوبين ـ يعني دلوًا أو دلوين ـ، ثم قال: ((أخذها ابن الخطاب من يد أبي بكر فاستحالت في يده غربًا، فلم أر عبقريًا من الناس يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن)). ولقد صدق رسول الله الرؤيا فتولى الخلافة عمر. إنها سيرة عمر رضي الله عنه التي يغني عن التعليق عليها سردُها كما هي، ففيها العبرة لكل زمان ومكان لمن أراد الاستفادة منها حين سماعها وقراءتها، وجمعُ فضائله وحصرُ قصصه صعب، لكنها غيض من فيض نورده لعلنا نعتبر بما نسمع.
ما كان إلا الشمس يسطع ضوؤها والخصب في أرض الضلال لماحل
قف أيها التاريخ سجّل صفحةً غراء تنطق بالخلود الكامل
حرك بسيرته القلوب وقد قست وغدت بقسوتها كصم جنادل
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال رسول الله : ((أبو بكر وعمر من هذا الدين كمنزلة السمع والبصر من الرأس)) رواه الطبراني وحسنه الألباني، وقال رسول الله : ((اقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر)) رواه أصحاب السنن وصححه الألباني.
إنه عمر بن الخطاب الذي كان النبي يدعو أن يعز الله به الإسلام، فاستجاب الله دعاءه. وفي قصة إسلامه أنه سمع النبي يقرأ سورة الحاقة وهو قائم يصلي عند الكعبة فقال في نفسه: هذا شاعر، فسمع قوله تعالى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الحاقة:41-43]، فشرح الله صدره للإسلام. يروى أيضًا أنه دخل على أخته فاطمة وزوجها وعندهما خباب من الأرت يعلمهم القرآن، فاستمع إلى الآيات من سورة طه، فلما أسلم ضرب النبي صدره ثلاثًا وهو يقول: ((اللهم أخرج ما في صدره من غلّ وأبدله إيمانًا)).
كان إسلامه رضي الله عنه عزة للإسلام، قال ابن مسعود: (ما زلنا أعزة منذ إسلام عمر) رواه البخاري، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (كان إسلامه فتحًا، وهجرته نصرًا، وكانت إمارته رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر) رواه ابن هشام وابن سعد.
سماه النبي الفاروق، وهو الذي يفرق بين الحق والباطل.
كان رضي الله عنه شديد الخوف من الله تعالى حتى حفرت الدموع خطين أسودين في وجهه من كثرة البكاء، ومن خاف الله تعالى أخاف الله منه كلّ شيء، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي قال لعمر: ((والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان قط سالكًا فجا إلا سلك فجًا غيره)) رواه البخاري ومسلم، وعن بريده رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الشيطان ليفر منك يا عمر)) رواه الترمذي وصححه الألباني.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره جرا)) ، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: ((الدين)) رواه البخاري. هذا دين عمر، دين يغطيه، دين يستره، فلا يظهر منه إلا كل جميل.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج في أظفاري، وأعطي فضلي عمر بن الخطاب)) ، قالوا: فما أولته يا رسو الله؟ قال: ((العلم)) رواه البخاري. رجل جمع الله له الدين والعلم، فأي رجل يكون؟!
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينا نحن عند رسول الله إذ قال: ((بينا أنا نائم رأتني في الجنة فإذا أمرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرت غيرته فوليت مدبرًا)) ، فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا سول الله؟! رواه البخاري.
أيها المسلمون، بماذا وبماذا نتحدث عن سيرة عمر؟! أنتحدث عن دينه وعلمه، أو نتحدث عن زهده وورعه وتقواه، أو عن حكمه وسياسته وعدله، أو عن شجاعته وقوته وجهاده؟! حقًا إنك لتحتار وأنت تتحدث عن عمر.
إن جاع في شدة قوم شركتهم في الجوع أو تنجلي عنهم غواشيها
جوع الخليفة والدنيا بقبضته في الزهد منزلة سبحان موليها
فمن يباري أبا حفص وسيرته أو من يحاول للفاروق تشبيهًا
قال ابن سعد في طبقاته: إن أول من سمي بأمير المؤمنين هو عمر بن الخطاب، وإنه هو أول من كتب التاريخ، كتبه من هجرة النبي من مكة إلى المدينة، وهو أول من جمع القرآن في المصحف، وهو أول من جمع الناس على قيام شهر رمضان وكتب به إلى البلدان، وجعل بالمدينة قارئين: قارئًا يصلي بالرجال، وقارئًا يصلي بالنساء، وهو أول من ضرب في الخمر ثمانين، وهو أول من عس في عمله بالمدينة، حمل الدرّة وأدّب بها حتى قيل بعده: لَدرةُ عمر أهيب من سيفكم.
وهو أول من فتح الفتوح؛ فتح العراق كله وأذربجان وفارس والشام ومصر، وقتل رضي الله عنه وخيله على الري قد فتحوا عامتها.
وهو أول من وضع الخراج على الأرض والجزية على جماجم أهل الذمة، وهو أول من مصّر الأمصار: الكوفة والبصرة والموصل، وأنزلها العرب، وهو أول من استقضى القضاة في الأمصار.
وأول من دون الدواوين، وكتب للناس على قبائلهم، وفرض لهم الأعطيات من الفيء.
وهو الذي أخرج اليهود من الحجاز، وأجلاهم من جزيرة العرب إلى الشام، وحضر فتح بيت المقدس، ووسع مسجد رسول الله وفرشه بالحصى. هذه بعض منجزات عمر، فتعالوا لنقف مع معالم من سيرته وإن أطلنا الوقوف.
أيها الإخوة المؤمنون، لما دنا أجل الصديق رضي الله عنه كتب كتابًا في توليه العهد لعمر: (بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر إلى عمر بن الخطاب، وأنا في أول أيام الآخرة وآخر أيام الدنيا، أما بعد: فيا عمر بن الخطاب، قد وليتك أمر أمة محمد ، فإن أصلحتَ وعدلت فهذا ظني فيك، وإن اتبعت هواك فالله المطلع على السرائر، تعلم ـ يا عمر ـ أن لله حقًا في الليل لا يقبله في النهار، وله حق بالنهار لا يقبله بالليل، وإنها لا تقبل نافلة حتى تؤدّى الفريضة... ـ حتى قال له في آخر هذه الوصية: ـ فإن حفظت قولي فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت ولا بد لك منه، وإن ضيعت وصيتي فلا يكونن غائب أبغض إليك من الموت ولن تعجِزه. يا عمر، اتق الله، لا يصرعك الله مصرعًا كمصرعي، والسلام).
تولى عمر الخلافة واستلم الحكم في اليوم الذي توفي فيه الصديق، وبحث عن ميراث أبي بكر فإذا هو ثوبان وبغلة، فبكى وقال: (لقد أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر).
تولى الخلافة عمر بن الخطاب بعد أبي بكر رضي الله عنهما وقوي سلطان الإسلام، وانتشر في مشارق الأرض ومغاربها حتى قيل: إن الفتوحات قد بلغت في عهده ألفًا وستًا وثلاثين مدينة مع سوادها، بنى فيها أربعة آلاف مسجد، وكان رضي الله عنه مع سعة خلافته مهتمًا برعيته قائمًا فيهم خير قيام. قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: إن الله عز وجل أعز به الإسلام، وأذل به الشر وأهله، أقام شعائر الدين الحنيف، ومنع من كل أمر فيه نزوع إلى نقض عرى الإسلام، مطيعًا في ذلك الله ورسوله، واقفًا عند كتاب الله، متمثلاً لسنة رسول الله ، محتذيًا حذو صاحبيه، مشاورًا في أموره السابقين الأولين مثل عثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم ممن له علم أو رأي أو نصيحة للإسلام وأهله، حتى إن العمدة في الشروط على أهل الذمة من أنصاري وغيرهم ما ألزموا به أنفسهم من إكرام المسلمين والتميز عليهم في اللباس والأسامي وغيرها، وأن لا يظهروا الصليب على كنائسهم، ولا في شيء من طرق المسلمين، وأن لا ينشروا كتبهم أو يظهروها في أسواق المسلمين، ولقد كان رضي الله عنه يمنع من استعمال الكفار في أمور الأمة أو إعزازهم بعد أن أذلهم الله، قال أبو موسى الشعري: قلت لعمر رضي الله عنه: إن لي كاتبًا نصرانيًا، فقال: أما سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة:51]؟! ألا اتخذت حنيفًا ـ يعني مسلمًا ـ؟! قال: قلت: يا أمير المؤمنين، لي كتابته وله دينه، قال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله. وكتب إليه خالد بن الوليد يقول: إن بالشام كاتبًا نصرانيًا لا يقوّم خراج الشام إلا به، فكتب إليه عمر: لا تستعمله، فكتب خالد إلى عمر: إنه لا غنى بنا عنه، فرد عليه: لا تستعمله، فكتب خالد: إذا لم نستعمله ضاع المال، فكتب إليه عمر: مات النصراني والسلام.
ولقد كانت السياسة الحكيمة لعمر في منع تولي غير المسلمين لأمور المسلمين وإن كانت شيئًا بسيطًا، كانت هذه السياسة مستوحاة من سياسة النبي حيث لحقه مشرك ليقاتل معه فقال النبي : ((إني لا أستعين بمشرك)) ، وهو مبدأ شرعي عظيم فيه تحقيق الولاء للمسلمين والبراءة من الكافرين ورسالة إلى أصحاب العمل والعمال الذين يستقدمون الكفار للأعمال ويقدمونهم على إخوانهم المسلمين.
ولما تول عمر رضي الله عنه صعد المنبر وألقى خطبته العظيمة، بين فيها سياسته وأوضح فيها واجباته تجاه الأمة، وسار الناس سيرة عمرية ما سمع الناس بمثلها. كان عمر يأخذ الدنيا في يوم، ويسلمها للفقراء في يوم. تأتيه القوافل محملة بالغنائم والفيء والذهب والفضة على الجمال، وتدخل المدينة، وخليفة المسلمين يصلي بالناس في بردته وبها أربع عشرة رقعة تختلف بعضها عن بعض.
قلب إمبراطورية هرقل وكسرى، وجعل عاليها أسفلها، وغنم أموالها، ولا يجد خبز الشعير ليأكله. يقبل الليل وتهدأ العيون وينام الناس فيأخذ عمر درته ويجوب بها سكك المدينة علّه يجد ضعيفا يساعده أو فقيرا يعطيه أو مجرمًا يؤدبه.
خرج مرةً في سواد الليل فرآه طلحة رضي الله عنه فذهب عمر فدخل بيتًا، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت، وإذا بعجوز عمياء قاعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ فقالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرات عمر تتّبع؟! هذا وعمر خليفة المسلمين.
وقدم الأحنف بن قيس مع وفد العراق وفي يوم صائف شديد الحر على عمر، وكان عمر محتجرًا بعباءة ويهنأ بعيرًا ـ أي: يطليه بالقطران ـ من الجرب الذي أصابه من إبل الصدقة، فقال: يا أحنف، ضع ثيابك وهلمّ فأعن أمير المؤمنين على هذا البعير فإنه من إبل الصدقة فيه حقّ اليتيم والأرملة والمسكين، فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين، فهلا تأمر عبدا من عبيد الصدقة فيكفك؟! فقال عمر: وأي عبد هو أعبد مني ومن الأحنف؟! إنه من ولي أمر المسلمين يجب عليه لهم ما يجب على العبد لسيده في النصيحة وأداء الأمانة.
وكان راتب عمر من بيت مال المسلمين مقابل أن يتولى الخلافة درهمين كلّ يوم له ولعياله، وربما احتاج أحيانًا لمزيد، فيأتي صاحب بيت المال فيسقرضه، وربما أعسر فيأتيه صاحب بيت المال يتقاضاه فيلزمه فيأتيه به عمر، وربما أخرج عطاءه فقضاه.
أخرج ابن سعد عن البراء بن معرور أن عمر مرض مرة فنعِت له العسل، وكان في بيت المال عكّة فيها شيء من العسل، فخرج يومًا حتى جاء المنبر وقال: إن أذنتم لي فيها أخذتها، وإلا فهي علىّ حرام، فأذنوا له.
وتستمر مسيرة عمر ويدخل عام الرمادة سنة ثماني عشرة للهجرة، فيقضي على الأخضر واليابس، ويموت الناس جوعًا، حلف عمر أن لا يأكل سمنًا حتى يرفع الله الضائقة عن المسلمين، وضرب لنفسه خيمة مع المسلمين حتى يباشر بنفسه توزيع الطعام على الناس. عن طاووس عن أبيه قال: أجدب الناس على عهد عمر، فما أكل سمنًا ولا دسمًا حتى أكل الناس، قال أسلم: كنا نقول: لو لم يرفع الله سبحانه وتعالى الضائقة عام الرمادة لظننا أن عمر يموت همًا بأمر المسلمين.
عن يحيى بن سعد قال: اشترت امرأة لعمر فرقًا من سمن فقال عمر: ما هذا؟ قالت: هو من مالي وليس من نفقتك، فقال عمر رضي الله عنه: ما أنا بذائقه حتى يحيى الناس.
ووقف على المنبر يوم الجمعة يخطب الناس ببرده المرقع، ووالله لو أراد أن يبني بيته بالذهب لاستطاع، ولو أراد أن يمشي من بيته إلى المسجد على الحرير لاستطاع، لكنه يقف على المنبر أثناء الخطبة فيقرقر بطنه من الجوع، فيقول لبطنه: قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين.
أما حاله مع ولاته فقد ورد في السير أن رجلاً من مصر جاء إلى عمر شاكيًا محمدَ بن عمرو بن العاص حيث اشترك معه في سباق، فلما سبقه بدأ يضربه ابن عمرو بن العاص ويقول: خذها وأنا ابن أكبرين، فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن استدعى عمرا وابنه محمدا وقال للرجل: خذ الدرّة فاضرب ابن الأكرمين، فلما انتهى قال: خذ الدرة واضرب بها عمرًا، فوالله ما ضربك إلا بفضل سلطانه، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، قد استوفيت حقي وضربت من ضربني، فقال عمر: أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه، ثم التفت إلى عمرو وقال له: يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟! مؤكدًا رضي الله عنه على إعطاء الناس حقوقهم وإقامة حدود الله فيهم.
ويكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: أما بعد، فإن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته، وإن أشقى الرعاة عند الله من شقيت به رعيته، وإياك أن ترتع فترتع عمالك، فيكون مثلك عند ذلك مثل البهيمة نظرت إلى خضرة من الأرض فرتعت فيها تبغي بذلك السمن وإنما حتفها في سمنها.
وكتب مرة إلى عتبة بن فرقد وكان قد ولاه على أذربجان، فقال له: إنه ليس من كدّ أبيك ولا من كدّ أمك، أي: إنّ هذا الذي تأخذه من بيت مال المسلمين ليس من كدّ أبيك ولا من كدّ أمك ثم قال له: فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياك والتنعم وزي أهل الشرك ولباس الحرير.
وكان إذا أصدر تعليمات بالمنع من شيء أو نهى عن شيء جمع أهله وأقاربه وقال لهم: إني نهيت الناس عن كذا وكذا وإنهم لينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، ولا أجد أحدًا منكم فعل ما نهيت عنه إلا أضعفت عليه العقوبة.
يخرج رضي الله عنه ذات مرة إلى السوق فيرى إبلاً سمنًا تميزت عن الإبل، فيسأل: إبل من هذه؟ فيقولون: إبل عبد الله بن عمر، فغضب ويرسل في طلبه، ويسأل عن الإبل فيقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إنها إبل هزيلة اشتريتها بمالي وبعثت بها إلى الحِمى لأرعاها، فقال له عمر: ويقول الناس حين يرونها: ارعوا إبل أمير المؤمنين واسقوها، وهكذا تسمن إبلك ويربو ربحك يا ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله خذ رأس مالك الذي دفعته في هذه الإبل، واجعل الربحَ في بيت مال المسلمين.
هذا هو عدل عمر، فالقرابة عنده لا تعني المحاباة وإلغاء القوانين وأكل أموال الناس، بل القرابة عند أمير المؤمنين الفاروق من المتابعة والمسؤولية والبعد عن كل شبهه ومطالبة ذويه بأن يكونوا على قدر من المسؤولية ويكونوا عونًا على الواجب.
وفي يوم من الأيام يأتي الهرمزان مستشار كسرى لابسًا تاجًا من ذهب وزبرجد وعليه الحرير، يدخل المدينة فيقول: أين قصر الخليفة؟ قالوا: ليس له قصر، قال: أين بيته؟ فذهبوا فأروه بيتًا من طين وقالوا له: هذا بيت الخليفة، قال: أين حارسه؟ قالوا: ليس له حارس.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمان
طرق هرمزان الباب فخرج ولده، قال له: أين الخليفة؟ فقال: التمسوه في المسجد أو في ضاحية من ضواحي المدينة، فذهبوا إلى المسجد فلم يجدوه، وبحثوا عنه فوجدوه نائمًا تحت شجرة، وقد وضع درته بجانبه، وعليه ثوبه المرقع وقد توس ذراعه في أنعم نومة عرفها زعيم. تعجّب الهرمزان مما رأى وهو الذي فتح الدنيا ينام بهذه الهيئة تحت شجرة وقال كلمته المشهورة: حكمتَ فعدلت فأمنت فنِمت يا عمر.
وراعَ صاحبَ كسرى أن رأى عمَرًا بين الرعية عُطلاً وهو راعيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يبليها
وعهده بملوك الفرس أن لها سورًا من الجند والأحراس حاميها
فقال قولة حقٍ أصبحت مثلاً وصار الجيل بعد الجيل يحكيها
أمنت لما أقمت العدل بينهمُ فنمت نومَ قرير العين هانيها
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3194)
شيخ تمناها
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
القتال والجهاد, جرائم وحوادث
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
5/2/1425
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تمني الشهادة. 2- استشهاد الشيخ أحمد ياسين رحمه الله تعالى. 3- ما أنجزه الشيخ بموته. 4- سنة فقد العظماء واستخلافهم. 5- فضل الشهادة. 6- تمني السلف للشهادة. 7- شعيرة الجهاد. 8- تشويه أعداء الإسلام للجهاد. 9- مفاسد ترك الجهاد. 10- لغة التخاذل. 11- رسالة للعلماء وقادة الفكر والرأي. 12- رسالة لشباب الإسلام. 13- وجوب نصرة إخواننا في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
ياسين إن قتلوك في غدر فكم قتلوا نبيا في نهار دامي
ياسين يا لحنًا تضوّع بالفدا يا قصة للعزم والإقدام
في همة علوية لم يثنها ضعف الأشل ولا لظى الآلام
فلئن نحلت فكم جسوم انحمت وعقولها عار على الأجسام
ولئن شللت فقد شللت زعيمةً عملا فيها قزم من الأقزام
في صوتك المبحوح صدق عزيمة أقوى من الآلات والأنعام
وصرخت يا قوم السلام خديعة يا قوم ليس سلامهم بسلام
الحق يذهب في عوالمنا سدى ما لم يحط بصرامة الصمصام
أيها المسلمون، دعا عمر بن الحطاب رضي الله عنه في شهر وفاته الذي طعن فيه: (اللهم قد كبرت سني، وضعفت قوتي،، فارزقني شهادة في سبيلك واجعلها في بلد نبيك). وهكذا ياسين الذي نال الأمنية التي تمناها ووصل غاية الطريق التي سار فيها. لقي الله وهو في ذمته بإذن الله بعد أن صلى الفجر يوم الاثنين في جماعة، بعد أن عاش عمره مجاهدا، وسجن مرتين، وضيق عليه بالحصار والإيذاء، فما زاده ذلك إلا قوة وبذلا. ورحلت ـ يا بطلنا ـ كما يحلّق الأبطال، جسدك مات من زمن، وروحك في رأسك كانت تفاوض للمغادرة، فوداعا ـ يا أحمد ياسين ـ كما ودّعنا من قبلك فلسطين. كيف استطعت ـ يا ياسين ـ بكرسي الإعاقة المتحرك أن تخرج كثيرا من الكراسي الصحيحة لكنها قعيدة الحركة؟! كيف استطعت وأنت الشيخ المعاق أن توقظ الأمة وكثير منا صحاح الأبدان قعيدو الهمة؟! قضيتَ عمرَك برغم شللك، تبني في النفوس عزيمة المواجهة للعدو وقوة الصبر على المدافعة، فأعليت ذلك البناء بروعة استشهادك، نحسبك كذلك ولا نزكي على الله أحدا.
أيها المسلمون، إنّ جهاد الشيخ ياسين طوال عمره وبرغم إعاقته رسالة إلى أولئك الذين يظنون بجيوشهم الاستعراضية وأجسامهم الصحيحة أنهم بمفاوضتهم أو مؤتمراتهم أو مصافحتهم ومدّ أيديهم للصهاينة والصليبين يحققون شيئا أو نصرا موهوما لزعامتهم، ناسين أو متناسين مبدأ عداوة اليهود وغدرهم الثابت بالقرآن، وظنوا أن مبادئ التعايش السلمي وخيار السلام يمكن لها أن تقوم أمام هؤلاء الصهاينة.
إن جنازة الشيخ ياسين سوف تصنع بإذن الله ما لا تصنعه بلاغة الكلام وإطناب العبارة بإعداد شباب يتربون في مثل هذه الأحداث لمواجهة الصهاينة وإخراجهم من الأرض المقدسة، وليس ذلك على الله بعزيز. إن جنازة الشيخ ياسين تعطينا درسا تربويا عظيما؛ كيف أن القوة الحقيقية في الإرادة والعزيمة والتصميم، كيف أن معاقا مشلول الأطراف جعل دولة يهودية تقف أمامه وتدخل معه معركة تليق برجس يهود، معركة تجعل رأيهم يسهر متابعا لتنفيذها، متفضحًا عريهم الأخلاقي، هم وزعيمتهم الكبرى أمريكا.
إنه موت الشيخ ياسين دلالة على أن أصحاب العزائم القوية هم أصحاب الأيدي المتوضّئة والقلوب المؤمنة، فهم الذين يتذوّقون لذة الجهاد، وكما يحركهم الإيمان للخروج لصلاة الفجر جماعة فإن الشوق يدفعهم للتضحية والفداء، فالذين يجيبون "حي على الجهاد" هم الذين يجيبون "حي على الصلاة". كما أثبت فقدُ الناس له ورثاؤهم على كافة طوائفهم واتجاهاتهم أن الإسلام هو الخيار الوحيد للمقاومة، كما بينه إفلاس غيره من شعارات شعبية أو اشتراكية أو وطنية لم يستفد أحد منها، ولعل في استشهاد الشيخ ياسين بإذن الله إحياء لمبدأ الجهاد في الأمة الذي خمد في كثير من النفوس، ودفع للتشويه الذي طاله من قبل أفعال بعض الفئات حين لم يطبقوه جيدا أو الهجمات الصليبية عليه وعلى أهله وجمعيات الخير الداعمة له، وإحياء لمبدأ الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين من صهاينة وصليبيين الذين هم أولياء بعض كما وصفهم الله.
نتحدث عنك ـ يا ياسين ـ لكي تذكرنا معاني الجهاد الذي ضعف فينا وسمات الشهادة التي خفت علينا، نتذكرك في فلسطين وخطّاب قبلك في الشيشان والمجاهدون الصادقون من قادة الأمة الأبرار وسلفها الأخيار.
فتعالوا بنا ـ إخوتي ـ إلى وقفات نستلهم منها ما يعالج حاضرنا ويصلح مستقبلنا بإذن الله، ومن المهم في مثل هذه الأزمات أن نلتزم فيها بثوابت الكتاب والسنة في التعامل معها والانطلاق منهما.
أيها الإخوة المؤمنون، إن من سنن الله الماضية أن الأمة تفقد في كل فترة من فتراتها أحد عظمائها وبعض رموزها وقادتها. إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي الرب، فكم فقدت الأمة من عالم، وكم فقدت من داعية ومجاهد، وكم فقدت من قائد عسكري، لكن هل توقفت المسيرة؟! إن أمتنا أمة ولود، كالغيث لا تدري الخير في أولها وفي أخرها، إذا مات عالم عوض الله الأمة بعالم، وإذا مات قائد مجاهد عوض الله الأمة بمجاهد مثله، هذا ما ينبغي أن نؤمن به.
أيها المسلمون، لا يدخل لقلوبكم اليأس إذا سمعتم بوفاة رمزٍ كهذا الرمز في الأمة، لقد توفي الأئمة الأربعة وابن تيمية رحمهم الله، فهل توقف العلم وانتهت الدروس والحلق؟! لا، وإنما جاء مِن بعدهم مَن حمل الراية وأكمل المسيرة المباركة، واستمر الخير في الأمة.
لقد توفي سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه، فهل توقف الجهاد وانتهى زمن التضحيات في ساحات المعارك؟! لا، لقد عوّض الله جل وتعالى هذه الأمة بعده على مدار تاريخها بسيوف أقضّت مضاجع الكفار، وزلزلت عروش الطغاة والجبابرة، وحقق الله على أيديهم انتصارات كبرى.
أيها المسلمون، لقد أريقت دماء طاهرة على ربى حطين وفلسطين وعلى جبال قندهار وفي أودية البوسنة وعلى مرتفعات طاجكستان وفي أراضي الشيشان، ولا تزال قوافل من جنود الله عز وجل تنتظر الحصول على وسام الشهادة في سبيل الله، قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة:52].
إنها الشهادة التي تمنى رسول الله أن يغزو ثم يقتل ثم يغزو فيقتل كما أخرجه البخاري ومسلم. إنها الشهادة التي ينبغي ترسيخ مفهومها في القلوب وبعثها في النفوس وبيان فضائلها وإن كنا لا نحكم لأحد بالشهادة، فذاك علمه عند الله، لكنها أمنية نتمناها لأنفسنا وأحبابنا، عن مروان أنه قال: سألنا عبد الله بن عباس عن هذه الآية: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169] فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله فقال: ((أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل)) الحديث أخرجه مسلم في صحيحة، ومنها أن للشهيد عند ربه ست خصال كما في حديث المقدام بن معديكرب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعه من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوته منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه ـ وفي لفظ: ـ من أهل بيته)) أخرجه الترمذي بإسناد صحيح، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((ما يجد الشهيد من مسّ القتل إلا كما يجد أحدكم من مسّ القرصة)) رواه الترمذي وصححه.
ومنها أن دار الشهداء في الجنة أحسن الدور وأفضلها، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((رأيت الليلة رجلين أتياني فصعدا بي الشجرة، فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل، لم أر قط أحسن منها قالا لي: أما هذه فدار الشهداء)) ، وأخرج الشيخان في صحيحيهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: جيء بأبي إلى النبي ـ أي: شهيدا يوم أحد ـ قد مثِّل به، فوضِع بين يديه، فذهبت أكشف عن وجهه، فنهاني قومي، فسمع النبي صوتَ صائحة فقال: ((لم تبكين؟ فلا تبكي، فوالله ما زالت الملائكة تظلّه بأجنحتها)) ، نسأل الله من واسع فضله.
ولذلك كان الشهيد وحده من أهل الجنة الذي يحبّ أن يرجع إلى الدنيا، كما في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي قال: ((ما أحد يدخل الجنة يحبّ أن يرجع إلى الدنيا وأن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة)) ، وفي رواية: ((لما يرى من فضل الشهادة)) أخرجه البخاري ومسلم.
ولذلك الفضل العظيم رأينا صحابة رسول الله يتسابقون إليها حتى قال عمير بن الحمام في بدر بعد أن ذكر رسول الله الجنة التي تنتظر الشهيد، فقال عمير بن الحمام: يا رسول الله، إلى جنة عرضها السموات والأرض؟! قال: ((نعم)) ، قال: بخ بخ، قال: ((ما يحملك على قول بخ بخ؟)) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، فقال: ((فإنك من أهلها)) ، فأخرج تمرات معه فجعل يأكل منهن ثم قال: إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتل حتى قتل رضي الله عنه.
وهذا حرام بن ملحان رضي الله عنه أحد القراء الذين بعث رسول الله يدعون قوما من المشركين إلى الإسلام ويقرؤون عليهم القران، فغدرت بهم رعل وذكوان من قبائل العرب وقتلوهم، وعند الاستشهاد قال في وجه قاتله: فُزت وربّ الكعبة، وأدبر قاتله من المشركين بعد إسلامه، وسأل عن معنى ذلك فقيل له: إنه قصد الشهادة، فكانت سببا في إسلام هذا القاتل. أخرج هذه القصة البخاري في صحيحه.
وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرينّ الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ـ يعني أصحابه ـ، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء ـ يعني المشركين ـ، ثم تقدم واستقبله سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة وربّ النضر، إني لأجد ريحها دون أحد، قال سعد: فما استطعتُ ـ يا رسول ـ ما صنع، قال أنس: ووجدنا به بضعا وثمانين ما بين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، وجيء به وقد مثل به، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. أخرجه البخاري ومسلم.
وأخرج النسائي في سننه بإسناد صحيح أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي فآمن به واتبعه ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي بعض أصحابه، فلما كانت غزاة غنم النبي ، فقسم وقسم للأعرابي، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان الأعرابي يرعى ظهرهم ـ يعني إبلهم وما يركبون من دواب ـ، فلما جاء دفعوه إليه فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي ، فأخذه فجاء به إلى النبي فقال: ما هذا؟ قال: ((قسمته لك)) ، قال الأعرابي: ما على هذا اتبعك، ولكن اتبعتك على أن أرمَى ها هنا ـ وأشار إلى حلقه ـ بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال النبي : ((إن تصدقِ الله يصدقك)) ، فلبثوا قليلا ثم نهضوا إلى قتال العدو، فأتي به النبي يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي : ((أهو هو؟)) قالوا: نعم، قال: ((صدق الله فصدقه)) ، ثم كفنه النبي في جبته، ثم قدمه فصلى عليه، وكان مما ظهر من صلاته: ((اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا، أنا شهيد على ذلك)). وأيّ شهادة ـ يا عبد الله ـ أرفع وأسمى وأصدق وأخلص من هذه الشهادة الكريمة العظيمة؟! وكم في حياة السلف ـ أيها الإخوة ـ من صور هذا الحبّ العاطر والشوق الظامئ إلى الظفر بمقام الشهادة.
وها نحن اليوم نرى بأم أعيننا ويرى العالم كلّه معنا هذه الصور العظيمة المتجدّدة من صور الانتفاضة والشهادة إن شاء الله على أرض بيت المقدس وعلى كلّ أرض فلسطين المسلمة الصابرة.
إننا في حاجة ـ يا عبد الله ـ إلى مواقف وصور تحيي في ضمير الأمة معاني الشهادة، وتبعث في روحها حبّ الاستشهاد من جديد، سيرا على درب السلف رضوان الله عليهم، ذلك الدرب الذي سلكه من قبلهم رسول الله والأنبياء من قبله، نصرًا لدين الله ودحرا لأعداء الله. وإذا كان في الأمة من يجيد أن يموت في سبيل الله فلا بد أن نرى في أمتنا من يعرفون أن يحيوا في سبيل الله ولدين الله. اللهم إنا نسألك أن تنزلنا منازل الشهداء الأبرار.
كذلك من الوقفات المهمة مع هذا الحدث أنه يذكرنا مبدأ الجهاد الذي لا بد أن نذكّر به ونحييه في مثل هذه الأزمات.
عباد الله، إن الله سبحانه وتعالى فرض الجهاد على المسلمين وجعله ذروة سنام هذا الدين، ناشر لوائه، وحامي حماه، بل لا قيام لهذا الدين في الأرض إلا به كما قام أول مرة تحت ظلال السيوف، به نال المسلمون العز والتمكين في الأرض، وبسبب تعطيله حصل للمسلمين الذل والهوان والصغار، واستولى علينا الكفار، بل تداعت علينا أرذل أمم الأرض كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، وأصبحنا مع كثرتنا غثاء كغثاء السيل، نزع الله المهابة من قلوب أعدائنا ووضعها في قلوبنا، وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا، ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى بمقاتلة المشركين كافة فقال في محكم كتابه: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36]، وحثّ المؤمنين على القتال وحذرهم من التقاعس عن الجهاد والركون إلى الدنيا الفانية فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة:39]، وقد حثّ الإسلام على الغزو في سبيل الله حتى جعل أجر من جهز غازيا أو خلفه في أهله كأجر الغازي في سبيل الله، فعن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا)) متفق عليه.
والجهاد ماض في هذه الأمة إلى يوم القيامة، لا أحد يستطيع إيقافه، فعن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله : ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة)) متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)) ، و((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض)) رواه البخاري، وقوله : ((ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار)) ، و((رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل)) ، و((رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه أجري عليه عمله الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتن)) ، وعند البخاري أن رجلا قال: يا رسول الله، دلني على عمل يعدل الجهاد، قال: ((لا أجده)) ثم قال: ((هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر؟)) فقال: ومن يستطع ذلك؟!
والجهاد ـ معاشر الأحبة ـ باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة ومن صلاة التطوع وصوم التطوع.
أيها المسلمون، لقد وصل المسلمون في الأزمنة الحاضرة إلى مرحلة فاصلة، وعطِّلت كثير من أحكام الإسلام ومفاهيمه، وأجبر الناس جبرا على العيش في ظل مفاهيم غريبة عن عقيدتهم ودينهم، وأصبح الجهاد بمعناه الشرعي بعيدا عن أفكارهم وتوجهاتهم، وكلّ ذلك يهون ويمكن معالجته عند إدراكهم لحقيقة دينهم وحقيقة واقعهم، لكن المصيبة هي الرضا عن هذا الواقع المؤلم والاحتجاج له بالحجج الواهية المقدمة في ثياب شرعية زائفة.
إن الجهاد هو بذل لكل ما يمكن من الجهود في سبيل الله ومدافعة أعداء الله وأعداء رسوله، بكل ما يستطاع من القوة؛ قوة البدن وقوة السلاح وقوة المال وقوة العلم والمعرفة، على هذا استقرّ الإسلام يوم استقر، وبعيدا عن هذا الفهم الجامع لمعنى الجهاد نزلت بنا الكوارث وفعلت بنا الأفاعيل.
أيها المسلمون، ليس شيء من شعائر الإسلام يثير رعب أعداء الملة وخصوم الشريعة مثل الجهاد، وليس أمر حرص المستعمرون وأذنابهم على تشويهه وتفريغ قلوب وعقول المسلمين منه مثل كلمة الجهاد، إنها أوضحت خطرا يرى فيه الأعداء تهديدا لهم، فبذلوا جهدهم في تحريف مفهومه وحذف مناهجه لدى المسلمين الذين قبلوا هذا الضعف والمذلة. وكان ينبغي لهم أن يعلموا بأن ترك الجهاد علامة على النفاق كما جاء عن المصطفى أنه قال: ((من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق)).
إن ترك الجهاد سبب للهلاك في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، قال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا ـ معشر الأنصار ـ نجيًّا فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه ونصره حتى فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهم فنزل فينا: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد.
إن ترك الجهاد سبب للذل والهوان كما قال سيد المجاهدين : ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)). إن ترك الجهاد سبب للبلاء والضنك وسبب عذاب من الله، قال تعالى: إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة:39]. إن ترك الجهاد سبب للفساد في الأرض وإفساد أهلها بالقضاء على دينهم، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251]، فلولا أن الله يدفع الكافرين بجهاد المؤمنين ويكبت الكفار ويذلهم لأفسدوا على الناس دينهم، ولولا أن الله يدفع شبه المبطلين والمخالفين من أهل البدع وأهل الشهوات بجهاد العلماء والدعاة الذين يردون عليهم بالحجة والبيان لأفسدوا السنة، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73].
إن ترك الجهاد يفوّت مصالح عظيمة للمسلمين، منها الأجر والثواب والشهادة في سبيل والمغنم والتربية الإيمانية التي لا تحصل بدون الجهاد ودفع شر الكفار وإذلالهم ورفع شأن المسلمين وإعزازهم وإدخال أناس في الإسلام.
أيها المسلمون، إذا كان تارك الجهاد يصاب بهذه الأمور في الدنيا والآخرة فكيف بمن يقف ضدّ الجهاد ويحاربه ويؤذي المجاهدين، أو بمن يشوه هذا المبدأ العظيم ويحاول تحريفه أو إلغاءه؟!
إن مواجهة الكفار وقتالهم حتم لا بد منه ما دام أن هناك إسلام وكفر في هذه الأرض، فإن حتمية المواجهة لا بد منها، ولهذا ينبغي أن نعلم بأن قتال الكفار أصل في دين الإسلام لا يمكن أن يتغير بتغير الزمان، وعليه فإن مصطلح التعايش السلمي أو مصطلح السلام العادل والشامل مصطلح كاذب يخالف شريعة رب العالمين.
فوا عجبا، كيف أن ذروة السنام قد درست آثاره فلا ترى، وطمست أنواره بين الورى، وأعتم ليله بعد أن كان مقمرا، وأظلم نهاره بعد أن كان نيّرا، وذوى غصنه بعد أن كان مورقا، وانطفأ حسنه بعد أن كان مشرقا، وقفلت أبوابه فلا تطرق، وأهملت أسبابه فلا ترمق، وصفدت خيوله فلا تركض، وربطت أسوده فلا تنهض، وامتدت أيدي الكفرة الأذلاء إلى المسلمين فلا تقبض، وأغمدت السيوف بعيدا عن أعداء المسلمين إخلادا إلى حياة الدعة والأمان، وخرس لسان النفير إليهم فصاح نفيرهم في أهل الإيمان، ونامت عروس الشهادة إذ عدمت الخاطِبين، وأهمل الناس الجهاد كأنهم ليسوا به مخاطَبين، فلا نجد إلا من طوى بساط نشاطه عنه، أو تركه جزعا من الموت وهلعا، أو جهل ما فيه من الثواب الجزيل ورضي بالحياة الدنيا من الآخرة، وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. فنسأل الله جل وتعالى أن يقيم علم الجهاد وأن ينشر رايته على البلاد ويقمع أهل الشرك والزيغ والعناد.
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى، واعلموا أن اغتيال الشيخ أحمد ياسين ورفاقه مسؤولية عظمى على كل مسلم، وتلك المناظر الدامية في فلسطين داعية للجميع لبذل مزيد من الجهد لنصرة إخواننا هناك على هذا الاعتداء الصهيوني والإقرار الصليبي. أما التخاذل والأدوار الهزيلة فلن تحلّ قضية ولن تنفع الأمة في قليل أو أكثر.
إننا نستغرب ونحن نرى الجبن في النفوس والقلوب وفي المفاوضات على الطاولات ولدى القمم، وإننا نتوجه لزعماء الدول العربية والمسؤولية في أعناقهم بأن لا يكتفوا بالشجب والإنكار كالعادة، فقد أثبت ذلك أنه لا يحل قضية ولا يحرر مقدسات، وما زلنا من احتلال إلى هزيمة ومن نكبة إلى نكسة، والله المستعان على حال من الضعف والتصرفات التي يبحث أصحابها عن مصالحهم الشخصية، في إهمال واضحٍ للقضية، فنسأل الله جل وعلا أن يوفقهم للأخذ بعزائم الأمور في قمتهم القادمة، إنه على كل شيء قدير.
كما أنها رسالة إلى أهل العلم والعلماء وقادة الفكر والرأي في أن يجردوا أقلامهم ويبسطوا ألسنتهم في إحياء القضية ومعاني الجهاد والاستشهاد، فلا ينبغي لهم أن يتخذوا مكانا قصيا في الأمة أو أن ينشغلوا عن قضايا المسلمين بأمور أقل أهمية، فإن في رقاب العلماء والمفكرين ذمة عظمى في توضيح الحقّ للناس، والله سيسألهم عن ذلك عن ذلك. فأين أنتم من سلاح الدعاء على أعدائكم ولنصرة قضاياكم؟!
أما أنتم أيها المسلمون، فاعلموا أن أولى الهزائم هزيمة الإيمان في القلوب والجدب في المثل والأخلاق، ضعف في الإيمان حين ترى البعد عن الدين وقلّة في المثل والأخلاق، حين ترى التلهّي بالأباطيل والأمة ينتهك عرضها وتحتلّ أرضها، يغتال قادتها وشيوخها. أين أنتم ـ أيها الأغنياء وأصحاب الأموال ـ من دعم قضية فلسطين؟! وهو أقل واجب النصرة، وهو من الجهاد الذي كرمه الله في القرآن على الجهاد بالنفس، لا سيما وأن الجمعيات يستقبلون دعمكم لهم، فأين بذلكم؟!
أين أنتم ـ يا شباب الأمة ـ الذين تغافلوا عن قضايا أمتهم على كراسي المدرجات وفي متابعة القنوات وحضور الحفلات، في وضعٍ بائس، وكأنهم يرقصون على جراح الأمة؟! ألا تخجلون ـ شباب الأمة ـ وأنتم ترَون شبابَ وأطفال فلسطين وهم بعزائم الأبطال وهِمم الرجال لا يملكون إلا الحجارة، يقاومون بها اليهود؟! فهل تقدّرون قوة الشباب ونعمة المال التي حباكم الله إياها لتسخروها في نصرة قضاياكم؟! أما إعلاننا وقنواتنا فهو الحديث الذي يدمي القلب حين نرى غالبها مسخّرا لإفساد وضياع شبابها، متناسية لقضاياها، ولعل وقفة معها الأسبوع القادم.
أيها المسلمون، إن المأساة أليمة والخطب جسيم، لكن ما يحدث مسؤولية على من رآه وعلم به، ونحن مسؤولون عن مناظر القتل المتكررة لإخواننا في فلسطين، ولنحذر من الخذلان، قال رسول الله : ((ما من مسلم يخذل امرئا مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته)).
فالنصرة النصرة لإخوانكم في فلسطين، فذلك متعين على الجميع.
رحم الله الشيخ المجاهد أحمد ياسين الذي سالت دماؤه لتكون وقودا في الشراين، ومات ليكون موته حياة لأمته وقضيته بأذن الله:
يا أحمد الياسين إن ودعتنا فلقد تركت الصدق والإيمانا
أنا إن بكيت فإنما أبكي على مليارنا لما غدوا قطعانا
أبكي على هذا الشتات لأمتي أبكي الخلاف المرّ والأضغانا
أبكي ولي أمل كبير أن أرى في أمتي من يكسر الأوثانا
يا فارس الكرسي وجهك لم يكن إلا ربيعا بالهدى مزدانا
في شعر لحيتك الكريمة صورة للفجر حين يبشر الأكوانا
ستظل نجما في سماء جهادنا يا مقعدا جعل العدو جبانا
أما أنتِ ـ يا فلسطين ـ فصبرا، فكم من ياسين وياسين، فكل يوم يزداد فيك الأنين من أمة خضعت لذل الغاصبين، أمة لبست لباس الخائفين، وأهملت بينها الصادقين، ولم تبذل لربها ودينها ما يجلب النصر والتمكين.
أيها المسلمون، دعوات اصدقوا فيها بقلوبكم والهجوا بها بألسنتكم، فإنكم تدعون ربا قريبا مجيبا.
(1/3195)
النصيحة للمجتمع المسلم
الإيمان
خصال الإيمان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
18/3/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حبّ الخير للمؤمنين. 2- ولاء المسلم لمجتمعه. 3- محاربة المسلم للفساد والإفساد. 4- النصيحة لعامة المسلمين. 5- التحذير من المنافقين. 6- صور من عداء المنافقين للمجتمع المسلم. 7- قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، مِن خُلُق المؤمِن حبُّ الخير للمؤمنين، فهو يَراهم إخوانًا لَه في الإسلام، إذًا فهوَ يحبّ لهم مَا يحبّ لنفسِه، ويكرَه لهم ما يكرَه لنَفسه. يحبّ لهم الهدايةَ والاستقامةَ والثباتَ عَلى الحقِّ، يكرَه لهم الكفرَ والفسوقَ والعصيان. يحبّ لهم الاطمئنانَ والسكينةَ، ويكرَه لهم الشرَّ والبلاءَ. يحبّ لهم أن يكونوا في غايةٍ مِنَ الطمأنينة والأمان والاستِقرار، ويكرَه أن يصيبَهم شيء يخلّ بأمنِهم وطمأنينتِهم. ذلك أنه جزءٌ وواحد منهم، فهو يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه، ويكرَه لهم ما يكرَه لنفسه.
يحيط إخوانَه المؤمنين بنصيحتِه وتوجيهِه وإرشاده، يسعَى في الخيرِ جُهدَه، ويحمِي نفوسَهم وأعراضَهم وأموالهم، يصونُ ذلك، يعلم حقًّا أنّ هذا من مقتضيات الإيمان، يتدبّر دائمًا قولَ الله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، ويتذكَّر دائمًا قولَه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
كلُّ هذه الأمور تجعَله دائمًا يسعى في الخير لإخوانِه، لا يخذُلهم، ولا يكذِبهم، لا يعين عليهم عدوًّا، ولا يفشِي لهم سرًّا، ولا يكون رَصَدًا لأعدائهم ضدَّهم، بل هو عونٌ لهم على الخير، إن رأى مَن يكيدُ لهم المكائدَ أو يبغي لهم الغوائِل أو يترَبّص بهم الدَّوائرَ فإنّه لا يرضَى ولا يسمَح بذلك، نعَم لا يرضى ولا يسمَح لذلك، ولا يمكّن لأيّ مفسِدٍ أن يبثَّ فسادَه في الأرض، لماذا؟ لأنهم إخوانُه المؤمنون، لا يرضى بالنّقص عليهم، ولا يرضى بالذلّ والهوان عليهم، لأنّ إيمانَه يمنعُه من ذلك، والله يذكّره: فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، فهو يذكِّر نفسَه دائمًا بهذه الأخوّة الإيمانيّةِ التي تفرض عليهم حبَّ الخيرِ للمؤمنين وكراهيةَ الشرِّ والبَلاء للمؤمنين.
إن أصابَ المؤمنين خير فرِح به، وإن حصل عليهم نقصٌ أحزنه ذلك، إذًا فهو لا يرضَى لهم بالنقص، ولا يسمَح لأيّ مُغرضٍ ومفسِد أن ينشرَ بينهم رُعبًا وإفسادًا، لا يسمَح بذلك ولا يرضَى، بل تأبى نفسُه ذلك، ويأبى إيمانه قبلَ ذلك أن يرضَى أو يقرَّ أيَّ بلاء في مجتمعه المسلم؛ لذا يقول : ((المؤمنُ للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضُه بعضًا)) وشبّك بين أصابعه [1] ، إذًا فهو بنيانٌ متراصّ ليس فيه منفَذٌ ينفَذ منه، ويقول أيضًا: ((مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم كمثَل الجسَد الواحِد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسَد بالحمَّى والسّهر)) [2].
يُحزِنه كلُّ أذًى يلحَق بأمّته، فلا يرضَى به ولا يسمح به، هكذا المؤمن حقًّا الذي إيمانُه إيمانُ صِدقٍ وإخلاصٍ، إيمانٌ متمكِّن من القلب. النصيحةُ دائمًا ديدنُه، ينصَح إخوانَه، إن رأَى عيبًا نصَح، رأى نقصًا وتقصيرًا نصَح، وتعاوَنَ على البرِّ والتقوى فيما يُسعِد أمتَه ويؤمِّنها ويحفَظ لها كرامتَها وعزَّتها ومجدها.
وطنُ المسلمين غالٍ في نفسه، لا يسمَح لأيّ مغرِضٍ أن يمسَّ وطنَ المسلمين بسوء، ولا يعين على السّوء، فضلاً أن يكونَ داعيًا للسّوء أو جالبًا للسّوء. هو ينصَح ويوجّه ويدعو للخير جُهدَه، وينصَح كلَّ مغرض ومفسدٍ، ويبيِّن له أخطاءه وأضرارَه، ويحذِّره من الفسادِ والإفسادِ، ولا يسمَح له أن ينشُرَ جريمتَه وضلالَه، فإن أبى فإنّه لا يكونُ عونًا له، بل يأخُذ على يدِه حتى ينقِذه من أخطائه ويخلِّصه من بلائه، ولهذا النبيّ يقول: ((انصُر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) ، قال الصّحابةُ: يا رسولَ الله، ننصرُه مظلومًا فكيفَ ننصره ظالمًا؟! كيف تكون نُصرةُ هذا الظالم؟! قال: ((تردعُه عن الظلم، فذاك نصرك إياه)) [3].
إذًا فإن رأيتَ من أحدِ إخوانِك أنه لُبِّس عليه باطلٌ وأدخِلت عليه شكوكٌ وشبهات وحاوَلَ مغرِض أن يستغلَّ طيبةَ قلبِه وصفاءَ نفسه ليجنِّده لباطله ويجعلَه جنديًّا لباطلِه ومِعولَ هدمٍ في أمّته فإنّه يأخُذ على يديه بقدرِ الإمكان، يحُول بينه وبين إجرامِه، ولا يسمحُ له أن يتمادَى في طغيانه وشرِّه، لأنّك إن تركتَه يتمادَى أَلحقَ الأذى بنفسِه ثم بأمّته، وإن أخذتَ على يدِه وبلّغتَ عنه حتى تُنقِذه من الاستمرار في غوايتِه وتخلِّصه من التمادِي في إجرامه كنتَ من الناصحين المحبِّين، أمّا أن تتركَه وشأنَه وتزعمَ أنك لم تفعل ولم ترضَ ولكنك لم تأخُذ على يد ظالمٍ أو مريدِ إفسادٍ فإنّك بذلك قد جنيتَ عليه وجنيتَ على أمّتك؛ لأنّ النصيحةَ هي التَّعاون على البرّ والتقوى، والله يقولُ لنا: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].
فالمؤمن يعينُ على كلِّ خَير، لكنّه لا يعينُ على الشرّ، لا بقولٍ، ولا بفعلٍ، ولا برِضًا، ولا بسُكوتٍ، ولا بتستُّر، بل يكشِف الباطلَ؛ لأنّ هدفَه إصلاحُ الفردِ والمجتمع، فينصحُ ذلك الإنسانَ، ويحذّره من عواقبِ السوء ونتائج الفساد، ويبصِّره عسى أن [يلقَى] قلبًا واعيًا وأُذنًا صاغية، فإن استمرَّ وتمادى دونَ أن يتَّعِظ ويعتبِرَ فلا بدّ من أخذٍ على يدِه حتى تخلِّصه، فلا يتمادَى في ضلالِه وطُغيانه، فيفسِد دينَه ودنياه.
أيّها المسلمون، إنّ اللهَ جلّ وعلا حذّر المؤمنين من التعاونِ على الباطلِ ومدِّ يدِ العون مع أهلِ الكفر والضلال، وحذّرنا الله من أخلاقِ المنافِقين الذين آمَنت ألسنتُهم وكفرت قلوبهم، فهم مع المؤمنين في الظاهِر، وهم ضدّهم في الباطن، تظاهَروا بالصّلاة والصّيام والجهاد، ولكن في قلوبهم حِقدٌ على الأمّة، على عقيدتها وعلى مجتمعِها وعلى أمنها، في قلوبهم حِقدٌ على الأمّة في كلّ أحوالها، فتراهم مع كلّ عدوٍّ ضدّ الأمة، ومع كلّ من ينادي بأيّ جريمة، ومع كلّ من يسعَى في الأرض فسادًا وإن تظاهَروا بالإيمان، لكن يعلم الله من قلوبهم خلافَ ما يُظهِرون، فحذّرنا الله منهم، وبيَّن لنا أنّ من أخلاقِهم أنهم يتعاوَنون مع أعدَائهم ضدَّ أمّتهم ومجتمعهم المسلم، أنّ مِن أخلاقِهم أنهم يتعاوَنون مع أعداء الأمّة ضدّ المجتمع المسلم، ضدّ أمنِه واستقراره وسلامتِه، قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الحشر:11]، هذا إخبارٌ مِن الله [عمّا] بين المنافقين واليهود من ارتباطٍ وثيق، جمع بينهم الحقدُ على الإسلام وأهلِه والبغضاءُ للإسلام وأهلِه، فالمنافقون في عهدِ النبيّ الذين تظاهَروا بالإسلامِ ونطَقوا بالشهادتين شهادةِ أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمدًا رسول الله وصلَّوا مع رسول الله وجاهَدوا معه، هؤلاء عنصُرٌ خبيث في مجتمَع الأمة، عنصرٌ خبيث وجُرثومة في مجتمع الأمة، يتربّصون بالإسلامِ وأهلِه الدوائر، هم منهزِمون في أنفسِهم، لا يستطيعون أن يُظهِروا نفاقَهم فينقضّ المسلمون عليهم، لكنّهم يتظاهرون بالإسلام وفي قلوبهم ما الله بهِ عليم، فكلّ فرصة يجدونها سانحةً يظهَر نفاقهم وتبدو سرائرُهم ويكشِف الله ما في قلوبهم من الزيغ والباطل.
لمّا أراد النبيّ إجلاءَ بني النضير قال المنافقون لهم: "لئِن أُخرِجتم لنخرجَنّ معكم، إن قوتلتم لننصرنّكم"، يأمرونهم بالبقاءِ ومحاربةِ الإسلام وأهله، ولكنّ اللهَ قذف الرعبَ في قلوبهم، فخرَج أولئك، وتخلّى عنهم المنافقون في أحرجِ الساعات والمضايق، لماذا؟ لأنّ هذا المنافقَ لو وجَد فرصةً لساعد، لكن لمّا رأى القوّةَ انخذل، لكنه في باطن الأمر يسعى في تدمير الأمّة، فليحذر المسلمُ من أن يكونَ فيه خلُقٌ من أخلاقِ المنافقين وهو لا يشعُر.
في عهدِ النبيّ فئةٌ من المنافقين رغم عِزِّ الإسلام وقوّةِ الإسلام وظهورِ الإسلامِ وعُلوِّ الإسلام، لكن مَن في قلبه مرَض مرضُه لا يفارقه. خرجَ النبيّ بأصحابِه غازيًا تبوكَ في العام التاسِع من الهجرة، ومعه زُهاء أربعين ألفًا من المسلمين، ماذا فعَل المنافقون؟ وكيفَ كادَ المنافقون للنبيّ؟ رغم قوّة الإسلام وعِزّته، لكنِ المرضُ الذي في قلوبهم حملَهم على ما حمَلهم عليه، فجاء بعضهم للنبيّ وقالوا: يا رسولَ الله، بنَينا لنا مسجدًا نجعلُه لابن السبيل، يُؤوي الغريبَ، يظلّ من الحرّ، ويقي من قَرس الشّتاء، نريد أن تصلّيَ فيه ليكونَ مسجِدًا للمسلمين في طريقهم، ينتفِع به الفُقراء، يسكنونَه ويستظلّون به ويستدفئون به، والنبيّ حمَلهم على ما ظهَر منهم، فقال: ((نحنُ سائرون إلى تَبوك، فإذا رجَعنا صلّينا فيه إن شاء الله)). وكان هذا المسجد بُنيَ ليكونَ رصَدًا لأعداء الإسلام، وأرضيّةً لأعداء الإسلام من اليهود وغيرِهم، ليجعلوه رصَدًا لأعداء الإسلام، يقتلونَ فيه النبيَّ وأصحابَه إن صلَّوا فيه. فمضى النبيّ لتبوك، وقفَل راجعًا ولا يعلَم الغيبَ إلا الله، فإذا الوحيُ من ربّ العالمين يحذّره من هذا المسجِد، ويبيِّن له أنّ هذا المسجدَ ليسَ مسجدًا، ولكنّه دارُ إضرارٍ وبلاء: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:108-110]، وقال: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة:107] [4].
فتأمّل ـ أخي ـ هذه الآيةَ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا ، هو مسجدٌ في صورتِه، لكنه للضَّرر والأذى وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين وإرصادًا لمن حاربَ الله ورسولَه، وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى ما أردنا إلا الخيرَ، لكنّ الله يعلم أنّ هذا كذب، وأنّ الباطِن غيرُ الظاهر، فأمر النبيُّ بهدمِ ذلك المسجد وإحراقه كلِّه.
أيّها الإخوة، هكذا المنافِقون في كلّ زمان ومكان، بلاءٌ على الأمّة ومصيبة على الأمة، لا يقدّرون المصالحَ من المفاسد، ولا يعرفونَ للأمور حالها، ولكنهم مع كلّ ناعقٍ ومع كلّ عدوٍّ للإسلام، فإنهم أعوانٌ له وجنودٌ له. أمّا المؤمن فهو بخلافِ ذلك، هو مع أمّته بنصيحتِه وتوجيهه وتوعيَتِه وأخذِه على يدِ السّفيه وردعِ المبطل عن باطله وتبصيرِ الأمّة وتحذيرهم من مكائدِ أعداء الإسلام. هكذا فليكُن المؤمن، حتى يكونَ الناس في أمنٍ وطمأنينة، نسأل الله لنا ولكُم الثباتَ على الحقّ والاستقامةَ عليه.
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستَغفر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في المظالم (2446)، ومسلم في البر (2585) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر (2586) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الإكراه (6952) عن أنس بن مالك رضي الله عنه بنحوه.
[4] قصة مسجد الضرار هذه أخرجها ابن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة مرسلا، ومن طريقه الطبري في تفسيره (14/468-469 ـ محمود شاكر ـ)، وانظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/529-530).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كمَا يحبّ ربّنا ويرضَى، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في عهدِ النبيِّ جرَت قصّةٌ على بعضِ الصحابة، ذلك أنّ النبيَّ خرَج في العامَ الثامن من الهجرةِ في رمضان قاصدًا فتحَ مكّةَ شرّفها الله بعدَما نقضت قريشٌ العهدَ الذي بينه وبينَهم وأخلّوا ببعضِ بنوده وأعانوا على حُلفاءِ النبّي ، أعانوا عدوَّهم عليهم، قامَت قريشٌ وأعانت بني بكر على خزاعة، فخزاعةُ حِلفُ النبيّ ، دخلوا في عهدِه مسلمُهم وكافِرهم، وبنو بكرٍ من المشركين، أعانت قريشٌ بني بكرٍ على خزاعة وأمدّوهم بالسِّلاح خُفيةً أو قاتل بعضُ قريش معهم، وكان هذا نقضًا للعهدِ الذي بين قريشٍ وبين النبيّ. لما بلغ النبيَّ خبرُهم تجهَّز لقتالِ قريش والتنكيلِ بهم لإخلافِ الموعِد، وليفتحَ بيت الله الحرام، وليطهّرَه من الأصنام والأوثان، وليقيمَ فيه شعائرَ الله، وليقيم فيه توحيدَ الله الذي لأجلِه بُني ذلك البيتُ العتيق. ولما أراد أن يخرجَ قال: ((اللهمّ عَمِّ عنّا العيونَ والأبصارَ حتى نفجَأ قريشًا قبل أن تستعِدّ)) ، لِمَا لله في ذلك من الحكمة لاحترام البيتِ وحتى لا يقعَ فيه قتالٌ عظيم، والله حكيم عليم. خرَج النبيُّ بجيشه قاصدًا مكّةَ شرّفها الله، وإذا رجلٌ من الصحابة بدريٌّ حضَر بدرًا حاطِبُ بن أبي بلتعة رضي الله عنه وأرضاه، لما رأى تلكَ القوّةَ الضاربة كتبَ لقريش قائلاً لهم: إنّ محمّدًا رسولَ الله أتاكم بما لا قُدرةَ لكم على مقاومته فخُذوا [حِذركم]، وما قصدُه عداءً للإسلام ولا إساءَة للإسلام، لكنّه أرادها يدًا عندَهم حتى يَترُكوا بيتَه وعشيرته. سار هذا الكتابُ مع امرأتين لمكّة، وقد وضعَت المرأة هذا الكتابَ في شَعرها وغطَّت عليهِ شعرَ رأسِها، وأصبح لا يُرى هذا الكتاب ولا يُعلم به، ولكنّ الوحيَ جاء من ربِّ العالمين علاّم الغيوب العالم بكلّ شيء، لا يخفى عليه شيء، قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [آل عمران:29]. فجاء الوحيُ للنبيّ مخبرًا عن تلكَ المرأة وكتابها ومَن كتَب به والموضِع الذي فيه المرأة الآن حتى يدّارك الأمر قبل يكون، فبعثَ النبيّ عليًّا والزبير لها، فأتياها وأخفتِ الكتابَ وأبت أن تقول، فقال لها عليّ رضي الله عنه: والله، ما كَذَبنا وكُذِبنا، لتؤتينّ الكتابَ أو لنجرِّدنّك ونأخذه بالقوّة، فقالت: تنحَّوا عني، فحلّت شعرَ رأسها، وأعطتهم الكتاب، وإذا فيه هذا بالحرف الواحد: "من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، إنّ محمدًا جاءكم بما لا قِبَل لكم به". دعا النبيُّ حاطبًا معاتبًا له، كيفَ تفشِي سرَّ المسلمين إلى أعدائهم والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ الآيات [الممتحنة:60]، فقال: والله يا رسول الله، والله ما كفرتُ بعد إسلامي، وما فعلتُ إلاَّ أنّ ما معك من أحدٍ إلاَّ وله بمكّةَ أهلٌ وعشيرة يحمونَ بيوتهم وأهليهم، وليس لي شيء في مكَة، فأردتُ بها يدًا عندهم، فقال عمر: أأقتلُه يا رسولَ الله؟ قال: ((يا عمَر، إنّه حضر بدرًا، وما يدريكَ لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) [1]. إذًا فحاطب رضي الله عنه في هذا العمل وإن كان ليس سيِّئًا لكنّه إفشاءُ سرِّ المسلمين لأعدائهم، حذّر الله المؤمنين من ذلك، ورتّب عليه الوعيدَ الشديد، وأخبر أنّ هذا أمرٌ غير لائق بالمسلم، هذا مجرّدُ إفشاء سرٍّ، فكيفَ بمن يكون أرضًا لهم، وبمن يكون موطِنًا لهم، وبمن يعينُهم، وبمن يؤوِيهم، وبمن ينفّذ مخطّطاتهم ومرادَهم؟!
فليحذرِ المسلمون أعداءَهم من المنافقين غايةَ الحذَر، وليكونوا على حذَر، وليحذَر المسلم أن يكونَ عونًا لأعداء الأمّة عليها؛ لأنّ هذا لا يتّفِق مع دينه ومحبّته لله ورسوله.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النّار.
وصَلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمَركم بذلك ربّكم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلَفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في المغازي (3983، 4274)، ومسلم في فضائل الصحابة (2494) عن علي رضي الله عنه بمعناه.
(1/3196)
الظلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
20/6/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الظلم جبلة إنسانية جاءت الرسل لتهذيبها. 2- ظلم الإنسان لنفسه ولغيره. 3- من الظلم التحاكم إلى غير شرع الله. 4- ظلم في عدم المساواة أمام الشريعة حين تطبيقها. 5- المظلوم منصور ولو بعد حين. 6- عاقبة الظلم في الدنيا والآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، الظلم محرم في شريعة الله تعالى، حرمه سبحانه على نفسه وعلى عباده، وتوعد عز وجل الظالمين بعذاب أليم في الدارين، وذلك لما له من عواقب وخيمة على الأفراد وعلى المجتمعات. قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا)).
الظلم طبع في نفوس بعض الناس، لا ينام إلا على ظلم الآخرين، ولا يقوم إلا على ظلم المساكين. وقد أخبر عز وجل أن من الناس من هو كثير الظلم لنفسه ولغيره فقال سبحانه: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ويقول جل وعز: إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً
وصدق في هؤلاء قول الشاعر الجاهلي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفةٍ فلعلة لا يظلم
أيها المسلمون: للظلم صور وأشكال عدة، فأولها ظلم الإنسان لنفسه، ويكون ذلك بارتكاب الذنوب والخطايا، ويكون بانتهاك المحرمات والفواحش، ويكون بترك الواجبات والمأمورات، فإن كل هذا من ظلم الإنسان لنفسه، والله عز وجل قد حرم علينا ذلك فقال سبحانه: فلا تظلموا فيهن أنفسكم وأعظم ظلم العبد لنفسه أن يقع في الشرك إن الشرك لظلم عظيم.
ومن الظلم ظلم الإنسان لغيره من البشر، ويكون ذلك بالتعدي على أعراضهم أو بالتعدي على أبدانهم أو بالتعدي على أموالهم، أو بأي صورة من صور التعدي، فإن كل هذا محرم ولا يجوز، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت)) قالها ذلك عليه الصلاة والسلام في خطبة يوم عرفة.
كم في عالمنا اليوم ممن ظلم في عرضه، أو ظلم في بدنه، أو ظلم في ماله، وهو مظلوم لا يستطيع أن يسترد مظلمته، ولا يستطيع أن يتكلم في الذي ظلمه، ولو نطق باسمه لسانه، قطع رأسه. والله المستعان.
ومن الظلم الذي يقع أيضًا في الأرض، تغيير ما شرعه الله تعالى لعباده، وتبديل حكم الله سبحانه وتعالى، والتساهل في عدم تطبيق شريعة الله عز وجل. فإن هذا من أعظم الظلم، قال الله تعالى، واصفًا الحكام الذين لا يحكمون شريعته بقوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.
أيها المسلمون، حتى لو طبقت شريعة الله، في بعض الجوانب فإن من صور الظلم الذي قد يقع عدم تساوي الناس فيما يطبق عليهم، وعدم تساوي الناس في تنفيذ الأحكام عليهم، فإن هذه صورة مشينة من صور الظلم، لأنه يؤدي إلى الفساد في الأرض، ويؤدي إلى انتشار البغضاء والشحناء بين طبقات المجتمع، ويوقف عجلة التقدم والتطور فيه، ويؤدي في النهاية إلى الهلاك، قال عليه الصلاة والسلام، عندما سرقت المرأة المخزومية ((إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)).
وبذلك قامت دولة الإسلام الأولى وبقت واستمرت، وانتشر خيرها عندما أعلنها رسول الله بقوله: ((والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).
أيها المسلمون، هذا الظالم، بأي نوع من أنواع الظلم، وخصوصًا فيما يتعلق بحقوق الناس، هل يظن هذا الظالم بأن الله غافل عنه، لا يعلم عنه، لا يقدر عليه، الله عز وجل يمهل الظالم، لكن لا يهمله، يصبر عز وجل على الظلمة ولكن إذا أخذهم لم يفلتهم. يقول الله تعالى: ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. ويقول جل وعلا: ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار.
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ثم قرأ قوله تعالى: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد.
فيا أيها الظالم، اتق دعوة المظلوم وذلك بالبعد عن الظلم، ولا تعرض نفسك لدعائهم لأن دعوة المظلوم مستجابة، ليس بينها وبين الله حجاب، ((اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)) اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة، اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرًا، فإنه ليس دونها حجاب، فكيف بالمظلوم إن كان مسلمًا، فكيف بالمظلوم إن كان صالحًا تقيًا، داعيًا إلى الله عز وجل.
إذا ما الظلوم استحسن الظلم مذهبا ولج عتوًّا في قبيح اكتسابه
فكِله إلى صرف الليالي فإنها ستبدي له ما لم يكن في حسابه
فكم قد رأينا ظالما متمرّدًا يرى النجم تيهًا تحت ظل ركابه
فعمّا قليل وهو في غفلاته أناخت صروف الحادثات ببابه
فأصبح لا مال ولا جاه يرتجى ولا حسناتٌ يلتقى في كتابه
وجوزي بالأمر الذي كان فاعلاً وصبّ عليه الله سوط عذابه
أيها المسلمون، إن الله سبحانه وتعالى توعد الظالمين بعذاب أليم في الدارين، وهذا هو عزاء المظلومين، فكل من ظلم عزائه في وعيد الله عز وجل بالظلمة.
أما في الدنيا فإن الظالم لا يُفلح في دنياه من سلك طريق الظلم، فإن بابه في النهاية مغلق، وإن زين له شيطانه ذلك. قال تعالى: إنه لا يفلح الظالمون ويقول سبحانه: قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون.
وأيضًا قد يحرم الظالم من هداية التوفيق، قال تعالى: إن الله لا يهدي القوم الظالمين ويقول سبحانه: والله لا يهدي القوم الظالمين.
الظلم سبب مصائب الدنيا من أوجاع وأسقام وفقر وذهاب الأولاد والأموال والقتل والتعذيب وغلاء الأسعار وغير ذلك. إن ما تعانيه الأمة اليوم هو بسبب وجود الظلم، بما كسبت أيدي الناس.
يقول الله جل وعلا: وإن للذين ظلموا عذابًا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون دون ذلك أي قبل موتهم. عقوبة شاملة للقرى الظالمة، عقوبة شاملة للمدن الظالمة، عقوبة شاملة للمجتمعات الظالمة.
إذا انتشر الظلم في مجتمع، وجاهر أهله به وصار الصبغة العاقة لهذا المجتمع هو الظلم، قد يعجل الله لهم العقوبة الشاملة، التي لا يكاد يسلم منها أحد، بل تعم الصالح والطالح. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة المسلمة إذا كانت ظالمة.
لقد ذكر لنا ربنا تبارك وتعالى، ما فعله بالقرى الظالمة، قال سبحانه: وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قومًا آخرين وقال عز من قائل: فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلةٍ وقصر مشيد. ويقول جل وعلا: وكأين من قرية عتت عن أمر بها ورسله فحاسبناها حسابًا شديدًا وعذبناها عذابًا نكرًا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرًا.
أما في الآخرة: فأول ما ينزل بالظالم اللعنة، وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى، يقول عز وجل: يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ويقول تعالى: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ثم إن هذا الظالم، لن يكون له يوم القيامة نصير ولا شفيع ولا حميم.
يحرم الظلمة من شفاعة إمام المرسلين وشفاعة من يأذن الله في الشفاعة لعباده، كما قال تعالى: وما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ويقول عز وجل: وما للظالمين من أنصار ويقول عليه الصلاة والسلام: ((صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم غشوم، وكل غالٍ مارق)).
ومما يصيب الظالمين يوم القيامة أيضًا الحسرة والندم، فكل ظالم سيندم هناك، ولات ساعة مندم ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون وقال تعالى: ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً ياويلتى ليتني لم أتخذ فلانًا خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً.
وبعد هذا المشوار، وبعد كل هذا سيُنكس الظلمة في نار جهنم، وتكون هي نهايتهم فبئست النهاية، وساءت الخاتمة، قال تعالى: ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون فعاقبة الظالمين جهنم لا يموتون فيها ولا يحيون. قال : ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال رجل وأن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله فقال: وإن كان قضيبًا من أراك)) [رواه مسلم].
وعن أبي سلمة رضي الله عنه أنه كانت بينه وبين أناس خصومة فذكر لعائشة رضي الله عنها فقالت له: يا أبا سلمة اجتنب الأرض فإن النبي قال: ((من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين)) رواه البخاري في كتاب المظالم، قال: "باب: إثم من ظلم شيئًا من الأرض".
هذا الذي ظلم قيد شبر من الأرض والله المستعان، تكون هذه عقوبته يوم القيامة، فكيف بالذي يظلم بالأمتار المربعة، وكيف بالذي يظلم بالكيلومترات المربعة، وكيف بالذي يبلع الألوف المؤلفة.
هذا الذي ظلم قيد شبر، يخبر الصادق المصدوق بأنه سيطوق يوم القيامة بسبع أرضين، وغالبًا ما يكون ظلمه يقتصر على صاحب الأرض الذي ظلمه. أفلا يفكر هؤلاء الظلمة في عالمنا اليوم، الذي يصل ظلمهم ويتعدى عشرات الأفراد، أفلا يفكر هذا الظالم في عاقبته يوم القيامة، الذي ظلمه يعم البلد كلها والمجتمع بأسره، ويتضرر بسبب ظلمه ألوف الناس، فإنا لله وانا إليه راجعون.
نسأل الله عز وجل أن يحسن خاتمتنا وأن يجنبنا الظلم، بجميع صوره وأشكاله، وأن يعجل نهاية الظالمين، ويريح العباد من ظلمهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3197)
ضوابط التكفير
أديان وفرق ومذاهب, الإيمان
فرق منتسبة, نواقض الإيمان
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
25/3/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- زمن طوفان الفتن. 2- فتنة التكفير. 3- خطورة المجازفة بالتكفير. 4- النهي عن التكفير في الكتاب والسنة. 5- تحذير السلف من التكفير. 6- التكفير حكم شرعي. 7- شرط إقامة الحجة وإزالة الشبه. 8- التفريق بين الفعل والفاعل والإطلاق على التعيين. 9- الكفر نوعان. 10- مسألة الحاكمية. 11- لازِمُ القول. 12- لا تكفير إلا بدليل وبرهان. 13- العذر بالجهل والتأويل. 14- براءة الإسلام من مسالك أهل التكفير والتدمير. 15- بدء فتنة التكفير ومنتهاها. 16- أسباب تسرّب لوثة التكفير. 17- علاج هذه الفتنة. 18- لا إفراط ولا تفريط. 19- نداء للشباب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، العيشُ الوثير والخير الوفير والرزق الكثير ثمرةُ تقوَى المولى اللطيف الخبير، فاتقوا الله رحمكم الله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28].
أيّها المسلمون، لا يرتابُ الغيورون على أحوال الأُمَّةِ أنها تعيش زمنَ طوفانِ الفِتن، وأنَّ واقعَها المريرَ يعُجّ بفتنٍ عمياء ودَواهٍ دَهياء، قد انعقد غمامُها وادلهمَّ ظلامُها، غيرَ أنّ هناك فتنةً فاقرة وبليّة ظاهرة، فتنةً امتُحِن المسلمون بها عبرَ التأريخ، فتنةً عانت منها الأمّة طويلاً وذاقت مرارتَها وتجرّعت غُصصَها ردحًا من الزمن، فتنةً طال ليلُها وأرخى سدولَه بشتَّى همومها وناءت بكَلكلِها وغمومها، كم نجَم عنها من سفكِ الدماء وتناثُر الأشلاء وحلَّ جرّاءَها من نكباتٍ وأرزاء، وبالجملة فهي محِيطٌ ملغوم ومركَب مثلوم ومستنقَعٌ محموم وخطر محتوم، زلّت فيها أقدام وضلّت فيها أفهام، وبالتالي فهي جديرةٌ بالتّذكير حفيَّة بالتفكير قِمنَة بالتبصير، بلة صرخة نذير وصيحة تحذير، حتى لا تتجدَّد فواجعُ الأمّة في العنف والتدمير والإرهاب والتفجير.
أجزمُ ـ يا رعاكم الله ـ أنه لم يعُد يخفى على شريفِ علمكم أنها الظاهرةُ الجديرة بالتنديد والتفكير والمعالجة والتغيير، إنها فتنةُ التكفير، وكفى بها من فتنةٍ تولِّد فِتنًا.
هي محنةٌ لا بل ستغدو منحةً فضلَ الكريم القادر المنّان
إخوةَ الإسلام، المجازفةُ بالتكفير شرٌّ عظيم وخطر جسيم، كم أذاق الأمّةَ من الويلات ووبيل العواقب والنهايات، لا يسارِع فيه مَن عِنده أدنى مَسكة من ورعٍ وديانة أو شذرة من عِلم أو ذرّةٍ من رزانة، تتصدّع له القلوب، وتفزَع منه النفوس، وترتعِد من خطرِه الفرائص، يقول الإمام الشوكانيّ رحمه الله: "وها هنا تُسكَب العبرات ويُناح على الإسلام وأهلِه بما جناه التعصّبُ في الدين على غالبِ المسلمين من الترامي بالكُفر لا لسنّةٍ ولا لقرآن، ولا لبيانٍ من الله ولا لبرهان، بل لما غلَت به مراجلُ العصبيّة في الدين وتمكّن الشيطان الرجيم من تفريقِ كلمة المسلمين لقَّنهم إلزاماتِ بعضِهم لبعض بما هو شبيهُ الهباء في الهواء والسّراب بقيعةٍ، فيا للهِ والمسلمين من هذه الفاقِرة التي هي أعظمُ فواقرِ الدين والرّزيةِ التي ما رُزِئ بمثلِها سبيلُ المؤمنين... ـ إلى أن قال رحمه الله: ـ والأدلّة الدالّة على وجوب صيانةِ عِرض المسلم واحترامِه تدلّ بفحوى الخطاب على تجنُّب القدح في دينه بأيِّ قادِح، فكيف إخراجه عن الملّة الإسلاميّة إلى الملةِ الكفريّة؟! فإنّ هذه جنايةٌ لا يعْدلُها جناية وجرأةٌ لا تماثِلها جرأة، وأين هذا المجترِئ على تكفير أخيه من قولِ رسول الله : ((المسلمُ أخو المسلم؛ لا يظلِمه ولا يُسلمُه)) [1] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((سِبابُ المسلم فسوقٌ وقِتالُه كفر)) [2] ، وقوله : ((إنّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)) [3] " انتهى كلامه رحمه الله [4].
إخوةَ الإيمان، لقد جاءتِ النصوصُ الزاجرة عن هذا المرتعِ الوخيم والمسلَك المشين، يقول سبحانه: فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [النساء:94]، وفي الصحيحين من حديث ابنِ عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إذا قال الرجلُ لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدُهما، فإن كان كما قال وإلاّ رجعت عليه)) [5] ، وفيهما من حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسولَ الله يقول: ((من دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدوّ الله وليس كذلك إلا حارَ عليه)) [6] ، وعند الطبرانيّ بسند صحيحٍ أنّ رسولَ الله قال: ((مَن رمى مؤمِنًا بكفرٍ فهو كقتلِه)) [7].
وعلى هذا المنهَج الناصِع الوضيء سارَ صحابةُ رسول الله ، خرّج الإمام أحمد والطبرانيّ وغيرهما عن أبي سفيانَ قال: سألتُ جابرًا وهو مجاورٌ بمكّة: هل كنتم تزعُمون أحدًا من أهل القبلة مشركًا؟ فقال: معاذ الله، وفَزع لذلك، فقال رجلٌ: هل كنتم تدعون أحدًا منهم كافرًا؟ قال: لا [8].
وعلى هذا المسلَك المشرِق اللألاء سارَ السلف الصالح رحمهم الله، فوضَعوا لهذا الحكم أصولاً وشروطًا وضوابط، ورسموا له حالاتٍ وموانع، لا بدّ من مراعاتها والتثبُّت فيها، وما ذلك إلاّ لخطورته ودقّته.
وأهمُّ هذه الضوابط ـ يا عبادَ الله ـ أنّ التكفيرَ حكم شرعيٌّ ومحضُ حقّ الله سبحانه ورسولهِ ، يقول الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله:
الكفر حقُّ الله ثم رسولِه بالنصِّ يثبت لا بقول فلان
من كان ربُّ العالمين وعبدُه قد كفّراه فذاك ذو الكفران [9]
ويقول الإمام الطحاويّ رحمه الله: "ولا نكفّر أحدًا من أهل القبلةِ بذنبٍ ما لم يستحلَّه" [10] ، قال ابن أبي العزّ رحمه الله: "إنّ بابَ التكفير وعدم التكفير بابٌ عظُمت الفتنةُ والمحنةُ فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتّت فيه الأهواء والآراء، وتعارضَت فيه دلائلُهم، فالنّاس فيه على طرفين ووسَط" [11] ، ثم قال: "وإنه لمن أعظمِ البغي أن يُشهَد على معيَّن أن اللهَ لا يغفر له ولا يرحمه، بل يخلّده في النار" [12] ، وقال الغزاليّ رحمه الله: "والذي ينبغي الاحترازُ منه التكفيرُ ما وجد إليه سبيلا، فإنّ استباحةَ الدماء والأموال من المصلِّين إلى القبلةِ المصرّحين بقول: لا إله إلا الله محمّد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألفِ كافرٍ في الحياة أهونُ من الخطأ في سفكِ دمٍ لمسلم" [13] ، وقال الإمام النوويّ رحمه الله: "اعلم أنّ مذهبَ أهل الحقّ أنه لا يكفَّر أحدٌ من أهل القبلةِ بذَنب، ولا يُكفَّر أهلُ الأهواء والبدَع وغيرُهم" [14] ، ويقول الإمام القرافيّ رحمه الله: "كونُ أمرٍ ما كفرًا أيّ أمرٍ كان ليس من الأمور العقليّة، بل هو من الأمور الشرعيّة، فإذا قال الشارع في أمرٍ ما: هو كفر فهو كُفر"، ويقول شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: "فلهذا كان أهلُ العلم والسنّة لا يكفِّرون من خالفَهم وإن كان ذلك المخالِف يُكفِّرهم؛ إذِ الكفر حكمٌ شرعيّ، فليس للإنسان أن يعاقبَ بمثلِه كمن كذب عليكَ وزنى بأهلِك، ليس لك أن تكذِب عليه ولا تزني بأهله، لأنّ الكذبَ والزنا حرامٌ لحقّ الله تعالى، وكذلك التكفير حقُّ الله، فلا يُكفَّر إلاّ من كفّره الله ورسوله" [15] ، وقال الشيخ المجدِّد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "وبالجملةِ فيجب على كلِّ من نصَحَ نفسَه أن لا يتكلَّم في هذه المسألةِ إلا بعلمٍ وبرهانٍ منَ الله، وليحذَر من إخراج رجلٍ من الإسلام بمجرَّد فهمِه واستحسان عقله، فإنّ إخراجَ رجلٍ من الإسلام أو إدخالَه من أعظم أمور الدّين، وقد استزلَّ الشيطان أكثرَ الناس في هذه المسألة" [16].
الله أكبر، هذا هو ورَعُ السلف في هذا الباب، فكيف يسوغ بعدَ هذه النقول كلِّها لمن لم يبلُغ في مقدار علمهم وفضلهم نقيرًا ولا قطميرًا أن يتجاسَر على المسارعةِ إلى الحكم بالكفر الصُّراح في حقّ إخوانه المسلمين جملةً وتفصيلاً عياذًا بالله عياذًا، أوَما علِم هؤلاء ما يترتَّب على التسرُّع في التكفير من أمورٍ خطيرة مِن استحلال الدمِ والمال ومنعِ التوارُث وفسخِ النكاح وتحريم الصلاةِ عليه وعدَم دفنِه في مقابر المسلمين، مع ما يستوجبه من الخلودِ في النار والعياذ بالله، إلى غير ذلك ممّا هو مزبورٌ في مظانِّه؟! فلا جرَمَ بعد ذلك كلِّه أن يقفَ الشرعُ منه موقِفًا صارمًا، يسدُّ الطريقَ على أحفاد ذي الخويصرة وحرقوص بن زهير ومَن خرج مِن ضئضِئهم ممّن يكفّرون أهلَ الإسلام ويدَعون أهلَ الأوثان، بل يوزّعون صكوكَ جهنّم على الخليقة وهم لا يشعرون، والله المستعان.
أمةَ الإسلام، ومِن الضوابط المهمّة في هذه المسألةِ الخطيرة أنّ المسلمَ لا يُكفَّر بقوْلٍ أو فِعل إلاّ بعد أن تقامَ عليه الحجَّة وتُزالَ عنه الشّبهة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فليس لأحدٍ أن يكفِّر أحدًا من المسلمين وإن أخطأ وغلِط حتى تُقامَ عليه الحجّة ويبيَّن له المحجَّة، ومن ثبت إسلامُه بيقين لم يزل عنه ذلك بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامةِ الحجة وإزالة الشبهة" [17].
ومِن الضوابطِ أنه يجب التفريق بين الفِعل والفاعل والإطلاقِ والتعيين وتنزيل النصوص على الوقائِع والأشخاص، جاء في مجموع الفتاوى ما نصُّه: "فإنّ نصوصَ الوعيد التي في الكتابِ والسنة ونصوصَ الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك لا يستلزم ثبوتَ موجبِها في حقِّ المعيَّن إلاّ إذا وُجِدت الشروط وانتفَت الموانِع، لا فرقَ في ذلك بين الأصول والفروع" [18].
ومنها أنَّ الكفرَ نوعان: أكبر وأصغر، اعتقاديّ وعمليّ، وهذا ممّا التبس على كثيرٍ ممّن يتراشقون بالتكفير، فغفلوا عن الجمع بين النصوص والمنهجِ الصحيح فيما ظاهره التعارضُ.
ولهذا ذهَب جماهير العلماءِ سَلفًا وخلَفًا إلى التفصيل في قضيّة الحاكميّة، وهو مذهبَ حَبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما حيث يقول رضي الله عنهما: (ليس بالكفرِ الذي يذهبون إليه، وإنما هو كفرٌ دون كفر) [19] ، وإليه ذهب الطبريّ وابن كثير والقرطبيّ وعِكرمة ومجاهد وعطاء وطاوس والزجّاج والآجريّ وابن عبد البرّ والسمعانيّ والجصّاص وأبو يعلى وأبو حيّان وابن بطّة وابن عطيّة وابن الجوزيّ وشيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وأئمة الدعوة والمحقّقون قديمًا وحديثًا.
وعدَّ أهلُ العِلم أربعَ حالاتٍ في هذه المسألة على تفصيلٍ نفيس يحقِّق الجمعَ بين النصوصِ، ممّا يؤكِّد الإجماعَ على براءةِ أهل السنة من تكفير عُصاةِ الأمّة، مع أنّ وجوبَ الحكم بما أنزل الله لا يتمادى فيه مسلمان، وكلُّ مسلم للحُكم بغير الشريعةِ من القالين، بيدَ أنَّ هذا الجُرمَ المستبين لا ينبغي أن يُخرجنا لحماسةٍ مشبوهةٍ وعاطفة جيّاشةٍ عن قواعدِ أهل العِلم والإيمان وأصولِ أهل السنة والقرآن ومنهجِ السلف في النظرَ والاستدلال، وماذا بعد الحقّ إلا الضلال؟!
ومن الضوابطِ في هذه المسألة أنّه لا يُكفَّر باللوازِم من الأقوال، ولا يُعتبَر بما تؤول إليه مِن أفعال، يقول الإمام الشاطبيّ رحمه الله: "مذهبُ المحقِّقين من أهلِ الأصول أنَّ الكفرَ بالمآل ليسَ بكفرٍ في الحال"، وقال الحافظ ابن حجر: "إنَّ الذي يُحكَم عليه بالكفر مَن كان الكفرُ صريحَ قوله، وكذا من كان لازمَ قوله وعُرِضَ عليه فالتزمَه، أمّا من لم يلتزمه وناضَل عنه فإنّه لا يكون كافرًا ولو كان اللازم كفرًا" [20].
وأخيرًا ـ يا رعاكم الله ـ فإنّه لا يكفَّر إلاّ من أجمع أهل الإسلام على تكفيره أو قام على تكفيرِه دليلٌ لا معارِضَ له، حكاه ابن عبد البرّ وابن بطّال وشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام المجدِّد محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله إذ يقول: "ولا نكفِّر إلاّ ما أجمع عليه العلماء كلُّهم" [21].
مع أنّ من مسلَّماتِ هذه القضيّة العلمَ بأنّ هذا العملَ كفرٌ، فالجاهلُ لا يكفَّر حتى تقومَ عليه الحجّة، يقول الإمام أحمد في الجهمية: "لو قلتُ قولَكم لكفرتُ، ولكنِّي لا أكفِّركم لأنّكم عندي جُهّال" [22] ، ويقول شيخ الإسلام: "وهذا المتأوِّل ينبغي إقامةُ الحجّة عليه أوّلاً وإظهارُ خطئه وإعلامُه بالحقِّ، كما ينبغي أن تُعلَمَ الموانِع المانعِةُ من التكفير، ومنها الجهلُ والخطأ والإكراه، قال تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، ومنها التأويل السائغ، ولهذا اتّفقَ الصحابة رضي الله عنهم على عدَم تكفير من استحلُّوا الخمرَ لوجود الشبهةِ لديهم، وهي تأويلُهم قولَ الله عزّ وجلّ: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا الآية [المائدة:93]" [23].
وبعدُ: أيها المسلمون، فإنّ الغُيُر حينما يبيِّنون خطورةَ المجازفةِ في التكفير ويذكرون شروطَ التكفير وضوابطَه فإنهم يُعلِنون للعالَم بأسرِه أنّ الإسلام بريء من هذا المعتقَد الخاطئ، وأنّ ما جرى في بلادِنا المحروسَة ويجري في بعضِ بلاد المسلمين من سَفك الدماء المعصومة وإزهاقِ الأنفس البريئة وأعمال التفجير والتدمير والتخريب والإفساد والإرهاب لهُو من الأعمال الإجراميّة المحرّمة، ولا يجوز أن يُحمَّل الإسلام وأهلُه المعتدلون جَريرةَ هذه الأحداث التي هي إفرازُ فِكرٍ تكفيريّ منحرف، ممّا تأباه الشريعة السّمحةُ والفِطر السليمة والعقول المستقيمة، والله المسؤول أن يصلحَ حالَ الأمّة ويكشفَ عنها كلَّ غمَّة، وأن يوفِّقَ الجميعَ لما يحبّه ويرضاه، ويهديَهم لما اختُلف فيه من الحقِّ بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
نفعني الله وإيّاكم بآي الكتاب وبسنّة النبيّ الأواب، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه كان للأوّابين غفورًا.
[1] أخرجه البخاري في المظالم (2442)، ومسلم في البر (2580) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (48)، ومسلم في الإيمان (64) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في العلم (67)، ومسلم في القسامة (1679) عن أبي بكرة رضي الله عنه، وثبت عن غيرم من الصحابة رضي الله عنهم.
[4] السيل الجرار (4/584-585).
[5] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6104)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (60).
[6] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6045)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (61) واللفظ له.
[7] أخرجه البخاري في الأدب (6105) من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه.
[8] المعجم الأوسط (7354)، وأخرجه أيضا أبو يعلى في مسنده (2317)، قال الهيثمي في المجمع (1/107): "رجاله رجال الصحيح"، ولم يعزه لأحمد.
[9] من الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، المشهورة بنونية ابن القيم.
[10] العقيدة الطحاوية (ص19).
[11] شرح العقيدة الطحاوية (ص316).
[12] شرح العقيدة الطحاوية (ص318).
[13] التفرقة بين الإيمان والزندقة، انظر: انظر: فتح الباري (12/300).
[14] شرح صحيح مسلم (1/150).
[15] الرد على البكري (2/492).
[16] انظر: الدرر السنية ().
[17] مجموع الفتاوى (12/466).
[18] مجموع الفتاوى (10/372).
[19] أخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (569، 570، 571، 572، 573)، والطبري في تفسيره (6/256)، والبيهقي في الكبرى (8/20)، وصححه الحاكم (3219).
[20] انظر: فتح المغيث (2/69).
[21] انظر: الدرر السنية (1/65).
[22] قال نحوه ابن تيمية للجهمية من الحلولية والنفاة، انظر: الرد على البكري (2/494).
[23] ينظر أين موضعه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله، يقول الحقَّ وهو يهدي السبيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، هو حسبُنا ونعم الوكيل، وأشهد أنّ نبينا محمّدًا عبد الله ورسوله المبعوث بكلّ خلُق جميل وفعلٍ نبيل، صلّى الله عليه وعلى آله المثنَى عليهم بمحكَم التنزيل، وصحبِه ذوي المكانةِ والتفضيل، وسلِّم ـ يا ربِّ ـ تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، وعليكم بالجماعة فإنّ يدَ الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
أيّها الإخوةُ في الله، حينما يهيجُ الهوَى في النفوس وتُعرِض عن نورِ الوحي والنصوصِ تُصاب بسُكرٍ أشدَّ من سُكر الكؤوس. وإنّ ظاهرةَ الغلوّ في التكفير والاعتساف لهي من أخطرِ ما بُليت به الأمّة فحوّلها إلى إسرافٍ في أطراف.
لقد بدأت هذه الفتنةُ بحَرب كلام، وانتهت إلى استحلال الدم الحرام، وزاد شططُها حينما حُمِل السلاحُ في وجه الأمّة، وأذكِي أُوارُها حينما برزت في صورةِ فتاوًى تكفيريّة تحريضيّة، تلقّفها حُدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، فسلكوا مسالكَ أهل البغيِ والإجرام، فهل بعدَ هذا يسَعُ السكوتُ من أهل الإسلام؟!
لقد كان الغيورُ على أبناءِ أمّته يرى خلَل الرمادِ وميضَ نارٍ وأنَّ الحربَ أوّل ما تكون فتيّةً، واليومَ نرى الأمرَ أمرًا منكرًا، فما زال الفِكر التكفيريّ يسري بقوّةٍ في صفوف شبابِ الأمة الذين نظر بعضُهم إلى المجتمعات نظرةً سوداويّة قاتمة، وأنّه لا مَخرجَ من المِحَن والبلايا التي رُزئت بها الأمّة إلا بالتكفير ثم التفجير والتدمير.
ومما يزيد في الأسَى ما يُرى من تسرُّب هذه اللوثةِ الخطيرة إلى بعضِ شباب الأمّة، ويعظُم الأمرُ حينما يكون الحكم بالتكفيرِ جزافًا على وُلاةِ أمر المسلمين ومَن بايعهم على الكتابِ والسنة من العلماء الربانيّين، فرُموا بالعَمالة والمداهَنة، بل لقد سَرى الخطَر إلى عوامّ المسلمين وناشئتهم.
وممّا مدّ في أجل هذا الفكرِ المتهافِت وبسَط رواجَه هو التقصيرُ في التصدّي له وذكرِ أسبابه، والتي من أهمِّها ضحالةُ العِلم وقلّةُ الفهم والخطأ في منهجيّة الطلَب والتحصيل، فلم يُؤخَذ العلم من أهلِه المعروفين، بل زُهِّد فيهم، وأُفقِدتِ الثقةُ بهم، مع عدَم الدراية بمقاصِد الشريعة وقواعدِ الفقه ورعاية المصالح العليا في الأمّة والتعلُّق بشُبَه ومتشابهات، مع تركٍ للنصوصِ المحكمات الواضحات، إضافةً إلى ما يعُجُّ به واقِع الأمّة من صُورٍ من الظلم والاضطهاد، غيرَ أنَّ ذلك ليس بمبرِّر ولا مُسوِّغ للخَطأ، فالعُنف لا يعالجُ بالعُنف، وإذا كان المصلِحون يرَونَ الأمّة ممزّقةً والممتلكات مغتصَبة والمقدَّسات مستَلبَة فهل المخرَجُ من هذه الرزايا بتكفير الوُلاة والخروجِ على الجماعة وحمل السلاح في وجه الأمة؟! ألا يفيق هؤلاء؟! ألا يعتبِرون بمن حَولهم؟! ألم يقرؤوا التاريخَ ليدركوا كم أضرَّ هذا الفكرُ بالأمّة وصدّها عن دينها وخوّف شبابها من التمسُّك بالسنة والتزام الشريعة؟! ماذا قدّم هذا الفكر الأحاديّ للأمّة؟! وماذا أثمرَ في مسيرةِ الدعوةِ والعملِ الخيريّ والإصلاحيّ؟! فاللهمَّ غُفرًا غُفرًا، أفلا يَسَع هؤلاءِ ما وسِع أنبياءَ الله ورسلَه وصحابةَ رسول الله والسلفَ الصالح ومن تبعهم بإحسان، فشغلوا أنفسهم تعلُّمًا وتعليمًا ودعوةً وإصلاحًا؟!
أيّها الإخوةُ في الله، أمّا العلاجُ فبالعِلم العِلم، وبالفهم الفهم، وبالحِوار الحوار، حتى لا تخربَ الديار ويحلّ الدّمار ويلحَق بالأمّة العارُ والشَّنار، وما أشبهَ الليلةَ بالبارحة، فلقد كفَّر أسلافُ هؤلاء خيارَ هذه الأمة من صحابة رسول الله ، ورضي الله عنهم وأرضاهم، وجازى من كفّرهم وعاداهم بما يستحقّ دنيا وأخرى.
وهنا لا بدّ من التأكيد على أنّ الناس في هذه القضيّة طرفان ووسَط، فأهلُ السنّة والجماعة وسطٌ بين الخوارج والمرجِئة، وكما عانتِ الأمّةُ من فِكر التكفير عانت من الإرجاء والتأخير، ولهذا وضَع أهلُ العلم بابَ الردّة ونواقض الإسلام، غيرَ أنّه لا بدّ أن يتصدَّى لذلك ذوو العِلم والبصيرة.
وطالَب بعضُ المنهزمين فكريًّا بتمييع الدين وذوَبان الشريعة بدعاوي فجَّة، ونسبوا إلى مناهج التعليم الشرعيّة النقصَ والثَّلب، لا بلَّغهم الله ما يرومون.
والدعوةُ موجَّهةٌ بحرارةٍ إلى شباب الأمّة باليقظَة والانتباه وأخذِ الحذر من كلِّ انحرافٍ فكريّ يجانب منهجَ الوسطية والاعتدال.
والنداءُ موجّهٌ إلى شبابِ بلاد الحرمين الذين نشؤوا على صحّةِ المعتقد والسنّة ومنهج أئمة الدعوة الإصلاحيّة المباركة أن يحذَروا اللوثاتِ الفكريّة المنحرِفة، فما الذي غيَّرَهم؟! وأن يثبُتوا على منهجهم الصحيح رغم التحديات والمتغيِّرات، وأن يلتحِموا بولاتهم وعلمائهم، وأن يحذَروا من أن يُستغَلّوا أو يستهدَفوا ويستفزُّوا، في أفكارٍ دخيلةٍ أو مناهجَ هزيلة.
وإلى المصطادين بالماء العَكِر المستغليِّن كلَّ هفوةٍ من بعض الأخيار والصالحين أن كُفُّوا عن تعميم الأحكام، وعلى رسلِكم عن الوقيعة في شبابِ الإسلام، فوالله لن تصلُحَ حالُ الأمّة إلا بالقيام بأمرِ الدين ونُصرة حَملتِه والذبِّ عن أعراض الصالحين المصلحين والدعاة الصادقين وإعلاءِ رايةِ الحسِبة والدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة.
ويعلم الله الذي لا إلهَ غيرُه أنّ ذلك عينُ النُّصح للأمّة والسعي في براءةِ الذمّة وإن شرِق بذلك أناسٌ وطار فرحًا آخرون، فليس يخلُو المرء من قدحٍ ومَدح وإن كان أقومَ من قِدح، لكن العزاء الانتصارُ للحقّ بدليله وإن سخِط الناسُ كلُّ الناس، وحسبُنا أنه محضُ النصيحةِ الموافِقة للنصوص الصحيحة والنقولِ الصريحة، إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
ألا وصلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على الرحمةِ المهداة والنعمة المسداة كما أمركم بذلك ربكم في علاه، فقال تعالى قولاً كريما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيّد الأولين والآخرين نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمّهات المؤمنين، وصحابته الغرّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
(1/3198)
الوصية العظمى
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, محاسن الشريعة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
25/3/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أعظم الوصايا. 2- معنى الوصية. 3- تفسير وصية سورة الأنعام. 4- عظم وصية سورة الأنعام. 5- أهمية الدعاء في دفع البلاء. 6- مفاسد فتنة الخوارج. 7- دعوة للتوبة والرجوع إلى الجماعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ أيّها المسلمون ـ تقوى مَن يعلم أنَّ اللهَ يسمعُه ويراه، ولا يخفى عليه سرُّه ونجواه، ويَجزيه بعمله في دنياه وأُخراه.
عبادَ الله، إنَّ أعظمَ وصيَّةٍ هي وصيَّةُ ربِّ العالمين، ثمّ وصيّةُ المرسلين، ثمّ وصية عباد الله الصالحين. وصيةُ الله تحيى بها القلوب، وتزكو بها الأعمال، ويرتفع بها العمَل، ويرتفعُ كذلك بها الإنسانُ العامل، وتصلُح بها الحياةُ ويَعظُم بها الثوابُ في دارِ النعيم المقيم.
وأعظمُ الوصايا في القرآنِ العظيم ثلاثُ آياتٍ من سورة الأنعام، قال الله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:151-153].
الوصيةُ هي الأمرُ المؤكَّد والعهد المبرَم والعناية بالمعنى العظيم وتأكيدُ فعلِه، وهؤلاء الثلاث الآيات أنزلها الله بعد الآيات التي ذكَر فيها ضلالَ مشرِكي العرب، وذكر أوهامهم وخُرافاتِهم وافتراءَهم على الله تعالى في تحريم بعض الأنعام والحروث والثمار على أنفسهم.
فالآيةُ الأولى تقرِّر توحيدَ الله تعالى الأصلَ العظيم الذي يرجِع إليه كلُّ أمرٍ ونهي، وينبني عليه كلّ تشريع وتوجيه، وبدون توحيدِ الله تعالى لا ينفَع عمل. وتقرِّر وتؤكِّد تحريمَ أنواعِ الشرك بالله عزّ وجل الذنبِ الذي لا يغفره الله عزّ وجلّ لمن مات عليه. وتوصي الآيةُ بالإحسان بالوالدين قاعدَتي الأسرةِ ومحضَنِ الأجيال ونواة المجتمع. وتحرِّم الآية العدوانَ على الطفولة، وترعى حقَّها، والأطفالُ قوَّة الأمة. وتنهى الآيةُ عن الفواحِش الظاهرةِ والباطنة ليعمَّ الطهرُ والعفاف وتصانَ الفضيلة وتدفَن الرذيلة وتُحفَظ الحرمَات والحقوق. وتقرِّر الآيةُ حرمةَ قتل النفسِ المعصومة الدمّ ليبتعدَ المسلم من دمار الحروبِ والثارات وسفك الدماء.
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أي: هلُمّوا وأقبلوا أقصّ عليكم وأخبركم بما حرَّم ربّكم عليكم حقَّا، لا تخرُّصًا وظنًّا ولا وَهمًا، بل أخبركم وحيًا من الله وأمرًا من عنده، أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا : لا تدعُوا مع ربِّكم أحدًا في السماء ولا في الأرض، قال الله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]. أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا في دعاءِ العبادة ولا في دعاءِ المسألة، ولا تشركُوا به شيئًا في الذبح والنذر، ولا تشركوا بربِّكم شيئًا في الاستعاذة والاستعانةِ والاستغاثة، ولا تشركوا به شيئًا في التوكُّل والرغبة والرهبةِ والطواف بغير بيته، ولا تشرِكوا به شيئًا في الخشية والخوفِ والرجاء والسجود والركوع والمحبَّة والتعظيم، بل اعبُدوا ربَّكم وحدَه بأنواع العبادةِ كلِّها. والنهيُ عن كلِّ أنواع الشّرك في هذه الآية يتضمَّن الأمرَ بجميع أنواع العبادة كما هو منصوصٌ عليه في آياتٍ كثيرة أخرى، وفي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من مات لا يشركُ بالله شيئًا دخل الجنةَ)) [1].
وقوله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أي: وحرَّم عليكم العقوقَ، وأوصاكم بأن تحسِنوا إلى الوالدين إحسانًا. والإحسانُ للوالدين طاعتُهما في غير معصيةِ الله وإكرامُهما وإدخالُ السرورِ عليهما ورحمتهما ولينُ الجانب لهما وعدمُ التضجُّر من صُحبتهما ومداومة التحمُّل لهما والقيامُ بما يُصلحهما وحُسن مخاطبتهما والدعاءُ لهما في حياتهما وبعد مماتهما وإهداءُ الأعمال الصالحةِ المشروعة لهما بعد موتِهما وصلةُ قرابتهما وصلة صديقهما بعد موتهما.
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ، وقد كان بعضُ المشركين من العَرَب يقتلون البناتِ خوفَ العار، وبعضهم يقتُل الولدَ خوفَ الإملاقِ وهو الفقر، فنهى اللهُ عن هذه العادةِ الشنيعة، وأخبر أنه تعالى متكفِّل برزقِ الأولاد والآباء.
ومما يدخُل في عمومِ الآية إسقاطُ الجنين خوفًا من النفَقة، وممّا يُنهَى عنه استعمالُ حبوب منع الحمل لأجل ضِيق المعيشة، لكن لو كان هناك ضرورةٌ شرعيّة جاز استعمالُ منعِ حبوب الحمل بمقدارِ هذه الضرورة، كما لو كانت المرأةُ لا تُطيق الحملَ والرضاع لسببٍ ما، أو كان تتابُع الحملِ بلا مدَّةٍ زمنيّة كافية يضرُّها أو يضرّ الولد.
وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، والفواحشُ ما عظُم قبحُه وخُبثت حقيقتُه في العقلِ والفِطرة واتّفقتِ الشرائعُ على تحريمه، وقد نصّ الله تعالى على فُحشِ معاصٍ بعينها، قال الله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32]، وقال تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ [العنكبوت:28]، وفي الحديثِ عن النبيِّ : ((ملعونٌ من عَمِل عملَ قومِ لوط، ملعون من عمِل عَمل قوم لوط، مَعلونٌ مَن عمل عمل قومِ لوط)) [2]. والفواحشُ أعمُّ من ذلك، فهي المعاصي كلُّها، والنهيُ عن قربانها أبلغُ من النهيِ عن فِعلها، فالنهي عن قُرب المعصية نهيٌ عن أسبابها ومقدِّماتها والوسائل التي تُفضي إليها، ونهيٌ عن تلذُّد الخيال بتصوُّرها والاسترسال في الوَسواس بها؛ لأنَّ النفسَ البشرية قد تضعُف عن مقاومة الإغراء بعد التمكُّن من مقدِّماتِ وأسباب المعصية، ولذلك حرَّم الشرعُ الخلوةَ بالأجنبية والمردان ومحادثةِ النساء.
وقوله تعالى: مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ أي: حرَّم الله ما أُعلِن وما أسِرَّ من المعاصي، ما هو من أعمال الجوارح المشاهدَة وما هو من أعمال القلوبِ المخبَّأة المستُورةِ كالكِبر والحسَد والغلّ والخيانة والمَكر والخديعة والنِّفاق وبُغض ما أحبَّ الله وحُبِّ ما يكره الله تعالى.
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ، والنفسُ التي حرَّم الله قتلَها هي نفسُ المسلِم، ونفسُ المعاهَد الكافر الذي له أمانٌ من الإمام، والكافر غيرُ المحارب وإن لم يكن له أمان فيحرُم قتلُه، وفي الصحيحين عن النبيّ : ((لا يحلّ دمُ امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفسُ بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) [3] ، وفي الحديث: ((مَن قتل معاهَدًا لم يرح رائحة الجنة)) [4] ، وفي الحديث أيضًا: ((لا يزال المسلمُ في فُسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا فإذا أصابه بَلَح)) أي: أعيَى وانقطع وضاقَ عليه الأمر جدًّا.
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ : عهِد إليكم بما تُلِي عليكم وأمَركم به لتحفظُوه وتعملُوا به.
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: تعقِلون النافعَ من الضارّ، فتعمَلون بما ينفع، وتتركون ما يضرّ. والحِكمة في قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أنَّ مضارّ هذه المحرَّمات ومفاسدَها يُعلَم بالعَقل لمن تدبَّر ذلك، والشرع بيَّن تفصيلَ مفاسِد ومضارّ هذه المحرّمات، فمن منعه عقلُه عن هذه المحرَّمات فهو العاقلُ حقًّا، ومن لم يمنعه عقلُه عن هذه المحرَّمات فهو السفيهُ الذي لا عقلَ له، فأيُّ قبحٍ وجُرم أعظمُ من الشّرك بالله تعالى ثمّ عقوق الوالدين وعمل الفواحش وقتلِ النفس التي حرَّم الله؟!
والآية الثانية تقرِّر التراحمَ والتعاونَ والتكافُل الاجتماعيّ بين المسلمين والحُنوَّ والرِّعاية للضعفاء والقاصرين، وتحرِّم بخسَ الحقوقِ وانتقاصها، وتقرِّر الوفاءَ في المعاملات والعدلَ في المبادلات والمعاوَضات بلا طُغيانٍ بالزيادة ولا بخسٍ بالنَّقص، وتحرِّم الجَورَ والظلم في الحكم والشهادة والقول ولو كان على الحبيب والبغيض، وتأمُر بالعدل والقسط.
وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ أي: لا تقربوا مالَ اليتيم إلاَّ بالصِّفة التي هي خيرٌ له، فلا تقرَبوا ماله إلاَّ بالحِفظ لمالِه وتثميرِه والعمل على نمائه، فلا تأكلوه، ولا تتركوه يتعرَّض للضياع والنقصان. ووجوبُ تربيةِ اليتيم وإرشاده ورعايته من باب أولى، ليصبحَ لبِنةً صالحة في بناءِ المجتمع، ومعنى حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ أي: حتى يبلغَ الحلم مع الرّشد وحسنِ التصرُّف، فيُدفَع إليه ماله حينئذٍ.
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ أي: وحرَّم بخسَ الحقوق وعدمَ الوفاء بالمعاملات. وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ أي: بالعدل والحقِّ بلا نَقص، ومثل هذا المقاييس.
لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أي: طاقتَها، فمِن رحمة الله تعالى أنَّه لا يأمرُ ولا ينهي إلا بما هو مقدورٌ عليه.
وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا أي: إذا حكمتُم أو إذا شهِدتم أو دخلتُم بين متنازعِين بالإصلاح أو إذا مَدَحتم أو قدَحتم لغرضٍ شرعيّ فاعدِلوا، الزَموا الحقَّ والقسطَ في ذلك، ولو كان المحكومُ له أو المشهودُ له أو المشهودُ عليه أو المصلَح له أو الممدوح أو المقدوح فيه ذا قربَى، ومثلُه في هذا البعيد أو البغيض.
وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ، عهدُ الله أمرُه ونهيُه وتشريعه، قال الله تعالى لبني إسرائيل: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة:40]. ويتناولُ عهدُ الله ما يكون بين طرفين من العقودِ والعهود المشروعة المباحة، وأضِيفت العهود إلى الله لأنَّ اللهَ أمر بالوفاء بها.
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. والحكمةُ في قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أنّ هذه الوصايا إذا غفل أحدٌ عن رعايتها وحياطتها ارتكب محرَّمَها عاقلاً أو غيرَ عاقل، فإذا تذكَّر وجوبَ حفظها ورعايتها قام بهذه الوصايا.
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، قرأ نافع ومن وافقه بفتح همزة أَنَّ ، والمعنى: وحرَّم عليكم تنكُّبَ الصراطِ المستقيم والميلَ يمينًا أو شمالاً عنه، وفرض عليكم لزومَه. ويجوز أن تقدَّر لامُ التعليل قبلَ أَنَّ ، ويكون المعنى: ولأنَّ هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه. وقرأ حمزة والكسائي بكسرِ همزة إِنَّ ، فيكون الكلامُ ابتدائيًّا مستأنَفًا. والصراطُ المستقيم هو الإسلام كلُّه، والحكمةُ في كلمة تَتَّقُونَ أنَّ الثباتَ على الصراط المستقيم لا يكون إلاَّ للمتقين.
وكلُّ آيةٍ من هؤلاء الآيات الثلاث في الوصايا عليها شواهدُ من القرآن والحديث لو ذُكِرت لطال الكلام، قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: (مَن أراد أن ينظرَ إلى وصيَّة محمّد التي عليها خاتَمه فليقرأ هؤلاء الآيات) [5].
الله أكبر، الله أكبر، ما أعظمَه من موصٍ، وأما عظمَها من وصيّة، وما أسعدَ من قام بهذه الوصية.
أوّلُ هذا الصراطِ المستقيم في الدنيا ونهايته الجنّة، والعدولُ عن الصراط المستقيم بالشّهوات والدُّنيا أو بالبدعة أو الكفر والنفاق بدايتُه في الدنيا ونهايته جهنَّم، فيتردَّى في الدنيا في شهواتِه وشقائه، وفي القبر في ظلمَته وعذابه، وفي الحشر في جهنَّم. ولو أنَّ كلَّ مسلم عمِل بهذه الوصايا لكان الله معه، ولوُفِّق لأَرشدِ أموره، لأحسنَ إلى نفسه غايةَ الإحسان، ولأحسنَ إلى الخلقِ وسلِم الناس من شرِّه، قال الله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [المائدة:92].
باركَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (92) ولفظه: سمعت رسول الله يقول: ((من مات يشرك بالله شيئا دخل النار)) ، وقلت أنا: (ومن مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة). وأخرجه أيضا البخاري في كتاب الجنائز (1238). قال ابن حجر في الفتح: "لم تختلف الروايات في الصحيحين في أن المرفوع الوعيد والموقوف الوعد".
[2] أخرجه الطبراني في الأوسط (8497)، والحاكم (8053)، والبيهقي في الشعب (4/378-379)، قال المنذري في الترغيب (3/196): "رجاله رجال الصحيح إلا محرز بن هارون التيمي، ويقال فيه: محرر بالإهمال. ورواه الحاكم من رواية هارون أخي محرر وقال: صحيح الإسناد. وكلاهما واه، لكن محرر قد حسن له الترمذي، ومشاه بعضهم، وهو أصلح حالا من أخيه هارون، والله أعلم"، وقال الهيثمي في المجمع (6/272): "فيه محرز بن هرون، ويقال: محرر، وقد ضعفه الجمهور، وحسن الترمذي حديثه، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وللحديث شواهد عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ولذا أورده الألباني في صحيح الترغيب (2420).
[3] صحيح البخاري: كتاب الديات (6878)، صحيح مسلم: كتاب القسامة (1676) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في كتاب الجزية (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[5] أخرجه الترمذي في التفسير (3070) وقال: "هذا حديث حسن غريب"، والطبراني في الأوسط (1186)، والبيهقي في الشعب (6/207)، وأورده الألباني في ضعيف سنن الترمذي (593).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ العالمين، الرّحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له القويّ المتين، وأشهد أنّ نبيّنا وسيِّدنا محمّدًا عبده ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله حقَّ تقواه، واخشَوا يومًا تُرجعون فيه إلى الله.
عبادَ الله، إنَّ من أسبابِ دفعِ الفتن المضِلَّة الدعاءَ، قال الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]، وقال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، وفي الحديث عن النبيّ : ((الدعاءُ هو العبادة)) [1] ، وفي الحديث الآخر أنّ النبيّ قال: ((الدعاءُ مُخّ العبادة)) [2].
وأوصي نفسي والمسلمين بالدعاءِ لإطفاء فتنةِ الخوارج الذين شوَّهوا سمعةَ الإسلام، وأخافوا الآمنين، وكفَّروا رجالَ الأمن المسلمين، واستحلُّوا الدمَ الحرام والمالَ الحرام، وأخافوا المسلمين الآمنين، وأرهبوا المطمئنِّين المقيمين، وعَصَوا الله، وعصوا رسولَه، وعَصَوا ولاةَ الأمر، واتَّبعوا غيرَ سبيل المؤمنين، وجَمعوا في هذه الفتنة معاصيَ وكبائر وعظائمَ وقبائح ومفاسدَ كثيرةً ضدّ الإسلام والمسلمين.
وإنَّ الكلامَ لا يُستَكثَر إذا رُدِّد في هذا الشأنِ لأنها فتنةٌ عظيمة، تضرُّ الإسلامَ وتضرّ المسلمين وتضرُّ الآمنين، وتضرُّهم أنفسَهم، فإنَّ الربَّ تبارك وتعالى يقول: وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:94]، وهذا في نقضِ المسلم للعَهد الذي بينه وبين غير المسلمين، نقضُهُ للعهد بالغدر والخيانة، فإنَّ هذا يجعل ذريعةً لغير المسلمين أن يتَّهموا الإسلامَ بالنقص، أو يتهموه بتُهمٍ هو منها بريء، أو يتَّهموه بالعَيب، أو يتَّهموه بما هو منه براء، فكذلك المسلم إذا عمِل عملاً خاطئًا وعمل معصيةً وعمل بالمعاصي ولم يتقيَّد بإسلامه فإنَّ الكافر غيرَ المسلم يستدلُّ بعمل المسلمين على الإسلام، ولكنَّ الصحيحَ والحقّ هو العكس، أن يُستدَلَّ بالإسلام على الناس، ولا يستدلُّ بالناس على الإسلام، فإنَّ الإسلام آياتُه وأحاديثُ رسوله وتعاليمُه مشرِقة كالشمس، فإنَّ الاستدلالَ والحجَّة من الله تبارك وتعالى، إنَّ الإسلامَ يُستدَلُّ به على من كان متمسِّكًا به، ولا يستدلُّ بالمسلم إذا خالَفَ على الإسلام، ولكنَّ أعداءَ الإسلام لا يُستغرَب منهم أن يلصِقوا بالإسلام ما هو منه براء، فإنهم قد فعلوا ذلك منذ فَجر التاريخ.
عبادَ الله، إنّ هذه فتنةٌ لا يقضَى عليها إلاَّ بالتعاون، إنّ هذه الفتنة ندعو أصحابها أن يرجِعوا إلى الله، وأن يتوبوا إلى الله عزّ وجل، فإنّ بابَ التوبة مفتوح، ومَن رجع إلى الله وتاب وسلَّم نفسَه لولاةِ الأمر فقد فعل حسنًا، وإن عاقبتَه في تسليمه لنفسِه لولاةِ الأمر إنّ عاقبتَه إلى خير في الدنيا وفي الآخرة، وإنّنا ندعوه أن يتوبَ إلى الله وأن يرجعَ إليه، فإنّ باب التوبة مفتوح، وإنَّه يجبُ عليه أن يبلِّغ عمَّن كان يعرفِهم عمَّن هم وراءَه، فإنّ الفتنةَ بهذا فتنةٌ عامّة وفتنة ضارة، ضارَّة بالبلاد، وضارَّة بالعباد، وضارّة بالإسلام والمسلمين، وأن يرجعَ ويفكِّر في نفسه إلى الله عزَّ وجل، فإنّ الرجوعَ إلى الحقِّ خيرٌ في الدنيا والآخرة، وإنّ العاقبةَ لمن تاب إلى الله عزّ وجلّ خيرٌ له في الدنيا وفي الآخرة.
عبادَ الله، إنّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، فقال تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم أبدًا دائمًا على سيِّد البشر محمد ، اللهمَّ وارض عن الصحابة أجمعين...
[1] أخرجه أحمد (4/267)، وأبو داود في الصلاة، باب: الدعاء (1479)، والترمذي في تفسير القرآن (2969)، وابن ماجه في الدعاء، باب: فضل الدعاء (3828) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وجوّد إسناده ابن حجر في الفتح (1/49)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1312).
[2] أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات (3371) عن أنس رضي الله عنه، وقال: "حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة"، وضعفه الألباني في أحكام الجنائز (ص247) ثم قال: "لكن معناه صحيح بدليل حديث النعمان".
(1/3199)
إحداد المرأة بين الجاهلية والإسلام
الأسرة والمجتمع, فقه
الجنائز, قضايا الأسرة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
25/3/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عِظم العلاقة بين الزوجين. 2- عدة المطلقة. 3- الحكمة من العدّة. 4- عدّة المتوفى عنها زوجها. 5- وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها. 6- تعريف الإحداد وبيان أحكامه. 7- إحداد المرأة في الجاهلية. 8- ما يرخّص فيه للمحادّة. 9- أمور ليست من الإحداد الشرعي. 10- فضل الصبر عند مصيبة الوفاة. 11- نهي المرأة عن الإحداد فوق ثلاث لغير زوجها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، العلاقةُ بين الزوجين علاقةٌ من آكدِ العلاقات وأعظمِها رسوخًا، ولذا سمَّى الله عقدَ النكاح بأنه ميثاقٌ، ووصفَ هذا الميثاقَ بأنه غليظ: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21].
أيّها المسلم، ولمَّا كان بين الزوجين ما بينهما من صِلاَتٍ في هذه الدنيا وأُوجِب على كلٍّ التزامُ الواجب نحوَ الآخر، هذه الصِّلاتُ لم تختصَّ بالحياة خاصّة، وإنما لها علاقةٌ حتى بعد مفارقةِ الزوجين أحدهما للآخر بالطلاق أو بالموت، فشرعَ الله عدَّةَ الطلاقِ للمطلقة: ثلاثَة قروء ثلاث حيض، أو وضع الحمل إن كانت حاملاً، أو ثلاثة أشهر إن كانت صغيرةً أو آيِسة من الحيض، وشرع للمتوفَّى عنها زوجُها أن تعتدَّ عليه أربعة أشهر وعشرا إن لم تكن حاملاً، فإن كانت حاملاً فبوضع حملِها تبين من عدَّتها.
كلُّ هذا احترامًا لعقدِ النكاح وتعظيمًا لشأنه ومعرفةً لقدر الزوج واحترامًا لفراشه. كلُّ هذه الأمور التي أساسُها طاعةٌ لله وتنفيذٌ لأوامره، ولكنها في نفس الوقتِ لها حِكَم ومصالح، فمنها التأكُّد من براءةِ الرحم من الحمل، ومنها أيضًا احترام حقِّ الزوج وتعظيمُ هذا العقدِ ـ أعني عقدَ النكاح ـ وبيان ما له من الشأن والأهمية، وليكون فرقٌ بين النكاح والسّفاح وتمييز لهذا العقد عن غيره، وسبحانَ الحكيم فيما قضى وفيما شرع.
أيّها المسلم، والمتوفَّى عنها زوجُها تعتدُّ بعد موتِه أربعةَ أشهرٍ وعشرةَ أيام، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، هذا إن لم تكن حاملاً، فإن كانت حاملاً فإنَّ عدتَها بوضعِ الحمل سواء كان في أوّله أو في آخره، قال تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:6]، فالحاملُ عِدَّتُها وضعُ حملها كما دلَّ القرآن والسنة على ذلك، فإنّ إحدى الصحابيات لمّا توفّيَ عنها زوجُها لم تنشن [أن] وضعت حملها، فأخبرها النبيّ أن عدَّتَها قد انقضت بوضع حملها [1].
أيّها المسلم، أيّتها الأختُ المسلِمة، إنَّ الإحدادَ للزّوج أمرٌ زائد على العِدّة، فعدَّتها أربعةُ أشهر وعشرة أيام إن كانت غيرَ حامل، وبوضع حملِها إن كانت حاملاً، ولكن هناك شيءٌ آخَر وهو التزام المرأةِ المسلمةِ للإحدادِ على زوجِها زمنَ العدّة، أمرٌ آخر هو التزام المرأة التي تقضي عدَّةَ الوفاة بأمرٍ زائد عن العدَّة، ألا وهو التزام الإحداد مدَّةَ زمنِ العدّة.
والإحدادُ الذي تلزمه المرأةُ هو [كما] قال العلماء: تركُ ما يدعو إلى نكاحِها أو يرغِّب في خِطبتها أثناءَ العدة؛ لأنها تقضي عدّةً شرعية لا يحلُّ لأحدٍ أن يخطبها في تلك العدّة، ولهذا أُلزمت بالإحداد واجتناب أمور خاصَّة، هذه الأمورُ التي أمِرت المتوفَّى عنها زوجُها باجتنابها زمنَ العِدّة وسيلةٌ لمنع تقدُّم أيِّ خطيب لخطبتها أو يرغَب في ذلك بالتصريح بالخطبة.
وهذه الأمورُ الشرعيّة واجبٌ على المرأة المسلمةِ أن تلتزمَ بها مدّةَ قضائها لعدّة الوفاة، وهذه أمورٌ تتكوّن في أشياء:
أولاً: يجب عَليها البقاءُ في بيتِ زوجها، أي: يجب على المتوفَّى عنها زوجُها أن تقضيَ عِدَّتها في المنزل الذي كانت تسكنه وقتَ وفاةِ زوجها، هذه سنّةُ رسول الله. فُرَيعَة الصحابيّة رضي الله عنها أخبرَتنا أنّها توفِّيَ زوجها، وأتت النبيَّ تقول: إنَّ زوجي خرج في طَلَب أعبُدٍ له، وإنهم قتلوه، وإنَّ بيتي ناءٍ، ولم يخلِّف زوجي بيتًا ولا نفقة، أفأنتقِل عند أهلي؟ فرخَّص لها ثم لما أرادَت الانصرافَ دعاها وقال: ((امكُثي في بيت زوجك حتى يبلغَ الكتابُ أجلَه)) ، فأمرها بالبقاءِ في بيتِ زوجِها إلى أن تنتهيَ العدّةُ، وبلَّغت بذلك أميرَ المؤمنين عثمان بن عفّان، فعمِل به وألزم النساءَ به رضي الله عنه وأرضاه [2].
وثانيًا: أنّ النبيَّ حرَّم عليها أثناءَ العِدَّة أن تلبَس الجميلَ من الثياب، ليس دعوةً لأن تلبسَ كلَّ قذِر أو دنِس أو وسِخ، لكنّ المهمَّ أن لا تلبسَ ثيابًا يعدُّه النساءُ أنه من لبس التجمُّل والزينة، ولذا تقول أم عطيّة: إنّ النبيَّ قال: ((لا تلبس المحادّة ثوبًا فيه ورسٌ أو زعفران)) [3] ، فنهاها عن لبس الثواب الذي فيه ألوانٌ مختلفة، يعني: ثوب مهيَّأٌ للتجمل. لا يلزمُها الأسودُ ولا الأخضر ولا غيره، إنما تجتنِب ما كان معَدًّا ومهيَّأً للتجمُّل في أماكن التجمُّل.
ونهاها النبيُّ عن لبس الحليّ [4] ؛ لأنّ الحليَّ ضربٌ من الزينة، فنهاها عن لبس الحليّ.
ونهاها أيضًا عن الطّيب، فهي ممنوعةٌ من الطيب، سواءً كان بخورًا أو عُطورًا، ممنوعةٌ منه أثناءَ العدة إلا إذا اضطرّت إليه بعد طُهرها من حيضٍ أو كانت في مدَّة نفاسٍ انتهت، فإنَّ النبيَّ رخّص لهنّ في نبذة من قِسط أو أظفار [5] إذا انقضى زمنُ الحيض ونحوه [6] ، لكنَّها ما عدا ذلك فهي ممنوعةٌ من كلِّ الطيب عطورًا أو بخورًا أو نحو ذلك.
ونهاها النبيّ أيضًا عن الحِنَّاء والامتشاطِ بالطيب، وأذن لها أن تمتشطَ بالسِّدر [7] ، كلُّ ذلك دعوة لها إلى البعد عن أنواع الطيب لأنّه من وسائل الزينة وممّا يرغِّبُ في النكاح.
استأذَنت إحدى الصحابيات النبيَّ قائلةً له: إنّ ابنتي توفِّي عنها زوجُها وهي تشتكي عينها أفتكحلها؟ قال: ((لا، إنما ذلك أربعةَ أشهر وعشرًا)) [8] ، وقالت له امرأة من الصحابيات: إنها تضع صبرًا على عينها، قال: ((هذا يشبِّب بها، لتضعه في الليل وتنزعه في النهار)) [9].
وقالت زينب بنتُ أمّ سلمة: كانت المرأة في الجاهلية إذا توفِّيَ عنها زوجها تلبَس أقبحَ ثيابها، وتجلس في حُفْشٍ في دارها، ولا تقرب ماءً ولا طيبًا ولا تقلِّم أظافرَ ولا تزيل شعرًا حتى يَمضي عليها حولٌ كامل، ثم تُؤتى ببعرةٍ فترميها إيذانًا بانقضاءِ العدّة، ثم تؤتَى بدابة طيرٍ أو حمار فتزيل به أوساخها وتفرُك به بدنها، فقلَّما أوتيت بدابة إلاّ ماتت من نَتن ريحها. هكذا كانوا في الجاهلية، فجاء الإسلامُ وأزال تلك القاذورات وتلك الخرافات، وإنما ألزمها بالعدَّة، وألزمها بالإحداد في الأمور المعقولةِ التي لا يؤثِّر على المرأة، ولا يضرُّها التزامها، وإنما هي أمور يسيرة، إذا اقتنعت المؤمنةُ بذلك وعلمت أنَّ هذا شرع الله التزمت بهذه الآدابِ الشرعية وسارت عليها طاعةً لله وتنفيذًا لأمره.
أيتها المرأةُ المسلمة، لا شكَّ أنّكِ في الإحداد ممنوعةٌ من الخروج من المنزل إلاَّ إذا دعَت إلى ذلك حاجة أو نزلت ضرورة، فإنّ للحاجات حكمَها، فإذا دعتِ الحاجة المحادَّة أن تخرجَ إلى أمرٍ لا تجدُ أحدًا يقوم مقامها في قضائها كأن احتاجت إلى قضاءِ حاجةٍ لها من السوق أو احتاجت إلى مستشفى أو إلى أمرٍ يتعلَّق بها ذاتها فإنه جائز لها الخروجُ مع التزامِ آداب الإحداد، وكذلك تؤدِّي وظيفتَها أو تؤدِّي دراستَها أو امتحانها، لكن بشرط التزام آداب الإحداد، لكن لا تعود مريضًا، ولا تنتقل من مكانٍ إلى مكان من بابِ الفُسحة والتفرّج، وإنما تلزم بيتَها الذي توفِّي عنها زوجها [وهي فيه]، تلزَم ذلك قدرَ استطاعتها ما لم تقم ضرورةٌ تدعو إلى الانتقال.
أيتها المرأةُ المسلِمة، وإنّ المحادَّة لا بأسَ عليها أن تمشيَ في بيتها، سواءٌ في ساحةِ البيت أو في أعلاه أو في أدناه، كلُّ ذلك لا مانعَ منه. لا مانعَ عليها مِن أن تستعملَ وسائلَ التنظيف غيرَ الطيب، فوسائلُ التنظيف غير الطيب لا مانعَ عليها من استعمالها. لا مانعَ على المحادَّة أن تحدِّثَ من هاتفها أو كلَّمها إذا كانت تلك المحادثةُ ليست خِطبة، ولكنّها سلامٌ أو استفسار عن أمرٍ ما من الأمور. لا مانعَ أن يسلَّم عليها، أو يسلِّم عليها أقاربُها، يسلِّمون ويسألون عن صحَّتها، فذاك أمرٌ لا مانعَ منه، إنما المحرَّم الخِطبة والتصريحُ بها قبل انتهاء العدة.
المرأة المسلمة أثناءَ العدَّة ليست محجورةً على شيء، إنما هي أمورٌ خاصّة مُنِعت منها المسلمة، لكن أن تمشيَ في دارها تصعد إلى الدَّور الأعلى أو تنزل أو كان لها في محيطها أقاربُها تنتقل من بيتٍ إلى بيت داخلَ السور فهذا لا مانعَ منه، لكن شريطةَ أن تكونَ في الليل في المكان الخاصّ بها، فإنّ النساءَ المسلمات اللواتي فقدنَ أزواجهنَّ يومَ أحُد سألنَ النبيَّ أنهن يجتمعن ويتحدَّثن؛ لأنّ بيوتهن متقاربة، فأذِن لهن بالحديث، لكن أمرهنَّ في الليل أن تعودَ كلُّ امرأة إلى مكانها وتبيتَ في مسكنها الخاصِّ بها [10].
بعضُ النسوة ربّما يسألن: هل الصلاةُ يختلفُ وقتُ المحادّة عن وقت غيرها؟! بمعنى أنهم يقولون للمحادَّة: لا بدَّ أن تؤدِّيَ الصلاةَ بعد الأذان مباشرة؟ وكلُّ هذا لا صحّةَ له، وقتُ الصلاة موسَّع: وقتٌ في أوّله، ووقتٌ في وسَطِه وآخره، وكلُّ ذلك جائز، والمبادرةُ للصلاة في أوَّل الوقت مطلوبةٌ من المسلم والمسلمة في أيِّ وقتٍ كان.
البعضُ من النِّسوة قد يُقال لهنّ: إنَّ الاغتسالَ بالماء والاستحمامَ يكون كلَّ أسبوع فقط، وهذا أيضًا لا صحَّة له ولا معوَّل عليه.
البعض من النِّسوة يقال لهن وهنَّ في الإحداد: الْزَمْنَ غِطاءَ الوجه والرأس حتى داخلَ المنزل أثناءَ الإحداد وإن لم يكن هناك أجنبيّ، وهذا أمرٌ لا داعيَ له، فليست ملزمةً بأن تغطِّي وجهها في دارها، اللهمَّ إلا أن يدخلَ عليها قريبٌ أجنبيّ ليس من محارمها، أمّا أن تُلزمَ بتغطية الوجه في داخل المنزل فهذا أمرٌ لا صحَّةَ له.
ووسائلُ التنظيف من الصابون وأمثالها لا تمنَع منه المحادَّة؛ لأنّ الإسلام جاء بالنظافة ودعا إليها، إنما منعَها من أمرٍ زائد على التنظيف كما منعها من الطيب.
هذه أحكامُ المتوفَّى عنها زوجها، لتنتبِهَ المرأة المسلمة لذلك، وتنقادَ لشرع الله، وتسمع وتطيع، فإنَّ هذا مقتضى الإيمان، أسأل الله للجميع التوفيقَ والسّداد والعونَ على كلّ خير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] هذه الصحابية هي سبيعة بنت الحارث الأسلمية، وزوجها الذي توفِّي عنها هو سعد بن خولة من بني عامر بن لؤي، أخرج حديثها هذا البخاري في المغازي (3991)، ومسلم في الطلاق (1484).
[2] أخرجه أحمد (6/370، 420)، وأبو داود في الطلاق (2300)، والترمذي في الطلاق (1204)، والنسائي في الطلاق (2530، 2532)، وابن ماجه في الطلاق (2031) نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الذهلي كما في المستدرك (2/226)، وابن حبان (4292، 4293)، والحاكم (2832، 2833)، وابن القيم في الزاد (5/603)، وهو في صحيح سنن أبي داود (2016).
[3] أخرجه البخاري في الطلاق (5343)، ومسلم في الطلاق (938) بلفظ: ((ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب)).
[4] نهي المعتدة من وفاة عن الحلي أخرجه أحمد (6/302)، وأبو داود في الطلاق (2304)، وأبو يعلى (7012)، والطبراني في الأوسط (7732) عن أم سلمة رضي الله عنها، وصححه ابن الجارود (767)، وابن حبان (4306)، وجوده ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/232)، وهو في صحيح سنن أبي داود (2020).
[5] قال ابن حجر في الفتح: "نبذة بضمّ النّون وسكون الموحّدة بعدها معجمة أي: قطعة, وتطلق على الشّيء اليسير... قال النّوويّ : القسط والأظفار نوعان معروفان من البخور وليسا من مقصود الطّيب, رخّص فيه للمغتسلة من الحيض لإزالة الرّائحة الكريهة تتبع به أثر الدّم لا للتّطيّب. قلت: المقصود من التّطيّب بهما أن يخلطا في أجزاء أخر من غيرهما ثمّ تسحق فتصير طيبًا, والمقصود بهما هنا كما قال الشّيخ: أن تتبّع بهما أثر الدّم لإزالة الرّائحة لا للتّطيّب".
[6] أخرجه البخاري في الطلاق (5343)، ومسلم في الطلاق (938) عن أم عطية رضي الله عنها.
[7] أخرجه أبو داود في الطلاق (2305)، والنسائي في الطلاق (3537)، والبيهقي (7/440) عن أم سلمة رضي الله عنها، وحسنه ابن القيم في الزاد (5/624)، وابن حجر في بلوغ المرام (3/202ـ سبل السلام ـ)، وفي إسناده من لا يعرف، ولذا أورده الألباني في ضعيف سنن أبي داود (502).
[8] أخرجه البخاري في الطلاق (5336، 5338)، ومسلم في الطلاق (1488، 1489) عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها؟ وذكرت الحديث.
[9] هذه الصحابية هي أم سلمة رضي الله عنها، أخرج حديثها هذا أبو داود في الطلاق (2305)، والنسائي في الطلاق (3537)، والبيهقي (7/440)، وحسنه ابن القيم في الزاد (5/624)، وابن حجر في بلوغ المرام (3/202ـ سبل السلام ـ)، وفي إسناده من لا يعرف، ولذا أورده الألباني في ضعيف سنن أبي داود (502).
[10] ينظر من أخرجه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيتُها المرأة المسلمة، عندما تصابين بمُصابِ فَقدِ زوجِك فما عليك إلا الالتجاءُ إلى الله وتفويضُ الأمر إلى الله وسؤال الله العفو والعافية وأن يخلُفَ عليك ما مضى بخير.
توفِّي زوجُ أمّ سلمة فأرشدها النبيّ إلى أن تقولَ: ((إنَّا لله، وإنا إليه راجعون، اللهمّ أجِرني في مصيبتي، واخلُف لي خيرًا منها)) ، قالت: كنتُ أقولها، ولكن أقول: هل هناك أحدٌ يأتيني أفضلُ من أبي سلمة؟! هي أدَّت هذا الذكرَ الذي أرشدها إليه الرسول، ولكن تفكِّر في نفسها: هل يأتيها زوجٌ أفضلُ من ذلك الزوج الذي طالما عاشرته وقامت بينهما المحبّة والمودّة؟! قالت: ولكني قُلتُه اتباعًا لسنةِ رسول الله، فلمّا انقضت عدَّتي خطبها النبي إلى نفسِه، وقالت: ليس من أوليائي حاضِر، قال: ((ما مِن أوليائك أحدٌ حاضر أو غائب يكرَه أن أكونَ زوجًا لك)) ، قالت: إنَّ عندِي غَيرة، قال: ((أدعو اللهَ أن يرفعَها عنك)) ، قالت: لي صِبيةٌ صِغار، قال: ((هم أولادي وأنا وليُّهم)) ، قالت: فأخذتُ النبيَّ ، فعوَّضني الله خيرًا من أبي سلمة [1]. كلُّ ذلك نتيجة للرضا والتسليم وعدَم السّخط والرضا بما قسَم الله. فارضَي أيتها المسلمة، وتقبَّلي كلَّ المصائبِ بالصبر والتحمُّل والرضا عن الله والاسترجاع وسؤال الله أن يجبُر المصابَ أو يعوِّضَك خيرًا، هذه سنة رسول الله.
ونهى النبيّ المرأةَ عن الإحدادِ أكثرَ من ثلاثةِ أيام إلاَّ على الزوجِ أربعةَ أشهر وعشرًا، أما غيرُ زوجها من أبيها أو أخيها أو ولدها فإنَّها لو أرادَت أن تحادَّ وتجتنب الزينة فلا تزيدُ على ثلاثة أيام.
توفِّي أبو سفيان أبو أمِّ حبيبة زوج النبيِّ ، فلمّا مضى عليها ثلاثةُ أيام دعَت بصُفرةٍ يعني: زعفران أو غيره، فوضعت في يدَيها وقالت: ما لي بالطيبِ شأنٌ، ولكن سمعتُ رسول الله يقول: ((لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمنُ بالله واليوم الآخر أن تحادَّ على ميِّت فوقَ ثلاثٍ إلاَّ على زوج أربعةَ أشهر وعشرا)) [2].
هذه سنّةُ رسول الله، فاعمَلي بها أيتها المرأة المسلمة، والتزِمي بأحكام الله، ففيها السعادةُ لك في الدنيا والآخرة.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النّار.
وصَلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمَركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلَفائه الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (4/27) بنحوه، وأخرجه مسلم مختصرا في الجنائز، باب: ما يقال عند المصيبة (918) عن أم سلمة عن النبي ، قال ابن عبد البر في التمهيد (3/181): "هذا الحديث يتّصل من وجوه شتى، إلا أن بعضهم يجعله لأم سلمة عن النبي ، وبعضهم يجعله لأم سلمة عن أبي سلمة عن النبي... وهذا مما ليس يقدح في الحديث لأن رواية الصحابة بعضهم عن بعض ورفعهم ذلك إلى النبي سواء عند العلماء؛ لأن جميعهم مقبول الحديث مأمون على ما جاء به بثناء الله عليهم".
[2] أخرجه البخاري في الطلاق (5334، 5339، 5345)، ومسلم في الطلاق (1486).
(1/3200)
واجب نصرة المسلمين
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
25/3/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حق المسلم المستجير على إخوانه المسلمين. 2- فضيحة تعذيب الأسرى العراقيين علامة سقوط النظام الغربي الرأسمالي. 3- نداء للحكام المسلمين بنصرة المستغيثين الملهوفين. 4- التحذير من خذلان المسلمين. 5- الجرائم اليهودية الجديدة في فلسطين والأقصى خصوصًا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة: وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ [التوبة:6]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، يا أحباب الله، يفهم من هذه الآية الكريمة أنه إذا طلب أحد من المشركين النصرة والحماية من المسلمين فينبغي حمايته والدفاع عنه حتى يسمع كلام الله وحتى يصل إلى المكان الآمن له، فما بالكم ـ يا مسلمون ـ إذا كان المستجير مسلمًا، إذا كان الذي يطلب النصر والحماية مؤمنًا؟! أليست نصرته من باب أولى واجبة؟! أليس من الواجب أن نقدم للمستجير الحماية وأن ندافع عنه وأن نقف إلى جانبه وأن نحمي ظهره؟! وهل يجوز لنا شرعًا أن نطعنه من الخلف وأن نغدر به؟! ما ينطبق على الأفراد فإنه ينطبق على الدول والشعوب.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ماذا جرى ويجري في العراق أرض الرافدين؟! لقد شاهدتم وشاهد العالم أجمع ما تقوم به القوات البريطانية والأمريكية الغازية والمحتلة للعراق من هدم للمساجد وسفك للدماء وتعذيب للأسرى العراقيين في سجن أبو غريب، والمخفي أعظم.
إن الجنود المجرمين من البريطانيين والأمريكان قد قاموا بأعمال رخيصة هابطة، بتعرية الأسرى من الملابس، كنوع من الإذلال والتحقير، ولكن نقول: إن ما حلّ مع الأسرى العراقيين هو تعريتهم من الملابس، أما ما حصل للأنظمة الغربية الرأسمالية هو تعرية للأخلاق الهابطة وللأفكار العفنة، هو تعرية وإظهار لفشل النظام الرأسمالي، هو كشف للعيوب المخزية لأمريكا وبريطانيا، وهذه الأعمال تشير إلى سقوط النظام الرأسمالي قريبًا إلى الهاوية إن شاء الله.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، لا تنخدعوا بالنظام الرأسمالي الفاشل الهابط الكافر، إنهم يستبيحون الأعراض، فالعرض عندهم رخيص، لأنهم بدون قيم، إنهم أقدموا على اغتصاب الأسيرات العراقيات في السجون، وهل الاغتصاب سيؤدي إلى بقائهم في أرض الرافدين؟! إن الشعب العراقي الأبي بمختلف فئاته سيهب لمقاومة المحتلين، لاسترداد كرامته ولتحرير أرضه، إنها لبادرة طيبة أن قام الآلاف من الشيعة في العراق بأداء صلاة الجمعة الماضية في مسجد الأعظمية، وهو مسجد الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه، لأن الشعب العراقي كله مستهدف، ولأن بلاده مستهدفة أيضًا، فلا بد شرعًا من توحيد الصفوف والجهود، ليس فقط في أرض الرافدين، بل في العالم الإسلامي أجمع ضد المحتلين الغاصبين المجرمين.
وتحية احترام وتقدير للمقاومة العراقية الباسلة ضدّ هؤلاء المحتلين، فالمقاومة مشروعة، وليست إرهابًا وليست تشددًا، إنما الإرهاب يتمثل في المحتلين أنفسهم.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لم تستنكر الأنظمة في الدول العربية والإسلامية ما يجري بحق الأسرى العراقيين من التعرية والتعذيب؟!
والجواب واضح كوضوح الشمس في رابعة النهار: إن هذه الأنظمة تعامل المعتقلين السياسيين من مواطنيها بنفس الأساليب أو ما يشبهها، فكيف تستنكر؟! ولماذا؟!
إن المحققين في مخابرات الدول العربية والإسلامية يأخذون دورات في أساليب التعذيب والتفنّن في التعذيب في بريطانيا وأمريكا، فالأسلوب واحد، ومثل ذاك ما يحصل في السجون والمعتقلات الإسرائيلية بحق شعبنا الفلسطيني المرابط الأبيّ من تعذيب وتنكيل وقتل بدم بارد.
ثم نتساءل: أين ما تسمى بجمعيات حقوق الإنسان؟! إن هذه الجمعيات في الواقع تساند الدول الاستعمارية من منطلق عنصري وصليبي، إنها لا تحتج إلا إذا قتل أمريكي أو بريطاني، ولا تكترث بما يقتل في العالم الثالث.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ونتساءل: ما مدى وقع الاستغاثات والاستجارات والنداءات التي تصدر من فلسطين والعراق والشيشان على الحكام القادة في الدول العربية والإسلامية؟! أين هؤلاء الحكام من أحكام ديننا الإسلامي العظيم؟! أين هم من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان ينام آمنًا مطمئنًا على رعيته؟!
فقد ذكرت كتب السيرة والتاريخ أن سفير كسرى ملك الفرس جاء لمقابلة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المدينة المنورة، فسأل السفير عن عمر، فأخبروه أنه نائم تحت الشجرة، فتشكك هذا السفير فيما قالوا له، ولم يصدق ما قيل، واعتبر ذلك استخفافًا واستهزاء به، لأنه إنسان غريب، وشدّد في السؤال إلى أن وصل إلى عمر، فوجده متوسّدًا يده، ومفترشًا الأرض، وعليه بردته، فقال السفير الفارسي: "عدلت يا عمر، فأمنت، فنمت".
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، نعم إنه عمر، قدوة الحكام الصالحين العادلين، الذي عدل فأمِن فنام بين شعبه دون حراسة، لأنه يعمل لخدمة شعبه، وهذا ما أشار إليه الشاعر حافظ إبراهيم بقصيدة جياشة صادقة قال فيها:
وراع صاحب كسرى أن رأى عمرا بين الرعية غصنا وهو راعيها
وقال قولة حقّ أصبحت مثلا وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمت نوم قرير العين هانيها
إنه عمر القائل: (لو عثرت شاة في أرض العراق لخشيت أن يسأل الله عنها عمر)، أين حكامنا من هذه الأخلاق؟!
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن ديننا الإسلامي العظيم يطلب منا أن نكون أمة إسلامية واحدة، ذات رسالة عظيمة هي رسالة الإسلام، وأن نحافظ على أرواحنا ودمائنا، وإنه يتوجب على المسلمين جميعًا أن يجيروا وأن يحمي بعضهم بعضًا لقول رسولنا الأكرم : ((المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم)) ، كما حذرنا رسولنا الأكرم من التخاذل والتقصير عن نصرة المسلمين لبعضهم بعضًا، فيقول في الحديث القدسي عن الله عز وجل: ((وعزتي وجلالي، لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله، لأنتقمن ممن رأى مظلومًا فقدر أن ينصره ولم ينصره)) ، ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: ((ما من امرئ يخذل مسلمًا في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته)) ، وفي حديث نبوي ثالث: ((من أُذِلّ عند قوم فلم ينصروه وهم يقدرون على أن ينصروه أذلهم الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة)).
وهذه الأحاديث النبوية الشريفة ـ أيها المسلمون ـ أحاديث واضحة في التحذير من الخذلان والتحذير من عدم النصرة. وإنه لمن المؤلم والمخزي أن تلجأ الأنظمة في الدول العربية والإسلامية إلى هيئة الأمم لتطلب قوات دولية لحماية الشعوب في العراق والشيشان وفلسطين. والسؤال: لماذا لم تقم هذه الدول نفسها بحماية الشعوب العربية والإسلامية التي تتعرض للإبادة والاحتلال والاستعمار؟! فأين الاستجارة؟! وأين النصرة؟! وأين الحماية؟! وأين نخوة المعتصم؟!
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، إن ديننا الإسلامي العظيم هو دين العزة والكرامة والحضارة، وهو يدعو إلى الوحدة والتضامن والتآلف والتكاتف والتضامن، كما يدعو إلى نصرة المظلوم والدفاع عن الضعيف والمسكين والمظلوم، وإلى حمايتهم وعدم خذلانهم، وعدم التخلي عنهم، وعلى المسلمين جميعًا أن يقفوا صفًا واحدًا في وجه الظلم والعدوان والاحتلال والاستعمار، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]، فهل من متعظ؟! هل من مدكر؟! اللهم فاشهد، جاء في الحديث الشريف : ((لا تظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله ويبتليك)).
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، صلاة الله وسلامه عليه، صلاة وسلامًا دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد، على آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، ماذا جرى ويجري في رفح الباسلة وفي حي الزيتون في غزة البطلة؟ إنها حرب إبادة، يقوم بها الجيش الإسرائيلي المحتل ضد شعبنا المرابط الأبيّ، بالأسلحة الأمريكية المتطورة الفتاكة، وإنه ـ أي: الجيش الإسرائيلي ـ مصمّم على المضي في حرب الإبادة، ثم يزعمون أن ما يقوم به الجيش هو دفاع عن النفس، وأيّ دفاع عن النفس بقتل الأبرياء وهدم المنازل؟! وإذا أراد الجيش الإسرائيلي أن يهاجم لا أن يدافع فما الأسلحة التي يمكن أن يستعملها ضد الشعب الأعزل؟!
إن ما قام ويقوم به جيش الاحتلال هو حرق الأرض والإنسان، بهدف أن يستسلم هذا الشعب، وبهدف كسر إرادته، ليستمر الاحتلال في أرضنا المباركة على أشلاء الضحايا الأبرياء وعلى أشلاء البيوت المدمرة.
إن ما يقوم به جيش الاحتلال هو مناف لأبسط القيم الإنسانية والتعاليم السماوية، وإن شعبنا يرفض أن يستسلم، فلا بد من إنهاء الاحتلال الإسرائيلي ودحره عن أرضنا الوقفية المباركة المقدسة، وهذه مسؤولية الأمة الإسلامية كلها، شعوبًا وحكامًا.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، أما الجدار العازل فإننا نؤكد على الفتوى الشرعية والتي تنص بعدم شرعيته وبحرمة العمل فيه، مهما كانت الأسباب والمبررات، وإن هذا الجدار له مخاطره الكبيرة والكثيرة التي لا تخفى عليكم، فهو يمثل أشد أنواع العدوان على الأرض والإنسان، وهو يمزق الأراضي، ويشتت العباد. كما نرفض بقاء المستوطنات، وهي جميعها غير شرعية لأنها مقامة على الأراضي المغتصبة.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، أما المسجد الأقصى المبارك فإن الشرطة الإسرائيلية تحاول بين الفينة والأخرى إحكام القبضة على المسجد الأقصى، فهي تتدخّل في كل صغيرة وكبيرة، في الترميم وفي غيره، وتصوّر كل حركة يقوم بها العمال التابعون للأوقاف الإسلامية، وتستدعي أي عامل لا يستجيب لتعليماتها، ويحتجزون هوياتهم، كما يستدعون حراس المسجد الأقصى للتحقيق معهم بهدف إخافتهم، ليصبحوا أداة في أيديهم، كما منعت عددًا منهم من دخول الأقصى، بحجة أنهم خطر على الأمن، كما منعت عددًا من المواطنين بالإضافة إلى الحراس، فكأن الشرطة الإسرائيلية حريصة على الأقصى!!
هذا وقد أرسلت دائرة الأوقاف الإسلامية خطابًا إلى وزير الشرطة تستنكر فيه هذه الاستدعاءات غير المبررة، وقد أصبح الهدف واضحًا، إن الشرطة الإسرائيلية تريد وضع اليد على إدارة الأقصى، وهذا خطر لا نسلم به، ونؤكد بأن الأقصى للمسلمين وحدهم، ولا نقر ولا نعترف بأي حق لليهود فيه، ونحمل الشرطة الإسرائيلية المسؤولية عن التوتر الذي ينجم عن تصرفاتها وتدخلاتها في شؤون الأقصى، وبخاصة حينما تولى اليمين المتطرف الحكومة الإسرائيلية.
كما نؤكد بأن المسلمين هم أصحاب البيت، وهم الجديرون بحمايته وإدارته وترميمه وصيانته سابقًا ولاحقًا، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب سينقلبون.
ربنا عليك وتوكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(1/3201)
الصراع مع الروم
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
أشراط الساعة, القتال والجهاد
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
4/3/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بَدْء الجهاد ضدّ النصارى كان في غزوة مؤتة وسبب ذلك ونتيجة تلك الغزوة 2- استمرار الصراع بين المسلمين والروم النصارى إلى قيام الساعة، وأن الحرب بينهم دول إلى أن ينتصر المسلمون وتنتهي النصرانية قبل قيام الساعة. 3- مكانة الجزيرة العربية في هذا الصراع. 4- بعض الفوائد من الأحاديث التي جاءت بشأن قتال المسلمين مع النصارى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن صراع المسلمين مع الروم صراع قديم بدأ مع غزوة مؤتة، إن أول التقاء مع النصرانية كانت في مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة، وكان سببها هو مقتل مبعوث الرسول الصحابي الحارث بن عمرو الأزدي رضي الله عنه بكتاب إلى ملك الروم بالشام والذي تم قتله من قبل حليف الروم شرحبيل بن عمرو الغساني، الملك على أطراف الشام. لقد كان لقتل رسول رسول الله، أكبر الأثر في نفس رسول الله فما كان منه صلوات ربي وسلامه عليه إلا أن بَعَث بَعّث مؤتة بقيادة ثلاثة من كبار الصحابة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة كان عدد المسلمين ثلاثة آلاف رجل، فجمع النصارى جيشًا عدده مائة ألف رجل، وانضم إليهم من قبائل العرب لخم وجذام وغيرهم، التقى الفريقان في قرية من قرى البلقاء في الشام، وانتهت المعركة بانسحاب الجيش المسلم بدون هزيمة، وقذف الرعب في قلوب الروم النصارى والخوف من هذه القوة الجديدة التي ظهرت في جزيرة العرب، حتى أن بعض حلفاء الروم من العرب أفزعهم نبأ هذه الغزوة، فسارعوا إلى عقد الصلح مع الرسول ودفع الجزية، وقبل هذه الغزوة بعث الرسول بالرسائل إلى ملوك عصره يدعوهم للإسلام، فكان من جملة ما كتب رسالته إلى قيصر ملك الروم.
(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا تعبدوا إلا الله ولا تشركوا به شيئًا ولا يتخذ بعضكم بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون). إن هذا الكتاب الذي بعثه الرسول يمثل الإعلان الدائم والمستمر على أن الصراع بين الإسلام والنصرانية سيبقى، لأن الشرط الذي في هذا الكتاب هو قبول الإسلام والخروج من النصرانية بل والتخلي عن الزعامة، وهل سيقبل النصارى بهذا، وزعامة العالم اليوم بأيديهم.
أما نحن المسلمون، فواجب علينا تحقيق هذا الكتاب، والسعي لتنفيذه، وبذل كل غالٍ ورخيص في سبيل الوصول إليه.
أيها المسلمون: ينبغي أن نعلم بأن من سنن الله الثابتة في هذا الكون، هو ديمومة الصراع مع النصارى، وأنه سيستمر إلى نهاية العالم.وقد ورد ما يشير إلى بقاء هذا الصراع في كتاب رسول الله بطريق غير مباشر حيث قال: فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين. والأصرح منه قول الله تعالى: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظًا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون. إذًا صراع الإسلام والنصرانية سيستمر إلى قيام الساعة وهو فتنة، ابتلى الله بها المسلمون، وهذا قدرهم وما عليهم إلا الصبر والمواجهة.
وإليكم أيها الأحبة بعضًا من حديث رسول الله ومنها الإشارة إلى استمرار هذا الصراع، وأنه يأخذ منحى المداولة، فتارة تكون الغلبة لهم، وتارة تكون الغلبة عليهم، وأن هذا الصراع ينتهي بانتهاء الروم وانعدام النصرانية، وانتصار الحق في نهاية مسيرة الحياة الإنسانية والتي تعقبها نهاية العالم.وقبل استعراض بعض هذه الأحاديث ينبغي أن نعلم بأن كلام الرسول ما هو إلا إرشاد للأمة من جانبين:
الأول: تنمية وتقوية الإحساس بالخطر النصراني حتى لا يستكين المسلمون لهم.
الجانب الثاني: تثبيت الإيمان لدى المسلم، وألا يفقد الثقة بنفسه حتى في فترات زهو النصرانية وتصدرها الزعامة، وليعلم بأنها مرحلة، وتكون النهاية للإسلام وأهله، وللدين وأتباعه، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. إن هذه الأحاديث عباد الله، تمثل المصل الواقي، وتمثل الترياق الذي يحافظ على الأمة كيانها في فترات الضعف والذل والهوان كما هو في عصرنا الحاضر.
الحديث الأول: روى الحاكم في مستدركه بسنده عن كثير عن عبد الله عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله وهو يقول: ((لا تذهب الدنيا يا علي بن أبي طالب)) ، قال عليّ: لبيك يا رسول الله، قال: ((اعلم أنكم ستقاتلون بني الأصفر ويقاتلهم من بعدكم من المؤمنين، وتخرج إليهم روقة المؤمنين أهل الحجاز الذين يجاهدون في سبيل الله لا تأخذهم في الله لومة لائم حتى يفتح الله عز وجل عليهم قسطنطينية ورومية بالتسبيح والتكبير، فينهدم حصنها فيصيبون نيلا عظيما لم يصيبوا قبله قط حتى أنهم يقتسمون بالترس، ثم يصرخ صارخ يا أهل الإسلام قد خرج المسيح الدجال في بلادكم وذراريكم، فينفض الناس عن المال، فمنهم الآخذ ومنهم التارك، فالآخذ نادم، والتارك نادم يقولون: من هذا الصائح؟ فلا يعلمون من هو. فيقولون: ابعثوا طليعة إلى لد فإن يكن المسيح قد خرج فيأتوكم بعلمه، فيأتون فينظرون، فلا يرون شيئًا، ويرون الناس شاكين، فيقولون ما صرخ الصارخ إلا لنبأ فاعتزموا ثم أرشدوا فيعتزمون أن نخرج بأجمعنا إلى لد فإن يكن بها المسيح الدجال نقاتله حتى يحكم الله بيننا وبينه وهو خير الحاكمين، وإن يكن الأخرى فإنها بلادكم وعشائركم وعساكركم رجعتم إليها)). هذا الحديث يؤكد حقيقة أن الصراع مع الروم لن ينقطع بل إنه صراع دائم أساسه البعد الثقافي المرتكز على البعد الديني، ولهذا فإن ديمومة الصراع سوف تستمر حتى ينتهي الأمر بغزو معقل النصارى وفتح مدينة روما وما يسبقها من مدن باستعادة السيطرة عليها من قبل المسلمين. كما يؤكد هذا الحديث أن الدولة الإسلامية سوف تنبعث من الجزيرة العربية كما انبعثت في الماضي، وستعود لها السيطرة على الأرض كما حدث في الماضي، لهذا فإن صراع الروم مع المسلمين في هذا العصر يرتكز على تحطيم القيم والمبادئ والعمل على غزو جزيرة العرب فكريًا بعد أن سقط ما حولها من قلاع المسلمين.
الحديث الثاني: وهو يؤيد هذا الحديث رواه الحاكم بسنده عن سهل عن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق، فيخرج إليهم جلب من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم خلوا بيننا وبين الذين سُبُوا منا نقاتلهم. فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا، ويقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله عز وجل، ويصبح ثلث لا يفتنون أبدا، فيبلغون القسطنطينية فيفتحون، فبينما هم يقسمون غنائمهم وقد علقوا سلاحهم بالزيتون إذ صاح الشيطان إن المسيح قد خلفكم في أهليكم)). في هذا الحديث إشارة إلى أنه يسبق المعركة معارك يغنم فيها المسلمون غنائم من بينها أسرى وهؤلاء الأسرى يُسلمون ويكونون في صفوف المسلمين. لهذا يرغب الروم في قتال أبناء جنسهم، لكن المسلمين يمتنعون عن ذلك، ثم تنتهي المعركة بفتح القسطنطينية، وهذا الفتح ليس هو الفتح الأول الذي كان على يد محمد الفاتح.
الحديث الثالث: روى الحاكم بسنده عن يحيى بن أيوب عن أبي قبيل سمع عبد الله بن عمرو يقول لنا، كنا عند رسول الله فسُئل أي المدينتين تفتح أولاً، يعني القسطنطينية والرومية فقال: ((مدينة هرقل أولاً)) ، يعني القسطنطينية. يشير هذا الحديث إلى أنه سيكون هناك فتح لكلتا المدينتين فالأولى فتحت، وبقيت تحت سيطرة المسلمون فترة من الزمن ثم سُلبت، وهناك ما يشير إلى أنه سيعاد فتحها ثانية، وترجع في حوزة الدولة الإسلامية، وستُفتح روما أيضًا.
الحديث الرابع: حديث نافع بن عيينة عن الإمام أحمد عن جابر بن سمرة قال: كنت مع رسول الله في غزاة فأتاه قوم من قبل الغرب عليهم ثياب الصوف فواقفوه عند أكمة وهم قيام وهو قاعد، فأتيته فقمت بينهم وبينه، فحفظت منه أربع كلمات أعُدهن في يدي، قال: ((تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم تغزون فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله)) ، قال نافع: يا جابر، ألا ترى أن الدجال لا يخرج حتى تفتح الروم؟! وقد روى هذا الحديث الإمام مسلم بلفظ قريب من هذا، في هذا الحديث إشارة إلى تدرج الفتح، وقد تحقق فتح جزيرة العرب وفارس، فلم يبق من بلاد فارس جزء لم يكن تحت الولاية الإسلامية، أما الروم فلا زال الصراع معهم، ولا زال جزء من بلاد الروم لم يفتح، وخاصة معقل النصرانية الديني وهو روما، فالصراع معهم مستمر، فتارة يدال للمسلمين عليهم، وأخرى يدال للنصارى على المسلمين، ولازال مركز القيادة الروحية للنصارى لم يفتح. كما أن الحديث يشير إلى أن الصراع مع الروم وخضوعهم للدولة الإسلامية سوف لن يتحقق إلا قرب خروج الدجال، وقد يكون السر في ذلك والله أعلم هو أن البعد الروحي للنصارى مقترن بالدجال، لأن العقيدة النصرانية قائمة على الاعتقاد بعيسى وبعودته إلى الأرض. وعودته عليه السلام مقترنة بخروج الدجال، ولهذا فإن الصراع معهم مستمر، وإن هزيمتهم ستكون الحلقة الأخيرة التي تسبق الدجال. فنسأل الله جل وتعالى أن يعصمنا من الفتن
ما ظهر منها وما بطن كما نسأله جل وتعالى، أن يعز دينه ويعلي كلمته، وينصر أولياءه وأن يعجل بفرج هذه الأمة إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: الحديث الخامس في سلسلة الصراع مع الإسلام والنصرانية الذي سيكون بين مد وجزر ينتهي بالمعركة الفاصلة التي يحشد لها النصارى قرابة مليون شخص تنتهي بالهزيمة النهائية حيث لا يقف الجيش الإسلامي إلا بعد أن يفتح روما العاصمة الروحية للنصرانية، وعند هذا الفتح سوف تنتهي معركة الروم، فيتحقق ما أخبر عنه الرسول بأن يتم فتح الروم، ويتبع ذلك مباشرة المعارك مع الدجال الذي ينتهي الأمر بقتله، وعندئذٍ تضع الحرب أوزارها ويقرب العالم من نهايته، ويتحقق وعد الله بتبديل الأرض غير الأرض، ويعود الخلق جميعهم إلى موجدهم لتبدأ بعد ذلك الحياة السرمدية الأخروية.
روى الحاكم في المستدرك والإمام أحمد في مسنده واللفظ للحاكم عن ذي مخمر بسنده عن حسان بن عطية عن خالد بن معدان أنه سمع رسول الله يقول: ((تصالحون الروم صلحًا آمنًا حتى تغزون أنتم وهم عدوًا من ورائهم، فتسلمون وتفتحون وتنصرفون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول فيقول قائل من الروم: غلب الصليب ويقول قائل من المسلمين: بل الله غلب. فيتداولونها بينهم، فيثور المسلم إلى صليبهم وهو منهم غير بعيد، فيرميه، ويثور الروم إلى كاسر صليبهم فيقتلونه فيكرم الله عز وجل تلك العصابة من المسلمين بالشهادة، فيقول الروم لصاحب الروم كفيناك حد العرب، فيغدرون فيجتمعون للملحمة فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفًا)). وفي رواية أخرى للحاكم: ((ستصالحكم الروم صلحًا آمنًا ثم تغزون أنتم وهم عدوا فتنصرون وتسلمون وتفتحون، ثم تنصرفون بمرج، فيرفع لهم رجل من النصرانية الصليب فيغضب رجل من المسلمين، فيقوم إليهم فيدق الصليب فعند ذلك تغضب الروم فيجتمعون للملحمة)).
في هذا الحديث العظيم يتضح بعض الحقائق التي تبين مستقبل الصراع مع النصارى.
الأول: أن هذه الهيمنة من قبل النصارى اليوم على العالم ستزول. وأن هذه القوة المادية وهذه التقنية لن تستمر حتى نهاية العالم قال الله تعالى: حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهارًا فجعلناها حصيدًا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون. إذًا فهذه العقلية التي يعيشها الغرب اليوم أنهم قادرون على فعل كل شيء، وهذا التباهي بالقوة العقلية والمادية والعسكرية والتقنية، ستزول بقوة الواحد الأحد.
ثانيًا: يشير الحديث إلى خفض الهيمنة العالمية المعاصرة للنصارى، وفك ارتباط الحكومات العربية المعاصرة مع العدو الصليبي اليهودي، وابتعاد النفوذ الصليبي عن المنطقة مما يتيح للمسلمين تسلم زمام الأمور وتكوين دولة إسلامية تمثل قوة جديدة في العالم، يلتجئ إليها النصارى ويطلبون الصلح للحصول على مساندة لمحاربة عدوها الذي سينزل بها الدمار.
ثالثًا: إن هذا الصلح الذي سيتم مع النصارى آخر الزمان يتم بناء على رغبة من النصارى فهم الذين يطلبون الصلح بقصد الاستعانة بالمسلمين، وهذا يؤكد أنه سيكون للمسلمين دولة قوية، وهو مؤشر إلى أنه قبل الملحمة ستقوم للمسلمين دولة قوية، يخشاها النصارى ولمعرفتهم بقوة المسلمين يحشدون لهم ما يقارب مليون شخص – ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألف.
رابعًا: يفهم من هذا الحديث أن الفكر العلماني المعاصر التي تتبناه الدول النصرانية، سوف يحل محله الفكر الديني الصليبي، وأن الدول النصرانية ستعود إلى دينها، بعد أن قضت ردحًا من الزمن وهي غارقة في شهواتها وعلمنتها، وأن الدين سيكون هو المحرك لهذه الدول، وهذا يؤخذ من الحديث من قيام رجل منهم برفع الصليب بقصد إظهار القوة النصرانية، فيغضب المسلمون لذلك فيعمدون إلى الصليب فيكسرونه، مما يثير غضب النصارى فيقومون بقتل الجيش الذي كان معهم، وبهذا ينقضون الصلح مع الدولة الإسلامية.
خامسًا: أن هذا الحديث وما سبق وأمثاله من علم الغيب الذي أخبر به الرسول ونحن أمة تؤمن بالغيب. الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون.
فانطلاقًا من إيماننا بالغيب، وثقة بما أخبر به الرسول ، فنحن على موعد مع الروم، وسيتحقق كل ما أخبر به الرسول ، وسترفرف رايات المجاهدين فوق دول النصارى، وسيطأ المسلمون بأقدامهم عاصمة الفاتيكان الحالية – روما – وستلتحم هذه الأمة مع أعدائها ويكون الغلبة لها، وستقع المعركة الفاصلة مع الروم، وسيكسر الصليب فوق رؤوس أصحابها، وستكون معركة شديدة قوية، وسيكون قتلاها عدد كبير من الطرفين.
روى مسلم في صحيحه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق – ودابق قرية قرب حلب – فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذٍ، فإذا تصافّوا قالت الروم: خلو بيننا وبين الذين سبقوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدًا، ويقتل ثلث أفضل الشهداء عند الله ويفتح الثلث لا يفتنون أبدًا، فيفتحون قسطنطينية فيما بينهم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون وذلك باطل.فإذا جاءوا الشام خرج، فبينما هم يعودون للقتال يسوون الصفوف إذا أقيمت الصلاة، فينزل عيسى بن مريم ، فأمهم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته)).
فنسأل الله جل وتعالى أن لا يفتنا في ديننا، اللهم إن أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، واجمع بها شملنا ولم بها شعثنا ورد بها الفتن عنا.
(1/3202)
أسرانا والكرامة الجريحة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
25/3/1425
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سعي ابن تيمية في فكاك الأسرى. 2- أسرى المسلمين في العصر الحاضر. 3- عداوة الكفار للمسلمين. 4- سقوط الحضارة الغربية. 5- صور من تعذيب الأسرى المسلمين. 6- موقف التحالف من جرائم التعذيب. 7- سياسة المكيالين. 8- الحقد الصليبي. 9- الآثار السلبية والإيجابية لصور تعذيب الأسرى. 10- وجوب فك الأسرى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، مع أن ابن تيمية رحمه الله قد حقق مقولته الرائعة: "المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه"؛ حيث سُجن سبع مرات، وتعرّض لصنوف شتى من البلاء والمحن، وكان في السجن أسعدَ الناس قلبًا وأهنأهم عيشًا؛ مع ذلك كله فقد سعى سعيًا حثيثًا في فكّ أسرى المسلمين واستنقاذهم، فخرج في شهر رجب سنة 699هـ إلى مخيم بولاي أحد قادة التتار، واجتمع به في فكاك من كان معه من أسارى المسلمين، فاستنقذ كثيرًا منهم من أيديهم، وكتب رسالة مطولّة إلى ملك قبرص أحد ملوك النصارى في شأن أسرى المسلمين عند ذلك الملك، ضمَّنها الدعوةَ إلى دين الإسلام وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وأنكر عليه المعاملة السيئة لأولئك الأسرى، وتوعده بقوله: "ثم عند المسلمين من الرجال الفداوية الذين يغتالون الملوك على فُرُشها مَن قد بلغ الملكَ خبرُهم قديمًا وحديثًا، وفيهم الصالحون الذين لا يرد الله دعواتهم ولا يخيب طلباتهم، الذين يغضب الرب لغضبهم ويرضى لرضاهم"، "فما يؤمن الملك أن هؤلاء الأسرى المظلومين ببلدته ينتقم لهم رب العباد والبلاد كما ينتقم لغيرهم، وما يؤمنه أن تأخذ المسلمين حمية إسلامهم فينالون منها ما نالوا من غيرها؟!".
إخوة الإسلام، ومع تعدد أوجه التشابه بين أحوال المسلمين في القرن الثامن الهجري (عصر ابن تيمية) وبين أحوال المسلمين اليوم إلا أن الحالة اليوم تبدو بالغةَ التعقيد، ففي كل صقع أسرى للمسلمين، فهؤلاء أسرى المجاهدين بكوبا (جوانتانامو)، وأسرى المجاهدين الفلسطينيين في السجون اليهودية، وأسرى المجاهدين العراقيين في سجون التحالف الصليبي، وأسرى المجاهدين الكشميريين في السجون الهندوسية، وأسرى المجاهدين الشيشانيين في روسيا، وغيرهم من الأسرى المستضعفين؛ وهؤلاء نسيهم الناس في زحمة الأحداث وتوالي النكبات وتتابع المصائب والله المستعان. إلى أن جائت بلية البلايا في العراق يوم أن فضح الله الصليبين الذين لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، عندها التفتت الأعناق إلى العراق، لتشاهد وترى آيات القرآن التي يقرؤها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، يرونها عيانا بيانًا في تصرفات الحلف الصليبي، وفي صحفه ووسائل إعلامه، التفت الناس إلى العراق ليقرؤوا قول الله عز وجل: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:8]، وقوله: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاً وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ [التوبة:10].
قال ابنُ كثير: "يَقُول تَعَالَى مُحَرِّضًا لِلمُؤمِنِينَ عَلَى مُعَادَاتهم وَالتَّبَرُّؤِ مِنهُم وَمُبَيِّنًا أَنَّهُم لا يَستَحِقُّونَ أَن يَكُون لَهُم عَهد لِشِركِهِم بِاَللَّهِ تَعَالَى وَكُفرهم بِرَسُولِ اللَّه وَلأَنَّهُم لَو ظَهَرُوا عَلَى المُسلِمِينَ وَأُدِيلُوا عَلَيهِم لَم يُبقُوا وَلَم يَذَرُوا وَلا رَاقَبُوا فِيهِم إِلاً وَلا ذِمَّة"اهـ. وقال الشيخُ ابنُ سعدي: "أي: لا ذمة ولا قرابة، ولا يخافون الله فيكم، بل يسومونكم سوءَ العذابِ، فهذه حالكم معهم لو ظهروا عليكم"اهـ.
التفتنا إلى العراق لنقرأ قول الله عز وجل: قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:118، 119].
أيها المسلمون، إن ما شاهده الناس من أفعال الصليبين لهو مصداق ما أخبر اللهُ به عنهم، ومهما تصوّرنا من الحقد الأزرق الدفين في قلوبهم فلم يمرّ على مخيلتنا كما رأينا، ولكنَّ الأمر الأغرب الذي رأيناه هو هذه العقلية الصليبية التي تسير إلى الحضيض، وتتعثر في حفر الإباحية، وترصف في أغلال القحة القذرة، ثم تأتي إلى العالم الإسلامي بالقلم الأحمر مصحّحةً ومخطئة، تعلِّمُنا كيف نعبد الله، وكيف نفهم الإسلام، وكيف نتعامل مع المرأة، وكيف نضع المناهج لتعليم نشئنا.
إن أمة بهذا الانحطاط كيف تجرؤ على تسويق قيَمها وفرضها على العالم. إنّ الأمم إذا سقطت في ميادين الأخلاق كان سقوطها في أرض الواقع أسرع مما يظن الكثيرون.
يتعجب المسلم عندما يسمع أحد الجنود الأمريكيين الوحوش ممن عذبوا العراقيين المعتقلين يقول دفاعا عن نفسه: "إن العراقيين حيوانات، وما الضرر من تعذيب حيوان؟!". هذه التصرفات التي تدل على السقوط في ميادين الخلق تدلّنا على أن ما بعد ذلك إلا السقوط في عالم الواقع، فهذه الأمة الظالمة أيامها محدودة، والعد التنازلي في نهايتها قد بدأ فعلاً، وليس هذا إفراطًا في التفاؤل ولا مبالغة، بل هذه قناعة عند كثير من المفكرين الغربيين، والذين هم أعلم بطبيعة النظام الأمريكي المتآكل، وليس المهمّ متى ستختفي هذه الدولة؟ الآن أو بعد عقد أو بعد قرن من الزمان، ولكن المهم أن يعلم المسلم أن مدتها حسب سنن الله قد أوشكت: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].
إن قوة البطش التي تتمتع بها الدولة الأمريكية لا يجب أن تخدعنا، حينما تتأسس أيُ قوة على الظلم والقهر والوحشية فمآلها الزوال لا محالة.
يومًا بعد يوم يدرك المرء أن الكفر والجاهلية لا يمكن أن تكون شيئا آخر غير الجاهلية مهما كانت ملمّعة أو ذات هالات وهيلمانات، وهذه الدول الصليبية خلال سنة أو تزيد تجدها تسقط في فنجان الوحل، لتكون فرجة بتخبطها وانكشاف عوارها. من منا الآن يحترم هذا الجنس الهمَجي؟! من منا لا يحتقر هؤلاء دينيًا وثقافيًا وأخلاقيًا؟! من منا يستطيع أن ينظر إلى الواحد منهم دون أن يتقزز أويشمئز؟! هؤلاء الهمج لم تصقلهم القرون والمدنيات، ولم تقض الأضواء على الوحش الذي يعيش فيهم، قذرون في كل شيء، ومنبوذون من كل الأمم، لم يستطيعوا أن يجعلوا العالم يحبّهم، لم يستطيعوا أن يكونوا أذكياء ولا أقوياء ولا حكماء ولا عقلاء، سقطت كل أحلامهم، انكشفت حقيقة أخلاقهم، من يحترم اليوم هؤلاء؟! هل يمكن أن يحترم شخص من يتبوّل عليه باحتقار وعنجهية؟! هل يحترم المقتول قاتله؟! ما الذي جاؤوا به إلى المنطقة لتحترمهم؟! هل يستطيع أيُ مسلم أن يرى هؤلاء بعد اليوم يمثلون فعلاً حقوق الإنسان والحرية والثقافة والمدنية؟! إنهم يريدون تحويل العالم إلى غاب يسطو فيه القوي على الضعيف، لذلك ستفهم البشرية يوما بعد يوم أن رحمتها وأمنها في مبادئ الإسلام الخالدة، والتي نزلت لتطهير البشر من رجسهم، وليس لتنجيسهم بالبول عليهم، فأين هؤلاء منا أهل الإسلام؟! فليرفع المسلم رأسه، وليتعال على هذه الإهانات، فلقد انتهى كلُّ شيء، وانقشع الغبار، وزالت الغشاوة عن العقول والعيون، وعرفت كلّ نسمة في الشرق الأوسط أن هؤلاء عدوّ لها، هذا ما ظهر في أفعالهم، وما تخفي صدورهم من العداوة أعظم وأكبر، وإذا كنا نتكلم عن السقوط الأخلاقي فإنّ ما فعله السجّانون الصليبيون بأسراهم العراقيين ليس بدعًا في الأخلاق والسلوك الصليبية، وليس غريبًا من أُمةٍ سقطت أخلاقيًا يوم سوّقت للرذيلة، وقدّست الحرية البهيمية الشهوانية، وتكدّس العُراة على سواحلها في مشاهدهم البهيمية. إن أمريكا ستظلُّ عُنوانًا للرذيلة على مدى العُصور والدُهور، وسيُسجّل التاريخ بِمدادٍ أسود كيف قُدّر لأمريكا يومًا ما أن تعلو كدُخانٍ وضيعٍ، فما كان لها إلاّ أن ظلمت وسرقت ونهبت وعذّبت وأذلّت وانتهكت كُلّ قِيمِ أهلِ الأرض، فكان جديرًا بها هذا البعد عن التوفيق، وهذا الانحدار المتواصل إلى السقوط، والله أمهلهم، وهو يمهل ولا يهمل، فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق:17].
معاشر المسلمين، وهل تمر الأحداث هكذا دون عواقبها الوخيمة وردات فعلها العظيمة؟! إن عقول المسلمين تختزن المواقف والصور، وتلتقط المشاهد والذكريات، ويتشكل الموقف من هؤلاء السفلة في ضمير كل مسلم، فهل سيكون موقفًا إيجابيًا؟! وهل يغفر لهم المسلمون هذه الأفعال؟! وهل تغفر لهم الإنسانية هذا الانحطاط؟! إن هذه الجرائمَ لا تسقط بالتقادم، وإذا كانوا يشعرون بالخزي والعار من نشر صور الرجال العراقيين تحت التعذيب الشاذ فماذا لو نشرت صور العراقيات المعذّبات في سجون الاحتلال؟! ثلاثة آلاف سجينة، فماذا يتوقع من هؤلاء السفلةِ أن يفعلوا بهن؟! إن الحقيقة لا تكتمل إلا بالوقوف على مآسي إخواننا؛ ليرى العالمُ ويدرِكَ عدالةَ انتصار المسلمين لأنفسهم. إن كشف حقيقة هذه المآسي للناس ليَدعوا لهم في أقل الحالات واجبٌ شرعي وإنساني، فالتعذيب النفسي والجسدي من سفلة العالم فاقت كل الحدود. إنهم يستخدمون كل الوسائل, حديثها مثل قديمها؛ لإذلال شعبنا ومجاهدينا، والقصص العجيبة لا تحصى حول ذلك وتتداولها ألسنُ أهلنا في العراق. فمن بين الأسئلة التي تدور في خاطر بعض العراقيين: لماذا قصفُ سجن أبي غريب وسجن المطار ضمن أهداف المقاومة؟! والجواب يعرف عند الخارجين من هذه السجون وهم يقولون: إن القصف يشمل أحيانًا بعض العنابر النسائية وحتى الرجالية بطلب من الأسرى أنفسهم، والموجبات لذلك أكبر من أن يحتملها العقل لمن لا يعرف حقيقة ما يجري يوميًا في معسكرات الإبادة هذه، فمن بين ما يستخدم ضد أخواتنا حُقَن تتسبب في فقدان التوازن العصبيّ والجنسي مما يحوّلها إلى مادة للمتعة الشاذة والماجنة لجنود البربر الجدُد، يتبَعها عمليات اغتصاب منظمة لكسر نفوسهم ومعنوياتهم، فما كان منهن إلا إيصال رسائل استغاثة إلى الخارج والطلبِ من المقاومة بقصف عنابر النساء لتخليصهن من المأساة والإذلال الهمجي، والله المستعان.
إخوة الإسلام، لقد حاول المسؤولون في حِلف الضلال قدرَ جهدهم أن يجعلوا من تلك الجريمة حوادث فرديةً من بعض الجنود، وأنها لا تستدعي التضخيم والتهويل, ولكن الواقع في حقيقة الأمر يكذب تلك الادعاءات ويدحضها, حيث تدل تصريحات كثيرة بعضها لمن كان في مسرح الحدث أن المرتكبين لهذه الجرائم لم يكونوا بضعة جنود فقط, وإنما مجموعات تلقَّوا أوامر واضحة، وطُلب منهم إعداد المعتقلين للتحقيق.
ولا أدلّ على ذلك من الكم الهائل من الصور التي شاهدها أعضاء الكونجرس في غرفة سرية، فالجارديان البريطانية ذكرت بأن الصور بلغت 1800 صورة وشريط فيديو، بينما وكالة رويترز حددتها بـ1600 صورة، وهل يعقل أن هذا العدد الضخم من الصور تم التقاطه بطريقة عفويّة من أشخاص معدودين، أم إنها عملية توثيق منظمة لعمليات التعذيب والممارسات الشائنة للمعتقلين العراقيين. ثم ماذا تتضمن هذه الصور؟ لقد نصّ وزير الدفاع الأمريكي وجميع المشاهدين لها من أعضاء الكونجرس أنها أكثر بشاعة مما نشر، هل هناك أكثر بشاعة من الاغتصاب والتعذيب بالكهرباء وانتهاك الأعراض، بل والتبول على المعتقلين والتلذذ بتصويرهم عرايا كما ولدتهم أمهاتهم؟!
إن الأمر باعترافهم أخطر وأعظم مما نتصوّر، ثم يريدون أن يقوم المسلمون لهم إكبارًا وإجلالاً، يريدون مع تصرفاتهم هذه أن نحرِّم المقاومة ونرحِّب بالمحتل الذي يريد تحرير العراق من التعذيب والقهر والديكتاتورية، فإذا هو نفسه يمارس أبشع أنواع التعذيب والقهر والديكتاتورية، بل وأكثرَها نذالة وانحطاطًا. فمن يلوم المقاومين اليوم في العراق؟! خاصة بعد أن انتهكت كرامة الأهالي هناك. هل يحقّ لنا أن نطالبهم بقبول التعويضات المادية الرخيصة وهم يريدون الانتقام لدينهم وبلادهم وأعراضهم؟! لماذا نطالبهم بقبول أخس المكاييل؟! لماذا نطالبهم بالقبول بالهوان وأبخس الأثمان؟! لماذا لم تقبل الدولة المعتدية بالتعويضات في مشكلة الفلوجة؟! لماذا لم يهدأ الحقد الصليبي إلا بعد مقتل سبعمائة مدني عراقي مقابل أربعة من المرتزقة؟! يقول وزير الدفاع الأمريكي بالنص: "أبحث عن وسيلة لتقديم تعويضات مناسبة لهؤلاء المعتقلين الذين عانوا من معاملة بهذه الوحشية والقسوة من جانب بعض عناصر القوات المسلحة"، مضيفًا: "هذا ما ينبغي القيام به"!!
ويهمس بعض المراقبين: وهل قبلت أمريكا دفع تعويضات جراء ما تعرض له المرتزقة الأمريكيون في الفلوجة؟! وهل يقبل رسل الحرية الأمريكيون أن يسلموا زبانيتهم للعراقيين لمحاكمتهم كما أصرّوا أن يسلّم أهل الفلوجة العناصر المتهمة بالتمثيل بجثث المرتزقة الأمريكيين ؟!
بهذه الأحداث لا يمكن لأحد أن يتعاطف مع هؤلاء الأعداء أو يدافع عنهم.
بهذه الأحداث لا يمكن لأحد أن يطالبنا بقبول الآخر الأمريكي، لأن الآخر لم يقبلنا في الأصل وإنما عادانا وقهرنا وعذبنا ونهبنا، بل وتبول على رجالنا، فالذي يقبل بهذا فليرحّب بهم، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة وعصيان.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، لن يفهم أثرَ الإسلام في الإنسان والحياة إلا من يؤمن به، وما سوى ذلك لن يعدو الأمر بالنسبة له إلا غوامضَ لا كاشف لها، نقول هذا لأن النقاط السريعة التي سنذكرها متعلقة بقضية أسرى المسلمين في العراق تندرج في هذا الباب:
أولاً: يخطئ من يظنّ أن الصليبيين كانوا يهدفون إلى مجرّد تعذيب الأسرى جسديًا، فما تعرض له الأسرى رغم فداحته لا يذكر بجانب ما تعرض له العراقيون في سجون النظام السابق. ما فعله الصليبيون كان إهانة لأمةٍ ولدينٍ يشعرون نحوهما بالعداوة. والإهانة ليست مرادفًا للضرب أو التعذيب الجسدي فقط؛ بل هي تعذيب نفسي؛ لأن العذاب البدني لا يكون بالتعرية، وإجبار الرجال على الملابس النسائية، والتبول على وجوههم، وربط أعناقهم بطوق الحيوانات وجرهم بها كما يفعل بالكلاب، وإنما يأتي هنا عنصر الحقد وقصد الإهانة وكسرِ الشوكة والإرادة.
ثانيًا: الصليبيون يهينون الأسرى المسلمين بأمور مخالفة للشريعة الإسلامية، فهم يقومون بما يأنف منه المسلم ويعده دينه عملاً مخلاً بالشرف والكرامة، ففي طريقة تعذيبٍ كريهة بالنسبة للرجال العرب مرتبطةٍ بفكرة الرذيلة ظهر أحد الضحايا وقد لَفُّوا حول رأسه ملابس داخلية خاصة بالنساء، وإلا فإن ارتداء ملابس النساء في الثقافة الصليبية الشاذة ليس عملاً مشينًا، وكيف يستحي من مثل ذلك أناسٌ يتناكح رجال دينهم سويًا؟! والجندية النجسة التي كانت تسحب أحد المعتقلين من رباط في عنقه كانت حاملاً من أحد زملائها في السجن، وتبقى تهمة المسلمين دائمًا لدى حضارة الأنجاس إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الأعراف:82].
ثالثًا: من الأمور المهمة لاستيعاب الحدث أن نعلم أن الذين تعرضوا للإهانة لم يكونوا الأسرى فقط، فهؤلاء منهم أبطال، ومنهم عابرو سبيل، والذين أهينوا بالفعل هم كلُّ المسلمين، فهذه الصور ليست من قبيل الصور التي تثير في النفس الاشمئزاز من الممارسات الأمريكية وفقط, ولكنها رسالة أمريكية إلى الجمهور العربي بأنه ليس ببعيد عن يد الرجل الأبيض الذي لا يبالي بأي شيء في سبيل تحقيق طموحاته ورغباته أن يجعلكم كهؤلاء، فإذا أردتم السلامة من هذه الحال فعليكم برفع الراية البيضاء والطواف بالبيت الأبيض وتمجيد مفاهيم الرجل الأبيض، وإلا سيكون المصير هو المصير.
رابعًا: إن العالم يعيش اليوم حالة تغير سريعة، ولسنا خائفين على مستقبلنا كمسلمين، فنحن المكلفون بإنقاذ العالم من بربرية الحضارة الأمريكية، ومن السهل أن نستبشر خيرًا، ولكن المهم هو أن نعمل خيرًا، لا بد أن نعمل للمرحلة القادمة، لا بد أن ننهض من كبوتنا، ونقدر منزلتنا، ونعود إلى ريادتنا ورسالتنا للعالمين.
خامسًا: نقد سياسة الأعداء وثقافتهم مهم جدًا حسب كل المعايير، لأن في المسلمين سماعين لهم، فيجب علينا أن نبيّن ظلم الظالم ونظهره، وأن نبين عدالة قضية المظلوم وننصره.
سادسًا: هذه الصور، لا شكّ أنها ستمنح المقاومة العراقية بكل فصائلها واتجاهاتها شحنات من الغضبِ العارم ورغبةِ الانتقام والدعوةِ إليه، وليس هذا راجعًا إلى الخطاب الديني ولا غيرِه، وإنما هو راجعٌ إلى تصرفات حلف الضلال، والذي يستفز كلَّ امرئ يمتلك بقايا من الإنسانية، فكيف برجال اعتزوا بهذا الدين ورفعوا راية الجهاد في سبيل الله من أجل تطهير بلادهم من قوى الاحتلال؟!
سابعًا: كذلك هذه الصور وهذه التصرفات المتطرّفة من قبل الكفار مع المسلمين ستظهر على إثرها تصرفاتٌ أخرى متطرفةٌ من قبل بعض المسلمين المتحمّسين، ولا يعني مِن مناصرة قضايانا العادلة وتوضيحها تأييد ما يحصل من ردات فعل غير محسوبة تسبب فيها المعتدي قبل غيره؛ لأنه تطرّف أيضًا في العداوة للمسلمين، وكلُّ تطرف يأتيه ما يقابله بنفس القوة ولكن من الجهة الأخرى، وهذا ما فهمَتْه إحدى الصحف البريطانية عندما كتبت يوم السبت الماضي بالخطّ العريض الموضوع على صورة الجندي الذي يتبوّل على السجين العراقي، وربطت بينها وبين حادثة قتل البريطاني التي تمت في مدينة ينبع في هذه البلاد قائلةً بأننا بدأنا ندفع ثمن هذا التصرّف في الشرق الأوسط، وهذا صحيح، فمع أن التصرّف الذي حصل في ينبع لا يمكن أن يقرّ بأي حال من الأحوال، إلا أن هذه ردات فعلٍ المتسببُ فيها هو من أنشأ الفعل الأول.
ثامنًا وأخيرًا: لنتخيل قليلاً أن هذه الصور كانت لبعض اليهود، ترى كيف سيستغلها الصهاينة؟! لا شك أن ردة الفعل ستكون مغايرة تمامًا لردة فعل المسلمين، ستتداعى القوى الصهيونية العالمية لجعل هذا اليوم يوم تعذيب السامية العالمي، وتصاغ الروايات في ذلك، وسيطالبون العالم بتعويضات عن الأضرار المالية والمعنوية الناجمة عن عرض تلك الصور على العالم، إلى غير ذلك مما يعرفه كل الناس عن العقلية اليهودية.
والسؤال: هل الشرع يأمر بفكاك الأسير؟ وهل تستطيع الأمة أن تطالب بشيء من هذا وهي أكرم عند الله من اليهود؟ نحن نأمل في هذه الأمة المعطاء خيرًا كثيرًا، وأما الشرع فهو يأمر بفكاك الأسير في غير موضع، من ذلك أنّ الله تعالى أمر بالقتال لتخليص ضعفة المسلمين، وأسارى المسلمين لهم في الحكم تبع، قال تعالى: وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا [النساء:75], قال القرطبي: "وتخليص الأسارى واجب على جميع المسلمين، إما بالقتال وإما بالأموال, وذلك أوجب لكونها دون النفوس إذ هي أهون منها".
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((فكوا العاني ـ يعني الأسير ـ ، وأطعموا الجائع، وعودوا المريض)) رواه البخاري، وفي الصحيح أيضًا عن أبي حجيفة قال: قلت لعلي رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين, هل عنكم من الوحي شيء؟ قال: لا والذي فلق الحية وبرأ النسمة, إلا فهمًا يعطيه الله عز وجل رجلاً وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر.
وإنّ في السيرة العملية لعبرًا تؤثر عن النبي في فكّ الأسارى، ومن ذلك القيام بالفداء، فعن عمران بن حصين رضي الله عنه أنّ النبي فدى رجلاً برجلين، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام نصرة الأسرى بسهام الدعاء التي لا تخطئ أبدًا, كما في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي كان إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة يقول: ((اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة, اللهم أنج سلمة بن هشام, اللهم أنج الوليد بن الوليد, اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين, اللهم اشدد وطأتك على مضر, اللهم اجعلها سنين كسني يوسف)).
اللهم اشدد وطأتك على أحلاف الضلال، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف.
اللهم يا من رد يوسف على يعقوب وكشف الضرّ عن أيوب وأجاب دعاء زكريا وسمع نداء يونس بن متى، اللهم اردد علينا إخواننا المعتقلين في كل مكان.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3203)
مسؤولية الكلمة
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
2/4/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة الكلمة. 2- آداب صاحب القلم والكلمة. 3- إساءة بعض الكتّاب والمحللين في العصر الحاضر. 4- الإعلام الغربي. 5- الموقف الشرعي من أخبار الغرب وتحاليلهم. 6- ضرورة النقد الهادف. 7- أهمية الإصلاح وآدابه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعدُ: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسِي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتقُوا الله رحمكم الله، كلُّ مطالبِ الدنيا وإن طالَ المدَى تُسلَب، فلا يستعذَب غيرُ طَعمِ الإيمان، فما عذبٌ سِواه إلاَّ وهو مِنه أعذَب، وعليكم بالهدى والتقوى، فبالهدَى استقامَ السالكون على الطريق، وبالتُّقى خلَص الصالحون من سوءِ المنقلَب، من تدرَّع بدُروع التقوى وسلَك مسالكَ الهُدى جَدَّ في فعل المأمورات وتركِ المنهيّات، وتحبَّب لربِّه بفِعل المستحبّات، حينئذٍ يقرِّبه ربّه من جنابه ويسلُك به مسالكَ أحبابِه، إذا سأله أعطاه، وإذا دَعاه لبّاه، وإذا استنصَره نصرَه، وإنِ اعتذَر إليه عذره. هؤلاء هم الهداةُ المهتدون والصّالحون المتّقون، جعلنا الله وإياكم ممن إذا وُعِظ أصغى واستَمع وبالتذكير والموقظات انتفع، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
أيّها المسلمون، الصِّدقُ يهدِي إلى البرّ، والكذِب يهدِي إلى الفجور، والكلِمةُ مسؤوليّة، والكلامُ بناءٌ أو تدمِير، ومَن قلّ صدقُه كثُر خطؤه، وأهلُ الكلامِ وحملةُ الأقلام ورِجالُ الإعلام هم ممن يسنُّون سُننًا حسَنةً وسننًا سيّئة، هم شركاءُ في الأجرِ حين الإحسان، وحمَّالو أوزارٍ حين الإساءةِ إلى يوم القيامَة. ما قامَت المللُ والنحَل والمذاهب والأحزاب والفِرق والطوائفُ في الدين والدنيا إلاَّ على اللّسانِ والسنان، وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ [البينة:4]، وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة:213]. وإنَّ من المؤسفِ والعصرُ عصرُ إعلام والدولة لأهلِ الكلامِ والأقلام أنَّ كثيرًا من الكتَبَة والمحاورين يطلِقونَ الكلماتِ والمقالاتِ لا يُلقون لها بالاً، لا يراجِعون ولا يتراجَعون.
معاشرَ الإخوةِ، وهذهِ مناصحةٌ للنَّفس وخطابٌ لكلّ مسلِم، وبخاصّةٍ من يتوَسَّم فيهم الخير وحبُّ الناصحين وقَبول الحقّ إذا تبيَّن له ممن ابتُلوا ببلوَى الكلِمةِ كتابةً وإذاعة سماعًا ومشاهَدة، إنه والله ابتلاءٌ معتِقٌ أو موبق. وإنَّ من الخير لمن أراد الله به الخيرَ أن يكونَ رحبَ الصدر واثقَ النفس يستمِع إلى النُّصح بودٍّ وحبّ، ألا تحبّ أن يستعملَك الله في طاعتِه وأن تحسِنَ إلى عبادِه فتمتلكَ الشجاعةَ في معاتبة النفس والقدرة على ضبط القلم واللسان؟! فلا تقفُ ما ليسَ لك به عِلم، ولتجتنبِ الافتراءَ على الآخرين، حتى تظلَّ الفتنُ نائمةً والأمّة متلاحمة، ولو على المفضول من المسائل والمرجوحِ مِنَ الأحكامِ اقتداءً بالرّسول الأكرَم يومَ فتحِ مكة، حين ترك إعادةَ بناءِ الكعبةِ جمعًا للكلمة ودَرءًا للفِتنة وتكافِيًا للفُرقة، وحِين صوّبَ كلا الطائفتين المبعوثتَين لبني قريظة، كن طالبَ حقٍّ لا طالبَ انتصار، وكُن مبدِيَ نصحٍ لا باحثًا عن إدانة، كن فرِحًا ومحبًّا أن يجرِيَ الله الحقَّ على لسانِ صاحبك، لا تجِد حرجًا في سؤالِ أهلِ الذكر، ففوقَ كلِّ ذي علمٍ عليم، ومَن غايتُه الحقُّ فسبيلُه أن لا تأخذَه العزّةُ بالإثم، وإذا قيلَ له: اتّق الله أذعَن وسلَّم، يحاسِب نفسَه قبلَ أن يحاسَب، قد علِم أنّ الكيِّسَ من دان نفسَه وعمِل لما بعد الموت، وأبناءُ الفِطرَة رجّاعون إلى الحقّ، برَرَةٌ رحماءُ، يحملون همومَ أمَّتهم، يهدونها طريقَ الحقِّ، ويوردونها مواردَ النَّجاة.
أيّها الكاتِب والمتكلّم، يجبُ أن تحترمَ أخاك ومحدِّثَك وقارئَك وسامعَك، تحترمُ فيهم جميعًا ذكاءَهم وإدراكَهم للحقائقِ وتمييزَهم للباطل والملَق والنِّفاق والمداهنة، والمواقف تحدِّدها مصادرُ التلقِّي، وقبل ذلك وبعدَه الجدّ كلّ الجدِّ في الإخلاص ومحضِ النّصح وزكاءِ النفس وحبّ إخوانك.
يقال ذلك كلُّه ـ أيّها المسلمون ـ لِما يظهر في السّاحة من كتَبَة ومتحدِّثين لا ينتَمون للحوارِ المتعقِّل والطَّرح المتَّزن والمسلَك المعتدل والنقاش المنصف، بل تطغى في كتاباتهم وتحليلاتهم وحواراتهم تطغَى الانتهازيَّة، بل إنَّ في بعضِ طروحاتهم اقتياتًا على الأحداث وعَيشًا على الكوارثِ واستحلابًا للأزَمات، لا يناقشون المشكلةَ من جذورها، ولا يتعاملون مع الجهةِ المسؤولة عنها من أجلِ الإسهام في حلِّها، بل يتوجّهون بالاتهام إلى العُرفِ السائدِ وإلى أحوالِ المجتمَع وتاريخه، ومن المعلوم أنّ أعرافَ [أهلِ] الإسلام وأحوالهم في كثيرٍ منها راجعةٌ إلى دينهم ومحافظتِهم على تعاليمِه وتمسُّكهم بأحكامِه وآدابه، وإذا نزلت نازلةٌ أو حلَّت واقعة تنافسَ بعض الكتَّاب والمحلِّلين والإخباريِّين لا للإسهام في حلِّ الكارثة أو الخروجِ من الأزمة، بل لتفريقِ الأفكارِ وسَلبِ المجتمع أغلى ما يملك، إمّا في دينِه أو في عفَّتِه وحِشمته أو في تعليمِه وتربيّته، في تصفيةِ حساباتٍ فكريّة أو مواقفَ شخصيّة.
إنّك لتعجَبُ أن تكونَ لغةُ بعضِ هؤلاء أشدَّ تحاملاً على أهلِهم وأمّتهم ودينهم مِن غلاةِ الصهاينة وأشياعِهم، في لهجةٍ مقبوحَة ولفظ كَريه، بل قد يكون تربُّصهم بالدين وأهله أوغَلَ في التهمة وأكثرَ في الإلحاح. يتَّخذون مِن الأحداثِ والأزماتِ ميدانًا للمزايدات وحَربًا على المواقفِ والتضليل، لا تجرُؤ على المكاشفةِ في الحقّ، بل إنها تجعل القارئَ والمستمِع والمشاهدَ والمتابعَ رهينةً لمبالغاتها، سواءً في جانِب السَّلب مع المخالفين والأضداد، أو في جانب الإيجابِ مع الموافقين والأصحاب. لا همَّ لكثيرٍ منهم إلاّ الحديثُ عن الجوانبِ المظلمة من الحياةِ والبائسِ من الأحوال، يتحدَّثون بعواطفِهم أكثرَ مِن عقولهم، تضخيمٌ لآراءِ المعارضين الغاضبين، وتقليلٌ وتهميش لنداءات الإصلاحِ وخطاباتِ الاعتدالِ وطمأنةِ النفوس لتتروَّض على قبولِ الحق، تركيزُهم على التذكير بماضٍ أليم لم يسلَم منه فردٌ ولم تسلَم منه أمّة، أو نَكءٌ لجرحٍ قد بَرأ، أو إثارةٌ لحِقد قد اندَثر، أو تمجيد لرموزٍ على حِساب رموزٍ أخرى، أو إثارة لنعرات، أو تعميمٌ لحالاتٍ فرديّة أو قضايا معزولة، أو لتصفيةِ حساباتٍ فرديّة ونفسيّة ووضعها في قوالبَ وكأنها ظواهرُ اجتماعيّة أو مشكلاتٌ عامّة، في استعداءاتٍ فجّة واستفزازات لا معنى لها. ليسَ من المعيبِ أن يختلِفَ الكُتَّاب وأهلُ الرأيِ في آرائهم وحِواراتهم ومكاشفاتهم، ولكن المعيبَ المذمومَ أن تتحوَّلَ تلك الخلافاتُ والمناقشاتُ إلى اتهاماتٍ وسوءِ ظنٍّ وأذى وكراهية.
أيّها المسلمون، عبادَ الله، هذهِ بعضُ التوجّهات في بعضِ الكِتابات، وثمّةَ توجّهات أخرى، حينما ترَى في بعضِ الطروحات والتَّحليلات أنها لا تعدو أن تكونَ صَدًى للإعلام المعادِي في ترديدِ ما يقول أو في تفسير ما يريد، في ترويجٍ لحالات الذّعر والهلَع وتضخيمِ الأحداثِ والوقائع لما يتجاوَز حجمَها الحقيقيّ، والتنافس في السبقِ والنّشر على حسابِ توثيق معلومة والتثبُّت من صحّتها، وبخاصَّةٍ إذا كانت هذه الواقعة أو الحدَث يمسّ أهلنا وأبناءَنا وجمعياتِنا ومؤسَّساتنا ورجالاتِنا، بل وسياساتِنا ومناهجنا، فترى بعضَهم يتقبَّلون التقاريرَ الأجنبية على عِلاَّتها من غير فحصٍ ولا تثبّت ولا عرضٍ على الثوابت، ومن غيرِ تفحيصٍ ولا تمييز. ومنَ المعلوم لدى كلِّ متابعٍ بأنّ إعلامهم في أخباره ومعلوماتِه وتحقيقاته وتقريراته يخدم أهدافًا كثيرة، ويسير على سياساتٍ مرسومة، بل إنه ليتمّ بإيعازِ أجهزةٍ سريّة وعلَنيّة ولخدمات أهدافٍ عديدة، والغايةُ عندهم جميعًا تبرِّر الوسيلةَ، أمّا الصدقُ والتثبّت والموضوعيّة فيأتي في مراتبَ بعد ذلك، إن لم تكن خارجَ اهتمامِهم في بعضِ الأحيان والأخبار.
إنَّ من العقل والحِكمة والحصافةِ أن تؤخَذ كلُّ أخبارِهم وتقريراتهم بحذَر شديدٍ وفَحص أشدّ، يجب أن تعرَضَ قبل النَّشر والتعليق للتّمحيص والمقارنة والعَرضِ على الثوابتِ وعلى المصلحةِ للدّين والأمّة والبلاد، يجب أن تقارنَ بالوقائعِ والحقائقِ ومع ما يتوفَّر من معلوماتٍ ومصادرَ أخرى أقربَ إلى الحياديّة وتحرِّي الحقيقة والإنصاف والموضوعيّة وأبعدَ عن التلفيق والاختلاف، ينبغي أن لا ينشَرَ من هذه الأخبارِ والتقارير إلاّ ما يفيدُ القارئَ والمستمِع والمشاهِد وما يحفَظُ الدين والأمنَ والفكر وتحصين الرأيِ العام، والمصلحةُ العليا هي المعيار.
أيّها المسلمون، إنّ من المتعيِّن في كلّ قضيَّةٍ تطرَح أو مشكلة تناقَش أو نازلةٍ تحلّ أن توزَن بميزانِ الأدلة الشرعيّة وميزانِ المصلحةِ العليا ومراعاة المصالح والمفاسدِ، مع إخلاصِ النيةِ والتجرُّد، في أجواء من المحبّة والمودّة وتحرِّي الحقِّ وإحسان الظنِّ، من غير خضوعٍ لضغوطٍ خارجية أو أسرى لفكرٍ غير مسلِم أو سليم، والعِصمةُ ليست مدَّعاةً لأحَد، لا ممن نحبّ ولا ممن لا نحبّ، وليس أحدٌ من بني آدم مبرَّأً من الخطأ، فكلّ ابنِ آدم خطّاء، ولكنَّ المتعيِّن سلوكُ نهج الاعتدال والقصد في كلمةٍ سواء مع الابتعادِ عن التحريض والتحريش والدَّس، فليس النقدُ ولا الإصلاح بالهمز واللَّمز، والمصلِحون والنقّاد ليسوا بهمَزَة ولا لمزَة، والنقدُ البناءُ الهادف هو الذي يستهدف الإصلاحَ والتقويم، ويقوِّي عُرى المجتمع، ويثبِّت وحدتَه، ولا يوهن عُراه. يجبُ أن يسودَ الاحترام المتبادَل وبَذلُ كلِّ جُهد في غَرس الألفةِ والمودّة وإزالةِ كلِّ أسباب النُّفرة، إذ لا يمكِن تحقيقُ التعاون المنشودِ والتكاتف المأمول في أجواءِ فقدانِ الثقةِ.
وبعدُ: فعلى العقلاءِ من أهل الرأي والفِكر والعِلم والثقافةِ الاستفادةُ من كلّ مَناخٍ إيجابيّ، دونَ تسرُّع أو ارتجال أو تشتيتٍ للجهود والآراء في أمورٍ ثانويّة أو نظرية لا واقعَ لها أو مثاليّات لا تحقيقَ لها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:82، 83].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآنِ العظيم، وبهديِ محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، أعطى فأجزل، ومنَّ فأفضَل، أحمده سبحانه وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، هو الظاهر والباطنُ والآخر والأول، وأشهد أن سيّدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، صاحب الخلقِ الكريم والنعت الأكمل، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغرِّ الكُمَّل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهج الصَّدر الأوّل، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فينبغي التنبُّه حين الكتابةِ والنقدِ والتحليلِ والحديثِ عن الإصلاح والتطويرِ في مجتمعاتِ المسلمين [إلى] الحذرِ من تهميش الآخرين وإقصائهم، حتى ولو بدَت بعضُ الخلافاتِ مما يسوغُ فيه الخلاف ما دام أن الجميعَ مسلمون؛ إذ لا مساومةَ على هويّة الإصلاح في ديارِ الإسلام، فهويَّتُه الإسلام، فالإصلاح هو الإسلامُ، والإسلامُ هو الإصلاح، وهوية المسلم أنه مسلِم، وعزتُه أنه مسلِم، وكرامَته أنّه مسلم، فالفردُ مسلم، والوطَن مسلم، والمجتمَع مسلم، والأمّة مسلمة، وشعارُ كلِّ مسلم: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
الإصلاحُ ينبذ أيَّ اتِّصال خارجيّ منابِذ للإسلام، الإصلاحُ يأبى الترويجَ للشِّعارات الخارجية، الإصلاح عمليّةٌ حيّة نامية، لا تتوقَّف ولا تنتهي بزمنٍ، وليست محصورةً في عهدٍ أو آخر، وليس محتاجًا إليها في وقتٍ دون وقت، وإنّ في مجتمعاتِ المسلمين وفي كلِّ مجتمعات الدنيا مِن أوجه القصورِ والنَّقص ما لا يؤسَفُ عليه، ولكن من العقلِ والإنصافِ والحِكمة والاتِّزان أن يؤخَذَ في الاعتبار ما تحقَّقَ من إنجازات، فبالإصلاحُ والسعيُ فيه لا يُنسي ما يعيشه الناس من خيرٍ وفضل وإيجابياتٍ لا حصرَ لها، وأوَّلها وأولاها نعمةُ الإسلام ومِنّة الإيمان، بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، والزموا الحقَّ، واعملوا به، واسلكوا مسالكَ القصدِ والوسط، وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56].
ثم صلّوا وسلِّموا على نبيّ الرحمة والملحمَة النبيّ المصطفى والرسولِ المجتبى، فقد أمركم بذلك المولى جل وعلا فقال في محكم تنزيله وهو الصادق في قيله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد صاحبِ الوجهِ الأنوَر والجبين الأزهَر والخلُق الأكمل، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/3204)
الأمة بين إفساد الخوارج وإرهاب الخارج
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, فرق منتسبة
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
2/4/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حسد الأعداء لبلاد الإسلام. 2- عدوان الكفار على فلسطين وغيرها من بلاد الإسلام. 3- المستقبل للإسلام. 4- عاقبة الظلم والظالمين. 5- أهمية الجماعة والتحذير من الفرقة. 6- نابتة الخوارج. 7- الحث على التمسك بغرز العلماء. 8- توحيد الكلمة على كلمة التوحيد. 9- دعوة للتوبة والاستغفار. 10- سلاح الدعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، فإنَّ تقواه أقوى عدّةٍ عند البلاء، وأمضَى مكيدةٍ عند البأساءَ والضرَّاء، واعلموا أنّ الدهرَ مشحونٌ بطوارقِ الغِيَر، مشوبٌ صَفوُ أيامِه بالكدَر، ولا محيصَ عن القدر المقدور، ولا رادَّ للأمر المسطور، ولا مانعَ للكتاب المزبور.
أيها المسلمون، إنَّ بلادَ الإسلام بلادٌ محسودَة وبالأذى مقصودَة، لا تسلَم من تِرةِ مُعادٍ وحاقِد واشتطاطِ مناوٍ وحاسِد، والأمةُ تمرّ في هذا الزمانِ العصيب بأحرَج مواقِفها وأصعبِ ظروفها وأشدِّ خطوبها، تتلقَّى الطعَناتِ الغادرةَ والهجماتِ الماكرةَ من حاسديها ومُعاديها.
ولا تزال المجازر المفزعةُ والفظائع المفجِعة والجرائمُ المروِّعة تَصبُّ على إخواننا في فلسطينَ المباركة وفي العراقِ الجريح، تدميرٌ وحِصار، وقتلٌ للنساء والصِّغار، هُدِّمت المساجدُ على المصلِّين والبيوتُ على الآمنين، مجازرُ بربريّة ومذابحُ جماعيَّة وإبادةٌ وحشيّة وتشريدٌ واستئصال، صيحاتٌ ولوعات وآهاتٌ وصرخات، ظلمٌ صارخ وعدوان سافِر، تتفطَّر الأكباد عن وصفِه، وتذوب النفوس عن تصويره، يمارَسُ أمام نظَر العالَم وسمعِه ومؤسَّساتِه وهيئاته، أنظمةٌ صمّاء بكماءُ عمياء، ماذا جنى المقهورُ من ندائها؟! وماذا أدرك المظلومُ من رجائها؟! والمجرم يصولُ في ظلِّها ويُحمَى بأسِنّة حِرابها ويُبارَك بغيُه وعدوانه في ساحتها.
إنها أنظمةٌ وُضِعَت لتحميَ حقوقَ الإنسان، ولكن ليسَ كلّ إنسان، وتدافع عن سيادةِ البلدان، ولكن ليس كلّ البلدان.
هذا شعبُ فلسطينَ المجاهدُ عن حقِّه المدافِع عن أرضه تتواصَى قوى الظلمِ والطغيان على منعِه من السِّلاح، حتى لا يجدوا إلاّ الحجارة يدافع بها عن نفسِه، بينما يُمدُّ الشعبُ الشارونيّ الصهيونيّ بأفتكِ الأسلحة وأخطرِها وأعنَفها وأضرِّها، إنها إرادَة وقِحةٌ ليكونَ هناك شعبٌ قاتل وشعبٌ مقتول، ليس من حقوقِه حقُّ الحياةِ والبقاء.
إنّ تلك الممارساتِ لن تحقِّق للعالم سكونًا وسلامًا، ولن تجلبَ للعالم أمنًا وأمانًا، فالعُنفُ يتفجَّر والأمن يتلاشى، وطغاةُ البشَر وجبابرتُه اليوم يقاتلون تشفِّيًا وانتقامًا لإرواءِ غليل حِقدهم وإطفاءِ نارِ غضَبِهم، يُفنون آلافَ البشر، يسحقون القرى، ويمحُون المدُن، لا ضميرَ يؤنِّبهم، ولا قانونَ يردعُهم، ولا عقوبة تمنعهم.
أيها المسلمون، إنَّ الإسلامَ سيعود إلى قوّتِه ويفيء من غربتِه وغَيبته، والأيامُ دُوَل، وربّما صحَّتِ الأبدانُ بالعِلَل، وإنّ دماءَ القتلَى وأشلاءَ الجرحى وآهاتِ الثكلَى ستكون الطوفانَ الذي يُغرِق الطغيان، وشُعلةَ الجهاد الذي سيحطِّم الظلمَ والاستبدادَ والإذلال والاستعباد، وإنَّ دويَّ المدافع وضجيجَ القَصف وعنوانَ الحقد والعُنف سيوقظ أمَّةً طالما دبَّ الوهَن في أعماقِها وسرَى الخوفُ في عروقها؛ لتكونَ حممًا تحرِق البغاةَ الغاصبين، وإعصارًا فيه نارٌ يدمِّر الطغاةَ المعتدين، وستحوط بالباغي يدُ المهلَكة، يحفِزُه إلى مَصرعه جنونُه بقوّته، ويعجِّله إلى حتفِه غرّةُ تَيهه، ويدفعُه إلى مهلكِه خَمرةُ كِبره، وسيكون سمعةً رادعة ومثلةً وازعة وعِظةً مانعة لكلّ القوى الظاهرة الجائرة كما كانت للقوى الظالمة البائدة، وسيجرُّ الظالم أذيالَ الخيبة مُهانًا، ويندحِر بالهزيمة إلى داره مقهورًا مُدانًا، ولن يظلَّ الظالم قويًّا إلى الأبد، ولن يظلَّ المظلوم ضعيفا إلى الأبد، وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42]، وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ [الأنفال:59]، يقول رسول الهدى : ((لن يبرَحَ هذا الدينُ قائمًا، يقاتِل عليه عصابةٌ من المسلمين حتى تقومَ الساعة)) أخرجه مسلم [1].
وإنَّ الأمةَ ستبذل المهَجَ والدماءَ والأشلاءَ والشهداء للدِّفاع عن دينها وعقيدتها والذَّودِ عن أرضها وعِرضِها والذَّبِّ عن حُرُماتها ومقدَّساتها، مستحضرةً قولَ قائدِها وإمامِها نبيِّنا وسيّدنا محمّد : ((من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دونَ دمِه فهو شهيد، ومن قُتل دون دينِه فهو شهيد، ومن قُتِل دونَ أهلِه فهو شهيد)) [2] ، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
أيّها المسلمون، الجماعةُ منَعَة، والفرقةُ مَهيَعة، الجماعةُ لُبّ الصَّواب، والفرقةُ أسُّ الخراب، الفرقةُ بادرةُ العِثار وباعثةُ النِّفار، تحيلُ العَمار خرابًا، والأمنَ سرابًا، وهي العاقِرة والحالقة، ولم يمشِ ماشٍ شرٌّ من واشٍ، ورأسُ الأشرار كلُّ محرِّش شنَّار.
وإنَّ أعداءَ الملّة لا يألون جهدًا في محاولةِ تفريق الكلمةِ وتمزيق الصفّ، صدعًا للأُمّة، وقطعًا للعُروة، يغرون قريشًا بتميم وزيدًا بعمرو وبعضًا ببعض، ليُحكِموا السيطرةَ ويفرِضوا الهيمنة، ومتى تفرّقتِ الأهواء وتبايَنتِ الآراء وتناثرتِ القلوب واختلفتِ الألسن وقع الخطرُ بأكمَله وجثمَ العدوُّ بكلكلِه.
وإنّ هذه البلادَ المباركة هي موئلُ العقيدةِ ومأرِزُ الإيمان وجزيرةُ الإسلام ومحَطُّ أنظار المسلمين في جميع الأمصار والأقطار ومهوَى أفئدةِ الحجَّاجَ والعُمَّار والزُّوار، حِفظُ أمنها واجبٌ معظَّم، وحمايةُ أرضِها فرضٌ محتَّم، وستظلُّ بحولِ الله بلدًا آمنًا مطمئنًّا ساكنًا مستقرًا متلاحمًا متراحمًا، وإن رغمت أنوفٌ من أناس فقل: يا رب، لا ترغِم سِواها.
لقد خرجَت علينا عُصبةٌ غاوِية، خرجت علينا في هذا الوقتِ العصيبِ عُصبةٌ غاوية وحفنَة شاذّة وسُلالة ضالّة، في محاولةٍ يائسة وإرادة بائسةٍ لنشر الفوضى وشقِّ العصا وإثارة الدهماء والغوغاء، فأظهروا مكنونَ الشِّقاق، وشهَروا سيوفَ الفتنة، وجاهدوا بالمحادّة والمضادّة، بعقيدةٍ مدخولة وأفهامٍ كليلةٍ وأبصارٍ عليلة، توّهت بهم الآراءُ المُغوية في مهامِه مضِلّة وسُبُل مختلِفة، فكفّروا وروّعوا وأرعبوا وقتلوا وفجَّروا وخانوا وغدَروا، فلا عن المعاهَدين كَفّوا، ولا عن المسلمين عَفُّوا، رمَوا أنفسَهم في أتّون الانتحار بدعوَى الاستشهاد ودَرَكاتِ الخروج بدعوَى الجهاد.
هَمَجٌ رعَاع يتبعون كلَّ ناعِق ويسيرون خلفَ كلِّ ناهِق، يقابلون الحُجَج باللَّجج والقواعِدَ بالأغاليط والمحكمات بشُبهٍ ساقِطة، لا تزيدُهم إلاّ شكًّا وحيرةً واضطرابًا، قومٌ باغون، من جادل عنهم فقد جادل عن الباطل، ومن أعانهم فقد أعان على هدمِ الإسلام، فراشُ نار وحُدثاء أغرار وسفهاءُ أشرار، خالفوا ما درجَ عليه السلفُ وانتهجه بعدَهم صالحو الخلَف، وفارقوا ما نقلته الكافّةُ عن الكافّة والضّافَّة عن الضاّفَّة والجماعة عن الجماعة، يقول رسول الهدى : ((من فارق الجماعة شبرًا فمات مات ميتةً جاهلية)) أخرجه البخاري [3] ، وفي صحيح مسلم يقول رسول الهدى : ((من خرج مِن الطاعةِ وفارق الجماعةَ ثم مات مات ميتةً جاهلية، ومن خرج مِن أمّتي على أمتي يضرِب بَرَّها وفاجرها ولا يتحاشَى من مؤمِنها ولا يفي لذي عهدٍ عهدَه فليس منِّي)) [4].
أيها المسلمون، إنّ هذه الفتنةَ لن تعدوَ أن تكون سحائبَ صيفٍ عن قليلٍ تَقشَّع، وعروقَ باطلٍ لا تُمهَل أن تُقطَع، المتالِف لها راصِدة، والعزائم لها حاصِدة. وإنّ من الخير لكلِّ ذي لُبٍّ وعقلٍ أن لا يبرِمَ أمرًا ولا يُمضي عزمًا إلا بمشورةِ ذي دينٍ صالح ورأيٍ ناصح وعقلٍ راجح؛ لأنّ المشورةَ حِصنٌ من الندامةِ وأمانٌ من الملامة، ومن استبدَّ برأيه عمِيت عليه المراشِد وضلَّ في أوضار الغلوّ والتطرُّف والشذوذ.
والعلماء هم أسلمُ الناسِ فِكرًا وأمكنُهم نظرًا، لا يؤثِرون على الحقِّ أحدًا، ولا يجِدون من دونه ملتحدًا، وهم ضميرُ الأمّة وغيظُ عدوِّها وحُرَّاسُ عقيدتها والخير فيها، نظرُهُم عميق ورأيهم وثيق وفِكرُهم دقيق، به علامةُ التّسديد والتوفيق، علَّمتهم الوقائعُ والتجارب مكنونَ المآلات والعواقب، فخُذوا مِن علمهم، واصدُروا عن رأيهم، وإياكم وكلَّ قولٍ شاذّ وفكرٍ نادّ ورأيٍ ذي إفناد وانعزاليَّة وانفراد، وإنما يأكلُ الذئب من الغنم القاصِية.
أيّها المسلمون، إنه لا اتفاقَ لكلمةٍ ولا انتظامَ لشتات ولا سلامةَ من عاديات التفرّق إلا بتوحيدِ الكلمة على كلمةِ التوحيد واجتماعِ المشارِب على المنهج السَّديد والطريق الرشيدِ كتابِ الله وسنّة رسوله بفهم سَلفنا الكرام. وإنّ المسالكَ الشاذّةَ التي يسلُكها أهلُ الغُلوّ والتطرّف والتكفير والتفجير والمسالكَ المدحورة التي يسلُكها أهلُ العلمَنة ودعاةُ التغريب والتحلُّل والانفتاح وتحريرِ المرأة لا تعدو أن تكونَ جمرةَ الفتنة ونار الاصطِدام والكراهية وأذيال الشَّطَط والجنوح، وإنَّ المحافظةَ على الجماعةِ والوحدة مقتضيةٌ حَسمَ شذوذهما برادعٍ قويّ وزاجرٍ مليّ ورعاية وافية وامتثالٍ وثباتٍ على ما سار عليه رسول الله وصحابته الكرام، وذلك هو المخرَج من كلِّ بلاء والنجاةُ من كلِّ لأواء.
أيّها المسلمون، إنّ هذه القلاقلَ والبلابل إنما تُدفَع بالتوبة والاستغفار، وتُرفَع بالتضرُّع والافتقارِ والإقلاع عن الذنوب والأوزار، فالأمنُ بالدين يبقَى، والدين بالأمن يقوى، فاحتَموا من المعاصي مخافةَ البلاءِ كما تحتمون بالطيّبات مخافةَ الداء، فلم يُبتَل المسلمون اليومَ بنقمةٍ نازلةٍ ولا بنعمةٍ زائلة ولا شدّةٍ ولا كارثة إلا بسببِ فُشوِّ المعاصي وظهورِ المنكَرات وانتشارِ المحرّمات بلا نكيرٍ ولا تغيير، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، ولم تحدُث فتنةٌ وشرور إلا بسبب ما أُحدِث من عصيانٍ وفجور، فكُفُّوا عن المعاصي المهلِكة والذنوبِ والموبقة، وتوبوا توبةً صادِقة، تُدفَع عنكم النِّقَم، وتحْرَسْ عليكم النِّعمَ، ويَدُم عزُّكم بين الأمم، قال جل في عُلاه: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء:147].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من البينَات والحكمة، أقول ما تسمَعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1922) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (1/190)، وأبو داود في السنة (4772)، والترمذي في الديات (1421)، والنسائي في تحريم الدم (4095)، وابن ماجه مختصرا في الحدود (2580) عن سعيد بن زيد رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3194)، وهو في صحيح الترغيب (1411).
[3] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7054) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهم أيضا في صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1849).
[4] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1848) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانِه، والشكر له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانِه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيّها المسلمون، الدعاءُ غايةُ كلِّ مكلوم وسلاحُ كلِّ مظلوم وراحَة كلِّ مهموم، فاجأروا إلى الله بالشِّكايةِ في هدأةِ الأسحار، وألحّوا على الله بالدعاء في خشَعات المناجاة والافتقار، وارفَعوا أكفَّ الضّراعة لله الواحد القهّار، ادعُوا دعاءَ الغريق في الدُّجى، ادعُوا لإخوانكم المستضعفين والمشرَّدين وأنتم صادقون في الرجا.
(1/3205)
وقفات مع آية من كتاب الله
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
2/4/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإخلاص أصل الدين. 2- الأمر بالتوحيد والتحذير من الشرك. 3- الإحسان بالوالدين. 4- الإحسان إلى ذوي القربى. 5- الإحسان إلى اليتامى. 6- الإحسان إلى المساكين. 7- الإحسان إلى الجار والصاحب. 8- الإحسان إلى ملك اليمين. 9- عداوة اليهود وجرائمهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، أعمالُ المؤمنِ الطيِّبة وأقوالُه الحسنة كلُّها نتيجةٌ لما قام بقلبِه من عبادةٍ لله وإخلاصٍ له في الأقوال والأعمال، فإذا استقرَّ في القلبِ الإيمانُ الصحيح أدَّى ذلك الإيمانُ إلى ظهورِ أثره في تصرّفات العبدِ القوليّة والفعلية، فإنَّ كلَّ تصرفاته مبنيّة على توحيدِه لله، على كمال إيمانه بربوبيّة الله وألوهيّته وأسمائه وصفاته، فتأتي الأعمالُ نتيجةً لهذا الاعتقاد العظيم، فأعماله جزءٌ من إيمانه، لا فاصلَ [بين] الإيمان والأعمال.
وإذا أمر الله جلّ وعلا بعبادتِه ونهى عن الشِّرك به جاءت الأوامرُ والنواهي بعدَ ذلك؛ لأنَّ هذا المؤمنَ حقًّا هو السامع المطيع لله، ينفِّذ أوامرَ الله ويقبلها، ويبتعد عن مناهي الله ويجتنبها طاعةً لله. وغيرُ المؤمن أعمالُه مهما كثرَت لكنّها مبنيّة على عدم إخلاصٍ لله، ولا يبتغي بها وجهَ الله، ولا يريدُ بها التقرّبَ إلى الله، وإنما هي أعمالٌ يعملها لمصالح ماديّة يرجوها، ولهذا يومَ القيامة يقالُ لأعمالهم: كوني هباءً منثورًا، وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15، 16].
المؤمن مخالفٌ لذلك، عملُه يرجو به رحمةَ الله، يرجو به رضا الله، عملٌ صادِر عن إخلاصٍ وقصدِ المتابعة، فما قام بقلبه مِن كمالِ محبةٍ لله وتعظيمٍ لله وخوفٍ من الله ورجاءٍ لما عند الله هو الذي حرَّك هذه الجوارحَ حتى انبعثت بالأعمال الصالحة على اختلافها.
أيّها المسلم، اسمَعِ الله جل جلاله وهو يأمر عبادَه بهذه الأوامرِ وينهاهم عن بعضِ ما نهاهم عنه، قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [النساء:36].
أيّها المسلم، فأوّل هذه الأوامرِ أساسُ الملةِ والدين عبادةُ الله وإخلاصُ الدين له لكونِ العبادة حقًّا لله، هو المستحقّ لها لانفرادِه بخَلق العبادِ وقيامِه بأرزاقهم، وهو المتصرِّف فيهم، خلقهم ليعبدوه، وأمرهم بذلك، فهو المستحقّ أن يعبَدَ دون سواه؛ لأن غيرَه ليس مؤهَّلاً لذلك ولا أهلاً لذلك، وإنما العبادةُ بكلّ أنواعها حقّ لربنا جل وعلا.
فأمر بعبادته ونهى عن الشركِ به، إذ العبادةُ أصلُ الإسلام وأساسُها، والشرك أصل كلِّ ضلال وأساسُه. [فأمر] بتوحيده وإخلاصِ الدين له، ونهى العبدَ أن يقصدَ بعبادته غيره، و[أمره] أن يتوجَّه بقلبِه لربِّه محبّة وخوفًا ورجاء، وأن يتعلّقَ قلبُه بربِّه، وأن تكونَ كلّ الأعمال لله خالصةً، يبتغِي بها وجهَ الله والدارَ الآخرة، لا رياءَ ولا سمعة ولا محبّةً لمدح الناس، ولكنه يرجو بها ما عندَ الله من الثوابِ يومَ قدومه عليه.
سُئل فقال له السائل: أرأيتَ عبدَ الله بن جدعان وما كان ينفِق ويبذل في جاهليّته هل ينفعه ذلك؟ قال: ((لا، إنه لم يقل يومًا من الدهر: ربِّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين)) [1] ، فلمّا كانت الأعمالُ لم يقصَد بها وجهُ الله وإنما أمور دنيوية يريد بها إنسانٌ مكانةً أو جاهًا كانت تلك الأعمال لا اعتبارَ لها ولا ميزان لها، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].
فالمؤمنون أعمالهم لله، يقصدون بها وجهَ الله، فتنطلقُ الأعمال على هذا المنهاجِ الصحيح، أمّا أعمالُ غير المؤمن فإنها وقتيّة، متى فقِد السببُ منها عطِّلت، أمّا المؤمن فلا، عملُه إن استطاع بذَله، وإن عجز فما في قلبه من نيةِ الخير وإرادةِ الخير يجعل له الثوابَ بتوفيق من الله، ((إذا مرِض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمله صحيحًا مقيمًا)) [2] ، وفي الحديث الآخر: ((إنّ بالمدينة أقوامًا ما سِرتم مَسيرًا ولا قطَعتم واديًا إلا كانوا معَكم حبسهم العذر)) [3].
أيّها المسلم، فلمّا أمر الله بتوحيدِه ونهى عن الإشراك به أمَر العبادَ بأوامرَ فمنها: قال جل وعلا: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83]، فأمر العبادَ بالإحسان إلى الوالدين، والإحسانُ إليهما بِرّهما، النفقةُ عليهما، خِدمتهما، القيامُ بحقِّهما، طيب الكلامِ معهما، التأدّب معهما، أن لا يُرفَعَ الصوت عليهما، أن لا يزجرا ولا يتكلَّم عليهما بكلام سيّئ، وإنما الخطابُ خطاب طيّب يشفُّ عن محبّة ورحمةٍ وأداء واعترافٍ بالواجب، فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]. طاعةٌ للوالدين امتثالاً لأمرِ الله قبل كلِّ شيء، ثمّ أداءً للجميل وردًّا للمعروف وإحسانًا لمن أحسَن، وما أعظمَ إحسانَ الأبوَين عليك أيّها العبد، فما أحَدٌ بعدَ ربِّك أعظَم إحسانًا لك من والدَيك، فقابِل الإحسانَ بالإحسان، واحذَر أن تقَابلَ الإحسان بالإساءَة والتجاهلِ والإعرَاض والتكبُّر في نفسِك، وتنسَى تلك اللياليَ والأيامَ التي طالما بذلت الأمّ [فيها] جهدَها، وطالما سهرت لراحتك، وطالما أنفق الأب وسعى وكدَح لأجلِك، فاعرِف تلك الأمور لتكون من أهلِ الكرامة والمروءة.
ثم لما أمَر بالإحسان إلى الوالدين قال: وَبِذِي الْقُرْبَى [النساء:26]، فأمر العبادَ أيضًا بأن يحسِنوا لأقربائهم، بأن يصِلوا أرحامَهم صِلةً تقتضِي محبّةً وبَذلاً للندى وكفًّا للأذى واتِّصالاً ينفي القطيعةَ وحرصًا على جمع الكلمة، والله يقول: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1]، ويحذِّر من القطيعةِ فيقول: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23]، والرحِمُ معلّقة بالعرش تقول: يا ربِّ، أنت الرحمن وأنا الرحم، فيقول الله: ألا ترضَين أن أصِلَ من وصَلك وأقطعَ من قطعك؟ فتقول: نعم، فيقول: ذلك لك.
والرحِمُ يوصَل فقيرُه بالإحسانِ إليهم، ويخَصّ فقراؤهم بالزكاةِ والصدقات، وصدقتُك على المسكين صدقة، وعلى رحمك اثنتان: صدقةٌ وصلة. تنصَح جاهلهم، وتهدي ضالهم، وتحسِن إليهم، فقيرٌ تحسن إليه، وجاهل تعلِّمه، وضالّ وغاوٍ تسعَى في هدايته، فأنت باذِلٌ الخيرَ معهم. إن بلغَك عن أحدٍ منم حاجةٌ وصلتَه، وإن بلغك عن مرضٍ عدتَه، وإن بلغَك عن تصرّفاتٍ خاطِئة اتَّصلت به نصيحةً له وإنقاذًا له من الغوايةِ وأخذًا بيده لما فيهِ صلاحُ دينه ودنياه. فتلكَ الصِّلة المحمودةُ، لا تقتصِر على مالٍ تبذله ولا مجرّد زيارة ولقاء، ولكن مع هذا كلِّه صِلة تفرِض عليك تعليمَ جاهلٍ وهدايةَ ضالّ وتقويمَ معوَّج وسلوكَ الطريق والتحذيرَ من مسالك الشر والفساد وأهله، لأنّ لرحمِك عليك حقًّا أن لا تدعَ جاهلهم ولا من غوى منهم أن يلجَّ في طغيانه ويستمرَّ في غوايته ويكون على بُعدٍ، بل يجب أن تأخذَ بيده؛ لأنَّ حقَّه عليك عظيم، فإنّ ما يصيبه إنما هو ضررٌ عليه، وهذا الضرر قد يتعدّى إلى الغير، فحاوِل هذا الرحم أن لا تدعَه لشياطين الجنّ والإنس يحرفون فكرَه ويغيِّرون اتَّجاهه ويسلكون به الطرقَ الملتوية التي لا تعود عليه بالخير في حاضره ومستقبله.
ثم أرشدهم أيضًا لأمر آخر فقال: وَالْيَتَامَى [الحشر:7]، واليتامى أمرَ بالإحسان إليهم، واليتيمُ فاقدُ الأبِ مسؤوليتُه على المسلم، إن يكن قريبٌ فذاك هو المطلوب، وإلاَّ فمسؤوليّة على الأمّة جمعاء. هذا اليتيم فاقدُ الأب ضعيفُ القدرة قليل الحيلة، إنك تحسن إليه، فأوّلاً تمسَح دمعتَه، وتضمِّد جراحَه، وتصله وإن يكن فقيرًا، وتحسِن في ماله إن يكن غنيًّا، وترشده إلى الطريق، وتأخذ بيدِه لما فيه الخيرُ، وتحبّ له مثلَ ما تحبّ لأولادك، وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا [النساء:9]، ولتوفِّر ماله، ولتحذَر التعديَ عليه، إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]. وإهانةُ اليتيم لا تصدُر إلاَّ مِن قلبٍ قاسٍ مكذِّب ليوم الدين، أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ الآية [الماعون:1-3]. واليتيم والسعيُ في مصلحته وخيره خير عظيم، وفي الحديث يقول : ((أنا وكافلُ اليتيم في الجنة كهاتين)) وحلّق بين إصبعيه: السبّابة والوسطى [4].
أيها الإخوة، ثم إنَّ الله جلّ وعلا أمرَ بأمر آخر، أمر بالإحسانِ إلى المساكينِ، وهم المستحقّون وأهلُ الفاقة والحاجة، أمر بالإحسانِ إليهم، فإنهم إخوانُك، قصُرت الأمور في أيديهم، فهم إخوانُك في الإيمان، فأنت مسؤول إن كنت قادرًا أن تحسنَ إلى أولئك المساكين إحسانًا تبتغي به وجهَ الله، لا تريد منّةً عليهم، ولا تريد تفضُّلاً عليهم، ولا تريد ترفُّعًا عليهم، ولا تريد إذلالَهم لك، ولا تريد أن يمدحُوك أو يُثنُوا عليك، ولا تريد أن تكثِّر السوادَ بهم، ولكن تحسِن إليهم ابتغاءَ مرضاتِ الله، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:8، 9].
الساعي على الأراملِ والأيتامِ كالقائمِ الذي لا يفتُر وكالصائم الذي لا يفطِر، فالإحسانُ لعباد الله عملٌ ينجِّي الله به صاحبِه من المكاره، ويروَى: ((وعالجوا مرضاكم بالصَّدقة)) [5] ، فهي تدفع البلاء، وتحقِّق الخير، وتسعد الأمة إذا انتبَه أغنياؤها لفقرائها وفتَّشوا عن المحتاجين والمستحقِّين وأرباب الحاجَة الذين لا يَسألون الناس إلحافًا يحسَبهم الجاهلُ أغنياءَ من التعفُّف التعفف. والإحسانُ إليهم نجاةٌ من أهوال يوم القيامة، فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:11-16].
ثمّ قال: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى [النساء:36]، أمر بالإحسانِ إلى الجار، سواء الجار القريب منك، أو الجار البعيد منك، أو الجارُ الذي لك به قرابة، والجارُ القريب من ليس له قرابة، كلُّ الجيران لهم حقٌّ عليك حتى ولو كان على غير دينك. فالجوار في الإسلام محترم، وفي الحديث: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)) [6] ، وفيه: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره)) [7] ، وما زالَ جبريلُ يوصِي النبيَّ بالجار حتى ظنَّ أنه سيورِّثه [8] ، ولا إيمانَ لمن لم يأمَن جارُه بوائقَه: غدراتِه وخيانته. والجارُ تحسن إليه لفقره، وتحسن إليه بتعليمه ونصيحته وتوجيهه، إن كان عندَه جهلٌ أو انحراف فكريّ أو غيره أو سلوكيّ فإنك تحسِن إليه نصيحةً تهديها إليه، تكفُّ الأذى عنه، تحسِن إليه، إن استنصرك بالحقّ نصرتَه، وإن استعان بك في معروفٍ أعنته، وإن استقرضَك أقرضته، وإن غاب حفِظته في أهله، فأنت ترعاه كما ترعى أهلَ بيتك، سواء كان قريبًا فله حقُّ الجوار والقرابة، أو جار غير قريبٍ فله حقُّ الإسلام والجوار، أو جار ولو غير مسلم له حقُّ الجوار، هكذا دلَّ الكتاب والسنة.
وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ ، صاحبُك في السفر أو الزوجةُ، كلُّ من صحبك بخير فله عليكَ حقُّ الإحسان.
وَابْنِ السَّبِيلِ الذي انقطَع به الأمرُ عن بلده، فيحسَن إليه، ولذا جعَل الله ابنَ السبيل أحدَ أصناف المستحقِّين للزكاة.
وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ، أمر الله بالإحسانِ لملك اليمين، أن تطعمَهم إذا طعمتَ، وتكسوَهم إذا اكتسيت، ولا تحمِّلهم ما لا يطيقون، وفي ضِمن ذلك الأجراءُ وأرباب العمل لهم عليك حقٌّ أن تحسنَ إليهم، وتوفي العقود التي معهم، وتؤدّي لهم الحقَّ الواجب، ولا تبخَسهم حقَّهم، ولا تماطِل في حقوقهم، فالواجب أداءُ الحقوق، ((أدّوا الأجيَر أجرَه قبل أن يجفَّ عرقه)) [9].
وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ، لا يحبّ كلَّ مختال فخورٍ بعمَله مراءٍ به، المؤمنُ يفعل الأعمالَ لله، لا يفخر بها، ولا يعدِّدها، ولكن يعلم أنَّ اللهَ مضطّلع عليها، فهو يخفيها لله، إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ [البقرة:271].
هكذا المؤمنُ الموحِّد لله، وهذه أعمالُه العظيمة وأخلاقه الكريمة، نسأل الله أن يرزقَنا وإياكم العملَ الصالح الخالص لله، إنّه على كل شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (214) عن عائشة رضي الله عنها وهي كانت السائلة.
[2] أخرجه البخاري في الجهاد (2996) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في المغازي (4423) من حديث أنس رضي الله عنه، ومسلم في الإمارة (1911) من حديث جابر رضي الله عنهما، ولفظ مسلم: ((حبسهم المرض)).
[4] أخرجه البخاري في الأدب (6005) عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
[5] أخرجه أبو داود (105) في المراسيل، ومن طريقه ابن الجوزي في العلل المتناهية (816) عن الحسن البصري عن النبي. وأخرجه الطبراني في الكبير (10/128) والأوسط (1963)، وأبو نعيم في الحلية (2/104، 4/237)، والقضاعي في مسند الشهاب (691)، والبيهقي في الكبرى (3/382)، والخطيب في تاريخه (6/333) عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال البيهقي: "إنما يعرف هذا المتن عن الحسن البصري عن النبي مرسلا"، وقال المنذري في الترغيب (1/301): "المرسل أشبه"، وقال الهيثمي في المجمع (3/64): "فيه موسى بن عمير الكوفي وهو متروك". وروي عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وأبو أمامة وسمرة بن جندب وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم، ولا يخلو إسناد كلٍّ منها من مقال، قال الألباني في صحيح الترغيب (1/458): "هي على اختلافها قد اتفقت على جملة المداواة هذه، ولذلك حسنتها، والله أعلم". وانظر: علل ابن أبي حاتم (1/220-221) والشعب للبيهقي (3/382-383).
[6] أخرجه البخاري في الأدب (6019) عن أبي شريح رضي الله عنه، ومسلم في الإيمان (47) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في الأدب (6018، 6136)، ومسلم في الإيمان (47) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] قال : ((ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه)) ، أخرجه البخاري في الأدب (6014، 6015)، ومسلم في البر (2624، 2625) عن عائشة وعن ابن عمر رضي الله عنهم.
[9] أخرجه ابن ماجه في الأحكام (2443) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بسند ضعيف جدًّا، فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأخرجه الطبراني في الصغير (ص9) من حديث جابر رضي الله عنهما، وسنده أيضًا ضعيف، فيه محمد بن زياد الكلبي وشيخه شرقي بن القطامي ضعيفان، ولكن صحّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الطحاوي في شرح المشكل (3014)، والبيهقي في السنن (6/121)، انظر: الإرواء (1498).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122]، أجل لا أحدَ أصدق من الله، فقوله الحقّ الذي لا إشكالَ فيه.
إخواني، يقول الله في كتابه العزيز مخبِرًا عبادَه المؤمنين بحال أعدائهم معهم: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82].
أخبرنا تعالى عن عداوةِ اليهود، وأنها عداوةٌ كامنة في نفوسهم إلى كلِّ المؤمنين قديمًا وحديثًا، فهم بَعد انحرافهم وقتلهم أنبياءَ الله وسعيهم في الأرض فسادًا واستمرارِهم على هذا الطغيانِ وتمادِيهم في هذا الظلم والعدوان يدلّ ذلك على أنَّ آيات القرآن آياتُ حقّ تكلَّم بها ربّ العالمين العالمُ بما كان ويكون. فهذه الفرقة الضالةُ هم أشدُّ الناس عداوةً لأهل الإيمان، وأعظمُهم حقدًا وكراهية للمؤمنين مِن كلّ طوائف الضلال، لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82].
إنَّ جرائمَهم وأفعالهم الشنيعةَ التي تحمِلها طياتُ الأخبار، وتنشُر أقوالهم وأفعالهم، وتنشُر صوَرًا حيَّة عن جرائمهم الشنيعة وأفعالهم الدنيئة، في زمنٍ غاب [فيه] ما يسمَّى بحقوقِ الإنسان، واندرس ما يسمَّى بالمواثيق الدولية في الحرب والمسلم، وأصبحت تلك المواثيقُ درجَ الرياح، لا اعتبارَ لها ولا ميزان، هذه الفرقةُ تتصرَّف من حيث قوّتُها ومن حيثُ تعامُلُ الأعداءِ من شرق الأرض وغربها معها ومن حيثُ تمكينها وتأييدُها وإمدادها بكل ممكن، حتى جرت تلك الجرائمُ النكراء وذلك الظلم والعدوان في أمّة عُزّل لا سلاحَ ولا مال معهم، إنما الظلم الذي أحاط بهم من كلِّ جانب ولله الأمر من قبل ومن بعد، فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]. إنه ظلم بلغ أشدَّه، وعدوانٌ ما عرِف مثله، وتكاتُف الأعداء ضدّ أمة الإسلام، ولكن على الجميع الصبرُ والاحتساب والالتجاء إلى الله، فعسى فرجٌ من الله يأتي به، والله على كلّ شيء قدير، إنما المهمّ الاستقامة والالتجاء إلى الله والثقة بالله أعظم من ثقةِ العبد بنفسه واجتماعُ الكلمة ووَحدة الصفّ وتآلف القلوب والصبر والاحتساب، والله جل وعلا يقول: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5، 6].
هذا الظلم والعدوانُ الذي يجري وما أحدٌ ينكِر وما أحدٌ يقول، لكنها في الحقيقةِ مصيبة، وبذنوب المسلمين حصَل ما حصل، نسأل الله لهم التأييدَ والنصر، وأن يمدَّهم بعونه وتوفيقه، وأن يكبِت عدوَّهم، وأن يرزقَهم الثبات والرجوع إلى الحق والاعتصام بحبل الله، فذاك ـ والله ـ أعظم سببٍ للنصر والتأييد من ربِّ العالمين، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]، فإن التجأ العباد إلى الله وتابوا إلى الله ورجعوا إلى الله ووثقوا بالله وبذلوا الأسبابَ مع كمال الثقة بالله والالتجاء إليه فإنَّ الله جلّ وعلا بيده موازين القوى، إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسن الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعَة المسلمين، فإنَّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
(1/3206)
الأمة بين النكوص والنهوض (1)
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
علي بن عمر بادحدح
جدة
سعيد بن جبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خصائص المبادئ الإسلامية ومميزاتها. 2- المبادئ لا يظهر أثرها إلا إذا طُبقت على أرض الواقع. 3- في سيرة رسولنا يظهر التطبيق الأمثل للمبادئ. 4- أثر القيادات على الأمة ونماذج من التاريخ تظهر هذا الأثر. 5- فساد القيادة لا يخلي مسؤولية الفرد. 6- صورة الشخصية الفردية في القرآن الكريم.
_________
الخطبة الأولى
_________
في مثل هذه الأحوال التي تحيط بالأمة، لا بد أن تدور الأحاديث وأن يكثر النقاش، وسيكون حديثنا اليوم دراسة لأحوال الأمة بين النكوص والنهوض، فلا نريد لها أن تُحيط بها أسباب الضعف والوهن، فتمضي فيها سنة الله سبحانه وتعالى التي لا تُحابي أحدًا، ولا نريد لها من ذكر كثيرٍ من عيوبها وعللها وأمراضها وأدواؤها، أن تستسلم لضعفها، وأن تقعد عن نهضتها، وفي الوقت نفسه لا بد أن نُكاشف أنفسنا، وأن نُصارح أمتّنا بما ينبغي أن تأخذ به من أسباب النهوض، ارتباطًا واعتصامًا بالكتاب والسنة، وائتلافًا ووحدة على الإسلام والإيمان، وأخذًا واجتهادًا في أسباب القوة المعنوية والمادية، وإنما كما يقول القائل: حول ذلك ندندن.
وسيكون الحديث مركزًا عن أسباب النكوص والنهوض في معالمها ونماذجها الأساسية، ومن بعد نقف وقفات متأنية، وإن كل أمة عبر التاريخ الإنساني، تكون أسباب نهوضها ونكوصها متعلقة بأربعة قضايا:
المبادئ، والممارسات لهذه المبادئ، وأدوار القيادات والشخصيات العامة المؤثرة، ثم الأفراد والمجتمعات.
ونحن ننظر إلى هذه النظرات الكلية الشاملة، ولنا من بعد عودًا إلى تفاصيل، نرجو أن تُعيننا على إحياء قلوبنا، ويقظة عقولنا، وتآلف أرواحنا، وترابط صفوفنا، ونهضة أمتّنا بإذن الله عز وجل.
أما المبادئ العقائد، والتصورات الأفكار، والنظريات والمعايير والقيم، كل ذلك قد أكرمنا الله عز وجل به، فنحن لسنا أمة ناشئة ما زالت في أول مبتدئها، نحن أمة ضاربة جذورها في أعماق التاريخ، منذ أن خلق الله عز وجل آدم، منذ أن كانت البشرية، انتسابنا عريق بالرسل والأنبياء والأمم الموحدة العابدة المرتبطة بالله عز جل.
ونحن هنا في ومضات وقبسات سريعة، ليس مقتضانا فيها التفصيل، مبادؤنا وعقائدنا فيها أمور جامعة وخصائص عظيمة:
أولها: أنها ربانية كاملة، ليست مبادؤنا من صنع أفكارنا، ولا من مؤتمراتنا أو اجتماعاتنا، وليست من مفكرينا أو علمائنا، بل هي تنزيل من حكيم حميد، إنها الأمور الثابتة المحكمة، التي تَفضل الله سبحانه وتعالى بها على الأمم والبشرية جميعًا، في الرسل والأنبياء المتعاقبين، ثم أكمل نعمته وأتمّها على هذه الأمة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
فنحن لسنا في شكٍ من ديننا، ولا في بحثٍ عن أصولنا، فهذا أمر قد كُفيناه، ولكننا نحتاج في هذا الأمر إلى تثبيته وتوثيقه وتوضيحه وتعميقه، ليكون حيًا في القلوب والنفوس، لا مجرد نظريات وأفكار نرددها بألسنتنا، وليس لها حظٌ في عقائدنا الحقيقية، التي نعتنقها ونمارسها في واقع حياتنا.
ومن بعد؛ فإن مبادئنا استيعابية شاملة لم تدع شيئًا مما يحتاجه الإنسان فردًا، والأمة مجتمعًا، والدولة علاقات، وكل ما نحن في حاجة إليه، قد استودعنا الله عز وجل هدايته الكاملة في القرآن والسنة النبوية: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].
وجاءنا عن رسول الله ما نعرف به كل صغيرٍ من الأمور وكبير، في كل حال من الأحوال، كما سيأتي معنا في الممارسات والتطبيقات.
فهذا أمرٌ واضح بيّن، ينبغي أن نبيّنه وأن نؤكده، ومبادؤنا واقعية عاملة، ليست خيالية نظرية لا ترتبط بالواقع، بل تقرر حقيقة الإنسان وطبيعته من قبضة طينٍ ونفخة روح، يُخطئ فيتوب ويستغفر، ويعمل فيسمو ويرقى، ويتصل بالله عز وجل فيستمد منه تأييده وحوله وقوّته وعزته بإذنه سبحانه وتعالى، ويُعرض عنه فيقع له الخذلان والخسران، وذلك كله واضح فيما جاء في آيات الله وفي أحاديث رسول الله.
رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286].
والله سبحانه وتعالى قد بيّن ذلك في كثير مما جاء في عرض الآيات القرآنية، في معرض ذكرها للأحداث والوقائع وطبائع النفوس: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].
ولما بيّن الله عز وجل وكشف دخائل النفوس وطبائعها، التي قد تظهر في بعض الأحوال، وتغلب في بعضها الآخر، قال في حق خير الخلق بعد رسول الله وهم صحابته الكرام: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152].
حتى قال بعض أصحابه رضوان الله عليهم: (ما كنت أظن أن منّا من يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية).
ومن بعد ذلك صلاحية دائمة، فهي شريعة تمتد عبر الزمان كله إلى قيام الساعة، وتستوعب المكان لتشمل الأرض وما فيها كلها، وهي التي ما تزال فيها عوامل الثبات العاصمة من الزلل، وعوامل المرونة المتجددة مع الزمن، وذلك من فضل الله عز وجل علينا، فذلك أمرٌ قد كُفينا شأنه، وهو من أعظم وأول أسباب النهوض.
وما الأمم التي سقطت وما الأمم التي بادت إلا لأن مبادئها منحرفة وزائغة، إما هي مبادئ ربّانية دخلها الزيف والزيغ والانحراف، كما حكم الله عز وجل وبيّن في شأن أهل الكتاب، أو هي أهواء البشر وضلالاتهم وأفكارهم ومصالحهم ومبادؤهم وأهواؤهم، وكلها لا يثبت منها شيء، ولا يشمل منها شيءٌ، ولا ينفع نفعٌ مطلق منها شيءٌ، ولا يصلح على الدوام منها شيءٌ، وهذه مقارنة ليس هذا مقامها فهي واضحة بيّنة.
فنحن عندنا هذا السبب من أسباب النهوض، وقد يكون سببًا من أسباب النكوص، لأنها ـ أي هذه الهداية الربّانية والمبادئ الإلهية ـ جاءت ليصلح بها الناس، ولتقوى بها الأمة، وليعز بها أربابها، فمتى تخلوا عنها أصابهم الذل، وسرى إليهم الوهن، ودبّ فيهم الضعف، وحقت عليهم سنة الله سبحانه وتعالى بالهزيمة والخسران. نسأل الله عز وجل السلامة.
وذلك أمر لا يتخلف في سنن الله الماضية.
والأمر الثاني: الممارسات، فإن المبادئ ـ وهذا هو حديثنا ـ لا تفعل فعلها إلا إذا تشّربتها القلوب، وتقبلتها النفوس، ونطقت بها الألسن، وقبلت بها العقول، وكانت صورة حية تُمارس في الواقع، وأما غير ذلك فلا.
ومن نعمة الله علينا ـ معشر أمة الإسلام ـ أنه أعطانا في هذه الممارسة أمران مهمان عظيمان:
الأول: الممارسة المثلى التي كانت في سيرة المصطفى ، فلئن كان القرآن هو الدليل الهادي، فإن سنته وسيرته هي الصورة الحية المتحركة لهذا الدليل، فلم يعد هناك شيءٌ يحتاج إلى بيان، إن كان بيان يحتاج إلى تفسير وشرح، فقد قال به رسول الله ، وإن كان يحتاج إلى لمس ومعرفة لتطبيقه وعمله، فقد كان خُلقه عليه الصلاة والسلام القرآن.
وقد أخبرنا الحق جل وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]. وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
صورة حية متحركة في كل الأحوال، حِلاً وسفرًا، سِلمًا وحربًا، مع الأبناء والأزواج، مع الأصدقاء والأولياء، مع الخصوم والأعداء، في سائر الأحوال المعيشية، كل ذلك ونحن نراه في سيرة النبي واضحًا وضوح الشمس في رابعة النهار، حتى إننا نستطيع القول إننا نعرف عن رسول الله أكثر مما نعرف عن أنفسنا.
فنحن لا نعرف كثيرًا من صفحات حياتنا الأولى في صغرنا، ولكننا نراها واضحة في سيرة نبينا ، نحن لا نعلم كثيرًا مما تخوننا ذاكرتنا في تذكره من أحداث حياتنا وتقلبات آراءنا، ولكننا نرى ذلك واضحًا في سيرة نبينا.
ومن هنا فإن هذه الممارسة الكاملة، قد جاءت واضحة، ولكن أليس حريٌ بنا أن ننتقل إليه، ونرتبط بها، ونترسم خُطاها، ونعرف تحليل مواقفها في كل الأحوال والظروف، لتكون هي المنبع الصحيح لِما نريد أن نستمد منه لهذه الأسباب التي تُحيط بنا، والظروف التي تُحيق بنا، لنخرج من النكوص إلى النهوض بإذن الله سبحانه وتعالى.
ولو تأملنا ومضات يسيرة من كتاب ربنا وسنة نبينا ـ في النماذج التي نشير إليها ـ لوجدنا أن بين المبادئ التي قررتها الآيات، والممارسات التي أظهرتها السيرة، وبين واقعنا بعض المفارقات، بل ليس هناك مبالغة إن قلت: إن هناك بونًا شاسعًا، وفرقًا كبيرًا في بعض الأحوال، والآيات والأحاديث في هذا كثيرة، وهي منطبقة على واقعنا لأنها كاملة شاملة هادية مُحكمة ربّانية، فهي تُخبرنا عن الأسس والقواعد، عن السنن الماضية، عن الحقائق الثابتة، هذه آيات وسنن كثيرة قصتها علينا آيات القرآن: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:96-99].
أليست هذا صورة وحكمة وسنة تنطبق على واقعنا وفي سائر أحوال أمتّنا؟!
فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ [هود:116].
ألسنا نعرف سنة الله في الظلم والظالمين؟! وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117]، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، وكما قال عز وجل: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21]، وكما توّعد سبحانه وتعالى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227]، وكما قررت سنته جل وعلا: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [الكهف:59].
ألسنا نعرف السنن الماضية المقررة؟! إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81]، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
أليس كل ذلك بين دفتي كتاب ربنا؟! ألسنا نستمع في هدي رسولنا : ((لتتّبعنّ سنن من كان قبلكم حذو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جُحر ضب لدخلتموه)) قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!)).
ألسنا نعرف موقفه لما قال عليه الصلاة والسلام: ((إنّا لا نستعين بمشرك)) ؟!
ألسنا نرى كيف كان يطلب السلم والموادعة والصلح في يوم الحديبية، فلما بلغه أن عثمان فرد من أمة الإسلام قُتل دعا إلى بيعة أصحابه، فبايعهم واحدًا واحدًا على الموت، وعلى أن لا يفروا، انتصارًا لحرمة المسلم وإعزازًا للدين، وقيامًا بهيبة الأمة: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18].
إلى ما نعرفه من هذه الوقائع الكثيرة، وفي موقفه في يوم حُنين يبين لنا كيف تكون القيادة الثابتة، مآلاً ومثابة للأمة، حتى ترجع من تفككها ومن اضطرابها، فتفيء إلى القيادة المستعصمة بالحق، يوم ثبت عليه الصلاة والسلام عندما رجع بعض أصحابه من أول الجيش إلى آخره، واضطربت الصفوف، وفرّ بعض الصحابة وهو ثابت يقول: ((أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)).
أليست هذه أحوال أمتنا مضطربة هائجة مائجة، منهم من فر، ومنهم من ذهب وتولى وتخلّى، ومنهم من هادن وخالف وخان، ومنهم من والى أعداء الله؟! أليست هذه الأحوال مبسوطة؟! أليست تبيّن لنا علل النكوص والخسران، وتبيّن لنا معالم النهوض والقوة بإذن الله عز وجل؟! والأمر في هذا واضح وبيّن.
وأما الأمر الثاني في الممارسات فإنها أيضًا من نعمة الله، أخبرنا بها رسول الله : ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)).
فهي فترة في جملتها تُمثل النموذج الأكمل، للأسس والمبادئ وتطبيقها، وأخبر عليه الصلاة والسلام فقال: ((خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)).
وأخبرنا عن آخر الزمان وفساده، وما يقع فيه من أحوال كثيرة، وصف فيها أفراد الأمة وقياداتها وعلماءها ممن سيأتي ذكرهم، فنحن حينئذٍ في هذه الممارسة والتطبيق، نرى كيف يُمكن أن تُبيّن لنا أسباب النهوض، وكيف تُرشدنا إلى أن ما وقعنا فيه هو من أسباب النكوص والخسران والخذلان. نسأل الله عز وجل السلامة.
والسبب الثالث هو: القيادات، وهي تشمل الحكام والعلماء والوجهاء، وكل من له كلمة مسموعة أو وجاهة ظاهرة في الأمة، أولئك القوم يُستهدى بهم، أولئك القوم أثرهم في الناس ـ شاء الناس أم أبوا ـ كبير، فإن كلامهم ربما إن كانوا أهل حُكم وسلطان نافذ، قد لا يجد من يعترض عليه، أو لا يقوى على الاعتراض عليه، وإن كلام أهل العلم وهم ينطقون بكلمة الله، ويُبلّغون عن رسول الله ، إذا كان منحرفًا زائغًا، وإذا كان مبللاً فاتنًا، فإنه يسري من الأمة مسرى عظيمًا، ولكنه مسرى الهلاك والدمار. نسأل الله عز وجل السلامة.
وهكذا أعيان الأمة كلهم، إنما تحيا الأمم والمجتمعات بالقيادات التي تقود، فإن قادت إلى خير صلح المجتمع والأمة، وإن قادت إلى شرٍ فإن من سنن الله الماضية أن يكون لها أثرها، وأن يكون لها ما ينعكس في واقع مجتمعاتها وأمتها.
ولعل لنا أيضًا وقفات ونحن نذكر النماذج، فبعد انحراف وشيء من الخلل، كان متفاوتًا بين كثير وقليل، تعاقب فيه بعض الخلفاء، جاء عمر بن عبد العزيز وكان واحدًا وكان حاكمًا، وكانت مدة حكمه أقل من عامين، أي شيء صنع هذا الخليفة العظيم، حتى وصفه المؤرخون خامس الخلفاء الراشدين؟
قد وقفنا مع سيرته وقفات، لكننا نريد أن نُبيّن أن القائد الحاكم السلطان إذا استعصم بالله، واتبع هدي رسول الله ، وسار في الأمة مسيرًا حسنًا عادلاً، يتغيّر الحال، لقد سكنت الفتن، وأطفئت نيران الحروب، وعمّ العدل، وفاض الخير، وأُصلحت الأمور، وانتشر العلم، وكثر الخير، في أقل من عامين، رغم أن ما سبق كانت له أعوام كثيرة، وأحوال عديدة، وتصرفات متنوعة، وخلل كبير في نواحٍ شتى من الحياة، ولكن القيادة الراشدة الصالحة تُعلّمنا أنها من أسباب النكوص والنهوض، ونعرف النكوص الذي كان للمسلمين في بلاد الأندلس، يوم كانت تلك القيادات ألعوبة للأهواء، يوم كانت متّبعة للشهوات، يوم كانت حريصة على المصالح، يوم باعت دينها بدنياها، يوم اتّبعت أعداءها وحالفتهم على أوليائها وإخوانها، ضاعت تلك الأمة العريضة، مُسخت ثمانية قرون من تاريخ الإسلام في تلك البلاد، تقوّضت معالم حضارة كبرى علمية وعملية في واقع الحياة.
وهكذا ليس هذا الأمر في جانب القوّاد من الحكام، بل حتى الأئمة من العلماء، يوم عمّ انحراف وشاع فساد في عهد الخلافة العباسية، يوم شاع خلق القرآن ووُضعت الفتنة في كل مكان، ووقف الإمام أحمد رحمه الله وقفة صدق، ووقف معه ثلة من العلماء والقيادات، ثابتة على الحق، رافعة لراياته، ناطقة به، مبيّنة للخطر في الانحراف عنه، أي شيء وقع؟ لقد ارتدت الأمة كلها بفضل الله عز وجل إلى الحق من بعد الباطل، وإلى الهدى من بعد الزيغ، وذلك يدلنا على دور القيادات.
والقوّاد من قيادات الجند والمقاتلين المجاهدين كذلك، كان لهم دورهم، فنحن نعرف قصة صلاح الدين ودوره، ومن قبله نور الدين، وقد أفضنا في هذه الأحاديث.
إن الشخصيات والقيادات مفاتيح تغيير كبير في الأمة، وهي كذلك ـ إن كانت على غير المطلوب ـ من أسباب الدمار والهلاك. نسأل الله عز وجل السلامة.
ولعلنا نقف الوقفة الأخيرة مع هذه الأمثلة في كثير من جوانبها المتعددة، ونحن نعرف الأدوار التي يقوم بها أولئك القادة، من حكام وعلماء ودعاة وقوّاد ووجهاء وتجار، فلهم في ذلك تأثير إيجابي أو سلبي. نسأل الله أن يُعطينا الخير لأمتّنا، وأن يُوفّر فيها أسباب النهوض، وأن يقيها أسباب النكوص.
والسبب الرابع: من أسباب النكوص أو النهوض هم الأفراد والمجتمعات، فإنه إن فسدت القيادة أو انحرفت الممارسة، أو وقع شيءٌ من هذا في واقع الأمة، فليس ذلك مُخليًا لمسؤوليتك ولا مُسقطًا للواجب عن كاهلك، ومن هنا لابد أن نُخاطبك، وأن يكون هذا الخطاب واضحًا وقويًا، حتى تدرك الأهمية، وتعرف المسؤولية، وتنهض ـ بنفسك ـ في نفسك همة عالية، وعزيمة ماضية، ويقين قوي، وإيمان صادق، وأمل في الله عز وجل عظيم، وثقة به كبيرة، لأن الأفراد هم مفاتيح التغيير، ومن هؤلاء الأفراد قد تنشئ القيادات، ومن تلك القيادات يحصل تغيّر الأحوال، وذلك ما نلتمسه في نهضة أمتّنا بإذن الله سبحانه وتعالى.
والقرآن قد بيّن لنا حقيقة الشخصية الفردية، عندما تكون في ظلال الإيمان مستمسكة بالكتاب والسنة، أو تكون في أحوال الضلال والزيغ والانحراف.
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].
فرقٌ كبير بين هذا ذاك، وكما أخبرنا الله سبحانه وتعالى في المثل العظيم: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا [الأعراف:175].
وقد آتاكم الله إياها، لقد آتاكم الله إياها قرآنًا يتلى، وأحاديث تُروى، فقامت على كل واحد منكم الحُجة: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175، 176].
هذه صورتان نحن مُخاطبون بها، لم يأت حاكمٌ ليجعلك المؤمن الصادق أو المسلم الحق، لم يأت عالم ليصنع منك الإنسان المسلم الملتزم، وإن كان لذلك أدواره الإيجابية والسلبية، كما قلنا، لكن الله جل وعلا خاطبنا فقال: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، مرتهنة بعملها، وبيّن ذلك سيد الخلق يوم قال: ((كل الناس يغدو، فبايعٌ نفسه فمعتقها أو موبقها)) رواه مسلم.
إنما هو عملك، إنما هو إيمانك، إنما هو التزامك، إنما هي طاعتك أو معصيتك، إنما هو حالك الذي تمثل فيه بين يدي الله عز وجل فيسألك: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].
وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:19-22].
لا يكن أحدكم إمّعة، بل إن أحسن الناس أحسن، وإن أساؤوا اجتنب إساءتهم، أثر المجتمع نعم موجود، لكنه ليس حُجة لك، ليس عذرًا يقيك من المسؤولية أن تكون على الحق، ولو كنت وحدك، ذلك في حديث حذيفة ابن اليمان: ((ولو أن تَعَض على أصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) رواه مسلم.
الحق الكامل المطلق موجود عندك في القرآن والسنة، فإن انحرفت الأمة كلها أو زاغت، فليس في زيغها حُجة لك، لأن الحُجة في كتاب الله وسنة رسوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:24، 25].
إن تخلّيتم وفرّطتم لم يكن هذا التخلّي والتفريط، لم تكن عاقبته خاصة بأربابه وأصحابه، بل تعم الأمة كلها، وذلك كما ورد في حديث أم المؤمنين زينب رضي الله عنها، قالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كَثُر الخَبَث)) متفق عليه.
إن قيامك بأمر نفسك إنما هو نوع من دفع الأذى والبلاء، والسنة الرّبانية الماضية بما يقع من انحراف الناس، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا، حتى يصدق هذا الدعاء منّا، ينبغي أن لا نكون نحن أيضًا جزءًا من السفهاء، أو موافقين للسفهاء، أو ساكتين عن السفهاء، أو غير ناصحين للسفهاء، أو غير قائمين بالأمر المعروف والنهي عن المنكر في أمتّنا.
فنحن مفاتيح للنهوض، كما أننا قد نكون من أسباب النكوص، هذه المبادئ العامة في كل أمة لتنهض أو لترجع القَهْقَرى.
ولكننا في حاجة إلى مزيد لنستبصر كيف نأخذ هذه المبادئ، كيف نتعامل مع القرآن، كيف نرتبط بالسنة، كيف ننظر إلى التربية وإخراج الشخصية المسلمة، وذلك ما لعلنا نستحضره ونتذاكر فيه فيما يأتي من أحاديثنا، ولا شك أننا لابد أن نؤكد على بعض المعاني.
إنه ليس من الحكمة بحال أن نكون كالنعام، تدس رأسها في التراب، ولا تعي الخطر، فإن الخطر من حولنا مُحدق، وإن الظروف المعاصرة من أشد وأحلك وأقوى الظروف، التي يتكالب فيها الأعداء على الأمة، والتي تكثر فيها صور الانسلاخ عن آيات الله، والخروج عن مقتضى حقيقة الإيمان بالله، سواء كان في أفراد من هذه الأمة، أو قيادات، أو مجتمعات، ونحن في أمّس الحاجة إلى أن نعي هذا الخطر، وأن ندركه، وإلا فإنه لن ننهض لإطفاء النار إذا لم نكن نعرف أنها مشتعلة، وإذا لم نكن ندرك أنها ستأتي على الأخضر واليابس، وأننا سنكون وقودًا وحطبًا لها إن عاجلاً أو آجلاً، وإننا كما قال القائل: "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض".
ولكننا لا نقول ذلك لنضخّم تضخيمًا يدب به اليأس إلى النفوس، وإنما لتحصل به اليقظة في النفوس، وتحصل به العزة بما أكرمنا الله عز وجل به من هذه المبادئ والممارسات والقيادات والأفراد، الذين لا يزال الخير فيهم وفي أمة محمد.
((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) رواه مسلم.
فالسنة ماضية ببقائهم، فالسعادة لك إن كنت منهم، وإن لم تكن منهم فإنهم يكونون بغيرك، فالله الله في أن يؤتى الإسلام وأمة الإسلام من قبلك.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3207)
الأمة بين النكوص والنهوض (2)
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القتال والجهاد, غزوات
علي بن عمر بادحدح
جدة
سعيد بن جبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فوائد من الآيات الأولى من سورة الأحزاب: التقوى رأس كل أمر، النهي عن طاعة الكفار وموالاتهم، الأمر بالتوكل على الله عز وجل والإعراض عما سواه. 2- دور اليهود في تجميع صفوف الأحزاب. 3- ثبات رسول الله وصحابته رضوان الله عليهم. 4- فضح دخائل المنافقين في غزوة الأحزاب. 5- كيف رد الله عز وجل الأحزاب عن المدينة. 6- وقفة مع الأحزاب اليوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
في هذه الخطبة نأخذ نموذجًا تطبيقيًا، ننظر فيه إلى المبادئ التوجيهية، وإلى التطبيقات والممارسات النبوية، وإلى القيادات العظيمة من أصحاب رسول الله ، وإلى أدوار الأفراد والمجتمع الإسلامي الأول.
وغزوة الأحزاب قد وقعت في شهر شوال من سنة خمس للهجرة، وفي آياتها تنزلت كثير من آيات سورة الأحزاب، والمبادئ القرآنية كثيرة، لكننا نأخذ ما ورد في هذه السورة في مطلعها، لننظر إليه، ثم نعكسه على تلك الأحداث، ونقارن ذلك كله بما يحيط بنا ويجري حولنا ويدبر لنا.
الله سبحانه وتعالى خاطب نبيه والخطاب له ولأمته: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً [الأحزاب:1-3].
هذه مبادئ وقواعد للنظر إلى حقائق معانيها، وإلى صلتها الأساسية العظيمة بالمبادئ والعقائد، التي لا بد من استقرارها في النفوس وسكونها في القلوب.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وتقوى الله رأس الأمر كله.
وقد ذكر ابن كثير عن طلق بن حبيب قوله في التقوى فقال رحمه الله: "أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، مخافة عذاب الله".
والمقصود بالأمر بالتقوى الدوام عليها، والثبات عليها، ومع هذا الأمر جاء المقصود الموضح له، وجاء النهي عن المعارض والمناقض له.
وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فإن في طاعتهم مخالفة للتقوى، وانقطاعًا عما ينبغي أن يكون عليه أهل الإيمان، من اتباع لأمر الله عز وجل، واجتناب لنهيه.
قال ابن كثير: " وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ لا تسمع لهم ولا تستشرهم".
والقاسمي في تفسيره يقول: "لا توافقهم على أمر، ولا تقبل لهم رأيًا ولا مشورة، وجانبهم واحترس منهم، فإنهم أعداء الله، وأعداء المؤمنين، لا يريدون إلا المضارة والمضادة".
وهو بيان شافٍ، ونص واضح قاطع، لا يحتاج إلى فلسفة في تأويله، ولا تعسف في فهمه وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ يخبرنا الله سبحانه وتعالى بذلك، ويعقب جل وعلا على ذلك بقوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا.
ولا ينخدع أحد بما يكون عند الكافرين من ظاهر العلم والتجربة والخبرة، كما يسوغ أو يسوغ المسلمين بأنفسهم في فترات الضعف والانحراف.
فإن الله هو العليم الحكيم، هو الذي اختار لكم منهجكم وفق علمه وحكمته.
وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ فمنهجه وشرعه وتقواه هي العلم كله والحكمة كلها، فإن نهى عن طاعتهم فذلك الخير كله، وإن نهى عن موالاتهم فتلك الحكمة البالغة، وإن جاء كل أمر أو نهيه عنه سبحانه وتعالى، فإنما هو عن علمه العظيم، الذي لا يحيط به شيء، وعن حكمته البالغة التي لا تبلغها العقول.
ويقول الله سبحانه وتعالى بعد ذلك في القاعدة الثانية: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا.
ونرى هنا التخصيص والتقريب، بالإضافة ما أوحي إليك يا محمد، ووحي الله إنما هو لكم معشر المسلمين، إنما آياته في كتابه سبحانه وتعالى خطاب لنا، إنما أنزلها لهدايتنا، إنما شرعها لتكون دستورنا من ربنا، هو الذي يريد لنا الخير، هو الذي يريد لنا السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة، بما أكرمنا به من هذه الشرائع والعقائد التي اختارها لنا، وأكملها وأتمها ورضيها سبحانه وتعالى: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه.
وقال القاسمي: "أي: واتبع ما أوحي إليك من ربك في ترك طاعة الكافرين والمنافقين، وغير ذلك، لأنه جل وعلا العليم بعواقب الأمور والمصالح والمفاسد".
وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا.
وهو تعليق وتعقيب قرآني بليغ، فمن الناس من يتحايل ويغير ويبدل ويوافق ويوالي، ثم يُظهر صورًا يزعم أنها تتوافق مع شرع الله جل وعلا، أو مع مصالح الأمة، أو تدفع بعضًا من المفاسد، أو نحو ذلك، والله خبير بما في قلوبكم، عالم بما في نواياكم، مطلع على دخائل نفوسكم، وما فيها من وهن وضعف وقلة إيمان، ويقين واستعظام لأعدائكم، وخوفٍ منهم، أو موافقة لهم، وحب لهم، ومجاراة لهم، فلا يخدعنكم من أنفسكم أن تجدوا لها تأويلاً، أو تخدعوا بذلك الناس من حولكم، بما قد تشيعون من هذه الشائعات، أو تقولون من هذه الشبهات، إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا.
ثم يأتي الأمر الثالث: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً.
وهنا مربط الفرس، ومعقد هذه التوجهات والمبادئ، توكل على الله في جميع أمورك وأحوالك، فإنه سبحانه وتعالى كفى به وكيلاً لمن توكل عليه، وأناب إليه، وكما قال بعض المفسرين، فلا يهمنك إن كانوا معك أو كانوا عليك، أي هؤلاء الكافرين والمنافقين عندما تخالفهم وتوافق أمر الله لا يوافقونك، لا يرضون عنك، لا يقدمون لك ما قد تحتاجه من عون أو مساعدة، بل يكونون ضدك، ويتألبون عليك، ويمكرون بك، ويكيدون لك، فتوكل حينئذ على الله، ولا يهمنك إن كانوا معك أو كانوا عليك، ولا تحفل بكيدهم ومكرهم، وألق بأمرك كله إلى الله سبحانه وتعالى يصرفه بعلمه وحكمته وخبرته، ورد الأمر إلى الله في النهاية، والتوكل عليه وحده، هو القاعدة الثابتة المطمئنة التي يطمئن إليه القلب، فيعرف عندها حدوده وينتهي إليها، ويدع ما وراء ذلك لصاحب الأمر والتدبير، في ثقة وفي طمأنينة وفي يقين، فإذا أحاطت المخاطر، وإذا تألب الأعداء، وإذا تحزب الخصوم وإذا عظم الخطب، وإذا تفاقم الكرب، فليس الحل هو إعطاء الدَّنِية في الدين، ولا مهادنة المعتدين، ولا التغيير في أصل الإيمان واليقين، بل الفزع والالتجاء إلى رب العالمين.
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً [الأحزاب:3].
قال السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: "فإن وقع في قلبك أنك إن لم تطعهم في أهوائهم المضلة، حصل عليك منهم ضرر، أو حصل نقص في هداية الخلق، فادفع ذلك عن نفسك، واستعمل ما يقاومه ويقاوم غيره، وهو التوكل على الله، بأن تعتمد على ربك اعتماد من لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، في سلامتك من شرهم، وفي إقامة الدين الذي أمرت به، وثق بالله في حصول ذلك الأمر على أي حال كان، وكفى بالله وكيلاً، وذلك لعلمه بمصالح عبده من حيث لا يعلم العبد، وقدرته على إيصالها إليه من حيث لا يقدر عليها العبد، فهناك إن حصل توكلك على الله، واعتمادك عليه، والتجاؤك إليه، فهناك لا تسأل عن كل أمر يتيسر، وصعب يتسهل، وخطوب تهون، وكروب تزول، وحوائج وأحوال تقضى، ونعم تتنزل، ونقم تُدفع، وشرور تُرفع، وهناك ترى العبد الضعيف الذي يفوض أمره لسيده، قد قام بأمور لا تقوم بها أمة من الناس، وسهل عليه ما كان يصعب على الرجال الأفذاذ، ذلكم هو التوكل الحق".
وهذه العناصر الثلاثة: تقوى الله، واتباع وحيه، والتوكل عليه مع مخالفة الكافرين والمنافقين، هي العناصر التي تقيم الدعوة على منهجها الواضح الخالص من الله، وإلى الله، وعلى الله، وكفى بالله وكيلاً.
تلك صورة من المبادئ المكررة، والمعالم العظيمة الرئيسة، ونحن إذا أخذنا ومضات من هذه الحادثة العظمى في سيرة النبي ، ولسنا بصدد التفصيل فيها وفي أحداثها، وإنما في ربطها بأسباب النهوض، وكيف طبق النبي اليقين بالمبادئ والالتزام بتطبيقها، وكيف كانت قيادات أصحابه في مواقفها العظيمة، وأفراد الأمة ومجتمعها في جملته.
خرج سادة بني النضير الذين طردهم النبي بعد نقضهم للعهد إلى خيبر، خرج ثلة منهم ومن زعمائهم سلام بن أبي الحُقَيق، وسلاّمَ بن مِشكم، وكنانة بن الربيع، اليهود المثيرون على أهل الإسلام والمسلمين، هم نفس اليهود الذين يقومون بنفس الدور تمامًا كما قام به أسلافهم، خرجوا إلى قريش في مكة يدعونهم إلى حرب الإسلام والمسلمين، إلى حرب رسول الله والصحابة الكرام، ويعدونهم من أنفسهم بالنصر والمحالفة، ويقولون: في هذه المرة لا بد أن نستأصل شوكتهم، وأن نبيد خضراءهم، فتوافق قريش، ويمضون إلى غَطَفان، وهي أكبر قبائل نجد فتوافقهم، ويتألب الأحزاب، وتأتي قريش ومعها من تبعها من بني سليم وبني مرة وبني كنانة وأحابيشها، وتخرج غطفان وما هو الوعد؟ وما هو المقابل؟ كما ذكر موسى ابن عقبة، ففي مغازيه: ووعدوهم على ذلك بثلث ثمار خيبر، إنه اقتسام الثروات والوعد بحظوظ الدنيا، والتحكم في البلاد والعباد، والتسلط عليهم، ومحاربة الدين والإيمان والعقيدة.
تألب الأحزاب فكانت أعدادهم تبلغ عشرة آلاف، وربما كانت المدينة بكل من فيها من الرجال والنساء والصبيان لا يبلغون مثل هذا العدد، فجيش بمثل عدد المجتمع الإسلامي، والأمة الإسلامية كلها، ماذا صنع الرسول ؟ مبادرة ويقظة وأخذ بالأسباب، بإشارة سلمان بدؤوا وشرعوا في حفر الخندق المعروف، حتى يحصنوا بلادهم ويحموها، ويأخذوا الأسباب من الوقاية من شر عدوهم.
ثم كان ما هو معلوم عليكم، مما كانت عليه نفوس الصحابة والمؤمنين، مما كان في أهازيجهم، ومما كانوا يقولونه في أثناء حفر الخندق، يبين ما الذي كان في نفوسهم وقلوبهم، ما هي حقائق ما يشيع في مجتمعهم؟ ما هي المسلمات التي تصبح أنشودة على ألسنتهم؟ وليست دروسًا ولا خطبًا، فإن ذلك كان عندهم أعمق وأعظم من ذلك:
اللهم لولاك أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزل سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
إنّ الأُلى قد بغا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا
كان كذلك يرتجز أصحاب النبي ، ونعرف الصخرة التي عرضت، وكيف فتتها النبي ، وكيف بشَّر ـ وهم محاصرون في شدة جوع وشدة برد وشدة خوف ـ بشر بالفتوح هنا وهناك، تفتح الشام، وتفتح بصرى، وتفتح اليمن، ذلك المحاصر يفتح الآفاق ويبعث الآمال، لا من الوهن والخيال، بل من حقائق الاعتقاد والامتثال.
يعلم قوله جل وعلا: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُم [محمد:7]، يعلم قوله: إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، يعلم قوله: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38]، حقائق مستقرة بداهة في النفوس وفي العقول، وليست أشياء ولا معلومات موضع الاختبار أو موضع النظر كما هو حال كثير من المسلمين اليوم.
ثم جاء ما هو معلوم فيما تعرفونه من عرض غَطَفان، عندما عرضت على النبي أن تأخذ ثلث ثمار المدينة وتنصرف، فكان النبي عليه الصلاة والسلام وقد رأى ما أحاط بأصحابه، أدركته شفقة، فاستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وهذا دور القيادات الذين قلنا، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام ذلك العرض وبينه لهم، فقالوا كما في رواية الطبراني: يا رسول الله، أوحي من السماء فالتسليم لأمر الله؟ وانظروا إلى نوعية هؤلاء الرجال، انظروا إلى الفقه والإيمان، وانظروا إلى الأدب الذي كان معه، أوحي من السماء فالتسليم لأمر الله، أم هو رأيك وهواك؟ فرأينا تبع لرأيك وهواك، وإن كنت إنما تريد به الإبقاء علينا، إن كان هذا الاجتهاد لنا نحن، وللتخفيف عنا، فوالله لقد رأيتنا ونحن وإياهم سواء، لا ينالون منا ثمرةً إلا قرى أو بيعًا، لا والله ما أعطينا الدنية في أنفسنا في الجاهلية، فكيف وقد جاء الله بالإسلام، ليس لنا حاجة بذلك، عندنا مستعصم أعظم، وعندنا ملجأ أكبر، وعندنا يقين ترسو عليه همومنا، وتتبدد فيه غمومنا، ويعظم فيه اعتمادنا على الله سبحانه وتعالى، فلسنا في حاجة إلى ذلك. وبعد هذه الحادثة نقض يهود بني قريظة ـ بسعي إخوانهم ـ العهد، فأُحيط بالمسلمين من كل جانب، وخاف المسلمون على أنفسهم أن يباغتهم اليهود وقريش والحلفاء من ورائهم، أو أن يتخللوا إلى ديارهم وأزواجهم وأبنائهم.
والآيات تصور عظمة ذلك: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ [الأحزاب:10].
فهل وصف أبلغ من هذا؟! وهل كرب أشد من هذا؟! وهل إحاطة وتألب وتحزم وكيد ومكر أعظم من هذا؟
فماذا كان الأمر؟ انظروا إلى المواقف، انظروا إلى الأصناف، انظروا إلى الأنواع، انظروا إلى الأمر الأول: وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ أي شيء كان حالهم؟ وكيف كان وصفهم بعد هذه الآية مباشرة؟
َإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا [الأحزاب:12].
ألم يعدنا الله بالنصر وبالفتح؟ ألم يقل الرسول ستفتح فارس وتفتح كذا وكذا؟ أين نحن من هذا، وأحدنا كما قال بعض المنافقين: لا يستطيع أن يقضي حاجته، لا يستطيع أن يذهب ليقضي حاجته من شدة ما كان حولهم من الحصار والخوف؟
َإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا.
وكأني بهذه الأقوال نكاد نسمعها وإن تغيرت ألفاظها، من المرجفين والمنافقين والضعفاء، أصحاب الذل وضعف الإيمان واليقين.
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [الأحزاب:13].
لماذا تبقون في هذه المرابطة، وفي هذه المواجهة، ارجعوا إلى بيوتكم، إلى دياركم، ليس هذا مقامكم.
وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا [الأحزاب:13].
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [الأحزاب:16].
وهكذا يبين الله سبحانه وتعالى حقيقتهم، ويبين أن مواقفهم لا تغنيهم شيئًا إن اعتمدوا على غيره، إن نافقوا غيره، إن اتقوا وخافوا غيره سبحانه وتعالى، ولذلك يقول الله عز وجل: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنْ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [الأحزاب:17].
في مقابل ذلك، وبعد ذكر المنافقين وتفصيل حالهم، وتعويقهم لغيرهم، وإرجافهم في الصفوف، وتعظيمهم لقوى الأعداء، وذكرهم عدم وجود مخرج ولا سبيل إلا بالنفاق والمداهنة، وإعطاء الدنية في الدين، بعد ذلك التصوير القرآني البليغ، تأتي لنا تلك الأسباب التي ذكرناها لتبين لنا كيف كانت المواجهة والخروج من النقوص إلى النهوض.
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
التطبيق المثالي، القدوة العظمى، سيد الخلق ، ثم ماذا بعد ذلك؟ ولما رأى المؤمنون الأحزاب، رأوا شدة وكربًا، وعلموا بكل هذه الملابسات، وبنقض اليهود وبمن يحيط بهم من القبائل، وما عندهم من القوة، وما لهم من العدة.
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22].
انظر إلى هؤلاء المؤمنين، انظر إلى تربية الإيمان: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا.
ثم انظر إلى القيادات المتقدمة، وإلى المعالم التي تنهض في الأمة، والتي تقيمها وتردها إلى صوابها، عندما تطيش عقولها، عندما يضل سعيها، وينحرف نهجها، يقوم الأعلام والأثبات وأهل الإيمان والحق فينتصبون في الأمة، منارات هادئة، وعواصم بإذن الله عز وجل واقية، وهنا نستمع إلى الآية العظيمة: مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
لما وقف الصحابة وقياداتهم من الأنصار ذلك الموقف، لما ثبتوا على تقوى الله، وعلى مقاطعة الكافرين والمنافقين، لما ألقوا بكل همهم وغمهم وكربهم إلى الله عز وجل، ما هي النتيجة؟ هل استبيحت المدينة؟ هل أبيدت خضراؤهم؟ هل انتكست راياتهم؟ هل هزمت جيوشهم؟
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب:25].
وفي سياق ذلك: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [الأحزاب:27]. سبحانه وتعالى بين أن النتيجة كانت على خلاف كل المؤشرات المادية والقوة الأرضية.
وما الذي سلطه عليهم، ريح هي جند من جند الله سبحانه وتعالى، حتى قال أبو سفيان وقد أكفئت قدورهم، وأطفئت نيرانهم: (يا أهل مكة لا مقام لكم فارجعوا) ورجعوا وبقي أهل الميثاق، وبقي اليهود، ونالوا مصيرهم العظيم على يد الرسول الكريم وبحكم سعد ذلك البطل الأشم.
مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً.
رأينا المبادئ وتطبيقها، والرجال ومواقفهم، وسنرى من غير القيادات من يكشف ذلك.
الأمر الأخير في دور الأفراد، الذين هم تكوين المجتمعات، وقد قلنا إن على كل فرد واجبًا، وإن في عنق كل فرد أمانة فليس الدور المنتظر أن يكون من القائد العسكري، ولا من الحاكم السياسي، ولا من العالم الشرعي وحده، بل منك أنت، ومني ومن هذا ومن ذاك.
أدرك المسلمون ذلك وعرفوه، وهذا نموذج واحد في هذه الغزوة أيضًا، نعيم بن مسعود، جاء إلى النبي وهو يعلن إسلامه وإيمانه، في ظل هذه الظروف العصيبة، من ذا الذي يسلم والإسلام محاط به؟ من الذي يدخل مع المسلمين وهم الآن على وشك أن يدمروا وأن يبادوا؟ ذلك قدر الله يسوق لدينه من يشاء، قال: يا رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك لرسول الله، مرني يا رسول الله بما شئت، أعطني مهمة، اجعل لي دورًا، لأنني أريد أن أسهم وأن أكون سببًا من أسباب نصرة الدين، وإعانة الأمة، وكشف الغمة، ولا أريد أن أنتظر من هذا وذاك، فقال له النبي : ((إنما أنت رجل واحد فخذِّل عنا ما استطعت)) اجتهد، فكان لهذا الفرد الوحيد، أو الواحد كان له دور عظيم، فأخفى إسلامه، وأوقع الوقيعة بين اليهود وبين قريش، وأوقع بين قريش وغطفان.
وقال لليهود: إن قريشًا يوشك إذا طال الأمر بها في هذا الحصار، أن ترجع وتترككم، فلا تكونوا إلا وحدكم في مواجهة محمد والصحابة، قالوا: فما الرأي يا نعيم؟ قال: خذوا من أشرافهم، من أبناء أشرافهم رهائن، يكونون عندكم حتى لا ينفضوا عنكم ويتركوكم وحدكم، ثم ذهب إلى قريش وقال: قد بلغني أن قريظة رأت رأيًا وراجعت محمدًا ، وإنهم قد أعطوه أن يسلموه أبناء أشرافكم، ثم جاء الوقت، فإذا بقريظة تطلب، وإذا بقريش تقول: قد صدق نعيم، وأبت قريش، فقالت قريظة: قد صدق نعيم، واختلت الصفوف، وكان لذلك أثره ومبلغه من فرد واحد، لم ينم، لم يتقاعس، لم يقل: لا شأن لي، ولا حول، بل لا بد أن يكون لكل دور، وعلى كل واجب ولو بكلمة، ولو بتأييد، ولو بتكثير سواد، فإن الكروب إذا حلت، وإن الخطوب إذا اجتمعت، لا يكفي أن يبحث الناس عن من يلقون عليه اللوم، بل لا بد من الاجتماع والوحدة، وأن يؤدي كل دوره.
وفي سياق أحداث هذه الغزوة أحداث كثيرة، حتى المرأة المسلمة، حتى صغار من الصحابة وغيرهم، كل له دور، لأن الكرب والخطب كان عظيمًا.
ولعلنا ونحن نتحدث بهذا الحديث، لا نذكر صفحات قديمة، بل نقرأ صفحات حديثة، لا نرى أحداث سالفة، وإنما نرى وقائع تجد وتستجد، فالأحزاب اليوم كأنما أحزاب الأمس، واليهود المؤجِّجون كأنما اليوم هم هم، تغيرت أسماؤهم، ولكن حقائقهم موجودة، والمنافقون والمرجِفون والضعفاء والمتخاذلون، نرى كيف يميلون لأعداء الله، كيف يتركون تقوى الله، كيف يطيعون الكافرين والمنافقين، كيف لا يتوكلون إلا على الصواريخ والمعاهدات، وعلى الأسلحة والجيوش، ويزعمون أن ذلك من مراعاة المصالح وغير ذلك، كيف بنا ونحن نعرف المخرج وتطبيق هذه الأسباب، من المبادئ العقدية، والحقائق الإيمانية المسلَّمة، وتطبيقها والتزامها، وتشربها، والقيادات المؤثرة، والأفراد العاملين الباذلين، فإن أخذنا ذلك والتفتنا إليه، كان هو نموذجًا لما سبق أن أسلفنا القول فيه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3208)
الأمة بين النكوص والنهوض (3)
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
الفتن, تراجم
علي بن عمر بادحدح
جدة
سعيد بن جبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال المسلمين بعد وفاة رسول الله. 2- موقف أبي بكر رضي الله عنه من جيش أسامة. 3- ثبات أبي بكر على موقفه من حرب المرتدين وأثر ذلك. 4- إن ثبت القائد على الحق ثبتت الأمة من خلفه. 5- ثبات الإمام أحمد في محنة خلق القرآن. 6- أثر موقف الإمام على عامة الأمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
نتحدث اليوم عما يجلي لنا أحوال النهضة والنكسة، أو النهوض والنكوص في حياة الأمة، ووقفتنا اليوم مع مواقف القوة في أزمان المحنة، لنرى كيف تكون آثار قوة الإيمان واليقين، وقوة الهمة والعزيمة، وقوة العدة والعتاد، بما يكون لها من أثر في دحر الأعداء، وقوة الأمة في صد الهجمات، والمواقف في تاريخ أمتنا كثيرة. إن المبادئ والتزامها وتطبيقها، والقيادات المؤثرة في المجتمعات، ومواقفها، والأفراد وعموم الأمة، بما يحملون من المهمات، وما يؤدون من الواجبات، تلك هي أسباب النهوض والقوة.
فللنظر إلى بعض هذه المواقف، بعد أن رأيناها واضحة جلية في موقف عظيم في سير المصطفى ، لكننا نقول إن الأسس والقواعد ذاتها، تفعل فعلها في الأمة عبر تاريخها، ليست مقصورة على رسول الله ، ولا محصورة في زمنه، وها نحن اليوم نأخذ موقفين عظيمين في أزمتين كبيرتين، في زمانين مختلفين، وفي ظروف وأحوال فيها تباين واختلاف.
أولاً: موقف الصديق أبي بكر رضي الله عنه، بعد انتقال المصطفى إلى الرفيق الأعلى، وكان قد عقد لواء لأسامة بن زيد، على رأس جيش ليخرج إلى الروم ويقاتلهم، وإذ ذاك مع هول الصدمة التي حلت بالصحابة رضوان الله عليهم، لفقد نبيهم عليه الصلاة والسلام، وما خالط نفوسهم من الحزن، وما تغلغل في قلوبهم من الأسى على فقد المصطفى.
وجاءت الأخبار، وصور من الردة مختلفة، وفئة خرجت عن الإسلام، وتركته بالكلية وارتدت عنه.
وفئة امتنعت عن أداء الزكاة إلى أبي بكر رضي الله عنه.
وفئة قالت: لا يكون لأبي بكر وللمدينة سلطان علينا، بل نأخذ بالإسلام وحدنا على رأينا وبسلطاننا وحكمنا.
وفئة رابعة تنبأ فيها من تنبأ، أي ادعى النبوة بعض من لم يكن من أهل الإسلام، وفتن بعض الناس.
وكان خطبًا عظيمًا وكانت أحداث جليلة، وكانت ظروف عصيبة في وقت حرج، وفي لحظات حاسمة، وفي مشاعر محزنة ومؤلمة، فأي شيء صنع أبو بكر رضي الله عنه؟ وأي موقف وقف والأمة تحيط بها الأخطار، وتحدق بها مجموعات من قبائل هنا وهناك، ومن أعراب يحيطون بالمدينة، ومن ظروف في معاداة النصارى والروم.
انظروا إلى هذا الوصف الذي رواه عروة بن الزبير رضي الله عنه، مصورًا صعوبة الموقف وشدته يقول: (وقد ارتدت العرب إما عامةً وإما خاصة في كل قبيلة، ونجم النفاق واشرأب اليهود والنصارى، والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية ـ أي: في وصف حال ضعفهم، وشدة الظروف المربكة من حولهم ـ والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية، لفقد نبيهم، وقلتهم وكثرة عدوهم، فقال الناس لأبي بكر: إن هؤلاء ـ أي: جيش أسامة الذين كانوا قد تهيؤ للخروج ـ إن هؤلاء جل المسلمين، والعرب كما ترى قد انتقضت عليك، فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين).
كيف يخرج هؤلاء إلى الروم خارج حدود الجزيرة العربية، والظروف المحيطة كلها تتربص بالمسلمين الكيد والعداء، لا تفرق عنك جماعة المسلمين، فقال أبو بكر قولته العظيمة، قولة مؤمن بربه، واثق بوعده، ملتجئ إليه، متوكل عليه، عالم بما جاء من سنته الماضية، بآياته المتلوة وأحكامه الماضية إلى قيام الساعة، قال أبو بكر: (والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تتخطفني، لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله ، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته).
موقف قوة مستند إلى يقين ومبدأ، ليس موقف حماسة طائشة، ولا اندفاع متهور، ولا قيادة رعناء، ولا استبداد لا مشارة فيه، لكنه رد لأمة على مبادئها، واعتصام بنهج نبيها: (كيف أحل لواء عقده نبي الله ؟! كيف أمنع جيشًا أمضاه رسول الله ؟! لا خير في الأمة إن لم ترتبط بكتابها ولم تلتزم نهج نبيها).
كأن أبو بكر يعيد إلى العقول والقلوب هذه الحقائق، يردها إلى المبادئ، يسوقها إلى حياض الإيمان، يرجعها إلى منابع اليقين، يوثق حبالها بأسباب النصر الحقيقي، والعزة الصادقة في الإيمان والإسلام والصلة بالله سبحانه وتعالى.
وهذه رواية ابن كثير في البداية والنهاية، يقول فيها في شأن هذه القولة لأبي بكر في لفظ آخر: (والله الذي لا إله غيره، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله ما رددت جيشًا جهزه رسول الله ، ولا حللت لواء عقده رسول الله ).
لهذا عادت العقول إلى رشدها، وفاءت القلوب إلى يقينها، وعادت الصفوف إلى ترابطها ووحدتها، تلك هي المواقف الحازمة العازمة الجازمة المرتبطة بالله سبحانه وتعالى ونهجه.
وقد ذكر أهل التأريخ أن أبا بكر لما خطب، استشهد بالآيات القرآنية، كما فعل يوم طاشت العقول من هول فقد رسول الله فقال: (من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت).
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144].
قال عمر: (فكأني ما سمعت الآية إلا يوم تلاها أبو بكر). تلك هي المذكرات التي تردع الأمة إلى مبادئها وكتابها وسن نبيها.
وشأن الردة كان أخطر، لكن كيف كان أثر هذا القول والرأي وتنفيذه في واقع الأمر؟ هل كان خطة رعناء؟ أو تصرفًا طائشًا؟ هل ارتدت آثاره وخيمة على الإسلام وأهله؟
للنظر ما يقوله التاريخ في هذا: فتوجه جيش أسامة، فجعل لا يمر بقبيل ـ أي من أطراف هذه القبائل، ممن ارتد أو كان متحيرًا ـ فجعل لا يمر بقبيل ممن يريد الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، ننتظر مثل هؤلاء يخرجون جيشًا في هذه الظروف العصيبة، يدل على أنهم أصحاب قوة ومتانة وأصالة، ليس عندهم اضطراب ولا خوف ولا خنوع ولا ذل ولا مصانعة، فلذلك قالوا: ننتظر حتى ينجلي أمرهم مع الروم، وكان لجيش أسامة صولته وجولته، وعزته وقوته، ونصره وظهوره، فكان لذلك أثره حتى فيمن كانوا مترددين ومشككين، وكانت صنعة أبي بكر وقراره رضي الله عنه، أحكم وأحزم وأنفع وأمنع للمسلمين.
وكان من الردة أيضًا أن أشفق كبار الصحابة على أحوال الأمة، وكانوا يخشون من اتساع الشقة وعظمة الفرقة، وذهاب الكلمة، وتسلط القوة، فكانت مواقفهم وآراءهم المقدمة إلى أبي بكر تريد منه أن يتأنى في الأمر، وأن يتألف القوم، وأن يأخذهم بالسياسة الحكيمة والمهادنة والمهاودة، فكان مما قاله أبو بكر رضي الله عنه، في خطبة جامعة من تلك المقالات العظيمة والمواقف الجليلة له.
ذكر ما كان من شأن العرب قبل بعثة محمد ، وذكرهم بما أكرمهم به من نعمة الإيمان والإسلام، وما فضلهم به من جعلهم أئمة الإسلام الوسط، وما أفاء عليهم من النصر والعز برسول الله ، ثم أخبرهم بالواقع فقال: (إن من حولكم من الأعراب قد منعوا شاتهم وبعيرهم ـ أي الزكاة ـ ولم يكونوا في دينهم، وإن رجعوا إليه، أزهد منهم في يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم في يومكم هذا) لم هذه النبرة المترددة؟ لم هذه المواقف المتخوفة؟ وأنتم ما زالت أسباب قوتكم موجودة، قوة إيمانكم ويقينكم وارتباطكم بدينكم، يعيد إليهم قوة الارتباط بالمبادئ، ويذكرهم بأسباب النصر والعز على ضوء هذه المبادئ، فيقول لهم وهم يظنون ـ أو يرى بعضهم ـ أنها صورة ضعف: (ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم في يومكم هذا، على متقدم من بركة نبيكم، وقد وكلكم ـ أي رسول الله ـ إلى المولى الكافي، الذي وجده ضالاً فهداه وعائلاً فأغناه، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها).
ثم قال موقفه الشهير: (والله لا أدع أن أقاتل على أمر الله، حتى ينجز الله وعده، ويوفي لنا عهده، ويقتل من يقتل شهيدًا من أهل الجنة).
فتأملوا هذه الكلمات: (أنتم أقوى بدينكم، على ما تقدم من بركة نبيكم ـ ولا تنسوا التجاءكم إلى مولاكم ـ فإنه قد ترككم إلى المولى الكافي، الذي وجده ضالاً فهداه وعائلاً فأغناه، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها).
بهذا الإيمان والإسلام والأخوة والاتلاف عليهما، ثم قال قولته تلك، فثبَّت القلوب وأرشد العقول رضي الله عنه.
ومما قاله عمر له في أثناء المشاورات في هذه الأحداث: يا خليفة رسول الله، تألف الناس وارفق بهم، من يقول هذا؟ الفاروق عمر الشديد، الأشد القوي، الذي لا تأخذه في دين الله لومة لائم الذي قال عنه : ((إيهًا يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكًا فجًّا قط، إلا سلك فجًّا غير فجك)) متفق عليه.
ارفق بالناس وتألفهم يا أبا بكر، وأبو بكر اللين الهيِّن، الخشوع البكَّاء، الذي كان مضرب المثل في سماحته ولينه، فماذا قال أبو بكر اللين لعمر الشديد رضي الله عنه، أجمعين: (أجبار في الجاهلية، خوار في الإسلام يا عمر، قد انقطع الوحي وتم الدين أينقص وأنا حي)؟!
(أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام يا عمر) أين شدتك وبطشك، وقوتك وثباتك؟ ثم يناديه من بعد فيقول له: (قد انقطع الوحي وتم الدين أينقص وأنا حي؟).
استشعار للمسؤولية الكبرى: (لو كنت وحدي، لو لم يكن في القرى غيري)، هذه المواقف هي التي ـ بعد أمر الله عز وجل ـ كان لها أثرها.
حتى نتذكر هذا الوصف الذي قاله عروة بن الزبير رضي الله عنه: (والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية) وكلنا يعرف كيف يكون حال الغنم اضطرابًا وتجنبًا، وابتعادًا، وحالاً وصفها بهذه الكلمات الموجزة.
ولذلك كان من أبي بكر ما كان من قولته: (والله لو منعوني عقالاً ـ أي: حبلاً مما تربط به الإبل ـ كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه).
إنها ليست ثروات ولا جبايات، ولكنه المبدأ وإقامة الدين، والتزام الأحكام، وبسط سلطان الإسلام، وإظهار عزة الإيمان، أرسلها أبو بكر دروسًا عظيمة في مواقف كان يبذل فيها من روحه ودمه، ويخاطر بنفسه، كما كان يسجي هذه الكلمات ويخطب في الأمة ويتلو عليهم: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ [النور:55].
ويذكرهم بسنن الله وآياته العظيمة وسيرة المصطفى ، وأي شيء صنع؟ لقد جَيَّش الأمة كلها، وحركها، جعل النساء والأطفال في شُعُفِ الجبال وفي أماكن بعيدة، وجعل لهم حرسًا، وجعل على أنقاب المدينة دوريات للجميع، كلُ يشارك للحراسة والمتابعة والانتباه من أي غزو عارض من أولئك الأعراب، وجعل المسجد مكانًا للمرابطة الطارئة، فكان المسلمون فيه لا يخرجون منه، حتى إذا وُجِد أمر، أو جَدّ جدٌّ دُعُوا فخرجوا جميعًا.
حتى إن بعض الأعراب سولت لهم أنفسهم أن يغزو المدينة، فجاؤوا فإذا بالحرس من المسلمين على الأنقاب يواجهونهم، وإذا بالجيش يخرج من ورائهم، وإذا بهم يفرون حتى تتابعوا، ثم فعلوا حيلة أربكوا بها الجيش، ثم بعد ذلك أراد أبو بكر رضي الله عنه، أن يخرج بنفسه كذلك، ليسهم وليكون قدوة للأمة فقال له بعض الصحابة: (ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن لا تعرض نفسك، فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام، وكان تعاملك أشد على العدو في بقائك، فابعث رجلاً فإن أصيب أمرت آخر غيره، فقال رضي الله عنه: والله لا أفعل، والله لأواسينكم بنفسي) فخرج معهم في بعض تلك الأحداث، وجهز أحد عشر جيشًا لكل المرتدين، ولكل المتنبئين، فأي شيء كان؟
في بضعة أشهر دون العام انتهى أمر الردة، وفاء الناس إلى الإسلام، وانتظمت الأحوال، وعم الأمن، وقوي الارتباط، وعظمت العزائم، وارتفعت الهمم، وخرجت جيوش الإسلام موحدة من الجزيرة العربية، في آخر خلافة أبي بكر إلى الروم وفارس معًا، وابتدأت المعارك في القادسية واليرموك، في عهد أبي بكر رضي الله عنه، فما قضى نحبه ولا ذهب للقاء ربه جل وعلا، إلا بعد أن وطد الأمر وهيأ الأسباب، ووحد الأمة، وأعاد الصفوف، وذلك بموقف القوة، إيمانًا ويقينًا بالمبادئ، والتزامًا وتطبيقًا للأوامر، وإظهارًا لمواقف القادة، وتشغيلاً وتحريكًا لطاقات الأمة، بعد إحياء إيمانها وتذكيرها بمنهجها ومبادئها.
فانظر كيف خرجت الأمة من محنة عصيبة، في وقت وظرف حرج بفضل الله عز وجل أولاً، ثم بهذه المبادئ التي أشرنا إليها.
وموقف آخر، ربط المؤرخون بينه وبين موقف أبي بكر رضي الله عنه، في صور متشابهة، لأنه كان موقف ثبات في وقت حيرة واضطراب، وموقف قوة في صور ضعف وتراجع، وكانت له آثاره في الأمة عظيمة، قريبة أو شبيهة لما كان في عهد أبي بكر، وميزة هذا الموقف أنه بعيد في زمانه وتاريخه عن عهد الصحابة رضوان الله عليهم.
وأنه لم يكن لحاكم بيده الأمر والسلطة، بل كان لإمام عالم، كما شاع في بعض كتب التاريخ: أبو بكر يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة.
وهذه محنة في العلم والإيمان واليقين، سرت وشاعت عند بعض المتكلمين والعقلانيين في قضية خلق القرآن، وليس هذا مقام الحديث عنها، لكنها زيغ في الإيمان، وانحراف في الاعتقاد، وضلال عن صائب الحق، وعن صواب العلم، فكان ما كان، مما جعل الخليفة إذ ذاك المأمون يقتنع بهذا ثم يريد أن يعممه، ثم يريد أن يمتحن الناس والعلماء عليه، أن يجيبوا ويوافقوا، وأن ينشر في الأمة هذا ويقر به، فكانت مواقف كثير من الأئمة من أبرزها مواقف أحمد بن حنبل رحمه الله ورضي الله عنه.
موقف عظيم لإمام جليل، في مسألة دقيقة، في ظروف حرجة، وفي مواجهة ليست يسيرة أبدًا، الإمام أحمد رحمه الله قرر المنهج الصحيح، وثبت على الاعتقاد الحق، ورأى أن في هذا فتنة للأمة، وإضعافًا ليقينها، وانحرافًا عن نهج كتابها وسنة نبيها ، وكان الإمام أحمد مشهورًا بأنه لين وهين، وأنه رجل عبادة وزهد وورع، فأنى له هذه المواقف القوية، في كتاب أحمد لابن الجوزية رحمه الله: "أنه لما رأى الناس يجيبون، انتفخت أوداجه، واحمرت عيناه، وكان ذلك مخالفًا، وذهب ذلك اللين الذي كان فيه".
وقيل له في أيام المحنة: يا أبا عبد الله، كيف ظهر الباطل على الحق؟ ألا ترى الحق كيف ظهر الباطل عليه، انتكست الأوضاع، وارتكست الأمور، واختلت الموازيين، فماذا قال الإمام أحمد؟ وهذه مقالة تردنا إلى قضية المبادئ وتطبيقها والتزامها قال: كلا، إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل القلوب إليه من الهدى إلى الضلالة، وقلوبنا بعد لازمة للحق، ارتباطنا بمبادئنا، يقيننا بما جاء في كتاب ربنا، اعتصامنا بما كان عليه هدي نبينا ، ما دام في قلوبنا، تلك مظاهر تتغير، تلك صور تفرض على الواقع بالقوة، لكنها لا تنال القلوب، لا تدخل إلى النفوس، لا تغير المبادئ، إن كان الأمر كذلك فلا ظهور لهذا الباطل، لأن الباطل حينئذ صورة ظاهرة، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17].
ليس هناك ظهور للباطل، إلا إذا تغيرت القلوب، انسلاخًا من مبادئها، وضعفًا في استمساكها بها، ولجوءًا إلى غيرها، أو التماسًا للعز والنصر في سواها، كما قال الفاروق: (نحن قومًا أعزنا الله بالإسلام فمتى ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله).
ولذلك قال ابن حنبل كلمات منهجية، واثبتوا على الحق في قلوبكم ونفوسكم، واجعلوه هو يقينكم الذي به تعرفون الحقائق، وتميزون المواقف، وتدركون الواجب الذي عليكم، في الوقت الذي تواجهون فيه أي محنة أو فتنة.
وكان هذا الموقف منه موقفًا منهجيًا، ثم ماذا؟ جاءه بعض من يعينه ويثبته، وجاءه بعض من يلينه ويثبطه، فكانت مواقف ها هنا وهناك، لنرى كيف تقع الأحوال، حتى نرى ما الذي يرجح؟ وما الذي يكون فيه الخير بإذن الله؟
جاءه بعض من يقول له كذا وكذا، إنك رجل كبير في السن، فلو قلت قولاً لا تثلم به دينك، وتسلم به نفسك، قل قولاً متوسط معتدلاً، قابلاً لأن يكون ذا معاني محتملة، حتى تسلم، قال لقائله: إن كان هذا عقلك فاسترح. إن كنت تفكر بهذه العقلية في حماية الأشخاص والذوات، ورعاية السلامة والصيانة، والمحافظة على الأحوال والأوضاع، فهذا خلاف المنهج الحق، وخلاف ما ينبغي أن يكون من القادة المتقدمين المتصبرين في الأمة من علمائها وقادتها.
وجاءه من يقولون له بعضًا من الآيات والأحاديث في هذه المعاني، فقال: وكيف تصنعون بحديث خباب بن الأرت، يوم جاء إلى النبي وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، وكان خباب ممن يعذبون، وقد جلد ظهره حتى احمر، واختلط جلده بلحمه رضي الله عنه، جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا قد بلغ الأمر مبلغًا، قد جاءت الفتنة والمحنة إلى مدى عظيم، فقال عليه الصلاة والسلام: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليَتِمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) متفق عليه.
تلك هي الكلمات الإيمانية المنهجية التي قالها سيد الخلق ، في ظروف اضطهاد، وفي ظروف ابتلاء عظيمة، مرت بأصحابه، سكب في قلوبهم إيمانًا ويقينًا، أفرغ في نفوسهم ثباتًا وصبرًا، جعلهم يعلقون الأسباب بالله عز وجل، ويدركون مع ذلك سنته ويحتملون البلاء في سبيله وكان ما كان.
فابن حنبل رحمه الله كانت له تلك الآثار التي تثبته، فكان موقفه الثبات على الحق والصدع به، حتى حُمل وقُيِّد، وسجن وجلد رحمه الله ورضي الله عنه، في هذه الفتنة.
وكان ممن جاءه مثبتًا أبو جعفر الأنباري، فعبر الفرات وجاء إلى أحمد وهو يحمل فقال له: تعنيت يا أبا جعفر، يعني أتعبت نفسك، قال: ما ثم عناء، ثم قال: يا أحمد، إنك اليوم رأس الناس يقتدون بك، والله إن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن من إجابتك خلق من خلق الله، وإن أنت لم تجب ليمتنعن كثير من الناس، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، ولا بد من الموت، فاتق الله ولا تجبهم إلى شيء، فبكى ابن حنبل رحمه الله، وهو يقول: "ما شاء الله، ما شاء الله، أعد علي، أعد علي"، قال: فأعدت عليه ثلاثًا، فكان ذلك من تثبيت الله عز وجل له، فثبت، قال له رجل من الأعراب إن قتلك الحق مت شهيدًا وإن عشت عشت حميدًا، ثم انتهى الأمر إلى ماذا؟.
انتهى الأمر إلى موت المأمون، ومن بعده المتوكل، ومن بعده من جاء، حتى عاد الناس ـ من بعد أمر الله عز وجل، ثم بثبات ابن حنبل وغيره من العلماء ـ إلى الحق، وصار ابن حنبل محكمًا فيمن يولى من القضاة أن يكون من أهل السنة فيمضيه، أو لا فيعفيه، وعاد الأمر إلى سنة الله لمن ثبت على الحق.
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].
وارجعوا إلى دينكم، واعتصموا بكتاب ربكم، واتبعوا سنة نبيكم، وتوحدوا على إسلامكم وإيمانكم، واعتصموا من بعد بأخذ الأسباب، يكن لكم نصر أكيد، وعز مديد. نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه ردًا جميلاً.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3209)
الأمة بين النكوص والنهوض (4)
العلم والدعوة والجهاد, قضايا في الاعتقاد
الاتباع, قضايا دعوية
علي بن عمر بادحدح
جدة
سعيد بن جبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة الفهم الصحيح واليقين لإدراك مبادئ الإسلام. 2- صور من انحراف الفهم للمبادئ والمفاهيم. 3- ما نحتاجه للالتزام وتطبيق مبادئ ديننا. 4- الدعوة والتربية هما ركنا التغيير المنشود. 5- تدرج صلاح الدين في إصلاح المجتمع. 6- واجب العامة تجاه قادتهم. 7- مسؤولية أفراد الأمة في الإصلاح.
_________
الخطبة الأولى
_________
عوامل النهوض والنكوص في الأمة موضوعٌ مهمٌ، ولكننا لا نريد أن نمضي مع ما يُخاطب مشاعرنا، أو يدغدغ عواطفنا فحسب، وإنما نريد أن ننتهج النهج الذي نرى فيه قصورنا، ونعرف فيه خللنا، ونتبصّر فيه بالتناصح فيما بيننا، مع ما يجب علينا الأخذ به، فإن الأمر جِدٌّ، وإن العمل هو المُعوّل عليه، ليست روايات من التاريخ نُعجب بها، أو نعجب منها، وليست حماسة عارضة تُخالط النفوس والقلوب، ثم تنقشع سحابتها، وينقضي صيفها، كلا إنها قضية منهج ثابت في كتاب الله وسنة رسوله ، فيهما شفاء كل داء، وفيهما نور كل ظلمة، وفيهما مستعصمٌ ومستمسكٌ من كل فتنة، وفيهما وحدة من كل فرقة، وفيهما قوة من كل ضعف، فيهما كل ما تحتاجه أمة الإسلام.
المبادئ والمفاهيم نعني بها عقائد الإسلام، وقواطع الأحكام، وسنن الله جلّ وعلا الماضية في الأنام، كل حقائق القرآن، كل أنوار السنة، التي سبق أن ذكرنا أنها معصومة فلا خطأ فيها، وكاملة فلا نقص فيها، وصالحة لكل زمان ومكان، فلا قصور في مجاراتها لمستجدات الزمان وأحداث العصر.
أي شيء نحتاج في هذه المبادئ والمفاهيم؟
أولاً: الفهم الصحيح.
وثانيًا: اليقين التام.
يقول ابن القيّم رحمه الله تعالى: "حُسن القصد وصحة الفهم هما ساقا الإسلام".
ساقا الإسلام، أي: اللتان يقوم بهما ويمشي عليهما، حُسن القصد في النية الخاصة الصحيحة، والتوجه إلى الغاية المقصودة المنشودة، وصحة الفهم لأن خلل الفهم خطير جدًا.
وكما قال عمر بن عبد العزيز: (العامل بغير علم ما يُفسد أكثر مما يُصلح).
وكم هي المفاهيم التي خالطها عندنا أغاليط واضطراب وحيرة في فهمها، وكثيرة هي الآيات والأحاديث التي يلوي بعض الناس أعناقها، ليوافقوا بها ما هو في نفوسهم وأهوائهم، أو ما تُمليه عليهم ظروفهم وواقعهم ونحو ذلك.
ولعلي أضرب أمثلة حتى نُدرك كم نحن في حاجة إلى هذا.
وهذا المثال حديثٌ رواه الترمذي في سننه، من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، يقصّ قصة في مقاتلة ومواجهة المسلمين للروم بعد رسول الله ، أخبر أنهم قد اصطّفوا صفوفًا، وتعيّنت المواجهة، واشتد القتال، قال: فلما كان اليوم التالي، حمل رجلٌ من المسلمين على الروم، فألقى بنفسه عليهم، فقال بعض الناس: ألقى بنفسه إلى التهلكة، وعندهم في ذلك حُجة من كتاب الله: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195].
فماذا قال هذا الصحابي رضي الله عنه؟ قال: (فينا معشر الأنصار نزلت هذه الآية، صحبنا رسول الله ونصرناه وجاهدنا معه، حتى إذا فتح الله عليه قلنا: نرجع إلى أهلنا وزرعنا وأبنائنا، فنزلت الآية، فكانت التهلكة تَركُنا الجهاد والرجوع إلى الأهل والبلاد).
مفاهيم قد لا نُحسن فهمها، فنحتاج إلى بيانها في ضوء سنة نبينا ، وأقوال صحابته، وعلماء الأمة وفضلائها.
لا نحتاج إلى من يُفسر لنا القرآن والسنة، ممن ليسوا من أهلها، وممن ليسوا ممن يُطبقون أحكامها، وممن ليس في قلوبهم اليقين التام بصحتها وكمالها، وهذا يقع به كثير من الاضطراب، وحتى في عموم حياة الناس، أمور كثيرة مما يقع بها اختلال الفهم، فهذا يقول لك: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، ويسوقها لك في رغبته أن يتخلّى عن أمور من الواجبات الشرعية، أو أن يُقصّر في أمورٍ من السنن المؤكدة، أو من المشاعر والشعائر العامة في الأمة، ويحتج بمثل هذا.
ونعرف الاحتجاج الشائع عندما يُسرف الناس في المعاصي بقولهم: إن الله غفور رحيم، وإن الله واسع المغفرة، وكم هي المواطن من الآيات والمفاهيم من الأحاديث التي تُوضع في غير موضعها، وبعض ذلك نوع من خداع النفس وتضليلها، ورضاها بواقعها، وركونها إلى دنياها.
فنحن في حاجة إلى المفاهيم الصحيحة، التي بيّنتها السنة، وبيّنها التطبيق الصحيح للأئمة الأعلام، من العلماء والدعاة والأخيار في هذه الأمة، عبر تاريخها المجيد.
والأمر الثاني: اليقين الكامل، فكثير مما نفهمه قد يكون يقيننا به ضعيفًا، كلنا يوقن من حيث المعرفة، ويؤمن من حيث عموم الأدلة والتسليم، أن الله تعالى هو المحيي والمميت، وهو بيده الرزق سبحانه، وهو الذي يُدبّر الأمر كله، لكننا نقول: أين ذلك؟ عندما يتمّحض الأمر في الواقع بين أمرين: إمّا أن يكون اليقين بهذه الحقائق راسخًا، ويبقى معه الموقف ثابتًا، أو يكون تذبذبٌ وتراجع.
وكم ترى من الناس من قد يُغيّر في قوله، أو يُغيّر في مبدئه، أو ينقض عمله، لماذا؟ لأنه يقول: لا أُريد أن يُقطع رزقي.
وكم من الناس تسمعهم وهم يعطون الدنية في دينهم، ويقولون: ليس أمامنا خيارٌ غير ذلك، أين يقينهم بالرزق من الله؟! أين يقينهم بأن الله عز وجل هو المحيي وهو المميت؟! وأين يقينهم بقول الله: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]؟!.
ونحن نؤمن بأن الله سبحانه لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن له جنود السماوات والأرض، وأنه تعالى ينصر عباده المؤمنين، ثم نرى من بعض الأحوال والأقوال من كأنما يُبدّل ذلك كله، ويقول: إن القوي المتين، الذي بيده مقاليد الأمور، هو هذه القوة، أو تلك القوة أو غير ذلك.
فنحن إذن في حاجة إلى هذا، وتلمس الطريق إليه.
أما الالتزام والتطبيق لهذه المبادئ، وهو مفتاح النجاح، وهو بداية الخير الذي نأمل أن يكون لنا به نصر الله عز وجل وتأييده.
فإنه يحتاج ـ أيضًا ـ إلى أمرين: الدعوة والتربية، الدعوة إلى الله عز وجل وإلى دينه، وإلى التبصير بهذه المبادئ، والحث على التزامها والتربية والعمل بموجبها، والتطبيق لها، وتوفير الأجواء المعينة على التزامها، وحض الجميع على ذلك، فهل واقعنا يتطابق مع هذا أم فيه خللٌ كثير؟
كم من الناس لسان حاله يقول: لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، وهو من سوء الفهم، يقول: يكفيني أن أُصلي وأن أصوم، ومالي ومال الناس، لا يحرك بذلك ساكنًا، ولا ينطق به لسانًا، ولا يتمعَّر لأجل غيرة الله عز وجل وجهه، ولا ينكر ذلك قلبه، ولا يُدرك أنه حينئذٍ على خطر عظيم، لِما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله : ((من رأى منكم منكرًا فليُغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).
وفي حديثٍ آخر: ((وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة من خردل)).
أين التعليم والتبصير؟ أين القيام بالتربية في الدائرة التي لا عذر لأحدٍ فيها؟ أين تربية الأزواج والأبناء والبنات؟ أين القيام بهذا الواجب العظيم في اللبنة الأساسية للمجتمع المسلم؟
ثم لننظر كذلك إلى واقع الأحوال في مجتمعنا بصورة عامة، انظر معي إلى وسائل الإعلام، وإلى مناهج التعليم، فإن كانت تدعو إلى الله عز وجل، وتحض على الاعتقاد واليقين بالمبادئ والقيم الإسلامية، فذاك، وإن رأيت غير ذلك وهو كثير في بلاد الإسلام، وفي كثير من مجتمعاتها، فكيف لعمري يمكن أن نفهم المبادئ، وأن نوقن بها؟! وأبناؤنا يُدرّسون ما يُناقضها، ويُصرفون عن صفحاتهم المشرقة في تاريخهم، وعن لغتهم الجامعة المُحكمة المُثبتة، الحافظة لكتاب ربهم، إلى غير ذلك مما يصرفهم عن دينهم؟!
ثم نرى في وسائل الإعلام ما يخالف القرآن ويخالف السنّة، فيما يُشيعه من فساد وانحراف عقدي وسلوكي، لا على سبيل الحث والحض على المخالفة، بل كذلك مع التأصيل لها، ومع بيان أنه لا حرج فيها، وكم رأينا ونرى ونسمع مما يُقال أو يُذاع أو يُبث من أمور، يقولون فيها ما يُناقض صريح القرآن والسنة، من إنكار للحجاب، أو معارضة للولاء والبراء، أو غير ذلك من الصور.
ونحن إذا رأينا التاريخ، وجدنا أن أمر الدعوة والتربية هما حجرا الزاوية في التغيير المنشود؛ لأنهما يتناولان التغيير في أعماق القلوب والنفوس.
إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
وإذا نظرنا كمثالٍ عارض وعابر في سيرة صلاح الدين الأيوبي، محرر بيت المقدس، ومطّهر الأقصى من رجس النصارى في زمانه، كيف بلغ ذلك؟ وما خطواته إليه؟ وهل كان مجرد نصر عسكري؟ أم كان قبله إعداد تربوي، وكان قبله عمل دعوي، وكان قبله نشر علمي؟
كان مما أُثر عن صلاح الدين رحمه الله أنه خاض أربعة معارك، قبل المعارك العسكرية، المعركة الأولى معركة إقرار الإيمان وتصحيح الاعتقاد، يوم قوّض الدولة الرافضية التي كانت تُعادي السنة في مصر.
ثم معركة في نشر العلم الصحيح، وبث أنوار القرآن والسنة، فأنشأ المدارس في مصر والشام تُدّرس القرآن والسنة النبوية، وهي إلى يوم الناس هذا من زمانه وتاريخه، بل بعضها باسمه وباسم سلفه نور الدين رحمهما الله تعالى، فلا بد من نشر العلم وبيان الحق والدعوة.
ثم معركة محاربة المنكرات، فأغلق الحانات ومنع المسكرات، وأقام الحدود على المنكرات، وطهّر ظاهر المجتمع من المخالفات، حتى تكون الأمة حينئذٍ مهيأة لتنزل نصر الله عز وجل.
ومعركة الوحدة الجامعة، التي ضم فيها من بلاد الإسلام عددًا كبيرًا، مصر والشام واليمن وشيئًا من جزيرة العرب، وغيرها، في راية واحدة ووحدة جامعة وراية إسلامية خفاقة، فحان حينئذٍ نصرٌ مرتقب وتأييد ربّانيٌ من الله تعالى.
ونحن نقول: إننا في حاجة لكي ينتشر الإسلام في الواقع تطبيقًا والتزامًا، إلى الدعوة والبيان والتعليم والإرشاد، وذلك واجب على كل أحدٍ، كلاً بحسبه، كما قال أهل العلم في ذلك: إن الدعوة واجب كفائي، لكنه يتنّزل على كل أحدٍ بحسب قدرته، فمن كان قادرًا على شيء وجب عليه، ومن لم يكن قادرًا وجب عليه أن يُعين القادر على ذلك.
ثم التربية، أي أن يتحوّل هذا العلم وتلك الدعوة إلى سلوكٍ تطبيقي عملي، فذلك الذي كان عليه أصحاب النبي العلم للعمل، والمبادرة بالتطبيق.
(نعم النساء نساء الأنصار ـ كما تقول عائشة رضي الله عنها ـ لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين) وقالت أم سلمة رضي الله عنها: (لما نزلت هذه الآية: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59]، خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها).
مبادرة فورية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الأحزاب:69]، يقول ابن مسعود: (إذا سمعتها فأرعها سمعك، فإنها إما أمرٌ تؤمر به أو نهيٌ تُنهى عنه).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال:24].
كانت قضيةً واضحة، ما من أمرٍ يأتي إلا والتطبيق مصاحبٌ له، بل هي منهجية التعليم والتربية، كما روى التابعون قالوا: "كانوا الذين يُعلموننا القرآن من أصحاب رسول الله كعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وأُبيّ ابن كعب رضي الله عنهم، لا يتجاوزون بنا العشر من الآيات، حتى نعلم ما فيها من العلم والعمل، فتعلمنا العلم والعمل معًا".
في واقعنا فصام نكدٌ إلى حدٍ كبير، ما بين ما نعلم وبين ما نعمل، إما بتقصير وقصور العمل عن العلم، وإما ـ وهو الأسوأ ـ بمخالفة العمل للعلم، فكيف يُمكن حينئذٍ أن نكون لنا حالٌ يصدق فيه قول الله عز وجل: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]. أو قوله: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38]. أو قوله سبحانه: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47].
والأمر الثالث: في القيادات المؤثرة في المجتمع، من حكام أو من أمراء أو من علماء أو من دعاة أو غيرهم، لهم أثرٌ كبير في الأمة.
والعلماء والأمراء ـ كما قال أهل العلم ـ هم أولو الأمر المذكورون في القرآن، بصلاحهم يصلح الناس، وبفسادهم يفسدون، إلا من رحم الله عز وجل.
فنحن نعرف ذلك التأثير، وقد ضربنا له أمثلة، ورأينا مواقفه فيما سبق من أحاديثنا، وما روينا وذكرنا من سيرة النبي ، وبعض مواقف التاريخ، فما الواجب تجاه هذه القيادات؟
الاقتداء بها والالتفاف حولها والتثبيت لها، فإن كل قائم بالحق في زمن الباطل، يحتاج إلى من يُثّبت، يحتاج إلى من يُعين، يحتاج إلى من يقتدي به، ويكون معه، ولنعلم يقينًا ما جاء في كتاب الله عز وجل: إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49].
وقد رأينا كيف كان ابن حنبل مع قلة قليلة ثبتوا، ثم فاء من فاء إليهم، حتى عادت الأمة برمتها إلى قول الحق والصواب.
ورأينا من قبل كيف كانت شجاعة سيد الخلق ، يوم ارتفع على مرتفعٍ في يوم أُحد، وتجّمع حوله الصحابة والتفوا حوله، وافتدوه بأرواحهم وأنفسهم رضوان الله عليهم، وكان علي بن أبي طالب يقول: (كنّا إذا حمي الوطيس، واحّمرت الحَدَق، نتَّقي برسول الله).
قيادة متقدمة في مواجهة الأحداث، أنموذج يُقتدى به، لكنه لا يُترك وحده، بل يكون الناس معه، ويلتف الأخيار حوله، راية للخير تُرفع، يفيء إليها الناس ويجتمعون تحتها.
ويوم ثبت النبي على ناقته الشهباء في يوم حُنين، عندما اضطربت الصفوف، كان يصيح وينادي: ((أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)) ، ثم طلب من ابن العباس أن يصيح وأن يرفع صوته: ((يا للمهاجرين، يا للأنصار)) ، فسمعوا البلاغ فارتدوا ورجعوا، وائتلفوا وتوحدوا وتجمعوا.
وكم في الأمة من خير، لا تقولوا إن الأمة قد نُزع منها الخير، فإن فيها الخير إلى قيام الساعة، لكن من الأخيار من يقوم ويقول ويتكلم ويعمل، لكننا نجد أن في نفوسنا ضعفًا أن نُثبّت أولئك وأن نبقى معهم.
وهذا مثلٌ من التاريخ لابن عون، وهو ممن ثبت في الفتنة والمحنة، وقُطع عنه ما كان يُجرى له من الرزق، أي ما كان يُصرف له من راتب، قال: كان في بيته أربعون نفسًا ممن يُنفق عليهم، قال: فما كان الليل، حتى طرق طارق، ففتحت الباب، فإذا رجلٌ شبّهته بسمّانٍ ـ يعني يعمل في بيع السمن أو الزيت، ويظهر ذلك من هيئته ـ فدفع إليّ ألف دينار، وقال: ثبّتك الله كما ثبّت هذا الدين، فإن كان في كل شهرٍ، كان مثل ذلك.
هذا هو التثبيت والتعاون، هذا هو نصر الدين، وليس نصر الأفراد، إنما أولئك يوم رفعوا راية الله، وثبتوا على الحق، استحقوا من الأمة أن تكون معهم وتقتدي بهم.
والقدوات في الأمة مشاعر النور يُضيئون الظلمات بإذن الله عز وجل، وكما قال الإمام أحمد رحمه الله: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل الحق، يُحيون بكتاب الله الموتى، ويُبصّرون به أهل العمى، ويُردُّون عنهم الردى، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، إذا لم ينصروهم ويثبّتوهم وينتفعوا بعلمهم، ويقتدوا بهديهم ويكونوا وراءهم".
ورأينا في موقف أبي بكر رضي الله عنه في أول الأمر، كان وحده لمّا بدا للصحابة صحة اجتهاده، وقوة رأيه، وعزيمة نفسه، كانوا معه، لم يتّخلف عنه رجلٌ واحد، ثم مضوا جميعًا خلف هذه القيادة، التي رفعت راية الحق وثبتت في المحنة.
نسأل الله عز وجل أن يرد الأمة إلى دينها ردًا جميلاً، وأن يجعل فيها من الأخيار والأبرار من يرفعون راية الحق والإيمان، وأن يجعلها راية تأتلف عليها القلوب، وتتوحد وراءها الصفوف.
وبقي حديثنا عن الأفراد أنا وأنت وهذا وذاك، ولسنا إلا جزءًا من الأمة، فإن ظننا أن المسؤولية على أولئك الحكام، أو على أولئك العلماء، ونحن لا شيء في رقابنا، ولا واجب على كواهلنا، ولا مهمة لنا تجاه هذا الواقع المُحزن المؤسف، ولا دور لنا في نهضة الأمة، فذلك هو أول الشر، ومبدأ الضرر، وأساس الخور، نسأل الله عز وجل السلامة.
وقد قلنا في هذا معنيان أيضًا:
الأول: المسؤولية الذاتية: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38].
كل نفس مرهونة بعملها، والرهن لا يُفك حتى تدفع ما عليك، فنفسك مرهونة، أدِّ ما عليك من العمل قيامًا بالواجبات، وأداءً للفرائض، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، ونصرًا للدين، وإعزازًا للأمة، وولاءً للصالحين وبراء من الكافرين، حينئذٍ تُعتق نفسك، وإلا فإنك مغلولٌ ما زلت مرتهنًا بهذا الأمر والواجب، وكما قال عليه الصلاة والسلام: ((كل الناس يغدو، فبائعٌ نفسه فمُعتقها أو موبقها)).
والحساب دقيق، والناقد بصير، والعقبة كأداء، والمقدَم مخوف، فكل أحدٍ لابد أن يُدرك ذلك، وأنه مسؤولٌ سؤالاً عظيمًا: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].
وأنه مسؤولٌ سؤالاً دقيقًا: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].
وكل ذلك معروفٌ يحتاج إلى تعميق وتنبيه.
والأمر الثاني: هو المسؤولية الاجتماعية الجماعية، وتتركز في كثير من النقاط أهمها:
مبدأ الأخوّة والتآخي والتواصي بالحق والصبر، ذلك هو الذي يربط بين الأفراد، ويُوّحد بين الصفوف، والذي يجعل الأمة الكثير عددها لها من القوة ما يناسب ذلك، وليس كما هو حال أمّتنا اليوم، حينما وُلدت فيها الفُرقة وبُثت فيها الطبقية، وسرت فيها العِرقية، وصار بين أفرادها من التفاوت ما بينهم، فأصبحوا مِزقًا وأشلاء.
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرًا وإذا افترقن تكسّرت آحادا
مسؤوليتنا العظيمة في أن نكون أفرادًا في أمّة، وأن نكون أجزاءً من كلٍّ، لا يكون كل إنسان وحده، ولا يكون كل إنسان وأهله، ولا يكون كلٌ وأهل بلده، بل نحن كلنا أمّة واحدة: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52].
عندما نتأمل هذه المبادئ والواجب نحوها، لو أننا أسهمنا في هذه الواجبات، وجعلناها خطوات على الطريق، ومراحل ينبغي الأخذ بها، لكان من وراء ذلك خيرٌ كثير، وهي مسؤولية على من علم، وقد علمتم مثل هذا في مقامنا هذا، ومن قبله، ومن بعده، تسمعونه هنا وهناك، فليسأل كلٌ منّا نفسه: ماذا صنع في هذه الجوانب كلها؟
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3210)
الحرب بين الحقائق والمبادئ والمواقف
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
علي بن عمر بادحدح
جدة
سعيد بن جبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض الحقائق التي أكدتها الحرب على العراق: مخالفة للقانون الدولي، جريمة إنسانية، مقصلة الديمقراطية، صفقة أسلحة، عقائد البعث. 2- مبادئ ينبغي أن تحكم المواقف والمنطلقات. 3- حكم الإسلام في هذه الحرب. 4- توجيهات لا بد منها في هذه الأزمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
المقدمة: موضوع يهمنا جميعًا الحديث عنه اليوم، لا حديث للناس إلا هذه الحرب الجائرة الظالمة، هي شاغلة وسائل الإعلام، وهي موضوع حديث الناس والمجتمعات، ومنبر الجمعة، لا يغيب عن ذلك، مع أنه أنزه من الألاعيب السياسية، وأصدق من الأضاليل الإعلامية، وأرفع من المساومات الاقتصادية المالية، وأشمل من النظرات الجزئية، وأحكم من الاندفاعات العاطفية، وأقرب إلى النصوص الشرعية، وألصق بالمصالح، فحديثه في مثل هذه الأمور ينبغي أن يحوز هذه الصفات المهمة، وأن لا تكون رغبات الناس في حديث عاطفي أو اندفاع وارتفاع صوتي، كأنما نحن مرة أخرى لا نعي الدروس، ولا نفقه الحقائق، ولا نعتصم بالمبادئ.
الحقائق: ونبدأ بالحقائق، لأن معرفتها أساس فيما ينبني عليه ما يبنى عليها من الأحكام، وخاصة أن الحقائق مضطربة، وأنها مزيفة، وأنها مغلفة بأطنان من الأكاذيب، والأحابيل السياسية، والمغالطات الإعلامية، حرب أمريكا وبريطانيا ومن لف لفهما على العراق، حقيقتها هذه الجوانب التي نوجزها، والحديث والمقام يقصر عن الاستيعاب:
1- مخالفة قانونية: وقد أصموا آذاننا بالشرعة الدولية والقوانين العالمية والمرجعية الدولية وغير ذلك، فأين هي اليوم من أفعالهم؟ التي يعلم الجميع أنهم قد فشلوا في أن يجدوا لها مظلة أو نسبًا أو سببًا أو رابطًا لمجلس الأمن بمواده المختلفة أو غير ذلك، ويزعمون كذلك أن هناك دولاً عديدة تؤيد هذا المسار، وتقتنع به، وتشارك فيه، ولم نسمع أسماءها، ولم نعرف من أحوال من هو معروف منها، إلا أنه سار بعصا الإرهاب الأمريكي، أو بالعطاء الموعود من أمريكا.
ثم نرى بعد ذلك ما يزيفونه ويغيرونه ويلبسونه على الناس جميعًا، وحتى على شعوبهم وجنودهم كذلك.
جنرال أمريكي يخاطب قبل يومين جنوده فيقول: إن أسمائكم ستكتب بالذهب في لائحة الذين ساعدوا العراق على العودة إلى الأمم المتحدة.
وأظننا لا نحتاج إلى إفاضة في الأحاديث، التي ربما تسمعونها في المقالات والمداولات والمحاورات السياسة، ولكنني أنتقل في ومضات سريعة إلى عهد قريب وليس بعيدًا، لنرى كيف أن هذه الدول التي ترغي وتزبد في هذه الناحية القانونية كيف أنها قد خالفتها مرارًا وتكرارًا.
وما قالوه عن حق النقض هو حق من حقوق الظلم والبغي، قد استخدمته أمريكا أكثر دولة في العالم وأعلى نسبة، لصالح دولة البغي والكيان الصهيوني الغاصب في أرض الإسلام في فلسطين، حتى في مجرد ألفاظ فيها إدانات وكلمات، كان الفيتو لها بالمرصاد، حتى في لجان تقصي الحقائق والبحث عن الوقائع، كان لها هذا الفيتو بالمرصاد.
وقريب من ذلك أيضًا نرى الصيغة القانونية العجيبة الفريدة، التي ليس لها مثيل في العالم، في الأسرى الذين أسرتهم أمريكا، ولم توجه لهم تهمة، ولم تعرف لهم قضية، ولم ترفع لهم حقًا قانونيًا ولم تشرع لهم حقًا إنسانيًا ثم تقول بعد ذلك: إنها ترعى القوانين، وإنها إنما تهدف إلى مثل هذه الرعاية.
2- جريمة إنسانية: لأن الذي سمع بعضًا، أو قرأ بعضًا مما يقولونه عن الأسلحة وآثارها الإنسانية والبشرية، وآثاراها على البيئة والأرض والجو والبحر، لعلم أن طغيان القوم وإجرامهم بالغ مبلغًا لا تتصوره كثير من العقول، ولا تكاد تدركه، وقد قال ذلك خبراء منهم بألسنتهم، ومن قوادهم ومشاريكيهم في هذه الجوانب العسكرية، وأن الأرض تتأثر بما يكون من هذه الأسلحة التي فيها، بعض من الإشعاعات، ليس لمدة عشرات ولا مئات ولا آلاف من السنين، بل أكثر من ذلك.
ويقولون بعد هذا كما صرح هذا الجنرال الأمريكي: نقول إننا نعمل بكل جهد لكي نضمن أمرين: أقل دمار جماعي شامل ـ وهذا من فضل الله أن تعبيراتهم تدينهم (أقل دمار جماعي شامل) إذًا ثمت دمار جماعي شامل وهو يهدف إلى تقليله ـ ثم يقول: الأمر الثاني أن يقدر العراقيون الدخول في عصبة الأمم المتحدة متى استطاعوا، ويقول: نريد تفادي وقوع خسائر بشرية، وليس عندنا شيء ضد شعب العراق، مشكلتنا مع النظام، ولا نناقش هذا ولا ندخل في تكذيبه ولكننا نستدعي الأحداث القريبة.
ما الذي جرى في أفغانستان؟ وأين ذهبت القنابل الذكية؟ ألم تقع فوق رؤوس الناس وهم في الاحتفالات والأعراس؟ ألم تقع الأخطاء حتى قتلوا من جنود الحلفاء من قتلوا؟ ألم تكن كمية القنابل التي ألقيت ـ باعترافهم ـ تعادل أكثر مما ألقي في الحرب العالمية الأولى والثانية مجتمعة؟ ثم ماذا بعد ذلك؟ كلنا سمع وعلم ماذا جرى باستخدام لأسلحة اليورانيوم المنضب في بلاد المسلمين، في البوسنة والهرسك وحرب الخليج التي سبقت، ما زالت أثار الأمراض والتشويهات الخلقية حتى في بعض جنودهم، فضلاً عن أبناء العراق، والأجنة المشوهة، والأطفال المشوهين من آثار هذه الجرائم العظيمة، للدولة العظيمة في طغيانها وبغيها.
3- مقصلة الديمقراطية: الديمقراطية الدين الجديد الذي يبشرون به، ما هو؟ وأين هي؟ أين هي من هذه الجموع الحاشدة، ليس في بلاد العرب، ولكنها في بلاد أوربا وأمريكا، وهي تعارض وتقول إن الديمقراطية التي هي رأي الشعب، قد سُحقت ومحقت وأحرقت على أصوات هدير المدافع وقصفها ونيرانها.
ونعلم أن بعض الدول المشاركة، نسبة المعارضين فيها من الشعب تزيد على 85 في المائة، واليوم وبالأمس القريب بل بالأمس على وجه التحديد تعتقل الشرطة الأمريكية المتظاهرين ضد الحرب وغير ذلك.
وأعجب منه أنهم اعتقلوا اعتقالاً احتياطيًا ـ كما يزعمون ـ المتقدمين لطلبات اللجوء في أمريكا، لأنهم يشكلون خطرًا، كان من ضمن الاحتياطات اعتقالهم، وقال المسؤول: إنه اعتقال مؤقت ومعقول وحذر، ولا نعلق على ذلك.
ونعود مرة أخرى إلى أفغانستان، أين ديمقراطيتها؟ وأين عمرانها بعد خرابها؟ وأين مساعداتها الاقتصادية، وأين رخاؤها ورغد عيشها؟ وأين أمنها وأحوالها؟ إن العاقل يفكر في واقع منظور مرئي مسموع، وقد أهين رئيسها في معقل البلد التي جاءت به، حتى اضطروا إلى الاعتذار له، لأنه عومل معاملة مهينة مشينة.
ثم ماذا؟ ما الذي صنعوه؟ وما الذي يصنع هناك؟ لم نسمع إلا عن جمعيات نسائية، وصوالين تجميل نسائية، ومسرح للثقافة كما يقولون، وغير ذلك من المجلات وغيرها، وهذا هو الذي يقدمونه نموذجًا لما يريدونه.
ونحن نقول يريدون حرية المرأة على أهوائهم، لا دينهم رجعوا إليه، ولا قوانينهم التزموا بها، ولا إنسانيتهم راعوها، ولا ديمقراطيتهم طبقوها، ثم بعد ذلك يقولون: إن هذا حق مشروع، وإنه عمل ممدوح، وإنها غاية ستكون وردية الألوان وضيئة القسمات، مشرقة الأضواء.
من يصدق هذا، إلا إذا صدقنا أن الذئب يرعى الغنم، ويغذيها ويحميها، ويمنعها مما يضرها ويؤذيها.
4- صفقة تجارية: واضحة المعالم للمزيد من عقود الأسلحة، ومزيد من عقود الإنشاء وغير ذلك، وهي الإرهاب بعينه، وهي الاستغفال بعينه، ولكن ذلك له أيضًا جذور فكرية، فإن القوم في تكوينهم الفكري والعقلي وحضارتهم المعاصرة، قائمون على الاستعلاء والنظرة الدونية للأمم والشعوب، وإن روجوا غير ذلك، وإن حقيقة ساساتهم وقيادتهم كذلك.
هذا الرئيس الأمريكي الأسبق أو السابق "روز فيلت" يقول: بالحرب فقط يمكننا اكتساب الرجولة الممكنة، للفوز في الصراع الذي يسود الحياة.
والمارشال "فون" يقول: إن أعظم فضائل الإنسان تولد في الحرب، وإن السلام الدائم يؤدي إلى الترهل والفساد والانحلال.
إنهم ينشؤون على هذا البغي والعدوان، والهيمنة والسيطرة والتحكم، وذلك في فكرهم، وما صِدام الحضارات وصراعها ببعيد.
ويقول الجنرال العسكري بالأمس القريب: سيقوم عنصر المفاجآت في هذه الحرب من خلال الهجوم بطريقة لم يسبق لها مثيل في التاريخ، من حيث السرعة والدقة، والخطط التي لدينا الآن لم ير أحد مثلها قط.
غرور وعنجهية ونوع من التعالي، الذي يدلنا على حقيقة هذه المنطلقات، وكما قلت: إن مقامنا ليس مقام تحليل لهذه المعاني، ولكنه بيان للحقائق.
فكل الذي يقال في أكثره هراء وكذب، لا نكذبه نحن بأقوالنا، ولا ندحضه بآيات كتاب ربنا، ولا بأحاديث رسولنا ، وهي التي تقيم الحق والعدل والإنسانية، وكل المعاني الفاضلة على الوجه الصحيح.
ولكننا نقولها بقوانينهم وبشرائعهم، ونقولها من واقعهم القريب قبل البعيد، وما أدراك ما البعيد؟ من الذي دمر المدن في اليابان بالقنابل الذرية؟ ومن الذي قتل في حربه ثلاثة ملايين في أرض الفيتنام؟
وهذه أمور وحقائق تقابلها حقائق أخرى، لا بد من معرفتها، فإنه لا بد من نظرة شاملة ، نعم عدوان إجرامي إرهابي ليس له أساس قانوني، لكنه في الوقت نفسه وفي المقابل لا نحتاج إلى أن نغفل عن:
5- أن البعث في عقائده كفر صريح : وأن قيادته قد كان لها تاريخ قريب غير بعيد في ذات الجرائم، قتلاً وتدميرًا ونفيًا وتشريدًا، فلسنا إذ ندافع عن العراق ندافع عن البعث بكفره، ولا عن أولئك المجرمين ببغيهم وعدوانهم.
لكن ذلك لا يبرر ذلك، بل الآخر أكبر من الأول، وكليهما وبال، ولكنا ندرك ذلك ـ أيضًا ـ من حقائق الواقع، وليس من قضايا العاطفة، وليس كذلك من الغوغائية التي تقول: إننا نفدي فلانًا وفلانًا، ولا فداء إلا للدين، ولا إزهاق للأرواح إلا لإعلاء راية الدين، وصد عدوان المعتدين على حرمات الله عز وجل، وذلك أمر واضح ويقوله كثيرون من أبناء العراق، ونعرفه نحن، ويعرفه جميع الناس، مما جرى في تلك الفترات الماضية والعقود المتعاقبة، كما نعلم جميعًا بما لا يحتاج إلى مزيد من التفصيل.
فإذا عرفنا هذه الحقائق، اعتدلت النظرات، ولم نكن لا مع هؤلاء أو هؤلاء.
نحن مع المبدأ والحق الذي ينبغي أن يكون، ولا بد أن نعرف المفاسد والمصالح، وأوزانها ومقاديرها:
إن في ديمقراطية أمريكا نسفًا لأصول ديننا من جذورها، وتغييرًا لمقومات مجتمعاتنا من أساسها، وانحرافًا تريد أن تشيعه كما هو شائع عندها، وعند مثيلاتها، يريدون يومًا أن يكون لهم ما يكون، ليُلغوا كل ما هو أصيل ثابت في حقوقنا.
وأسترخص ها هنا مقالات جاهلية وإسلامية، تبين لنا أمورًا ينبغي معرفتها:
في وقعة حنين، وكان رسول الله وبعض مسلمة الفتح، وكان في أول المعركة ما كان من جولة كانت على المسلمين، وإذ بصفوان ابن أمية وهو حديث عهد بالإسلام، يضطرب أمره، ويأتيه من يقول: بطل سحر محمد، فلنكن مع القوم الغالبين، فقال ـ وهو إذ ذاك في أول إسلامه ـ: (لئن يَرُبني رجل من قريش خير من أن يَرُبني رجل من ثقيف أو هوازن) يقول: حكم محمد وهو من قريش، أولى عندي من أن يكون المتسلط علي أجنبيًا أنى وأبعد.
وقالها ابن عباد يوم جاء ابن تاشفين في أواخر عهد الأندلس، لينصر أهل الإسلام، فقيل له: يا ابن عباد، إن انتصر ابن تاشفين أخذ ملكك؟ فقال: لئن أكون ذنبًا في الحق، أحب إلي من أن أكون رأسًا في الباطل، أرعى الإبل لابن تاشفين، خير لي أن أرعى الخنازير للفونسو.
ولا بد أن يعيي المسلمون مواقفهم، وأن يزنوا كلماتهم، وأن يعرفوا مبادئهم، لئن أكون ذنبًا في الحق، أحب إلي من أن أكون رأسًا في الباطل. وحسبك بها كلمة قالها في ظرف عصيب، وكان ملكه مهددًا وكانت دولته إلى زوال، لكنه آثر أهل الإسلام والإيمان، وآثر أن يكون ذيلاً في الحق، على أن يكون رأسًا في الباطل، فهذه بعض الحقائق.
المبادئ: أما المبادئ فقد أسلفنا الحديث عنها مرارًا وتكرارًا، لتكون واضحة في العقول والأذهان، راسخة في النفوس والقلوب، حاكمة للمواقف والمنطلقات، فلعلنا نستحضر ذلك:
الأولى: مرجعنا الأساسي، وشرعيتنا العظمى هي: من كتاب الله، وسنة رسوله ، ليست من قوانين الأمم المتحدة، ولا من أنظمة أمريكا ولا من غيرها.
الثانية: مراعاة المصالح الشرعية للأمة الإسلامية: هي المرعية وليس غيرها لمصالح دنيوية أو مصالح جزئية، فإن ذلك كما نعلم قد ضيع كثيرًا وكثيرًا من مقدرات المسلمين، ومن كلمتهم وهيبتهم، ومن قدرتهم على استقلاليتهم، وبناء ذاتيتهم، ولا بد أن نعرف ذلك وأن نعيه.
الثالثة: النظرة المستقبلية مع عدم إغفال الواقعية الآنية: فإن النظر إلى أمر قريب يفقد الناس ويفقد المسلمين معرفة الحقائق الكبرى، والجرائم العظمى، والمؤامرات الخطيرة، فإن هذه القضية كما نسمع وتسمعون لا تتعلق بتحرير شعب العراق.
من يحرره؟ ولأجل ماذا؟ لأجل الإخلاص المتناهي لهم، لأجل الحرقة على أوضاعهم، والرعي لمصالحهم، لن يصدق ذلك أحد، بل ما وراء ذلك من تسلط وهيمنة وتغلغل وما يتبعه مما لا يعلم إلا الله سبحانه وتعالى مداه.
ومن ثم كما قلت، فإن حديث المبادئ يطول ويطول.
نحن مرجعنا كتاب الله، قال الله وقال رسول الله ، وفيهما غنية وكفاية.
مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89].
وعلمنا رسول الله ـ كما قال سلمان ـ حتى الطائر يقلب جناحيه في السماء إلا ترك لنا منه خبرًا.
ونحن نؤمن بثبات كل شيء حفظ القرآن الكريم وحفظ السنة في مجملها، وثبات ذلك في التطبيق العملي في سيرة المصطفى ، فما بالنا لا نرجع ولا نعتصم به ونلتفت إليه، ونجعله معولنا الأساسي.
وندرك حينئذ به كل الحقائق، ونكشف به كل تلك الدقائق، ونستطيع بإذن الله عز وجل مع البعد الإيماني اليقيني، والالتجاء إلى الله عز وجل، أن يكون لنا حال أفضل، ومواقف أظهر وأوضح، وأثبت وأصح بإذن الله عز وجل.
المواقف: ولي بعض المواقف التي لابد من معرفتها، ويكثر الحديث عنها:
1- هذا عدوان سافر واضح من أمة لا تدين دين الإسلام، وفي صورة لا يشك عاقل أن فيها ضررًا على الإسلام وأهله، ولا يقولن لك أحد غير ذلك، ولا يخبرنك أحد بغيره، كما اضطربت بعض المواقف، وتراجعت وتغيرت وتبدلت، وقالت: إن الحرب أو إن الحملات الصليبية فترة تاريخية، ولا يشك عاقل أنها كانت لمصالح سياسية، ولم تكن حربًا دينية، وقال من قال في تراجعاته ومحاوراته: إنه ليس هناك فرق بين الشرائع السماوية في رعايتها للسلام وحرصها عليه، ونحن نعرف ما عند اليهود ـ عليهم لعائن الله ـ في توراتهم المحرفة، من دعوة صريحة للعنصرية والهمجية والعدوانية، ثم يقال هذا ويروج، ويقال غيره وتدبج فيه الأحاديث والأقاويل والبيانات، وهذا من المخاطر الكبيرة.
2- ثم هناك أمر آخر لا بد من معرفته، ولعلي أقف هذه الوقفات السريعة مع هذه المواقف، فيما إذا غزيت هذه البلاد الإسلامية، وهي إسلامية، وإن قلنا إن البعث في عقائده كفر، فإن البلد بلد إسلام، فتحها المسلمون ورووها بدمائهم، كانت وقفًا إسلاميًا، وجل أهلها مسلمون، وكثير منهم وخاصة في الآونة الأخيرة رجعوا إلى الله عز وجل، فلا يقال: إنها بلد لا يصدق فيها أنها بلد إسلام، ولا تنطبق عليها تلك الأحكام.
ومن الأحكام أنه إذا غزي المسلمون في عقر دارهم، أنه يجب عليهم الجهاد لصد هذا العدو، ما ذكره العلماء قاطبة في أقوالهم سردًا وإقرارهم بالإجماع.
من ذلك قول ابن عبدالبر رحمه الله: "والفرض في الجهاد ينقسم إلى قسمين: أحدهما يتعين على كل أحد، ممن يستطيع المدافعة والقتال وحمل السلاح من البالغين الأحرار، وذلك بأن يحل العدو بدار الإسلام محاربًا لهم، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الديار أن ينفروا خفافًا وثقالاً، وشبابًا وشيوخًا، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مكثر".
وقال النووي رحمه الله: "فإن دخلوا بلدة يتعين على أهلها ـ أي الجهاد ـ وأما غير أهل تلك الناحية، فمن كان منهم على دون مسافة القصر، فهو كبعضهم، حتى إن لم يكن في أهل البلدة كفاية، وجب على هؤلاء أن يطيروا إليهم، مع مراعاة قدرتهم على الدفع".
وكما قالوا في الاستشهاد بذلك قول الله عز وجل في بيان القرب والجوار: مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [التوبة:120].
وكما في قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123].
3- ثم أمر المظاهرة لأعداء الإسلام والمعاونة لهم، والمشاركة لهم، ليس فيها شيء من شبهة ولا قليل من خلاف، فإن النصوص فيها واضحة، وإن أقوال الأئمة والعلماء فيها قاطعة، فمظاهرة ومناصرة غير المسلمين على المسلمين لا تتفق مع أحكام الدين، بل هي مناقضة له.
كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51].
وقال عز وجل: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141].
فمن أعان على أن يكون للكافرين على المؤمنين سبيل فإنه يخالف حكم الله، ومراد الله الذي اقتضاه.
4- كذلك ـ وهو الذي نحمد الله سبحانه وتعالى عليه ـ أن لا يكون لنا في ذلك اعتقاد ظني، ولا ميل أو هوى نفسي، فضلاً عن مشاركة عملية. نسأل الله أن يعيذنا من الشرور والآثام.
5- وإن هذه الحرب الدائرة والأعمال الجائرة، ينبغي أن لا تغفلنا أو تنسينا صلتها الأساسية في انبعاثها، وأسبابها، وفي غايتها، بقضية الإسلام والمسلمين الأولى في أرض فلسطين، فلا يخفى على عاقل أن هذا كله في مصلحة اليهود الغاصبين، بل ربما في أساسه وانبعاثه إنما كان لأجلهم، ولأجل تمكينهم، ولأجل بقائهم على قوتهم، ومعهم الأسلحة النووية، وأسلحة الدمار الشامل، وهم الذين يرفضون التوقيع على الاتفاقيات، ولم يصل إليهم أحد من التفتيش، ولم يذكر أحد أنهم يحتاجون إلى تفتيش.
ثم حتى ينشغل الناس، ويمكن لهم، ويدور الحديث كما تعلمون عن انتهاز اليهود للفرصة، وقيامهم بأمور قد يكون فيها تهجير وضرب وترحيل لإخواننا المسلمين من أرض فلسطين، وغير ذلك مما هو أيضًا معلوم.
ونعلم أنه خلال هذا الشهر الذي نحن فيه، قد قتل اليهود 87 حتى الآن من إخواننا في فلسطين، ولا أحد يتكلم ولا أحد يذكر شيئًا.
ونعرف ما عندهم من كل هذه الجرائم، والمخالفات للقوانين الدولية، ولقرارات مجالس الأمن، وغير ذلك، وما التمكن من العراق إلا طريق لزيادة تمكينهم، وزيادة إضعاف قوة العرب والمسلمين، والإرهاب والخلخلة لأوضاع المجتمعات والدول العربية والإسلامية، بما يجعلها مضطربة حائرة، أو خائفة مترددة، أو مستسلمة ذليلة، حتى لا يبقى هناك أي قدرة على مواجهة أولئك اليهود الغاصبين، ويكون في ذلك مزيد من القوة والتمكين لهم، على حساب الإسلام والمسلمين.
ولو أننا تمعنا، لعرفنا الروابط ولرأيناها واضحة جلية، ولذلك نحن نعلم ما قاله الله عز وجل: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة:51].
وبين الله عز وجل أنهم لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، ونحن نعلم قول الله عز وجل: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82].
كل ذلك لا نغفل عنه ولا ننساه، ولا نغفل عن ما يجري هناك، فإنه هو محور الرحى، وقطب الرحى، ونقطة الالتقاء والصراع الحقيقي، وكل الطرق تؤدي إلى روما كما يقولون.
وأزعم أن كل القضايا التي تحيط بالمسلمين، لها من قريب أو بعيد صلة بهذه المواجهة الحقيقية الشاملة بين الإسلام وأعدائه في أرض الإسراء.
التوجيهات: ولا بد كذلك أن ننبه إلى أمر مهم وإلى جملة من التوجيهات نحن في أمس الحاجة إليها:
أولاً: الاعتصام بالجمل الثابتة والأحكام القاطعة: من كتاب الله وسنة رسوله ، هناك اجتهاد وآراء وخلافات أمرها معروف عند أهل العلم، لكن ثمة جمل ثابتة، وحقائق قاطعة، ليس فيها خلاف، وهي العواصم من القواصم، وهي النور في الظلمة، وهي معالم الطريق التي تعصم من الانحراف والزيغ والضلال بإذن الله تعالى، فتواصوا بها، واعتصموا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، فإنها وصية رسول الله ، كما في حديث ابن سارية: وعظنا رسول الله موعظة، وذرفت منها العيون، وجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد به إلينا؟ فأوصاهم بكتاب الله وسنة رسول الله ، وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعده، وأن يعضوا عليها بالنواجذ.
تمسكوا بها لأنه ثمة كثير وكثير من الصوارف التي تصرف عنها، والزيغ الذي يشوهها.
وللأسف فإن كثيرًا من صحفنا وإعلامنا يتحدثون عن حجم أعدائنا، حتى يُبث الرعب في القلوب، وحتى يسري اليأس إلى النفوس، وكأن أولئك القوم قد ملكوا أَزِمة الأمور وأصبح بيدهم تدبير الكون وتصريفه والعياذ بالله، وكأنه لا قوة حاكمة، ولا تقدير سابق، ولا قضاء مبرم من الله سبحانه وتعالى.
فيَفُتون في العضد، ثم يقولون من باب الواقعية: ماذا يمكن أن نصنع؟ وأي شيء يمكن أن نقول؟ إن هذا الذي يقول هذه المقالات لا يدرك الحقائق ولا يعرف الواقع.
سبحان الله، نحن ندرك الواقع ونعرفه، لكن إدراكنا لا يعني أن نترك كتاب الله وراء ظهورنا، ولا أن نخلف سنة رسول الله دُبر آذاننا، ونقول بما فيهما، وإن كنا قد لا نستطيع إنجاز ذلك أو القيام به في هذا الوقت، لكن تغييره هو الأخطر، لكن الشك في حقيقته هو الأكثر ضررًا والأعظم خطرًا، لأننا إذا شككنا في ذلك فإننا قد تركنا شيئًا مما نتشبث به ونضع أقدامنا عليه، وبالتالي تغيب عنا الرؤية الصائبة، ويغيب عنا موطئ القدم الثابت الراسخ، الذي يجعلنا قادرين على أن نقف، ونحن نعرف أين نقف، وأن ننظر ونحن نعرف إلى من ننظر، وأي شيء نرى أمامنا.
أفإن قالوا كلامًا معسولاً وغيروا نتغير عن هذه الجمل الثابتة والحقائق القاطعة في كتاب لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وفي سنة طاهرة مشرفة، مبرأة من العيب والنقص، لسيد الخلق وأكرم الرسل ؟
ثانيًا: الحرص على الوحدة والائتلاف والحذر من الفرقة والاختلاف: نحن أحوج ما نكون إذا اجتمعنا وائتلفنا على هذه الجمل الثابتة، أن نتوحد وأن نجتمع، وننسى خلافاتنا، حتى خلافات واختلافات الآراء الاجتهادية الفكرية في المسائل العلمية، وفي المواقف العملية، ينبغي أن تذوب.
لأننا في مواجهة خطر أكبر، وعداء أشمل، وصورة ماحقة تستهدف الإسلام وأهله من الجذور ومن الأسس، فما ينبغي أن نُبدع هذا أو نفسق هذا، أو نقول إن هذا كذا، وهذا كذا، وخاصة في مثل هذه الظروف.
لا بد أن يكون التكاتف والتلاحم بين الجميع، رعاة ورعية، وحكامًا ومحكومين، وإن وجد خطأ فثمة ما هو أعظم من هذا الخطأ، وإن وجد تقصير فثمة ما هو أخطر من هذا التقصير، ولا بد أن نكون على وعي وبصيرة وعلى موازنة بين المصالح والمفاسد، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ليس المسلم من يعرف الشر من الخير، ولكنه من يعرف خير الخيرين وشر الشرين".
فإن الشرور كثيرة، والخير صوره متنوعة، قد تأخذ أدنى شيء منه وتترك ما هو أعظم، وقد تأخذ من الشر ما هو أعظم، وتترك ما قد يحتمل ما هو أدنى، فينبغي أن نعرف ذلك، وأن نحرص ـ أيها الأحبة الكرام ـ في زمن الفتن والمحن على تراص الصفوف وتلاحمها، فإن أعظم هدية تقدم لأعدائنا أن نفرق صفوفنا، وأن نزيد تقطيع أوصالنا، فيأكلونا لقمة سائغة كما قال العربي من قبل: إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض.
إنهم لا يفرقون بين مسلم في هذه البلاد، وبين مسلم في بلاد الشام، وبلاد اليمن، إنه لم يعد ثمة تفريق بين ما يسمونه متطرفين أو إرهابيين، وبين مسلم قد يصفونه بأنه مسالم موادع، كلهم في شرعتهم من حيث الحقيقة سواء، وإن بدؤوا بهذا، فالثاني من بعده، وإن بدؤوا بتلك الديار فربما تكون تلك بعدها، فينبغي أن لا نجعل فرصة لأعدائنا في مزيد من التشتت والتفرق والتنابز بالألقاب، بل احرصوا على هذه الألفة وعلى المحبة، ولا يكون ذلك إلا بتلك الجمل الثابتة، في اعتصامنا بكتاب الله وسنة رسوله.
والأمر الثالث: الصدق في التوبة، والأصالة في العودة والأوبة، مضت أحداث سابقة وقال الناس: إن فيها عظة وعبرة، ورجعوا إلى الله في الحرب الماضية، وامتلأت المساجد وراجع الناس أنفسهم، ثم كرت الأيام وعاد الحال كما كان، ورجعت وسائل الإعلام في أكثر البلاد إلى نشر الفسق والفجور، واللهو واللعب والطرب، وتضليل الأمة، وستأتي هذه الكارثة ونرى شيئًا من تحول، ثم ماذا بعد نعود مرة أخرى، إننا إن لم نصدق الله عز وجل في توبتنا، وإن لم نخلص في أوبتنا، وإن لم نصحح مسارنا، فإن سنة الله لا تحابي أحدًا، وإن سنة الله ماضية وقد مضت على رسول الله ، فلقي ما لقي من العناء والأذى، مما وقع لأصحابه، وبما وقع في حياته عليه الصلاة والسلام مما مضت به سنة الله عز وجل وهذا أمر مهم.
ولعلنا قد ذكرنا من قبل إعلان التوبة، وإظهار الاستقامة، وصحة الأخوة، وكثرة الالتجاء والتضرع بالدعاء إلى الله عز وجل، وليس هذا موضوع تفصيلنا.
والأمر الرابع وهو المهم: الحذر من الإرجاف وترويج الشائعات، وكثرة تداول الرؤى والمنامات، ديننا لا يُعنى بالرؤى والمنامات، إسلامنا ليس فيه هذا التعنت ببعض الأخبار من الغيبيات، إسلامنا قال: وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105].
إسلامنا دين عمل، ينبني على أدلة واضحة من كتاب الله وسنة رسول الله ، والشائعات تكثر، والمرجفون يزدادون في مثل هذه الفتن والمحن، فأخرسوا كل مرجف، واقطعوا دابر كل شائعة، واجعلوا الأمور توفر الأمن والأمان والثقة والتآلف والتآزر فيما بين الأمة.
ويعجب المرء من هذا الإرجاف الذي تمارسه بعض الصحف الذائعة الشائعة، وهي تملأ الصفحات بصور الأسلحة وقدراتها المدمرة، فلا ترى إلا الإعلانات التي تقول: في يومين وفي ثلاثة، حتى لو صح ذلك، ما الفائدة في نشره بين الناس؟ حتى يستسلموا، وحتى يستبشروا، وحتى يترقبوا الفرج من عدو الإسلام والمسلمين، وينتظروا الأمن والرخاء والحرية والحقوق الإنسانية، من هذا الذي سردنا بعض تاريخه قريبًا غير بعيد، واستمعوا إلى هذه العناوين ولا أريد أن أطيل عليكم: أول ضحايا الحرب العراقية، توقف دوري كرة السلة في بلد معين، لأن في بعض فِرق تلك البلاد لاعبون أميركيون، اضطروا للسفر بناء على نصائح سفارتهم، هذه أول الضحايا!
انظروا كيف يرى إعلامنا، أو يذكر هذا في خضم الأزمة القاتمة.
ومسابقات ملكة الجمال في بلد عربي تتواصل، ودعاياتها تملأ الصحف، وفوق هذه الدعايات التي فيها صور النساء وأسماؤهن، ترى صور الأسلحة، وترى عناوين الحرب، وذلك لا يقدمنا، ولا يجعلنا نطمئن إلى أحوالنا، إذا كان هذا هو ما قد نميل إليه، وما قد يروج بيننا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3211)