سقط القناع وانشكف الغطاء
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, المسلمون في العالم
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
21/1/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة الابتلاء. 2- المنهزمون في معتركات الحياة. 3- موقف المسلم عند الفتن والمحن. 4- الدروس المستفادة من غارة الغرب على ديار الإسلام. 5- خطورة العدو الداخلي. 6- خزايا الأقلام المأجورة والقنوات الموزورة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأصيكم ـ أيّها الناس ونفسي بتقوى الله سبحانه، فهي وصيّته للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء: 131].
أيّها المسلمون، إنّ هذه الحياةَ بقضِّها وقضيضِها ذاتُ متاعب جمَّة وشدائدَ ملمَّة، من عاش فيها فلن يخلوَ من مصيبةٍ تغشاه أو ينفكّ عن عجيبة تحيط به. والإنسان في معترَك هذه الحياة يجاهد فيها ليسعَد، ويتكفَّأ النوازل بكلّ ما أوتي من سبيلٍ ليحيا حياةً تليق بعمارته في الأرض، وكلُّ الناس في ذلك يغدو؛ فبائعٌ نفسَه فمعتِقها أو موبقُها، ي?أَيُّهَا ?لإِنسَـ?نُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى? رَبّكَ كَدْحًا فَمُلَـ?قِيهِ [الانشقاق:6].
وليس هناك وصفٌ لهذه الدنيا أحسن من وصفِ النبي فيما صحَّ عنه أنه قال: ((الدنيا ملعونة ملعونٌ ما فيها إلا ذكر الله وما ولاه وعالمًا أو متعلِّمًا)) [1].
وإذا كانت المدافعةُ في هذه الحياة تعَدُّ ضربًا من جِبلَّة الإنسان فإنَّ فئامًا من الناس يضعُفون أمام معتركات الحياة، وتنهدُّ قواهم حينما تغشَاهم غِيَر الزمن وصروفُه المتقلِّبة على كافّة مستويات الحياة بلا استثناء، فتراهم وكأنهم يُصعِدون ولا يلوون على أحد، والناصِحون المشفِقون يدعونهم في أُخراهم، لكنّهم آثروا أن يكونوا أُسَراء أوهام وأحلاسَ مخاوف وأقماع يأس واستكانةٍ واستجداء بالأجنبيّ عنهم، فلا تجد لمعاني الأملِ بَصيصًا في حياتهم، ولا ترى لوبيصِ الفأل الحسَن والسعي في الإصلاح للأفضل أثرًا في مفارِقهم، بل غايةُ ما عندهم الهلع لأقلِّ بادرة والتنازلُ لأوّل واردة والجزع عند الهمس والفَرَق عند اللمز، إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ ?لشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ ?لْخَيْرُ مَنُوعًا إِلاَّ ?لْمُصَلّينَ [المعارج: 12ـ 22].
إنَّ هؤلاء إنسٌ من بني الإنسان، غيرَ أنّ غائلةَ اليأس والقنوط والتخاذُل جعلت منهم حالاً أفقَدتهم الاعتزازَ الجادَّ بهوِيَّتهم وبخصائص القوّة والصبر والمصابَرة في الطبيعة البشريّة، فصارت حالهم تردُّدًا في العمل، واستحياءً في الانتماء، ووسوسةً في النتائج ولو كانت سارّة، حتى ضعُفت الهمَم وتقاصرت العزائمُ، فتسابق الآبقون إلى مناكبِ الحياة، وتخلّفَ معظمُنا وسطَ مهامِه المحَن ودروبها، ما كان سببًا أكيدًا في جعل البِحار تستقي من الركايا، ووصولِ الأصاغر إلى مرادهم حينما جلَس الأكابرُ في الزوايا.
عبادَ الله، إنَّ تداعياتِ الأحداث النازلة وممارسات الإكراه على ديارِ المسلمين مِن قِبَل أعدائهم ليست وليدةَ اليوم، إذ الابتلاءُ سنّة ماضية، بل الابتلاء ليس قاصرًا في الشرّ وحدَه إذ يقول تعالى: وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].
وليست المصيبةُ في الابتلاء لكونه سنّةً ربانية ماضية، وإنما المصيبة في كيفية التعاملِ السلبيّ معه، إذِ المفترض أن يكونَ موقفُ المؤمنين منه واضحًا جليًّا من خلال الإيمان بأنّه من عند الله، ثمّ الإدراك بأنه وإن كان ظاهره الشرّ إلا أنّه قد ينطوي على خيراتٍ كثيرة لمن وفّقه الله لاستلهام ذلك. ولا أدلَّ على مثل هذا من حادثةِ الإفك الشهيرة التي رُمي فيها عِرض سيِّد ولد آدم بأبي هو وأمّي صلوات الله وسلامه عليه، حيث يقول تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ جَاءوا بِ?لإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [النور:11].
فالسعيدُ مِن الناس من اقتبسَ الأملَ وسطَ هذه الزوابع، والكيِّس الفطِن هو مَن استخرج لطائفَ المنَح وسطَ لفائفِ المحَن.
فالغارَةُ الكاسِحة على ديار المسلمين قد أبرَزت لنا دروسًا ليست بالقليلة، كان من أهمِّها أنّ المسلمين مهما بلَغوا مِن المقام والرِّفعة وهدوء البال واستقرار الحال فإنهم معرَّضون لأيّ لون من ألوان الابتلاء، فعليهم أن لا يستكينوا إلى درجتِه ويطمئنّوا إلى مكانته، وأن لا يحكمَهم اليأس والقنوطُ في إبّانه، كما أنَّ توطينَ النفس على السرّاء دومًا سببٌ ولا شكّ في التهالُك عند القوارعِ التي تنزل بالمسلمين أو تحلّ قريبًا من دارهم، فيقع الانحراف ويضيع الأمَل بالله، وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ?للَّهَ عَلَى? حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ?طْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ?نْقَلَبَ عَلَى? وَجْهِهِ خَسِرَ ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةَ ذ?لِكَ هُوَ ?لْخُسْر?نُ ?لْمُبِينُ [الحج: 11]. فالفتنُ ـ عباد الله ـ هي التي تصدِّق دعوى الإيمان أو تكذِّبها، ولقد صدق الله إذ يقول: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يِقُولُ ءامَنَّا بِ?للَّهِ فَإِذَا أُوذِىَ فِى ?للَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ?لنَّاسِ كَعَذَابِ ?للَّهِ [العنكبوت: 10].
ثمَّتَ درسٌ مهمّ يبرز جليًّا إثرَ تلك التداعياتِ، ألا هو انكشافُ المندسِّين في الصفّ المسلم ممن هُم من بني جلدةِ المسلمين ويتكلّمون بلغتهم، الذين يُعرَفون بسيماهم، ويُعرفون في لحنِ القول، والله يعلم إسرارَهم، وهم في حقيقتهم أشياعٌ للعدوِّ الكاسح ولُدَّات، لا تبرز سرائرُهم إلاّ في الفتن والحروب، مما يستدعِي تنبيهَ المسلمين إلى أمرٍ هو من الأهمّيّة بمكان، إذ يتمثَّل في الاقتناع المبنيّ على الاستدلال الصريحِ بأنَّ الغارَة على ديار المسلمين لا يلزَم أن تنطلقَ من ميدانٍ خارجيّ فحسب، فيغضّ الطرف عن الميدان الداخليّ، إذ قد يؤتَى الحذر من مأمنه. ولا جرمَ عباد الله، فالذين جاؤوا بالإفكِ في عِرض النبيّ إنما كانوا من داخل الصفّ، وليسوا من خارجه. ومِن هنا يأتي تمحيص الصفِّ الإسلاميّ في الفتن كما ذكر سبحانه ذلك في غزوة أحد إذ يقول: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ يَوْمَ ?لْتَقَى ?لْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ ?للَّهِ وَلِيَعْلَمَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ ?لَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أَوِ ?دْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَـ?كُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَـ?نِ يَقُولُونَ بِأَفْو?هِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ وَ?للَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران: 166، 167].
ومن هنا ـ عباد الله ـ لا يبعِد النجعةَ من يرى أنَّ خطورةَ الإفساد من داخل المسلمين أشدُّ من الإفساد الخارجيّ، وأنَّ ظلمَ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً على النفس من وقع الحُسام المهنَّد.
ومَن قرأ كتابّ الله جلّ وعلا بفهمٍ وتدبّر علم الحكمةَ من ورود ذكر المنافقين في القرآن في أكثرَ من خمسة وثلاثين موضعًا، والذين حذَّر النبيّ من أمثالهم في آخرِ الزمان حينما سأله حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه قائلاً: يا رسولَ الله، إنّا كنّا في جاهلية وشرّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شرّ؟ قال: ((نعم)) ، فقلت: هل بعد ذلك الشرّ مِن خير؟ قال: ((نعم، وفيه دخَن)) ، قلت: وما دخَنه؟ قال: ((قومٌ يستنّون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرِف منهم وتنكر)) ، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شرّ؟ قال: ((نعم، دعاةٌ على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها)) ، فقلت: يا رسول الله، صِفهم لنا، قال: ((نعم، قومٌ من بني جِلدتنا ويتكلّمون بألسنتنا)) الحديث رواه مسلم [2] ، وفي لفظ له: ((وسيقوم فيهم رِجال قلوبُهم قلوبُ الشياطين في جثمان إنس)) [3].
هذه هي أوصافهم عباد الله، ولقد صدق الله إذ يقول فيهم: وَجَعَلْنَـ?هُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ?لنَّارِ وَيَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ لاَ يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَـ?هُم فِى هَذِهِ ?لدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَـ?مَةِ هُمْ مّنَ ?لْمَقْبُوحِينَ [القصص:41، 42].
وبعد: عبادَ الله، فإنّ ثمَّتَ درسًا مهمًّا يُستَقى وسطَ أعاصير الفتن، وذلك أنَّ استسلامَ بعض المسلمين لتبِعات الأحداث والانخراط في سِلك المتخاذلين أمامَها بين مُقلٍّ في ذلك أو مكثِر هو خطبٌ جَلل، إذ يخطئ أمثالُ هؤلاء حينما يرَون الشرَّ يداهِم بلاد المسلمين فينزلِقون إليه ويغرقون فيه، ظانّين أنّ بقاءهم وحدَهم لا معنى له وسطَ هذا الزّحام المتهافِت، كيف لا وقد وقعَ الجمهور فيه وولغوا من حَمَئه؟! وهم يحسبون أنَّ انتشاره في الناس كافٍ لتغيير حُكمه ورفع التبِعة عن مشتملِة، ويحسبون أيضًا أنَّ الوقوف أمامه بالنُّصح والتوجيه ما هو إلا ضربٌ من ضروب الوقوف أمام سيلِ العرم.
والحقُّ ـ عبادَ الله ـ خلافُ ذلك؛ إذِ المؤمنُ الحرّ هو مَن خرَق عاداتِ الناس، منتهِجًا نهجَ الصواب ولو كان في مجافاةِ الكثرة الكاثرة. فالحقُّ والباطل لا يُعرَف بكثرةِ السالكين فيه، إذ يقول سبحانه: وَمَا أَكْثَرُ ?لنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، ويقول أيضًا: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ?لأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ [الأنعام:116]. ولهذا بيّن سبحانه وتعالى أثرَ الاندفاع وراءَ الدَّهماء في الفتن والسَّير مع الغوغاء، وأنَّ ذلك لا يُعفي أحدًا من مسؤوليته، فقال سبحانه عن حادِث الإفك: لِكُلّ ?مْرِىء مّنْهُمْ مَّا ?كْتَسَبَ مِنَ ?لإثْمِ وَ?لَّذِى تَوَلَّى? كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور: 11].
ألا فاتّقوا الله أيّها المسلمون، ولتقبِلوا على الحياة وسطَ هذه الزوابعِ باعتزازٍ بالدّين وعزيمة وثَّابة وإرادة لا تلين، ولنتعوَّد النظرَ إلى الجانب المضيء في طريقنا، ولنفسِّر الأشياءَ تفسيرًا جميلاً يبعَث فينا الأمَل وينشر الرجاء بالله، ولنثِق ولنثِق ولنثِق بأنّ يدَ الله فوقَ أيدي المؤمنين مهما ادلهمَّت الأحداث وتكاثرتِ الخطوب، فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى? نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى? بِمَا عَـ?هَدَ عَلَيْهِ ?للَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفّارًا.
[1] أخرجه الترمذي في الزهد (2322)، وابن ماجه في الزهد (4112) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2797).
[2] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1847)، وأخرجه أيضا البخاري في الفتن (7084).
[3] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1847).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: فإنّه عطفًا على ما سبق ذكرُه قد ينشأ سؤالٌ في خَلَد البعضِ يحمِله على الاستفهامات التالية: هل مِن المعقول حقًّا أن يوجدَ في صفوف المسلمين من يقوِّض مسيرتهم أو يخدش بناءهم؟! أمِن المعقول أن يكونَ بين المسلمين من يجعَل من نفسِه تطوُّعًا معوَلَ هدمٍ لا يقلّ ضراوةً عن معاول أعداء الإسلام؟! أمِن الممكنِ حقًّا أن نصلَ إلى حالٍ نعاني فيها من بني جلدتِنا ما يفوق معاناتنا من أعدائنا؟!
فالجواب أن نعم، وليس هذا بمستغرب، كيف لا وقد حدَّث عنه النبيّ وهو الصادق المصدوق كما في حديث حذيفة الآنف ذكره. ولو لم يكن الأمرُ كذلك لما توعَّد سبحانه من يقَع في أتّون الإغواء والإضلال بين المسلمين بقوله: إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النور: 19].
فلا غروَ إذًا ـ عباد الله ـ أن تكونَ هناك أقلامٌ كالمأجورةِ جعلت مِن بَنان ممسكِيها أُجَراء لفكرٍ منقوص أو متطوِّعين لتعويق مسيرةِ الإسلام الخالدة، بَثّوا نُطفَ أفكارهم لإيلادِ أطفالِ دهاليز منفلّين لكلّ لاقط، يشكِّكون من خلالها في ثوابتِ الدين تارة، ويهمِزونها ويلمزونها تاراتٍ أخرى، يشوِّشون في ثوابتِ ديننا ومقوّماته بأحبارٍ أجنبيّة عنّا، شُغْل بعضهم الشاغِل الإزراءُ بموقف الشريعةِ تجاهَ المرأة، فسخِروا من الحجاب المفضي إلى العفاف، وأظهَروا الشماتة بقوامَة الرجل، ونسبوا أسبابَ تراجُع المسلمين وضعفِهم أمام أعدائهم إلى خلّل في مناهجهم الدينيّة، زاعمين أنّ الإصلاح لا يكون إلاّ في خلخلتِها وتهميشِها.
كما أنّ هناك قنواتٍ مرئيّةً جنَّدت نفسها من حيث تشعُر هي أو لا تشعر، وكِلا الأمرين معصيبة، نَعَم جنّدت نفسها في بثِّ ما مِن شأنه محوُ العفاف ولثمُ الحشمة ونشر الإثم عاريًا دونما استحياء أو مسؤولية، فجعلت في إذكاء التمازُج بين الفتاة والفتى في منتدياتٍ دولية خالية من القيود والحدود الشرعيّة، ليجعلوه نوعًا من أنواع السباق المحموم والشجاعة الساخرةِ بمقوّمات الحياة والشهامة والكرامة الإسلاميّة والعربية. تركوا أيتامَ فلسطين والعراق والشيشان وغيرها لا بواكيَ لهم، وهمَّشوا ثكالى المسلمين وأراملَهم، فلم يجدوا حلاًّ يواسون به جراحَهم إلا من خلال نشرِ الإثم والقِحَة والمروق من الفضيلة.
وإن تعجبوا ـ عبادّ الله ـ فعجبٌ ما تلاقيه تلك البرامج من رجعِ الصدى لدى الأغرارِ واللهازم من بني ملّتنا، في حين إنّك لا تجد من أهل العلم والإصلاح وهيئاتِ التربية والتوجيه ومنظّمات حقوق الإنسان ما يكشِف هذا الزيفَ المرئيَّ ويزيل اللثام عن أنيابه ويبيّن أضرارَه ومخاطره على الأجيال الحاضرة والأجيال الصاعدة، وممّا لا شكَّ فيه أنه بمثل هذا تسفُل النفس، ويعمّ الخلَل أوساطَ المسلمين، وتنتشر الحطَّة والدون، ويعظم الركون إلى الأهواء والأدواء.
ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين، والحذرَ الحذرَ أن نؤتَى مِن قبل أنفسنا ونحن لا نشعر، أو أن نستوردَ البلايا وسطَ ديارنا بحُرّ أموالنا ومحضِ أفكارنا، فإنّ الحلال بيّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات. ألا فإنَّ الحقَّ أبلج والباطل لجلج، وإنّ شرّ الدوابّ عند الله الصمّ البكم الذين لا يعقلون. فشريعة الله كالبيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟! فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ?لَّذِينَ يُبَدّلُونَهُ إِنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 181].
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله في ذلك بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون، فقال جلّ وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهمّ عن خلفائه الأربعة...
(1/3033)
القناعة بأهمية الصلاة والجماعة
فقه
الصلاة
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
21/1/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم نعمة الإسلام والإيمان. 2- أهمية الصلاة وفضلها. 3- جريمة ترك الصلاة والتهاون بها. 4- وجوب صلاة الجماعة. 5- المتخلفون عن صلاة الجماعة. 6- فضل المساجد وإتيانها. 7- تربية الأولاد على الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتَّقوا الله فإنّ تقواه أفضلُ مكتَسَب، وطاعته أعلى نسب، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيّها المسلمون، لقد أنعَم الله عليكم بنعمٍ سابغة وآلاء بالغة، نعمٍ ترفُلون في أعطافها، ومننٍ أُسدِلت عليكم جلابيبُها. وإنّ أعظمَ نعمةٍ وأكبرَ مِنّة نعمةُ الإسلام والإيمان، يقول تبارك وتعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَـ?مَكُمْ بَلِ ?للَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَـ?نِ إِنُ كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [الحجرات:16].
فاحمَدوا الله كثيرًا على ما أولاكم وأعطاكم وما إليه هداكم، حيث جعلكم من خير أمّةٍ أخرِجت للناس، وهداكم لمعالم هذا الدين الذي ليس به التِباس.
ألا وإنَّ من أظهرِ معالمِه وأعظمِ شعائره وأنفع ذخائره الصلاةَ ثانيةَ أركان الإسلام ودعائمه العظام. هي بعد الشهادتين آكَدُ مفروض وأعظم معرُوض وأجلُّ طاعةٍ وأرجى بضاعة، من حفِظها حفِظ دينَه، ومن أضاعها فهو لما سواها أضيَع، هي عمودُ الدّيانة ورأسُ الأمانة، يقول النبيّ : ((رأسُ الأمر الإسلام، وعمودُه الصلاة)) [1].
جعلها الله قرّةً للعيون ومفزعًا للمحزون، فكان رسول الهدى إذا حزَبه أمرٌ [2] فزع إلى الصلاة [3] ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((وجُعِلت قرّةُ عيني في الصلاة)) [4] ، وكان ينادي: ((يا بلال، أرِحنا بالصلاة)) [5] ، فكانت سرورَه وهناءَةَ قلبه وسعادةَ فؤادِه، بأبي هو وأمّي صلوات الله وسلامه عليه.
هي أحسنُ ما قصده المرءُ في كلّ مهِمّ، وأولى ما قام به عند كلِّ خطبٍ مدلهِمّ، خضوعٌ وخشوع، وافتقار واضطرار، ودعاءٌ وثناء، وتحميد وتمجيد، وتذلُّل لله العليِّ الحميد، يقول رسول الهدى : ((إنَّ أحدَكم إذا كان في الصلاة فإنّه يناجي ربّه)) متفق عليه [6].
أيها المسلمون، الصلاةُ هي أكبرُ وسائل حِفظِ الأمن والقضاء على الجريمة، وأنجعُ وسائل التربية على العِفّة والفضيلة، وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ?للَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].
هي سرُّ النجاح وأصلُ الفلاح وأوّلُ ما يحاسب به العبدُ يومَ القيامة من عمله، فإن صلَحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسَدت فقد خاب وخسِر. المحافظةُ عليها عنوان الصِدق والإيمان، والتهاون بها علامةُ الخذلان والخُسران. طريقُها معلوم، وسبيلُها مرسوم، من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافِظ عليها لم يكن له نورٌ ولا برهان ولا نجاة، وكان يومَ القيامة مع قارون وفرعونَ وهامان وأبيِّ بن خلف. من حافظ على هذه الصلواتِ الخمس ركوعهِنّ وسجودهن ومواقيتِهن وعلم أنهنّ حقٌّ من عند الله وجبت له الجنة.
نفحاتٌ ورحمات، وهِبات وبركات، بها تَكفَّر السيئات وترفَع الدرجات وتضاعَف الحسنات، يقول رسول الهدى : ((أرأيتم لو أنَّ نهرًا بباب أحدكم يغتسل فيه كلَّ يوم خمسَ مرّات، هل يبقى من درنه شيء؟!)) قالوا: لا يبقى من درنه، قال: ((فذلك مَثَل الصلوات الخمس؛ يمحو الله بهنّ الخطايا)) متفق عليه [7].
عبادةٌ تشرِق بالأملِ في لُجّة الظلُمات، وتنقذ المتردّي في دَرب الضلالات، وتأخذ بيد البائِس من قَعر بؤسه واليائس من دَرك يأسِه إلى طريق النجاة والحياة، وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ طَرَفَىِ ?لنَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ ?لَّيْلِ إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذكِرِينَ [هود:114].
أيّها المسلمون، إنّ ممّا يندَى له الجبين ويجعل القلبَ مكدَّرا حزينًا ما فشا بين كثيرٍ من المسلمين من سوءِ صنيع وتفريطٍ وتضييع لهذه الصلاةِ العظيمة، فمنهم التاركُ لها بالكلّيّة، ومنهم من يصلّي بعضًا ويترك البقيّة. لقد خفّ في هذا الزمانِ ميزانها وعظُم هُجرانها وقلّ أهلُها وكثُر مهمِلُها، يقول الزهري رحمه الله تعالى: دخلتُ على أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه بدمشقَ وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرفُ شيئًا مما أدركتُ على عهدِ رسول الله إلاّ هذه الصلاة، وهذه الصلاةُ قد ضُيِّعت. أخرجه البخاري [8].
أيّها المسلمون، إنَّ من أكبر الكبائر وأبين الجرائر تركَ الصلاة تعمُّدًا وإخراجَها عن وقتها كسَلاً وتهاوُنًا، يقول النبي : ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقَد كفر)) أخرجه أحمد [9] ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((بين الرجل والكفر ـ أو الشرك ـ تركُ الصلاة)) أخرجه مسلم [10]. وإنّ فوتَ صلاةٍ من الصلوات كمصيبةِ سلب الأموال والضّيعات وفَقد الزوجة والبنين والبنات.
أيّها الجمع، أصِخِ السَّمعَ لقول النبي : ((من فاتته صلاة فكأنما وُتر أهله وماله)) صححه ابن حبان [11].
وغضبُ الله ومقتُه حالٌّ على تارك الصلاة، يقول النبيّ : ((من ترك الصلاةَ لقي الله وهو عليه غضبان)) أخرجه البزار [12] ، ويقول جلّ في علاه: وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى? [طه:81]، ويقول رسول الهدى محذِّرًا ومنذِرًا: ((لا تتركنَّ صلاةً متعمِّدًا، فمن فعل ذلك فقد برئت منه ذمّة الله وذمّةُ رسوله)) أخرجه الطبراني [13] ، ويقول عبد الله بن شقيق رحمه الله تعالى: كان أصحابُ رسول الله لا يرونَ شيئًا من الأعمال تركُه كفر غير الصلاة. أخرجه الترمذي [14].
أيها المسلمون، إنّ التفريطَ في أمر الصلاة من أعظم أسبابِ البلاء والشقاء، ضَنكٌ دنيويّ وعذاب برزخي وعِقاب أخرويّ، فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا [مريم:59]، ويقول النبيّ في حديثِ الرؤيا: ((إنّه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلِق، وإني انطلقتُ معهما، وإنا أتينا على رجلٍ مضطجِع، وإذَا آخرُ قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه، فيثلغ رأسه ـ أي: يشدقه ـ ، فيتدهدَه الحجر ها هنا، فيتبع الحجَر فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصحّ رأسُه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثلما فعل المرّةَ الأولى)) ، قال: ((قلت لهما: سبحان الله، ما هاذان؟ فقالا ـ في آخر الحديث إخبارًا لرسول الله عمّا رأى ـ: أمّا الرجل الذي أتيتَ عليه يُثلغ رأسه بالحجر فإنّه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة)) أخرجه البخاري [15].
فيا عبد الله، كيفَ تهون عليك صلاتُك وهي رأسُ مالك وبها يصحّ إيمانك؟! كيف تهون عليك وأنت تقرأ الوعيدَ الشديدَ في قول الله جل وعلا: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ?لَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـ?تِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]؟! كيف تتّصف بصفةٍ من صفات المنافقين الذي قال الله عنهم: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ يُخَـ?دِعُونَ ?للَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ قَامُواْ كُسَالَى? يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]؟!
أيّها المسلمون، الصلاةُ عبادةٌ عُظمى، لا تسقُط عن مكلَّف بحال، ولو في حال الفزع والقتال، ولو في حال المرض والإعياء، ما عدا الحائض والنفساء، يقول تبارك وتعالى: حَـ?فِظُواْ عَلَى ?لصَّلَو?تِ و?لصَّلَو?ةِ ?لْوُسْطَى? وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـ?نِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ [البقرة:238، 239].
أقيموا الصلاةَ لوقتِها، وأسبغوا لها وضوءَها، وأتمّوا لها قيامها وخشوعَها وركوعَها وسجودها، تنالوا ثمرتَها وبركتها وقوّتها وراحتها.
أيّها المسلمون، جاءت الأدلّة الشرعيةُ الصحيحة الصريحة ساطعةً ناصعة متكاثرةً متضافرة على وجوب صلاة الجماعة على الرجال حَضرًا وسفرًا، يقول جل وعلا: وَأَقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ وَآتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَ?رْكَعُواْ مَعَ ?لرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، مَعَ المقتضيةُ للجمعية والمعيّة، ويقول تبارك وتعالى لنبيّه محمّد وهو في ساحة القتال وشدّة النِّزال: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ?لصَّلَو?ةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى? لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ [النساء102]، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (مَن سرّه أن يلقى الله غدًا مسلِمًا فليحافِظ على هؤلاء الصلواتِ حيث يُنادَى بهنّ، فإنّ الله شرع لنبيكم سُننَ الهدى، وإنّهنّ من سُنن الهدى، ولو أنكم صلّيتم في بيوتكم كما يصلّي هذا المتخلِّف في بيته لتركتم سنّةَ نبيكم، ولو تركتم سنةَ نبيّكم لضللتم، ولقد رأيتُنا وما يتخلّف عنها إلا منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتَى به يُهادَى بين الرجلين حتى يُقام في الصفّ) أخرجه مسلم [16].
يا شبابَ الإسلام، يا أصحابَ القوّة والفُتوَّة، هذا ابنُ أمّ مكتوم رضي الله عنه وأرضاه يُقبل على رسول الله ويقول: يا رسولَ الله، قد دَبَرت سنِّي ورقّ عظمي وذهب بصري، ولي قائدٌ لا يلايمني قيادُه إيّاي، فهل تجد لي رخصةً أصلّي في بيتي الصلوات؟ فقال رسول الله : ((هل تسمعُ المؤذّن في البيت الذي أنت فيه؟)) قال: نعم يا رسول الله، قال: ((ما أجدُ لك رُخصةً، ولو يعلَم هذا المتخلِّف عن الصلاةِ في الجماعة ما لهذا الماشي إليها لأتاها ولو حبوًا على يدَيه ورجليه)) أخرجه الطبراني في الكبير [17].
واشتدّ غضبُ رسول الله على المتخلِّفين عن جماعةِ المسلمين، فقال عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: ((لقد هممتُ أن آمر بالصلاة فتُقام، ثمّ آمر رجلاً يصلِّي بالناس، ثمّ أنطلِق معي برجال معهم حُزَم من حَطب إلى قومٍ لا يشهدون الصلاة، فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار)) متفق عليه [18] ، ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: (لأن تمتلئ أذُنا ابنِ آدم رصاصًا مُذابًا خيرٌ له من أن يسمعَ النداء ولا يجيب) [19].
أيّها المتخلِّف في بيته عن أداء الصلاةِ جماعةً في بيوت الله، اسمع لقولِ النبيّ : ((من سمع المناديَ بالصلاة فلم يمنعه من اتِّباعه عذر لم تُقبَل منه الصلاة التي صلّى)) ، قيل: وما العذرُ يا رسول الله؟ قال: ((خوفٌ أو مرض)) أخرجه أبو داود وغيره [20].
وتعظُم المصيبة وتكبر الخطيئةُ حين يكون المتخلِّف عن صلاةِ الجماعة ممّن يُقتَدَى بعمله ويُتأسَّى بفِعله، وهي أعظمُ خطرًا وأشدّ ضررًا حين يكون هذا المتخلِّف ممّن ينتسِب إلى العلم وأهله، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ما بال أقوامٍ يتخلّفون عن الصلاة، فيتخلَّف لتخلُّفهم آخرون، لأن يحضروا الصلاة أو لأبعثنَّ عليهم من يجافي رقابَهم) [21].
أيّها المسلمون، تلك أدلّةٌ ونصوص لاح الحقُّ في أكنافِها وظهر الهدَى في بيانها، ولقد أفصحَت الرسُل لولا صَمَم القلوب، ووضحتِ السُّبُل لولا كدَر الذنوب.
أيّها المسلمون، لقد كثُر المتخلِّفون في زمانِنا هذا عن صلاةِ الجماعة في المساجد، رجالٌ قادرون أقوياء يسمَعون النداءَ صباحَ مساء، فلا يجيبون ولا هم يذّكَّرون. ألسنتُهم لاغية، وقلوبهم لاهِية، رانَ عليها كسبُها، وضلّ في الحياة الدنيا سعيُها، قد انهمكوا في غوايتهم، وتغوّلوا في عمايتهم. التحفوا بسُبَّة الدهر، وتجلَّلوا بأخبث سَوأة وأشرّ، شُغِلوا عن الصلاة بتثمير كسبهم ولهوهم ولعِبهم، ولو كانوا يجِدون من الصلاة في المساجد كسبًا دنيويًّا ولو حقيرًا دنِيًّا لرأيتم إليها مسرعين ولندائها مذعِنين مُهطِعين، يقول رسول الهدى : ((والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدُهم أنّه يجد عرقًا سمينًا أو مِرماتين حسنتين لشهِد العِشاء)) متفق عليه [22].
أيّها المسلمون، إن الواجبَ على المسلمين ووُلاتهم وعلمائهم وأئمّتهم وأهلِ الحلّ والعقد فيهم تفقّدُ هؤلاء المتخلِّفين وأطرُهم على الجماعة أطرًا وقصرهم عليها قصرًا، فعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: صلّى بنا رسول الله يومًا الصبحَ فقال: ((أشاهدٌ فلان؟)) قلنا: نعم، ولم يشهَد الصلاة، ثم قال : ((أشاهد فلان؟)) قلنا: نعم، ولم يشهد الصلاة، فقال : ((إنّ أثقلَ الصلاة على المنافقين صلاةُ العشاء وصلاة الفجر، ولو تعلمون ما فيهما من الرغائب لأتيتموهما ولو حَبوًا)) أخرجه أبو داود [23].
يا عبدَ الله، يا مَن يأتي المساجدَ في فتور وكسَل ويقضي وقتًا قليلاً على ملَل، أما علمتَ أنّ المساجدَ بيوت الله وأحبُّ البقاع إليه جلّ في علاه؟! يقول النبي : ((المسجدُ بيتُ كلِّ تقيّ، وتكفّل الله لمن كان المسجد بيتَه بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله إلى الجنّة)) أخرجه الطبراني [24] ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((سبعة يُظلّهم الله في ظلِّه يومَ لا ظلّ إلا ظلُّه)) ، وذكر منهم: ((ورجلٌ قلبُه معلَّق بالمساجد)) متفق عليه [25].
فيا مَن يتوَانى ويتثاقل ويتساهل ويتشاغَل، لقد فاتك الخير الكثيرُ والأجر الوفير، يقول النبيّ : ((من غدا إلى المسجد أو راح أعدَّ الله له في الجنة نُزُلا كلّما غدا أو راح)) متفق عليه [26] ، ومن تطهّرَ في بيته ثمّ مضى إلى بيت من بيوت الله ليقضيَ فريضةً من فرائض الله كانت خطواته إحداها تحُطّ خطيئة، والأخرى ترفع درجة، وإنَّ أعظمَ الناس أجرًا في الصلاة أبعدُهم إليها ممشًى، ولا يزال قومٌ يتأخَّرون حتى يؤخّرهم الله، نعوذ بالله من الخذلان والخسران.
فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ?للَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِ?لْغُدُوّ وَ?لآصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـ?رَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَإِقَامِ ?لصَّلَو?ةِ وَإِيتَاء ?لزَّكَو?ةِ يَخَـ?فُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ?لْقُلُوبُ وَ?لأبْصَـ?رُ لِيَجْزِيَهُمُ ?للَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ وَ?للَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:36-38].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/231، 237)، والترمذي في كتاب الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (2616) من حديث معاذ رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (3548)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (1122).
[2] حزبه أمر أي: نزل به أمر شديد.
[3] أخرجه أحمد (5/388)، وأبو داود في الصلاة، باب: وقت قيام النبي من الليل (1319) من حديث حذيفة رضي الله عنه، وفيه محمد بن عبد الله الدّؤلي أبو قدامة قال عنه الحافظ في التقريب: "مقبول"، ومع ذلك فقد حسن إسناده في الفتح (3/172)، وحسّنه أيضاً الألباني في صحيح سنن أبي داود (1168).
[4] أخرجه أحمد (3/128)، والنسائي في عشرة النساء، باب: حب النساء (3939)، وصححه الحاكم (2/174)، والمقدسي في المختارة (4/367)، وابن حجر في الفتح (3/15)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (1809، 3291).
[5] أخرجه أحمد (5/364)، وأبو داود في الأدب، باب: في صلاة العتمة (4985، 4986) عن رجل من الصحابة، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (4171، 4172).
[6] صحيح البخاري: كتاب الجمعة (1214)، صحيح مسلم: كتاب المساجد (551) عن أنس رضي الله عنه.
[7] صحيح البخاري: كتاب مواقيت الصلاة (528)، صحيح مسلم: كتاب المساجد (667) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] صحيح البخاري: كتاب مواقيت الصلاة (530).
[9] مسند أحمد (5/346) عن بريدة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في ترك الصلاة (2621)، والنسائي في الصلاة، باب: الحكم في تارك الصلاة (463)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيمن ترك الصلاة (1079)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب"، وصححه ابن حبان (1454)، والحاكم (11)، وهو في صحيح الترغيب (564).
[10] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (82) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما نحوه.
[11] صحيح ابن حبان (1468) عن نوفل بن معاوية رضي الله عنه، وأخرجه الطيالسي (1237)، وأحمد (5/429)، وهو في صحيح الترغيب (577).
[12] أخرجه الطبراني في الكبير (11/294)، والبيهقي في الكبرى (2/309) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال المنذري في الترغيب (1/214): "رواه البزار والطبراني في الكبير وإسناده حسن"، وقال الهيثمي في المجمع (1/295): "فيه سهل بن محمود ذكره ابن أبي حاتم وقال: روى عنه أحمد بن إبراهيم الدورقي وسعدان بن يزيد، قلت: وروى عنه محمد بن عبد الله المخرمي، ولم يتكلم فيه أحد، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وأورده الألباني في ضعيف الترغيب (303). ورواه ابن الجعد (2336)، ومن طريقه اللالكائي في اعتقاد أهل السنة (1535) عن ابن عباس موقوفا.
[13] المعجم الكبير (24/190) عن أميمة رضي الله عنها، وأخرجه أيضا ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3447)، والحاكم (6830)، قال المنذري في الترغيب (1/216): "في إسناده يزيد بن سنان الرهاوي"، قال الهيثمي في المجمع (4/217): "وثقه البخاري وغيره، والأكثر على تضعيفه، وبقية رجاله ثقات"، وله شواهد كثيرة، ولذا حسنه الألباني في صحيح الترغيب (571).
[14] سنن الترمذي: كتاب الإيمان (2622)، وصححه النووي في المجموع (3/16)، والألباني في صحيح الترغيب (565).
[15] صحيح البخاري: كتاب التعبير (7047) عن سمرة بن جندب رضي الله عنه.
[16] صحيح مسلم: كتاب المساجد (654).
[17] المعجم الكبير (8/224) عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (2/43): "فيه علي بن يزيد الألهاني عن القاسم وقد ضعفهما الجمهور، واختلف في الاحتجاج بهما"، وقال الألباني في ضعيف الترغيب (234): "حديث منكر"، أي: بهذا اللفظ.
[18] صحيح البخاري: كتاب الخصومات (2420)، صحيح مسلم: كتاب المساجد (651) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[19] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/303).
[20] سنن أبي داود: كتاب الصلاة (551) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا الدارقطني (1/420)، والبيهقي في الكبرى (3/75، 185)، وصححه الحاكم (896، 897)، وفي سنده أبو جناب يحيى بن أبي حية قال ابن حجر في التلخيص (2/30): "ضعيف ومدلس وقد عنعن". وهو صحيح بدون تفسير العذر، انظر: الإرواء (551).
[21] ينظر من أخرجه.
[22] صحيح البخاري: كتاب الأذان (644)، صحيح مسلم: كتاب المساجد (651) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[23] سنن أبي داود: كتاب الصلاة (554) عن أبي بن كعب رضي الله عنه بنحوه، وأخرجه أحمد (5/140)، والنسائي في الإمامة (843)، وصححه ابن حبان (2056)، وقال المنذري في الترغيب (1/161): "وقد جزم يحيى بن معين والذهلي بصحة هذا الحديث"، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (518).
[24] المعجم الكبير (6/254) عن سلمان أنه كتب إلى أبي الدرداء، وأخرجه أبو نعيم في الحلية (6/176)، والبيهقي في الشعب (3/83-84)، قال الهيثمي في المجمع (2/22): "فيه صالح المري وهو ضعيف". وأخرجه البيهقي في الشعب (7/379) عن أبي الدرداء أنه كتب إلى سلمان، قال المنذري في الترغيب (1/138): "رواه الطبراني في الكبير والأوسط والبزار وقال: إسناده حسن، وهو كما قال"، وقال الهيثمي في المجمع (2/22): "رجال البزار كلهم رجال الصحيح". وأخرجه معمر في جامعه (11/96-97 ـ مصنف عبد الرزاق ـ)، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (1/214) عن صاحب له عن أبي الدرداء. وانظر: السلسلة الصحيحة (716)، وضعيف الترغيب (207).
[25] صحيح البخاري: كتاب الأذان (660)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1031) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[26] صحيح البخاري: كتاب الأذان (662)، صحيح مسلم: كتاب المساجد (669) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وأطيعوه، وراقبوه ولا تعصوه، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
أيّها المسلمون، اتقوا الله في أبنائكم قرّةِ عيونكم وتتابُع نسْلكم وذِكرِكم، فإنهم أمانةٌ في أعناقكم. مروهم بالمحافظة على الصّلوات وحضور الجُمَع والجماعات، رغِّبوهم ورهّبوهم، وشجّعوهم بالحوافز والجوائز، نشِّئوهم على حبِّ الآخرة، وكونوا لهم قدوةً صالحة، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه:132]، يقول رسول الهدى : ((مُروا أبناءَكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناءُ عشر سنين)) أخرجه أحمد [1].
واحذَروا ما يصدّهم عن ذكر الله وعن الصلاة من سائر الملهِيات والمغرِيات، وألحّوا على الله بالدعاء أن يُصلحَ أولادكم وأولادَ المسلمين أجمعين.
اللهمّ أقِرَّ عيوننا وأسعِد قلوبَنا وأبهج نفوسَنا بصلاح شبابنا وفتياتنا، اللهمّ اجعلنا وذرياتنا وشبابنا وفتياتنا، اللهم اجعلنا وذريّاتنا وشبابنا وفتياتنا من مقيمي الصلاة، اللهمّ وتقبل دعاءنا، اللهم مُنّ علينا بالأمن في البلاد والصلاح في الذريّة والأولاد والفوزِ يومَ المعاد، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين...
[1] مسند أحمد (2/187) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أبو داود في الصلاة (495)، والدارقطني (1/230)، والحاكم (1/311)، والبيهقي (2/228، 229)، وحسنه النووي في المجموع (3/10)، وصححه الألباني في الإرواء (247). وله شاهد من حديث سبرة بن معبد رضي الله عنه بإسناد حسن، أخرجه أحمد (3/201)، وأبو داود في الصلاة (494)، والترمذي في الصلاة (407) وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (ص77)، وابن خزيمة (1002)، والحاكم (1/258)، ووافقه الذهبي، وصححه النووي في المجموع (3/10). وفي الباب أيضا عن أبي هريرة وعن أنس رضي الله عنهما وإسناداهما ضعيفان.
(1/3034)
من للأقصى المبارك؟!
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
محمد أحمد حسين
القدس
21/1/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العولمة والغزو الاستعماري الجديد. 2- صورة مشرقة من عطاء المسلمين في التاريخ. 3- حاجة المسلمين للاستمساك بالقرآن الكريم. 4- خذلان المسلمين لإخوانهم في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره لقوله تعالى: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أما بعد: فيقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ ?لْمُؤْمِنِينَ ?لَّذِينَ يَعْمَلُونَ ?لصَّـ?لِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، في الوقت الذي تتسابق فيه أمم العالم على ترويج ثقافاتها وأساليب حكمها لشعوبها، وتحاول تعميم تلك الثقافات وهذه الأساليب من الحكم على شعوب العالم ودوله، تقف الأمة الإسلامية على مفترق الطرق، لا بل على هامش ما يجري من أحداث في هذا العالم، مع أن كثيرًا من هذه الأحداث تستهدف المسلمين وديارهم وثقافتهم ودينهم، ولعله من فظائع الأشياء أن يحاول القوي فرض ثقافته وأسلوب حكمه على الضعيف والمغلوب، ولم يبقَ في الوقت متّسع وفي القوس منزع أن يظلّ المسلمون بعيدين عن مجال التأثير في هذه الأحداث، وهم يملكون ما يقوِّم أحوالهم، ويحصّن أخلاقهم، ويجمع شملهم، ويرسم سبيل العزة وطرق النهضة لأمتهم، ويقربهم إلى استئناف نظام الحكم الإسلامي، هذا النظام الشامل لكل مناحي الحياة، والذي يحدّد صلة الإنسان بخالقه والكون والإنسان، فبهذا النظام الرباني أقام المسلمون دولتهم على مبادئ الحق والعدل والتسامح واحترام كرامة الإنسان، دون النظر إلى دينه وعرقه وجنسه.
فكان المسلمون بهذا النظام مثالاً لهبة الخالق ورحمته للعالمين، منهاج خلفائهم: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم"، ورسالة جندهم: "بعثنا الله لنخرج من شاء من العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام"، وبقيت أمتكم كذلك إلى أن نُحّي الإسلام عن سدّة الحكم وألغيت دولة الخلافة.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لقد اكتوت أمتكم بعد زوال الحكم الإسلامي بنار الاستعمار وظلم الاحتلال الذي قسم العالم الإسلامي وفق مصالحه إلى دويلات وإقليميات، تتقاذفها النعرات العرقية والنزوات الطائفية، بعد أن عاث فسادًا في مناهج التعليم، وأقصى المخلصين من أبناء الأمة عن الصدارة، وحارب كل من دعا إلى مقاومته أو نبذ أشكاله، وخرج من البلاد مخلفًا عليها صنائعه لتدخل في مرحلة الاستقلال.
وفي هذه المرحلة ترعرعت شعارات القومية والتقدمية والاشتراكية والعمل المشترك، وظهرت الهيئات الإقليمية كالجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وقد تراجعت كل تلك الشعارات وبان عوارها، وفقدت الأمة هيبتها، وأصبحت أوطانها إما محتلة، وإما برسم الاحتلال وفق إرادة الاستعمار.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، وفي هذه المرحلة الدقيقة من حياة الأمة لا زالت الأمة عاجزة أو حائرة في اختيار الطريق الذي ينقذها من أوحال التخلف، ويرسلها إلى بر الأمان بعيدًا عن مشاريع الإصلاح القادمة مع عسكر الاستعمار الحديث، وكأنها قدر محتوم لا تملك الأمة وشعوبها وحكامها الفرار منه.
ولنا أن نتساءل: أما آن لأمتنا ـ التي أنهكها البحث عن التقدم بتجربتها لكل وافد من خارج ثقافتها وأرضها ـ أن تعيد النظر مجددًا في مقومات وجودها، وتأخذ بكتاب ربها الذي يدعوها للتي هي أقوم، ويبشرها بالفلاح في الدنيا، والفوز في الآخرة؟!
إن هذا الهدى لا يحده الزمان ولا المكان، فما صلح عليه الأوائل كفيل بإصلاح الأجيال في هذا الزمان، حيث العقيدة الحية التي تطلق الروح من أسفار الوهم، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء من أجل الأمة.
إن هذا الهدى يقود للتي هي أقوم علاقات الناس بعضهم ببعض أفرادًا وأزواجًا وحكومات وشعوبًا ودولاً وأجناسًا، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الراسخة التي لا تتأثر بالهوى ولا تحكمها المصالح الآنية، إنها الأسس الإيمانية التي بينها القرآن وأقامها قيوم السماوات والأرض، هو العليم بخلقه فيما يصلح لهم في كل وقت وفي كل جيل، ويهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بكرامة الإنسان.
إن أمتنا التي تملك هذا الهدى لجديرة أن تبني كيانها وتصون عقيدتها وتحمي شعوبها وتفرض مكانها في هذا العالم الذي لا مكان فيه للضعفاء، يوم غابت عنه عدالة السماء وتقاذفته المصالح والأهواء.
ولله در القائل:
إني لأعلم أن دين محمد لا يرتضي للمسلمين هوانا
إن الخلود لمن يموت مجاهدا ليس الخلود لمن يعيش جبانا
جاء في الحديث الشريف عن أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله : ((إني على الحوض حتى أنظر من يرد عليّ منكم، وسيؤخذ ناس دوني، فأقول: يا رب، مني ومن أمتي! فيقال: إنك لا تدري ما عملوا بعدك، والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم)) ، أعوذ بالله أن نفتتن في ديننا أو أن نرد على أعقابنا. أو كما قال.
فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، يحب لعباده أن يعملوا لدينهم ودنياهم، حتى يفوزوا بنعم الله وينالوا رضوانه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أمرنا باتباع القرآن والعمل بهديه، وقال عليه الصلاة والسلام: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله)). اللهمّ صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت وسلمت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
وبعد: أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، عشية انعقاد القمة العربية أواخر هذا الشهر في تونس يزداد العدوان الإسرائيلي على شعبنا المرابط شراسة ودموية، في ظلّ صمت عربي واستهتار دولي، لا يرتفع صوته في وجه العدوان إلا على استحياء، كأن يوصي أن لا يُفْرط جيش الاحتلال في استعمال القوة الزائدة بين المدنيين الفلسطينيين الذين يدمّر مخيماتهم ويحصد أرواحهم. لقد كان هذا بعد أن حصد الاحتلال خمسة عشر شهيدًا في مخيمات غزة بينهم الأطفال والنساء، وبعد ذلك اقترف مجزرة في جنين كانت من شهدائها امرأة ترعى رضيعها، فهل كانت أم الرضيع تشكل خطرًا على الأمن الإسرائيلي؟!
إنه الاحتلال الذي يئس من السيطرة على شعبنا الصابر المرابط، ويئس من كسر إرادة هذا الشعب، راح يتخبط في ممارساته، فتارة يسرّع بناء جدار الفصل العنصري الذي لن يحقق الأمن، الذي سيسقط أمام إصرار شعبنا على نيل حقوقه، وتارة يعلن الانفصال عن غزة بإخلاء المستوطنات وسحب جيش الاحتلال، ولكنه يبحث عمن يضبط الأمن في الأرض التي ينسحب منها، فعن أمن من يبحث الاحتلال؟!
يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن شعبنا الذي بدأ نضاله منذ ما يزيد عن مائة سنة قادر على تصريف شئونه وحفظ أمن وطنه ومواطنيه، ولن يفتح مجالاً لذوي النفوس المريضة وعصابات السطو على أموال الشعب وأعراضه أن يُذهبوا تضحيات شعبنا في الوصول إلى الحرية واندحار الاحتلال.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن ما ينبغي أن يكون على جدول أعمال القمة البحث في الوسائل التي تحمي شعبنا من مجازر الاحتلال، وتعينه على الثبات والصمود والاستمرار في الحفاظ على أرضه وقدسه ومقدساته، فقد ندب هذا الشعب نفسه مدافعًا عن كرامة الإسلام والمسلمين، يدافع عن القدس التي يطوقها جدار العزل، ويفصلها عن سائر الأرض الفلسطينية، ويحول الاحتلال دون وصول المصلين إلى مسجدها الأقصى تحت ذرائع واهية، إمعانًا في إخلاء المسجد، بل والقدس من أهلها الشرعيين لتحقيق مخططاته في بناء الهيكل بعاصمة إسرائيل الأبدية على حد زعم الاحتلال.
ومن هذا المنطلق نهيب بإخوتنا في هذه المدينة المقدسة بضرورة التمسك بعقاراتهم وإعمارها والسكن فيها، وعدم الوقوع في براثن سماسرة السوق الذين يعملون على تسريب الأرض والعقارات للمستوطنين ولمدارسهم الدينية لتكثيف الاستيطان في قلب هذه المدينة المقدسة.
فكونوا ـ أيها الأهل، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج ـ على مستوى المسؤولية في المحافظة على أرضكم وقدسكم ومقدساتكم ومقدرات أمتكم إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً، ولينصرنّ الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز.
(1/3035)
تربية الأولاد
الأسرة والمجتمع
الأبناء
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
21/1/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة صلاح الذرية. 2- صلاح الذرية مطلب الأنبياء والصالحين. 3- ضرورة الدعاء للأولاد. 4- التربية بالقدوة الحسنة. 5- تعاهد الأولاد ومناصحتهم. 6- ثمرات صلاح الأولاد. 7- ضلال المجتمعات الكافرة وانتشار الجريمة فيها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، صلاحُ الأبناء والبنات أمنيّةٌ للآباء والأمهات، صلاح الأولاد ذكورهم وإناثِهم نعمةٌ عظيمة ومنّة جليلة من رب العالمين. ما أسعدَ المسلم وهو ينظر إلى أولاده قد هداهم الله الطريقَ المستقيم ورزقهم الاستقامة على الدين والهدى، يحبهم ويحبونه، يودّهم ويودّونه، إن أمرهم أطاعوه، فهم يبرّون به، ويطيعونه، وينفّذون أوامره في طاعة الله، قرّت بهم عينه، وانشرح بهم صدرُه، وطابت بهم حياته، تلك نعمة عظيمة من الله. أولادٌ رُبُّوا تربية صالحةً، هُذِّبت أخلاقهم، حسُن سلوكهم، طابت ألفاظهم، حسُنت معاملتهم لربهم قبل كل شيء، ثم للأبوين، ثم للإخوان والجيران والأرحام والمسلمين عمومًا. رُبُّوا على مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال، فصاروا عونًا للأبوين على كلّ ما أهمّهم من أمر دينهم ودنياهم.
أيّها المسلمون، ولعظيم هذا الشأن نرى أنبياءَ الله وخيرته من خلقه يسألون الله لذريَّتهم الصلاح والهداية، قال تعالى عن الخليل عليه السلام وهو يدعو ربَّه بتلكم الدعوات: رَبّ ?جْعَلْنِى مُقِيمَ ?لصَّلو?ةِ وَمِن ذُرّيَتِى [إبراهيم:40]، أي: اجعل من ذريتي من يصلي ويزكي، وها هو زكريا عليه السلام ينادي ربه قائلاً: رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ?لدُّعَاء [آل عمران:38]، وها هم المؤمنون كما أخبر الله عنهم أنهم يقولون في دعائهم: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْو?جِنَا وَذُرّيَّـ?تِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ?جْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، وها هو الرجل الصالح الذي أنعم الله عليه بنعمه يتذكَّر نعم الله عليه ويقول شاكرًا لنعم الله شاكرًا لآلائه وإفضاله: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ?لَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى? و?لِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـ?لِحًا تَرْضَـ?هُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّى مِنَ ?لْمُسْلِمِينَ [الأحقاف:15].
أيها المسلم، فأولادك من ذكورٍ وإناث بأمسِّ الحاجة إلى دعوات منك إلى الله أن يهديَهم صراطه المستقيم. الجأ إلى فاطر الأرض والسموات، وادعوه آناء الليل وأطراف النهار أن يصلحَ لك عقِبك، وأن يعيذهم من مكائد شياطين الإنس والجن، وأن يحفظهم بالإسلام، ويرزقهم الثباتَ والاستقامة عليه، فتلك قرة أعين المؤمنين، وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَ?تَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَـ?نٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَـ?هُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء كُلُّ ?مْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ [الطور:21]. فالآباء يوم لقيامة قد تعلو منزلتهم وإن ضعُفت بأعمالهم إكرامًا من الله للأبناء الصالحين، وقد يرفع الله منزلة الأبناء إكرامًا للآباء الصالحين إذا كان الإيمان جامعًا للجميع.
أيها المسلم، أولادُك بأمسِّ الحاجة إلى دعائك، وبأمسِّ الحاجة إلى رعايتك، لتُربِّهم تربيةً صالحة، يسعدون بها في حياتهم وآخرتهم، وتسعَد أنت أيضًا بذلك، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]. ومع دعاء الله، ومع الالتجاء إلى الله، ومع التضرُّع بين يدي الله فاعلم ـ أيها الأب الكريم ـ واعلمي ـ أيتها الأم الطيبة ـ أن تربيةَ الأولاد وصلاحَهم واستقامتهم بعد إرادة الله متوقفٌ على حركاتِ وسكنات الأبوين، على أقوالهم وأفعالهم، فالأبناء والبنات من الصِّغر يرقبون أخلاقَ الأبوين ويرقبون كلامَهم وتصرّفاتهم كلَّها، يرقبون أحوال الأبوين، فالأبناء والبنات إن تربَّوا في أحضان أب يخاف الله وأمّ تخشى الله نشؤوا على ذلك الخلق الكريم.
أيها الأب الكريم، إنَّ أولادك مرآةٌ يعكسون أخلاقك وأعمالك، إن رأوك تعظِّم الله وتخافه عظَّموا الله جل وعلا، إن رأوك تخشى الله وتتَّقيه خَشَوا الله واتقوه في أعمالهم بتوفيق من الله، إن رأوك ذا محافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها، إن رأوك على هذه الصفة تأسَّوا بك فحافظوا عليها، إن رأوك معظِّمًا لأبيك وأمك فإنهم سيعاملونك كذلك، إن رأوك تجالس ذوي التقى والصلاح بعيدًا عن أهل الإجرام والإفساد نفروا من تلك الشلل الفاسدة والمجتمعات الآسنة، إن رأوا منك كلمات طيبةً وألفاظًا حسنة كانت ألفاظهم كذلك، وإن سمعوا منك السِّباب واللعان والقبح والفحش في الأقوال سمعتَ منهم مثل ذلك وأشدّ.
أيها الأب الكريم، لا بدّ من عظةٍ للأبناء ونصيحة لهم ورسم الطريق الصالح ليسلكوه، اسمع الله يحدثنا عن لقمان الحكيم: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ ي?بُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِ?للَّهِ إِنَّ ?لشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، يحذِّره من شركٍ بالله، ويأمره بإخلاص الدين لله، ثم يوجِّهه للأخلاق الكريمة: ي?بُنَىَّ أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ وَأْمُرْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?نْهَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَ?صْبِرْ عَلَى? مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ?لأمُورِ [لقمان:17]، ويحذِّره من الأخلاق السيئة: وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى ?لأرْضِ مَرَحًا إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَ?قْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَ?غْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ?لأصْو?تِ لَصَوْتُ ?لْحَمِيرِ [لقمان:18، 19]، فهو يحذره من الكِبْرِ والعُجْبِ والتعالي على الناس بكل أحواله، ويبين له أيضًا أن الله مراقب عليه عَالمٌ بسره وعلانيته: ي?بُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ أَوْ فِى ?لأرْضِ يَأْتِ بِهَا ?للَّهُ إِنَّ ?للَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16]، تلك موعظةٌ عظيمة وجَّهها لقمان الحكيم لابنه، بينها الله لنا في كتابه، لنتأسى بتلكم الأخلاق وبأولئك الأقوام في أقوالهم وأعمالهم.
أيّها المسلم، الأبناء والبناتُ أمانة في العنق سيسألك الله عنهم يوم القيامة، إن رعيتهم حقَّ الرعاية أصبت، وإن خُنت الأمانة وضيَّعت فالله لا يحبّ الخائنين.
أيها المسلم، عوِّد الأبناء والبناتِ على كلِّ خير، عوّد الأولاد على المحافظة على المسجد، عوِّدهم على إقام الصلاة والعناية بها، حُثَّهم على مكارم الأخلاق، حثَّهم على البر والصلة، حُثّهم على إفشاء السلام وطيب الكلام، رغِّبهم في حسن المعاملة، حبِّب الصدق إلى نفوسهم، وكرّه الكذب إلى نفوسهم، حبِّب إليهم الأقوال الطيبة، وكرّه لهم الأقوال البذيئة، علّمهم حسنَ التعامل مع الآخرين؛ مع الأهل ومع الجيران والأرحام، حثّهم على المكارم والفضائل لينشؤوا النشأة الصالحة الطيبة المباركة.
أيها المسلم، هؤلاء الأولاد متى أحسنتَ تربيتهم نِلتَ بهم السعادة في الدنيا والآخرة، واسمع نبيَّك إذ يقول: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاَّ من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفَع به، أو ولد صالح يدعو له)) [1]. فأنت في ظلمات الألحاد تصل إليك دعواتُ أولئك الأبرار الأخيار، يسألون الله لك ويدعون الله لك، وأنت في لحدك قد انقضى عملك، وأصبحت فريدًا في لحدك وحيدًا، تتمنَّى مثقال ذرة من خير، وإذا الدعوات الصادقة الصادرةُ من الأبناء والبنات الذين طالما غرستَ الفضائل في نفوسهم، وحبَّبت الإيمان إلى قلوبهم، فدعواتهم تصعد إلى الله لك بالمغفرة والرضوان والتجاوز، فما أنعمها من حالٍ وما أطيبه من فضل، هكذا التربية الصالحة ونتائجها الحميدة وثمارها المباركة.
فلنعتنِ ـ إخوتي ـ بأبنائنا وبناتنا، ولنبذل الجهدَ قدر الاستطاعة وربّك حكيم عليم، يهدي من يشاء، ويضلّ من يشاء، لكن على العبد بذلُ السبب، عليه القيام بالواجب، عليه أن يطهِّر بيته مما يخالف شرع الله. كيف يطمع في صلاح الأبناء والبنات من ترك البيتَ لا خير فيه، أو أدخل فيه المعاصي والفجور والمجون وشربَ المسكرات والعياذ بالله وترويج المخدرات والجلوس مع من لا خير فيهم ومن هم أهل الشقَاء والبلاء؟!
فاحذر ـ يا أخي ـ تلك الأمور السيئة، طهِّر بيتك ومجتمعك، طهِّر مجالسك من السوء، لينشأَ الأولاد والبنات على هذه العفة والصيانة والكرامة.
أيتها الأمّ المسلمة، ربي البناتِ التربية الصالحة، ربيهم على الأخلاق، ربي بناتك تربيةً صالحة، أعدِّيهن للمستقبل الطيّب، وربيهن على الأخلاق والمكارم، وأبعديهن عن السوء والسفور وما لا خير فيه. حذِّروا الأولادَ والبناتِ من بعض القنواتِ الفاجرة الظالمة التي تنشر السوءَ والفساد، وتحارب الأخلاق والفضيلة، وتبعد الأمة عن دينها وعن أخلاق إسلامها.
فلنتَّق الله في أنفسنا، ولنتّق الله في أولادنا، ولنتعاون جميعًا على البر والتقوى. أسأل الله أن يصلح لنا ولكم العاقبة، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن الشيطان وشركه، وأن نقترف على أنفسنا سوءًا أو أن نجره إلى مسلم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الوصية (1631) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، إن الله يقول في كتابه العزيز: إِنَّا عَرَضْنَا ?لأمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72]. فالظلم والجهل متمكِّن في الإنسان، لا يرفع الجهلَ إلاَّ علم، ولا يرفع الظلمَ إلاَّ الإيمان الذي يدعو إلى العدل.
إنَّ البشر إذا فقدوا شرع الله ضلّوا سواء السبيل، وإذا خلَوا من التمسّك بالدين صاروا شرّ الخلق وأسوأهم، يقول الله جل وعلا: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ?لْجِنّ وَ?لإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَ?لأنْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْغَـ?فِلُونَ [الأعراف:179]، ويقول جل وعلا: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَ?لأنْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44].
فبيَّن أن الذين فقدوا شرعَ الله هم شرٌّ حتى من البهائم، البهائم أهدى منهم سبيلا. هذا الإنسان الذي فقد الدين فقدَ تعاليمَ الإسلام عاد قاسيَ القلب، غليظ الطبع، لا يبالي بأيِّ إنسان كائنًا من كان. لماذا؟ لأنه في حياته لا دين يركن إليه، ولا مبدأ يؤمن به، بل هو مجرِم بطبيعته، ظالم بنفسه، سيئ فقَد الإيمان، فقدَ الدين، فكلُّ شر وبلاء هو مصدره، وهو منطلق من ذلك؛ لأن الإسلام هو الذي يلين القلوب، ويجعلها تحترم الدماء والأموالَ والأعراض، لكن فاقد الدين لا قيمة للإنسان عنده، الدماءُ وسفكها قلَّت أو كثرت أمر عادي وطبيعي، لماذا؟ لأن هذه الفئة لا علاقةَ لها بالإسلام، إذًا فالإجرام مهما تضاعف وتعاظم فليس غريبًا أن يصدر منهم.
أيها المسلمون، تسمعون دائمًا وتنقل الأخبار لنا أحداثًا جسامًا ودماءً تراق ودمارًا كثيرًا وشيئًا يهول الإنسان ويقضّ مضجعه؛ من دماء تسفك بلا مبرِّر ولا سبب، لماذا؟ لأن هذه الأمة هي التي صنعت أسلحةَ الدمار، وأنشأتها بنفسها، فعاد شرُّها على مجتمعها، وعاد سلاحها على نحورها. صنعت أسلحةَ الدمار، وتنافست في صنع أسلحة الفتك بالبشرية، وقامت شركاتُ التسليح تروِّج لمنتجاتها وأسلحةِ دمارها بين العالم، بل تجعلها رخيصةً بمتناول أيِّ فرد، وتربي أجيالاً على هذا الإجرام، تربي فئاتٍ على هذا الإجرام وعلى هذا الفساد، لا يهنأ لها عيش حتى ترى الفساد منتشرًا في الخلق، والله جل وعلا قال عن أعدائه اليهود: وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَادًا وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]، فكلّ فساد وظُلم إنما مصدره عندما يُفقد الإيمان، الإيمان الصحيحُ الذي بعث الله به محمدًا هو الدين الذي أرسى دعائمَ العدل، وبسط الرحمةَ والخير، فإن الله قال لنبيه: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]، فالرحمةُ التي بُعث بها محمد هي الرحمة التي عاش الناس في ظلالها في عدل الإسلام وأمان الإسلام، الدماءُ والأموال والأعراض محترمة بكل الوجوه، لماذا؟ لأن دين الإسلام دين الرحمة، دينُ العدل، دين الخير، دينٌ أهله رقةٌ في قلوبهم ومحبة الخير لأنفسهم وللبشرية أجمع، لكن هذا العدوان والظلم إنما مصدره من أمة ضائعة لا دينَ ولا شرع يحكمها، فهي ضالة مضلَّة، هذه أسلحة الدمار التي صنعها الأعداء وسخَّروها وتنافسوا في إبداعها وتسابقوا أيّهم الذي يصنع سلاحًا مدمِّرًا، وأيهم الذي ينشر الجريمة، وأيهم الذي يفتك بالبشرية، وأيهم المستطيع لأن [يجعل البشر] مجالاً لتدريب الأسلحة، واختبار لقوتها من ضعفها، وتأثيرها من عدمه.
هكذا الأعداء، ولهذا نبيّنا أخبرنا بأنّ هذا الأمر سيقع في آخر الزمان، عندما يُرفع العلم ويثبت الجهل ويكثر الهرج أي: القتل [1] ، وأخبرنا نبينا : في آخر الزمان يقتل القاتل، لا يدري فيم قتَل، ولا يدري المقتول لماذا قُتِل [2] ، لماذا؟ لأنها شرور عظيمة عامة، القاتل الذي ينفِّذ ما أمِر به لا يدري لأيِّ سبب فعل، والمقتول الذي ذهب لا يُدْرَى لأيِّ شيء ذهب. إنَّما هي فتنة، وإنما هي مصائب، وإنما هي بلايا، إنما هي أحداث جسام، عندما يسمعها الإنسان ويتصوّرها يرى العجب العُجَاب، في دول تدَّعي الحضارة والرقيَّ في نفسها، لكن الله حكيم عليم فيما يقضي ويقدر.
إنما المسلم لا يرضى بذلك، ولا تقرُّ عينه بذلك؛ لأنه يعلم أن دينَ الإسلام يرفض كلَّ الإجرام على اختلافه، وعلى وقوعه في أي البشرية كان، إذ الظلم في الإسلام محرَّم. ديننا دينُ الإسلام لم يكن سفّاكًا للدماء، ولا حريصًا على ذلك، بل كان حريصًا على حقنِ الدماء ما وجد لذلك سبيلا، كلُّ ذلك لأن دين الإسلام دين الرحمة، دين العدل، دين الخير، الدين الذي يصلِح البشرية في حاضرها ومستقبلها.
عندما فقدت معظمُ البشرية هذا الدينَ وهذا النور العظيم رأينا ما وقع، ونعوذ بالله من الشرور الآتية والمستقبلة. فإن المسلم حينما يتأمّل هذه الجرائم الشنيعة يعلم أن هناك فئةً من الناس قاسية قلوبهم، غليظة طباعهم، فاسدًا تصوّرُهم، إنما يطمئنون ويرتاحون عندما يدبِّرون هذه المؤامرات الدنيئة، وعندما تقع هذه الجرائم الكبيرة التي يذهب ضحيَّتها في لحظة من اللحظات مئات من البشر بلا سببٍ ولا مبِّرر ولا داعي، لكنها والعياذ بالله دليل على عُمق الجرم في النفس، وبعدهم عن الهدى والخير.
شريعةُ الإسلام التي عاش المسلمون في ظلّها قرونًا عديدة كان العدل والرحمة والخير يسود البشرية، فالدماء محترمة ((لا يحَلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) [3] ، وأن من قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن حافظ على حياة نفس واحدة فكأنما أحيا الناسَ جميعًا، فاحتُرمت دماء الأمة مسلمِها ومعاهَدها، احترِمت في الإسلام وروعيَت حقوقُ البشرية جمعاء، هكذا عدالة الإسلام، وهكذا حقوق الإنسان في الإسلام، كلُّها الخير والعدل والهدى، أما ما نسمعه الآن وما تحمِله لنا وكالات الأنباء من هذه الجرائم المتعدِّدة التي أصبح الإنسانُ لا يأمن في جوّ ولا بحر ولا أرض إنما هي والعياذ بالله نتيجة تلك القلوبِ القاسية المجرمة الآثمة التي لا ترتبط بأيّ دين، ولكن تريد بثَّ الفساد في العالم، أعاذنا الله وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وطهَّر مجتمعات المسلمين من كلِّ سوء وحفظهم من كلّ بلاء، إنه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمد امتثالاً لأمر ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في العلم (85)، ومسلم في الأيمان (157) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في الفتن (2908) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الديات (6878)، ومسلم في القسامة (1676) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(1/3036)
البرامج الغربية المعرَّبة وصناعة نجوم الضياع
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
14/1/1425
سليمان بن مقيرن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحديات تواجهها الأمة. 2- الغزو من الداخل. 3- برنامج ستار أكاديمي. 4- أهداف هذا البرنامج وأمثاله. 5- مخاطر هذه البرامج ومفاسدها. 6- العلاج وطريق الخلاص.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، إن من أبرز مراكز التحدي التي تواجه الأمة بمكوناتها الحضارية ما أتيح لها في هذه الأزمنة المتأخرة من تقنية البث الفضائي، وهو في حقيقته نعمة لو استغل في الخير، ولكنَّ نظرةً سريعة في تحركات هذه الفضائيات يتيح لنا معرفةً واضحةً لحقيقة الاتجاه الذي تسير فيه، وهو اتجاه يصطدم في جانب كبير منه مع توجهات الأمة وقيمها وثوابتها، ولو لم توقظ في ضميرك إلا خلية واحدة لاكتشفت أن كثيرًا مما يبث عبر الفضاء العربي إنما هو تأكيد للتفاهة وتكريس للتبعية للغرب، وقد كنا نظن أن الغزو الثقافي سيأتي على يد غيرنا من أعدائنا الذين يتربصون بنا في الخارج، وإذا نحن نفاجأ مع كل أسف بما لم يكن في الحسبان، وهو أن التسابق في عالم الإفساد بما فيه إفساد القيم والأخلاق جاء من قنوات عربية صرفة، قنوات عربية التمويل واللغة والإخراج والممثلين والمخططين، ولا أدل على ذلك من هذه الموجة العارمة من البرامج الغربية المعرَّبة، والتي تهدف كما يقولون إلى صناعة النجوم، وتنسب إلى تلفزيون الواقع، والتي لا تحتاج إلى إعداد ولا تحضير، وإنما تعتمد اعتمادًا كليًا على مخاطبة الغرائز والعواطف واستنهاض الفضول لدى المشاهد، وذلك من خلال تسليط البث على لحظات اختلاء محرَّم بين رجال ونساءٍ يجمعهم صفة التفاهة وعدم البراءة، يقوم اجتماعهم من أوله إلى آخره على الفوضى الأخلاقية والتحلل من ضوابط الإسلام والقيم والعادات والتقاليد التي نشأت وتربت المجتمعات العربية عليها، ثم وضعوا أرقامًا للهواتف ليتصل بهم الشباب والشابات ليصوتوا على أفضل نموذج من هؤلاء النجوم في عالم الضياع، وهذا أمر مهم جدًا عند صاحب القناة؛ لأنه يحقق له الهدف الآخر من هذه البرامج وهو المال.
ولعلي أبادر إلى بيان الأهداف الحقيقية لمثل هذه البرامج فأقول: أول ما يجب أن نعرفه هو أن هذه البرامج لا علاقة لها من ناحية الأهداف لا بصناعة النجوم، ولا باكتشاف المواهب، ولا غير ذلك، وليس لها إلا هدفان رئيسان عند من يقوم بعرضها وتسويقها:
الهدف الأول: لا أجد في بيانه عبارة أبلغ ولا أروع ولا أخصر من عبارة القرآن، وهو: إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا. إن الإنسان لو أعمل ذرة واحدة من عقله لاكتشف أن الهدف الرئيس من هذه البرامج هو إشاعة الفاحشة في المؤمنين، وإرادة الميل لأمة سارت في منهجها على صراط مستقيم. وليس شيء أدل على ذلك من مناخ الاختلاط بين أولئك الشباب، والذي حرصت عليه هذه القنوات، ثم تشجيعُهم على التفاعل البيني وكسر الحواجز، ثم يضيفون على ذلك الملابس الفاتنة للفتيات، مع التشجيع وغض الطرف عن حالات الالتماس الصريح بين هؤلاء المختلطين بالضم والقبلات والنظرات والغمزات والضحكات، ثم النقل الفضائي الموجه على مدار الساعة، وهذه الأمور لا تدع مجالاً للشك في أن الأمر ما هو إلا إشاعة للفاحشة في الذين آمنوا، وليس هناك أهداف مجردة، وإنما هو مشروع تقويضي لمكتسبات الأمة، يمثل فيها أولئك الشباب المشارك الطُّعمَ، والشباب المشاهد الهدف.
الهدف الثاني: تحقيق المكاسب المالية الكبيرة والسريعة بأعمال غير مكلفة دنيويًا، وإن كانت تكلفهم كثيرًا عندما يقفون عند رب نهى عن الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، وضاعف العقوبة على دعاة الضلال.
وأما كيف يحققون هذه المكاسب؟ فعن طريق فتح اعتماد خطوط الهاتف في كل دولة والحصول على الأرقام، وبعدها يتم اقتسام عوائد المكالمات بين فاتح اعتماد الخط وهو القناة وبين مقدم الخط وهو شركة الاتصالات، وهكذا تفنن أصحاب هذه الفضائيات في الطريقة التي ينظفون بها جيوب الجمهور، ولا عزاء للمتصلين المغفلين والذين يدفعون فواتير هواتفهم لهذه القنوات.
والذي يدلك على صحة هذا الكلام الحرص المستميت من هذه القنوات أن توجد أفرادًا من كل الدول ليناصر التافهون من كل دولة صاحبهم، وتضمن أكبر عدد ممكن من الاتصالات التي تعود عليها بالربح الوفير.
معاشر المسلمين، إن ما نشهده اليوم من الولادات المتتالية لأمثال هذه البرامج في وقت تشهد الأمة فيه مواجهة تاريخية مع أعدائها يعتبر دليلاً صارخًا على خيانةٍ جليةٍ من بعض القائمين على هذه الفضائيات، وما هي إلا طعنة غادرة توجه للشعوب العربية من الخلف، وإذا كان اليهود يعبدون المال ويتاجرون في المحرمات دون اهتمام بالمتضررين ولو كانوا من أهلهم فإن النبي أخبر كما في الصحيحين أن في الأمة المحمدية من سيتشبه بأهل الكتاب في كل شيء، حتى ولو كان العقلاء يتنزهون منه، بل حتى ولو ترك الآدميون من أهل الكتاب بيوتهم العامرة وقصورهم الفارهة وسكنوا حجر ضب لوجد في أمة محمد من يحاكيهم في سكنى جحر الضب، بل قال في رواية الحاكم: ((وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه)) ، وما هذه البرامج الهابطة إلا مصداقًا لما أخبر به المصطفى ، وهي محض تقليد مقيت للإعلام الغربي، والذي يشتكي منه عقلاؤهم ومفكروهم، فكيف بأمة الفضيلة والعفاف؟!
أيها المسلمون، تشتمل هذه البرامج على مخاطر عظيمة على أجيال الأمة الصاعدة، والتي تعقد الأمة عليها خناصرها وتعلق بها آمالها، ويتحتم علينا بيان هذه المخاطر العظيمة لأن هذه الفضائيات قد غزت كثيرًا من البيوت، وهذه البرامج اكتسبت من المشاهدين من الجنسين شيئًا كبيرًا، فوجب التحذير منها، لأنها مدار الحديث عند كثير من الشباب وجمع غفير من الفتيات، بل إن الكثير من المعلمات والمديرات والمسؤولات يعانين من هذه الظاهرة المنتشرة بين الطالبات، وكل واحدة تروي القصص الكثيرة عن الطالبات، ولذا وجب التنبيه والتحذير.
فمن مخاطرها أولاً: هذه البرامج تعتمد على أسلوب سحق الفضيلة والأخلاق الكريمة في نفوس الشباب والبنات، وتهدم المفاهيم الصحيحة عندهم، وتزيل حاجز النفرة بين المرأة والرجل الأجنبي عنها، وهي تختزن رسالة إعلامية موجهة بعناية، وهدفها الرئيس تنمية الاندماج بين الجنسين، وإشعار النشء أن لا إشكال في بناء العلاقات والصداقات بين الجنسين، وأن قضية تحسّس الفتيات من الفتيان وطقوس الفصل بين الجنسين والحدود في علاقاتهم هي أمور لا صحة لها، ومع كثرة مشاهدة الشباب والفتيات لهذه الرسالة الإعلامية الخطيرة يألفونها، ثم قليلاً قليلاً يعتاد المشاهدون على رؤية الحرام, ويعايشونه لحظة بلحظة، ورويدًا رويدًا حتى يعتادون على العيش بنفس الطريقة التي تقدم لهم، وهم بهذه الطريقة السافلة يجعلون الشباب والفتيات يقولون في أنفسهم: كل هذه القبل والرقصات والضم والاختلاء الآثم والمشاهد الفضائحية على مرأى ومسمع من العالم أجمع وعلى الهواء مباشرة، ومع هذا الناس تصوت لهم وتشجعهم، فما با لنا نحن لا نفعل مثلهم ولو سرًا؟! لماذا لا نقلد حياتهم الرومانسية؟! وهكذا يسعون لتتفيه الشباب وتفسيقهم، والفتاة تتعلم أصول العهر والفجور بالمجان وعلى الهواء مباشرة، وهكذا تنحر كل فضيلة في المجتمع، ولا يبقى من القيم والمثل الكريمة الا الشعارات الجوفاء، يقدم هذا وبمساعدة من بعض الآباء لمجتمع يعلم بنياته منذ نعومة أظفارهم أنّ نظر الرجل إلى المرأة وخلوته بها حرام، ثم ترى كل هذا السيل الجارف من الفساد!!
ثانيًا: تعتمد هذه البرامج على أسلوب التتفيه والتخدير لطاقاتٍ تستطيع بالإيمان أن تعمل الكثير، وتسعى لتغييب عقول بهدايتها تنفع مجتمعها الكثير، وأي جيل سيتخرج لنا في المستقبل إذا ربيناه على الليالي الحمراء وعودناه على مسابقات " الرقة" ونجومية "التعري"؟! كيف يراد لهذا الجيل أن يحرر الأقصى وأن يطرد الغزاة من العراق؟! إن هذه الفضائيات تربي شبابنا وفتياتنا ليكونوا قنواتٍ لعبور العدو وأدواتٍ لخدمته، تريد أن تخرج تافهين يشتاقون لمن يمسك بخطامهم، لن يناصروا قضية، ولن يطلبوا حقًا، ولن يحفظوا شرفًا. سيتربى على مثل هذه البرامج حتمًا جيلٌ يسلم للعدو مفاتيح الحصون الأخيرة للإسلام، ويرحب به في دياره وعند أهله وشرفه كما فعل أشياعهم من قبل، جيل يدافع عن أمته بلبس الجلود ومصاحبة العلوج، ويتترس بالكْريمات والدهانات، ماذا ترجو منه؟! ألا وا أسفا على الدين، ووا أسفا على الرجولة إذا تركنا هذا العهر يدخل بيوتنا.
ثالثًا: هذه البرامج تجعل هؤلاء النجوم قدوات يتأثر بها الشباب، فيتخلخل عند أجيالنا من هم المثل العليا، وهذا يحصل شئنا أم أبينا عند أبنائنا إذا شاهدوا قناة كاملة تنقل نقلاً مباشرًا لإقامة مختلطة لمجموعة من النساء وأشباه الرجال، وتنقل بالصوت والصورة سلوكهم الرخيص غير الهادف وغير البريء وأكلهم ونومهم وكل شيئ في حياتهم إلا في دورة المياه فتنقل صوتهم فقط، وهكذا كأنها في بنك مركزي تنتقل بين الغرف لتنقل تصرفاتهم، فإذا شاهد الإنسان الغرّ هذه العناية بهؤلاء الأفراد سيظن أنهم جاؤوا من كوكب آخر، وأن لهم مزية تجعلهم يستحقون هذا، فيحاكونهم ويعجبون بهم، وهكذا ينشرون الفساد في المجتمعات، والشريط الإخباري أسفل الشاشة يعزز هذا الإفساد فهو يحمل رسائل غرام لا تقلّ مجونًا عما تحمله الكاميرا، وإذا كانت هذه البرامج تبثّ من أجل صنع النجوم فمن حقنا أن نتسائل: ما هذه النجومية التي يريدون؟! ما ميزة هؤلاء؟! هل حرروا بلدًا، أم اخترعوا برنامجًا يسهل معيشة الناس، أم اكتشفوا دواءً لمرض الإيدز أو السكر، أم هم علماء في الفلك أو الجيولوجيا، أم لهم ميزة في العلم والدعوة، أم ماذا؟! ما نجوميتهم التي يسوَّق لها؟! هل يعقل أن تكون النجومية عند العرب والمسلمين محصورة في السخف وقلة الحياء؟! هل نحن في حاجة إلى زيادة نجوم الضياع؟! من حقنا أن نعرف، ومن حقنا أن نستنكر هذا التتفيه لعقول الشباب وهذا التسخيف لاهتماماتهم.
رابعًا: دعم بعض دوائر التوجيه في بعض البلدان العربية لمثل هذه البرامج لإشغال الشعوب عن قضاياها الحقيقية. شعوبٌ ومؤسسات تستنفر جهدها ووقتها ومالها لإنجاح مراهق أو مراهقة في الغناء, وفي إثبات أنه الأكثر بسالةً في الصمود حتى آخر السباق، وتحتفل البلاد التي يقترب نجومها من التصفيات, وتبدو كأنما تُهيئ نفسها لإطلاق قمرٍ فضائي في مداره, أو كأنها ستهدي للأمة قائدًا ربانيًا أو فاتحًا عظيمًا!
مراهقون ومراهقات يرقصون على ضفاف نشرات الأخبار المثقلة بالاحتلالات والشهداء, وكلما سقط منهم واحد في التصفيات بكت عليه الأمة كما لم تبكِ سقوط بغداد!
خامسًا: أنها كما تفسد الشباب مفسدتُها أيضًا بالغة على الفتيات، وتقدَّم شيءٌ من ذلك لكني أنقل لكم رسالة فتاة وجهتها لكاتبٍ غيور قال في عنوان مقاله: "إنه تخنث الشباب"، فأبلغته أن الفتيات أشد ضررًا تقول: "إني فتاة أبلغ السابعة عشرة من عمري، استمعت من زميلاتي في الثانوية عن برنامج يعرضون فيه مجموعة من الفتيات والشباب يجلسون معًا في مكان واحد ليل نهار, وقالت لي صديقتي: يا فلانة، أنت دائمًا تقولين: ما أعرف أكلم شابًا، ما أعرف كيف أبدأ معاه، أشعر برهبة من إقامة علاقة مع أحدهم، والآن يا صديقتي تابعي هذا البرنامج لكي تتعلمي منه فنون العلاقات الشبابية، ركزي بهذا البرنامج جيدًا لمدة يومين فقط، وستكتشفين أن الرهبة والخوف والحياء الذي يتملكك من إقامة علاقة مع الشباب ما هي إلا رهبة التخلف، وما حياؤك إلا عبارة عن عقدة نفسية، انتظرتُ أن أخرج من المدرسة بفارغ الصبر في ذلك اليوم, ولما وصلت البيت جلست ليس لي شغل سوى مشاهدة ما يحصل على الهواء مباشرة. ووصفت ما أترفّع بمشاعركم وبهذا المكان المبارك عن ذكره. تقول: وأصبحت بعد أيام فقط من متابعتي لهم على الهواء أشعر بأنني فعلاً فتاة متخلفة ومحرومة من الحياة الرومانسية المليئة بالحب ودفء المشاعر، ثم أصبحتُ أتمنى في كل لحظة أن أكون مكان أولئك الفتيات لأحظى بالجلوس ساعات طوال مع المشارك الفلاني في هذا البرنامج الرائع"، وتبين لها الوضع بحمد الله بعدما قرأت مقال هذا الكاتب الغيور جزاه الله خيرًا.
فتاةٌ أخرى في الثانية عشر من عمرها صرخت في وجه أبيها تريد الزواج، صدم الأب من ذلك!! فما الذي دفعها إلى هذا الفعل؟! إنه هذا البرنامج الذي تتابعه. لقد كانت هذه الفتاة إحدى ضحايا هذا البرنامج الرذيل.
إخوة الإسلام، والله إن الإنسان ليحزن مما يرى من تفاعل الناس مع هذه البرامج. أكلُّ هذا يحصل من أحفاد الصحابة وأبناء المؤمنين؟! عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يصلي الفجر فيشهد معه نساء متلفعات بمروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس، وقالت: لو رأى رسول الله من النساء ما رأينا لمنعهن من المساجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها، فإذا جاوزونا كشفناه. هذه هي مُثُل العفة والطهر والنقاء تُركت اليوم إلى غيرها، واستبدل شباب الإسلام وفتياته الذي هو أدني بالذي هو خير، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
نسأل الله أن يلطف بالمسلمين ويشغل عدوهم في نفسه.
أقول ما تسمعون...
_________
الخطبة الثانية
_________
معاشر المسلمين، يتساءل البعض منا: ماذا نفعل؟ وكيف العلاج؟ وما هي الحيلة في هذا العهر الذي يغزو بيوتنا؟ ونذكر العلاج في النقاط التالية:
أولاً: الوعي بهذه الظواهر المؤلمة ونتائجها الخطيرة على جيل المستقبل، وقد بينا شيئًا من ذلك.
ثانيًا: القيام بالواجب الشرعي بإنكار هذه المنكرات في أنفسنا وفي بيوتنا ومع من حولنا، إنها مسؤولية الأب مع أولاده، والأخ مع إخوانه، والطالب مع زملائه، والجار مع جيرانه.
ثالثًا: تنقية بيوتنا ومنازلنا منها، والحذر من استدراج الشيطان لنا باسم الثقافة والوعي، أو الغفلة عن أولادنا بحجة أن التربية لا تتحقق بالمنع والحجز، وأن الأصلح لهم أن يعرفوا الخير من الشر، فلا نحن حميناهم من المفاسد، ولا فقهناهم بالخير والشر.
نعم، فكلنا راع وكلنا مسؤول عن رعيته، لا بد أن نتقي الله فيمن تحت أيدينا، لا بد أن نعلم أنها أمانة عظيمة.
يا أخي المبارك، تذكر يومًا تكون فيه في أمس الحاجة إلى مثقال ذرة من حسنة، فإذا بك تسأل عن أسباب فساد أبنائك وبناتك، سيأتي يوم يتعلقون بك ويأخذون بتلابيبك يقولون: يا رب لقد أضاع الأمانة، يا رب كان سببًا في انحرافنا، يا رب كان سببًا في ضياعنا، وذلك كله بسبب ما جلبته لهم من وسائل ترفيه وتسلية محرمة، وأنت ـ يا أيها الأب ـ لا تستطيع أن تدافع عن نفسك، فأقرب الناس لك هم خصماؤك، هم الذين يبحثون عن مثقال ذرة من حسنة ليأخذوها منك كي ينجوا من عذاب الله، فتلتفت يمينك فلا ترى إلا النار، وتلتفت شمالك فلا ترى إلا النار، يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ ?لْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَـ?حِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ ?لَّتِى تُوِيهِ وَمَن فِى ?لأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى? نَزَّاعَةً لّلشَّوَى? [المعارج:11-16]، نسال الله العافية.
وأنتم أيها الشباب والشابات، اتقوا الله تبارك وتعالى واعتصموا بكتابه وبسنة نبيه، واعلموا أنكم مستهدفون من أعداء الأمة، وأن هدفكم في هذه الحياة أسمى مما يراد بكم، فأعيدوا النظر مرتين، وارجعوا البصر كرتين، وإياكم ثم إياكم أن يكون قدوتكم هؤلاء الذين ما لهم من خلاق، فقدوتنا جميعا محمّد ، والمرءُ يحشر مع من أحب، حشرنا الله وإياكم في زمرته وتحت لوائه.
رابعًا: إن هذه البرامج ليست إلا حلقة من سلسلة طويلة تستهدف تغريب مجتمعاتنا، وتوجه سهامها نحو ناشئتنا، مما يجعل مسؤولية التربية مسؤولية جسيمة، إنها لن تتحقق بمجرد أن نشعر بأنها مهمة، ولا بمجرد أن نتحدث عنها في مجالسنا. إن انفتاح مجتمعاتنا على هذا العالم بما فيه يجعل الأسرة المسلمة أمام تحديات جسام، فاستنساخ التجارب السابقة أو تكرار ما فعله معنا آباؤنا لم يعد كافيا، إننا بحاجة لأن نتعلم فنون التربية، وبحاجة لأن نتملك القدرة على إقناع أولادنا وعلى حوارهم والتأثير عليهم، وبحاجة لأن نمتلك القدرة على كسب قلوبهم وعقولهم. وهذا يفرض علينا أن نقرأ ونسمع ونتحاور ونتباحث في أمور التربية، وسنبقى مع ذلك نحتاج إلى المزيد.
خامسا: أين دور مدارسنا؟! وأين رسالة معلمينا ومعلماتنا؟! إن ضخامة التحديات وتعاظم المخاطر يفرض علينا أن نتجاوز الوقوف عند لوم المدرسة على التقصير، ونتجاوز الحديث عن الدور الغائب للمعلمين والمعلمات لنشعر أن هذه المسؤولية مسؤوليتنا جميعا، فالمعلمون إخواننا وأولادنا وجيراننا، والمعلمات لم يفدن إلينا من كوكب آخر، لنتجاوز مرحلة التلاوم إلى العمل الإيجابي، وأن يأخذ بعضنا في يد بعض للنهوض بهذه المهمة.
سادسًا: لا بد من التفكير في برامج تواجه هذا العفن وتشغل أولادنا عن متابعة السوء، برامج إعلامية جادة، وبرامج ترفيهية محافظة، في الحي والمدرسة ووسائل الإعلام، ولن تنجح هذه البدائل إن كانت باهتة لا تغري الناشئة بمتابعتها والتفاعل معها.
وهي مهمة يشترك فيها التربويون والإعلاميون وأصحاب المال وأصحاب القرار.
سابعًا: لا بد من تطوير الخطاب الدعوي الموجه للناشئة وتنويع أدواته والسعي لتجاوز النمطية والأداء الممل، ونحيِّي هنا ما قام به أحد الدعاة من تقديم برنامج دعوي منافس لهذه البرامج، فنسأل الله له ولمن سار على هذا الطريق السداد والتوفيق.
ثامنًا: إن هذا يؤكد خطورة الإعلام في تشكيل مستقبل الأمة وتوجيه ناشئتها، وهذا يفرض علينا أن نسعى جميعا لتنقية إعلامنا وجعله معبِّرا عن هوية الأمة ورسالتها، كما يفرض علينا البحث عن حلول عملية لتقليل أثر هذا الغزو الذي يخترق أسوار بيوتنا، وإن النتائج المرة لهذا العفن والإفساد تبرّر اتخاذ قرارات جريئة في حجب هذه البرامج السيئة، وفي تنادي رجال القرار في الأمة لتدارس هذه الأزمات بجدية. كما أنها تفرض علينا السعي الجاد لتعزيز دور الإعلام الإسلامي النقي، من خلال دعم القنوات القائمة والسعي لإنتاج المزيد.
أيليق بهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس أن تملك مئات القنوات التافهة، بينما القنوات الجادة التي تعبر عن رسالتها دون أصابع اليد الواحدة؟!
إننا نملك قدرات في الإنتاج المرئي والمقروء وفي الإخراج والكتابة وفي التقنية والأدوات، وأموالا هائلة، أفلا يمكن توظيف جزء من هذه الإمكانات لإنتاج ما يربي أولادنا وناشئتنا؟! أفلا يمكن توظيف جزء من الأموال التي تهدر في الترفيه والسياحة وفي الترف والتباهي؟! أفلا يمكن توظيف جزء من ذلك في خدمة قضايا الأمة الجادة؟! عسى أن يكون ذلك قريبًا.
اللهم ادفع عنا الوبا والربا والزنا والزلازل المحن...
(1/3037)
أبغض الحلال
الأسرة والمجتمع, فقه
الطلاق, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
17/11/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل شريعة الإسلام على قوانين البشر. 2- عناية الإسلام بقضية الطلاق. 3- حرص الإسلام على الحياة الزوجية السعيدة. 4- الطلاق عند غير المسلمين. 5- سدّ الذرائع المفضية إلى الطلاق. 6- مشروعية الطلاق وبيان شروطه. 7- مفاسد الطلاق. 8- أسباب كثرة الطلاق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ من ينظر نظرةً عابرة ويقارن مقارنةً بدائية بين شريعةِ الله التي أنزلها على عبده ورسوله محمّد وبين القوانين الوضعيّة والدساتير البشرية ليَرى العجَبَ العُجاب، أنظمةُ البشر قوانينُ البشر دساتير البشر مهما بالغ العقلاء منهم وذوو الرأي والفكر منهم فإنهم لا يستطيعون أن يجعلوها قوانينَ ثابتة تستمرّ عبرَ القرون، بل دائمًا يُدخلون عليها التعديل، زيادةً ونقصانًا، وربما تُلغَى بعد مُضيِّ جيل من الزمن، وقُصارى جهدهم أن يضعُوا خطوطًا عامّة، لكن التدخُّل في الحياة الشخصيّة وتنظيم الحياة فإنّ دساتيرهم تعجز عن ذلك. من مبادئهم الحريَّة الشخصية للإنسان، ليعمل ما يشاء، ويتصرّف كيف يشاء، بلا قيدٍ في كلِّ تصرُّفاته.
إنها قوانينُ لا يُمكن استمرارها ولا ديمومتُها، بل لو فكَّرتَ كلَّ التفكير وأرجعتَ البصر بعيدًا لرأيت القوانين ما قرنٌ إلا وقانونٌ يأتي، وإن استمرَّ فلا بدّ من تعديل؛ زيادةٍ، إضافة، نقصٍ وحذف، تعديلٍ، إلى غير ذلك.
أمّا شريعة الإسلام التي أكمَلها الله وأتمها ورضيَها دينًا وبعث بها خيرَ خلقِه وأفضلَ خلقه سيّد ولد آدم على الإطلاق أفضل خلق الله محمد فهي الشريعةُ الكاملة، وهي الشريعةُ التامّة، وهي الشريعةُ القادرة على معالجة مشاكلِ المجتمع، حاضِره ومستقبله، وصدق الله: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3].
شريعةٌ ساسَ بها محمّد الرعيلَ الأوّلَ من أصحابه، وهي أيضًا يُساس بها المسلمون إلى أن يرثَ الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. مع مرورِ القرونِ العديدة فلا يمكن أن يأتيَ زمنٌ تعجز الشريعة عن معالجةِ مشاكله، قواعدُها واجباتها نظُمُها باقيةٌ صالحَةٌ ومُصلِحة لكلّ جيل وقرن، ولذا قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله معبّرًا عمّا انطوى عليه ضميرُه من ذلك الإيمان الصادِق واليقين التامّ بهذه الشريعة: "لن يُصلِح آخرَ هذه الأمة إلاَّ ما أصلح أوَّلها" [1] صدق رحمه الله، فلن تصلُح الأمّة آخرُها إلا بذلك الشرعِ الذي صلَح به أوّلها وسار عليه أوّلها، جعلنا الله وإياكم من التابعين لهم بإحسان.
أيّها المؤمن، شريعةُ الإسلام نظَّمت علاقةَ العبد وصلته بربِّه، وحالَه مع نفسه، وحاله مع زوجتِه ومع أولاده ومع أبويه ومع رحِمِه ومع جيرانه ومع مُجتمعه ومع المسلمين عامّة، حتى علاقته مع غير المسلمين، كلُّ ذلك لكمالها وانتظامها، أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ?للَّطِيفُ ?لْخَبِيرُ [الملك:14].
نسخ الله بها جميعَ الشرائع، وجعَلها شريعةً مهيمِنة على كلِّ الشرائع، ولن يقبل من أحدٍ دينًا إلا الدين الذي بعث الله به محمّدًا، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ بِ?لْحَقّ مُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ?لْكِتَـ?بِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَ?حْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ [المائدة:48]، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85].
أيّها المسلم، لننظُر مثلاً إلى قضيةٍ من قضايا المجتمع، ألا وهي قضيّة الطلاق. قضيةُ الطلاق قضية إسلامية، عالجها الكتابُ والسنة بأحسنِ علاج، ونظّمها أحسنَ نظام، فجاء نظامه نظامًا معتدلاً، راعى فيه الجانبين، فليس ظلمًا لأحدٍ على حساب منفعةِ أحد.
إنَّ القوانينَ الوضعية أحيانًا تدَّعي زُورًا وكذِبًا أنها مع المرأة المهضومة المظلومة، ولكن لماذا معها؟ معها على حسابِ الإضرار بالزوج وسلبِه صلاحيتَه، فهم يدَّعون أنَّهم مع المرأة، والواقعُ أنّ ذلك الحيفُ والجَور، حتى لا يكون للرجل أيُّ قِوَامَةٍ وولاية، فجاءت شريعةُ الإسلام بالتوازن والاعتدال وإِعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقه.
أيها المسلم، النكاحُ في الإسلام عقدٌ له شأنه وأهميّته، عظَّم الله هذا العقدَ وأعلى شأنه وجعله عقدًا مغلَّظًا: وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَـ?قًا غَلِيظًا [النساء:21]. هذا العقدُ النكاحُ الشرعيّ هو الذي يضع اللبنة الأولى لبناء الأسرةِ على النظام الإسلاميّ العادل الذي جاء من ربّ العالمين.
أيّها المسلم، هذا العقدُ العظيم، الذي هو عقدٌ مُهِمّ لا ينبغي فسخه ولا التخلّي عنه إلا بالطُّرق الشرعية التي بيّنها الله في كتابه وبيّنها رسوله.
أيّها المسلم، إنّ الله جلّ وعلا أرشد الزوجين إلى الحياةِ السعيدة، عندما يعرف الرجلُ الحقَّ الواجب عليه، وعندما تعرف المرأةُ المسلمة الحقَّ الواجب عليها، فعند ذلك تكون الحياة الزوجية حياةَ هناءٍ وسعادة، قال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ ?لَّذِى عَلَيْهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ [البقرة:228]. فأخبر أنَّ على المرأة حقًّا، وعلى الرجل حقًّا، فللمرأة على الزوج من الحقوق مثلُ ما للزوج عليها من الحقوق، فإنْ عرَف الزوج الحقَّ الواجبَ عليه إطعامًا وكِسوة وسُكنى ومعاشرةً بالمعروف ورعايةً للزوجية الرعايةَ الشرعية المطلوبة، ثم عَرفتِ المرأة المسلمةُ حقَّ زوجها سمعًا وطاعةً وخِدمة وقيامًا بالواجب ومعاشرةً بالمعروف، إذا عرف كلٌّ من الزوجين واجبَه وأدَّى الذي عليه فإنَّ الحياةَ الزوجية تستمرّ بتوفيقٍ من الله على أسُسٍ من الخير والتَّفاهم.
ولكن إنما تحدُث المشاكلُ عندما يقع القصورُ من الزوج أو الزوجة، فإن قصَّر الزوجُ في واجبه؛ لم ينفق، لم يعاشر بالمعروف، لم يرعَ الرعاية المطلوبة، أو المرأة أيضًا تنكَّرت لزوجها وعَصته ولم تقم بواجبه، فعند ذلك يبدأ تصدُّع هذا البناء، ونسأل الله العافية.
أيّها المسلم، الطلاقُ مشروعٌ فيمن قبلنا، ولكنَّ الدياناتِ السماوية قبل الإسلام بينها اختلافٌ في هذا المبدأ، فمنهم من يبيح الطلاقَ مطلَقًا، ويجعل الزوجَ حُرًّا في إيقاع ما شاء من العدد، ومن بعض الديانات من يلغي الطلاقَ ويجعل المرأة غِلاًّ في عنقِ زوجها، يُنفق عليها ولو لم تكن معه، ويُحمَّل مسؤوليّتها ولو لم تَقُم بواجبه، وجاهليةُ العرب كانوا على شيء من الانحرافِ في هذا الجانب، فجاءت شريعةُ الإسلام بالعدلِ والإنصاف وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه.
أيّها المسلم، الإسلام أباح الطلاقَ في الجملة، ولكن تلك الإباحةُ مقيّدة بالشروط الشرعيّة، فأخبرنا نبيّنا أن أبغضَ الحلال إلى الله الطلاقُ وقال: ((ما أباح الله أبغضَ إليه من الطلاق)) [2] ، فهو مباح في الجملة، لكنه مباح بشروطه وضوابطه، فليس الأمر مجرَّدَ إيقاع طلاق وهدم البيت بأيّ كلام، لا، لا بدّ للرجل أن يتصوَّر عندما يوقع الطلاق: ما هي المفاسد المترتِّبة على هذا الطلاق؟ وهل الطلاق هو الحلّ؟ وهل الطلاق أنفعُ أم الاستمرار أنفع؟ فلا يُحكِّم عاطفته، ولا يستمرّ في طيشانه وحماقته، بل يتأملّ ويتدبّر ويتعقّل، فهذا هو المطلوب.
انظر أيّها المسلم، النبيُّ أمر الرجلَ بالصبر على المرأة، وقال له : ((إن المرأةَ خُلِقت من ضِلع، وإنّ أعوجَ ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرته، وإن استمتعتَ بها استمتعتَ بها وفيها عِوج)) [3] ، وقال أيضًا: ((لا يفرُك مؤمنٌ مؤمنةً، إن سخِط منها خُلقًا رضيَ منها آخر)) [4]. هذا توجيهٌ للزّوج، أن يكونَ متحمِّلاً للمسؤولية، مراعيًا ضعفَ المرأة وقلةَ تصوّرها وأنها ليست بعيدةَ النظر، فقد تحمِلُها قلّةُ الرأي على التسرُّع في عنادِ الزوج أو طلب الطلاق، فأمرَ الزوجَ أن يصبر، فهو أصلبُ عودًا منها، فليتحمَّل فإنّ اللهَ يقول: فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
ثمّ المرأةُ المسلمة مأمورة أيضًا بالسَّمع لزوجها والطاعة لزوجها، وأن لا تتسرَّعَ في طلب الطلاق، وأن تُعرِضَ عنه ما وجدت لذلك سبيلا.
ثم شريعةُ الإسلام أمرت الزوجَ عندما يشعُر من زوجته ببَعض الأمور أن يَعِظها ويذكّرها الله والدارَ الآخرة: وَ?للَّـ?تِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ [النساء:34]. ثم أمره بهجرها في الفراش، فعسى إن لم تنفع الموعظة أن يعِظها هجرُ الزوجِ لها في الفراش، قال: وَ?للَّـ?تِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ?هْجُرُوهُنَّ فِى ?لْمَضَاجِعِ وَ?ضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، ضربًا لا يؤثر، يؤدِّب ويسُدّ الخلل من غير ضَرَر، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً [النساء:34]، ليس الانتقام وليس العتابُ المطلوب إذا أطاعتِ الزوجة وانقادت، فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34].
ثم أمر المجتمعَ أيضًا عندما لا تنفعُ تلك الأمور أن يكوّنَ حكَمين من أقرباء الرجل والمرأة، ينظران: هل المصلحة في الاستمرار أو عدمه؟ نظرَ عدلٍ ومصلحة وموازنَة بين الأمور، وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَ?بْعَثُواْ حَكَمًا مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَـ?حًا يُوَفّقِ ?للَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35]، إن كانت النية صادقةً وفّق الله بينهما وعادت المياه إلى مجاريها، لكن إذا تعذَّرت كلُّ الوسائل واستعصَت كلُّ الطرق، إذًا فالحلّ الطلاق، ولكن هذا الطلاقُ ليس بالهوَى، وليس بحريّة الناس، الطلاقُ مشروعٌ، ولكنه بحدود وقيود:
فأولاً: أذِن الشارع في الطلاق، لكن أيُّ وقت؟ ليس كلّ وقت تُطلَّق فيه المرأة، إنما يطلقها وهي حامل، أو يطلِّقها في طُهر بعد حيضِها لم يجامعها فيه، لأنّ طلاقه لها وهي حامل ربّما يندم، وطلاقُه لها في حيضها أو في طهر وطئها فيه فربما حملت في ذلك الطهر، وربما طالت عليها العدة في الحيض.
ثم أمر الزوجَ بعد الطلاق أن لا يخرِجَ المطلَّقةَ من بيته إن كانت الطلقة الأولى أو الثانية، رجاءَ أن تعود الأمور إلى طبيعتها، قال جل وعلا: لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَـ?حِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ?للَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1]. فبقاؤُها في المنزل رُبّ نظرة تغيِّر من الواقع، ورُبّ ندَم من أحدهما يُصلح الوضع، والله على كلِّ شيء قدير، إِنَّهُ عَلَى? رَجْعِهِ لَقَادِرٌ [الطارق:8]. لكن إذا لم يكن هناك محبّةٌ ومودّة فلا بد [أن] تبقى حتى تنقضيَ عدّتها بحيضها ثلاثَ حيض إن كانت ممّن تحيض، أو مُضيّ ثلاثة أشهر، أو وضع الحمل فتنتهي بذلك عدَّتها.
ولم يأذَن للزوج أن يجمع عَددَ الطلاق في لفظ واحد، بل جعل ذلك أمرًا منهيًّا عنه، سمع رجلاً يقول لامرأته: أنت طالق بالثلاث، فغضب وقال: ((أيُلْعَبُ بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!)) قام رجل قال: أأقتلُه يا رسول الله؟ [5] لأنه رأى غضبَ النبيّ واشتداده على هذا اللفظ، إذ الأولى أن تكون الطلقات متفرّقة، لا تكون مجموعة، بل تكون في أوقاتٍ ثلاثة، ذلكم أن [أهل] الجاهلية في جاهليتهم يطلِّق الرجل المرأةَ الثلاث والأربعة بل الألف، كلّما قاربت انقضاءَ عدتها راجعها، ثم طلقها، فأصبح الزوج متحكِّمًا في أمرها، فجاء الإسلام ورفع ذلك فقال: ?لطَّلَـ?قُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـ?نٍ [البقرة:229]. الطلاق مرتان هذه فيها رجعة، لكن إذا وقعت الثالثةُ فلا تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره، كل ذلك [حتى] لا تكون الفروج ألعوبةً بيد الرجال، وإنما هي أمور محفوظة؛ لأنها تنبني عليها الأسرة، فلا بدّ من سلامة هذه الأمور وانتظامها الانتظامَ الشرعيّ.
أيّها المسلم، إنّ عدوَّ الله إبليس أحبُّ شيء إليه أن ينهدمَ البيت وتتفرّق الأسرة ويتشتّت الشمل، جاء في الصحيح: ((إنَّ إبليس يضع عرشَه على الماء، ويبثّ جنودَه، فيأتيه الواحد فيقول: ماذا فعلت؟ قال: ما زلتُ بفلانٍ حتى قطَع رحِمَه، قال: ما عملتَ شيئًا، يوشك أن يصلَ رحِمه، ويأتيه الآخر ويقول: ماذا عملت؟ قال: ما زلت به حتى عقَّ أمَّه وأباه، قال: ما فعلتَ شيئًا، يوشك أن يعود إليهما، ويأتيه الآخر فيقول: ماذا عملت؟ قال: ما زلت بفلان حتى طلَّق امرأته، قال: فيدنيه ويضمُّه ويقول: أنتَ أنتَ أنت)) [6] ، فرَحًا بالتمزُّق والتفرُّق؛ لأنه يكره الاجتماعَ والتآلف.
أيها المسلم، حاسِب نفسك، وقِف مع نفسك وقفات، إذا أردتَ الإقدامَ على الطلاق، انظر حالك وحالَ المرأة وحال الأولاد الصغار، ماذا سيكون حالهم؟ سيتشتّتون ويتفرّقون بينك وبين أمّهم، فإما تمسُّكُ الأمّ بهم فيضيعون، وإما تمسُّكُ الأب بهم فيضيعون، وتقسو قلوبهم، ويتفرّق شملهم، ويُحدِث عليهم صدمةً نفسيّة في أحوالهم. فقِف قليلاً وفكِّر، فكِّر وتأمّل قبل أن تقدِم على الطلاق، ما الملجأ وما المخرج؟ واستِخر الله واستشِر، وإياك والطيشَ والغضب، وإياك والحماقةَ، وإياك والتسرُّع، وإياك أن تجعلَ الطلاق على لسانك في كل أحوالك، فينهدِم بيتُك من حيث لا تشعر.
كم نادمٍ يندم ويقول: ما فعلتُ وما أردت، ويندم ولات حينَ مندَم، فلو فكَّر قليلاً وتأمّل لعلم أنه المخطئ والمقصِّر، ولو أنه تأنّى في أموره وتدارك أحوالَه لوُفِّق للصواب.
ولكن ما هو موقف أهلِ المرأة وأهل الزوج؟ هذا أمر لا بدَّ من النظر فيه. فإنّ بعض أهل البيت، بعض أقرباء الزوجة ربما أعانوا ابنتَهم على الشقاق، وأعانوها على إهانةِ الزوج وإذلاله، ووقفوا معها رغمَ أخطائها وتقصيرها، لكن ابنتهم يحبُّونها فيميلون معَها دونَ أن ينبِّهوها وينصحوها ويرشِدوها، وربما تدخَّل الأبوان في حياةِ الزوج، فحاوَلوا التفريقَ بينه وبين امرأته لأمور تافهةٍ وحكايات ووشايات، وأمور لا تتحمّل هذه الأمور.
إذًا فعلى أهل الزوجة وأهل الزوج أن يكونوا جميعًا عونًا على استمرار هذا العقدِ ودوامه بكلّ ما أمكنهم من وسيلة، إن رأوا من البنتِ خطأً حاولوا تأديبها وتوجيهَها ولفتَ نظرها إلى الأخطاء، وأن الزواج ليس كلّ يوم زوج، وليس المهمّ أن المرأة تُطلَّق وتزوّج، المهمّ أن تنتظِم حياتُها الزوجيّة بدون أيّ بلبلة. ثم أهل الزوج إن رأوا من ابنهم شيئًا من الجفاء وعدم التوازن فلا بدَّ من لفتِ نظره وتبيين الأخطاء حتى تستمرّ الحياة. أما إن كانت الحياة الزوجيّة يتدخّل فيها الأهلون من قبل المرأة والزوج من غير تأمّل ولا روية، فهذا والعياذ بالله سببٌ لهدم البيت وتشتيت الأسرة.
أسأل الله أن يجمع الجميعَ على طاعته، وأن يعيذنا وإياكم من نزغات الشيطان، وأن يرزقنا جميعًا العملَ بشرع الله والاستقامة عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخذ مالك رحمه الله هذه الكلمة عن شيخه وهب بن كيسان كما روى ذلك ابن عبد البر في التمهيد (23/10)، ثم اشتهرت عن مالك لشهرته وإمامته.
[2] أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: في كراهية الطلاق (2178)، وابن ماجه في الطلاق، باب: حدثنا سويد بن سعيد (2018) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما نحوه، وأعلّ بالإرسال، ولذا ضعفه الألباني في الإرواء (2040).
[3] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: خلق آدم صلوات الله عليه وذريته (3331)، ومسلم في الرضاع، باب: الوصية بالنساء (1468) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[4] أخرجه مسلم في الرضاع، باب: الوصية بالنساء (1469) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه النسائي في الطلاق، باب: الثلاث المجموعة وما فيه من التغليظ (3401) من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه، وأعله ابن كثير في تفسيره (1/278) بالانقطاع، وقال الحافظ في الفتح (9/362): "رجاله ثقات, لكن محمود بن لبيد ولد في عهد النّبيّ ولم يثبت له منه سماع, وإن ذكره بعضهم في الصّحابة فلأجل الرّؤية, وقد ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له عدّة أحاديث ليس فيها شيء صرّح فيه بالسّماع. وقد قال النسائي بعد تخريجه: لا أعلم أحدا رواه غير مخرمة بن بكير ـ يعني ابن الأشج ـ عن أبيه اهـ. ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم في عدة أحاديث، وقد قيل: إنه لم يسمع من أبيه"، وصححه الألباني في غاية المرام (261).
[6] أخرجه مسلم في صفة القيامة والجنة والنار، باب: تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس (2813) من حديث جابر رضي الله عنه بمعناه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، خيرته من خلقه وأمينه على وحيه، بلَّغ الرسالة ونصح الأمّة وأدّى الأمانة وجاهد في الله حقَّ جهاده، صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يتساءل المتسائل أحيانًا: نسمعُ أن الطلاقَ قد كثر، وأنّ أعدادَ الطلاق تخيف، وأن كلَّ سنة قد يزداد العدد على ماضيها، فما هي الأسباب يا تُرى لهذه الكثرة؟!
أجل يا أخي، كثُر الطلاق لأنَّ بعضَ الأزواج ليسَ أهلاً لرعاية المرأة، ليس أهلاً لتحمُّل المسؤولية، ليس أهلاً للقيام بالواجب. شخصٌ مذبذَب، ما بين فسادٍ وانحرافِ أخلاق وبُعدٍ عن الدين وشلَّة فاسدة، يسهَر الليالي معهم دونَ مبالاةٍ بالمرأة ومعرفةٍ لحقِّها وقدرها.
كثرُ الطلاق؛ الزوجُ ابتُلي والعياذ بالله بداءِ المسكرات والمخدِّرات، هذا حياةٌ معه عسيرة وشاقّة، فكم تحدِث تلك المخدّراتُ في أفكاره، وكم تحطُّ من أخلاقه، وكم تقضي على فِكره وتصوُّره للأشياء، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
كثر الطلاق لأنّ بعضَ الأزواج ذو حماقة وقلَّة صبر ونفاد صبر، لا يبالي، الطلاقُ على لسانه في القليل والكثير.
كثرُ الطلاق لأنّ هذا الزوج لا يريد مسؤوليةً وتحمُّلَ مسؤولية، فما يعلم أنّ النبي قال: ((الرجل راع في أهله، ومسؤول عن رعيته)) [1] ، لا يريد رعاية، لا يريد وقوفًا مع المرأة، لا يريد تحمُّل مسؤولية.
كثر الطلاق لأنّ النمَّامين والواشين من أقرباءِ الزوجين ربما أحدَثوا بالنميمة والقيلِ والقال تصدُّعًا في بنيان المجتمع.
كثر الطلاق وللأسفِ الشديد أنَّ بعضَ شبابنا ـ هدانا الله وإياهم ـ كم يستعملون الهاتفَ جوَّالاً أو غيره في إيصال رسائل إلى بعض النساء فيها قبحٌ وسوءُ أخلاق وقلَّة حياء، ربّما تُحدِث عند الزوج شكوكًا وأوهامًا، وهذا أمر خطير.
كثر الطلاق لأنَّ بعضَ الأزواج عنده وساوسُ وشكوك، يأتي للمرأة فيفتح صفحةً عن ماضيها، ماذا جرى؟ وماذا كان؟ فيتكوّن عنده وساوسُ وأمور تكدِّر صفوَ حياته، وذاك ـ يا أخي ـ من الخطأ.
كثر الطلاق لأنّ بعض النساء ـ هدانا الله وإياهن ـ لا يبالين بحقِّ الزوج، خروجٌ من المنزل وترك المنزل، إهمالٌ للمنزل والأولاد، ذهابٌ هنا وهناك بلا استئذانٍ ولا تأمُّل ولا صبرٍ على البيت. امرأةٌ تقول: أهلي وأهلي، وعند أهلي مناسبة، وعند وعند.. فتُكثِر على الزوج أسبابَ الخروج، حتى ربما يمضي معظمُ الليل وليست في بيتها، البيتُ موكُولٌ إلى غيرها من خادماتٍ وغيرهن، فالبيت ضائع لا راعيَ له، السفينة ليس لها ربّان يقودها، تلعب بها الأمواج يمينًا ويسارًا.
فيا أيّها المسلم، ويا أيّتها المسلمة، لنتَّقِ جميعًا ربَّنا في أحوالنا كلِّها، ولنلزم أدبَ إسلامنا، ففيه سعادتنا في حياتنا وأخرانا.
أسأل الله للجميع التوفيقَ لما يحبّه ويرضاه.
وتلك نصيحةٌ لإخواننا المسلمين، والواجبُ التناصُح بين الجميع، نسأل الله أن يجعلنا ممَّن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها, وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد بن عبد الله سيد ولد آدم كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم بارك على سيدنا محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(1/3038)
أبواب الخيرات
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
28/1/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفاوت الناس وتمايزهم. 2- قسمة الله بين الخلائق. 3- تنوع أبواب الخير. 4- حرص السلف على أفضل الأعمال. 5- تفاوت الأعمال الصالحة. 6- اختلاف مشارب المؤمنين في الأعمال الصالحة. 7- مفهوم العمل الصالح. 8- التحذير من احتقار الناس وازدرائهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتَّقوا الله رحمكم الله.
من أرادَ الفلاحَ فليستبضِع بضاعةَ المتقين، ومن أحبَّ أن يكونَ الله وليَّه فالله وليّ المتقين، وأكرمُ الناس عند الله أتقاهم، والآخرة عند ربِّك للمتقين. الساعي لغيرِ باب الله عاثِر القدَم، والشاكر لغير نِعَم الله مسلوبُ النِّعم. العُمُر محسوب، والعمَل مكتوب، والوقتُ يمرّ مرَّ السحاب، والموعِد يومُ الحساب، وربُّك الرزّاق، والعاقبةُ للتقوى، فاتَّقوا الله رحمكم الله.
أيّها المسلمون، النّاس في هِمَمِهم متفاوتون، وفي طبائِعهم متمايِزون، وفي ميولهم ورغباتِهم متنوِّعون، ولكنّهم في مجموعهم متكامِلون، وبعضُهم لبعض مسخَّرون، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32].
لله في خلقه شؤون، سننه فيهم ماضِية، قسم بينهم مواهبَهم وملكاتِهم كما قسم أرزاقهم وطبائعهم وأخلاقهم، وفاوت بين عقولِهم وفهومِهم كما فاوتَ بين ألسنتهم وألوانهم، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [الروم:22]، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96].
معاشرَ الإخوة، لقد خلق الله الخلقَ لعبادته وطاعتِه، ولكنّه سبحانه قسم حظوظَهم فيها، وفاوت بينهم في الاجتهاداتِ فيها، فمِنهم من كتبه مصلِّيًا قانتًا، ومنهم من كتبه متصدِّقًا محسنًا، ومنهم من كتبه صائمًا، ومنهم من كتبه مجاهدًا. يفتحُ لهم من أبوابِ الطاعات المطلوبات من نوافل العباداتِ وفروض الكفايات ما يتنافس فيه المتنافسون ويتمايَز به المتسابقون. فمن كان حظُّه في طاعةٍ أكثرَ كان منزلته في الجنّة ودرَجَته.
تأمَّلوا ـ حفظكم الله ـ في هذا الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم يقول: ((من أنفَق زوجين من شيءٍ من الأشياء في سبيلِ الله دُعِي من أبواب الجنة: يا عبد الله، هذا خيرٌ، فمن كان من أهلِ الصلاة دُعِي من باب الصلاة، ومن كان من أهلِ الجهاد دُعِي من بابِ الجِهاد، ومَن كَان من أهل الصّدقة دُعي من بابِ الصدقةِ، ومن كان مِن أهل الصيام دُعِي من باب الصيام وباب الريان)) ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما على هذا الذي يُدعَى من تلك الأبواب من ضرورة قال: هل يُدعَى منها كلِّها أحدٌ يا رسول الله؟ قال: ((نعم، وأرجو أن تكونَ منهم يا أبا بكر)) أخرجه البخاري [1] ، وفي رواية ابن حبان: ((وأنت هو يا أبا بكر)) [2].
وجاء عند أحمد وابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح: ((لكلّ عاملٍ بابٌ من أبواب الجنّة، يُدعَى منه بذلك العمل)) [3].
واستمِعوا إلى هذا الأثرِ عن الإمام مالك رحمه الله، فقد كتب إليه عبد الله العُمري العابد يحضُّه على العُزلةِ والعمَل المنفرد، فكتب إليه الإمام مالك رحمه الله: "إنَّ الله قسم الأعمالَ كما قسم الأرزاق، فرُبّ رجلٍ فُتِح له في الصلاة ولم يفتَح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقةِ ولم يفتَح له في الصوم"، قال مالك: "ونشرُ العلم من أفضلِ أعمال البرّ، وقد رضيتُ بما فُتح لي فيه، وما أظنّ ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكونَ كلانا على برٍّ وخير" [4] ، وقد قال عبد الله بن المبارك: "ما رأيتُ أحدًا ارتفع مثل مالك، ليس له كثيرُ صلاة ولا صيامٍ إلا أن تكونَ له سريرة" [5] ، ويستدرك على ذلك الإمامُ الذهبيّ رحمه الله فيقول: "ما كان عليه مالك من العلمِ ونشره أفضلُ من نوافل الصلاة والصومِ لمن أراد به وجه الله" [6].
أيّها المسلمون، طُرق الخير كثيرة، وأبواب العملِ الصالح مشرَعَة، وقد قال أهل العلم: إنّ أعمالَ البرّ لا تُفتح كلُّها للإنسان الواحدِ في الغالب، إن فتِح له في شيء منها لم يكن له في غيرها، وقد يفتَح لقليلٍ من الناس أبوابٌ متعدِّدة، وفي هذا قال نبيّنا محمد لأبي بكر رضي الله عنه: ((وأرجو أن تكونَ منهم يا أبا بكر)) [7].
وقد كان أصحابُ رسول الله ورضي الله عنهم أجمعين من شِدّة حُبِّهم للخير وحرصهم على العمل الصالح يسألون رسولَ الله : أيّ الأعمال أفضَل؟ ويسألونه: أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟ لأنّهم يعلمون أنّ الإنسانَ ليس في وسعِه ولا في طاقَته أن يأتيَ بجميع الأعمال.
وقد كان جوابُ رسول الله متعدِّدًا في أوقاتٍ مختلفة وفي أحوال مختَلفة أيضًا، وقد بيّن أهل العلم رحمهم الله الحكمةَ في تعدُّد إجاباتِ النبيّ واختلافها فقالوا: إنّ ذلك من أجل اختلافِ أحوال السائلين واختلافِ أوقاتهم، فأعلَمَ كلَّ سائل بما يحتاج إليه، أو بما له رغبةٌ فيه، أو بما هو لائق به ومناسبٌ له.
وتأمّلوا ـ سدّدكم الله ووفَّقكم ـ هذه الطائفةَ من إجابات النبيِّ :
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألتُ النبيَّ : أيّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) ، قال: ثمّ أيّ؟ قال: ((بر الوالدين)) ، قال: ثمّ أيّ؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) ، قال: حدَّثني بهنّ ولو استزدتُه لزادني. متفق عليه واللفظ للبخاري [8].
وفي مسند أحمدَ من حديث ماعز رضي الله عنه عن النبيّ : أيّ الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله وحدَه، ثمّ الجهاد، ثم حجَّة برَّة تفضُل سائرَ العمل كما بين مطلع الشمس ومغربها)) [9] ، ونحوه في الصحيحين والسنن [10].
وفي سنن النسائي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: ((عليك بالصوم، فإنه لا عِدل له)) [11].
وعند أحمد ومسلم من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه قال: يا رسول الله، أيّ الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمانٌ بالله، وجهاد في سبيله)) ، قال: فأيّ الرِّقاب أفضل؟ قال: ((أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها)) ، قال: أرأيتَ إن لم أفعل؟ قال: ((تعين صانعًا أو تصنَع لأخرَق)) ، قال: أرأيت إن ضعفتُ؟ قال: ((تمسِك الشرَّ، فإنّه صدقة تصدَّقُ بها على نفسك)) [12].
وعن زرارة بن أوفى رضي الله عنه أنّ النبيَّ سئل: أيّ العمل أفضل؟ قال: ((الحالُّ المرتحِل))، قيل: وما الحالّ المرتحِل؟ قال: ((صاحبُ القرآن؛ يضرِب من أوّل القرآن إلى آخره، ومن آخرِه إلى أوله، كلّما حلَّ ارتحَل)) أخرجه الدارمي في سننه [13] ، وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [14].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سئِل رسول الله : أيّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال: ((أدوَمُها وإن قلّ)) ، وقال: ((اكلفوا من العمَل ما تطيقون)) أخرجه البخاري [15].
وعن معاذ رضي الله عنه قال: سألتُ رسول الله : أيّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ قال: ((أن تموتَ ولسانُك رطبٌ بذكر الله)) أخرجه ابن حبان في صحيحه [16].
وعند أبي داود من حديث معاذ رضي الله قال: قال رسول الله : ((إنّ الصلاة والصيامَ والذكر تضاعف على النفقةِ في سبيل الله بسبعمائة ضعف)) [17].
وحينما قال الفقراء لرسول الله : يا رسول الله، ذهَب أهل الدّثور بالأجور، يصلّون كما نصلِّي ويصومون كما نصوم، ويتصدّقون بفضول أموالهم، قال: أهل العلم ظنَّ الفقراء أنْ لا صدقة إلا بالمال، وهم عاجزون عن ذلك، فأخبرَهم النبيّ أنّ جميعَ أنواع فعل المعروف والإحسان صدقة، فقال لهم النبيّ : ((أوَليس قد جعل الله لكم ما تصدّقون؟! إنّ بكل تسبيحةٍ صدقة، وكلّ تكبيرة صدقة، وكلّ تحميدة صدقة، وكلّ تهليلة صدَقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن منكرٍ صدقة، وفي بُضع أحدكم صدقة)) [18].
عبادَ الله، إنَّ طرق الخير كثيرة، وأبواب العملِ الصالح واسِعة، بل إنّ العمل الواحدَ يتفاوت الفضلُ فيه بحسَب ما يمنَح الله عبدَه فيه من قوّة اليمين وصِدق الإخلاص وزَكاء النفس وتحقيق التوكّل.
ففي سنن النسائي وأبي داود عن عبد الله بن حُبشِيّ الخثعمي رضي الله عنه: سئل رسول الله : أيّ الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمانٌ لا شكَّ فيه، وجهاد لا غلولَ فيه، وحجّة مبرورة)) ، قيل: فأيّ الصلاة أفضل؟ قال: ((طول القنوت)) ، قيل: فأيّ الصدقة أفضل؟ قال: ((جهد المقلّ)) ، قيل: فأيّ الهجرةِ أفضل؟ قال: ((مَن هجر ما حرّم الله عزّ وجلّ)) الحديث [19].
وفي سنن أبي داود من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الغزوُ غزوان، فأمّا من ابتغَى وجهَ الله وأطاع الإمامَ وأنفق الكريمة وياسَر الشريك واجتنب الفساد فإن نومه ونبهَه أجر كلّه، وأمّا من غزا فخرًا ورياءً وسُمعة وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنّه لم يرجع بالكفاف)) [20].
معاشر المسلمين، وإذا كان الأمرُ كذلك فانظروا ـ رحمكم الله ـ فيما يفتح الله على عباده من ألوان الطاعاتِ وصنوفِ العبادات وأنواعِ الاجتهادات وطُرق المسابقات إلى الخيرات، فتجدون من يفتَح الله عليه في القرآن الكريم والعنايةِ به وتلاوته قيامًا وقعودًا وعلى جنبه، في الصلاة وغير الصلاة، في الليل وفي النهار. ومنهم من يفتح الله عليه في تعليمه وإقرائه، فهمُّه الأكبر في تعليمِه وضبطِه وإتقانه. ومن الناس من يفتح الله عليه في العِلم أو في باب من أبوابه من التوحيد والحديث والفقه والتفسير، كما يفتَح لآخرين في علومٍ أخرى من اللغة والتاريخ والسِّيَر والعلوم التجريبية. ومنهم من يُحسن التدريس، ومنهم من يحسِن الوعظ والتذكير، ومنهم من يشتغِل بالجمع والتأليف.
ومِن عباد الله من يفتَح الله عليه في الصلاة، فهي شغلُه الشاغل، وهي قرّة عينه من الليل والنهار، في خشوعٍ وطولِ قنوت وتضرُّع. وآخر يفتح الله عليه في صيام النوافل، فيكثر من الصيام في أيّامه المستحبّة من الاثنين والخميس وأيام البيض ويصوم يومًا ويفطر يومًا، فيطيق في ذلك ما لا يطيقه غيره.
بينما ترى آخرين قد خصَّهم الله عزّ وجلّ بمزيدٍ من برّ الوالدين وصِلة الأرحام وتفقُّد الأقارب وزيارتهم والسؤال عنهم وبرّهم وصِلتهم والإحسان إليهم من غير انتظارِ مكافأة ومحاسبة.
ومنهم من يُفتح له في مساعدةِ المحتاجين وإغاثةِ الملهوفين في الداخل والخارج، فيسعى على الأرملةِ والمسكين والغُرَباء والفقراء، لا يملّ من جمع التبرّعات وطَرق أبوابِ الأغنياء والدخول على المحسنين وإيصال الخير للمستحقِّين، في عملٍ متواصِل في تفريجِ الكروب وسدِّ الديون وكفالةِ الأيتام ورعايتِهم ومواساتِهم وتعليمِهم والمحافظةِ عليهم.
ويفتح الله على أقوام في بناء المساجدِ وإنشاء الأوقاف، وقد أدركوا ما فتَح الله به في وقتنا الحاضر من أبوابِ في العلاج والتطبيبِ وتأمين الدّواء والأجهزة الطبيّة، مع ما فشا من ابتلاءٍ في أمراض مزمنة وإعاقات مستديمة وغلاءٍ في الأدوية والأدوات الطبّيّة.
وآخرون يفتح الله لهم في الاحتساب بالأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر والصبرِ على الأذى فيه، فيطيقُ في ذلك ما لا يطيق غيره.
وفي الناس من يُفتح له في بابِ الشفاعة والإصلاح بين الناس، فيفكّ أسيرًا، ويحقن دمًا، ويدفع مكروهًا، ويحِقّ حقًّا، ويمنع باطلاً ويحجز ظلمًا، يقدر على ما لا يقدر عليه غيره، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263]، لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].
أيّها المسلمون، العمل الصالح واسعُ الميادين شامل المفاهيم، ينتظم أعمالَ القلوب والجوارحِ من الأقوال والأعمال والمقاصد في الظاهر والباطن والمواهبِ والملكات، من أعمالٍ خاصّة وعامّة، فرديّة وجماعية، في إكرام الضيف وعيادةِ المريض واتّباع الجنائز وإجابة الداعي ونُصرة المظلوم ومواساةِ الفقير وسقيِ الماء وتفريج الكروب وإنظار المعسر وإرشاد الضالّ وإيجاد فرَص العمل، وإنَّ لكم في البهائم لأجرًا، ومن زرع زرعًا أو غرس غرسًا فأكل منه إنسانٌ أو طير أو بهيمة كان له به أجر، ومن جهّز غازيًا فقد غزا.
أيّها الإخوةُ في الله، ويكون الفتح في العمَل بمحبّته والإكثارِ منه والإحسان فيه ومزيد الرغبةِ فيه والاجتهادِ فيه والإقبال عليه، ومن أكثر من شيءٍ عُرف به.
فتنافسوا ـ رحمكم الله ـ في أعمالِ البرّ، فالملائكة تحبّ صالحي بني آدم وتفرحُ بهم، ولتكن هِممُكم عالية، فإنّ ثمّة أقوامًا يُدْعَوْن من كلّ أبواب الجنّة تعظيمًا لهم وتكريمًا لكثرة صيامهم وصلاتِهم وأفعالهم الخيِّرة، فيخيَّرون ليدخلوا من أيّ أبواب الجنّة شاؤوا، فلتكن الهِمَم عالية في المسابقة إلى الخيرات والمنافسة في الأعمال الصالحة، ليغتنمِ العبد ما فتِح له من هذه الأبواب من النوافل وفروض الكفايات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:6-8].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في المناقب (3666)، وهو أيضا عند مسلم في الزكاة (1027).
[2] هذا حديث آخر أخرجه ابن حبان (6867) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير (11/98) وفي الأوسط (481، 6168)، وابن عدي في الكامل (3/171)، والخطيب في تاريخ بغداد (5/112)، قال الهيثمي في المجمع (9/46): "رجاله رجال الصحيح غير أحمد بن أبي بكر السالمي وهو ثقة".
[3] مسن أحمد (2/449)، مصنف ابن أبي شيبة (2/274) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصحح إسناده ابن حجر في الفتح (7/28)، وقال الهيثمي في المجمع (10/398): "رجاله رجال الصحيح غير محمد بن عمرو بن علقمة وقد وثقه جماعة".
[4] انظر: التمهيد (7/185).
[5] أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/330).
[6] سير أعلام النبلاء (8/97).
[7] تقدم تخريجه.
[8] صحيح البخاري: كتاب مواقيت الصلاة (527)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (85).
[9] مسند أحمد (4/342)، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير (20/344)، قال المنذري في الترغيب (2/106): "ورواة أحمد إلى ماعز رواة الصحيح، وماعز هذا صحابي مشهور غير منسوب"، وقال الهيثمي في المجمع (3/207): "رجال أحمد رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1103).
[10] يشير إلى ما أخرجه البخاري في الإيمان (26)، ومسلم في الإيمان (83) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: ((إيمان بالله ورسوله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)).
[11] سنن النسائي: كتاب الصيام، باب: فضل الصيام (2222)، وأخرجه أيضا أحمد (5/249)، والروياني (1175)، وأبو نعيم في الحلية (5/175، 7/165)، وصححه ابن خزيمة (1893)، وابن حبان (3426)، والحاكم (1533)، وقال ابن حجر في الفتح (4/126): "إسناده صحيح"، وهو في صحيح سنن النسائي (2100).
[12] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (84)، وأخرجه أيضا البخاري في العتق (2518).
[13] سنن الدارمي: كتاب فضائل القرآن (3476)، وهذا مرسل، وفي سنده صالح المري وهو ضعيف. وأخرجه الترمذي في القراءات (2948)، والطبراني في الكبير (12/168)، والحاكم (2088، 2089)، وأبو نعيم في الحلية (2/260، 6/174)، والبيهقي في الشعب (2/348، 367) عن زرارة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي سنده أيضا صالح المري، قال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه، وإسناده ليس بالقوي"، وهو مخرج في السلسلة الضعيفة (1834).
[14] أخرجه الحاكم (2090)، قال الذهبي: "لم يتكلم عليه الحاكم، وهو موضوع على سند الشيخين، ومقدام متكلم فيه، والآفة منه"، وانظر: السلسلة الضعيفة (4/316).
[15] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6465).
[16] صحيح ابن حبان (818)، وأخرجه البخاري في خلق أفعال العباد (ص72)، والطبراني في الكبير (20/93، 106، 107)، والبيهقي في الشعب (1/393)، قال الهيثمي في المجمع (10/74): "رواه الطبراني بأسانيد، وفي هذه الطريق خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك، ضعفه جماعة ووثقه أبو زرعة الدمشقي وغيره، وبقية رجاله ثقات. ورواه البزار من غير طريقه إلا أنه قال: أخبرني بأفضل الأعمال وأقربه إلى الله، وإسناده حسن"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1492).
[17] سنن أبي داود: كتاب الجهاد (2498)، وأخرجه أيضا البيهقي في الكبرى (9/172)، وصححه الحاكم (2415)، قال المنذري في المعالم (3/364): "في إسناده زبّان بن فائد وسهل بن معاذ وهما ضعيفان، وأبوه هو معاذ بن أنس الجهني له صحبة"، ولذا أورده الألباني في ضعيف سنن أبي داود (537).
[18] أخرجه مسلم في الزكاة (1006) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[19] سنن النسائي: كتاب الزكاة (2526)، سنن أبي داود: كتاب الصلاة (1449)، وأخرجه أيضا أحمد (3/411)، والدارمي في الصلاة (1424)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2520)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (2366).
[20] سنن أبي داود: كتاب الجهاد (2515)، وأخرجه أيضا أحمد (5/234)، والنسائي في الجهاد (3188)، والدارمي في الجهاد (2417)، وصححه الحاكم (2435)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1990).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله لم يزل بالنِّعَم مُنعمًا، وبالإحسان محسِنًا، يجير خائفًا، ويرسِل بالآيات تخويفًا، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له مسلمًا له حنيفًا، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله، بعثه مصدِّقًا لما بين يديه من الرسل أمينًا شريفًا، صلى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، صلاةً وسلامًا يزدادون بها تفضيلاً وتشريفًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، إنّ ثمّة أمرًا يحسُن التنبيه إليه، يغفل عنه الكثير من الناس، وهو ما يظهر على بعضِ الناس من انتقاصِ بعض إخوانهم لأنّه لم يُفتَح عليهم في بعض أبواب العبادات وبخاصّة نوافلِ الصلوات والصيام، فمَن فتِح له في ذلك فليحمدِ الله، وليحافظ على ذلك، وليزدَد من الخير، لكن لا ينبغي أن ينظرَ لغيره بعينِ النقصِ أو العيب أو المَقت، فقد يكون قد فُتح لأخيك من أبواب الخير ما لم ترَه أو تعلمه أو تدرِكه؛ من صلةِ الرحم أو طلبِ العلم أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو أبوابِ الإحسان والمساعداتِ والشفاعة وغيرها.
قيل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إنك لتُقِلّ الصوم! قال: (إنّه يضعِفني عن قراءة القرآن، وقراءة القرآن أحبّ إليّ) [1] ، وفي العِلل للإمام أحمد: "إنّ الحسنَ تكلّم وبلّغ العلم احتسابًا، وسكت ابن سيرين احتسابًا" [2] ، وعن الأوزاعي قال: "ذهب عليهم الحسنُ بالمواعظ، وذهب عطاء بالمناسك" [3].
وأوضحُ من ذلك وأظهر ما حدّث به نبيّنا محمّد عن بعض أصحابه حين قال: ((أرحم أمّتي بأمّتي أبو بكر، وأشدُّهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبيّ بن كعب، وأفرضُهم زيد بن ثابت، وأعلمُهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإنّ لكل أمّة أمينًا، وإنّ أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح)) أخرجه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" والنسائي في السنن الكبرى [4].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واشتغِلوا بتفقُّد النفوسِ في أعمال القلوب من الخوف والإخلاص والمراقبة والبُعد عن الغيبةِ والحسّد والغلّ واستنقاص الآخرين والكيدِ والمكر والولوغ في الأعراض، فذلكم هو الذي يأكل الحسناتِ ويُفني الصالحات ولو كانت كأمثال الجبال عياذًا بالله.
ولتستحضروا مقالة الإمام مالك: "كلانا على خيرٍ وبرّ، ولعل ما هو فيه خير ممّا أنت فيه"، فإذا ما رأيتَ أخاك قد اشتغل بأبوابٍ غير التي تشغتل بها فلتقل: كلانا على خير. وقد قال هنا في محكم تنزيله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
هذا وصلّوا وسلّموا على خير البريّة نبيّكم محمّد رسول الله أفضل البشرية، فقد أمركم بذلك ربّكم في محكم تنزيله فقال سبحانه وهو الصادق في قيله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وأزواجه أمّهات المؤمنين، وارض اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/274)، والطبراني في الكبير (9/175)، والبيهقي في الشعب (2/354).
[2] رواه ابن الجعد في مسنده (1328)، والبيهقي في الشعب (4/269)، والمزي في تهذيب الكمال (32/530) عن يونس بن عبيد من قوله.
[3] العلل ومعرفة الرجال (1140).
[4] سنن الترمذي: كتاب المناقب (3790، 3791)، سنن النسائي الكبرى (8242، 8287) عن أنس رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (3/184، 281)، وابن ماجه في المقدمة (155)، وصححه ابن حبان (7252)، والحاكم (5784)، قال ابن حجر في الفتح (7/93): "إسناده صحيح، إلا أن الحفاظ قالوا: إن الصواب في أوله الإرسال، والموصول منه ما اقتصر عليه البخاري" أي: منقبة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (1224).
(1/3039)
بين الخوف والرجاء والمحبّة
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الألوهية
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
28/1/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية أعمال القلوب. 2- فضل الخوف والرجاء. 3- الأمر بالخوف من الله تعالى. 4- حقيقة الخوف من الله تعالى. 5- ثواب الخائفين من الله تعالى. 6- أحوال السلف في الخوف من الله تعالى. 7- الخوف المحمود والخوف المذموم. 8- حقيقة الرجاء بيان شرطه. 9- عبادة الله بالحب والخوف والرجاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حقَّ التقوى، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة:235]، إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5].
عبادَ الله، إنّ أعمالَ القلوب أعظمُ شيء وأكبر شيء، فثوابها أعظم الثواب، وعقابها أعظم العقاب، وأعمال الجوارح تابعةٌ لأعمال القلوب ومبنيَّة عليها، ولهذا يقال: القلبُ ملكُ الأعضاء، وبقيّة الأعضاء جنوده.
عن أنس رضي الله عنه عن النبيّ قال: ((لا يستقيم إيمانُ عبد حتى يستقيم قلبه)) رواه أحمد [1]. ومعنى استقامةِ القلب توحيدُه لله تعالى وتعظيمه ومحبَّته وخوفه ورجاؤه ومحبّة طاعته وبغض معصيتِه.
وروى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنَّ الله لا ينظر إلى صورِكم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) [2] ، وقال الحسن لرجل: "داوِ قلبك، فإنّ حاجة الله إلى العباد صلاحُ قلوبهم" [3].
وإنَّ من أعمال القلوب التي تبعَث على الأعمال الصالحةِ وترغِّب في الدار الآخرة وتزجر عن الأعمال السيئة وتزهِّد في الدنيا وتكبَح جماحَ النفس العاتية الخوفَ والرجاء.
فالخوف من الله تعالى سائقٌ للقلب إلى فعل كلِّ خير، وحاجز له عن كلّ شيء، والرجاء قائدٌ للعبد إلى مرضاةِ الله وثوابه، وباعِث للهِمَم إلى جليلِ صالح الأعمال، وصارفٌ له عن قبيح الفعال.
والخوف من الله تعالى مانعٌ للنفس عن شهواتها، وزاجرٌ لها عن غيِّها، ودافع لها إلى ما فيه صلاحُها وفلاحها. والخوفُ من الله تعالى شعبة من شعَب التوحيد، يجِب أن يكونَ لربِّ العالمين، وصرفُ الخوفِ لغير الله تعالى شعبَة من شعَب الشرك بالله تعالى.
وقد أمر الله عزّ وجلّ بالخوف منه، ونهى عن الخوف من غيره، فقال تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، وقال تعالى: فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً [المائدة:44]، وقال عزّ وجلّ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40] وعن أنس رضي الله عنه قال: خطبَنا رسول الله فقال: ((لو تعلمون ما أعلم لضحِكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا)) ، فغطَّى أصحاب رسول الله وجوهَهم ولهم خنين. رواه البخاري ومسلم [4].
والخوف يراد به انزعاجُ القلب واضطرابُه وتوقُّعه عقوبةَ الله على فعل محرَّم أو ترك واجب أو التقصير في مستحبّ والإشفاق أن لا يقبلَ الله العملَ الصالح، فتنزجِر النفس عن المحرّمات، وتسارع إلى الخيرات.
والخشيةُ والوجَل والرهبَة والهيبَة ألفاظٌ متقاربة المعاني، وليست مرادِفةً للخوف من كلّ وجه، بل الخشية أخصُّ من الخوف، فالخشيةُ خوفٌ من الله مع عِلمٍ بصفاته جلّ وعلا كما قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وفي الصحيح أنّ النبي قال: ((أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له)) [5]. والوجلُ رجَفَان القلب وانصداعُه لذكر من يخاف سلطانَه وعقوبته. والرهبة الهرَب من المكروه. والهيبة خوفٌ يقارنه تعظيمٌ وإجلال.
قال ابن القيم رحمه الله: "فالخوفُ لعامّة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبةُ للمحبّين، والإجلال للمقرّبين، وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوفُ والخشية من الله تعالى" [6].
وقد وعد الله من خافَ منه فحجزه خوفُه عن الشهوات وساقه إلى الطاعاتِ وعدَه أفضلَ أنواع الثواب، فقال تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَى أَفْنَانٍ [الرحمن:46-48]، والأفنان هي الأغصان الحسنة النضِرة، قال عطاء: "كلّ غصنٍ يجمع فنونًا من الفاكهة" [7] ، وقال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40، 41]، وقال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:25-28]، فأخبر أنّ من خافه نجّاه من المكروهات وكفاه ومنَّ عليه بحسن العاقبة.
وروى ابن أبي حاتم بسنَده عن عبد العزيز يعني ابن أبي روّاد قال: بلغني أنّ رسول الله تلا هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] وعنده بعضُ أصحابه وفيهم شيخ، فقال الشيخ: يا رسولَ الله، حجارةُ جهنم كحجارة الدنيا؟! فقال النبيّ : ((والذي نفسي بيده لصخرةٌ من صخر جهنّم أعظم من جبال الدنيا كلها)) ، قال: فوقع الشيخ مغشيًّا عليه، فوضع النبيّ يده على فؤادِه فإذا هو حيّ، فناداه قال: ((يا شيخ، قل: لا إله إلا الله)) ، فقالها، فبشّره النبيّ بالجنّة، فقال بعض أصحابه: يا رسول الله، أمِن بيننا؟ قال: ((نعم، يقول الله تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14] )) [8].
ولقد كان السلفُ الصالح يغلب عليهم الخوفُ من الله، ويحسِنون العمل، ويرجونَ رحمة الله عز وجل، ولذلك صلحت حالهم، وطابَ مآلهم، وزكَت أعمالهم، فقد كانَ عمر رضي الله عنه يعسّ ليلاً، فسمِع رجلاً يقرأ سورة الطور، فنزل عن حماره واستنَد إلى حائطٍ ومرِض شهرًا يعودونه لا يدرون ما مرضُه [9].
وقال أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه وقد سلّم من صلاة الفجر، وقد علاه كآبه وهو يقلّب يده: لقد رأيتُ أصحابَ محمد فلم أر اليومَ شيئًا يشبِههم، لقد كانوا يصبِحون شعثًا صُفرًا غُبرًا بين أعينهم أمثالُ رُكَب المعزى، قد باتوا لله سجّدًا وقيامًا، يتلون كتابَ الله، يراوحون بين جِباههم وأقدامهم، فإذا أصبَحوا ذكروا الله، فمَادوا كما يميد الشجرُ في يوم الريح، وهملت أعينهم بالدّموع حتى تبلّ ثيابهم [10] ، ومرض سفيان الثوري من الخوف [11] ، والأخبار في هذا تطول عنهم رضي الله عنهم.
والخوفُ المحمود هو الذي يُحثّ على العمل الصالح ويمنَع من المحرَّمات، فإذا زاد الخوفُ عن القدر المحمود صار يأسًا وقنوطًا من رحمةِ الله، وذلك من كبائر الذنوب.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: "والقدرُ الواجب من الخوفِ ما حمل على أداءِ الفرائض واجتناب المحارِم، فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثًا للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق المكروهات والتبسُّط في فضول المباحات كان ذلك فضلاً محمودًا، فإن تزايد على ذلك بأن أورثَ مرضًا أو موتًا أو همًّا لازمًا بحيث يقطَع عن السعي لم يكن محمودًا" [12].
وقال أبو حفص: "الخوفُ سوط الله، يقوِّم به الشّاردين عن بابه" [13] ، وقال: "الخوف سراج في القلب" [14] ، وقال أبو سليمان: "ما فارَق الخوفُ قلبًا إلا خَرِب" [15].
فالمسلم بين مخافتين: أمر مضى لا يدري ما الله صانعٌ فيه، وأمر يأتي لا يدري ما الله قاضٍ فيه.
وأما الرجاءُ فهو الطّمَع في ثواب الله على العمل الصالح، فشرطُ الرجاء تقديمُ العمل الحسن، والكفُّ عن المحرّمات أو التوبة منها، وأما تركُ الواجبات واتباع الشهوات والتمني على الله ورجاؤه فذلك يكون أمنًا من مكر الله لا رجاءً، وقد قال تعالى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].
وقد بيّن الله تعالى أنّ الرجاء لا يكون إلا بعد تقديم العمل الصالح، ولا يكون بدونه، قال عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر:29]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218].
والرجاءُ عبادة لا تصرَف إلا لله تعالى، فمن علَّق رجاءه بغير الله فقد أشرك، قال تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].
والرجاء وسيلة إلى الله تعالى، فقد جاء في الحديث عن النبيّ عن الله تعالى: ((أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني)) [16].
والواجبُ الجمع بين الخوفِ والرجاء، وأكملُ أحوال العبد محبّة الله تعالى مع اعتدالِ الخوف والرجاء، وهذه حالُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمؤمنين، قال عزّ وجل: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ الأنبياء:90]، وقال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16].
فإذا علم المسلم شمولَ رحمة الله وعظيمَ كرمه وتجاوزه عن الذنوب العظام وسعةَ جنّته وجزيلَ ثوابه انبسطت نفسُه واسترسلت في الرجاء والطمَع فيما عند الله من الخير العظيم، وإذا علِم عظيمَ عقاب الله وشدّةَ بطشه وأخذه وعسيرَ حسابه وأهوالَ القيامة وفظاعةَ النار وأنواع العذاب في النار كفَّت نفسه وانقمَعت وحذرت وخافت، ولهذا جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((لو يعلمُ المؤمن ما عند الله من العقوبةِ ما طمع بجنّته أحد، ولو يعلم الكافرُ ما عند الله من الرحمةِ ما قنط من جنّته أحد)) رواه مسلم [17].
وقد جمع الله بين المغفرةِ والعذاب كثيرًا فقال تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [الرعد:6]، ونقل الغزاليّ رحمه الله عن مكحول الدمشقيّ قال: "من عبد الله بالخوفِ وحدَه فهو حروريّ، ومن عبده بالرجاء فهو مرجئيّ، ومن عبده بالمحبّة فهو زِنديق، ومن عبَده بالخوف والرجاء والمحبّة فهو موحِّد سنيّ" [18].
وفي مدارج السالكين لابن القيم رحمه الله: "القلبُ في سَيره إلى الله عزّ وجلّ بمنزلة الطائر، فالمحبّة رأسُه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلِم الرأس والجناحان فالطائر جيِّد الطيران، ومتى قطِع الرأس مات الطائر، ومتى فُقِد الجناحان فهو عرضَة لكلّ صائد كاسر. ولكنّ السلفَ استحبّوا أن يُقوَّى في الصحّة جناحُ الخوف على جناحِ الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يُقوَّى جناح الرجاء على جناح الخوف، فالمحَبة هي المركب، والرجاء حادٍ والخوف سائق، والله الموصِل بمنِّه وكرمه" [19].
قال الله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49، 50]
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيِّد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (3/198)، وأخرجه أيضا ابن أبي الدنيا في الصمت (9)، والخرائطي في مكارم الأخلاق (442)، والقضاعي في مسند الشهاب (887)، قال الهيثمي في المجمع (1/53): "في إسناده علي بن مسعدة، وثقه جماعة وضعفه آخرون"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2841).
[2] صحيح مسلم: كتاب البر (2564).
[3] رواه ابن أبي الدنيا في التواضع والخمول (240)، وانظر: جامع العلوم والحكم (ص75).
[4] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4621)، صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2359).
[5] أخرجه البخاري في كتاب النكاح (5063) عن أنس رضي الله عنه.
[6] مدارج السالكين (1/513).
[7] انظر: تفسير ابن كثير (4/278).
[8] عزاه ابن كثير في تفسيره (4/392) لابن أبي حاتم وقال: "هذا حديث مرسل غريب".
[9] انظر: التخويف من النار (ص30) نحوه.
[10] أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/76)، والخطيب البغدادي في الموضح (2/330).
[11] حلية الأولياء (7/14، 60)، شعب الإيمان (949، 950، 951، 952، 954، 955، 956)، وانظر: التخويف من النار (ص28).
[12] التخويف من النار (ص19-20).
[13] انظر: مدارج السالكين (1/513).
[14] انظر: مدارج السالكين (1/513).
[15] انظر: إحياء علوم الدين (4/162)، ومدارج السالكين (1/513).
[16] أخرجه البخاري في التوحيد (7405، 7505)، ومسلم في الذكر (2675).
[17] صحيح مسلم: كتاب التوبة (2755).
[18] إحياء علوم الدين (4/166).
[19] مدارج السالكين (1/517).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الجلال والإكرام والعزّة التي لا ترام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عزيز الانتقام، وأشهد أنّ نبينا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله المبعوث رحمةً للعالمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الكرام.
أما بعد: فاتقوا الله أيّها المسلمون، وارجوا ثوابَه، واخشَوا عقابه، واسمَعوا قول الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:98].
وروى البخاريّ ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إنّ أهونَ أهل النار عذابًا يومَ القيامة لرجلٌ يوضَع في أخمص قدميه جمرتان، يغلي منهما دماغه، ما يرى أن أحدًا أشدّ منه عذابًا، وإنه لأهونهم عذابًا)) [1].
وروى مسلم من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((سأل موسى ربَّه فقال: ما أدنى أهلِ الجنة ـ يا ربّ ـ منزلة؟ قال: هو رجلٌ يجيء بعدما أدخِل أهل الجنة الجنّة، فيقال له: ادخُلِ الجنة، فيقول: أي ربِّ، كيف وقد نزلَ الناس منازلَهم وأخذوا أخذاتِهم؟! فيقال له: أترضَى أن يكون لك مثلُ مُلكِ مَلكٍ من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيتُ ربِّ، فيقول: لك ذلك ومثلُه ومثله ومثلُه ومثله، فيقول في الخامسة: رضيتُ ربّ، فيقول: هذا لك وعشرةُ أمثاله، ولك ما اشتهت نفسُك ولذّت عينك، فيقول: رضيتُ ربّ)) [2].
وفي هذا العصر الذي غلبت القسوةُ والغفلة وحبّ الدنيا على القلوب وتجرّأ أكثر العباد على الآثام والذنوب يُقوَّى جناح الخوفِ لتستقيمَ النفوس وتزكوَ القلوب، وعند الانقطاع من الدنيا يُغلَّب الرجاء لقوله : ((لا يمُت أحدكم إلا وهو يحسن الظنَّ بربه)) [3].
فالخوفُ من الله يقتضي القيامَ بحقوق الله تعالى، ويبعِد المسلمَ عن التقصير فيها، ويحجز العبدَ عن ظلم العباد والعدوان عليهم، ويدفعه إلى أداءِ الحقوق لأصحابها وعدمِ تضييعها والتهاون بها، ويمنع المسلمَ من الانسياق وراءَ الشهوات والمحرّمات، ويجعله على حذرٍ من الدنيا وفتنتِها وعلى شوقٍ إلى الآخرة ونعيمها.
عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا، اللهمّ وارضَ عن الصحابة أجمعين...
[1] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6561، 6562)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (213).
[2] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (189).
[3] أخرجه مسلم في كتاب الجنة (2877) عن جابر رضي الله عنه بنحوه.
(1/3040)
إنها الأمّ
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, الوالدان
مازن التويجري
الرياض
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شأن الأم وفضائلها العظام. 2- منزلة الأم في الإسلام. 3- رسالة بعثتها أم مكلومة إلى وليدها وريحانة فؤادها. 4- واجب الأولاد نحو أمهاتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أيها الإخوة المؤمنون، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا والعمل على طاعته، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِي خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
قلبٌ رحيم وصدر حنون، مجبولٌ على الشفقة، نفسٌ كبيرة وسعت ما لم تسعه آلاف النفوس، خلِق يوم خُلِق فركّبت فيه الرحمة حين خالطت أحشاءَه وسرت سريان الدم في عروقه، يحِبَّ وإن لم يُحَبّ، ويحنو وإن أغلِظ عليه، لا تجازي بالسيئة السيئة، بل يغشى المسيء برّا وإحسانًا، لكأنما حيزَت معاني الحبّ حتى استأثَر بها عمّن سواه، وجُمعت خصال الرقة والشفقة فظفِر بها عن سائر الخلق، لم أصفْه بعد أيها الأخيار، إنه المخلوق الذي قدّم وضحّى ولم يزل، كم حزن لتفرح، وجاع لتشبع، وبكى لتضحك، وسهر لتنام، وتحمّل الصعاب في سبيل راحتك، إذا فرحت فرح، وإن حزنتَ حزن، إذا دَاهمك الهمّ فحياته في غمّ، أمله أن تحيى سعيدًا رضيًّا راضيا مرضيًا، مُناه أن يرفرف السرور في سمائك، وسكن الحبور ربوعَك، إنه المخلوق الضعيف الذي يعطي ولا يطلب أجرًا، ويبذل ولا يأمل شكرًا، هل سمعتَ عن مخلوق يحبّك أكثر من ماله؟ لا، بل أكثر من دنياه، لا، بل أكثر من نفسه التي بين جنبيه، نعم يحبّك أكثر من نفسه، إنها الأم، الأم وكفى، رمز الجنان.
تأمّل ـ يا رعاك ربيّ ـ حالَ صغرك، تذكّر ضعف طفولتك، فقد حملتك أمك في بطنها تسعةَ أشهر وهنًا على وهن، حملتك كرهًا ووضعتك كرهًا، تزيدها بنموّك ضعفًا، وتحملها فوق طاقتها عناءً، وهي ضعيفة الجسم واهنة القوى، وعند الوضع رأت الموتَ بعينها، زفرات وأنين، غصص وآلام، ولكنها تتصبّر، تتصبّر، تتصبّر، وعندما أبصرتك بجانبها وضمتك إلى صدرها واستنشقت ريحك وتحسست أنفاسك تتردّد نسيت آلامها وتناست أوجاعها، رأتك فعلّقت فيك آمالها ورأت فيك بهجة الحياة وزينتها، ثم انصرفت إلى خدمتك ليلها ونهارها، تغذيك بصحتها، وتنميك بهزالها، وتقوّيك بضعفها، فطعامك درّها وبيتك حجرها، ومركبك يداها، تحيطك وترعاك، تجوع لتشبع، وتنهر لتنام، فهي بك رحيمة، وعليك شفيقة، إن غابت عنك دعوتَها، وإذا أعرضت عنك ناجيتها، وإذا أصابك مكروه استغثتَ بها، تحسب الخير كلَّه عندها، وتظنّ الشرّ لا يصل إليك إذا ضمّتك إلى صدرها أو لاحظتك بعينها، تخاف عليك رقّة النسيم وطنين الذباب، وتؤثرك على نفسها بالغذاء والراحَة، فلما تم فصالك في عامين وبدأت بالمشي، أخذت تحيطك بعنايتها وتتبعك نظراتها وتسعى وراءك خوفًا عليك، ثم كبرت فكبر جهالك، وأخذت منك السنين، فأخذ منها الشوق والحنين، صورتك أبهى عندها من البدر إذا استتمّ، صوتك أبدى على مسمعها من تغريد البلابل وغناء الأطيار، ريحك أروع عندها من الأطياب والأزهار، سعادتك أغلى من الدنيا لو سيقت إليها بحذافيرها، يرخص عندها كلّ شيء في سبيل راحتك، حتى ترخص عندها نفسها التي بين جنبيها، فتؤثر الموت لتعيش أنت سالمًا معافى.
روى أحمد والنسائي وابن ماجه عن معاوية بن جاهمة السلمي رضي الله عنه، قال: أتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي وجه الله والدار الآخرة، قال: ((ويحك، أحية أمك؟)) قلت: نعم، قال: ((ارجع فبرها)) ، ثم أتيته من الجانب الآخر، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي وجه الله والدار الآخرة، قال: ((ويحك، أحية أمك؟)) قلت: نعم يا رسول الله، قال: ((فارجع إليها فبرها)) ، ثم أتيته من أمامه، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي بذلك وجه اللهَ والدار الآخرة، قال: ((ويحك، أحية أمك؟)) قلت: نعم يا رسول الله، قال: ((ويحك، الزم رجلَها فثمّ الجنة)). إنها الجنة وربّ الكعبة: ((الزم رجلها فثمّ الجنة)).
قال محمد بن المنكدر: "بتّ أغمز رجلَ أمي، وبات أخي عمر ليلته يصلّي، فما تسرّني ليلته بليلي".
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتي رجل رسول الله فقال: يا رسول الله، إني جئت أريد الجهاد معك أبتغي وجه الله والدار الآخرة، ولقد أتيت وإن والدي ليبكيان، قال: ((فارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما)) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
عن أنس بن نضر الأشجعي قال: استقت أم ابن مسعود رضي الله عنها ماءً في بعض الليالي، فجاءها بالماء فوجدها قد ذهب بها النوم، فثبت عند رأسها حتى أصبح، ولما قدم أبو موسى الأشعري وأبو عامر على رسول الله فبايعاه وأسلما، قال لهم عليه الصلاة والسلام: ((ما فعلت امرأة منكم تدعى كذا وكذا؟)) قالوا: تركناها في أهلها، قال: ((فإنه قد غفِر لها)) قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: ((ببرها والدتها)) قال: ((كانت لها أم عجوز كبيرة، فجاءهم النذير: إن العدوّ يريد أن يغير عليكم، فجعلت تحمل أمها على ظهرها، فإذا أعيت وضعتها، ثم ألزقت بطنها ببعض أمها وجعلت رجليها تحت رجلي أمها من الرمضاء حتى نجت)) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه.
إنها الأم، يا من تريد النجاة، الزم رجليها، فثمّ الجنة، قال ابن عمر رضي الله عنهما لرجل: (أتخاف النار أن تدخلها، وتحب الجنة أن تدخلها؟) قال: نعم، قال: (برّ أمك، فوالله لئن ألنت لها الكلام وأطعمتها الطعام لتدخلن الجنة ما اجتنبت الموجبات)، يعني: الموبقات.
إن البر دأب الصالحين وسيرة العارفين، أراد ابن الحسن التميمي قتلَ عقرب فدخلت في جحر، فأدخلها أصابعه خلفها فلدغته، فقيل له في ذلك، قال: "خفت أن تخرج فتجيء إلى أمي وتلدغها".
قال محمد بن سيرين: "بلغت النخلة على عهد عثمان رضي الله عنه ألف درهم، فعمد أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى نخلة فاشتراها، فنقرها وأخرج جمّارها، فأطعمها أمه، فقالوا له: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم؟! قال: إن أمي سألتني ولا تسألني شيئًا أقدر عليه إلا أعطيتها".
عبد الله بن عون نادته أمه فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين، وزين العابدين كان أبر الناس بأمه، وكان لا يأكل معها في صحفة واحدة، فقيل له: إنك أبرّ الناس ولسنا نراك تأكل معها في صحفة واحدة؟! فقال: "أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها، ولقد مضى بين أيدينا أقوام لا يعلو أحدهم بيته وأمه أسفله".
إنها الجنة، يا طالب الجنة، الزم قدميها فثمّ الجنة.
روى الترمذي وصححه عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله يقول: ((الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه)).
وفي صحيح الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي قال: ((رضا الرب من رضا الوالد، وسخطه الرب من سخط الوالد)).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما من مسلم له والدان مسلمان يصبح إليهما محتسبًا إلا فتح الله بابين ـ يعني من الجنة ـ وإن كان واحدًا فواحد، وإن أغضب أحدهما لم يرضى الله عنه حتى يرضى عنه)، قيل: وإن ظلما؟ قال: (وإن ظلما).
لأمك حق لو علمتَ كبير كثيرك يا هذا لديه يسير
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي لها من جواها آنّة وزفير
وفي الوضع لا تدري عليها مشقة فمن غصص منها الفؤاد يطير
وكم غسّلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سرير
وتعديك مما تشتكيه بنفسها ومن ثديها شرب لديك نمير
وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها حنوا وإشفاقًا وأنت صغير
فضيعتها لما أسئت جهالة وطال عليك الأمر وهو قصير
فآهالذي عقل ويتبع الهوى وآهًا لأعمى القلب وهو بصير
فدونك فارغب في عميم دعائها فأنت لما تدعو إليه فقير
رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلاً يمانيًا يطوف بالبيت حمل أمه وراءه على ظهره، يقول: إني لها بعيرها المدلَّل، إن أذعِرت ركابها لم أذعر، الله ربي ذو الجلال الأكبر، حملتها أكثر مما حملتني، فهل ترى جازيتها يا ابن عمر؟! قال ابن عمر: (لا، ولا بزفرة واحدة).
ليس هذا فحسب، بل برها مكفّر للكبائر، قال الإمام أحمد: "بر الوالدين كفارة الكبائر"، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل قتل امرأته ما توبته؟ قال: (إن كان له أبوان فليبرهما ما داما حيين، فلعل الله أن يتجاوز عنه). وقد جاء عنه مثل ذلك في توبة من تعلّم السحر.
معاشر المؤمنين، كم ساعات قضى فيها المسلم للوالدين حاجات، غفر الله عز وجل بها الذنوب والزلات، وخرج بها الهموم والكربات، كم ولد بار أو فتاة بارة قاما من عند والديهما بعد سلام أو طيب كلام أو هدية متواضعة وقد فتحت أبواب السماء بدعوات مستجابات لهما من والديهما الضعيفين الكبيرين.
فاتقوا الله في الوالدين، سيما إذا بلغا من الكبر والسنّ ما بلغا، ووهن العظم منهما واشتعل الرأس شيبًا، إذا بلغت بهما الحال ما بلغت وأصبحا ينظران إليك نظر الذي ينتظر لقمة هنية أو أعطية جزية.
حَدّث أحد الضباط العاملين في جهاز الدفاع المدني فقال: إنهم وصلوا إلى بيت قد اشتعلت فيه النيران وفي البيت أم وأطفال لها ثلاثة، بدأ الحريق في إحدى الغرف، فحاولت الأم الخروج من الأبواب فإذا هي مقفلة، صعدت سريعا مع أطفالها الثلاثة إلى سطح المنزل لتخرج من بابه فألقته مغلقًا كذلك، حاولت فما استطاعت، كررت فأعياها التكرار، تعالى الدخان في المنزل، وبدأ النفس يصعب، احتضنت صغارها، ضمتهم إلى صدرها، وهم على الأرض حتى لا يصل الدخان الخانق إليهم، والأم الرؤوف تستنشقه هي، لما وصلت فرق الإنقاذ إلى سطح المنزل وجدوها ملقاة على بطنها، رفعوها فإذا بأبنائها الثلاثة تحتها أموات، كأنها طير يحنو على أفراخه يجنبهم الخطر، تدافع عنهم من عدوّ كاسر، وجدوا أطراف أصابع يدها مهشّمة وأظافرها مقطوعة إذ كانت تحاول فتح الباب مرّة، ثم نرجع إلى أولادها لتحميهم من لهيب النار وخنق الدخان مرة أخرى، حتى قضت وقضوا.
في صورة تجسّد روعة التضحية، في لوحة مصونة بألوان الحنان منقوشة بريشة العطف والرحمة.
ومع كلّ هذه التضحية والتفاني في الحفظ والرعاية التي تقدمها الأم لوليدها وفلذة كبدها، حتى قال النبي في بيان عظم حقها مع الوالد: ((لا جزي ولد والده إلا أن يجده مملوكًا فتشتريه فيعتقه)) رواه مسلم.
مع هذا الحب الفياض والعطف الرؤوف والحنان المتدفق نسمع ونرى من صور العقوق ونكران الجميل والقسوة العجيبة والغلظة الرهيبة وإساءة العمل وسوء التعامل ما لو أن الواحد وقف على بعضه وسمع من الأثبات البعض الآخر لأنكره أشدّ النكير ولما تطرق إلى خياله أنه الصدق والواقع.
رسالة تبعَثها أم مكلومة إلى وليدها وريحانة فؤادها، قالت الأم المسكينة: "يا بني، منذ خمسة وعشرين عامًا كان يومًا مشرقًا في حياتي عندما أخبرتني الطبيبة أني حامل، والأمهات ـ يا بني ـ يعرفن معنى هذه الكلمة جدًّا، فهي مزيج من الفرح والسرور وبداية معاناة مع التغيرات النفسية والجسدية، وبعد هذه البشرى حملتك ـ يا بني ـ تسعة أشهر في بطني فرحة جذلة، أقوم متثاقلة، وأنام بصعوبة، وآكلُ مرغمة، وأتنفّس بألم، ولكن كل ذلك لم ينقص من محبتي لك وفرحي بك، بل نمت محبتك مع الأيام وترعرع الشوق إليك. حملتك ـ يا بني ـ وهنًا على وهن وألمًا على ألم، بيد أني كنت أفرح وأفرح كلما شعرت بحركتك داخل جوفي، وأسرّ بزيادة وزنك، مع أنه حمل ثقيل علي، إنها معاناة طويلة، أتى بعدها فجر تلك الليلة التي لم أنم فيها ولم يغمض لي فيها جفن، ونالني من الألم والشدة والرهبة والخوف ما لا يصفه القلم ولا يتحدّث عنه اللسان، ورأيت بأمي عيني ـ والله يا بني ـ الموت مرات عدّة حتى خرجت إلى الدنيا، فامتزجت دموع صراخك بدموع فرحي، وأزالت كل آلامي وجراحي. يا بني، مرّت سنوات من عمري وأنا أحملك في قلبي وأغسلك بيدي، جعلت حجري لك فراشًا، وصدري لك غذاء، أسهرت ليلي لتنام، وأتعبت نهاري لتسعد، أمنيتي أن أرى ابتسامتك، وسروري كلّ لحظة أن تطلب مني شيئًا أصنعُه لك، فتلك منتهى سعادتي. ومرت الأيام والليالي وأنا على تلك الحال، خادمة لم نقصّر، ومرضعة لم تتوقف، وعاملة لم تفتر، حتى اشتدّ عودك واستقام شبابك، وبدأت تظهر عليك معالم الرجولة، فإذا بي أجري يمينا ويسارًا لأبحث لك عن المرأة التي طلبت، وأتى موعد زفافك فتقطع قلبي وجرت مدامعي فرحة بحياتك السعيدة الجديدة وحزنا على فراقك، ومرّت الساعات ثقيلة فإذا بك لست ابني الذي عرفت، لقد أنكرتني وتناسيت حقي، تمرّ الأيام لا أراك، ولا أسمع صوتك، وتجاهلت من قامت لك خير قيام، يا بني، لا أطلب إلا القليل اجعلني من أطرف أصدقائك عندك وأبعدهم خطوة لديك.
اجعلني ـ يا بني ـ إحدى محطات حياتك الشهرية لأراك فيها ولو لدقائق. يا بني، أحدودب ظهري وارتعشت أطرافي وأنهكتني الأمراض وزارتني الأسقام، لا أقوم إلا بصعوبة، ولا أجلس إلا بمشقة، ولا يزال قلبي ينبض بمحبتك، لو أكرمك شخص يومًا لأثنيت على حسن صنعه وجميله، وأمك ـ يا رعاك ربي ـ أحسنت إليك إحسانًا لا تراه ومعروفًا لا تجازيه، لقد خدمتك وقامت بأمرك سنوات وسنوات، فأين الجزاء والوفاء؟! إلى هذا الحد بلغت بك القسوة وأخذتك الأيام؟!
يا بني، كلما علمت أنك سعيد في حياتك زاد فرحي وسروري، ولكني أتعجب وأنت صنيع يدي، وأتساءل: أي ذنب جنيته حتى أصبحت عدوة لك لا تطيق رؤيتي وتتثاقل عني؟! لن أرفع شكواك، ولن أبثّ الحزن لأنها إن ارتفعت فوق الغمام واعتلت إلى باب السماء أصاب شؤم العقوق ونزلت بك العقوبة، وحلت بدارك المصيبة، لا، لن أفعل، لا تزال ـ يا بني ـ فلذة كبدي وريحانة حياتي وبهجة دنياي.
أفق يا بني، بدأ الشيب يعلو مفرقك، وتمر سنوات ثم تصبح أبا شيخًا، والجزاء من جنس العمل وستكتب رسائل لابنك بدموع مثل ما كتبت لك، وعند الله تجتمع الخصوم. يا بني.
اتق الله في أمك، كفكِف دمعها، وخفف حزنها، وإن شئت بعد ذلك فمزّق رسالتها، واعلم أنه من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فعن زيد قال: قلت للحسن البصري: ما دعاء الوالدين للولد؟ قال: نجاة، قال: فقلت: فعليه؟ قال: استئصاله، يعني الهلاك.
إن حق الأم على الولد عظيم، وشانها كبير، فلا يدعُها باسمها، بل نادها بما تحبّ من اسم أو كنية، لا تجلس قبلها، ولا تمشي أمامها، قابلها بوجه طلق، قبل رأسها، والثم يدها، إذا نصحتها فبالمعروف من دون إساءة، أجب دعوتها إذا دعتك من دون ضجر أو كراهية، تكلم معها باللين، أطعمها إذا جاعت، أو اشتهت صنفًا وإن تأنيت في ذلك، أهدها قبل أن تسأل شيئًا، تحسَّس ما تحبّ فاجلبه لها، كان خادمًا مطيعًا لها، أطعها في غير معصية، لا تسبقها بأكل أو شرب، أبهجها بالدعاء لها آناء الليل وأطراف النهار بالرحمة والمغفرة، غضّ الطرف عن أخطائها وزلاتها، لا تتأسّف أو تحدّث أحدًا عن سبيل الشكاية أو النكاية، وقرها واحترمها، لا تتكبّر عليها فقد كنت في أحشائها وبين يديها، أدخل السرور عليها، صاحبها بالمعروف، اطلب الدعاء منها فله تفتح أبواب السماء.
هذا واعلموا أن الله أمركم بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته وثلث بكم عباده المؤمنين، فقال عز من قائل حكيم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِيّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك وأنعم على عبدك ونبيك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة...
(1/3041)
ظاهرة التسوّل
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
أحمد المهنّا
الرياض
جامع أحمد البدّاوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة المال. 2- ظاهرة التسول: أسبابها وعلاجها. 3- ذم مسألة الناس. 4- عواقب سؤال الناس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله حق تقاته، وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أيها المسلمون، لقد خلق الله الإنسان في هذه الدنيا وكرّمه أحسن تكريم، وقوّمه أحسن تقويم، ولقد جاءت الشريعة المطهّرة من لدن حكيم عليم، عالم بأسرار الكون وما يصلح النفس البشرية وما ينفعها في معاشها وفي معادها، وهو الذي وعد بقوله جل وعلا، قوله الحق ووعده الصدق: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
عباد الله، لا للمال خلِقنا، ولا لاتخاذه هدفًا أسمى أمرنا، وليس المال خيرًا محضًا فنقصر جلّ تفكيرنا عليه، بل ولا شرًّا محضًا فنجعل قوانا على التخلّص منه، إنما المال يكون خيرًا إذا استُغلّ في أوجه الخير، ويكون شرًّا وأعظم به من شرّ إذا لم يرقب صاحبه في جمعه إلاً ولا ذمّة.
أما شرّ المال إذا دِيس به كرامة الإنسان، فكم وئِد من أجل المال من فضيلة وديس من كرامة. روى الإمام أحمد والترمذي في حديث حسن قول النبي : ((ما ذئبان جائعان أرسِلا في زريبة غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)).
فاتقوا الله يا عباد الله، اتقوا الله في أموالكم، فإن أخذ المكاسب الخبيثة والمصارف المحرّمة شدّة حساب وسوء عقاب.
أيها المسلمون، إن سؤال الناس مذلّة وضعة، والمؤمن عزيز غير ذليل، وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].
عباد الله، لقد ظهر في مجتمعنا فئة من الناس تسأل الناس إلحافًا، اتخذت ذلك حرفةً ووسيلة لجمع المال، إنه التسوّل الذي يُعتبَر في بعض البلاد جريمة يُعاقب عليها صاحبها، فإذا كان المتسوّل صحيح البدن أصبحت هذه الطريقة عنده وسيلة من وسائل كسب المال، بل هي وسيلة مريحة يجني بها صاحبها المال الكثير دون عناء أو مشقة.
في إحدى الدول عُمِلت إحصائية لهؤلاء الصنفِ من الناس، فماذا خرجت النتيجة؟
خرجت أن دخل بعضهم شهريًا قرابة العشرة آلاف، وأن ما يقرب من تسعين في المائة ليسوا فقراء، لقد أصبح الكثير منهم مبدعًا في التسوّل، كان له تطوير مقنِع، آلات ترى أن أحدهم يحمل أوراقًا طبّية تبيّن للناس أنه يعاني من أمراض مزمِنة، وأنه محتاج فقط إلى قيمة الدواء، وتجد الآخر يجمع تبرّعات لبناء مسجد أو مدرسة أو نحو ذلك.
وإليكم هذه القصة: في شهر رمضان الماضي قام رجل وادعى في المسجد أنه رئيس لجامعة إسلامية في أحدى الدول، يحمل معه مخططات لبناء تلك الجامعة، وأرفق معها خطابات وتزكيات، ومعه أوراق تحدّد تكلفة البناء، ويحمل مستندات، وأن منهج هذه الجامعة سلفيَّ، يدعو إلى التوحيد وإلى محاربة البدع وإلى العناية بالقرآن الكريم، وبعد الإطلاع على هذه الأوراق تبيّن لهذا المطّلع أن هذه الأوراق مزوّرة، وأن القائم على جمع التبرّعات والذي يزعم أنه رئيس لهذه الجامعة يعمل سبّاكًا في إحدى المدن، ليس له أي علاقة في مثل هذه الأعمال الخيرية، ومع الأسف تجد أن بعض الناس يتعاطف مع هؤلاء، ويستغلّون طيبة البعض، تجد من يعطيهم دون تدقيق أو تحقيق أو سؤال.
إن الواجب على الجميع عدم التساهل مع هؤلاء وأن لا نتسامح معهم، بل يجب إبلاغ الجهات المعنية بهم والتأكد من هويّتهم. والله، إن بعضهم يلعب بتلك الأموال القمار، والبعض الآخر يتاجر بها في المخدّرات. وقد يظهر لك أنه محتاج وأنه مسكين، ولو أعطيت أحدهم طعامًا أو شرابًا ما قبله.
عباد الله، إن التسوّل إحدى ظواهر الخلط في المجتمعات، ولا يخلو مجتمع مهما كان تقدّمه حتى في أوربا وأمريكا، لا يخلو مجتمع من هذه الظاهرة، وما علموا أن هذه المهنة تؤثّر على كرامة الإنسان.
إن التسوّل قد يدفع الأطفال إلى التسرّب من المدرسة، ويعرّضهم إلى مظاهر من الاستغلال، بل فيه تعريض لهم إلى مخاطر الانحراف والإجرام.
فلاحظ أنهم يتواجدون في الأسواق وعند أبواب المساجد وعند إشارات المرور، يستخدمون أساليب في استعطاف الناس من ارتداء الملابس البالية أو حمل الأطفال، والغريب أن هؤلاء يتمتعون بصحة جيّدة، ولا أدلّ على ذلك وقوفهم في شدّة الحرّ عند إشارات المرور.
ثم بعد ذلك قامت دراسة ميدانية لهؤلاء ووُجد أن من أهمّ أسباب التسوّل البطالة ثم الحاجة إلى العائد المغري غير المكلِف.
أما حكم التسوّل فقد حرّم العلماء التسوّل وسؤال الناس بغير ضرورة أو حاجة مهمّة، ثم قالوا: إن الأصل فيه التحريم، لأنه لا ينفكّ عن ثلاثة أمور محرّمة:
الأول: إظهار الشكوى من الله تعالى؛ إذ السؤال إظهار للفقر، وذكر لقصور نعمة الله تعالى، وهو عين الشكوى.
والثاني: أن فيه إذلال السائل نفسَه لغير الله تعالى.
والثالث: أنه لا ينفكّ عن إيذاء المسؤول غالبًا.
وقال ابن القيم رحمه الله: "إن المسألة في الأصل حرام، وإنما أبيحَت للحاجة والضرورة؛ لأنه ظلم في حق الربوبية، وظلم في حق المسؤول، وظلم في حق السائل".
إن الإلحاح على السؤال ينافي حال الرضا ووصفه، ولقد أثنى الله عز وجل على الذين لا يسألون الناس إلحافًا فقال جل وعلا: يَحْسَبُهُمُ ?لْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ ?لتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَـ?هُمْ لاَ يَسْئَلُونَ ?لنَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من كان عنده غداء لا يسأل عشاءً، وإذا كان عنده عشاء لا يسأل غداءً).
والآية الكريمة من سورة البقرة اقتضت ترك السؤال مطلقًا، لأنهم وُصِفوا بالتعفّف والمعرفة بسيماهم دون الإفصاح بالمسألة؛ لأنهم لو أفصحوا بالسؤال لم يحسبهم الجاهل أغنياء.
ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: قال رسول الله : ((ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم)) ، وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله قال: ((ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي يطوف على الناس، فتردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان)) ، قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يجد غِنى يغنيه، ولا يُفطَن له فيتصدَّق عليه، ولا يسأل الناس شيئًا)) ، وفي البخاري عن الزبير عن النبي أنه قال: ((لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره، فيبيعها فيكفّ الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه)) ، إن جمع حزمة من الحطب ـ ممّا رغب عنه الناس ـ أو من كلأ مباح، يحمله الرجل على ظهره، ويبيعه بدرهم أو درهمين، يحفظ بذلك على نفسه كرامتها، ويحفظ عزّها، ويقي وجهه من ذلّ السؤال، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه.
قال فيما رواه ابن مسعود رضي الله أنه قال: ((من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تُسدَّ فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك الله بالغنى، إما بموت عاجل أو غنى عاجل)) رواه أبو داود، ورواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".
لقد سمع عمر رضي الله عنه سائلاً يسأل بعد المغرب فقال لرجل من القوم: قم عشِّ هذا الرجل، فعشاه، ثم سمعه ثانية ثم قال: ألم أقل لك عشِّ الرجل؟! فقال: يا عمر، قد عشيتُه، فنظر عمر فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزًا، فقال له عمر: لست سائلاً، ولكنك تاجر، ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة، ثم ضربه بالدرّة وقال له: لا تعُد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لِلْفُقَرَاء ?لَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي ?لأرْضِ يَحْسَبُهُمُ ?لْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ ?لتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَـ?هُمْ لاَ يَسْئَلُونَ ?لنَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، فعن قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه، قال: تحمّلتُ حمالة ـ أي: دية أو غرامة يحملها الإنسان بسبب الصلح بين الناس ـ فأتيت رسول الله أسأله فيها، فقال له: ((أقم حتى تأتينا الصدقة فتأمر لك بها)) ، ثم قال: ((يا قبيصة، إن المسألة لا تحلّ إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمَّل حمالة فحلّت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش ـ أو قال: ـ سدادًا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة فحلّت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش ـ أو قال: ـ سدادًا من عيش، فما سواها من المسألة ـ يا قبيصة ـ سحت يأكلها صاحبها سحتًا)) رواه الإمام مسلم.
ولما جاء حكيم بن حزام رضي الله عنه إلى النبي سأله فأعطاه، ثم قال: سألته فأعطاني، ثم قال: ((يا حكيم، إن هذه المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارَك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى)) ، قال حكيم رضي الله عنه: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا، وكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيمًا إلى العطاء فيأبى، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئًا، ثم قال عمر: إني أشهدكم ـ أيها المسلمون ـ على حكيم أني أعرض عليه حقّه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحدًا من الناس بعد رسول الله حتى توفيّ. حديث متفق على صحته.
أيها المسلمون، إن النصوص الدالة على ذم التسوّل كثيرة، ولا صحّة لما يستدلّ به بعض العوام: "لو صدق السائل ما أفلح من ردَّه".
فلا تحسبنّ الموت موت البلى فإنما الموت سؤال الرجال
كلاهما موت ولكن ذا أشدّ من ذاك لذل السؤال
يكفي ـ يا عباد الله ـ أن التسوّل يورث الذلّ والهوان في الدنيا والآخرة، وأن هذا العمل عمل دنيء تمجّه الأذواق السليمة، وأن فيه دلالة على دناءة النفس وحقارتها.
فعلينا جميعًا ـ يا عباد الله ـ أن تحذّر أنفسنا من هذه، وأن تحارب هذه الظاهرة بجميع ما نملك.
هذا وصلوا على النبي المصطفى والرسول المجتبى فقد أمرنا الله جل وعلا أن نصلي عليه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء...
(1/3042)
الملاعين الأربعة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
28/1/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعريف اللعنة. 2- لعن من ذبح لغير الله. 3- لعن من لعن والديه. 4- لعن من آوى محدِثا. 5- لعن من غير منار الأرض. 6- التحذير من هذه الخصال الأربع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، في صحيح مسلم عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله بأربع كلمات، قال: ((لعن الله من ذبح لغيرِ الله، لعن الله من لَعَن والديه، لَعن الله مَن آوى محدِثًا، لعن الله من غيَّر منار الأرض)) [1].
أيها المسلم، عليّ رضي الله عنه أحدُ الخلفاء الراشدين، صاحب رسول الله ، يخبرنا أنَّ نبيَّنا حدَّثه بهذه الكلمات الأربع، هذه الكلمات المنهيّ عنها، المرتَّب لعنةُ الله على من انتهَك شيئًا منها، ولعنةُ الله للعبد إبعاده عن رحمته، لعنةُ الله عليه طردُه وإبعادُه عن رحمته، فأيُّ معصيةٍ رُتِّب عليها اللعنةُ فإنها إمّا كفريّة وإمَّا كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأنّ حقيقةَ اللعنِ الطردُ والإبعاد والإقصاء من رحمة الله، وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى? [طه:81]، قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذ?لِكَ مَثُوبَةً عِندَ ?للَّهِ مَن لَّعَنَهُ ?للَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ?لْقِرَدَةَ وَ?لْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ?لطَّـ?غُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاء ?لسَّبِيلِ [المائدة:60].
وإذا لعن اللهُ العبدَ لعنَه كلُّ شيء، أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ ?للَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ?للَّـ?عِنُونَ [البقرة:159].
إذًا فالمسلمُ يتَّقي لعنةَ الله بقدرِ ما يستطيع، ويتحرَّز عنها بقدرِ ما يمكنه، لينجوَ من غضب الله وسخطه.
وهذه الجمل الأربع المنهيّ عنها، أوّلها قوله : ((لعن الله من ذبح لغير الله)).
الذبح عبادةٌ لله، الذبحُ قربانٌ يتقرَّب به العبدُ إلى الله، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163]. وأمر الله نبيَّه بأن يكثِر من الصلاة له والنَّحر له، فقال: فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ [التكاثر:2].
هذه البهيمةُ التي خلقها الله لنا وسخَّرها لنا وهيَّأها لنا انتفاعًا ركوبًا وشُربًا وأكلا يجب أن نُريق دمها لمن خلقها وكوَّنها، أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعـ?مًا فَهُمْ لَهَا مَـ?لِكُونَ وَذَلَّلْنَـ?هَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَـ?فِعُ وَمَشَـ?رِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ [يس:71-73].
سخَّرها لنا وليست بأقلَّ شأنًا من السباع الضارية، لكن الله سخَّرها لنا نقودها وننتفعُ منها، كَذ?لِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ ?لْمُحْسِنِينَ [الحج:37]، كَذ?لِكَ سَخَّرْنَـ?هَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36].
إذًا فإراقةُ دماء بهيمة الأنعام من إبلٍ أو بقر أو غنَم لغير الله قربانٌ لغير الله وشِرك بالله وكفر به، أولئك الذين يذبحون لأربابِ القبور، ويتقرَّبون بالذبح لهم، ويعدُّون تلك قربةً يتقرّبون بها إلى الأموات، وهذا ممّا جاء الإسلام بالتحذير منه والوعيد على فاعله.
كانوا في جاهليتهم يذبحون لأصنامِهم وأوثانهم، قال الله: أَفَرَءيْتُمُ ?للَّـ?تَ وَ?لْعُزَّى? وَمَنَو?ةَ ?لثَّالِثَةَ ?لأُخْرَى? [النجم:19، 25]، لكثرة ما يُمنَى عندها ويراق عندها من الدماء.
هكذا كان حالُ المشركين، يذبحون لأصنامهم وأوثانهم، يتقرَّبون بذلك إليهم، وهم ضالّون في كلِّ تصرُّفاتهم، إذ من يعبدون من دون الله لا يسمَع دعاءً ولا يعلَم بحالهم، إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ?سْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر:14].
ذبحٌ لغير الله يفعله بعضُ الجَهَلة، يذبحون خوفًا من الجنّ ومن تأثيرهم عليهم. ذبحٌ لغير الله يأمر به الكهانُ والمشعوذون، يأمرون من أتاهم وطلَب منهم العلاج أن يجعلوا من وسائل ذلك أن يأمروه بذبحٍ لغير الله، فيقول: اذبح إلى الشرقِ لفلان أو باسم فلان أو باسم فلان، فيأتي الجاهل المسكين، فيطيعهم، ولا يعلم أنَّ تلك عبادةٌ لغير الله وشركٌ مع الله غيره.
أيها المسلم، فالذبح لغير الله قربانًا لغير الله كفرٌ ينقُل من الملّة، فمن ذبح لغير الله فليتُب إلى الله من جرمه.
وإنَّ الكهان والمشعوذين يأمرون من أتاهم بالذبح لغير الله، ويذكرون أسماءَ الشياطين ومَن يعبدونهم من دون الله، ليكشفوا الضرَّ ويعالجوا المرضَ ويخبروا عن السِّحر إلى غير ذلك من خرافات الجاهلية وأباطيلها.
وثانيًا: يلعَن رسول الله من لَعن والديه، فيقول: ((لعن الله من لعن والديه)).
أيها المسلم، إنَّك لا تكاد أن تسمعَ شخصًا يلعن أباه وأمَّه إلاَّ إنسان متمرِّد قاسي القلب فاقد الإيمان والعياذ بالله، فلعنُ الأبِ والأمّ لا يصدر من عاقلٍ يُحسِن ما يقول ويُدرك حقيقةَ ما يقول؛ إذ هذا مضادٌّ للبر، ومعاكس للإحسان، ودالٌّ على أصالة اللآمة والخِسَّة في نفس ذلك الإنسان. ولذا لما قال النبي : ((لعن الله من لعن والديه)) قال الصحابة: يا رسول الله، وهل يلعن الرجل والديه؟! هل يسبُّ الرجل أباه وأمه؟! هل يُعقَل هذا أم يليق هذا بإنسان يعقِل ما يقول؟! قد يكون لا بِرَّ فيه، ولكن أن يبلغَ به الأمر إلى أن يلعن الأبَ والأم، كيف يكون ذلك؟! قال لهم : ((يسبُّ أبَا الرجل فيسبُّ أباه، ويسبُّ أمَّه فيسبُّ أمه)) [2].
أيّها المسلم، من الأولادِ من هم رحمةٌ على آبائهم وأمّهاتهم، ومن الأولاد من هم شَقاء وعَناء على الأب والأم. من الأولاد من يتنعَّم الأبوان في اللَّحد بدعواتهم الصالحةِ وأعمالهم الخيِّرة، فكلَّما رُئي ذلك الإنسان وشوهدت أعماله الطيبة وأخلاقه الحسنة ومعاملته الجيِّدة تُرحِّم على أبويه ودُعي لأبويه، فأبواه تصِلهم تلك الدعواتُ الصالحة، تصعَد إلى السماء، وينتفع بها الآباء والأمهات.
ولدٌ نديُّ الكفِّ بالصدقة، باذل الجاهِ والمعروف، محسنٌ لعباد الله، باذل كلَّ خُلُق كريم، كافّ الأذى عن الناس، فأقواله طيّبة، وأعماله حسنة، يقصده من يقصده بعد الله لقضاءِ دَين وتفريج همٍّ وكشفِ كَرب وتيسيرٍ على معسِر، فإذا ذلك الإنسان طيِّبُ النفس باذل المعروف حَسَن الأخلاق ما استطاع لذلك سبيلاً، وإذا المكروبُ والمهموم والمُعسِر يرفع أكفَّه إلى الله أن يرحمَ والدَي ذلك الإنسان، ويحسنَ إلى والدَي ذلك الإنسان، فيقول: غفر الله لك ورحم أبويك وأحسن إليهما.
فما أعظمها من نِعمة، وما أكبره من فضل. الأبوان تحتَ الثرى، ولكن سيرتهما ظاهرة، وأسماؤهما على الألسنِ دائرة، بذلك الإنسان الذي هَذَّبَ الله أخلاقه وطيَّب نفسه، فأصبح عينًا جارية لأبويه، بالأعمال الطيِّبة والأخلاق الحسنة؛ رحِمٌ يصلها، ومسكينٌ يحسِن إليه، وصغارٌ يأويهم ويحسن إليهم، وإذا الدعواتُ تصل إلى الله، فكم من مكروبٍ فرَّج كربَه، ومن مهموم فرَّج همَّه، ومن معسِر يسَّر عليه، ومن مكروب ومصاب بآلام جاءت تلك الدعوات إلى الله لتصعَد إلى السماء راجيًا صاحبُها من ربِّ العالمين أن يثيب ذلك [المحسن] ووالديه، وربك يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
وكم من شقيٍّ صار وبالاً على نفسه وعلى من قبلَه، فأبواه لا يُذكَران ولا يعرفان، بل إذا ذُكرَا قيل: ما أنجبَا إلا شرًّا، ولا خلَّفا إلا سوءًا، وما تركا إلا رمادًا، فعياذًا بالله من سوء العاقبة، وعياذًا بالله من سوء الحال.
إذًا فالمسلم العاقل مَن هو خيرٌ لنفسه، وخير لوالديه، وخير لمجتمعه، وفَّق الله الجميعَ لكلِّ خير، وأعاننا وإياكم على كلّ خير.
وثالثًا: لعن رسولُ الله من آوى محدِثًا، فقال: ((لعن الله من آوى محدثا)).
المحدِث والمسيء والمجرِم لا يجوز إيواؤه، السّترُ عليه قبلَ أن تبلغَ الحدودُ السلطان، فإذا بلغت الحدودُ السلطانَ فلعَن الله الشافعَ والمشفَّع، لكن إيواء المجرم بالتستُّر عليه أو إعانته على جُرمه أو تمكينه من ضلالِه فإنَّ المسلمَ مع الحقّ دائر، وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ [المائدة:2].
فالمجرمُ لا أعينه على جُرمه، أنصحُه، أوجِّهه، أرشِده، أحذِّره، أبيِّن له أخطاءه، وأصوِّر له تجاوزاتِه، وأدعوه إلى الخير، وآخذ بيده إلى الطريق المستقيم، هذا هو الواجب، أمّا أن أدافعَ عنه وعن جرمه وإثمه وأكون في صفِّه ضدَّ العدالة وأنصُره على ظلمه وجُرمه وأتغاضى عن معايبه فذاك المنكر والبلاء.
دعاةُ الفُرقة ودعاةُ الفتنة ودعاة السوء ودعاة الضلال ودعاة الفساد ومن يسعَون في الأرض فسادًا بأقوالهم وأعمالهم موقِفي معهم نصيحتُهم إن قبِلوا، تحذيرهم من ضلالهم إن قصَدوا الحقَّ، وإلاَّ فلا أنصرُهم ولا أؤيِّدهم ولا أعتذِر عنهم إذا أبَوا قبول الحقّ والخضوع له، فإنّ المسلم لا ينصر الظلمَ ولا يؤيِّدهم، في الحديث: ((انصُر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) ، تساءل الصحابة: يا رسول الله، أنصرُه مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا؟! قال: ((تردعُه عن الظلم، فذاك نصرُك إياه)) [3]. فإذا رأيتُ ظالمًا ومفسدًا وساعيًا في الأرض فسادًا ومهدِّدًا لأمن الأمة فأنا أنصحه وأنصره بردْعه عن الظلم والأخذ على يده، وأما أن أؤيّده على جرمه وأنصرَه على ظلمه وأعينه على فساده فتلك المصيبة العظمى.
ورابعُها: يخبرنا عن مستحقِّ اللعنة الله بقوله: ((لعن الله من غيَّر منار الأرض)) ، وهي حدودها وعلاماتُها؛ بأن يتعدَّى على مُلك غيره ويزيل علامات مُلك غيره ويحلُّ أعلامه مكانَ أعلام غيره ظلمًا وعدوانًا، وهذا اقتطاعٌ لأموال المسلمين بغير حقّ، ونبيّنا يحذِّرنا فيقول: ((مَن اقتطع شِبرًا من أرض ظلمًا طُوِّقه يومَ القيامة من سبع أراضين)) [4] ، ويقول أيضًا: ((ليس لعِرقٍ ظالم حقّ)) [5].
كلّ هذا تحذيرٌ للمسلم من أن يتعدَّى على غيره، ويقتطعَ مال غيره، ويضيف مالَ غيره إليه، فإنَّ الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، فينتفع بتلك المساحة في الدنيا، ولكن يحمِلها أوزارًا يومَ لقاء الله، يُطوَّقها من سبع أرضين عقوبةً له على جُرمه وظلمه وتعدِّيه وعدم مبالاته بحقوق المسلمين.
تلك خصال أربع حذَّرنا منها نبيّنا ، والمسلم يقف أمام ذلك الوعيد الشديد ليجتنبَه وتبتعِد عنه ويتقي الله في أحواله كلها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الحشر:7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الأضاحي (1978).
[2] أخرجه البخاري في الأدب (5973)، ومسلم في الإيمان (90) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه)) الحديث.
[3] أخرجه البخاري في الإكراه (6952) عن أنس رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3198)، ومسلم في المساقاة (1610) عن سعيد بن زيد رضي الله عنه. وصح من حديث عائشة وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم.
[5] أخرجه أبو داود في الخراج (3073)، والترمذي في الأحكام (1378) عن سعيد بن زيد رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، وقد رواه بعضهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن النبي مرسلا"، والرواية المرسلة أخرجها مالك في الأقضية (1456). وله شواهد كثيرة، ولذا صححه الألباني في الإرواء (1520).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيها المسلم، علامةُ الإيمان حقًّا الاستجابةُ لله ورسوله، طاعةُ الله وطاعة رسوله فيما أمرا به وفيما نهيا عنه، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ?لْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى ?للَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [النور:51].
حذَّرك نبيك من الذبح لغير الله، فإياك وتلك الجريمةَ، وإن كنتُ أعلم أن المسلمَ لن يذبح لقبر ولا وثن، لكن هؤلاء الكهّان، هؤلاء المشعوذون أضلّوا الناسَ عن طريق الله المستقيم، وصدُّوهم عن طريق الهدى، وأمروهم بالذبح لغير الله، يزعمُون أنَّ في هذا الشفاء من المرض؛ لأنهم يقولون: نحن نستعين بالجنِّ المسلمين، نستعين بهم، فلا بدّ أن نذبحَ لهم ذبيحة ليعينونا ويكشفوا مرضنا وضررنا.
أيها المسلم، هؤلاء أفسدُوا دينَك، وأكلوا مالك، وكذبوا وظلموا، والشفاءُ والضرّ بيد الله، وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَـ?شِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدُيرٌ [الأنعام:17].
أيها المسلم، كن سببًا لوصول الخير لأبويك، كن سببًا لحصول الخير لهم، وكن سببًا لزيادة حسناتهم، وكن سببًا لارتياحهم في قبورهم، فقد ربَّياك صغيرا، وقاما بخدمتك، ولن تستطيعَ القيام بكامل حقِّهما مهما فعلت، إذًا فقابِل ذلك بأن تكونَ وسيلةَ خير لهم بالأعمال الطيبة والأخلاق الكريمة والطاعة قبل ذلك لله ورسوله.
احذر أهلَ الضلال، احذر أهلَ النفاق والفساد، احذَر من يُظهرون الإصلاحَ وهم مفسدون، ومن يريدون الخيرَ وهم كاذبون، وَ?للَّهُ يَعْلَمُ ?لْمُفْسِدَ مِنَ ?لْمُصْلِحِ [البقرة:220]، فلا تؤوي حَدثًا، ولا تنصُرُ باطلاً، ولا تعين مجرمًا على جرمه.
واحفظ مالك واتَّق الله، واحفظ للناس حقوقَهم، وإياك والتعدي والجنايةَ عليهم، فإن الله سائلُك يومَ القيامة، يوم تقف بين يدي الله، وقد ذهبت الأموال كلُّها، ولم يبق إلا حسناتٌ تؤخَذ منك أو سيئات تُحمَّلُ إياها، فاتَّق الله في نفسك، وقف عندما حُدَّ لك، وإياك وظلمَ الناس، ولا سيما إن كنتَ ذا جاه وقدرة وقبيلُك ضعيف، فإن الله ناصره، وإنّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلِته، وإن دعوةَ المظلوم لتصلُ إلى الله، وإن الله ليقول: وعزَّتي لأنصرنَّك ولو بعد حين. فاحذر مظالمَ العباد، فالمؤمن حقًّا من أمِنه الناس على دمائهم وأموالهم.
أسأل الله أن يرزقَ الجميعَ الاستقامة على الهدى، وأن يحفظنا من مكائدِ الشيطان، وأن يبصِّرنا في أنفسنا ويعيذنا من ظلم العباد، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
(1/3043)
حق الوالدين
الأسرة والمجتمع
الوالدان
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
28/1/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دروس في بر الوالدين من آيات سورة الإسراء. 2- الرسول يؤكد على عظم حق الوالدين. 3- التحذير من العقوق وبيان جزائه في الدنيا والآخرة. 4- التحذير من سماسرة الأرض الذين يبيعون أرض فلسطين والقدس لليهود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة الإسراء: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، هاتان الآيتان الكريمتان تشيران إلى معان إيمانية سامية أذكر بعضًا منها:
أولاً: يتوجب على الأبناء الإحسان إلى الوالدين، وبخاصة حين بلوغ أحدهما أو كليهما الكبر، ويلاحظ أن الإحسان إليهما قد ورد مباشرة في القرآن الكريم بعد ذكر عبادة الله رب العالمين، وذلك لبيان أهمية طاعة الوالدين. ومعنى وَقَضَى? رَبُّكَ أي: أمر وحكم، وهناك آية كريمة أخرى تؤكد هذا المعنى، فيقول سبحانه وتعالى في سورة النساء: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا [النساء:36].
ثانيًا: النهي عن التأفف والتبرم من قِبل الابن أمام والديه لأي سبب من الأسباب يراه منهما، وينبغي على الابن التصبر والتحمل لما يصدر عنهما. وماذا نقول ـ يا مسلمون ـ فيمن يشتم أباه أو أمه، بل ويمد يده عليهما بالضرب؟! فالإثم أشد وأشد، واللعنة تنزل على الابن العاق في الدنيا وفي الآخرة.
أيها الأبناء، أيتها البنات، أما النقطة الثالثة التي أشارت إليها هاتان الآيتان الكريمتان، فهي تحريم زجر الأبوين بأي كلام ينغّص عليهما أو يجرح شعورهما.
رابعًا: يتوجب على الابن أن يقول لهما قولاً حسنًا طيبًا مقرونًا بالاحترام والتقدير والتبجيل.
خامسًا: ينبغي على الابن أن يتواضع لهما تواضعًا مقرونًا بالرحمة والرأفة.
سادسًا: يتوجب على الابن أن يدعو لهما بالرحمة في حياتهما وبعد مماتهما عرفانًا بالجميل.
أيها المسلمون، أيها الأبناء، أيتها البنات، لقد تناولت موضوع بر الوالدين والنهي عن عقوقهما لما نشاهد ونلمس من تزايد لحالات العقوق، وما يترتب على ذلك من سلبيات كثيرة لا تخفى على أحد منكم، نتيجة تفكك المجتمع والانجراف نحو الدنيا ومفاتنها، وتحكم المقاييس الفردية في تصرفات معظم الناس.
أيها الأبناء، أيتها البنات، ينبغي أن يعلم أن بر الوالدين من أوجب الواجبات على الأبناء والبنات، ففضل الوالدين على الابن عظيم، ولا يستطيع الابن أن يوفي حقهما، ويبدو هذا واضحًا فيما ثبت في السنة، ففيها أن رجلاً جاء إلى الرسول فقال: يا رسول الله، إني حملت أمي على عنقي فرسخين في رمضاء، لو ألقيت فيها بُضعة من اللحم لنضجت، فهل أديت شكرها؟ فقال: ((لعله أن يكون بطلقة)).
وقد قدر الفقهاء مسافة الفرسخ بثلاثة أميال، وعليه يكون الفرسخان ستة أميال وكان ذلك في يوم شديد الحر، فالابن الذي حمل على عنقه أمه مسافة ستة أميال في يوم شديد الحر لا يوازي ذلك طلقة واحدة حينما تلد الأم ابنها.
أيها المسلمون، أيها الأبناء، أيتها البنات، إن من حقوق الوالدين على الأبناء الإنفاق عليهما ومد يد العون لهما، فقد ورد أن ابنًا اشتكى إلى الرسول أن أباه يأخذ من ماله، فدعا رسول الله الأب، فماذا كانت المفاجأة يا مسلمون؟ الأب شيخ كبير السن يتوكّأ على العصا، فسأله رسول الله عليه الصلاة والسلام عن ذلك، فقال الأب: إن ابني كان ضعيفًا وأنا قوي، وكان فقيرًا وأنا غني، فكنت لا أمنعه شيئًا من مالي، واليوم أنا ضعيف وهو قوي، وأنا فقير وهو غني، وبخل علي بماله، فبكى رسول الله صاحب القلب الرحيم الرؤوف، وقال عليه الصلاة والسلام للابن: ((أنت ومالك لأبيك)) ، أي: من حق الأب أن يأخذ قدر حاجته من مال ابنه، وفي حديث نبوي شريف آخر: ((أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من أموالهم)).
أيها المسلمون، أيها الأبناء، أيتها البنات، إن من حقوق الوالدين أيضًا على الأبناء والبنات القيام بخدمتهما ورعايتهما، وإن خدمة الأبوين واجبة على الأبناء والبنات بل هي مقدَمة على الجهاد في سبيل الله، أي أن ثواب خدمة أحدهما يفوق ثواب الجهاد في سبيل الله، فقد ثبت أن رجلاً جاء إلى النبي يستأذنه في الجهاد فقال: ((أحيّ والداك؟)) قال: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: ((ففيهما جاهد)) ، وثبت أن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة في وقتها)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)).
أيها المسلمون، أيها الأبناء، أيتها البنات، لقد فاضل الشارع الحكيم بين الأب والأم في الحقوق والرعاية من قبل الأبناء والبنات، فجعل حق الأم على الابن أعظم وأكبر من حق الأب، لأن الأم أوفر رحمة وأعظم شفقة، فهي التي تقاسي من آلام الحمل والوضع، وهي التي تشقى وتتعب في الرضاعة والحضانة والتربية، إنها تسهر ليلها ليرتاح ابنها، إنها تجوع نهارها ليشبع ابنها، كما أن الأم هي المحور الذي تلتقي حوله الأسرة، فالأم هي مركز الأسرة، وهي مصنع الرجال ومربية الأطفال، لذا استحقت التكريم والرعاية والعناية.
ففي الحديث النبوي الشريف المشهور سأل رجل رسولَ الله : من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)).
وثبت أن الصحابي الجليل معاوية بن جاهمة السلمي قد جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك، فقال: ((هل لك من أم؟)) قال: نعم، قال: ((فالزمها، فإن الجنة تحت قدميها))، وفي رواية: ((تحت رجليها)).
أيها المسلمون، أيها الأبناء، أيتها البنات، كما أن بر الوالدين من أوجب الواجبات فإن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، بل إن العقوق يأتي في الإثم بعد الإشراك بالله، لقول رسولنا الأكرم : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاثًا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين)) ، وكان متكئًا فجلس، وقال: ((ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور)) ، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت، ولقوله عليه الصلاة والسلام: ((كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات)). فالابن العاق يعاقب عقوبتين: إحداهما في الدنيا، والعقوبة الأخرى في اليوم الآخر نتيجة عقوقه، فإن جريمة العقوق هي الوحيدة من الكبائر التي لها عقوبتان: دنيوية وأخروية.
ويجب عليكم ـ أيها المسلمون ـ بر الوالدين وطاعتهما، حينئذ ينزل الله رحمته علينا، فالرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم. وينبغي أن نتراحم فيما بيننا في جميع مجالات حياتنا؛ في الأسواق وفي المدارس وفي البيوت وفي كل موقع، فإن بر الوالدين يؤدي إلى أن يبركم أبناؤكم. إياكم وعقوق الوالدين، فإن العاق يحرم من الجنة، لقول رسولنا الأكرم : ((لا يدخل الجنة عاق ولا قمّار ولا منان ولا مدمن خمر)).
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، عليه من الله صلاة وسلام دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المصلون، نحتسب عند الله عالمًا عاملاً وداعية ناجحًا ومصلحًا لذات البين مخلصًا، إنه المرحوم ـ بإذن الله ورحمته ـ فضيلة الشيخ عبد الحليم عايش أبو محمود، مفتي محافظة بيت لحم، وكان رحمه الله محبًا للأقصى، وحريصًا على صلاته ودوامه في الأقصى، فترحموا عليه.
أيها المسلمون، لقد قررت المحكمة الإسرائيلية هذا الأسبوع تمديد اعتقال خمسة من إخواننا الأفاضل في الحركة الإسلامية في الخط الأخضر مدة تسعين يومًا، وفي هذا الإجراء ظلم وتعسف ولا مبرر له، إلا لأنهم يقولون: ربنا الله، ولأنهم يحبون المسجد الأقصى المبارك، ونسأل الله أن يفرج عنهم وأن يفك أسرهم وأسر سائر المعتقلين، لنراهم في المسجد الأقصى المبارك، فهم من محبيه، ومن الذين يعمرونه.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، لقد وصلتني عريضة من أهالي سلوان الكرام يحذرون فيها من تصرفات وأعمال السماسرة المجرمين، ومثل ذلك وصلتني عريضة أخرى من أهالي الطور جبل الزيتون الكرام، هؤلاء السماسرة الذين لا يتقون الله، وفي هذه الأيام يصولون ويجولون، وبخاصة في البلدة القديمة من مدينة القدس وفي سلوان وفي الطور أيضًا، إنهم قاموا بتسريب عدد من البيوت، لقد انكشفت صفقات البيع، وعرف السماسرة كما عرف البائعون، فأرضنا فلسطين هي أرض طاهرة مقدسة مباركة تنبذ النجس وتنبذ السماسرة وتكشف جرائمهم، ولا مجال لأن يستتروا طويلاً.
وقد سبق لعلماء فلسطين أن أصدروا عدة فتاوى تحرم بيع الأراضي والبيوت لليهود، وذلك منذ الثلاثينات من القرن الماضي، وقد أكدنا على هذه الفتاوى مرارا، وأكدنا أن السماسرة والبائعين للأراضي والبيوت هم مفارقون لجماعة المسلمين، وأنهم تاركون للدين، وأن الذي يموت منهم لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وقد حصل أن عددًا من هؤلاء السماسرة والشواذ لم يصلَ عليهم في المسجد الأقصى المبارك، ولم يدفنوا في مقابر المسلمين، فالسعيد من اتعظ بغيره، والشقي من كان عظة لغيره.
هذا وعلى جميع المواطنين أن يكونوا حذرين من الأساليب الملتوية الشيطانية التي يتبعها سماسرة السوق في تسريب البيوت، بل يتوجب على المسلمين كما ورد في الفتوى أن يقاطعوهم، لأنهم خارجون عن جماعة المسلمين.
أيها المسلمون، يا أبناء بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، أما ما يتعلق بمقبرة باب الرحمة المحاذية لسور المسجد الأقصى المبارك من الجهة الشرقية، فهي مقبرة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ويعود تاريخها إلى الفتح العمري، وقد جرى خلال هذا الأسبوع العبث بقبورها من قبل ما تسمى بسلطة حماية الطبيعة الإسرائيلية، وتناثرت عظام الأموات، كما حصلت اعتداءات على مقابر أخرى للمسلمين، ورسولنا الأكرم يقول: ((كسر عظم الميت ككسره حيًا)).
هذا وقد أصدرنا فتوى شرعية تتعلق بالاعتداء على المقابر بشكل عام وعلى مقبرة باب الرحمة بشكل خاص، وأوضحنا في الفتوى بأن المقابر لها حرمتها، ويتوجب المحافظة عليها وعدم المساس بها، ويحرم العبث فيها ونبشها، وعلى المسلمين أن يتكاتفوا للحفاظ على قبور آبائهم وأجدادهم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(1/3044)
فقيد الدعاة والمجاهدين
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
5/2/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حسن الخاتمة مطلب أولي الألباب. 2- الجود بالنفس. 3- الإرهاب اليهودي. 4- سوء عاقبة الظالمين ومصيرهم. 5- واجب الصبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عبادَ الله، اتقوا الله وابتَغوا إليه الوسيلة بتوحيده وذكره وشكره وحسن عبادته والنزول على حكمه والتسليم لأمره.
أيّها المسلمون، إنَّ حُسنَ الخاتمة للمرء أملٌ تصبو إليه نفوسُ أولي الألباب وتهفو إليه قلوبهم وترنو إليه أبصارهم؛ لأنّ انتهاءَ هذه الحياةِ الدنيا وانقضاءها بالموت الذي كتبه الله على كلِّ من عاش على الغبراء حيث قال سبحانه: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26، 27]، وقال في خطابه لعبده ورسوله وخيرته من خلقِه محمّدٍ صلوات الله وسلامه عليه قال: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34]، إنّ هذه النهايةَ المحتومة باعثٌ لهم على ختم صحائفِ الأعمال بأشرف ما تختَم به من كنوز الأعمالِ وأرصِدة الباقياتِ الصالحات؛ لأنّهم يذكرون على الدوام قولَ رسول الله في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه وابن ماجه في سننه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه صلوات الله وسلامه عليه قال: ((يبعَث كلُّ عبدٍ على ما مات عليه)) [1] ، وهذا يقتضي أن يبذلَ المرءُ لدينه وأن يجودَ لربِّه في إخلاصٍ له ومتابعةٍ لرسوله صلوات الله وسلامه عليه، ولا ريبَ أنّ روحَه التي بين جنبيه هي أقصى ما يجود به، ولذا كان للشهادةِ في سبيل الله هذا المقامُ الرفيع الذي بيَّنه سبحانه بقوله: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171].
فليس عجبًا إذا أن تتوالي مواكبُ الشهداء الأبرار في تاريخ هذه الأمةِ المسلِمة أملاً في بلوغ هذه المنزلةِ والظفَر بهذا الموعود، ولقد كان فقيدُ الدعاةِ والمجاهدين أحمدُ ياسين رحمه الله من أولئك الذين سعَوا بمقالِهم وفِعالهم إلى الحظوةِ بهذا المقامِ بإصرارٍ وشموخ، أحسَبه ونحسبه جميعًا كذلك، والله حسيبُه، ولا نزكِّي على الله أحدًا.
عبادَ الله، إنّ هذا العملَ الإجراميَّ الظالمَ الذي ذهب ضحيّتَه هذا الرجلُ المقعَد المريض يقدِّم دليلاً صارخًا جديدًا يُضاف إلى ما سبَق من أدلّة تصوِّر كلُّها هذا الإرهابَ الذي يمارَس صباحَ مساءَ على ثرى أرضِ الإسراء والمعراج في أحداثٍ دامية، يتفطّر لها القلب أسًى، وكلُّ ذلك بدعوى حقِّ الدفاع عن النفس زعموا، وإذا كان للغاصِب الباغي والمعتدِي هذا الحقُّ فأين حقُّ المظلوم الذي اغتُصِبت أرضه ودنِّست مقدَّساته وسُفِك دمه وشرِّد أبناؤه؟! أليس له حقُّ الدفاع عن نفسه؟! وأين حقوقُ الإنسان إذًا مِن كلّ هذا؟! أليس فيها ما يتَّسع للمسلمين من أبناء فلسطين؟! وما مبلغُ الصّدق في دعاوى العدالة وسِيادة القانون وغيرها من الشعارات التي يرفعونها؟!
عبادَ الله، إنّ على كلّ مسلمٍ حزَّت فؤادَه هذه الجريمةُ النكراء وغيرها ممّا سبقَها يجب أن لا يغفل أبدًا عن أنّ من بديع التدبير ومحكَم التقدير أنّ الله يُملي للظالم حتى يزدادَ إثمًا وبغيًا وغرقًا في بحر سيّئاته، ثم بعد ذلك يأخذه أخذَ عزيز مقتدِر، يأخذه أخذًا لا منجَى له منه، كما جاء في الصحيحين وغيرهما عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((إن الله تعالى ليملي للظالمِ حتى إذا أخذَه لم يفلته)) ، ثم قرأ قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] [2].
إنّه آيةٌ بيِّنة على الكيد المتين كما قال سبحانه: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:45]، وصدَق سبحانه إذ يقول: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2].
نفعني الله وإيّاكم بهدي كتابه وبسنّة نبيّه محمد ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الجنة (2878).
[2] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4686)، صحيح مسلم: كتاب البر (2583).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله إمام المتقين وقائد الغرِّ المحجلين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، إنَّ الوصية بالصبر عندَ نزول المحَن وتتابُع الرزايا ليس أمرًا باتِّخاذ السلبيّة مطيّةً ولا باتِّخاذ التقاعُس والقعود عن أداء ما يجب مركبًا، بل هي استجابة لأمر الله القائلِ لنبيِّه صلوات الله وسلامه عليه: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل:127]، وهي استجابة لأمر الله القائل له أيضا: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35]، ولِما فيه من توحيدٍ لله تعالى وإيمانٍ بقضائه وقدَره وكبتٍ وكمَد لعدوِّه وقهرٍ لشيطانه وهمزاتِه وقمعٍ لحديث نفسِه وتقويةٍ لقلبِه وشحذٍ لعزمه وظفَر بأجره الذي بيّنه سبحانه بقوله: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
ولذا كان أمرُ المؤمن كلّه خيرًا له في السراء والضراء، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحِه عن صهيب بن سنان رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمرَه كلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابَه سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صَبر فكان خيرًا له)) [1].
ألا فاتَّقوا الله عبادَ الله، وكونوا على الدوامِ مع الصابرين، واذكروا أنّ الله تعالى قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...
[1] صحيح مسلم: كتاب الزهد (2999).
(1/3045)
تضحية مقعَد
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
5/2/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الموقف الصحيح من الشدائد والمحن. 2- التأمل في حال الأمة. 3- فقه الهزيمة والنصر. 4- سنة الابتلاء. 5- تضحيات الصحابة رضي الله عنهم. 6- مدرسة الشدائد. 7- أمة العطاء. 8- انتصار الإيمان. 9- الشيخ أحمد ياسين. 10- طغيان اليهود. 11- أسباب رفع البلاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
إن المِحَن التي تمرُّ على المسلمين اليوم شديدة، وقد لا تحتاج مزيدَ وصفٍ وتكييف، وواقعُ الأمّةِ مليءٌ بالشواهد والمواجع والفواجع، وكلَّما توسَّعت بنا دائرةُ المحن فسوفَ توصلنا إلى آلامِ الأمّة من مشارقها إلى مغاربها. بلاءٌ شديد يشمل القتلَ والتشريد وانتهاكَ الحرمات، ممّا يُدمي القلبَ ويُدمع العين ويملأ النفوسَ ألمًا، يزيد من لأوائها قلّةُ الناصر وهول المصيبة.
لا يفيد الأمّةَ تَردادُ فصول المأساة وجلدُ الذات وتعميق الأحزان، فهذا يقذف بها في أتّون اليأس ومشاعر الحزن، كما يكسِر النفسَ ويُحطِّم الآمال ويُقعد عن الأعمال.
في أوقات المحَن والشدائد تحتاج الأمّةُ إلى خطابٍ يبعَث الأملَ ويشحذ الهمم ويمسح مرارةَ الأحداث. في أوقات المحن تتنزّل آيُ القرآن الكريم تسليةً لرسول الله ودفعًا لآلام الحزن: فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ [يس:76]، فَلَعَلَّكَ بَـ?خِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى? ءاثَـ?رِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـ?ذَا ?لْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6]، ي?أَيُّهَا ?لرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ?لَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى ?لْكُفْرِ [المائدة:41]. ويأتي خبّاب بن الأرت رضي الله عنه رسول الله يشكو ألم الفتن وشدّة المحن قائلاً: ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! فينقلُه رسول الله من أجواء الشدّة والكرب إلى حال الفتح المبين والنصر العظيم ثقةً بوعد الله قائلاً: ((والله، ليتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاءَ إلى حضرموت؛ لا يخاف إلا الله أو الذنب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) [1].
إنَّ البكاءَ والنياحةَ لا يفيد قضيّةً ولا يصلح حالاً، حتى تتحوّل الدموع إلى تأمُّل في أحوال الأمّة وإصلاح للنفس وتربيةٍ على الإيمان وعملٍ بنّاء لنُصرةِ الدين، حينئذ ما أجملَ الدموعَ وأعذبَ البكاء.
الأمّةُ المريضة لا يعبأ بها أحد، ولا يلقي لها الناسُ بالاً، ولا تستحقّ أن تقدَّر أو تُهاب، لكن الأمّة الحيّة برجالها المعطاءةَ بأبنائها يهابُها الناس، يخافون يقظتَها، لذا فهم يسعَونَ لقطع جُذُورها ووأدها في مهدِها، ويتعاملون معها بصلَفٍ وظلم وجبروت.
الأمّة الحيّة تصنع من الهزيمة نصرًا، ومن الحزن أملاً، حتى لا يستغرقَ أبناؤها في التلاوم والتأوُّه والألم، تجلَّى هذا في أمر رسول الله للصحابةِ في غزوة أحدٍ بعد سهو الرُّماة، ولم يجعلهم أسرى لحظة الألم ومرارة الهزيمة، دفَع بهم إلى مطاردةِ العدوّ حتى تتحوّل مشاعِر الانكسار والحسرة إلى شعورٍ بالغلبة والظهور.
إن أخطرَ هزيمة تحطُّمُ النفوس واستسلام العزائم وذوبان الهِمم، فهذه الطامّة الكبرى، أما الهزيمة على الأرض فهذه سنّة ماضيةٌ وصولاتٌ وجولات، حسم نهايتَها وبشّر بمآلها مالك الملك: وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:118]، وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ [الحج:40]، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?دُ [غافر:51].
سئل الشافعي رحمه الله: أيهما أفضل للرجل: أن يُمكَّن أو يبتلى؟ قال: "لا يُمكَّن حتى يُبتلى" [2] ، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين، ثم تلا: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِئَايَـ?تِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]" [3].
قال ورقة بن نوفل لرسول الله : ليتني أكون حيًّا إذ يخرجُك قومك، فقال رسول الله : ((أوَمُخرجيَّ هم؟!)) ، قال: نعم، لم يأتِ رجلٌ قطّ بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومُك أنصرك نصرًا مؤزَّرًا [4].
لقد تجلَّت التضحياتُ والمواقف النبيلة بالثبات على المبدأ الحقّ عن الصحابة رضوان الله عليهم بما يبهر العقولَ وتعجز الألسُن عن وصفِه، لم يكن مكر العدوّ وكيدُه المسعور ليثنيَهم عن واجبٍ عظيم ورسالةٍ قد آمنوا بها وأُشربوا حبَّها وعاهَدوا الله عليها، وفي أيّام الحصار في شِعبِ أبي طالب كان الصحابة رضوان الله عليهم يلقَون غيرَهم في موسم الحجّ، ولم تثنِهم آلامهم عن تبليغ الدعوة، فأنّ الاضطهادَ لا يقتل الدعوات، بل يزيد جذورَها عُمقًا وفروعَها امتدادًا، وسيزداد المؤمنون بالمحَن صلابةً وقوّة وعزيمة ويقينًا، قال تعالى: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
إخوةَ الإسلام، إنّ هذه الشدائد التي يمرّ بها المسلمون تربِّي جيلا قويًّا قادرًا على البذل في سبيل الله، أمّا جيلُ الميوعةِ والذلِّ والمهانة فهو جيلُ الهزيمة والعار. لما رفض بنو إسرائيل دخولَ الأرض المقدّسة قالوا لموسى: فَ?ذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَـ?هُنَا قَـ?عِدُونَ [المائدة:24]، فحكم الله عليهم بالتيه في الصحراء أربعين سنة.
إن الشدائدَ والمحنَ تفجِّر طاقةَ الأمّة وتحرّك الهمَم الخامدة بعد أن تنزلَ بساحتها ضرباتٌ موجِعةَ توقِظ من سباتٍ وتفيق من غفلة.
الأمةُ الإسلامية قدّمت رجالاً هِممهُم كأمثال الجبال، كما قدّمت في ميدان العلم والكفاح أبطالاً، فهدى الله بهم أجيالاً وأجيالاً.
أمّةُ الإسلام لا يُعلم أوّلُها خير أم آخرها، فكما ينبتُ المطرُ العشبَ تنبتُ أمتُنا الأسْدَ الأباة في كلّ زمان وفي كلّ آن. أمةٌ أنبتت قِممًا شُمخًا أمثال خالد بن الوليد والمثنَّى وابن وقّاص، ومن بعدهم صلاح الدين، وقد ينتصر أفرادٌ رغم هزيمة الأمّة.
الأمّة الإسلامية أمةٌ ولود، كلّما فقدت بطلاً ولَّدَ فقدُه أبطالاً يخلفونه ويحملون الراية، ولن تسقطَ الراية أبدًا.
قتِل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاتِح بيت المقدس، قتِل عثمان بن عفان رضي الله عنه فاتحُ الفتوح ظلمًا وعدوانًا، قتِل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ومات بعدهم أبطالُ الإسلام الذين ارتوت الأرض بدمائهم، كلُّ قطرة دمٍ منها تقرِّب أمتَنا إلى النصرِ بإذن الله، وَ?لَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـ?لَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ ?لْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:4-6].
يحكي لنا رسول الله قصةَ الغلام المؤمن الذي صلَبه طاغيةُ عصرِه على جِذع شجرةٍ ليقتله فتموتَ دعوتُه بموته ويحولَ بينه وبين أثره في الناس، ولكن هيهاتَ هيهات، حدث ما لم يكن في الحسبان، قال الناس جميعًا: آمنّا بربِّ هذا الغلام [5].
جاد الغلامُ بنفسه وضحّى بروحه لتحيا دعوةُ الله في النفوس، هانت عليه نفسُه من أجل العقيدة، والموتُ من أجل عقيدةٍ ومبدأ ربحٌ لا خسارةَ فيه وحياةٌ لا موتَ فيها، والغلام آثر الموتَ وقدّم روحَه ليبقى دين الله ظاهرًا بعده، وليس بالضرورة أن يكونَ النصر دائمًا نصرًا عسكريًّا.
من خلال الأحداث ـ عباد الله ـ التي تجري بمشهد منّا ويقرع صداها أسماعَنا نجد انتصارَ الحقّ على الباطل وشموخَ القوّة في مواجهة الضعف، انتصار الإيمان على القوى المادّية مع كثرة عدَدِها وعتادها، كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ?للَّهِ [البقرة:249]. هذا توجيهٌ ربانيّ يؤكّد انتصارَ الفئة القليلة على الفئة الكثيرة لمن آمن به وتوكّل عليه وأخذ بأسباب النصر.
انتصرتِ الفئة القليلة في غزوة بدر الكبرى على الفئات الكثيرة، وكانت هذه الغزوة فاتحةَ انتصارات إسلاميةٍ متتالية في عهد الرسول وعهد خلفائه الراشدين ومَن بعدهم.
والشعبُ الفلسطيني شعبٌ أعزل، يُقلِق ويحطّم كبرياءَ جيشٍ يحمل القنبلةَ والدبابة والمدفع، ما أعظمَها من بطولة.
ما أعظمها من بطولة يا أطفالَ الحجارة، وما أجلَّها من تضحية يا أمهاتِ أبطال الحجارة، أسلحةٌ وقنابل وصواريخ لمحاربة طفلٍ لا يملك إلا حجارةً وعجوز ترفع يدَيها إلى الله ضراعة، وشيخٍ مقعَد يُقتل غدرًا وخيانة.
إنه إجرامٌ سافر واستخفاف بمشاعر ملايين المسلمين، فأشلاؤه على كرسيِّه، وهو منتقل من محرابه، شاهدٌ على الغدر والخيانة.
كان الشيخ المقعَد نجمًا في السماء، شيّد في قلوبِ المسلمين شُعلةَ تضحية، وأذكى شُحنة عِزٍّ وإباء. إنه جسدٌ على كرسيّ، لكنه كان شجًى في حلق العدوّ وجوًى في جوفه. إرادتُه الفذّة كالطَّود الشامخ تهزّ الأرضَ تحت أقدام الظالمين. رغم كِبَره رغم إعاقته مرّغ أنوفًا وكسَر غطرسةً وكبرياء. سكونه كلام، ولسانُه حُسام. ضعيفُ البنية، لكنه قويّ العزم سامي الهمّة. لم يركن إلى الدنيا، ولم يستسلم للذلّ والعار، ولم يطلب شهرةً وشهوة. جسدُه ضئيل، لكنه كان عملاقًا بمواقفه، عظيمًا بثباته، كتب تأريخًا مشرقًا كإشراقةِ وجهه، وجميلا كابتسامةِ ثغره، وشريفًا كشَرَف قضيّته.
عباد الله، اغتيالُ الأبطال يحقِّق لهم شهادةً هي لهم أمنية، وإن الدماءَ التي سالت على الأرض المقدّسة ستُروّي الأرض لتنجب أسودًا للإسلام، وستزيد أصحابَ الحقّ قوّةً وتؤجّج روحَ التضحية والاستبسال، وستولِّد رُعبًا في قلوب الظالمين، تجعلهم يموتون كلَّ يوم مائة مرَّة هلعًا وخوفًا.
إن اغتيالَ الشيخ المقعَد للقضيّة انتصار، وله كرامة. اغتيالُه يُحيي في القلوب حبَّ الموت على كرامة، وأصحابُ المبادئ لا يؤثِّر فيهم موتُ قائدٍ حتى يتحقَّق النصر بإذن الله، (من كان يعبد محمّدًا فإنّ محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت) [6].
إذا حضر أجلُ الأبطال وماتوا كغيرهم دُفِن ذكرهم معهم في قبورهم، ولعلّ من الحكمة أن لا يموتوا إلا موتةَ عزّةٍ تحيي مشاعرَ الأمة وتغذّي معانيَ الهمّة وتذكّر بأعظم قضيّة، وتولّد كلُّ قطرة دم إباءً لا يقبل الهزيمةَ والذلة، وتخلِّد ذكراهم درسًا في البذل والتضحية، لكنّ العدوَّ لا يقرأ أحداث التأريخ، وإذا قرأ لا يفهمه.
إن قراءةَ تاريخ الأمة الإسلامية تبيّن أن هذه الأمةَ كالشجرة الطيبة المباركة، أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء، لا تهزّها الرياح، ولا تقتلعها العواصف، كلّما قُطِع منها غصنٌ قويت وزادت صلابتُها.
إنّ هذا الشعبَ كشف للجيل المعاصر أن عزّةَ المسلم لا تتحطّم، وأن الأسلحة تتحطّم إلا إباءَ المسلم فإنه لا يلين.
لقد أنجزت الحجارةُ ما لم تنجزه البنادق؛ أزالت الحجارة حجابَ الخوف الذي هيمَن على قلوب أهل الأرض، حطّمتِ الحجارة أسطورةَ الجنديّ الذي لا يقهَر، لاَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ [الحشر:14]. ذلك أن الحجارةَ يحملها قلبٌ ينبض بعقيدةِ اليوم الآخر، والدبابة تحتضن جسدًا خاويًا يهابُ الموتَ ويحرص على الحياة، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ?لنَّاسِ عَلَى? حَيَو?ةٍ [البقرة:96].
الحجارة قطَعت حجابَ الوهن، وجعَلت النفوسَ لا تهاب الموت، شامخةً أبيّة، وَإِذْ يَعِدُكُمُ ?للَّهُ إِحْدَى ?لطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ?لشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ?للَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَـ?تِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ?لْكَـ?فِرِينَ [الأنفال:7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيّد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في المناقب (3612، 3852) عن خباب بن الأرت رضي الله عنه.
[2] انظر: زاد المعاد (3/14).
[3] مدارج السالكين (2/154).
[4] أخرجه البخاري في بدء الوحي (4)، ومسلم في الإيمان (160) عن عائشة رضي الله عنها.
[5] قصة الغلام أخرجها مسلم في الزهد (3005) عن صهيب رضي الله عنه.
[6] هذا من كلام أبي بكر رضي الله عنه لما توفي النبي ، أخرجه البخاري في الجنائز (1242) عن عائشة رضي الله عنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له إله البريات، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله أجلدُ العباد صبرًا في الملمّات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاةً تنفعنا يومَ العرصات.
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تبارك وتعالى، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
إخوةَ الإسلام، على أرض فلسطين جاوز الظالمون المدَى، فقد طغَوا واستكبروا وعاثوا في الأرض فسادًا، أهلكوا الحرثَ والنسل، سفكوا الدماءَ، قتلوا الأبرياء، ذَبحوا النساءَ والأطفال، نزعوا الأرضَ من أصحابها، فلماذا يحجم العالم الذي يزعُم أنه متحضِّر عن ردع المعتدِي والأخذ على يديه؟! أين المعاهدات والمواثيق؟! أين دعاةُ السلام والداعون له؟!
إنّ الطغيان إذا فشا والظلم إذا تعاظم يسوق أصحابَه إلى الهلاك وهم لا يشعرون، فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء حَتَّى? إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَـ?هُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ [الأنعام:44].
البطش والاستكبار وجسامة التحدِّي تتطلّبُ من الأمّة أن تسموَ إلى مستوى الأحداث، فتنفُض عن نفسها معوِّقات العزائم ومولِّدات العَجز وإرهاصات الضَّعف.
إنَّ قضيةَ فلسطين شأن كلّ مسلمٍ وقضيةُ كلّ مسلم، وإنّ الأمةَ ستمضي في عزمها متمسكةً بحقِّها المشروع وقدسِها المسلوب، ولن تضيع دماءُ الشهداء هدرًا، وكلّما اشتدَّت الظلمات قرُب انبلاجُ الفجر، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ [ص:88].
إخوةَ الإسلام، لنا أن نتساءل: ما هي الأسباب التي يرفع الله بها عن الأمّة البلاء؟ كيف ترفعُ الأمة عن نفسها البلاء؟ بأسبابٍ إخوةَ الإسلام:
أولها: تقوى الله بفعل أوامِره واجتناب نواهيه، قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، ويقول رسول الله : ((احفظ الله يحفظك)) [1] ، احفَظ أوامرَ الله ونواهيَه في نفسك يتولَّك ويرعَك ويُسدِّدك ويكن لك نصيرًا في الدنيا والآخرة، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62].
ثانيها: أعمال البرِّ والإحسان إلى الخلق، وفي الحديث: ((صدقة السرِّ تطفئ غضبَ الربّ، وصلةُ الرحم تزيد في العمر، وفعل المعروف يقي مصارعَ السوء)) [2].
ثالثها: الدعاء، وفي الحديث: ((لا يردّ القضاءَ إلا الدعاء، ولا يزيدُ في العمرَ إلا البر)) [3]. قال السلف رضي الله عنهم: الدعاء عدوّ البلاء؛ يدفعه ويعالجه ويمنع نزولَه.
رابعًا: الإكثار من الاستغفار والذكر، قال سبحانه: وَمَا كَانَ ?للَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]. وكشف الله الغمّةَ عن يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت لكثرةِ تسبيحه واستغفاره، فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ?لْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143، 144]، يقول عمر رضي الله عنه للصحابة: (لستم تنصَرون بكثرة، وإنما تنصرون من السماء) [4].
ألا وصلّوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (1/293)، والترمذي في صفة القيامة (2516) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الضياء المقدسي في المخارة (10/25)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وهو في صحيح السنن الترمذي (2043).
[2] أخرجه الطبراني في الكبير (8/261) عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب (2/15) والهيثمي في المجمع (3/115): "إسناده حسن"، وله شواهد كثيرة عن عدد من الصحابة منهم: أنس ومعاوية بن حيدة وأبو سعيد وابن مسعود وابن عباس وأم سلمة وأبو هريرة وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم، ولذا حسنه الألباني في صحيح الترغيب (889).
[3] أخرجه الترمذي في القدر (2139) عن سلمان رضي الله عنه، وقال: "حديث حسن غريب من حديث سلمان"، وله شاهد أخرجه أحمد (5/277، 280، 282)، وابن ماجه في المقدمة (90) عن ثوبان رضي الله عنه، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (154).
[4] انظر: الجواب الكافي (ص14).
(1/3046)
استشهاد الشيخ أحمد ياسين
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
5/2/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جريمة يهودية جديدة. 2- المؤامرة على فلسطين وسط تواطؤ العملاء وتقاعس المسلمين. 3- رسالة لمؤتمر القمة العربي. 4- الاستبشار بنصر الله القادم. 5- التفكر والادّكار بحادثتي قتل عمر وعثمان رضي الله عنهما. 6- الجنود اليهود المحاصرون للأقصى أكثر من عدد المصلين فيه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تبارك وتعالى، واعلموا أنكم في دنيا فانية، وأن الدار هي الدار الآخرة، هي الدار الباقية.
أيها المؤمنون، يأتي التصعيد الإسرائيلي الأخير غاية في الانتقام والإذلال لشعبنا وعلى جميع المستويات قيادة وكوادر ومؤسسات، اغتيال الشيخ المجاهد أحمد ياسين رحمه الله تبارك وتعالى رحمة واسعة بعد تأديته لصلاة الفجر في يوم الاثنين الماضي، وهو خارج من بيت الله تبارك وتعالى، لقد نال الشهادة، وطالما تمناها، لقد صدق الله تبارك وتعالى فصدقه كما نحسبه، مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
إن صليتَ الفجر في جماعة فأنتَ في ذمة الله وفي رعايته وفي عنايته، بشرك نبينا بقوله: ((بشروا المشائين في الظُلَم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)). لقد جمع رحمه الله الفضائل كلها، صبر على البلاء والضراء، نال ـ كما نحسبه ـ وسام الشهادة والصلاة في الجماعة في وقت واحد، فهنيئًا له ولجميع رفقائه الذين استشهدوا غيلة وغدرًا وظلمًا وعدوانًا.
عباد الله، ما كان لهذا الاغتيال ولا لهذه الجريمة الحاقدة أن تكون إلا لوجود زمرة من العملاء الخونة الذين باعوا أنفسهم للشيطان بثمن بخس، دراهم معدودة، لقد فرطوا في دينهم، وباعوا وطنهم، باعوا عرضهم وشرفهم وكرامتهم، فرطوا بقدسية وطنهم، وضحوا بأرواح الأبرياء والشرفاء من أمتهم.
تيقنوا ـ أيها المؤمنون ـ أنها ستكون عليهم حسرة، ثم يغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون.
ما كان لهذا العدوان الآثم أن يكون لولا تقاعس زعمائكم عن نصرتكم ونصرة قضاياكم والدفاع عنكم، ليس في أرضنا المباركة فقط، وإنما في العراق، في كشمير وأفغانستان، وفي كل مكان.
ما كان لهذا العدوان أن يكون لولا تخاذل حكامكم، بل تآمر بعضهم لضرب الإسلام والمسلمين، إرضاء للطاغوت الذي يرفع راية الإرهاب لمحاربة المسلمين، وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217].
أيها المؤمنون، إن توقيت اغتيال الشيخ رحمه الله تعالى إنما يتزامن مع انعقاد مؤتمر القمة العربية نهاية الشهر الحالي، هذا له عدة دلالات، فهي رسالة واضحة لزعمائكم، إن إسرائيل بإمكانها أن تفرض سياساتها وتنفذ تهديداتها ضد الشعب الفلسطيني في كل زمان ومكان، وإن قادة العرب جميعًا لن يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا سوى إصدار بيانات الشجب والاستنكار، ألم يتعهدوا لأمريكا أن يعملوا كل ما بوسعهم من أجل فرض السلام وتعزيزه في المنطقة ولو كان ذلك على حساب شعوبهم وكرامتهم؟! فهل يفيق زعماؤكم من سباتهم؟! ولا نقول: من نومة أهل الكهف لأن نومة أهل الكهف كانت برعاية الله تبارك وتعالى.
وهي رسالة واضحة لشعبنا المرابط الصابر في أرضنا المباركة أنه لا كرامة لأي منا عندهم على الإطلاق، ومن هنا يتوجب علينا أخذ الحذر والحيطة واليقظة، أن نكون أمة كما أرادنا الله تعالى، أليس هو القائل: وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:46]؟!
أيها المؤمنون، إن استخدام أمريكا لحق النقض (الفيتو) ضد قرار دولي يدين إسرائيل لاغتيالها الشيخ ياسين لم يكن مفاجئًا لأحد، غير أنه دليل آخر على أنها تمارس سياسة التواطؤ المكشوف لصالح حليفتها، ويؤكد هذا الموقف للعالم أجمع وللاهثين وراء الحلول الأمريكية أنها ليست راعية للسلام، وإنما راعية للإرهاب الدولي، كما يؤكد هذا الموقف أنها تعطي الضوء الأخضر لاستمرار سياسة الاغتيالات ضد أبناء شعبنا وتجرّ المنطقة إلى دوامة عنف لا تنتهي.
لقد قلنا في خطبة سابقة: إن السلام الذي لا تدعمه قوة هو استسلام بعينه، إسرائيل وحدها التي لها الحق في القتل والاغتيال وهدم المنازل واقتحام المدن وتشريد الأبرياء، وأنتم ترونهم يتباهون بسياسة التصفية والاغتيال، فعلينا أن ندرك تمامًا أن المعركة هي معركة عقيدة، ومعركة وجود. ويجب أن يكون معلومًا أنه على القادة وأصحاب المسؤولية أن يؤمِّنوا الأمن والأمان لشعوبهم، لأن الرعية مسؤولية كبرى، وهي أهم بكثير من الحفاظ على مقاعد الحكم.
إن الأيام القادمة ستشهد مزيدًا من التصعيد الإسرائيلي، غير أن تباشير النصر آتية لا محالة، فالنصر صبر ساعة، وأما العدو الغادر المغرور بباطله فسوف يندحر بجحافله مهما أوتي من وسائل القوة ونفوذ السلطان؛ لأن جنده وأعوانه من أولياء الشيطان، فهو يعِدُهم ويمنّيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا.
إن الشعوب الإسلامية المغلوبة على أمرها ستفيق من سُباتها، وتحطم أغلال الذل والقهر والانكسار، وستعمل على إقامة حكم الله تبارك وتعالى في الأرض، وعندئذ تشرق الأرض بنور ربها، ويفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. لقد آن الأوان لأمنتا أن تفهم أنه لا خلاص ولا مناص من حالة الوهن والضعف إلا بالعودة إلى الله تعالى، فهو وحده القادر على نصرتكم.
عباد الله، ورد في الحديث الصحيح عن أُبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((بشِّر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب)) ، أو كما قال.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الذي اصطفى خير عباده، وأمر كل واحد منا أن يدافع عن دينه وبلاده، نحمده تعالى حمد من خشيه واتقاه وحفظ دينه ووقاه، وابتعد عمن خالفه وعصاه، ونشهد أن لا إله إلا الله، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا شيء قبله، ولا شيء بعده، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون. ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله القائد إلى النصر والظفر، قاهر الأعداء للنجاة من الخطر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واقتفى سُنته إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون، هذه برقية نطلقها مدوية من هذه الرحاب الطاهرة إلى ملوك وزعماء العرب الذين سيجتمعون في تونس في التاسع والعشرين من الشهر الجاري، نقول لهم:
أيها القادة، اتقوا الله في فلسطين المسلمة، اتقوا الله في شعبها الصابر المرابط، كونوا عونًا له، ولا تكونوا كما أنتم الآن عليه، لقد طفح الكيل وبلغ السيل الزُبى، إسرائيل تتمادى في طغيانها وعنادها وفجورها، فأنتم مطالبون اليوم أمام الله تبارك وتعالى ثم أمام شعوبكم أن تنهضوا من سباتكم، وأن تعودوا إلى رشدكم، وأن تعلموا أن الحق بدون قوة تحميه يسهل التفريط فيه وإضاعته، وشعبنا المؤمن صاحب حق وصاحب أرض مباركة، وحّدوا صفوفكم، ولُمُّوا شعثكم، واتخذوا قرارات تكون بحجم المسؤولية وحجم المعاناة، اعملوا على تحكيم شرع الله في كل ما يصدر عنكم، حاسبوا أنفسكم قبل أن يحاسبكم الله تبارك وتعالى، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وأنتم أيها المؤمنون، تذكروا أن الابتلاء درس وعظة لتسديد الخطوات ولتدقيق النظر في النفس لإصلاحها، وفي الأخطاء لتصحيحها، تيقنوا من وعد الله لكم بالنصر، ألم تقرؤوا قول الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:171-173]. إن الأعداء الألداء قتلوا الأبرياء وشردوا الأطفال والشيوخ والنساء، واستولوا على الديار بالتقتيل والتمثيل والتشنيع، هم كالوحوش الضارية لا يعرفون للإنسانية معنى، ولا للرحمة مغزى.
فأبشروا ـ أيها المؤمنون ـ برضوان الله، فالمستقبل لنا إن شاء الله، فعدوكم سوف يتقهقر، سوف تبدد جموعه، فيتفرق أجزاء، ويتبعثر أشلاء، ويتلاشى تهديده، ويبور وعيده، إن الظلم لا يدوم، لا هو ولا أهله، فدولة الظلم ساعة، ودولة العدل إلى قيام الساعة.
إننا ندعو أمتنا في مشارق الأرض ومغاربها أن يجلسوا مع أنفسهم ليعتبروا، فمن الذي طعن عمر رضي الله عنه وهو يصلي الفجر بالمسلمين إمامًا؟! عمر رجل قال فيه النبي : ((سيبكي الإسلام على موتك يا عمر، وأنت سراج الإسلام يا عمر)).
أمير المؤمنين عمر رأى في المنام رؤيا، استمعوا إلى رؤيا عمر، فقد صعد المنبر ذات يوم وقال: لقد رأيت في المنام كأن ديكًا نقرني ثلاث نقرات، ولا أرى ذلك إلا دنو أجلي. خذوا العبرة ـ يا أمة الإسلام ـ من رؤيا عمر، وحُمل عمر إلى بيته والدماء تنزف منه، والإسلام لا يحب أن يرى الدماء إلا في ميدان القتال ضد الملحدين والمشركين لإعلاء كلمة الله.
وحكم عثمان الرجل الذي تستحي منه الملائكة، ولكن الحقد لم يهدأ في قلوب المجرمين، قتلوه وهو يقرأ المصحف الشريف، وسال دمه الزكي على قوله تبارك وتعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ ?للَّهُ وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [البقرة:137]، كان رضي الله عنه صائمًا، ورأى النبي في المنام فقال له: ((إنك اليوم تفطر عندنا يا عثمان)).
اسألوا التاريخ يا عباد الله: لماذا قُتل عمر؟! اسألوا التاريخ: لماذا قُتل عثمان؟! اسألوه: بأي ذنب قتلا؟! بلا ذنب، ولكنه الحقد الأعمى على الإسلام والمسلمين، فكفانا لهوًا وغفلة عن الله تبارك وتعالى، إن الناس يجِدُّون، ونحن غافلون، إن المعسكرين المعاديين دخلا عصر الوفاق، لا بل أقول: دخلا عصر العناق، ونحن في شتات، نحن في فرقة.
ومن هنا نستنكر وإياكم وجميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إغلاق المسجد الأقصى المبارك أمام المصلين، لماذا ـ يا سلطات الاحتلال ـ بين كل جمعة وأخرى تغلقون المسجد؟! لماذا لا تغلقون أماكن العبادات أمام اليهود أو النصارى؟! لماذا تغلقون المساجد أمام المسلمين، فجيوشكم تحاصر المسجد من كل ناحية؟!
إنني أعلنها لوسائل الإعلام أن عدد جنود الاحتلال الذين يقفون حول المسجد هو أضعاف عدد المصلين الآن، هذه هي الحقيقة، هذا هو الحق الذي يجب أن يقال، كفاكم ما قال الله فيكم: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـ?جِدَ ?للَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ وَسَعَى? فِى خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ [البقرة:114].
(1/3047)
الخشوع في الصلاة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
أعمال القلوب, الصلاة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
5/2/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من صفات عباد الله المؤمنين. 2- معنى الخشوع. 3- فضل الصلاة. 4- محلّ الخشوع. 5- فضل الخشوع. 6- أسباب الخشوع في الصلاة. 7- حرص الشيطان على إفساد صلاة العبد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ الله جلّ وعلا وصفَ عبادَه المؤمنين بصفاتٍ حميدة، بيّنها لنأخذَ بها ونطبِّقها لننالَ برحمةِ الله الثوابَ العظيم المترتِّب على ذلك العمل، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون:1، 2]، إلى أن قال: وَ?لَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلَو?تِهِمْ يُحَـ?فِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْو?رِثُونَ ?لَّذِينَ يَرِثُونَ ?لْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [المؤمنون:9-11].
أيّها المسلم، ابتَدأ الله صفاتِ المؤمنين بقوله: ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ ، مدَح المؤمنين بأنهم خاشِعون في صلاتهم. ومعنى الخشوع السكينةُ في الصلاة، خشوعُ القلب وذلُّه لله. ذلكم الخشوعُ نتيجة استحضار قلب المسلم حينما يقِف بين يدَي الله، يستحضِر عظمةَ من يقف بين يدَيه وكبرياءَه وجلاله، وأنّه يقف بين يدَي ربِّه وخالقه ورازقه والمتصرِّف في أحواله كلِّها. إذًا فتصوُّر عظمةِ ذلك الموقِف يؤدِّي إلى خشوعِ القلب وإقباله على الله.
أيّها المسلم، الصلاةُ من أجلِّ الأعمال وأفضلِ الأعمال، هي الركنُ الثاني من أركانِ الإسلام، هي عمودُ الإسلام. هذه الصلوات الخمس المحافظةُ عليها والعنايةُ بها سببٌ لزكاءِ القلب وطهارةِ النفس وتهذيب الأخلاق والسلوك، ولكن لا يتحقَّق ذلك إلاَّ إذا خشَعتَ في صلاتك وأقبلتَ عليها بقلبِك وفرَّغتَ قلبك من كلّ شُغل أثناء الأداء إلاَّ بهذه الصلاة، بقراءَتها وأذكارِ ركوعها وسجودِها وجلوسها، وتأمَّلتَ ذلك حقَّ التأمّل، فإنك بذلك تخشع في صلاتك.
أيّها المسلم، مقامُ الخشوعِ القلب، فالقلبُ ملِك الأعضاء، في الحديث: ((ألا وإنَّ في الجسد مضغةً؛ إذا صلح لها صلح الجسد كلّه، وإذا فسدَت فسد لها الجسد كلّه، ألا وهي القلب)) [1]. فمقام الخشوع في قلبِ العبد، فإذا خشَع قلبه خشعت جوارحُه، إذا خشَع قلبه خشعَت لله جوارحه، فترى ذلك المصليَ مقبلاً على صلاته، قليلَ العبَث والحركة، مقبِلاً بقلبه على صلاته، متدبِّرًا لقراءتها والأذكار المشروعةِ في كلّ ركن من أركانها، فيخرُج منها وقد زَكت نفسُه وصلح قلبه واستقام حالُه وتأثَّر بأداء تلك الفريضة التأثرَ المطلوب شرعًا، وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ?للَّهِ أَكْبَرُ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].
أيّها المسلم، إنَّ الصلاة شاقّةٌ على الكثير إلاَّ على الخاشعين، فالخاشعون يؤدّون هذه الصلاةَ عن رغبةٍ وحبٍّ وشوق إليها، قال تعالى: وَ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ?لْخَـ?شِعِينَ [البقرة:45]. إذًا فالخاشِعون فيها أداؤ،ها يسير عليهم وفعلُها غير شاقّ عليهم، بل يجدون في أدائها راحةَ القلب وطمأنينةَ النفس وانشراحَ الصدر، فهي قرّة أعينِ أهل الإيمان وراحتُهم ولذّة نفوسِهم، وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ?لْخَـ?شِعِينَ ?لَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـ?قُوا رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ ر?جِعُونَ [البقرة:45، 46]، فليقينِهم بملاقاة الله وأنّ مردَّهم إلى الله سهُلت تلك الصلاة عليهم، فأقبلوا عليها بقلوبهم مطمئنِّين خاشعين ذليلين مستكينين لرب العالمين.
أيّها المسلم، إنَّ للخشوعِ في الصلاة أسبابًا، بيَّن ذلك النبيّ.
فأولاً: يقول : ((أمِرت أن أسجدَ على سبعةِ أعظُم، وأن لا أكفَّ شعرًا ولا ثوبًا)) [2]. إذًا فالعبَث بالثياب والشعر ونحو ذلك مما يضعِف خشوعَ القلب في الصلاة، فمن كان في صلاتِه يعبِث بملابسِه بشَعره ونحو ذلك فذاك مما يسبِّب عدمَ خشوع قلبه.
ومن الأسباب أيضًا عدمُ رفعِ البصر هنا وهناك، فالنبيّ يقول: ((لينتهينَّ أقوامٌ عن رفعهم أبصارَهم إلى السماء)) ، فاشتد قوله حتى قال: ((أو لا ترجع إليهم)) [3].
ومن أسباب ذلك البعدُ عن نظرِ كلِّ شيء يمكن أن يشغلَ القلبَ ويلهيَه، جاء في الحديث أنّ عائشة رضي الله عنهما سترت بيتَها بسِتارة فيها تصاوير، فقال لها النبي : ((أزيلي عنّا قرامَك هذا؛ فإنّ تصاويرَه لا تزال تعرِض لي في صلاتي)) [4]. فابتعَدَ عن كلِّ مظهر ورؤيةِ كلّ شيء يمكِن أن يشغل قلبَه.
صلّى في خميصةٍ لها أعلام، فنظر إلى أعلامِها، فلما انصرف قال: ((اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهمٍ، وأتوني بأنبجانيّة أبي جَهم، فإنّ أعلامَها أشغلتني عن صلاتي)) [5]. فصلوات الله وسلامه عليه، ما أشدَّ خوفَه من الله وبعدَه عن كلّ شيء يشغِله عن خضوع قلبه في صلاته.
ومن الأسباب أيضا ما جاء في الحديث أنّه قال: ((لا صلاةَ بحضرةِ طعام، ولا وهو يدافِعه الأخبثان)) [6] ، فأخبرَ أنّ المسلمَ لا يدخُل في الصلاة وعنده توَقانٌ للطعام لشدة جوعه وحِرصه، حتى يدخلَ الصلاةَ وهو حاضرُ القلب لا يتعلَّق قلبه بذلك. وكذلك من حُصِر ببولٍ أو غائط، فلا بدّ من استفراغِ ذلك حتى لا يكون ذلك مشغِلاً له عن حضورِ الصلاة، وقال: ((إذا حضَر المغرب والعَشاء فابدؤوا بالعشاء قبلَ المغرِب)) [7].
أيّها المسلم، ومن الأسبابِ أيضًا البعدُ عن العبَث بالأشياء، فالنبيّ نهى المسلمَ عن مسِّ الحصَى وهو يصلّي، وقال: ((إن كان لا بدّ فواحدة)) [8] ، حتى تسلَم له صلاته.
أيّها المسلم، أوصيك بالخشوعِ في صلاتك، أقبل عليها بقلبك، واتّق الله فيها، واعلم أنه لن تستفيدَ من صلاتك إلاَّ على قدرِ خشوعك فيها، جاء في الحديث عنه قال: ((إنّ العبدَ ليصلّي الصلاةَ ما يكتَب له إلاَّ نصفُها، إلا ثلثُها، إلا ربعُها، إلا سدسُها)) ، حتى قال: ((إلا عشرها)) [9] ، بمعنى أنَّ هذه الصلاةَ لا تنال منها إلا على قدرِ حضور قلبِك وإقبالِك عليها. قال بعض السلف: يقِف الناسُ في الصفِّ وما بين هذا وهذا ما بين السماء والأرض. أحدٌ قلبه معلَّق بالخير، دائرٌ حولَ الخير والهدى، وإنسانٌ واقف بجسده وقلبُه يجول في الدنيا هنا وهناك.
أيّها المسلم، كلما عظُمت الصلاة في نفسِك وكلّما كانت غاليةً عندك عزيزةً عليك كلّما ازددتَ خشوعًا وإقبالاً على القلبِ فيها وعدمِ الحركة والعبث فيها. أقبل عليها، أدِّها مطمئنًّا فيها، خاشعًا في قيامها وركوعِها وسجودِها لاستحضارِك عظمةَ مَن تقف بين يديه، فيكون المسلم محبًّا لهذه الصلاة راغبًا فيها متعلِّقًا قلبُه بها.
أيّها المسلم، يقول : ((ما مِن مسلم تحضرُه صلاة مكتوبةٌ فيحسِن وضوءَها وركوعَها وخشوعَها إلاَّ كفَّرت ما بينه وبين الصلاة الأخرى ما لم تؤتَ كبيرة، وذلك الدهرَ كله)) [10].
أيّها المسلم، فإذا كان الخشوع في الصلاة سببًا لأن تكفِّر عنك ما بين الصلاة والصلاة الأخرى من صغائرِ الذنوب فاحرص على هذا الخشوع، وأقبِل على صلاتك، ولا تكن فيها من العابثين المتساهلين.
كم يصلّي الفردُ منا وللأسف الشديد لو تسأله: ماذا قرأ الإمام؟ لم يعطك جواب، وكم صلى الإمام؟ لم يعطك جواب. لماذا؟ وقف في الصفّ بجسده، ولكنَّ القلبَ غائب.
رأى عمر رضي الله عنه رجلاً يعبث في صلاتِه فقال: (لو خشَع قلبُ هذا لخشعَت جوارحه) [11]. فالقلبُ لو خشع لكانت الجوارحُ خاشعة، لكن لما كان القلبُ غافلاً وغائبًا كان أثرُ ذلك على جوارحِ ذلك المصلّي. فاعلم أنّ خشوعَ القلب بقلّة العبث، واعلم أن كثرةَ العبَث دليلٌ على قلّة الخشوع وضّعف الخشوع.
فيا أخواني، احرِصوا على صلاتكم، واحفَظوها تبقَ لكم، وأدّوها كما أمِرتم، لتكونَ عونًا لكم على كلّ خير، ومسهِّلةً لكم القيامَ بالواجب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الأذان (810، 812، 815)، ومسلم في الصلاة (390) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[3] أخرجه مسلم في الصلاة (428) جابر بن سمرة رضي الله عنه نحوه.
[4] أخرجه البخاري في الصلاة (374) عن أنس رضي الله عنه نحوه.
[5] أخرجه البخاري في الصلاة (373)، ومسلم في المساجد (556) عن عائشة رضي الله عنها.
[6] أخرجه مسلم في المساجد (560) عن عائشة رضي الله عنها.
[7] أخرجه البخاري في الأذان (672)، ومسلم في المساجد (558) عن أنس رضي الله عنه بمعناه.
[8] أخرجه البخاري في العمل في الصلاة (1207)، ومسلم في المساجد (546) عن معيقيب رضي الله عنه.
[9] أخرجه أحمد (4/319، 321)، وأبو داود في الصلاة (796)، والنسائي في الصلاة من الكبرى (612)، والبيهقي (2/281) من حديث عمار بن ياسر بمعناه، وصححه ابن حبان (1889)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (537).
[10] أخرجه مسلم في الطهارة (228) عن عثمان رضي الله عنه.
[11] نقلت هذه العبارة عن سعيد بن المسيب رحمه الله، رواها عنه ابن المبارك في الزهد (1188)، وعبد الرزاق في المصنف (2/266)، وابن أبي شيبة في المصنف (2/86).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، النبيّ قال: ((إذا صلّى أحدُكم إلى شيء يستُره من الناس فأراد أحدٌ أن يمرَّ بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتِله فإنما هو شيطان)) [1].
أيّها المسلم، ما السببُ في أن المصلّيَ يتأكَّد في حقّه، بل قد يجب في حقِّه أن يمنعَ المارَّ بينه وبين سُترته، لماذا؟ الحكمة من ذلك أن لا يشتغلَ القلب بأيّ منظَر، فمنعُك الإنسانَ من المرورِ بين يديك حرصًا على حضور قلبك، وأن لا يكونَ ذلك المارّ مشغِلاً لقلبك وملهيًا لنفسك، بل تقبِل على صلاتك، فإذا كثُر المارّون بين يديك فإنّ ذلك يشغل قلبَك ويلهيه، ولا يجعلك تخشَع في صلاتك الخشوع المطلوب.
أيّها المسلم، إنّ عدوَّ الله إبليس يحاوِل إفسادَ صلاة العبدِ بكلّ ما أوتي من إمكان، لأنّه إذا أشغلَ قلبَه في صلاته ضاعت عليه صلاتُه وقلَّ تأثّره واستفادته منها.
جاء في الصحيح أنّ الشيطان يقِف عند بابِ المسجد، فإذا أذِّن للصلاة ولى وله ضراط حتى لا يسمعَ الأذان، فإذا انقضى الأذان أقبل عند بابِ المسجد، فإذا ثوِّب بالصلاةِ ـ الإقامة ـ ولى له ضُراط، فإذا انقضت أقبل حتى يحولَ بين الرجل وبين قلبِه، يقول: اذكُر كذا اذكر كذا [2] ، بمعنى أن يذكّره ما غابَ عنه، وأن يحضِر له كلَّ بعيد، ويقرِّب له كلَّ بعيد، حتى يشغلَ قلبَه ويلهيه عن صلاته، لكن إذا وجَد قلبًا حيًّا يقضًا وقلبًا مستنيرًا بالخير وقلبًا مقبلِاً على الله وقلبًا واثِقًا بالله وقلبًا مفرَّغًا لطاعة الله فإنّ عدوَّ الله لا يجِد لذلك ملجأ، عدوّ الله يغتنم فرصات الغفلة، فإذا وجَد قلبًا يقضًا مستنيرًا بالخير محروسًا بالأذكار والأوراد فإنّ الشيطان لا يجد له منفذًا، فيرجع خائبًا خاسئًا.
أيّها المسلم، فأقبِل على الصلاة، واعلم أنّك في جهاد في صلاتك، بينك وبين عدوّ الله الذي يريد أن يفسدَها عليك، ويضعِف دورَها في نفسك. فأنت في جهادٍ في صلاتك، فأقبِل عليها واستعِن بالله على ذلك، وتدبَّر قراءة القرآن، وأنصِت لقراءةِ الإمام، وتذكَّر أذكارَ الركوع والذكرَ بعد الركوع وأذكارَ السجود والذكرَ بين السجدتين والتشهدَ الأوّل والأخير، وأقبِل على الدعاءِ في الصلاة، فإنّك بذلك تسلَم من مكائد عدوّ الله، أعاذني الله وإيّاكم من ذلك.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبدِ الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم حيث يقول: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الصلاة (509)، ومسلم في الصلاة (505) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الأذان (608)، ومسلم في الصلاة (389) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/3048)
غدر اليهود واغتيال الشيخ أحمد ياسين
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
5/2/1425
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جريمة اغتيال الشيخ أحمد ياسين. 2- رخص دماء المسلمين. 3- جرائم اليهود في فلسطين. 4- الشيخ وحياة الدعوة والجهاد. 5- بداية النهاية. 6- بشائر بانتصار الإسلام. 7- واجبنا تجاه إخواننا في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الدين والعقيدة، حيرتنا الأحداث المتلاحقة المؤلمة بين الجمعتين وما حدث وسط الأسبوع الماضي على أرض فلسطين، فالحديث عن فلسطين في مقام واحد يطول ويطول، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله.
القصة وما فيها تجعل العاقل حيران، وبدايتها ما قامت به يد الغدر والخيانة والظلم والعدوان بقتل المجاهد الكبير الشيخ أحمد ياسين يرحمه الله، وآخرتها وليس أخيرًا كان ما كانحيث انقلب الميزان رأسا على عقب.
أبت أعيننا إلا أن ترى وأبت آذاننا الا أن تسمع، ويعجز اللسان عن التعبير، ويأبى القلم أن يسيل، وتضل الجراح تدمي القلب أسًى ولوعة على أمة أصبحت بأيدي الخائنين، ورخصت دماؤها أيما رخص، وإن كان يوسف عليه السلام قد ابتاعه من ابتاعه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين فإن دم المسلم اليوم لم يدفع فيه ثمن أصلا حتى الثمن البخس، ولا دراهم معدودة، بل قيمته شهوة شارون وأعوانه عليهم من الله ما يستحقون ورغبتهم في التسلط على المسلمين لسفك دمائهم والتلذذ بمنظرها
دماء المسلمين تسفك في أرض الله التي قال الله عنها بلسان موسى عليه السلام: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]. أقول: تسفك دماء المسلمين لإرضاء جبلات شارون وأعوانه الغادرين الذين يحملون بين جنبات صدورهم أنفسا شريرة مجرمة لئيمه، تتلذذ بتعذيب المؤمنين، وترتاح أنفسهم إذا تألم المسلمون. يريدون تحويل البشرية المسلمة وقودا لشهواتهم ونزواتهم وحماية لرغباتهم في نشوة خسيسه، في نفس طاغية عربيدة مجنونة، مجنونة بالدماء وبالأشلاء، أثبتت ذلك خلال أكثر من خمسين عاما راح ضحيتها الملايين من البشر.
لقد تقرحت أكباد الصالحين كمدًا مما يجري في الأرض المباركة في فلسطين الحبيبة، مناظر مفزعة متوالية، وعربدة صهيونية غادرة، القتل بطريقة وحشية تفوق كل طريقة، مسلسلات من الرعب، وإراقة دماء الأطفال والنساء والشيوخ بأيد قذرة، لم يكفهم القتل بل جاوزوه إلى كل ما يهلك الحرث والنسل، كما هو دأبهم وديدنهم، صور وآلام تصرع كل الجبابرة فضلاً عن الإنسان العادي، لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاً وَلاَ ذِمَّةً [التوبة:10].
وبعد: أيها المسلمون، فهذه نعوتٌ في كيد الشيطان وتلاعبه بتلك الأمة المغضوب عليها، يعرف بها المسلم الحنيف قدر نعمة الله عليه، وما منَّ به عليه من نعمة الهداية، وما اتصف به آباء اليهود بالأمس يسير على ركابه الأحفاد اليوم، ظلمٌ في الأراضي المقدسة، إجلاءٌ من المساكن، تشريدٌ من الدور، هدمٌ للمنازل، قتلٌ للأطفال، اعتداءٌ على الأبرياء، استيلاءٌ على الممتلكات، نقض للعهود، غدرٌ في المواعيد، استخفاف بالمسلمين، هتكٌ لمقدساتهم. وإن أمةً موصوفةً بالجبن والخوَر وخوفِ الملاقاة وفزع الاقتتال حقيقٌ نصر المسلمين عليهم.
إن إسرائيل قد طغت واستكبرت في الأرض بغير الحق، وأمست تقترف الجرائم البشعة كأنما تشرب الماء، فهي في كل صباح ومساء، تعيث في الأرض فسادا، وتهلك الحرث والنسل، تسفك الدماء، وتقتل الأبرياء، وتغتال النجباء، وتذبح الأطفال والنساء، وتدمر المنازل، وتجرّف المزارع، وتقتلع الأشجار، وتنتزع الأرض من أصحابها بالحديد والنار، وتقيم الجدار العازل على الأرض الفلسطينية.
هؤلاء هم اليهود، سلسلةٌ متصلة من اللؤم والمكر والعناد، والبغي والشر والفساد، وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَادًا وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]. حلقات من الغدر والكيد والخسة والدناءة. ألا فلتعلم الأمة أن هؤلاء القوم قومٌ تأريخهم مقبوح، وسجلهم بالسواد مكلوح، ولن يرضوا إلا بتحقيق أطماعهم، لا بلّغهم الله مرادهم. ولعل ما شهدته الساحة الفلسطينية في تلك السنوات من مشاهد مرعبة ومآسي مروِّعة حيث المجازر والمجنزرات، والقذائف والدبابات، جُثثٌ وجماجم، حصار وتشريد، تقتيلٌ ودمار، في حرب إبادة بشعة، وانتهاك صارخ للقيم الإنسانية، وممارسة إرهاب الدولة الذي تقوم به الصهيونية العالمية، مما لم ولن ينساه التأريخ، بل سيسجّله بمداد قاتمة، تسطّرها دماء الأبرياء الذين ارتوت الأرض بمسك دمائهم، من إخواننا وأخواتنا على أرض فلسطين المجاهدة، الذين يُذبَّحون ذبح الشياه. عشراتُ المساجد دمِّرت، ومئات البيوت هُدّمت، وآلاف الأنفس أُزهقت، كم نساءٍ أيِّمت، وأطفالٍ يُتِّمت، ومقابر جماعية أقيمت. إنها لا تقيم لهذه الدماء التي سفكت قيمة ولا وزنا؛ إذ بشهوة أخرى حينما أمر شارون جنوده بتسليط طائراته لتقذف صواريخه على مؤسس حركة المقاومة الفلسطينية بعد صلاة الفجر من يوم الاثنين الماضي، على رجل يبلغ من العمر عتيّا، كان مقعدا ويمشي على كرسيه المتحرك، فإذا بصواريخ الغدر والخيانة تصل إلى ذلك الشيخ فتقطعه ومن معه، فجعلتهم أشلاء متناثرة، لا نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل.
كثير منكم يعرف هذا الرجل من مواقفه الشجاعه طول حياته حتى مماته، كانت تهاب منه إسرائيل. إنه الشيخ أحمد ياسين الذي عاش عمره للدعوة والجهاد، ونذر حياته للنضال من أجل تحرير وطنه من الاحتلال الصهيوني الغاشم، وأسس حركة (حماس) لتقوم بدورها في الجهاد، وقضى في السجن ما قضى من سنوات وهو صابر مرابط، لا يهن ولا يستكين، وكان قد حدد غايته بوضوح، وهي ضرب الاحتلال ودحره بكل ما يمكن من قوة، وعدم الخروج بهذه العمليات عن دائرة فلسطين كلّها، وتحريم توجيه السلاح إلى صدر فلسطيني، فالدم الفلسطيني حرام حرام حرام.
وكان هذا الرجل القعيد الأشل يزلزل الكيان الصهيوني، ويرعب قادته العسكريين والسياسيين وهو جالس على كرسيه لا يستطيع أن يفارقه إلا بمعين. إن رجولة الرجال لا تقاس بقوة أجسامهم، بل بقوة إيمانهم وفضائلهم، وقد قال تعالى عن المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [المنافقون:4]، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
وقد توجت إسرائيل جرائمها المستمرة بهذه الجريمة النكراء، أمِّ الجرائم، اغتيال الرجل القعيد المتطهر المصلي بتخطيط من شارون وإشراف منه.
هم أكسبوكَ من السِّباقِ رِهانا فربحتَ أنتَ وأدركوا الخسرانا
هم أوصلوك إلى مُنَاكَ بغدرهم فأذقتهم فوق الهوانِ هَوانا
إني لأرجو أن تكون بنارهم لما رموك بها بلغتَ جِنانا
غدروا بشيبتك الكريمة جَهْرةً أَبشرْ فقد أورثتَهم خذلانا
أهل الإساءة هم، ولكنْ ما دروا كم قدَّموا لشموخك الإحسانا
لقب الشهادةِ مَطْمَحٌ لم تدَّخر وُسْعًا لتحمله فكنتَ وكانا
يا أحمدُ الياسين، كنتَ مفوَّهًا بالصمت، كان الصَّمْتُ منكَ بيانا
ما كنتَ إلا همّةً وعزيمةً وشموخَ صبرٍ أعجز العدوانا
فرحي بِنَيْلِ مُناك يمزج دمعتي ببشارتي ويُخفِّف الأحزانا
وثََّقْتَ باللهِ اتصالكَ حينما صلََّيْتَ فجرك تطلب الغفرانا
وتَلَوْتَ آياتِ الكتاب مرتِّلاً متأمِّلاً تتدبَّر القرآنا
ووضعت جبهتك الكريمةَ ساجدًا إنَّ السجود ليرفع الإنسانا
وخرجتَ يَتْبَعُكَ الأحبَّة، ما دروا أنَّ الفراقَ من الأحبةِ حانا
كرسيُّكَ المتحرِّك اختصر المدى وطوى بك الآفاقَ والأزمانا
علَّمتَه معنى الإباءِ، فلم يكن مِثل الكراسي الراجفاتِ هَوانا
دمُك الزَّكيُّ هو الينابيع التي تسقي الجذور وتنعش الأَغصانا
روَّيتَ بستانَ الإباءِ بدفقهِ ما أجمل الأنهارَ والبستانا
ستظلُّ نجمًا في سماءِ جهادنا يا مُقْعَدًا جعل العدوَّ جبانا
إن موت أحمد ياسين لن يضعف من المقاومة، ولن يطفئ شعلتها كما يتوهم شارون وعصابته في دولة الكيان الصهيوني، بل سيرون بأعينهم أن النار ستزداد اشتعالا، وأن أحمد ياسين ترك وراءه رجالا.
وهذا نذير ببداية النهاية للطغاة، فإن ساعتهم قد اقتربت، فإن الطغيان إذا تفاقم والظلم إذا تعاظم يسوق أصحابه إلى الهلاك وهم لا يشعرون، فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء حَتَّى? إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَـ?هُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ ?لْقَوْمِ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ وَ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأنعام:44، 45].
إن لحظات استشهاد رمز المقاومة الفلسطينية الذي مزِّق جسده الطاهر لحظات رهيبة كشفت بشاعة الجرم اليهودي وقذارة جيشهم وجنودهم، وصوّرت هواننا ورخص دماء المسلمين، سيبقى موت هذا المجاهد جمرة تشتعل في قلوبنا إلى الأبد، وسيكون محرّضًا للغضب والثأر بإذن الله، وسيدفع ثمنه جميع اليهود الذين يدنسون ترابًا عطّره ذلكم الشيخ الكبير بدمه الزكي. إنه من الصعب تحديد حجم العمليات البطولية الاستشهادية والتي سنفرح بها بإذن الله التي ستطال اليهود ومجرمي الحرب على الأرض المحتلة وخارجها، ومن الصعب الآن إحصاء عدد الذين سيحصدهم ثأر أحمد ياسين، لكن بالتأكيد أن العمليات التي سينفذها رجال المقاومة الإسلامية وشباب فلسطين الرجال ستكون بحجم الغضب وحرارة النار التي أحرقت صبرنا، والجحيم الذي أشعل خواطرنا على موت رجل الجهاد في فلسطين بهذه الطريقة المتوحشة الهمجية المفجعة.
وكانت أمنيته يرحمه الله الشهادة في سبيل الله، إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ مِنَ ?للَّهِ فَ?سْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ?لَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة:111].
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفورًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معزِّ أوليائه وناصر أصفيائه ومذلّ أعدائه، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي الصادق الأمين.
أيها المسلمون، اسمعو بشارة من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، يقول رسول الهدى : ((بشر هذه الأمةَ بالسناء والنصر والتمكين، من عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب)) رواه أحمد والحاكم.
إننا نحتاج ـ إخوة الإسلام ـ إلى التذكير بالمبشرات الصادقة، لندفع بها اليأس والإحباط، ونجدد العزائم ونتلمس أسباب النصر، ونثق بموعود الله في كتابه وعلى ألسنة الرسل، ولا نجعل للخوف والهلع طريقًا إلى القلوب، ومن رحمة الله بهذه الأمة أن جعل لهم بعد العسر يسرًا وبعد الضيق والشدة السعة والفرج. أجل لقد أوحى الله سبحانه إلى نبيه فيما أوحى: فَإِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5، 6].
إخوة الإسلام، ومهما تلاحقت الخطوت واشتدت وتفنن الأعداء في أساليب العداوة والبغضاء، فلا ننسى أن نصر الله قريب، وأن كيد الشيطان ضعيف، وأن الغلبة في النهاية للحق وأهله: فَأَمَّا ?لزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ?لنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ?لأرْضِ كَذ?لِكَ يَضْرِبُ ?للَّهُ ?لأمْثَالَ [الرعد:17].
عباد الله، لا ننسى أنّ أمر الله فوق أمر البشر، وأن نورَ هذا الدين أكبرُ وأعظم من أن يطفئه عدو حاقد، أو أن يخفته تصرفٌ لم يحسب صاحبه عواقبه، فإن هذه الشدة تخفي وراءها فرجًا بإذن الله، وهذا المكروه يحمل الخير القادم بإذن الله، وإن الدلائل والبشائر من نصوص الكتاب والسنة ومن واقع الحضارات المادية المنهارة والآيلة إلى الانهيار ومن واقع الأمة الإسلامية التي باتت الصحوة واليقظة تسري بين رجالها ونسائها ومثقفيها وعوامها، ومن لم يستطع منهم العمل لهذا الإسلام تراه متحسرًا على واقع المسلمين داعيًا من أعماق قلبه على أعدائهم، محاولاً إصلاح شأنه على الأقل ومن يعول، ومن واقع الأعداء كذلك وتآزرهم لضرب الإسلام وخنق المسلمين، كل هذه وغيرها تقول بلسان الحال: إن الإسلام قادم، وإن الجولة القادمة للمسلمين إن شاء الله.
معاشر المسلمين، ولكن هل يتنزل النصر كما ينزل المطر، ويُمكن للمسلمين وهم قاعدون خاملون لم يبذلوا أي جهد ولم يسلكوا أي سبيل للنصر؟! لنقرأ الإجابة في القرآن الكريم حيث يقول الله عز وجل: حَتَّى? إِذَا ?سْتَيْئَسَ ?لرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا [يوسف:110]. إنها سنة الله في هذا الكون التي لا تتبدل ولا تتغير. لقد شاء الله وقضى أن يقوم هذا الدين على أشلاء وجماجم أوليائه وأحبائه، وعلى أن توقد مصابيح الهداية بدم الشهداء الأبرار الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ?لصَّـ?بِرِينَ [آل عمران:142].
فيا أخا الإسلام، جنّد نفسك لخدمة هذا الدين، وساهم في جهاد أعداء الله، واعلم أنك إنما تنفع نفسك، وإلا فالله غني عنك وعن جهادك، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ?لصَّـ?بِرِينَ [آل عمران:142].
واعلم كذلك أن الله قادر على الانتقام من أعدائه والانتصار عليهم، ولكن ليبلوَ الناس ويميز المجاهدين من الكاذبين المتخاذلين، ذ?لِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـ?كِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَ?لَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـ?لَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ ?لْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:4-6].
وإن في معرفة حتمية انتصار الإسلام واليقين ـ يا عباد الله ـ بذلك فوائد كثيرة، منها أن يكون هذا الاعتقاد دافعًا للإنسان للعمل والبذل لدينه؛ لأنه إذا علم أن الحق سينتصر فإنه سوف يبذل جهده وحياته ليحصل له الشرف في أن يكون ممن يتحقق النصر على يديه، وينبغي للمسلم أن لا يفارقه هذا الشعور أبدًا، وقدوته في ذلك رسول الله الذي قال للمسلمين في مكة وهم يعذّبون: ((والله، لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه)) ، ولنعلم أنه ليس شرطًا أن يرى المسلم الغيور الباذل لدينه النصر بعينه، بل عليه أن يقدّم ما يستطيع، والنتائج بيد الله تعالى، وأمر الله وقدره غيب لا يعلمه إلا هو سبحانه، وقد يتأخر النصر للمسلمين لحكم وأسباب يعلمها الله تعالى. أما من تخلى عن العمل معتمدًا على هذا الوعد الكريم منتظرًا انتصار الإسلام وعزة المسلمين دون أن يبذل ويشارك هو في السعي إلى نصرة الدين فقد أبعد النجعة وأخطأ وجانبه الصواب، فنحن متعبّدون بالعمل ولم يطلب منا التواني والكسل والنوم حتى يطرق أبوابنا نصر الله تعالى، وليعلم كل مسلم عامل لدينه أنه بعمله هذا يتقرّب إلى ربه، ومن ألهمه الله تعالى العمل للدين فقد رزقه الله خيرًا كثيرًا، أما إن تخلى المسلمون عن هذا الشرف والخير فإن وعيد الله تعالى قريب.
أيها المسلمون، وواجب على المسلمين مؤازرة إخوانهم في الأراضي المباركة، مع الإلحاح في الدعاء لهم، ومنذ ميلاد مأساة هذه المحنة من أكثر من نصف قرن ولهذه البلاد مواقف تُحمد عليها في التاريخ لعتق رقِّ الأقصى، لينعم المسلمون بالصلاة فيه، كما ينعمون بالصلاة في الحرمين، وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
أيها المسلمون، إن الدعاءَ سلاحٌ فعال، لو صدر من قلب مخلِص ولسان طاهر زكي وتكرَّر بإلحاح على الله بنصر إخواننا وتفريج كربتهم وتحرير المقدسات من دنس اليهود، وحبذا لو توخَّى صاحب الدعاء أوقاتَ الإجابة في الثلث الأخير من الليل وفي يوم الجمعة وفي السجود.
عباد الله، إني داع فامنوا.
(1/3049)
العبادة في الهرج
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
فهد بن حسن الغراب
الرياض
9/2/1424
جامع شيخ الإسلام ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العبادة حصن المسلم عند الفتن 2- هدي النبي عند البلاء 3- التحلي بالصبر عند الفتن والمحن.
_________
الخطبة الأولى
_________
في خضم ما نعيشه من أحداث وما يمر بنا من فواجع، وما أصيبت به الأمة من ويلات، وما نراه من تسلط الأعداء، وما نلاحظه من تسارعِ الحوادث وتغيرٍ في الأمور، انتصاراتٌ تعقبها هزائم، وأفراحٌ تتلوها أتراح، وفتنٌ متنوعة أصبح الحليمُ فيها حيرانًا، يبقى الإنسان متلهفًا للخبر، متابعًا للحدث، باحثًا عن الحقيقة، يقلب القنوات ويتتبع الإذاعات، ويلهث خلف الجرائد والمجلات.
ولكنه ينسى أمرًا عظيمًا وسياجًا واقيًا ودرعًا حصينًا أرشد إليه المصطفى وباشره، إذا ادلهمت الخطوب واشتدت الكروب وكثر القتل وعظمت الفتن فزِع إليه ففرج الله همه ونفس كربه، وهزم عدوه وأعلى كلمته، أتدرون ما هو؟ إنه العبادة على اختلاف أنواعها وأوقاتها وتفاوت أفضالها وأزمانها.
العبادة ـ عباد الله ـ حصن الله الأعظم، من دخله كان من الآمنين، ومن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب، فمن أطاع الله انقلبت المخاوفُ في حقه أمانًا، ومن عصاه انقلبت مآمنهُ مخاوف، فلا تجد العاصي إلا وكأن قلبَه بين جناحي طائر، إن حركت الريحُ البابَ قال جاء الطلب، وإن سمع وقع قدمٍ خاف أن يكونَ نذيرًا بالعطب، يحسب كلَّ صيحةٍ عليه، وكلَّ مكروهٍ قاصدًا إليه.
أيها المسلمون، ما أحوجنا اليوم للعبادة، لكي نتمثل قولَه كما في صحيح مسلم من حديث معقلِ بن يسار رضي الله عنه: ((العبادةُ في الهرج كهجرةٍ إليّ)) ، أتدرون ما الهرج؟ قال : ((يتقاربُ الزمان، ويقبضُ العلم، وتظهرُ الفتن، ويلقى الشح، ويكثرُ الهرج)) ، قالوا: ما الهرج يا رسول الله؟ قال: ((الهرج القتل)).
قال النووي رحمة الله: "المراد بالهرج: الفتنةُ واختلاطُ أمورِ الناس، وسببُ كثرةِ فضلِ العبادة فيه أن الناسَ يغفُلون عنها، ويشتغلون بغيرها، ولا يتفرغ لها إلا أفراد".
عباد الله، ولقد أرشد الله إلى أمرين عظيمين، يستعان بهما في السراء والضراء، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة: 45].
فأمر بالصلاة لمدافعة الفتن، كما في حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: استيقظ النبي ليلةً فزِعا يقول: ((سبحان الله، ماذا أنزل الله من الخزائن؟ وماذا أنزل الله من الفتن؟ من يوقظ صواحبَ الحجرات ـ يعني زوجاتِه ـ لكي يصلين، رب كاسية في الدنيا، عارية في الآخرة)).
أيها المسلمون، أرأيتم إذا غارت الآبار وقلت الأمطار وذبلت الأزهار فإلى أين تفزعون؟! أليس إلى الصلاة؟!
أريتم إذا كسفت الشمس وخسف القمر وعظم الخطب وحل الخوف فإلى أين تفرون؟! أليس إلى الصلاة؟!
قال : ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، فإذا انكسفت فافزعوا إلى الصلاة)).
وتأملوا قول علي رضي الله عنه: لقد رأيتُنا ليلة بدر، وما فينا إلا نائم غيرَ رسول الله ، يصلي ويدعو حتى أصبح. ويقول حذيفة: رجعت إلى النبي ليلة الأحزاب، وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان رسول الله إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
عباد الله، يزداد فضل الصلاة ويتأكد إبان حلول الفتن ونزول الكوارث والمحن، لما في ذلك من جمع الشتات ولمّ الشعث، والبعد عن التفرق والنزاع.
فعن عبيد الله بن عدي أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور، فقال: إنك إمامُ عامة، ونزل بك ما نرى، ويصلي لنا إمامُ فتنةٍ ونتحرج، فقال: (الصلاةُ أحسنُ ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي هذا الأثر الحضُّ على شهود الجماعة، ولا سيما في زمن الفتنة، لئلا يزداد تفرقُ الكلمة".
وصلاة الليل على وجه الخصوص لها آثارٌ عظيمة وفوائدُ جليلة على المتمسك بها، فزمن الفتن يضطرب الناسُ ويموجون، فيحتاج المسلمَ إلى صلةٍ بالله قوية، تؤنسُ نفسه وتقوي روحه وتثبت قدمه وتشرح صدره وتهدئ من روعه، فلا يموج حين الفتن كما يموج الناس، ولا ينزلق كما ينزلقون ولا يضطرب كما يضطربون؛ لأنه موقن بأن العاقبة للمتقين.
_________
الخطبة الثانية
_________
ولقد جعل الله سبحانه وتعالى الصبر جوادًا لا يكبو وصارما لا ينبو، وجندا غالبًا لا يهزم وحِصنًا حصينا لا يهدم، فهو والنصر أخوان شقيقان.
الصبر معين لا ينضب، وموردٌ عذبٌ لا يتكدر، متى تمكن في القلوب والضمائر، وتحكم في الأحاسيس والمشاعر، أورث صاحبه قوة عارمة وهمة عازمة وثقة جازمة، تجعله يتحمل المشاق، ويواجه الأخطارَ لا يهاب، يندفع إلى الشدائد غير ضعيف ولا مستكين، بل يستحلي المُرَّ، ويستعذب الصعاب، ويحرص على الموت حرص كثير من الناس على الحياة، مادام في سبيل الله.
إنه إذا استحكمت الأزمات، وتوالت النكبات، وكثرت العوائق، وترادفت الضوائق، فإن الصبر هو الذي يشع النور العاصم من الردى، ويدله على الهدى، والصبر يعلم مواجهة التحديات مهما ثقلت، وانتظار الثمار مهما بعدت، بقوة إيمان وثبات جنان وصحة يقين، حتى يخرج المسلم من المآزق، وينجو من المضائق، ويسلم من المزالق، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155].
وعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: وايم الله، لقد سمعت رسول الله يقول: ((إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر، فواهًا)) أي: ما أحسن وما أطيب من ابتلي بالفتن فصبر على البلاء.
وتأملوا قول أبي ذر: ركب رسول الله حمارًا وأردفني خلفه وقال: ((يا أبا ذر، أرأيت إن أصاب الناس جوع شديد، لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك، كيف تصنع؟)) قال: الله ورسوله أعلم، قال: ((تعفف يا أبا ذر، أرأيت إن أصاب الناس موت شديد، يكون القبر فيه بالعبد ، كيف تصنع؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((اصبر)).
وقد أوصى النبي بالصبر أيضًا عند جور الأمراء وضلال الحكام، فعن ابن عباس عن النبي قال: ((من كره من أميره شيئًا فليصبر؛ فإنه من خرج من السلطان شبرًا مات ميتة جاهلية)) أخرجه البخاري.
أريتم إذا التقى الصفان وتقابل الجمعان وحمي الوطيس، فما المخرج؟ وإلى أين المفر؟ أليس إلى الثبات وذكر الله؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]. ولقد حث القرآن على الصبر والتقوى لمواجهة الكيد والسلامة من الفتن: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]. ودفاع الله سبحانه عنا، وحمايته لنا من الفتن والمكايد، إنما يكون على قدر إيماننا وعبوديتنا، قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، وكان السلف يقولون: "على قدر العبودية تكون الكفاية".
عبدالله، المفر من الفتن إلى العبادة هذا هدي نبيك وسبيل سلفك. فماذا غيَّرتْ فيك هذه الأحداث؟ هل أحدثْتَ بعد المعصية توبة؟ وهل قررتَ بعد التفريط أوبة؟ هل بكرتَ إلى الصلاة وقد كنت عنها متقاعس؟ هل حافظت على السنن وقد كنت فيها مفرط؟ هل قمت الليل وقد كنت عنه متثاقلا؟ هل أكثرت من الاستغفار، وعلمت أن إلى الله الفِرار، ورفعت يديك بالأسحار؟ هل ازداد تقواك؟ هل عظم بالله رجاك؟ لئن كنت كذلك فأبشر بتغيير الحال من الشدة إلى الرخاء، ومن الخوف إلى الأمن، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
(1/3050)
الله أكبر
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
فهد بن حسن الغراب
الرياض
11/1/1424
جامع شيخ الإسلام ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم شأن لفظة: (الله أكبر) وبيان معانيها الجليلة. 2- حقيقة التكبير. 3- التكبير يصاحب المسلم في معظم عبادته.
_________
الخطبة الأولى
_________
لا يرتفع عن النفوس الشقاء ولا يزول عن العقول الاضطراب ولا ينزاح عن الصدور القلق إلا حين تُوقن البصائر وتُسلِّم العقول بأنه سبحانه الواحد الأحد، المتكبر الصمد، له الملك كله، وبيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله.
إن إسلام الوجه لله وإفراده بالعبادة يرتقي بالمؤمن في خُلُقه وتفكيره، يُنقذه من زيغ القلوب وانحراف الأهواء، وظلمات الجهل وأوهام الخرافة، ينقذه من الدجالين وأحبار السوء ورهبانه، يقيم المسلم عليه حياته، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162].
أيها المسلمون، كلمةٌ نرددها كل يوم وتمر على أسماعنا كل لحظة، لكننا لا نتأمل معناها ولا ندرك مغزاها، ولا نعمل بمقتضاها إلا من رحم الله. ليست كلمةً لا معنى لها، أو لفظةً لا مضمون لها، بل هي كلمة عظيمٌ شأنها رفيعٌ قدرها، تتضمّن المعاني الجليلة والمدلولات العميقة والمقاصد السامية الرفيعة. فالدين كله يعدّ تفصيلاً لها، يقوم المسلم بالطاعات جميعها والعبادات كلها إجلالاً لله وتعظيمًا لشأنه وقيامًا بحقه سبحانه، وهذا مما يبين عظمةَ هذه الكلمة وجلالَة قدرها. أتدرون ما هي؟ إنها: (الله أكبر)، هذا الحداء الذي تردد بين السماء والأرض، ولم يلق لسان الزمان في أذن الدنيا حداءً مثله، حربيًا إن شئته للحرب، عاطفيًا إن شئته للقلب، دعويًا إن شئته للعبادة.
الله أكبر، هذا الهتاف الذي كان صرخة الحق من أفواه جند محمد ، أسمعوه بطون الأودية وقمم الجبال، سلكوها يجاهدون في سبيل الله، وكل أسوار قلعة لا تستطيع أن تحوم فوقها العقبان، فتحوها ليدخلوا إليها هدى الله، وكان أبدًا هزيجَ الفاتحين.
الله أكبر، تسري في هدأة الليل وبعض الناس غارقون في نشوة الملذات، وفي وضح النهار وهم منغمسون في غمرات التجارة، أو معامع المطامع والشهوات.
الله أكبر، تهبط عليهم جميعًا كما تهبط البركات من السماء، وتمشي في قلوبهم كما يمشي النور في الفضاء، يذكر الأقوياء بأن لا يتكبروا على الضعفاء، ويصرخ في آذان الذين غرتهم أنفسهم وأغواهم شيطانهم، فعبدوا المادة، ونسوا العبادة، وجحدوا المعاد. يذكرهم أن وراء الجسد روحًا، وأن بعد الدنيا آخرة، وأن في الوجود ربًا يمهل ولا يهمل، ويُنسي ولا ينسى.
الله أكبر، هي بإذن الله مفزعُ التائبين، وملجأُ الخائفين، ونورُ المتعبّدين، وبضاعةُ المتاجرين، تجلو صدأ القلوب بأنوارها، وتزيلُ حُجُب الغفلات بأذكارها، وتنيرُ الوجوهَ بأسرارها وآثارها.
الله أكبر من كل كبير، وأكبر من كل عظيم، وأكبر من كل قوي، وأكبر من كل غني، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد:9].
جعل الله التكبير عبادة وقربى، أمر المؤمنين بالتوجه إليه، لينالوا عنده منزلة رفيعة وزلفى، فكلهم يفزع في حاجته إليه، ويعول عند الحوادث عليه.
عباد الله، شأنُ التكبير عظيم، وحقيقتُه إظهارُ الافتقارِ إلى الرب الجليل، والتبرؤ من الحول والقوة إلا بالله، وهو سمةُ العبودية، واستشعارُ الذِلة، وفيه معنى الثناءِ على الله، وإضافةِ الجودِ والكرمِ إليه، يعيشُ بها المؤمنُ في ملاذٍ أمين، وقرارٍ مكين. ويأوي إلى ركن شديد، ينزل بالله حاجته، ويستعين به في كافة أموره، وبهذا يقطعُ الطمعَ مما في أيدي الخلق، فيتخلصُ من أسرهم ويتحررُ من رقهم ويسلمُ من منتهم، فيظلُ مهيبَ الجناب موفورَ الكرامة، وهذا رأسُ الفلاح وأسُ النجاح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته، لقضاء حاجته ودفع ضرورته، قويت عبوديتُه له وحريتُه مما سواه".
وقال شيخ رحمه الله تعالى: "وهذا كله يبين أن التكبير مشروع في المواضع الكبار لكثرة الجمع، أو لعظمة الفعل أو لقوة الحال أو نحو ذلك من الأمور الكبيرة؛ ليبين أن الله أكبر، لتستولي كبرياؤه في القلوب على كبرياء ما سواه، ويكون له الشرف على كل شرف، كما في الحديث القدسي: ((العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منها عذبته)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، يبدأ المسلمون بها يومهم الجديد، إنهم عباد الرحمن يبيتون لربهم سجدًا وقيامًا، انتزعوا أنفسَهم من وثيرِ الفرش وهدوءِ المساكن وسكون الكون، غالبوا هواتف النوم وآثروا الأنس بالله، والرجاء في وعده والخوف من وعيده.
الله أكبر، مصاحبة للمسلم في عبادات عديدة وطاعات متنوعة، تتكرر عليه في الأذان والإقامة، وفي الصلوات الخمس المكتوبة، وفي السنن الرواتب والنوافل، تصاحبه في كل خفض ورفع، وفي أدبار الصلوات. التكبير عندما يكمل عدة الصيام، التكبير في الحج والعمرة، عند بداية كل شوط من الطواف، وعلى الصفا والمروة، التكبير عند الإفاضة من عرفات، وعند المشعر الحرام، وعند رمي الجمرات.
التكبير في أيام التشريق، وفي صلاتي العيدين والاستسقاء، التكبير عند ذبح الأضحية، وعند الكسوف والخسوف وعند الخوف، وعند ركوب الدابة، وعند ما يأوي المسلم للفراش.
التكبير عند القتال، الله أكبر إذا قرب لقاء العدو، وإذا رأى بشائر النصر في الجهاد، إظهارًا لعظمة الله عز وجل، واقتداء بسنة رسول ففي البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: صبح النبي خيبرًا، فلجؤوا إلى الحصن، فرفع النبي يديه وقال: ((الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباحُ المنذَرين)).
عباد الله، ما كانت هذه الأدلة المتكاثرة والحجج المتضافرة والبراهين المتوافرة إلا لعظم الأمر وخطر شأن القضية.
فمتى نراها واقعًا عمليًا محسوسًا تتردد في الجنان، وينطق بها اللسان، وتعمل بمقتضاها الأركان؟ متى نسمعها تجلجل في الميدان، ويرتص بها البنيان، ويعلو بها الإيمان، وتكسر بها الصلبان، ويندحر بها الطغيان، ويولي الأدبارَ الأمريكان؟
متى نسعد بها تقتلع جذورهم، وتستأصل شأفتهم، وتفرق جمعهم، وتنزل الرعب في قلوبهم، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214].
تلك المعاني التي تبعث في النفس التضحية، والاستعلاءَ عن الشهوات، وحبَّ الموت والشهادةِ في سبيل الله، والتطلعَ إلى معالي الأمور، والتنزهَ عن سفاسفها، والتزهدَ في الدنيا.
نعم وإنا لها، ما فقدنا عقيدتنا، ولا أضعنا إرثنا، نعم وإن في قلوبنا لَذلك الإيمان، وعلى ألسنتا لَذلك الهُتاف، وفي سواعدنا لَهاتيك العزائم، وإن أسلافنا الذين أطاحوا تيجان كسرى وقيصر قادرٌ أحفادُهم بإذن الله على أن يطيحوا بالصليب، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد:10].
أرى للفجرِ إرهاصا قريبًا برغم الليلِ أوشك بالزهاء
سنأخذ ثأرَنا من كل باغٍ ونُطعِمه مراراتِ البلاء
سنرفع صوتَنا الله أكبر مدويةً بأكناف الفضاء
ويرجعُ قدسُنا المنهوب منا ولو سالت سيولٌ من دماء
(1/3051)
خصائص مجتمعنا
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
فهد بن حسن الغراب
الرياض
22/1/1423
جامع شيخ الإسلام ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قوة الإسلام وبقاؤه على مرّ الأزمان. 2- فضل الإسلام على العرب. 3- مفهوم المجتمع المسلم. 4- الإسلام سبب رخاء الجزيرة. 5- واجب التصدي للدعاوى المغرضة والكتابات المزيفة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، لا حياة لأمة الإسلام إلا بالإسلام، بقاؤها مرهونٌ بالمحافظة عليه، وفناؤها راجعٌ إلى التفريط فيه، تدوم بدوامه في قلوبها، وتضمحل باضمحلاله من نفوسها. إنه شرعها ونظامها، بل هو عزها وحياتها.
دينٌ كاملٌ في مبناه، واف في معناه، سام في مغزاهُ، لا يقبل الله دينًا سواه، ولا يرضى أن يعبد بغير مقتضاه، لا ينجو المكلف بغير اتباعه، لا ترى فيه عوجًا ولا أمتًا، من آمن به اهتدى، ومن خالفه ضل وغوى وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
أيها المسلمون، لقد بقي الإسلام بأحكامه قرونًا متطاولةً، طوّف في الآفاق، نزل السهول والوديان، واقتحم الصحاري والجبال، وحل بالمدن والأرياف، لاقى مختلف العادات، وتقلب في شتى الظروف والبيئات، عاصر الرخاء والشدة والغنى والفقر، وصاحب الأمن والخوف والقوة والضعف، واجه الأحداث في جميع هذه الأطوار، وحكم وأفتى في كل هذه الأدوار، فكانت له اليد الطولى والسلطان الممدود، لم يعجز عن قضية، ولم يتعثر في نازلةٌ. ما قصر عن حاجة، ولا قعد عن الوفاء بمطلب. لا يغلب فيه قانونٌ على اقتصاد، ولا مادةٌ على أخلاق، ولا دنيا على دين، إنه قضاءٌ واقتصادٌ، وروحٌ وأخلاق، ودين ودنيا.
قال ابن القيم رحمه الله في وصف الشريعة المطهرة: "حسب العقول الراجحة والآراء الفاضلة أن تدرك حسنها وتشهد بفضلها، فما طرق العالم شريعة أكمل ولا أجل ولا أعظم منها، فهي نفسها الشاهد والمشهود له، والحجة والمحتج له، والدعوى والبرهان. أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده، وما أنعم عليهم بنعمة أجل من أن هداهم لها، وجعلهم من أهلها، ارتضاها لهم وارتضاهم لها".
ثم استمعوا إلى قول قتادة رحمه الله وهو يصف حال العرب قبل الرسالة، وهو يتلو قول الله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا [آل عمران:103]، يقول قتادة: "كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً، وأشقاه عيشًا، وأبينه ضلالة، وأعراه جلودًا، وأجوعه بطونًا، بين فكّي أسد فارس والروم، لا ـ والله ـ ما في بلادهم يومئذ شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيًا، ومن مات ردي إلى النار، يؤكلون ولا يأكلون. والله ما نعلم قبيلاً يومئذ من حاضر الأرض كانوا فيها أصغر حظًا وأضعف شأنًا منهم، حتى جاء الله عز وجل بالإسلام فورثكم به الكتاب، وأحل لكم به دار الجهاد، ووضع لكم به الأرزاق، وجعلكم به ملوكًا، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا نعمته، فإن ربكم منعم يحب الشاكرين، وإن أهل الشكر في مزيد من الله، فتعالى ربنا وتبارك".
أيها المسلمون، إن الله يأمرنا بأن نأخذ الإسلام جملة وتفصيلاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]. إن أول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم لله، في ذوات أنفسهم وفي الصغير والكبير، وفي النية والعمل، والرغبة والرهبة، وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد الله بهم، وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم. فكان هذا المجتمع العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة، ولا يتبجح فيه الإغراء، ولا تروج فيه الفتنة، ولا ينتشر فيه التبرج، ولا تتلفت فيه الأعين إلى العورات، ولا ترف فيه الشهوات على الحرمات، هذا المجتمع الذي تحكمه التوجيهات الربانية، تأمن الزوجة على زوجها، ويأمن الزوج على زوجته، ويأمن الأولياء على حرماتهم وأعراضهم، حيث لا تقع العيون على المفاتن، ولا تقود العيون القلوب إلى المحارم. وهو المجتمع الذي لا يخضع البشر فيه للبشر. إنما يخضعون لله ولشريعته، في طمأنينة وثقة ويقين، في مجتمعنا لا تقود المرأة السيارة، ولا تطالب بالبطاقة، في مجتمعنا تغطي المرأة وجهها، في مجتمعنا لا مكان للاختلاط في التعليم، ولا سعي لدمج البنات مع البنين، مجتمع له خصوصيته، خصوصية سما بها من شرع الله، واستمدها من سنة رسول الله، ما شرعت أنظمته عقول المفكرين، ولا سنت قوانينه أفكار الواضعين، ولهذا فلا نرضى بغيره بديلاً، ولا نقبل عنه تحويلاً.
_________
الخطبة الثانية
_________
فقد شع نور التوحيد من هذه الجزيرة، ورضعنا العقيدة من ألبان الأمهات، وتفتقت أنظارنا في مجتمع مسلم موحد، تربينا على محبة الله ومحبة رسوله ، تعلمنا الاعتزاز بالإسلام، تأدبنا بآدابه، ورضينا سلوكه، وانقدنا لتعاليمه، ما أحله أحللناه، وما حرمه حرمناه، وما دعانا إليه قبلناه، وما نهانا عنه تركناه.
الإسلام يقودنا في العبادات، ويحكمنا في المعاملات، ويحدد لنا العلاقات؛ فتدفقت علينا الخيرات، وانفتحت علينا البركات، ولا زلنا في نعم الله نتقلب، آمنين في أسرابنا، معافين في أبداننا، عندنا قوت يومنا، فكأنما حيزت لنا الدنيا بحذافيرها. لكن شرذمة محسوبة من بني جلدتنا، تلقت ثقافتها ممن لا خلاق لهم، أو تأثرت بأفكارهم فصنعت على أيديهم، ودست في صفوف الأمة، ومكنت في أهم المؤثرات، إنه الإعلام.
أخذوا يوجهونه لخدمة أفكارهم، فأفسدوا الأخلاق، وشككوا في العبادات، بل وطعنوا في العقيدة، علموا أن المرأة سلاحهم الفتاك، وإخراجها من بيتها هدفهم المنشود، أن يتولى تعليم المرأة صالح الناس شيء لا يطاق، أن تبقى الهيئات تأمر وتنهى شيء لا يحتمل، فتكالبوا على الطعن والتشكيك في ثوابت الأمة. أرادوا نزع الغيرة وإماتة الحياء، ووأد الفضيلة ونشر الرذيلة، كتابات في الجرائد والمجلات أعِدّ لها وخطط، ماذا يطرحون؟ وبأي لسان يتكلمون؟ يتباكون على المصلحة، ويدندنون حول الاقتصاد، ويتمسكون بأهداب الأخطاء البشرية، ويتغاضون عن أخطاء بني قومهم ولو كانت كالجبال، يقولون: نسعى لحرية الرأي، أحريةٌ للطعن في الدين؟! أحريةٌ لتغيير الثوابت؟! فلماذا لا ينشرون المقالات الهادفة؟! ولماذا لا يسمحون للآراء المخالفة؟! أليس لنا مثلهم حرية، أم أنه تيار لهم مخالف ولزيفهم كاشف؟!
فلا إله إلا الله، كم من معقل للإسلام قد هدموه، وكم من حصن قد خربوه، وكم من علم قد طمسوه، وكم من لواء مرفوع قد وضعوه، وكم ضربوا بمعاول الشبه في أصول غراسه ليقلعوها، وكم غيروا في المصطلحات وشوهوها، وكم عبثوا في المبادئ وتلاعبوا بالقيم، ما أكثرهم ـ لا كثرهم الله ـ وهم الأقلون. وما أعتاهم وهم الأذلون، وما أجهلهم وهم المتعالمون. فالله المستعان على ما يصفون، وعليه التكلان فيما يجترؤون، لكنهم بفضل الله ممقوتون، وللعقلاء مكشوفون، وبأقلامهم مفضوحون.
عباد الله، يجب أن لا تنطلي علينا الحيل فنقول: لنا المنابر ولهم الجرائد، لنا المساجد ولهم المسارح، لنا الدين ولهم الدنيا، بل لنا المنابر والجرائد، والإعلام والتعليم، فنحن لا نرضى بأنصاف الحلول، واطِّراح الدين وتحكيم العقول، وإني من هذا المكان أدعو كل غيور وكل من أوتي بيانًا أو قلمًا سيالاً أن نداهِم الجرائد والمجلات وسائر المشروع من المجالات لطرح قضايانا بميزان الشرع والدليل.
وإنني لأدعو كل من يجري في دمه حب الله وحب رسوله أن نتابع ما يكتب وما يبث في وسائل الإعلام، وكلما وجدنا مخالفة شرعية أو مطاعن عقدية نسارع لإنكار ذلك بنصح الكاتب وتخويفه بالله، والكتابة لرئيس التحرير، والكتابة لولاة الأمر وفقهم الله. لا تتركوهم يعبثون، ولا تدعوهم يتطاولون، فما غرهم إلا سكوتنا، ولا جرأهم إلا حلمنا، وما تطاولوا إلا بتخاذلنا. فهل من انتفاضة تبدد أوهام الكسل؟! وهل من وقفة ترد الجاهل وتكف أذى المتطاول؟!
فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، عسى أن يكون في هذا الحدث عبرة وعظة، فيستيقظ النائم ويتنبه الغافل ويتعلم الجاهل، عسى أن يكون فيه دحرًا للأعداء وعزًا الإسلام وثباتًا على المبادئ وكشفًا للمخططات وإحقاقًا للحق وإزهاقًا للباطل، عسى أن يكون بمثابة الشرارة التي تضيء الغيرة في القلوب، عسى أن ترتد على الأعداء السهام، وعسى أن يرجع الكيد إلى النحور.
(1/3052)
علو الهمة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, قضايا المجتمع
فهد بن حسن الغراب
الرياض
13/5/1422
جامع شيخ الإسلام ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- علو الهمة مجمع الفضائل. 2- ثناء الله عز وجل على عالي الهمة. 3- علو همته عليه السلام وكذا أصحابه والسلف من بعدهم. 4- دنو الهمة خلق المنافق وضعيف الإيمان. 5- أسباب علو الهمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن من محاسن الأخلاق وطيب السجايا علو الهمة.
فكبير الهمة من يتحرى الفضائل، لا للذةٍ ولا لثروة ولا استعلاءً على البرية، بل يتحرى مصالح العباد، شاكرًا بذلك نعمة الله، وطالبًا به مرضاته، غير مكترث بقلة مصاحبيه، فإنه إذا عظم المطلوب قلّ المساعد، وطرق العلياء قليلة الإيناس.
قال سفيان بن عيينة: "اسلكوا سبلَ الحق، ولا تستوحشوا من قلة أهلها".
إن كبير الهمة لا يزال يحلق في سماء المعالي، ولا ينتهي تحليقة دون عليين، فهي غايته العظمى وهمه الأسمى، حيث لا نقص ولا كدر، ولا تعب ولا نصب، ولا هم ولا غم ولا حزن، وإنما هي نور يتلألأ، وريحانه تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة نضيجة، وزوجه حسناء جميلة، وحلل كثيرة، في مقام أبدي، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً [الكهف:107، 108].
وعالي الهمة يعرف قدر نفسه في غير كبر ولا غرور، قد صانها عن الرذائل، وحفظها من أن تهان، ونزهها عن دنايا الأمور، وجنبها مواطن الذل، بأن يحملها ما لا تطيق أو يضعها فيما لا يليق بقدرها، فتبقى نفسه في حصن حصين وعز منيع، لا تعطى الدنية ولا ترضى بالنقص ولا تقنع بالدون.
وقد أثنى الله على أصحاب الهمم العالية، وفي طليعتهم خاتم الأنبياء والمرسلين محمد : فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ [الأحقاف:30]، وقد تجلت همتهم العالية في مثابرتهم وجهادهم ودعوتهم إلى الله عز وجل.
وقد أمر الله بالتنافس في الخيرات فقال عز وجل: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [الحديد:21]، وقال: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [الصافات:61]، وقال: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]. وقد كان رسول الله يتعوذ بالله من العجز والكسل، وعلمنا علو الهمة كما عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله : ((فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة)) ، وكما عند مسلم من حديث ربيعة بن كعب قال: كنت أبيت مع رسول الله فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: ((سلني)) ، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: ((أوَغير ذلك؟)) ، قلت: هو ذاك، قال: ((فأعني على نفسك بكثرة السجود)).
وقد فقه سلفنا الصالح عن الله أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا ومصيرها، فاستوحشوا من فتنتها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، فلا تراهم إلا صوامين قوامين، باكين والِهِين، ولقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة تشهد بعلو همتهم، فعن وكيع قال: كان الأعمش قريبا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفت إليه أكثر من ستين سنة، فما رأيته يقضي ركعة. قال البخاري رحمه الله: "ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد". وروي عن الرازي أنه قال: "أول ما رحلت أقمت سبع سنين، ومشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ ثم تركت العدد، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشيا، ثم إلى الرملة، ثم إلى طرسوس، ولي عشرون سنة". وقال أبو زرعة: "كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث"، وقال: "حفظت مائتي ألف حديث، كما يحفظ الإنسان: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: "إن لي نفسا تواقة، لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتها تاقت إلي الجنة".
وخامل الهمة كلما أراد أن يسمو إلى المعالي ختم الشيطان على قلبه: عليك ليل طويل فارقد، وكلما سعى في إقالة عثرته والارتقاء بهمته عالجته جيوش التسويف والبطالة، وإن نازعته نفسه إلى طلب المعالي والارتقاء بهمته، واقتحام الأهوال والتخلي عن البطالة والعجز والكسل، زجرها ونهاها.
وقد قص الله علينا من قول موسى عليه السلام لقومه: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61]، وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175، 176]، وقال في ذم المنافقين: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ [التوبة:87]، وشنّع عز وجل على الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ويجعلونها أكبر همهم، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة:38].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن من أسباب علو الهمة العلم والبصيرة، فالعلم يرفع صاحبه عن الدنايا، ويلزمه معالي الأمور، ويتقي فضول المباحات.
ومنها: إرادة الآخرة، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:19]، وقال : ((من كانت همه الآخرة، جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمة)).
ومنها كثرة ذكر الموت؛ لأنه يدفع إلى العمل للآخرة، والتجافي عن دار الغرور، ومحاسبة النفس، وتجديد التوبة.
ومنها صحبة أولي الهمم العالية، ومطالعة أخبارهم.
ومنها الاهتمام والعناية بتربية الابن على معالي الأمور ومحاسن الأخلاق منذ نعومة أظفاره، وعدم تجاهله واحتقاره، فهذا أسامة بن زيد يقود جيش المسلمين في حروب الردة وفيهم أبو بكر وعمر وعمره ثماني عشرة سنة، ويقول الشافعي رحمه الله: "كنت يتيمًا في حجر أمي فدفعتني إلى الكتاب"، وهذا سفيان الثوري تقول له أمه: "يابني، اطلب العلم، وأنا أكفيك بمغزلي"، والأوزاعي نشأ يتيمًا في حجر أمه، وتنقلت به من بلد إلى بلد، حتى استفتي وله ثلاث عشرة سنة.
فما بال بعض شبابنا اليوم، قد صرفوا عن المعالي، وغيبوا عن الفضائل، وأبعدوا عن كريم الشمائل، ورضوا بسبل الرذائل، إذا سألت أحدهم عن مناه، تنمى أن يكون مفحطًا موهوبًا أو راقصًا معروفًا أو سائحًا في ديار الكفر مفتونًا أو متسكعًا في الأسواق معاكسًا أو مغنيًا يطرب الجماهير أو لاعبًا يهز المدرجات، وإذا ارتفعت همته فإلى جمع الطوابع أو ألعاب الحاسب الآلي.
أين هم من قول سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه لرسول الله : فامض لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى عدونا غدًا، إنا لصُبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك ما تقر به عينك، فسر على بركة الله.
هكذا ـ يا شباب الإسلام ـ فليترب أبناء الأمة، فلسنا اليوم في وقت اللعب، ولسنا في وقت اللهو والطرب، فالأمة تتلقى الطعنات تلو الفاجعات، الأعداء يتربصون بها، والمنافقون يكيدون بها، أما ترون غدرهم في فلسطين؟! أما تشاهدون مكرهم في الشيشان؟! أما تسمعون جرائمهم في كشمير؟!
فالعودة العودة ـ يا مسلمون ـ إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، تسعدوا بذلك وتسودوا.
(1/3053)
عيد الفطر: الاستقامة على الدين
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, المرأة
فهد بن حسن الغراب
الرياض
جامع شيخ الإسلام ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاستقامة سلوك المؤمنين الخيار. 2- التوحيد هو العمود الذي يقوم عليه الإسلام. 3- من تمام الاستقامة إقامة شعائر الدين وإظهارها. 4- كيد الأعداء ضد المرأة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، هذه شمس العيد قد أشرقت، في يوم تبسمت لكم فيه الدنيا، أرضُها وسماؤها، شمسُها وضياؤها، جئتم تسألون الله الرضا والقبول، وتحمدونه على الإنعام بالتمام، والتوفيق للصيام والقيام، فجددوا أواصر الأخوة.
ففي العيد يتناسى ذوو النفوس الطيبة أضغانهم، فيجتمعون بعد افتراق، ويتصافون بعد كدر، ويتبادلون التهاني، تبتسم منهم الشفاه، وتضيء منهم الجباه. وليس من العيد التلذذ بالمعاصي والخروج على القيم، ليس من العيد العبث بالآداب وتضييع الصلوات، والسهرات المحرمة والرقصات الماجنة، اختلاط وطبول وتصرف غير مسؤول.
أيها المسلمون، مضت ليالي رمضان بفضائلها، فهنيئًا للذين أطاعوا ربهم وأخلصوا العمل لخالقهم، فاجعلوا الاستقامة شعارهم، وصالح الأعمال غايتهم، قيل للإمام أحمد رحمه الله: متى الراحة؟ قال: "عند وضع أول قدم في الجنة".
في استدامة الطاعة وامتداد زمانها نعيم للصالحين وقرة عيون للمؤمنين وتحقيق آمال للمحسنين، ((خير الناس من طال عمره وحسن عمله)).
عباد الله، إن الاستقامة على الطاعة بامتثال الأوامر واجتناب النواهي والزواجر هي صفات عباد الله المؤمنين، إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ ، عن سفيان بن عبد الله قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم)).
فإياك والمعاصي بعد شهر الغفران، فالعاصي في شقاء، والخطيئة تذل الإنسان وتخرس اللسان، وأقبح بالذنب بعد الطاعة، والبعد عن المولى بعد القرب منه.
أيها المسلمون، إن قضية القضايا وأصل الأصول كلمة التوحيد، وشعار الإسلام وعلم الملة "لا إله إلا الله"، وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]. التوحيد لباب الرسالات السماوية، وعمود الإسلام وشعاره، ووسيلة كل نجاح، وشفيع كل فلاح، يُصيِّر الحقير شريفًا، والوضيع غِطريفا، يطوِّل القصير، ويقدم الأخير، ويُعلي النازل، ويُشهر الخامل. صفاء المعتقد هو أساس الفضائل ولجام الرذائل، يحتم على أهله العمل به الدعوة إليه والصبر على الأذى فيه. ألا وإن معظم الشرور والنكبات التي أصابت أمة الإسلام وأشد البلايا التي حلت بها إنما كانت بسبب ضعف التوحيد في النفوس وتنحيته عن الميدان.
أيها المسلمون، أمة شرَّفها الله بالإسلام فكيف ترضى غيره بديلاً؟! كيف يحلو لها أن تتخلف عن السير تحت لوائه، وترضى أن تقاد ذليلة تحت ألوية جاهلية ودعوات عنصرية وانتماءات حزبية؟! لقد جرب المسلمون في هذه الأعصار وفي كثير من الأمصار مناهج ومشارب ومسالك ومذاهب، فلم يصلح لهم منها سبيل، لا طريق إلا صراط الله، ولا هدي إلا هدي رسول الله ، ولا نهج إلا نهج سلف الأمة.
ألم تستبن الأمة بعد طول هذه المعاناة أن التخلي عن دينها هو الدمار، وهو قرة عين الاستعمار؟! إن جميع الحروب المعلنة على المسلمين ساخنها وباردها، عسكريِّها وفكريِّها، كلها باسم الدين، ولا يكون الانتصار عليها إلا بتجريد التوحيد. إن يستقم توحيد الأمة تنتصر على عدوها، وتعلُ كلمتها، وتُحرَسْ نعمتها، وتدُمْ عزّتها، وتشتدّ قدرتها، وتزددْ قوتها، وإن لم تقمْ الأمة بذلك فهي على خطر أن ينالها وعيد الله: وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد:38].
لقد جاء العيد، والأمة تواجه حربًا صليبية مسعورة، تستهدف دينها ومقدساتِها، إنه عام عصيب، لاقت فيه الأمة أعتى المآسي وأدمى المجازر، فظائعَ دامية وجرائم عاتية ونوازل عاثرة، وجراحًا غائرة، غصصًا تثير كوامن الأشجان، وفجائع تبعث على الأسى والأحزان، المسلمون فيها ما بين قتيل مرمّل، وجريح مجندل، وأسير مكبّل، وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ [البروج:8].
أيها المسلمون، إن من تمام الاستقامة أن يظهر المسلمون شعائر الدين، وأن يعتزوا بتلك التعاليم، إقامة للصلوات، وأداء للأمانات، وقيام بالواجبات، وبعد عن المحرمات، وتورع عن المشتبهات، استقامة في الأقلام، وصلاح في الإعلام، وقيام بالتربية، وكف عن الرشوة، عزوف عن الربا، وبعد عن الزنا، وتنزه عن الغناء، حفظ للفروج، وتنزيه للأسماع، وحفظ للأبصار، وتطهير للقلوب، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].
_________
الخطبة الثانية
_________
من الأمور العظام التي أخذ يتكلم فيها بعض المثقفين، وتلوكها السنة بعض الإعلاميين، ويثيرها بعض الحاقدين، وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27]، إنه أمر المرأة وحقوقها.
كأن الإسلام ظلمها وما أعطاها حقها بل هضمها، أو لعل القرآن نسيها، أو أن السنة تجاهلتها، تنوعت غاراتهم، وتعددت هجماتهم، وكثرت اتهاماتهم. فمرة هجوم على الحجاب، وأخرى يدعون للاختلاط، وثالثه بالطعن في مناهج التعليم، يزعمون أنهم يسعون لحريتها وإعطائها حقها، وهم يكيدون لتقييدها، يريدونها صورة مبتذلة على أغلفة المجلات، يريدونها دمية تتقلب في الدعايات، يريدونها ألعوبة في السهرات، يريدونها بضاعة مزجاة في المراقص والبارات، يريدونها غانية لقضاء الشهوات يريدونها خارجة على القيم، نابذة لتعاليم الإسلام، راكضة خلف الأعداء، وملاحقة للسفهاء، نازعة للحياء، خالعة للحجاب، متهاونة بالتصوير، مزاحمة للرجال في الأسواق، رافعة صوتها في الطرقات، لابسة للعباءة على الأكتاف، مرتدية للضيق والشفاف، مخالفة لجميل العادات، لاهثة خلف رديء المحدثات. تردّد عبارات الحاقدين، وتتبنى أفكار العلمانيين، وتستحسن مقالات الحداثيين، وتنشر أفكار العقلانيين، لقد أحكموا في أعناقهن ربقة التقليد والتشبه بالعدو الكافر، في آدابه وفنونه وغير المفيد من مناهجه وعلومه، فتبعوا سننهم، حتى لو دخلوا جحر الضب دخلوه، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11].
أما لكم في تجارب الآخرين مزدجر؟! أما في ما بلغوه من حضيض مدّكر؟! ولكن وبفضل الله يبقى السواد الأعظم من نساء هذا البلد، صالحات مصلحات، قانتات تائبات، صامدات في وجه الزوابع.
فيا جوهرة مصونة، يا درة مكنونة، يا مسلمة تمسكت بدينها واعتزت به، ورفعت رأسها بحجابها وسمت به، يا حرة ما غرها كيد الكائدين، وما خدعها مكر الماكرين، أرضت ربها وصلت خمسها وقرت في بيتها، وأطاعت في طاعة الله بعلها، وحفظت فرجها، وربت طفلها، يا شريفة ما انخدعت بالدعايات، يا شهمة ما عكفت على الشاشات، ولا زلت قدمها في المعاكسات، علمت أن الله كرمها، وبالإسلام شرفها، وبالحجاب صانها، وبالبيت حماها، وبالتربية خصها، فأخرست ألسنة الحاقدين، وضربت مثلاً للمنصفين، قامت برسالتها كما أراد الله، فما تعطل نصف مجتمعها، ولا انطلى عليها مكر أعدائها.
(1/3054)
مكانة المسجد
فقه
المساجد
فهد بن حسن الغراب
الرياض
6/7/1423
جامع شيخ الإسلام ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مكانة المساجد في الإسلام. 2- دور المسجد في الإسلام. 3- حقوق المساجد وحرمتها. 4- حال المساجد اليوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، لما بعث الله محمدًا جمعنا في أعظم جامعة، آخت بين قلوبنا وجمعت كلمتنا، ووحدت شملنا ولمت شعثنا.
إن المسجد في الإسلام له مكانة رفيعة وقدسية وطهارة، يعتاده المؤمن ويصلي فيه المصلي، ويعتكف فيه المعتكف، ويتعبد فيه المتعبد، ويتعلم فيه المتعلم، لا يخلو من المتعبدين ولا من الدارسين المتفقهين.
وقد أضاف الله المساجد إلى نفسه إضافة تشريف وإجلال، وتوعد من يمنع من ذكره فيها أو تسبب في خرابها فقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114].
وقد شهد الله تعالى لعمار المساجد بالإيمان فقال: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ [التوبة:18]، وامتدح عمارها بذكره: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36، 37]، رجال يعمرون بيوت الله سبحانه، رجال يحافظون على الصلوات جماعة في المسجد.
ووعد سبحانه بالثواب الجزيل لمن بنى له مسجدًا, ففي الصحيحين أن النبي قال: ((من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح)) متفق عليه.
عباد الله، لقد نشأت مكانة المسجد وترعرعت في قلوب المسلمين، حيث كان مصدر النور والعلم والبصيرة، أعلى الله شأنه، ورفع ذكره، فيه الصلاة والاعتكاف، والدروس والخطب، والمشاورات والقرارات، وفيه استقبال الوفود وإبرام العهود، وهو أحب البلاد إلى الله، ((أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها, وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)).
في المساجد تطهر النفوس وتزكو، ويجد المؤمن راحته؛ حيث يناجي مولاه، ويتوجه إليه بالركوع والسجود، والتلاوة والدعاء. ولقد أخبرنا النبي عن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فذكر منهم: ((ورجل قلبه معلق بالمساجد)) ، كلما نودي للصلاة سارع بشوق، وإذا قضيت ظل القلب معلقًا بالمسجد، قلوب ملأها الإيمان والتقى, فسارعت إلى الخيرات, سارعت إلى محو الخطايا ورفع الدرجات, سارعت إلى النور التام يوم القيامة, سارعت إلى الصلاة فانتظرت الصلاة، فلم تزل الملائكة تصلي على أصحابها، قلوب أبت سبيل المنافقين الذين لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى.
المساجد بيوت الله عز وجل في الأرض، أطهر الساحات وأنقى البقاع، فيها تنزل الرحمات وتهبط الملائكة وتحل السكينة، وتنشر الصلة والمودة والرحمة، ويتعارف فيها المسلمون، فيتآلفون ويتعاونون، ويتزاورون ويتراحمون، يُفقد المريض فيزار، والمقصّر فينصح، تربّت في أحضانه أجيال، تعلّمت توحيد الله، نشأت على إخلاص العبادة لله، محبة وإنابة ورغبة ورهبة, وخوفًا ورجاءً وإخلاصًا وتوكلاً وذلاً وتعبدًا، وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18].
لقد كانت المساجد رياضًا رحبة وأمكنة فسيحة، يتعلمون فيها أمور دينهم، ويحفظون كتاب ربهم، كانت مكانًا للجيوش الفاتحة والسرايا المبعوثة، فيه تعقد الألوية والرايات، من المسجد سجل التاريخ سيرًا حافلة لعلماء أجلاء، ملؤوا الدنيا علمًا وتعليمًا، من المسجد انطلقت مواكب الدعوة، من المسجد سارت جحافل المجاهدين، من المسجد تلقى الناس التربية، وفيه عرفوا الحلال من الحرام، والسنة من البدعة، والواجب من المحرم. ولما أيقن المسلمون بهذا الدور، جنوا ثماره عزًا وتقدمًا، ورفعة وتمكينًا.
أيها المسلمون، ليس لأحد أن يسيء الأدب في بيت الله عز وجل، ينبغي أن تكون له مكانة سامية، ومنزلة رفيعة، وحصانة شرعية. فعن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله : ((البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها)) متفق عليه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد ففقدها رسول الله فسأل عنها، فقيل له: إنها ماتت، فقال: ((فهلا اذنتموني؟ فأتى قبرها فصلى عليها)) ، فتنظيف المساجد وإبعاد الروائح الكريهة عنها من الواجبات، وقد نهى النبي آكل الثوم والبصل من الدخول إلى المسجد.
والمؤمن مطالب بأن يلبس الثياب الحسنة عند المجيء للمسجد، يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، وعلى الداخل له أن يمشي بالسكينة والوقار، فعن أبي قتادة قال: بينما نحن نصلي مع النبي إذ سمع جلبة رجال فلما صلى قال: ((ما شأنكم)) ، قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: ((لا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)) رواه الشيخان.
_________
الخطبة الثانية
_________
واستمرت المساجد تؤدي دورها قرونًا طويلة، إلى أن أصبحت الأمة في مرحلة الغثائية، فالمسجد ضعف دوره وانحسر مده ونضب معينه، لم تعد المساجد تؤدي رسالتها، ولم تحقق أهدافها، فعقم جيلها، وسكتت ألسنتها، واختفت حلقاتها، وانطفأ نورها، وانعدم دورها. تغير حالها، وساء تعامل الناس معها، وأحدث فيها ما يتنافى مع مكانتها وقدسيتها، وما لا يليق بكرامتها.
ففي بعض البلاد صار يدفن فيها الأموات، وتمارس حول قبورهم جميع أنواع الشرك الأكبر، من دعاء الأموات والاستغاثة بهم وطلب المدد منهم، فأصبحت هذه المساجد مصادر للوثنية، بعد أن كانت معاقل للتوحيد.
ما حال مساجدنا اليوم؟ قلّب طرفك في واقعنا، يتساهل بعض المصلين بتحية المسجد، عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)).
هل علمنا أبناءنا آداب المسجد، أم أننا تركناهم فيها يسرحون ويمرحون، يؤذون المصلين، ويفسدون أنس الخاشعين؟!
والجوالات، وما أدراك ما الجوالات، إنها أجهزة حديثة، غزت جيوب الناس، ورافقتهم أنى يذهبون، والمصيبة أن البعض يتلذذ بسماع الموسيقى المنبعثة منها، حتى وهو في الصلاة وبين يدي مولاه، ما اكتفى بوزره فأحب حمل أوزار من سواه.
والبعض في هذه الأيام ونحن على أبواب الدراسة يأخذ المصاحف من المسجد ويوزعها على أبنائه، ويعيدها في نهاية العام وقد مزقت وأتلفت، وغدت مكانًا للكتابة والعبث، أما علم بأن إخراجها من المسجد حرام؟!
والبعض يأتي إلى المسجد متأخرًا، فيتخطى رقاب الناس، راغبًا في فضيلة الصف الأول، ضيق على الخلق، وكسب غضب الرب.
وطائفة أخرى جعلت همها سرقة الأحذية، والجديد منها على وجه الخصوص، وكأن المسجد ومرافقه، أهون شيء على بعض الناس.
(1/3055)
نعمة السيارات وخطرها
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الآداب والحقوق العامة, جرائم وحوادث, فضائل الأعمال
فهد بن حسن الغراب
الرياض
20/7/1423
جامع شيخ الإسلام ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عاقبة جحود النعم وكفرانها. 2- حرمة النفس ووجوب المحافظة عليها. 3- إساءة استعمال السيارات وما ينتج عن ذلك. 4- من الأخطاء في التربية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، استيقظوا بقوارع العِبَر، وتفكروا في حوادث الغِيَر، ففي تقلبات الدهر معتبر، وفي طوارق الأيام مزدجر، وقيّدوا نعم الله عليكم بشكرها وحسن التصرف فيها؛ فإن بالشكر ازدياد النعم، وبحسن التصرف فيها تتمحّض المنن، أما إذا كفرت فذلك سبب زوالها ومعول هدمها، قال جل وعلا: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].
بدّلوا نعمة الله كفرا، فأعرضوا عن دين الله وارتكبوا محارمه، فأبدلهم بنعمه نقما، وبرغد العيش نكدا، أفتظنون أنكم إذا كفرتم بنعم الله ناجون، ومما وقع لأولئك مسلَّمون؟! كلا، فسنن الله في عباده ثابتة، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43]، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
عباد الله، إن مما أنعم الله به علينا في هذا العصر تلك السيارات التي ملأت البلاد، قرّبت البعيد، وسهّلت العسير، واختصرت الأوقات، وأعانت على الطاعات. قادها الكبير والصغير، والعاقل والسفيه، فهل شكرنا هذه النعمة وأحسنّا التصرف فيها؟!
إن الحياة السعيدة والعيش الرغيد قوامها ظلال الأمن الوارف بعد الإيمان بالله سبحانه، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]. وإن المتأمّل يدرك أن الأمة تواجه متاعب ومشقات، بعضها يسير والآخر عسير، ولكن الكيان يتزلزل حين تُسترخص الدماء وتُزهق الأرواح، فالحفاظ عليها من أغلى المطالب.
والنفس ليست ملكًا لأحد من الناس، بل حتى ولا لصاحبها، وإنما هي ملك لله وحده؛ ومن أجل ذلك حرم سبحانه الاعتداء عليها، حتى من قبل صاحبها، قال : ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)) ، وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، ولكن مع وضوح ذلك وجلائه نجد من أبناء المسلمين من يمارس أفعالاً تُلقي بالنفس إلى التهلكة، مخالفة للأنظمة، قطعٌ للإشارات، وعبث بالممتلكات، سرعة وتفحيط، يزعجك صرير الإطارات وأصوات المنبهات، هذا مفحّط وأولئك مشجّعون، هذا مستهتِر وأولئك معينون، يشجعون ويصفّقون وللرايات يرفعون، ترى أرواحًا تُزهق ونساءً تُرمّل، وأسرًا تُفنى وأطفالاً تُيتَّم، وأمراضًا مزمنة وإعاقاتٍ مستديمة. ترى منشآتٍ تُهدَم ومنجزاتٍ تُتلف، وآلافًا من الملايين تُهدر، فواجع تصل إلى الهلع، وخسائر توصل إلى الإفلاس.
إن ما تستقبله المستشفياتُ والمقابر وما تحتضنه الملاجئ ودور الرعاية كل ذلك أو جُلُّه ضحايا التهورِ وعدمِ المسؤولية، قطع للأيدي وبتر للأرجل وكسر للعظام، موتى ومشلولون ومقعدون، في صور مأساوية، يصحبها دموع وآهات وأنَّات وزفرات.
أطفال في مقتبل الحياة، وشباب في نضرة العمر، ما حاله وقد فقد عائلته، وما حال المرأة وقد فقدت من يرعاها وأطفالها؟! وما حال الوالدين وقد زهقت روح شابِّهما اليافع؟! وما حال الأسرة وقد حل بها معاق، علاجه مُكْلِف، والكد عليه مُرْهِق، أصبح مقعدًا عاجزًا، عالة على أهله ومجتمعه، حسرة في القلوب، بسبب ماذا كل هذا؟ بسبب فعلِ مُتهوّر وتصرّفِ طائش وعملِ غير مسؤول.
فالطرق لم توضع من أجل أن يتصرف فيها العابثون بسياراتهم كيف يشاؤون، إنها مسالكُ الناس إلى شؤونهم، ومعابرُهم إلى قضاء حوائجهم، ودروبُهم في تحركاتِهم وتحصيلِ منافِعهم، وسبيلُهم إلى أسواقهم وكسبِ معاشهم، وهي منافذهم إلى المعاهدِ والمدارس ودورِ العلم والمساجد وجميع أنواع الحركة والتنقلات.
عباد الله، ماذا يبقى إذا هانت الأرواح واسترخصت الدماء؟! وإلى أي هاوية هؤلاء ينحدرون؟! ومتى يهتدي الضالون ويستيقظ الغافلون؟! وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
فاللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
_________
الخطبة الثانية
_________
معاشر الآباء، إن من الأخطاء التربوية التي يقع فيها البعض بدافع عاطفة الأبوة وإصرار الزوجة وإلحاح الأولاد أن يقوم بشراء سيارة لابنه الصغير الذي لم يتجاوز الحلم، ولا تكاد تراه من نافذة السيارة. حجج داحضة وحيل باطلة: نجح في الامتحان ولا بد من مكافأته، أبناء العم والخال والجيران ولا بد من مسايرة المجتمع، حتى لا يتعقد ولا يحس بالحرمان، ويشعر بالرجولة ويغنينا عن السائق، فلا من السائق تخلصوا، ولا لولدهم حفظوا، تشترى له سيارة لا يحسن استعمالها ولا يدرك خطرها ولا يعي مقصودها، عندها تحدث الكوارث والنكبات والمصائب والمدلهمات.
أتعلمون ـ يا عباد الله ـ أن حوادث السيارات في هذه البلاد أزهقت سبعين ألف نفس كما تقول الإحصائيات؟! هل نحن في حرب تبيد الأخضر واليابس؟! هل نحن في ميادين القتال؟!
نعم، نحن في حرب مع السفهاء، في حرب مع الآباء المستهترين، في حرب مع الشفاعات المذمومة التي تتيح للسفيه العبث وتفتح للمستهتر المجال، في حرب مع المحسوبيات، في حرب مع المجاملات والواسطات، هذه الحرب أبادت الكثير، كم عطلت من مصالح، وكم أزهقت من أرواح، أين صرامة النظام؟! أين تعميم العقوبة؟! أين برامج التربية؟! أين مناهج التعليم؟ !
عبد الله، كم من الآثام ستجني من جراء تفريطك، قتل نفس بغير حق، إتلاف للأملاك، وكلها مما حرم الله، كم من الحسرة ستلاحقك طوال حياتك، إن تسبّبت في قتل عائل لأسرة، ينتظره الشيخ الكبير، والعجوز والطفل الصغير، فتكون سببًا في شقائهم وحرمانهم، وما قدّره الله لا بد منه، ولكن حين يقع القدر وأنت مفرّط تكون موضع اللوم والعتب في الآخرة والأولى.
فاتقوا الله عباد الله، وأعطوا الطريق حقه، والتزموا بآدابه، وأحسنوا التصرف في ممتلكاتكم، واشكروا نعمة ربكم، وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ [النساء:5].
(1/3056)
وصف حال أهل الغربة
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, الفرقة الناجية
فهد بن حسن الغراب
الرياض
16/10/1423
جامع شيخ الإسلام ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
11- حال الإسلام أول أمره ثم عند وفاة الرسول. 2- أعظم الفتن فتنة الشهوات وفتنة الشبهات. 3- أثر فتنة الشبهات على المسلمين. 4- صفات أهل السنة. 5- معنى غربة الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، لما بُعث النبي ودعا الناس إلى الإسلام لم يستجب له في بادئ الأمر إلا الواحد بعد الواحد، وكان المستجيب له خائفًا من عشيرته وقبيلته، يُؤذى غاية الأذى، ويساء إليه بشتى أنواع الإساءة، وينال منه وهو صابر على ذلك في الله عز وجل.
وكان المسلمون إذ ذاك مُستضعفين، يطردون ويشرَّدون كل مشرد، ويهربون بدينهم إلى البلاد النائية، كما هاجروا إلى الحبشة مرتين، ثم هاجروا إلى المدينة، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجًا، وأظهر الله لهم الدين وأتم عليهم النعمة.
ثم توفي رسول الله والأمر على ذلك، وأهل الإسلام على غاية من الاستقامة في دينهم، وهم متعاضدون متناصرون، وكانوا على ذلك في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. ثم أعمل الشيطان مكائده، وألقى بينهم بأسه، وأفشى فيهم فتنته، فتنة الشهوات والشبهات، ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئًا فشيئًا، حتى استحكمت مكيدة الشيطان، وأطاعه أكثر الخلق، وكل ذلك مما أخبر النبي بوقوعه.
فأما فتنة الشبهات فقد قال : ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة)). قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: ((من كان على ما أنا عليه وأصحابي)).
وأما فتنة الشهوات فقد قال عنها : ((كيف أنتم إذا فُتحت عليكم خزائن فارس والروم؟! أي قوم أنتم؟!)) ، فقال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما قال ربنا، فقال : ((أو غير ذلك، تتنافسون، ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون)) ، وقال : ((والله، ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط لكم عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)).
ولما فتحت كنوز كسرى على عمر بن الخطاب بكى رضي الله عنه وقال: (إن هذا لم يفتح على قوم إلا جُعِل بأسُهم بينهم).
عباد الله، ولما دخل أكثر الناس في هاتين الفتنتين أو إحداهما أصبحوا متقاطعين متباغضين، بعد أن كانوا إخوانًا متحابين متواصلين؛ فإن فتنة الشهوات عمَّت غالب الخلق، فافتتنوا بالدنيا وزخرفها، وصارت غاية قصدهم، لها يطلبون وبها يرضون ولها يعادون وعليها يوالون، فقطعوا لذلك أرحامهم، وسفكوا دماءهم، واتبعوا أهواءهم.
وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة فبسببها تفرَّق أهل القبلة وصاروا شيعًا وأحزابا، وكفَّر بعضهم بعضًا، بعد أن كانوا إخوانًا، ولن ينجو من هذه الفرق إلا الفرقة الناجية، الذين قال فيهم : ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)).
وهم ـ يا عباد الله ـ الغرباء في آخر الزمان، الذين قال فيهم : ((بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء)) ، قيل: يا رسول الله، ومن الغرباء؟ قال: ((النُّزَّاع من القبائل)) ، وفي رواية: ((الذين يَصلحون إذا فسد الناس)) ، وفي رواية: ((الذين يُصلحون ما أفسد الناس من سنتي)) ، وفي رواية: ((الذين يفرون بدينهم من الفتن)) ، وفي رواية: ((هم قوم صالحون قليل في قوم سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)). فرجع الأمر كما كان الداخلون إلى الإسلام في أول الأمر.
قال الأوزاعي: "أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة، حتى ما يبقى في البلد منهم إلا الرجل الواحد"، وقال يونس بن عبيد: "ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها"، وروي عن الحسن رحمه الله أنه قال: "سنتكم ـ والله الذي لا إله إلا هو ـ بين الغالي والجافي والمترف والجاهل، فاصبروا عليها، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس، الذين لم يأخذوا من أهل الإتراف إترافهم، ولا مع أهل البدع أهواءهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا"، ثم قال: "والله، لو أن رجلاً أدرك هذه النُكُرات، يقول هذا: هلم إليّ، ويقول هذا: هلم إليّ، فيقول: لا أريد إلا سنة محمد يطلبها ويسأل عنها، إن هذا ليقرض له أجر عظيم، فكذلك إن شاء الله فكونوا".
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيؤوا بنور السنة، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق).
فالسنة تدل أهلها على المقصود الأعظم وهو معرفة الله تعالى، فيحبونه ويخافونه، حتى يسهل بذلك عليهم كل ما تعسر على غيرهم ممن وقف مع الدنيا وزهرتها واغتر بها؛ فلذلك استلانوا ما استوعر منه المترفون، فإن المترف الواقف مع شهوات الدنيا ولذاتها يصعب عليه تركها وشهواتها؛ لأنه لا عوض عنده عنها، فهو لا يصبر على تركها.
ومن صفات أهل السنة أنهم صحبوا الدنيا بأبدانهم وأرواحهم معلقة بالآخرة، فلم يتخذوا الدنيا وطنًا، ولا رضوا بها إقامة ومسكنًا، وإنما اتخذوها ممرًا، ولم يجعلوها مستقرا. قال لابن عمر: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)). قال الحسن: "المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، له شأن وللناس شأن".
فأهل هذا الشأن هم الغرباء، غربة العلماء بين أهل الجهل والشقاق، غربة أهل الصلاح بين الفساق، وغربة الصادقين بين أهل الرياء والنفاق، وغربة أهل الآخرة بين أهل الدنيا، الذين سُلبوا الخشية والإشفاق، وغربة الزاهدين بين الراغبين في كل ما ينفد وليس بباق. فهؤلاء ـ عباد الله ـ هم أهل الغربة، وهم الفرّارون بدينهم من الفتن، وهم النّزّاع من القبائل.
ومن كلام أحمد بن عاصم الأنطاكي رحمه الله: "إني أدركت من الأزمنة زمانًا عاد فيه الإسلام غريبًا كما بدأ، وعاد وصف الحق فيه غريبًا كما بدأ؛ إن ترغب فيه إلى عالم وجدته مفتونًا بحب الدنيا، يحب التعظيم والرئاسة، وإن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلاً في عبادته، صريع إبليس عدوه، قد صعد به إلى أعلى درجة العبادة وهو جاهل بأدناها، فكيف له بأعلاها؟! وسائر ذلك من الرعاع قبيح أعوج، وذئاب مختلعة، وسباع ضارية، وثعالب صائلة". فهذا وصف أهل زمانه، فكيف لو رأى ما حدث في زماننا من الدواهي والعظائم التي لم تخطر بباله، ولم تدر في خياله؟! علماء سوء، شيوخ شاشات، فتاوى قنوات، ومناصب راقيات، وشهادات عالميات، وأقوال منكرات. جعلوا في كل مسألة خلافًا، قتلوا التورّع، وجرّؤوا الناس على المشتبهات، ((ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) ، يدّعون أن ذلك من سماحة الإسلام، وأنه من التيسير على الناس! ووافق ذلك هوى في قلوب بعض المسلمين، فأصبح كل جاهل يدعو إلى شبهته وهواه، وينسب ذلك إلى شيخ في قناة، وإذا ذكرت له الدليل الصحيح الصريح قال: لا تشدد في المسألة خلاف، وهل كل خلاف معتبر؟! انظر إلى دليل المخالف تجده قولاً شاذًا، لا يسنده دليل صحيح، وانظر إلى المخالف نفسه تراه متلبسًا بمخالفة ظاهرة للسنة، في لباسه ومظهره، بل قد يكون من أهل البدع، "وإن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم".
فهل عقمت ديارنا؟! وهل انقرض علماؤنا وقد عرفوا بالعلم والورع وتميزوا باتباع السنة؟!
فيا أمة انهمكت في القنوات، وتبعت الشهوات، وراجت عليها الشبهات، عباد جهالات، عبادات باطلات، وأفعال محدثات، للشيطان فيها نزغات، ولإخوانه صولات وجولات. أكلٌ للحرام وقطع للأرحام، صد عن سبيل الله وغفلة عن مراقبة الله إلا من رحم الله وقليل ما هم. أما لكم من تجارب الآخرين مزدجر؟! انظروا إلى من حولكم من المجتمعات، أليس لكم فيهم معتبر؟! دعوا بُنيات الطريق، وعليكم بسفينة النجاة.
(1/3057)
ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا
الإيمان
القضاء والقدر
فهد بن حسن الغراب
الرياض
25/1/1424
جامع شيخ الإسلام ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإنسان لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا. 2- رب مكروه فيه. 3- صلح الحديبية والحكمة منه. 4- في الإيمان بالقضاء طمأنينة للنفس. 5- لا يصلح أمر العباد إلا بتحكيم شريعة الله عز وجل.
_________
الخطبة الأولى
_________
كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
قال ابن القيم رحمه الله: "وهو سبحانه كما هو العليم الحكيم في اختيار من يختار من خلقه وإضلاله من يضله منهم، فهو العليم الحكيم بما في أمره وشرعه من العواقب الحميدة والغايات العظيمة، وبين سبحانه أن ما أمرهم به يعلم ما فيه من المصلحة والمنفعة لهم، التي اقتضت أنه يختاره ويأمرهم به، وهم قد يكرهونه؛ إما لعدم العلم، وإما لنفور الطبع. فهذه الآية تضمنت الحض على التزام أمر الله وإن شق على النفوس، وعلى الرضا بقضائه وإن كرهته الطباع".
فالعبد محتاج في فعل ما ينفعه في معاشه ومعاده، إلى علم بما فيه من المصلحة، وقدرة عليه، وتيسير له، وليس له من نفسه شيء من ذلك، بل علمه ممن عَلَّم الإنسان ما لم يعلم، وقدرته منه، فإن لم يُقدِره عليه وإلا فهو عاجز، وتيسيره منه، فإن لم ييسره عليه وإلا فهو متعسر.
قال عبدالله بن عمر: (إن الرجل ليستخير الله فيختار له، فيسخط على ربه، فلا يلبثُ أن ينظرَ في العاقبة، فإذا هو قد خار له).
فالمقدور يكتنفه أمران: الاستخارةُ قبله، والرضا بعده. فمن توفيق الله لعبده وإسعاده إياه أن يختار قبل وقوعه، ويرضى بعد وقوعه، ومن خذلانه أن لا يستخيرَه قبل وقوعه، ولا يرضى بعد وقوعه. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا أبالي أصبحت على ما أحب أو على ما أكره؛ لأني لا أدري الخيرَ فيما أحبُّ أو فيما أكره). وقال الحسن: "لا تكرهوا النقمات الواقعة والبلايا الحادثة، فلرُب أمرٍ تكرهه فيه نجاتُك، ولرب أمر تؤثره فيه عَطَبُك".
وتأملوا قول الله جل وعلا: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:27].
بين سبحانه وتعالى حكمة ما كرهوه عام الحديبية، من صد المشركين لهم عن البيت، حتى رجعوا ولم يعتمروا، وبين لهم أن مطلوبهم يحصل بعد هذا، فحصل في العام القابل ما حصل، من مصالحِ الدين والدنيا، والنصرِ وظهور الإسلام، وبطلان الكفر، ما لم يكونوا يرجونه قبل ذلك، ودخل الناس بعضهم في بعض، وتكلم المسلمون بكلمة الإسلام، وبراهينِه وأدلتِه جهرة لا يخافون، ودخل في ذلك الوقتِ في الإسلام خلق كثير، وظهر لكل أحد بغيُ المشركين وعدوانُهم وعنادُهم، وعلم الخاص والعام أن محمدًا وأصحابَه أولى بالحق والهدى، وأن أعدائهم ليس بأيديهم إلا العدوان والعناد، فإن البيت الحرام لم يُصدَّ عنه حاج ولا معتمر من زمن إبراهيم، فتحققت العرب عنادَ قريش وعدوانَهم، وكان ذلك داعيةً لبشرٍ كثيرٍ إلى الإسلام، وزاد عنادُ القوم وطغيانُهم، وزاد صبرُ المؤمنين والتزامُهم بحكم الله وطاعة رسوله ، وذلك من أعظم أسباب نصرهم، إلى غير ذلك من الأمور التي علمها الله.
ربّ أمر تتقيه جر أمرا ترتضيه
خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه
قال أبو الدرداء: (إن الله عز وجل إذا قضى قضاء أحب أن يُرضى به)، وقال ابن مسعود: (إن الله بقسطه وعدله جعل الرَّوح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهمَّ والحزن في الشك والسُّخط، فالراضي لا يتمنى غيرَ ما هو عليه من شدة ورخاء)، وقال عمر بن عبد العزيز: "أصبحت وما لي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر".
فعامةُ مصالح النفوس في مكروهاتها، كما أن عامةَ مضارِها وأسبابَ هلكتِها في محبوباتها.
فأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين إذا أنزل بعباده ما يكرهون كان خيرًا لهم من أن لا ينزلَه بهم؛ نظرًا منه لهم وإحسانًا إليهم ولطفًا بهم، ولو مُكنوا من الاختيار لأنفسهم لعجزوا عن القيام بمصالحهم، علمًا وإرادةً وعملاً، لكنه سبحانه تولى تدبير أمورهم بموجب علمه وحكمته ورحمته، أحبوا أم كرهوا، فعَرف ذلك الموقنون بأسمائه وصفاته فلم يتهموه في شيء من أحكامه، وخفي ذلك على الجهال به وبأسمائه وصفاته فنازعوه تدبيره وقدحوا في حكمته، ولم ينقادوا لحكمه، بل عارضوه بعقولهم الفاسدة وآرائهم الباطلة وسياساتهم الجائرة، فلا لربهم عرفوا، ولا لمصالحهم حصلوا.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، إن في أقدار الله حكما وأسرارا ومصالح للعباد، فإنهم إذا علموا أن المكروهَ قد يأتي بالمحبوب والمحبوبَ قد يأتي بالمكروه لم يأمنوا أن توافيَهم المضرةُ من جانب المسرة، ولم ييأسوا أن تأتيَهم المسرةُ من جانب المضرة، لعدم علمهم بالعواقب، فإن الله يعلم منها ما لا يعلمون.
أيها المسلمون، إنه لا أنفعَ للعبد من امتثال الأمر، وإن شق عليه في الابتداء، لأن عواقبَه كلَّها خيراتٌ ومسرات، وأفراحٌ ولذات، وإن كرهته نفسه، فهو خير لها وأنفع، ولا شيء أضر عليه من ارتكاب النهي، وإن هويته نفسه ومالت إليه، فإن عواقبه آلام وأحزان، وشرور ومصائب، والعاقل الكيس ينظر إلى الغايات، وهذا يحتاج إلى فضلٍ علم تدرك به النهايات، وقوةِ صبرٍ يوطن به نفسه على تحمل المشقة، فإذا فقد اليقين والصبر تعذر عليه ذلك، وإذا قوي يقينه وصبره هان عليه كل مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم.
أيها المسلمون، إن فيما نعيشه هذه الأيام من أحداث متسارعة وهجمات من الأعداء شرسة لعبرةً للمعتبرين، ورجعةً للمفرطين وتثبيتًا للموقنين. عسى أن يكون في ذلك فضحًا للأعداء، ومعرفةً للأصدقاء، وإظهارًا لشعيرة الولاء والبراء. عسى أن يكون فيها إزاحةً للغشاوة عن أعين المخدوعين بالغرب وتعاليمه، وشعاراته وتقاليده. عسى أن يكون فيها سقوطًا للمصطلحات الزائفة والمنظمات الجائرة، فقد أعلنت هيئة الأمم إفلاسَها، ومجلسُ الأمن يلفظ أنفاسَه، أما حقوق الإنسان فقد عرف المراد بها ومن أحقُّ بها وأهلُها، أما حرية الإعلام فقل: عليها السلام، ولا تنس الديمقراطية فإنها رأسُ كل بلية. عسى أن يكون في هذه الأحداث إقناعًا للعالم بأن يحتكموا إلى غير قوانينهم، وأن يلتفتوا إلى الإسلام وتعاليمه. أنأن
فقد جربوا القوانين فما أزالت نازلة، وحكموا بالأعراف فما حلت مشكلة، وسلكوا طريق البطش فما عاشوا في هناء، وحاربوا الإرهاب فما زادهم إلا بلاء.
أما آن لكم ـ يا مسلمون ـ أن ترحموا عباد الله؟! أما حان الوقت لتدلوهم إلى سبيل الله؟! هل ترون لهم مخرجًا غير شرع الله؟! وهل تريدون لهم مُصلحًا غير حكم الله؟! أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50].
عباد الله، الشدائد تفتح الأسماع والأبصار وتشحذ الأفكار، وتجلب الاعتبار وتعلم التحمل والاصطبار، تذيب الخطايا وتعظُم بها العطايا، وهي للأجر مطايا، فاطلب من الله الرعاية، وأسأله العناية، فلكل مصيبة غاية ولكل بلية نهاية.
كم من مرة خفنا فدعونا ربنا وهتفنا فأنقذنا وأسعفنا، كم من مرة زارنا الهم وبرَّح بنا الغم ثم عاد سرورنا وتم، كم من مرة وقعنا في الشباك وأوشكنا على الهلاك ثم كان الفكاك، إذا داهمتك الشدائد السود، وحلت بك القيود، وأظلم أمامك الوجود، فعليك بالسجود، وناد: يا معبود، يا ذا الكرم والجود، أنت الرحيم الودود.
(1/3058)
ذكرى استقلال الجزائر
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عيد وذكرى. 2- نعمة الاستقلال. 3- الجزائر من مغارس الإسلام. 4- شيء من تاريخ الجزائر ومخازي الاستعمار. 5- من مكائد الاستعمار. 6- الواجب بعد التمكين في الأرض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يومكم هذا هو اليوم الأنور الأزهر، واليوم المحجَّل الأغر، اجتمع لكم فيه عيد وذكرى، أمَّا العيد فهو يوم الجمعة، وأمَّا الذكرى فكان حقُّها أن تعدَّ بالتقويم الإسلامي الهجري الهلالي، لكنَّها عدَّت بالتقويم الميلادي المسيحي، فتوافقت مع هذا العيد، إنَّها ذكرى استقلال الجزائر. والجزائر قطعة من أرض الإسلام، فيها نبتنا، وعلى حبِّها ثبتنا.
والاستقلال نعمة تستوجب شكر الله تعالى، ولا يشكر الله عليها حقَّ شكره، إلاَّ من عرف مخازي الاستعمار، وذاق مرارة الذلِّ والاستعباد، وعانى حياة البؤس والشقاء في ظلِّ الاستعمار، أو تواترت إليه بذلك الأخبار.
فإلى الله نتوجَّه بالشكر على ما أنعم به علينا من تخليصنا من أنياب شيطان الاستعمار، وأعاد أرض الإسلام إلى أمَّة الإسلام، وأحال كنائس التثليث إلى مساجد للتوحيد.
ومسجدكم هذا مسجد التقوى قد نال حصَّته من مغانم الاستقلال، إذ تحوَّل مسجد توحيد بعدما كان كنيسة تثليث، فنحمد الله على ذلك.
ونستنزل من رحمات الله الصيِّبة، وصلواته الزكيَّة الطيبَّة، لشهدائنا الأبرار ـ والله أعلم بمن مات شهيدًا في سبيله ـ ما يكون كفاء لبطولتهم في الدفاع عن شرف الحياة وحرمات الدين وعزَّة الإسلام وحقوق هذا الوطن الغالي، وطن الجزائر.
والجزائر ـ أيُّها السامعون ـ من أزكى المغارس التي غرست فيها شجرة الإسلام، فنمت وترعرت ثمَّ آتت أكلها طيِّبًا مباركًا فيه، من القرن الأوَّل للهجرة: فقد حمل الفاتحون وفيهم أولو بقيَّة من أصحاب رسول الله تعاليمَ الإسلام إلى شمال إفريقيا، وقلب هذا الشمال هو الجزائر، نشروا عقائد الإسلام حتَّى استقرَّت في النفوس، واجتثُّوا وثنية البربر وبقايا العتوِّ الروماني. ومن قرأ تاريخ المدن الجزائريَّة التي كانت لها في الحضارة الإسلامية أوفر نصيب؛ تلمسان وبجاية وتيهرت وقلعة بني حمَّاد وزواوة والمسيلة وطبنة وبسكرة وقسنطينة وغيرها، من قرأ التواريخ علم أيَّة سمات خالدة وَسم بها الإسلام هذا القطر.
فلم يزل حصنًا منيعًا في وجه أطماع المستعمر الصليبي، لأنَّ من دخله سهل عليه دخول بقيَّة أوطان المسلمين، ولهذا لم يزل فيه طامعًا، متربِّصًا به مبيِّتًا الفرصة المواتية، فكانت الفرصة في عام 1246 هـ، الموافق لعام 1830م، حين تدهورت أمور البلاد، واختلَّ الدين واعتلَّ الاعتقاد، وفشا في الحاكم والمحكوم الفساد، فتداعت علينا عساكر الاستعمار، وانقضَّت علينا جيوش الاستدمار.
احتلَّت فرنسا الجزائر المسلمة احتلالاً مدبَّرًا مبيَّتًا على برنامج يدور كلُّه على محور واحد، ويرمي إلى غاية واحدة، وهي إذلال المسلمين ومحو الإسلام في الشمال الإفريقي كلِّه، وكان الإسلام في الجزائر يوم الاحتلال قويًّا بمعنويَّاته ومادِّيَّاته، مكينًا في النفوس، متمكِّنًا في الأرض بمقوِّماته من مساجد لإقامته، ومدارس لعلومه، وأوقاف دارَّة الريع للقيام به وحمايته، وكان هو المرجع في التشريع والتنفيذ.
فماذا صنع الاحتلال الفرنسي من أوَّل يوم؟ بدأ بخطَّة كانت مرسومة من قبل، وكشف عن مقاصده المبيَّتة للإسلام بعد أسابيع من احتلال الجزائر العاصمة، بدأ بمصادرة الأوقاف الإسلاميَّة بجميع أنواعها في العاصمة وإلحاقها بأملاك الدولة المحتلَّة، وأصدر قانونًا بتعميم المصادرة في كلِّ شبر يحتلُّه، ثم عمد إلى المساجد فأحال بعضها كنائس وبعضها مرافق عامَّة، وهدم بعضها لتوسيع الشوارع وإنشاء الميادين، ثمَّ عمد إلى المساجد الباقية فاحتكر التصرُّف فيها لنفسه، واستأثر بتعيين الأئمَّة والخطباء والمؤذِّنين والمفتين، وأجرى عليهم الأرزاق من خزينته العامَّة ليبقوا دائمًا تحت رحمته، يدورون في فلكه، يتوخَّون رضاه، ويخدمون مصالحه.
وله أعمال من دون ذلك هو لها عاملٌ، وكلُّها تتلاقى عند غاية واحدة وهي محو الإسلام من الجزائر حتَّى تصفو له، وتصبح فرنسيَّة الهوى واللسان والعاطفة والفكر والاتجاه.
ومن مكائده الخفيَّة لمحو الإسلام تشجيعه للخرافات والبدع والضلالات الشائعة بين مسلمي الجزائر لعلمه أنَّها تفسد عقائد الإسلام الصحيحة، وتحبط عباداته، وتبطل آثارها، وتخلط الموازين، فتلتبس السنَّة بالبدعة، والحق بالباطل، خبَّ الاستعمار وأولع في هذا المضمار وجمع على حرب الإسلام كلَّ ضالٍّ من أبنائه، وكلَّ دجَّال وكلَّ مبتدع وكلَّ متَّجر بالدين، يشجِّعهم ويرعاهم، وظاهرهم بجيش آخر من المبشِّرين يحميهم ويمهِّد لهم الطريق، ثمَّ بجيش آخر من الملاحدة الذين أنشأتهم مدارسه على درجات تبدأ بالزهد في الإسلام، ثمَّ بالتنكر له، ثمَّ بالخروج منه والازدراء بأهله والسخرية بهم، وسمَّوهم: المفكِّرين والمثقَّفين والمتنوِّرين ونخبةَ المجتمع، والحقيقة أنَّهم دوابٌّ مسيَّرة بخطَّة مدبَّرة، أعدَّهم المستعمر إعدادًا، ليكونوا له امتدادًا، وللهدم والتدمير إمدادًا، ولنشر الإلحاد والفساد أعوانًا ومددا.
فإنَّ نشره للإلحاد بين المسلمين وسيلة لمحو الإسلام، وحمايته للفواحش كالخمر والبغاء والقمار، وسيلة أخرى لنفس الغرض والمرام.
ففي الجزائر يبيح الاستعمار الفرنسي فتح المقامر لتبديد أموال المسلمين، وفتح المخامر لإفساد عقولهم وأبدانهم، وفتح مواخر البغاء والزنا لإفساد نسلهم ومجتمعهم، لكنَّه في المقابل لا يسمح بفتح مدرسة عربيَّة تحيي لغتهم، ولا بفتح مدرسة دينيَّة تحفَظ عليهم دينهم.
هذا بعض ما فعله المستعمر الفرنسي من موبقات نحو الإسلام، وما جنَّده من جنود لحرب الإسلام في الجزائر، لعلمه أنَّه لا بقاء لسلطانه وجبروته ما دام القرآن محفوظًا، والعقائد الصحيحة ثابتة، والشعائر المرفوعة قائمة، والسنن المأثورة مشهودة، ولغة القرآن مالكة للأسنة، ومظاهر الإسلام ظاهرة.
فنحمد الله ونشكره على ما منَّ به علينا من نعمة الاستقلال.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، يقول الله عز وجل: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ [الحج:41].
هذا شرط شرطه الله عز وجل على الذين مكّن لهم في الأرض وأصبح أمرهم بيدهم أن يقوموا بهذه الأربعة.
لقد تحقَّق الاستقلال ومكَّن الله العباد في البلاد، وأصبح أمرنا بأيدينا لا بأيدي المستعمر، فهل أقمنا الصلاة وآتينا الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر؟!
كلاَّ، فالصلاة لا آمر بها ولا زاجر عنها، وكأنَّها من شأن المسلم ونفسه، إن شاء أقامها وإن شاء تركها. والمسلمون قد أجمع علماؤهم أنَّ المصرَّ على ترك صلاة واحدة يجب على الحاكم أن يقيم عليه حدَّ القتل، وحدِّث عن مانعي الزكاة التي حين تركها حيٌّ من العرب جهَّز لهم أبو بكر جيشًا لقتالهم، وأجمع الصحابة على ذلك، ولم يمنعهم من ذلك الخطر المداهم من قبل الروم الذين كانوا يجمعون لهم في اليرموك، وما ذاك إلاَّ لعظمة هذه الفريضة وخطورة الامتناع عن أدائها، وحدِّث عن تاركي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الرعيَّة عمومًا ومن الرعاة خصوصًا، كلّ حسب ما هو فيه من مسؤوليَّة ورعاية.
هل حققنا لأنفسنا في مدة أربعين سنة ـ وهي ثلث المدَّة التي قضاها المستعمر في بلادنا ـ ما كنا نطالب به الاستعمار؟! هل قضينا على الموبقات والمحرمات التي نشرها الاستعمار في بلادنا؟! هل قضينا على الخمر والقمار والدعارة المنظَّمة؟! قد كان من أوَّل ما ألغاه الاستعمار المحاكم الشرعيَّة، فهل أعدنا بناءها بعد أزيد من ثلث قرن؟!
إنَّ كلَّ محاولة اليوم لمحو مظاهر الإسلام وسمة التديُّن والعبث بلغة القرآن ومقوِّمات الأمَّة وتاريخها إنَّما تصبُّ في مصبٍّ واحد، وهو ما كان يرمي إليه المستعمر من قبل، وقد خرج المستعمر، لكنَّه خلَّف من ورائه أفراخًا ليكونوا امتدادًا له، وأيديَ موصولة بخيوطه، من دجاجلة الخرافة والبدع، ومن المنصِّرين، ومن المسمِّين أنفسهم بالمثقَّفين والنَّخبَوِيِّين المتنوِّرين الذين لسانهم لسان المستعمر، وفكرهم فكره، وعواطفهم عواطفه، وحنينهم إليه، وهو بالأشواق إلى وطنهم يستنزف خيراته.
يا معشر الجزائريِّين، إنَّ الاستعمار كالشيطان الذي قال فيه نبيُّنا : ((إنَّ الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنَّه رضي بالتحريش بينكم)).
فهو قد خرج من أرضكم، ولكنَّه لم يخرج من مصالح أرضكم، ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلوب بعضكم، فلا تعاملوه إلاَّ فيما اضطررتم إليه، فإنَّ الاستعمار العسكري ذنبٌ، والاستعمار الثقافي والفكري هو الرأس، والحيَّة لا تموت بقطع ذنبها، بل كما قال الشاعر:
لا تقطعنَّ ذنب الأفعى وترسلها إن كنت شهمًا فأتبع رأسها الذنبا
وعلى الجزائر أن تحرِّر ثقافتها من التبعيَّة كما حرَّرت أرضها من الاستعمار، والخطوات البطيئة في هذا المضمار لا ترضي شهداءها الأبرار، بل البدار البدار، ليتأكَّد الانتصار، ويكتمل الاستقلال والانتصار.
نسأل الله تعالى لأهل هذه البلدة وللقائمين عليها عودةً إلى الله تعالى وإلى دينه، تعود بها العزَّة والكرامة، وحكمةً مستمدَّةً من تعاليم الإسلام، تسدِّد الرأي وتثبِّت الأقدام، وألفة تجمع الشمل، ووحدةً تبعث القوَّة، وعزيمةً تقطع دابر الاستعمار من النفوس، بعد أن قطعت دابره من الأرض.
ونعوذ بالله من كلِّ داع يدعو إلى الفرقة والخلاف، وكل ساع إلى التفريق والتمزيق، وكل ناعق ينعق بالفتنة والفساد.
(1/3059)
الحنين إلى بيت الله الحرام
فقه
الحج والعمرة
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حلول موسم الحج. 2- الشوق إلى بيت الله الحرام. 3- ميزة السفر للحج.
_________
الخطبة الأولى
_________
هبَّت في أيَّامكم هذه على قلب كلِّ مؤمن نسيم الشوق إلى الله تعالى، أما شعرتم ـ أيُّها المسلمون ـ أنَّكم في أيَّام مباركات ذكرها الله تعالى في كتابه فقال: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [الحج:197]، فالأشهر المعلومات هي هذه الأشهر الثلاثة التي يُهَلُّ فيها بالحجّ.
ولا شكَّ أنَّ المؤمن في هذه الأيَّام المباركة تتحرَّك نفسه شوقًا إلى بيت الله الحرام، لأداء فريضة الحجِّ والعمرة، استكمالا لمباني الإسلام.
يذكر عن بعض الصالحات أنَّها حين وصلت إلى مكَّة بقيت تقول لرفقائها: أروني بيت ربِّي؟ أين بيت ربِّي؟ قيل لها: الآن ترينه، فلمَّا رأته اشتدَّت نحوه فالتزمته وفاضت عيناها من شدَّة الشوق، وليس بها الشوق إلى البيت، ولكن إلى ربَّ البيت، فاستذكرتها رؤية بيت الله رؤيةَ الله يوم القيامة، فلم تزل على تلك الحال حتَّى خرجت روحها فماتت.
أيُّها المسلمون، إنَّنا نؤمُّ هذا البيت خمس مرات في اليوم، فلا تزال قلوبنا متَّصلة به كلَّ يوم باستمرار، فلا غرو أن تدفع هذه الصلة المستمرَّة قلب المؤمن إلى توقان نفسه للتوجُّه إلى بيت الله حتَّى يمتع بصره بالنظر إليه والطواف به والتماس الحجر الأسود الذي هو بمنزلة يمين الله في الأرض.
ولذا تجد قلوب الصالحين تحنُّ إليه، لا ينقطع شوقها إليه حتَّى تلتزمه وتطوف به، كما تطوف الملائكة حول البيت المعمور في السماء.
تتأهَّب في هذه الأيام نفوسٌ اكتملت لديها أسابب الاستطاعة، للسفر إلى بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج والعمرة.
إنَّ السفر للحجِّ والعمرة ليس كمثل سائر الأسفار، المسافر إلى بيت الله مسافرٌ إلى ربِّه على جناح الشوق والمحبَّة، يقطع في سفره بقلبه مسافات ومنازل ليست كمسافات الأرض التي يقطعها ببدنه، إنَّها مسافة الدنوِّ والاقتراب إلى الله في المكان الذي يتقرَّب فيه من عباده ويدنو منهم، والعبد في سفره هذا ينزل بقلبه منازل تغمر روحه بمشاعر الأنس بالله والفرح به وبمناجاته والسرور بقربه والفوز برضوانه ومغفرته، إنَّه سفر فوق الوصف، تقصر دونه العبارات.
قيل لامرأة خرجت مسافرة: إلى أين؟ قالت: إلى الحج إن شاء الله، فقيل لها: إنَّ الطريق بعيد، فقالت: بعيد على كسلان أو ذي ملالة، فأمَّا على المشتاق فهو قريب.
وقد جرت للصالحين حين ركوبهم لسفر الحج أحوال من الخوف تارة والشوق والمحبة تارة أخرى، وقلب المؤمن يتقلَّب بين هاتين المنزلتين.
فذكر عن علي بن الحسين أنَّه حجَّ، فلمَّا أحرم واستوت به راحلته اصفرَّ لونه وارتعد ولم يستطع أن يلبِّي، فقيل: ما لك؟ قال: أخشى أن يقول لي: لا لبيك ولا سعديك، فلمَّا لبَّى غشي عليه. ويذكر نحو هذا عن جعفر الصادق وغيره.
ويذكر عن بعض الصالحين حين ركب دابَّته في سفر الحجِّ أخذه البكاء فقيل: لعلَّه ذكر عياله ومفارقته إياهم، فسمعهم فقال: يا أخي، والله ما هو ذاك، وما هو إلاَّ لأنِّي ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة، وعلا صوته بالنحيب والبكاء، وهيَّج من حوله بالبكاء.
فها أنتم ـ أيُّها المسلمون ـ في موسم من مواسم الخير عظيم، رتب الله عليه الثواب الجزيل والأجر الكثير لمن أداه فأحسن.
واعلموا ـ عباد الله ـ أنَّ من أعظم حقوق الإسلام ومبانيه حج بيت الله الحرام، قال تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27].
هذا ما تسمعون وبالله التوفيق.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3060)
أحكام الأضحية
فقه
الذبائح والأطعمة
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل ذي الحجة. 2- حكم الأضحية. 3- شروط الأضحية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيُّها المسلمون، أنتم في الأسبوع الأخير من شهر ذي القعدة، ثم يليه شهر ذي الحجَّة، وهو أعظم الأشهر حرمة عند الله تعالى، فيه العشرة الأيَّام الأولى قبل عيد الأضحى، التي هي أفضل أيَّام العام، والعمل الصالح فيها أعظم أجرًا ممَّا سواها، واليومان التاسع والعاشر يومان عظيمان، بل هما أعظم الأيام عند الله عزَّ وجل، فالتاسع هو يوم عرفة وهو يوم القر، والعاشر يوم عيد الأضحى وهو يوم الحج الأكبر.
فقد روى الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما بسند صحيح من حديث عبد الله بن قرط الثمالي عن النبيِّ قال: ((إنَّ أعظم الأيَّام عند الله يوم النحر، ثمَّ يوم القر)).
ولهذا أقسم الله بهما في قوله تعالى: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [الفجر:3]. فالشفع يوم النحر، والوتر يوم عرفة. فهما أعظم الأيام حرمة وأعظمها بركة. كما أنَّ ليلة القدر هي أفضل الليالي وأعظمها حرمة وبركة.
والحديث عن عظمة هذين اليومين وما فيهما من البركات يطول جدا، ولا يتَّسع له هذا المقام، ولكن سأتكلَّم عن منسكين يتعلَّقان بيوم النحر.
فقد خصَّ الله تعالى هذا اليوم بمناسك يتقرَّب بها عباده إليه، ففي هذا اليوم يعمل الحجَّاج أكثر أفعال الحج من رمي الجمار وذبح القرابين وحلق الرؤوس وطواف الإفاضة والسعي بين الصفا والمروة. وأمَّا غير الحجاج فعليهم في هذا اليوم منسكان عظيمان: صلاة العيد والأضحية.
وإذ نحن على مقربة من هذا اليوم فينبغي على كلِّ مسلم أن يتهيَّأ لأداء هذين المنسكين على أحسن الوجوه وأكملها، من الإخلاص والاتباع اللذين هما شرط القبول في كل عمل صالح.
أمَّا المنسك الأول وهو صلاة العيد فقد شرحت لكم أحكامها في خطبة مضت.
وأمَّا المنسك الآخر الأضحية فهذا أوان بيانه:
فالأضحية هي شاةٌ يُتقرَّب بذبحها إلى الله تعالى بعد صلاة العيد، وهي سنَّة مستحبَّة على أهل كلِّ بيت من المسلمين، ممَّن وسَّع الله عليه في المال. وليست بواجبة لعدم الدليل على الوجوب، فإنَّ الاستدلال بحديث : ((على أهل كلِّ بيت في كلِّ عام أضحية)) الذي رواه أحمد وغيره من وجهين ليس بصحيح، وكذا حديث: ((من كان له سعة ولم يضحِّ فلا يقربنَّ مصلاَّنا)) رواه أحمد وابن ماجة والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعًا، فالصواب أنَّه موقوف.
ولا يدلُّ على وجوبها أيضًا قول النبيِّ : ((من ذبح قبل أن يصلِّي فليعد مكانها أخرى، ومن لم يذبح فليذبح)) رواه البخاري ومسلم، فهذا ليس صريحًا في الوجوب، بل هو أمر معلَّق بالشرط لبيان صفة الحكم، ولو أفاد الوجوب لكان السلف أسبق إلى فهم ذلك وتبليغه.
وعلى هذا جمهور الأئمة من السلف والخلف، أنَّ الأضحية سنة مستحبة لمن قدر عليها، غير واجبة. ولا يصح عن الصحابة غير هذا، وكفى أنَّه قول أبي بكر وعمر اللذين أمرنا بالاقتداء بهما.
وإذا علم هذا، فاعلم أخا الإيمان إذا كنت عاجزًا عن الذبح غير قادر على ثمن الأضحية كما هو شأن كثير منَّا بل كما هو حال أكثرنا، فإن كانت لك نيَّة صحيحة على إرادة التقرب إلى الله بالذبح فإنَّه سينالُك أجرها بتضحية غيرك. نعم، فإنَّ رسول الله ذبح كبشين وقال: ((اللهمَّ هذا عنِّي وعمَّن لم يضحِّ من أمَّتي)) رواه أبو داود وأحمد والحاكم.
ويتعلَّق بالأضحية آداب وأحكام وسنن نبيِّنها بعد حين، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
قد علمتم ما تقدم، فاعلموا أنَّه لا يجوز ذبح الشاة قبل صلاة العيد، فمن ذبحها قبل صلاة العيد أعاد كما تقدَّم.
وكلُّ أيَّام التشريق يجوز فيها الذبح، وهي الأيام الثلاثة التي بعد يوم العيد، فيجوز تأخير الذبح إلى اليوم الثالث بعد العيد، لقول النبيِّ : ((كلُّ أيَّام التشريق ذبح)) وهو حسن بطرقه.
ولا يجوز من الأضحية إلاَّ ما بلغ السنَّ المطلوب، وسلم من العيوب.
فالسنُّ المطلوب من الضأن ـ أي: الكبش ـ الجذعُ، وهو ما أكمل سنة، وقيل: ما جاوز ستة أشهر. ومن المعز ما استكمل سنتين.
وأمَّا السلامة من العيوب، فكما رواه مالك في الموطأ وأصحاب السنن بسند صحيح عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله : ((أربعٌ لا تجزي: ـ ويدي أقصر من يده ـ العوراء البيِّن عورها، والعرجاء البيِّن ضلعها، والمريضة البيِّن مرضها، والكسير التي لا تنقي)) أي: لضعفها وهزالها، وقال علي بن أبي طالب: أمرنا رسول الله أن نستشرف العين والأذن. وهو حديث صحيح بمجموع طريقيه.
والمستحبُّ من الأضحية الكبش الأقرن الأملح، أي: الأبيض الذي يخالطه لون أسود حول عينيه وفي قوائمه، لما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة أنَّ رسول الله أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد. ومعنى الحديث أنَّ قوائمه الأربعة وبطنه وما حول عينيه أسود اللون.
ويكره التباهي بالأضاحي، فإنَّ الكبش الواحد يجزئ عن الرجل وعن أهل بيته، ولو كثر عددهم.
قال أبو أيوب الأنصاري: كان الرجل في عهد رسول الله يضحِّي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويُطعمون، حتَّى تباهى الناس فصاروا كما ترى. رواه مالك والترمذي وابن ماجة بسند حسن.
هذا وإنَّ من عجيب أمر الناس اليوم أنَّك تجد الغنيَّ الثريَّ يمتنع عن الضحية إمَّا شحًّا وإمَّا كبرًا. وتجد الفقير البائس يستقرض ويستدين ويتكلَّف المشاقَّ من أجل أن يضحِّي، فإن كانت نيَّته المباهاة فقد خسر، وإن كانت نيَّته التقرب إلى الله، فإنَّ الله تعالى لم يكلِّفه ما لا يستطيع، وقد نال المحروم أجره بتضحية غيره. وعلى كلٍّ فإنَّما الأعمال بالنيَّات، ولكلِّ امرئ ما نوى.
وبعد: فهذه عُدَّة علميَّة لتستعدُّوا بها على أداء منسك الأضحية أحسن أداء وأكمله إخلاصًا لرب العالمين واتباعًا لسنَّة خاتم النبيِّين، صلَّى الله وسلَّم عليه وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربِّ العالمين. أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(1/3061)
ذم الفرقة والاختلاف
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
فرق منتسبة, قضايا دعوية
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرص النبي على الاجتماع والتآلف. 2- الخلاف المذموم. 3- الخلاف في المسائل الاجتهادية. 4- السبيل إلى تضييق دائرة الخلاف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يقول الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].
معاشر المسلمين، إنَّ قلوبنا تعاني اختلافًا كبيرا وفُرقة خطيرة، وهذا ضد ما أمرنا به الله في كتابه من اجتماع الكلمة ووحدة الصف، والحرص على اجتناب كلِّ ما يوجب الفرقة بين المسلمين.
فلقد كان رسول الله يحرص على الاجتماع والتآلف، حتَّى في أدق الأمور، فقال ابن مسعود: كان رسول الله يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: ((لا تختلفوا فتختلف قلوبكم. ليليني منكم أولو الأحلام والنهى، ثمّ الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) رواه مسلم، وروى أبو داود بسند صحيح عن أبي ثعلبة الخشني قال: كان الناس إذا نزلوا منزلا تفرَّقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله : ((إنَّ تفرُّقكم في هذه الشعاب والأودية إنَّما ذلكم من الشيطان)) ، فلم ينزل بعد ذلك منزلاً إلاَّ انضمَّ بعضه إلى بعض، حتَّى يقال: لو بسط عليهم ثوب لعمَّهم.
روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: خرج رسول الله ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: ((خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)).
وهذا عبد الله بن مسعود عندما صلَّى بهم عثمان بمنى أربع ركعات قال ابن مسعود: صليتُ مع رسول الله ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، فيا ليت لي ركعتين مقبولتين، فقيل له: ألا صليت ركعتين؟! قال: الخلاف شر. رواه البخاري بمعناه.
وليس الخلاف جنسًا واحدًا كلُّه شرّ، كما قد يتبادر إلى ذهن من لا يحقِّق، بل الخلاف منه ما يوجب التفرُّق في الدين، وهو الاختلاف الواقع بين ملَّة الإسلام وما سواه من الأديان والملل، وهو اختلاف بين الكفر والإيمان، ثمَّ الاختلاف الواقع بين أهل السنَّة والجماعة وبين أهل الأهواء والبدع، وهو اختلاف بين السنَّة والبدعة.
فهذا هو الخلاف المذموم، وكلُّه شرٌّ وفتنة ونقمة، وليس هو برحمة، وهو الذي قال الله فيه: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118، 119]. فهذا الذي نهينا عنه، لأنَّه يوجب الفُرقة والاختلاف، ويمنع من الجماعة والائتلاف.
وأمَّا الخلاف الواقع بين العلماء من الصحابة ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة، فهذا ليس كلُّه مرفوضًا، بل منه ما هو تنوّع وليس باختلاف، ومنه ما هو تناقض أو تضادّ، فهذا عامَّته اختلاف اجتهادي، والعلماء معذورون فيه، ولذلك فلا يجوز الإنكار على المخالف لأنَّه لا ينقض اجتهاد باجتهاد، ولا يحجر على رأي برأي. فهذا النوع من الخلاف هو من توسعة الله على هذه الأمة ورحمته، كما وسّع عليهم في تنوُّع بعض العبادات وحروف القرآن، فأنزله على سبعة أحرف، ثمَّ جمعهم على مصحف عثمان، وكذلك كان من رحمته أن يسَّر لهم سبيل الفقه في الدين والعمل به، فجمعهم على أربعة مذاهب فقهيَّة مضبوطة محرَّرة محفوظة، فلا ينكر حنفيٌّ على مالكيٍّ، ولا شافعي على حنبليٍّ، ولا بعضهم على بعض، كما كان الأئمَّة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل إخوة متحابين متآلفين يستفيد المتأخِّر منهم من سابقه، وهذه المذاهب لا يخرج الحقُّ في المسائل والدلائل عن واحد منها، وبأيِّها تفقّه الطالب أجزأه.
ومع هذا فباب البحث والمناصحة والمناقشة يبقى مفتوحًا، سواء في ذلك الدلائل أو المسائل، ما تعلَّق بالرواية أو بالدراية، وسواء في ذلك مسائل الاعتقاد التي سبيلها الاجتهاد أو مسائل الأحكام، وليبقى باب الاجتهاد في التوصُّل إلى الراجح أو الأرجح والأصوب مفتوحًا إلى قيام الساعة، كما هو مفتوح في قضايا النوازل إلى آخر الدهر.
وإنَّما المذموم هو العصبيَّة لواحد منها بعينه وامتحان الناس به، ونصب العداوة لما سواه، فهذه هي الفُرقة في الدين التي نهينا عنها، والتي نهى عنها أرباب المذاهب أنفسهم.
ومع هذا فالسعي إلى تضييق دائرة الخلاف حسن، والسبيل إلى ذلك كما نبيِّنه بعد حين، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
إنَّ السبيل إلى تضييق دائرة الخلاف يكون بما يلي:
أوَّلاً: ردُّ الخلافات كلِّها إلى حكم الله وهو كتابه وسنة نبيِّه، كما أدَّبنا الله تعالى بذلك فقال: فإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]، وقال: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى: 10].
ثانيًا: كِلة الأمر إلى أهله، فأهل العلم هم الذين يدرسون القضايا ويستنبطون أحكامها، وهم الذين يُصدرون فيها القرارات، وعنهم تصدر الأمَّة في جميع شؤونها، قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، وقال: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83].
ولكن ربَّما بعض طلبة العلم فضلاً عمَّن دونهم من صبيان الطلبة، ربَّما رضي بما عنده من العلم، وأصبح يجادل به كلَّ من يخالفه، وهذا سبب من أسباب الفُرقة والاختلاف. وأنت إذا كنت طالب علم، فنظرت إلى قصورك، بل إلى عدم بلوغك رتبة العلماء المبرَّزين في شتَّى فنون العلم، شُغلت بنفسك عن انتقاد الآخرين.
ويساعدك على هذا أن تنظر إلى اختلاف الصحابة فمن بعدهم من التابعين والأئمَّة المتبوعين، إذا نظرت إلى اختلافهم حملت مخالفك على السلامة، ولم تطالبه بالخضوع لرأيك، وعلمت أنَّك بمطالبته للخضوع لرأيك تدعوه إلى تعطيل فهمه وعقله، وتدعوه إلى تقليدك، وأصل التقليد في الدين حرام.
وإذا نظرت إلى أحوال المجتمع الذي تعيش فيه، وما يتخبَّط فيه من الجهل بأهمِّ حقائق الإسلام، شغلت عن مخالفة أخيك الذي يخالفك في مجرَّد الفهم لآية أو حديث، أو في علَّة قد توهن الحديث وقد لا توهنه، وقدَّمت الأهمَّ فالأهم، فإنَّ النبيَّ حين بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: ((ليكن أوَّل ما تدعوهم إلى شهادة ألا إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله...)) الحديث متفق عليه.
وحسبك أن تعلم أنَّ الاختلاف لا انفكاك عنه لأحد، فهذه ملائكة الرحمن يختلفون ويختصمون، كما قال تعالى: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإٍ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ [ص:67-69]، وكذلك الأنبياء يختلفون، فهذا نبي الله سليمان خالف أباه النبي داود عليهما السلام في الحكم بين امرأتين اختصمتا في صبي؛ تدَّعي كل واحدة أنَّه ابنها، والقصة في الصحيحين، وخالفه أيضًا في غير ذلك كما قال تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:78، 79].
فدع عنك ـ أخا الإسلام ـ الاشتغال بالتنابز والتدابر والتهاجر والتقاطع بسبب الاختلاف في أمور لا توجب ذلك، واذكر قول النبيِ : ((إنَّ الشيطان قد أيس أن يعبده المصلُّون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)) رواه مسلم.
وإذا لم يردعك هذا فما أنت إلاَّ واحد من دجَّالين وفتانين كانوا قبلك وسيكونون بعدك، خلقهم الله لذلك، وجعلهم فتنة للناس، كالأفاعي ينفثون سمًّا ثمَّ يهلكون. والله المستعان.
(1/3062)
ضرر المخدِّرات
الأسرة والمجتمع, فقه
الذبائح والأطعمة, قضايا المجتمع
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مدى انتشار المخدرات في المجتمع الإسلامي. 2- تحريم المخدرات. 3- أسباب انتشار المخدرات. 4- تاريخ ظهور المخدرات. 5- دور المستعمر في نشر المخدرات في المجتمع الإسلامي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيُّها المسلمون، هل بلغكم الخبر؟ هلعٌ أصاب نفوسنا وخلَع قلوبنا، وهمٌّ نغّص علينا العيش حين فاجأنا الخبر الذي تنامى إلى أسماعنا في بيوتنا من قبل الوسائل الرسميَّة أنَّ نصف مجتمعنا أو قريبًا من ذلك مهدَّدٌ بالانقراض من جراء إدمان شبابنا وأبنائنا المخدرات!!!
أمَّا أنا فما كنت أتوقَّع هذا البلاء بهذا الحجم في ديارنا ديار الإسلام، وإنَّما كنت أحسبه في ديار الكفر والضلال، التي لا يحكم الناس فيها وازع من دين ولا رادع من خلق ولا مسكة من عقل.
فتلك أممٌ مهما تقدَّمت بهم التكنولوجيا وأساليب الترف والبذخ فهم حضاريًّا منحطُّون في أخسِّ المراتب وأسفل الدركات، بعد الأنعام، لا بل بعد الضباع والقردة والخنازير، إلاَّ قليلا منهم.
أيُّها المسلمون، إنَّ آفة المخدرات عنوان النهاية في الشر والفساد وانحطاطِ الإنسان من مرتبة الإنسانية إلى أسفل مراتب الحيوان. هذه الحشيشة المخدِّرة واللقمة الملعونة المفترة، متى فشت في أمَّة فكبِّر عليها تسعا، وبشِّرها بالدمار والهلاك، وقل: لا آسى على القوم المجرمين، لكنَّها إذا فشت في طائفة من المسلمين فقد وجب إعلان الحرب عليهم.
أرأيتم هذه الخمر؟ هذه الخمر فمع كلّ ما تعلمونه من خبثها وإثم شاربيها ومروِّجي بضاعتها فإنَّ الحشيشة المخدرة واللقمة الملعونة المفتِّرة هي أخطر من الخمر جرما وأعظم إثما وأشدُّ مقتًا وأسوأ سبيلا وأقبح مآلا.
وقد انعقد إجماع الأئمَّة على أنَّ كلَّ طائفة مدمنة للخمور والمسكرات لا تنتهي بعد الزجر فإنَّه يجب إعلان الحرب عليهم وقتالهم. وإذا كان هذا حكمَ كلِّ طائفة لا تنتهي عن الخمر، فأهل المخدرات من مهربين ومتعاطين ومروِّجين أولى بذلك وأشقى.
هذه المخدرات والمسكرات والمفترات أيًّا كان نوعها وشكلها، شرابًا يتجرَّع، أو حقنة بالإبرة أو بخارًا يشم أو لقمة تؤكل، فحكمها في دين الله التحريم الشديد، سواء في ذلك تناولها وشراؤها وبيعها وحملها وإهداؤها وغرسها وسقيها وحصادها وإنتاجها وتهريبها وتخزينها، بالإجماع، ولا دليل أقوى من الإجماع.
إنَّ إقبال شبابنا على هذه الآفة الخطيرة، وجرأتهم على تناول هذه الحشيشة المخدِّرة أو الجرعة المفتِّرة يدلُّ على ضعف الوازع الديني من نفوسهم. وخلوِّ قلوبهم من ملكة التقوى التي تحجزهم عن مساخط الله تعالى.
وضعف الوازع الديني في شبابنا يرجع إلى أسباب من الجهل والظلم واتباع الهوى ولكن سبب الأسباب هو إبعاد الإسلام وزحزحته عن مكانه اللائق به في مجتمعنا.
ويتحمَّل قسطًا من الإثم ومن أسباب انتشار هذه الآفة كلُّ من عمل على إبعاد الإسلام عن مواقع الترشيد والتوجيه، وأقصاه من مراصد المراقبة والتحسس، وألغاه من محاكم القضاء، وأدناه من مجالس التشريع، وفصله عن شؤون الحياة العامَّة والخاصَّة، في مجال التربية والإعلام والثقافة والترفيه وسائر المجالات الحيويَّة.
ويتحمَّل قسطًا من الإثم من بنى للشباب النوادي الليلية المنتشرة على جنبات الطرق، وتقاربها أيضًا كثيرٌ من مقاهي شبكة الإنترنت، التي كثير منها ما هي إلاَّ صورة مصغرة من النوادي الليلية، بدلاً من أن تكون محطات تزويد بالمعلومات المفيدة، والاتصالات الجماعية النافعة. فمن هذه الأوكار تنتشر هذه الآفات.
ومهما يكن من أسباب انتشار هذه الآفة فالمسؤول الأوَّل والآخر عن تحصين الأبناء منها هم الآباء والأمهات.
إنَّكم ـ أيُّها الآباء ـ مسؤولون عن أبنائكم يوم القيامة، فاتقوا الله فيهم، مراقبةً ومعاقبة، وتحذيرًا ومتابعة.
_________
الخطبة الثانية
_________
هذه النبتة الخبيثة تسمَّى الحشيشة، وتسمَّى الغبيراء، ويسمِّها سفلة الناس بالغبرا، ويزعمون أنَّ ذلك يطلق على أجود أنواعها كما قال ابن تيمية.
أوَّل ما ظهرت هذه الحشيشة في بلاد المسلمين على يد الزنادقة الملاحدة الذين عرفوا باسم الباطنيَّة أو الإسماعيليَّة، الذين ينكرون الصلاة والزكاة والحج والقرآن، ولهم مقدساتهم وكتبهم الخاصَّة، وكانت لهم دولة الفاطميين بمصر.
وقد بدأت دعوة هؤلاء الحشاشين بقيادة ذلك الخبيث المسمَّى الحسن بن محمد بن علي الصباح الحميري عام 483هـ، بعدما جاء إلى مصر، واجتمع بالحاكم الفاطمي، فانتشرت هناك دعوتهم، وقوي نشاطهم، وأرهبوا العباد وأكثروا من النهب والسبي والفساد، وكانوا يعمدون إلى الاغتيال لتحقيق أغراضهم، فيغتالون كلَّ من يجهر بالإنكار عليهم من العلماء والسلاطين، ولم ينج من بطشهم حتىَّ النساء والصبيان.
وكانت لهم في الأزمان الغابرة سلطة وقوة حتَّى إنَّ أكبر سلاطين المسلمين قي زمانه وهو صلاح الدين الأيوبي اضطرَّ إلى مهادنتهم ليتفرَّغ لقتال الصليبيين، وكانت لهم قلاع بأصبهان والشام والجزيرة وديار بكر والأنضول وخراسان وغيرها.
وكانوا يبطنون مذهبهم ويخفونه، ولذلك يسمون الباطنيَّة، ولا يزال لهم وجود إلى الآن في جنوب جزيرة العرب وفي مدينة سلمية وغيرها من شمال سوريا وفي مدينة بمبي وغيرها من بلاد الهند وفي أوربا، ويسمَّون الآن في الهند بالأغاخان، ولا تزال فيهم الإمارة إلى اليوم، وآخر أمرائهم عبد الكريم خان أو ابنه، ولعلَّه لا يزال حيا. وقد شاركوا مع الاستعمار الغربي ضد المسلمين، وهم يدَّعون أنَّهم مسلمون.
فهؤلاء كانوا منذ القرن الخامس يستعملون هذه الحشيشة لتخدير الأعضاء، ثم يحملونهم إلى حدائق جميلة ليوهموهم أنَّهم في الجنَّة.
ثمَّ انتشرت على أيدي بعض المتصوِّفة وهو حيدر صاحب الطريقة الحيدريَّة في بداية القرن السابع، ثمَّ على يدي القلندري صاحب الطريقة القلندرية، وكان لهذه الفرقة زاوية في مدينة القاهرة بمصر، وبعد ذلك كان ظهور التتار وغزوهم للمسلمين.
إنَّ من يمعن النظر في تاريخ ظهور هذه الحشيشة الخبيثة يتبيَّن له أمران مهمان:
أحدهما: أنَّ ظهورها إرهاص بين يدي الغزاة المستعمرين، لإضعاف النفوس عن المقاومة، وذلك لما تحدثه هذه المخدرات من إماتة الشعور بالكرامة والعزة والنخوة والغيرة على النفس والأهل والعشيرة والوطن، ومن ثمَّ تتولَّد في نفس المدمن قابليَّة الاستعمار والإذلال. ولذلك كان أوَّل ظهورها في بلاد المسلمين في نهاية القرن السادس وبداية السابع على يد التتار، فهجموا على ديار المسلمين بهذه الحشيشة قبل هجومهم عليهم بالسيف مدَّة سنين، قال ابن تيمية: "إنما حدثت في الناس بحدوث التتار، أو من نحو ظهور التتار، فإنَّها خرجت وخرج معها سيف التتار".
وكذلك فعل المستعمر البريطاني والفرنسي حين عزم على غزو بلاد المسلمين واستعمارها واستعباد أهلها، مهَّد لمجيئه بنشر هذه الحشيشة المخدِّرة إنتاجًا وتسويقا وترويجًا، في البلاد التي يريد غزوها، وذلك عن طريق حلفائهم من الباطنيين وبعض المنتسبين للصوفية والطرقية، ومن هنا انتشرت في بلاد المسلمين.
وقد ذكرت لكم من قبل أنَّ من شرِّ آثار هذه المخدرات على الإنسان أنَّه يصير عديم الغيرة حتَّى على نفسه، ويصير بعد مدَّة بليد الفكرة ديوثا لا يغار على عرضه.
الأمر الثاني: اقترانها بقصد إضلال العقول حتَّى تقبل كلّ ضلالة تناقض الإسلام، وحتَّى يَضعف الوازع الديني من النفوس، فيرتفع سلطان الخوف من الله وحاجز التقوى، فيصير العبد قابلاً لكلِّ ما يملى عليه من الضلالات، وراضيًا بالإذلال والمهانة والاستعمار، ولذا نجد بعض الطرق الصوفية المشرقية كالحيدرية والقلندرية تأمر أتباعها بتناول هذه الحشيشة؛ لأنَّ العقل إذا ضعف بها تقبَّل أوامر شيوخ الضلالة، والعياذ بالله.
(1/3063)
التحذير من العصبيات الجاهلية
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, الولاء والبراء, مساوئ الأخلاق
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العز والمجد في التمسك بالدين. 2- حال العرب قبل الإسلام. 3- إثارة الأعداء للنعرات العرقية بين المسلمين. 4- النهي عن المفاخرة بالأنساب. 5- فضائل البربر وبيان بعض علمائهم. 6- فضل العرب.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].
أيُّها المسلمون، لقد أعزَّنا الله بالإسلام، وبالإسلام فقط، لا بلسان ولا بلهجة، ولا بلون ولا بجنس، ولا بعِرق ولا بنسب، ولا بإقليم ولا بوطن ولا بقوم، وإنَّه من ابتغى العزة في غير الإسلام فإنَّ الذلّ والصغار مآله ولا بد. وكيف يقدّس الله أمَّة أنعم عليها بعزة الإسلام فنبذته وراء ظهرها، وتطلَّبت العزة والشرف في غيره؟! تارة في تقليد ملَّتَي الغضب والضلالة من اليهود والنصارى، حتَّى لو دخلوا جحر ضب اتبعوهم، وتارةً ينبِّشون في مقبرة التاريخ لعلَّهم يجدون عظْمة عظيم ينتسبون إليه ويتمجَّدون به. يتمجَّدون بالأسلاف، لا بأسلاف الإسلام ولكن بأسلاف الجاهلية. وإن كان أولئك الأسلاف في غاية من الجهل والضلالة، عساهم يكتسون لباس العظمة والمجد والشرف بذلك، كما هو شأن أهل الجاهلية سواء بسواء.
فيا للغباوة، إنَّ المجد والعظمة لا تكتَسَب بالانتساب إلى العظماء، فكيف بالانتساب إلى أهل الجاهليَّة الذين حرموا نعمة الإسلام، ولم ينعموا بعزَّته وعظمته ومجده؟!
فالعزة والمجد والعظمة لمن تمسَّك بالإسلام، والذلُّ والمهانة والمسكنة والصغار على من أبى الإسلام بعد أن أنعم الله به عليه.
فقد روى الحاكم بسند صحيح عن ابن شهاب قال: خرج عمر بن الخطاب إلى الشام ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فأتوا على مخاضة وعمر على ناقة، فنزل عنها، وخلع خفَّيه، فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، أأنت تفعل هذا؟! تخلع خفَّيك، وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟! ما يسرُّني أنَّ أهل البلد استشرفوك، فقال عمر: (أوَّه! لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً لأمَّة محمَّد ، إنَّا كنَّا أذلَّ قوم فأعزَّنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزَّ بغير ما أعزَّنا الله به أذلَّنا الله)، وفي رواية: يا أمير المؤمنين، تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالك هذه؟! فقال عمر: (إنا قوم أعزَّنا الله بالإسلام، فلن نبتغي العزَّ بغيره).
وقال رسول الله : ((أتاني جبريل فقال: يا محمَّد، عش ما شئت فإنَّك ميِّت، وأحبب من شئت فإنَّك مفارقه، واعمل ما شئت فإنَّك مجزيٌّ به، واعلم أنَّ شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزُّه استغناؤه عن الناس)) رواه الطبراني وغيره وهو حسن بشواهده.
هذا هو العز والشرف، ومن أين لك الشرف إذا كنت تنتسب إلى أقوام لم ينعم الله عليهم بنعمة الإسلام؟!
ثم انظروا ـ وفقكم الله ـ إلى الإمام المفسر قتادة بن دعامة رحمه الله وهو يصف حال العرب قبل الرسالة وهو يتلو قول الله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا [آل عمران:103]، يقول قتادة: "كان هذا الحي من العرب أذلّ الناس ذلا وأشقاه عيشا وأبينه ضلالة وأعراه جلودا وأجوعه بطونا بين فكي أسد فارس والروم، لا والله ما في بلادهم يومئذ شيء يحسَدون عليه، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات ردي إلى النار، يؤكلون ولا يأكلون. والله، ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض كانوا فيها أصغر حظا وأضعف شأنا منهم، حتى جاء الله عز وجل بالإسلام، فورثكم به الكتاب، وأحل لكم به دار الجهاد، ووضع لكم به الأرزاق، وجعلكم به ملوكا، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا نعمته، فإن ربكم منعم يحب الشاكرين، وإن أهل الشكر في مزيد من الله، فتعالى ربنا وتبارك".
فوالله، هذا حال كلِّ أمَّة من العرب أو الفرس أو الروم أو البربر أو الترك أو الحبش إذا تركوا نعمة الإسلام، حرموا العزَّة والمجد والعظمة.
وشيطان الغرب يعلم أنَّ هذه الأمَّة المسلمة بجميع أجناسها وشعوبها على اختلاف ألسنتهم وألوانهم لا تزال متماسكة منيعة عزيزة رفيعة الشأن جليلة الخطر ما دامت متمسِّكةً بالإسلام، وأنَّه ليس هناك شيء يهدم هذه القوة مثل إثارة العرقيات والعصبية للجنس واللغة واللون على قاعدة: "فرّق تسُد"، ولذلك فلا يألو المستعمر الغربي في إذكاء نيران الفتن بنشر هذه الأفكار والمبادئ الهدامة من النعرات العرقيَّة، وبعث القوميَّات وتغذية العصبيَّات، فيستخدم البعثيَّ للقوميَّة العربيَّة فيفتخر بالآباء وإن كانوا كفارًا، كما يستخدم ذا النعرة البربريَّة فيفخر بالأجداد الذين كانوا في الجاهليَّة قبل الإسلام.
وقد قال النبي : ((لينتهينَّ أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فحم جهنم، أو ليكوننّ أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخراء بأنفه. إن الله قد أذهب عنكم عبِّيَّة الجاهلية وفخرَها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي. الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب)) رواه الترمذي وأحمد، وعن أبي مالك الأشعري أن النبي قال: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة)) رواه مسلم.
قال ابن تيمية: "إن تعليق الشرف في الدين بمجرد النسب هو حكمٌ من أحكام الجاهلية الذين اتبعتهم عليه الرافضة وأشباههم من أهل الجهل، ولهذا ليس في كتاب الله آية واحدة يمدح فيها أحدا بنسبه، ولا يذم أحدا بنسبه، وإنما يمدح بالإيمان والتقوى، ويذم بالكفر والفسوق والعصيان".
فالشرف والعزة والمجد ليس في الانتساب إلى العروبة ولا إلى البربرية، بل بالتقوى والإيمان وبالعلم النافع والعمل الصالح.
فأنت ـ أيُّها البعثيُّ القوميُّ العروبي ـ كفَّ لسانك عن البربر، وأنت ـ أيُّها البعثيُّ القوميُّ الأمازيغي ـ كفَّ لسانك عن العرب، فيكفيهم كلاهما شرفًا أنَّ الله تعالى أراد بهم خيرا، حين أدخل الإسلام عليهم جميعا.
فعن كرز بن علقمة الخزاعي قال: قال رجل: يا رسول الله، هل للإسلام من منتهى؟ قال : ((نعم، أيما أهل بيت من العرب أو العجم أراد الله بهم خيرا أدخل عليهم الإسلام)) ، قال: ثم مه؟ قال: ((ثم تقع الفتن كأنها الظلل)) ، قال الأعرابي: كلا والله إن شاء الله، قال : ((بلى، والذي نفسي بيده ثم تعودون فيها أساود صبا، يضرب بعضكم رقاب بعض)). أساود صبا: قال سفيان: الحية السوداء تنصب أي: ترتفع. رواه أحمد والحاكم بسند صحيح.
فهذا يدلُّ على أنَّ العرب وإخوانهم البربر قد أراد الله بهم جميعًا خيرا حين أدخل عليهم الإسلام، ولو لم يرد الله بأحدهما خيرًا لتركهم يتخبَّطون في جاهليَّتهم الجهلاء، تحت سطوة الروم والفرس في القديم، ثمَّ تحت سطوة المستعمر الغربي الجديد. فالحديث يشهد بأنَّ الله قد أراد بهم خيرًا ما تمسَّكوا بالإسلام، فمن رغب عنه وابتغى العزة في غيره أذلَّه الله.
ونحن نعرف للعرب فضلهم ونعرف للبربر فضلهم، ولا نبخس أحدًا من هؤلاء وهؤلاء فضله.
فمن العبارات الجاهليَّة التي يجب الأخذ بشدَّة على قائليها والإنكار عليهم أن يسبَّ غير العربي جنسَ العرب طاعنًا عليهم بفعل السفهاء، أو أن يسبَّ العربيُّ غيره من البربر ومسلمي العجم لمجرَّد المخالفة في الجنس واللسان، فهذا الذي نهى عنه النبيُّ حين قال: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب...)) رواه مسلم.
فالله المستعان، وعليه التكلان.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيُّها الناس، ليكفَّ أقوام تحملهم النعرة القبليَّة على امتهان غيرهم واحتقارهم والطعن في أنسابهم، وقد قال رسول الله : ((بحسب امرئ من الشرِّ أن يحتقر أخاه المسلم)).
فمن طعن في نسب مسلم وافتخر عليه بالآباء والأجداد فقد احتقره مهما كان جنسه ولسانه ولونه. وأنا أمهِّد لكم من فضائل البربر والعرب في عهد الإسلام ما يدلُّكم على ضرورة التمسُّك به، وإنَّما يتفاضل الناس والشعوب بحسب تمسُّكهم بشرائع الإسلام وأخلاقه.
ويكفي البربر شرفًا ـ ولا أقول فخرًا ـ أنَّ فيهم أبطالا مدَّ الله بهم الإسلام، وثبَّته على أيديهم. ألا تذكرون طارق بن زياد الذي فتح الله به البلاد، بلاد الأندلس، ذاك الفتى البربري بلسان عربي مبين؟! أم نسيتم المعزَّ بن باديس الصنهاجي الذي أعزَّ الله به أهل السنة، وأذلَّ به دولة الرفض الباطنية حكامَ بني عبيد العتاة في القرن الخامس. ومن بعده حين كادت الأندلس تسقط في أيدي القوط النصارى لم يجد المسلمون منقذًا لهم ـ بعد الله تعالى ـ سوى ذاك الأمير البربري الصنهاجي العادل الشهم البطل الشجاع يوسف بن تاشفين، الذي أسَّس دولة المرابطين، وبنى الجامع الكبير الذي في ساحة الشهداء من نحو ألف عام، وأعاد الاعتبار لأهل السنَّة والجماعة فحارب البدع ومنع أهل الكلام والخصام وأعزَّ الله به الإسلام.
وبجاية كانت تزخر بكبار الأدباء وأئمَّة النحو واللغة العربيَّة وهم من البربر. ومنهم محمَّد الأريسي الذي كان يسلك في شعره سلوك المتنبي وكان في المائة السابعة.
ولم تخل بجاية من قديم الأعصار من فقهاء وعلماء ومحدثين وأدباء باللسان العربي المبين، فمنهم ابن يبكي صاحب الرابطة الذي كان إليه المرجع في الفتيا في القرن السابع، وكان يفتي بالحديث والأثر ولا يقلِّد أحدا، ومنهم في القرن السادس الحافظ الكبير المتقن عبد الحق بن الخراط خطيب بجاية ومفتيها، ومنهم المحدث عبد الله بن محمَّد الصنهاجي الأشيري من محدثي القرن السادس، ومنهم محمَّد بن يحيى الباهلي من أدباء وفقهاء بجاية قي القرن الثامن، ومنهم المحدثة البجائية المقيمة بمكة رقية بنت عبد القوي التي أجاز لها الحافظان العراقي والهيثمي، وأجازت هي للحافظ السخاوي، ومنهم علي الحسناوي من فقهاء بجاية في القرن التاسع، وغيرهم كثير وكثير...
وأمَّا زواوة، هذه القبيلة العظيمة في جبال جُرجُرة، فلم تزل موطنًا منيعًا عزيزًا للأشراف من أهل البيت الذين كانوا يفرُّون من ملاحقات أمراء بني أميَّة وبني العباس.
بل الأغرب والأعجب أنَّ هذه المنطقة منطقة زواوة التي يسمِّيها الناس اليوم القبائل الكبرى كانت قبلة المتعلِّمين والمتفقِّهين في الدين، بل وحتَّى في لسان العرب المبين، يأتيها الطلبة من المشرق والمغرب، ألم تسمعوا بالشيخ اللغوي البربري الذي كان يعدُّ من أئمَّة عصره في النحو وعلوم العربيَّة يحيى بن عبد النور بنِ معط، صاحبِ الألفية في النحو العربي والتي جاء ابن مالك من بعده فألف ألفيته على منوالها، وهذه مقدِّمة ابن آجروم في النحو، والتي تسمَّى بالآجرومية، لا تزال إلى يومنا تدرَّس في المعاهد والثانويات في جميع بلاد العرب، وهذا الشيخ طاهر السمعوني الجزائري، مؤسِّس المكتبة الظاهريَّة بدمشق، هاجر والده من أرض زواوة مع الأمير عبد القادر لما استولى الإفرنج الكفرة على بلادهم، ثمَّ حنَّ إلى وطنه فزاره في عام 1893م، ودخل موطن آبائه بزواوة، والتقى بالشيخ محمَّد السعيد بن زكري الزواوي الذي كان مفتى مدينة الجزائر في ذلك الوقت. ومنهم الشيخ المهدي السكلاوي اليراثني نسبة إلى قبيلة يراثن، ويقال لموطنهم اليوم: "أربعاء نَايت إيراثن"، وكان هذا من علمائهم وفضلائهم في القرن الثالث عشر. ومنهم الشيخ محمَّد السعيد بن علي اليلولي الشلاطي، المتوفَّى من نحو مائة عام، وكان قد ألَّف كتابًا باللغة الأمازيغيَّة لكن بالحرف الذي يناسبها وهو الحرف العربي، وفي علم شريف هو علم التوحيد والعقيدة الإسلامية، لا كما يريد المستعمر وأذنابه اليوم أن تخطَّ بالحرف اللاتيني والمحتوى اللاديني، وكان رحمه الله قد بنى معهدًا للعلوم الإسلامية في زمانه، وقد دمَّرته فرنسا في أثناء حرب التحرير، ثمَّ أعيد بناؤه في الأعوام الأخيرة، ولا يزال يؤدِّي مهمَّته في نشر الثقافة الإسلاميَّة.
ومن شيوخ زواوة في القرون الغابرة الشيخ محمَّد صالح بن علي الورتلاني المتوفى في القرن الحادي عشر، وضريحه معلوم هناك في قرية أجَلْميم عرش بني أجْمات، وكان يوصف بالعالم المجدِّد للدين، ومن النوادر أنَّ هذا الفقيه الصالح كان يأمر أهل منطقته بالتزام أحكام الشريعة، وكانوا يمنعون ميراث النسوة، فلم يستجيبوا له، فتركهم إلى وقت ذهابهم لقطف الزيتون، فأخذ متاعه وزوجته وعزم على الهجرة من بلادهم، فصاح القوم ليجتمعوا على الشيخ ليمسكوه، فلمَّا ألحّوا على رجوعه حلف لا يرجع إليهم حتَّى يرجعوا إلى العمل بالشريعة في المواريث وغيرها، فامتثلوا أمره بجدّ وصدق، ولم يزالوا على ذلك قرونًا إلى زمان الاستعمار، حتَّى غيَّرت فرنسا الأوضاع وردَّتهم إلى حكم شيوخ الجماعة، وهو حكم جاهلي.
ومنهم في القرن الثامن عيسى بن مسعود المنكلاتي كان محدثًا فقيها، ومنهم في القرن التاسع منصور بن علي المنكلاتي، والشيخ علي بن عثمان المنكلاتي، والشيخ عبد الرحمن الوغليسي، وأبو القاسم بن محمَّد المشدَّالي فقيه بجاية في القرن الثامن، ويحيى بن إدير التَّدلسي... ولست أريد أن أطيل عليكم بذكر جميع شيوخ زواوة فما أكثرهم، وما أكثر من يجهلهم.
ودونكم شهادة المؤرخ الشهير ابن خلدون الذي يقول عن البربر: "وأمَّا تخلُّقهم بالفضائل الإنسانيَّة وتنافسهم في الخلال الحميدة وما جبلوا عليه من الخلق الكريم فلهم في ذلك آثار نقلها الخلف عن السلف، لو كانت مسطَّرة لحفظ منها ما يكون أسوة لمتَّبعيهم من الأمم.
فمن خلقهم عزُّ الجوار وحماية النزيل ورعاية الذمَّة والوفاء بالعهد وبر الكبير وتوقير أهل العلم ورحمة المسكين وحمل الكلِّ وكسب المعدوم وقري الضيف والصبر على المكارم والإعانة على النوائب ومقارعة الخطوب وإباية الضيم ومشاقَّة الدول" أي: عدم القابليَّة للاستعمار، إلى آخر ما طوَّل به ابن خلدون من أوصافهم وأخلاقهم في غابر الأزمان قبل أن تفسدها الفتن المتتالية التي غرست في القوم هذه النعرات القبليَّة والعصبيَّة العرقيَّة وبعث القوميَّة، فأفسدت الأخلاق ودمَّرت القيم وأوهنت التديُّن، فكانت النتيجة الحتميَّة التخبط في الفقر والخوف والجوع وتسلُّط الأشرار.
نذكر هذا تذكيرًا لكلِّ بربريّ لعلَّه يتذكَّر أخلاق أسلافه وما كانوا عليه من الاعتزاز والتمجُّد بالإسلام دون ما سواه.
وربَّما اضمحلَّت اليوم فيهم هذه الأخلاق، كما اضمحلَّت في غيرهم من العرب والعجم، لأنَّ الفساد قد عمَّ كلَّ مكان، وأرباب الفتن لا يزالون متربِّصين يغذُّون العصبيَّات القوميَّة.
فأين أنتم ـ أيُّها الطاعنون ـ في الأنساب؟! وأين أنتم ـ أيُّها البعثيون للنعرات القومية الجاهليَّة ـ عربيَّة كانت أو بربريَّة؟!
وأنت ـ أيُّها البعثيُّ للقوميَّة البربريَّة الجاهليَّة ـ ما لك وللعرب؟! فإنَّ مآثرهم وفضائلهم لا تخفى، ويكفيهم شرفًا أنَّ الله أنزل كتابه الخالد بلسانهم، فأصبح اللسان العربي هو لسان كل مسلم مهما كانت أصوله وجذوره غير عربيَّة، ويكفيهم شرفًا أنَّ منهم سيِّدَ ولد آدم، النبيَّ الخاتم محمَّدَ بنَ عبد الله القرشيَّ عليه الصلاة والسلام.
وحبُّ العرب والعروبة إذا كان لأجل ذلك ولأجل الدين فهو حسنٌ، وإلاَّ كان نعرة جاهليَّة كسائر النعرات العرقيَّة الأخرى.
وفي هذا المعنى الشريف ألَّف الحافظ العراقي كتابه الممتع المفيد "محجَّة القرب في محبَّة العرب". وكذا ألف قبله الإمام ابن قتيبة كتابه في فضل العرب، ولا تخلو كتب الفضائل والمناقب من ذكر فضل العرب وغيرهم.
ولست هنا لأغذي نخوة الافتخار عند العرب ولا عند البربر فهما إخوان بحكم الدين، ينالهم الشرف والعزَّة ما تمسكوا بالدين، ويذوقون مرارة العيش ومذلة الحياة ما تركوا هذا الدين.
فإذا أراد العرب والبربر وسائر العجم العزة والكرامة والمجد والشرف فلن يجدوا سوى الإسلام مؤلِّفًا بين قلوبهم جامعًا لكلمتهم رافعًا لشأنهم.
أقول هذا وأستغفر الله...
(1/3064)
لا لدعوى الجاهلية
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, الولاء والبراء, مساوئ الأخلاق
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أصل بني آدم التراب. 2- محاربة الإسلام للعصبيات والقوميات. 3- نصوص من السنة وآثار السلف في النهي عن التفاخر بالأنساب. 4- إثارة النعرات القبلية من مكائد أعداء الإسلام. 5- وسائل التعبير عن السخط. 6- الفرق بين الفاتحين المسلمين وبين المستعمر الغربي. 7- آية اختلاف الألسن.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
هذا خطاب من الله تعالى للناس جميعًا أنَّه خلقهم من ذكر هو آدم ومن أنثى هي حواء، فالناس كلهم لآدم، وآدم من تراب. فالتراب هو منتهى الأنساب، فبم يفتخر شعب على شعب؟! وبم يحتقر قوم قوما؟! وكلُّهم كان ترابا، وكلُّهم يصير ترابا. ثمَّ كشف الله للناس في الآية عن العلَّة في جعلهم شعوبًا وقبائل وهي التعارف، أي: ليعرف بعضكم بعضا، لا ليبغي بعضكم على بعض، والمراد قطع التفاخر بالأنساب والأحساب.
وعن ابن عباس قال: (لا أرى أحدًا يعمل بهذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ، فيقول الرجل للرجل: أنا أكرم منك، فليس أحدٌ أكرم من أحد إلاَّ بتقوى الله). رواه البخاري في الأدب المفرد.
هذا وقد كنت خطبت فيكم من بضعة أسابيع خطبة في هذا الموضوع، بسطت فيها هذه القضيَّة؛ قضية العصبية والفخر بالأنساب والآباء والأجداد والألوان والأعراق واللغات، وبيَّنت لكم بما سقته من كتاب الله وسنة رسول الله وآثار السلف ما يشفي القلوب من أدوائها، ويحرِّر النفوس من أهوائها، ولكن ما حدث أمس يدلُّ على أنَّ الأمر يتطلب مزيدًا من البيان والتذكير، ونافلةً من الإيضاح والتبصير.
فاعلموا ـ أيُّها المسلمون ـ أنَّ أهل الجاهلية من العرب والبربر وسائر الناس كانوا متفرقين، لا يحكمهم دين ولا عقل سليم، قويُّهم يأكل ضعيفهم، تفنيهم الحروب أجيالاً بعد جيل من أجل استغاثة رجل بقبيلته ولو على باطل، ونحو ذلك من تفاهات الأسباب وحقير البواعث.
فجاء الإسلام ماحيًا هذه الجاهليات والعصبيات النتنة، وألَّف بين قلوب المؤمنين، بالأخوَّة الصحيحة أخوَّة الدين، بعدما بيَّن لهم أنَّهم إخوة في الطين، فالناس كلهم من آدم، وآدم من طين، لكنَّ الأخوَّة الرابطة بإحكام والجامعة بالدفء هي أخوة الإسلام.
إنَّ معرفة الإنسان لقبيلته وانتسابه لها والمحافظة على الأنساب لا يذم في الدين، بل جاء: ((تعلَّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم)) ، إنَّما المذموم الافتخار بالقبائل، وذم أنساب الناس، واحتقار من لم يعرف بقبيلة، فتلك دعوى الجاهليَّة.
أنا أتلو عليكم من مشكاة النبوَّة ومنهاج السلف ما يكفي رادعًا وزاجرًا لكلِّ عاقل ومبصر، وأذكِّركم الله الذي يقول: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ [النور:51، 52].
كتب عمر بن الخطاب إلى أمراء الأجناد: (إذا تداعت القبائل فاضربوهم بالسيف حتَّى يصيروا إلى دعوة الإسلام) رواه ابن أبي شيبة، أي: حتّى تكون دعوتهم وانتسابهم للإسلام وليس للقبائل، كما في رواية عند أبي عبيد: (سيكون للعرب دعوى قبائل، فإذا كان ذلك فالسيف السيف والقتل القتل حتَّى يقولوا: يا للمسلمين)، وفي رواية: (يا أهل الإسلام).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من قاتل تحت راية عُمِّيَّة ـ أي: الأمر الأعمى للعصبيَّة لا يستبين وجهها ـ ، يغضب لعصبيَّة أو يدعو إلى عصبيَّة، أو ينصر عصبيَّة، فقتل فقِتلته جاهليَّة)) ، وفي رواية: ((فليس من أمَّتي)).
وعن الحارث الأشعري عن النبيِّ : ((من دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثاء جهنم)) ، قالوا: يا رسول الله، وإن صام وصلى؟ قال: ((وإن صام وصلَّى وزعم أنَّه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم؛ بما سمَّاهم الله عز وجل به: المسلمين المؤمنين عباد الله)) رواه أحمد وغيره وهو حديث صحيح.
وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله : ((إنَّ أنسابكم هذه ليست بسباب على أحد، وإنَّما أنتم ولد آدم، طفُّ الصاع لم تملؤوه ـ أي: قريب بعضكم من بعض في النسب ـ ، ليس لأحد على أحد فضل إلاَّ بالدين أو عمل صالح)) رواه أحمد بسند حسن.
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي ردِّي ـ أي: سقط في البئر ـ ، فهو ينزع ـ أي: يحاول الخروج ـ بذَنَبه)) رواه أبو داود بسند صحيح.
ولعلَّ أبلغ حديث في ذم العصبيَّة ما رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: غزونا مع النبيِّ وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتَّى كثروا، وكان من المهاجرين رجل لعاب، فكسع أنصاريًّا، فغضب الأنصاري غضبًا شديدا، حتَّى تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبيُّ فقال: ((ما بال دعوى الجاهليَّة؟)) ، ثمَّ قال: ((ما شأنهم؟)) فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري، فقال: ((دعوها فإنَّها خبيثة)).
وهذا من أبلغ ما جاء في ذم العصبيَّة، فإنَّ الانتساب للأنصار والمهاجرين ممدوح غير مقبوح، لكن لمَّا خرج عن أن يكون اعتزازًا بالدين إلى الاعتزاز بالقوم والعصبة والقبيلة صار من الجاهليَّة.
والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله.
_________
الخطبة الثانية
_________
إنَّ الأحداث الأخيرة مؤامرة مكشوفة، لا تخفى على عاقل، فاحذروا ـ أيُّها المسلمون ـ أن تساقوا إلى ما تدبِّره الشياطين شياطين الإنس ـ ومن ورائهم شيطان الجنِّ ـ لهذه الأمَّة من فتن وحروب وتناحر وتشاجر وتقاطع وتدابر، فلا فتيل هو أسرع اشتعالاً من فتيل إثارة النعرات العرقيَّة، فاحذروها واحذروا دعاة الفتنة الذين يريدون تفريق الأمَّة، ويغذُّون فيها أسباب الشجار والاقتتال بحمى الجاهلية ودعوى الجاهليَّة العروشيَّة والقبليَّة والعرقية.
فمتى كان تخريب البيوت بأيدي أصحابها طريقًا للإصلاح؟! ومتى كان الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل سبيلاً لانفراج الأزمات وتفريج الكربات؟! بل ومتى كانت هذه المظاهرات وما يجري فيها من ضجيج واختلاط وصخب أسلوبًا حضاريًّا في نفسه ونمطًا نموذجيًّا مفروضًا علينا؟!
ومن عجائب الزمان أن يعلِّق بعض الناس فيقول: لا ضير ولا عيب في التخريب والفساد لإظهار السخط والغضب، لأنَّ شعوبًا متحضرة اليوم تفعل مثل ذلك. فيا سبحان الله! متى كانت شعوب القوط والخزر والجرمن والسكسن والغال والإفرنج قدوةً لنا، وقد كانوا بالأمس القريب من نحو ثلاثة قرون فقط شعوبًا همجيَّة متوحشة حفاة عراة، يلبسون جلود الضأن من الجوع والفقر، فمن الطبيعي أن تكون أساليبهم في التعبير عن السخط مناسبة لطبيعتهم الهمجيَّة القديمة، لأنًَّ العرق دساس، فمتى كان هؤلاء الضلال الذين أضلَّهم الله عن الدين الحق في شؤون العبادة وشؤون الحياة، متى كانوا قدوة لنا في أساليب التعبير عن السخط؟! وهل خلا ديننا عن بيان السبيل في ذلك؟! كلاَّ.
إنَّنا أمَّة واحدة، وقد أنعم الله علينا بنعمة الإسلام، وشرع لنا الوسائل المفيدة في التعبير عن السخط وفي دفع المكاره والمظالم، وذلك باللجوء إلى الله ملك الملوك الذي نواصي الملوك بيده، فما يصيبنا من جَورهم فبما كسبت أيدينا، ثمَّ ثانيًا بالمرافعة بواسطة العريفين الذين هم أعيان العشائر والقرى ووجهاء الناس وعقلاؤهم، كما أمر النبي في حجة الوداع، وجعل العرفاء واسطة بينه وبين الناس، يرفعون إليه ما يريدونه، وإذا لم تفد هذه فالأولى كافية وموجبة أثرها ولا بد.
فيا من جمعتهم رابطة الإسلام كفّوا عن الشقاق والخلاف، فإنَّ الشيطان ـ شيطان الغرب ومن ورائه شيطان الجن ـ قد يئس أن يخرج الناس في هذا الوطن من دينهم أفواجا، لكنَّه رضي بالتحريش بيننا والتفريق بيننا ليسود علينا، على قاعدة: "فرّق تسُد"، مصداقًا لقول النبيِّ : ((إنَّ الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم)) رواه أحمد ومسلم وغيرهما.
وبماذا يفرّق بيننا؟! فديننا واحد، ووطننا واحد، وجنسنا واحد، فد اختلط فيه العرق البربري بالعرق العربي، وأصلنا واحد من آدم، وآدم من تراب وطين، فنحن إخوة في الطين، وإخوة في الدين جميعا، فلما لم يتأت لهذه الشياطين أن تفرقنا من جهة الطين والدين لجأت إلى اختلاف اللغات، واختلاف اللغات عند المسلمين مفخرة من مفاخر الإسلام لو كانوا يعلمون.
انظروا إلى الفارق بين الفاتحين المسلمين الذين فتحوا بلاد الأعاجم من الفرس والترك والديلم والحبشة والروم والقوط والكرد والهند والسند والصين والبربر، وتركوا الناس من جميع هذه الأجناس على ألسنتهم ولغاتهم، ومن تعرَّب لسانه منهم تعرَّب اختيارًا ورغبة في الدين، وليس بإجبار أو إكراه.
وهذا عكس ما يفعله الاستعمار الغربي، فكان من غاياته طمس الهويات والقضاء على الحضارات، فكان يمنع تعلُّم العربيَّة في بلاد الإسلام، ويفرض تعلُّم اللغة الفرنسية.
ولا أذهب بعيدًا ففي 24 من شهر أكتوبر سنة 1842 أجبر المستعمر الفرنسى أهالي مدينة الجزائر على تعلم اللغة الفرنسية في الجامع الكبير وفي المدارس الأهليَّة، مما اضطر الناس وعلى رأسهم مفتي الجزائر آنذاك مصطفى الكبابطي على إعلان العصيان، وانتهى الأمر بسجنه ثم بنفيه إلى مصر، ثمَّ بعد ذلك منع المستعمر من تعلُّم اللغة العربيَّة، لأنَّها لغة الدين الإسلامي، لأنَّهم قدَّروا أنَّه متى ارتبطت هذه الأمة باللغة العربية ارتبطت بدينها، ومتى ارتبطت بالإسلام لم تقبل بوجود المستعمر.
فقارنوا ـ أيُّها الإخوان ـ بين الفاتحين المسلمين وبين الغرب المستعمرين.
أمَّا الفاتحون المسلمون، فقد احترموا اللغات، فبقي الفرس بلسانهم الفارسي، والترك بلسانهم التركي، والبربر بلسانهم الأمازيغي... إنَّ اختلاف الألسنة من آيات الله، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [الروم:22]، فقد جعل الله تعالى اختلاف ألواننا وألسنتنا آية من آياته، وإذا كان من شأن آيات الله أن تعظَّم وتحترم، فالطاعن في لون غيره أو في لسانه ولغته إنَّما يطعن في آيات الله تعالى، وقد قال الله تعالى: وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [البقرة:231]، وقال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:19]، وقال: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65]، وقال: إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء:140]، وقال: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ [الأعراف:36]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [الأعراف:40]، وقال: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الأنعام:68]. والآيات في تعظيم آيات الله كثيرة.
والشاهد منها أنَّ من الآيات التي يجب احترامها وتعظيمها آية اختلاف اللغات وألسنة بني آدم، فإنَّ الله تعالى جعل ذلك التنوع آية من آياته.
نعم قد فضَّل بعضها على بعض، فكان اللسان العربي هو اللسان الذي اختاره الله لأمَّة الإسلام لسانًا يتفقَّهون به في دينهم، وجعله لسان القرآن، يتلى به في كلِّ يوم خمس مرات في جميع بقاع الأرض من عرب وعجم، فقال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف:3]، وقال: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:195]؛ لأنَّ اللسان العربي هو أقدر الألسنة بيانًا.
ومن ثمَّ فتمسُّكنا باللسان العربي ليس تمسُّكًا بعرق أو جنس، بل لأنَّه لسان القرآن والإسلام، فهو لسان أمَّة الإسلام كيفما كانت أنسابهم وألسنتهم وألوانهم، دون أن يحتِّم على الشعوب والقبائل الأعجمية أن تتخلَّى عن لسانها.
هذا ما سمعتم، والله يغفر لي ولكم.
(1/3065)
أثر وفاة الشيخ العثيمين ومن قبله من العلماء الربانيين
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
مراد وعمارة
باب الوادي
17/10/1421
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تتابع موت العلماء. 2- موت العلماء من علامات قرب الساعة. 3- الإسلام لا يرتبط بالأشخاص وإنما يرتبط بالوحي. 4- لن تخلو أمة الإسلام من علماء مجددين.
_________
الخطبة الأولى
_________
غمرتنا قبلَ يومين آيتان عظيمتان من آيات الله تعالى، بدران خسفا.
فأمَّا البدر الأوَّل فهو هذا القمر الذي اكتمل بدرًا يراه الناس جميعًا، ثمَّ إذا به يخسف وينحجب، حتَّى لم نعد نرى شيئًا من النور الذي كان يشعُّ به، فهذه الآية الأولى، وهي آية خسوف القمر ليلة البدر.
وأمَّا الآية الأخرى فإنَّ قليلاً من الناس من يحسُّ بها، وأكثر الناس هم عنها غافلون، إنَّها خسوف بدر أعظم نورًا من نور القمر ليلةَ البدر، هذا البدر الثاني الذي خَسف وانحجب بخسوفه النور الذي كان يشعُّ به هو الشيخ الإمام محمَّد صالح العثيمين رحمه الله تعالى، فقد توفي الشيخ قبل يومين، فانخسف بفقده نور العلم والهدى الذي كان يشعُّ به. نعم إنَّه البدرُ الثالث، ثالث ثلاثة نفقده بعد فقدنا من نحو عام لأخويه ابن باز والألباني رحمهم الله تعالى.
إنَّهم بدور خسفت فلن تنير، وشموس كسفت فلن تشرق، ومنارات هدى هدمت فلن تضيء.
لقد خسر العالم الإسلامي في هذه الشهور الأخيرة كوكبةً من كبار العلماء، فمن نحو ثلاثة أعوام رزئنا بوفاة الشيخ العلامة إسماعيل الأنصاري، ثمَّ من بعده محدِّثِ الحجاز الشيخ حمَّاد بنِ محمَّد الأنصاري، وقبل سنة رزئنا بوفاة الشيخ صالح بن غصون، ثمَّ بعده بأيَّام فجعنا بوفاة مفتي الزمان الشيخ عبد العزيز بن باز، فلم تكد دموعنا تجفُّ حتَّى جاء الخبر بوفاة الشيخ علي الطنطاوي، ثمَّ بعده بأيَّام وفاة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء، ثمَّ بعده بأيَّام وفاة الشيخ مناع خليل القطان، ثمَّ وفاة الشيخ عطيَّة محمَّد سالم، بعضِهم تلوَ بعض، في أقلَّ من أربعة أشهر.
ثمَّ كانت الفاجعة الكبرى والرزيَّة العظمى أن خسرنا في منتصف عامَ أوَّل مصباحًا من مصابيح الدجى وسراجًا من السرج الوهَّاجة بنور العلم والهدى، محمَّدًا ناصر الدين الألباني.
وها نحن الآن نودِّع إمامًا من أئمَّة الهدى وعالمًا ربَّانيًّا من علماء السنَّة والسبيل.
فسلام على مشاهد كانت بوجوده مشهودة، وعلى معاهد كانت ظلال رعايته وتعهُّده عليها ممدودة، وعلى مساجد كانت بعلومه ومواعظه معمورة، وعلى مدارس كانت بفيضه الزاخر ونوره الزاهر مغمورة، وعلى جمعيات كان شملُها بوجوده مجموعًا، وكان صوته الجهير كصوت الحقِّ الشهير، مدوِّيًا في جنباتها مسموعًا.
فيا لها مصيبةً ما أشدَّ وقعها، وخسارةً ما أشدَّ وجعها، انقبض بها علم نافع كان منشورًا، وارتفع بها ذكرٌ صالحٌ كان الله به مذكورًا.
فإنَّه ليس على وجه البسيطة من رجل على السبيل والسنَّة هو أذكر لله تعالى من أئمَّة الدين، ولا أكثر صلاة على نبيِّه منهم، ولا أعبد لله منهم، وخير العبادة التفكّر والفقه في الدين.
والشيوخ الثلاثة ابن باز والألباني والعثيمين يزيدون على غيرهم في ذلك أنَّنا علمناهم ووجوه الخلق في مشارق الأرض ومغاربها ميمِّمةٌ شطرهم طالبةٌ توقيعهم عن ربِّ العالمين، فيما ينزل من نوازل بالمسلمين، بما آتاهم الله من علم نافع وفقه في الدين، قلَّما أوتي أحدٌ مثله من العالِمين، فالناس اليوم بعدهم أيتام، بعدما كانوا بالأمس كالصبيان في حجورهم.
فيا للهول من فقْدِ من كان بين الخلق وخالقهم داعيًا إليه هاديًا وسراجًا منيرًا.
وأيُّ آية أعظم من خسوف العلم والنور والهدى؟! وأيُّ نسبة بين نور القمر ونور العلم والهدى. فلا جرم أنَّ خسوف نور العلم بخسوف العلماء أعظم من خسوف نور القمر، فإنَّ آية خسوف القمر إذا كانت منذرةً بقرب الساعة فإنَّ آية فقد العلماء تنذر بقرب الساعة أيضًا، وأخطرُ من ذلك وأعظم أنَّها تنذر برفع العلم وفشوِّ الجهل والضلالة.
وهذا عبد الله بن عباس قيل له: ماتت فلانة بعض أزواج النبي، فخرَّ ساجدًا فقيل له: تسجد هذه الساعة؟! فقال: قال رسول الله : ((إذا رأيتم آية فاسجدوا)) ، وأيُّ آية أعظم من ذهاب أزواج النبي ؟! رواه أبو داود والترمذي بسند حسن.
وهذا لأنَّ ذهاب أزواجه يؤذن بقرب الساعة وبذهاب كثير من العلم. والله المستعان.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيُّها المسلمون، لا شكَّ أنَّ الحدث عظيم، ولكنَّ الله تعالى قد علَّمنا كيف نتعامل مع مثل هذه الأحداث.
إنَّ فقد العلماء يوجب في قلب المؤمن الحي تحرًُّقًا على فراقهم وحزنًا، وعِبرةً وعَبرة، لأنَّ بفقدهم يفوت أعز مطلوب وأشرف مرغوب، وهو العلم، ولأنًَّ ذلك مؤذنٌ بقرب الساعة وفشوِّ الضلالة، ولكنَّ ذلك لا يبلغ بالمسلم أن يعلِّق مصيره بالأشخاص، ويقلِّد دينه بشرًا يخطئ ويصيب، فيخطئ التابع إذا أخطأ المتبوع، ويموت بموته.
أما لنا عبرة بخطبة أبي بكر الصديق حين توفي رسول الله ؟! وأيُّ مصيبة أعظم من مصيبة موت من لا نبي بعده؟! وقد كادت قلوب تطيش بذلك لولا أنْ ثبَّتها الله بخطبة أبي بكر الصديق، حين قال: أيُّها الناس، من كان يعبد محمَّدًا فإنَّ محمَّدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنَّ الله حي لا يموت.
وإذا كان هذا في حق النبي الذي انقطع الوحي بموته، فأولى بذلك ورثته من العلماء الذين قد جعل الله فيهم الخُلف في كلِّ جيل، وعلى رأس كلِّ قرن.
لقد وجدنا قومًا يتباكون فقدَ العلماء، وقد غلب عليهم اليأس، وينشرون ذلك على صفحات الشبكة العنكبوتية للأنترنت، وكأنَّ الله قد أخلى الزمان من قائم له بالحجَّة!
بل قد سأل سائلٌ فقال: اليوم قد ذهب كبار العلماء فإلى من تتوجَّه الأمَّة؟!
ألا فليتَّق الله أقوامٌ يجعلون من فقدِ هذه الثلَّة المباركة من العلماء سبيلاً لليأس والإياس، ويزرعون الشكوك في قلوب الناس، ويرمون بالأمة فريسة في أيدي المفتئتين على مناصب العلماء من أئمَّة الضلالة ودعاة الفتنة والتحزبات والانشقاقات.
وذلك يتضمَّن اللمزَ والطعن فيمن بقي من العلماء، فلا يزال بحمد الله في الأمَّة خيرٌ كثير، وجيلٌ من العلماء عظيم، وآخرون هم على الدرب لاحقون.
إننا أمة لا نرتبط بالأشخاص، إنَّما نرتبط بالوحي كتابًا وسنَّة، وبهدي السلف سبيلاً ومنهجا. هذا هو العاصم لنا من الضلالة بعد رحمة الله عز وجل وتوفيقه وفضله.
فسؤال من يسأل: إلى من نتوجَّه بعد موت العلماء؟ سؤالٌ ناشئ من سوء الأوضاع التي نشأ عليها السائل، فيا سبحان الله، أليس الله هو الحافظ لدينه؟! فوالله لن نضلَّ ما دام كتاب الله فينا يتلى ويُتدارس، وما دامت سنة نبيه تروى وتنشر، ولا يزال الله يغرس في هذه الأمة من يبصّرها بأمر دينها ويقيم الحجَّة لله، وينفي عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. ولا تزال طائفة من هذه الأمَّة قائمةً بالحقِّ إلى يوم القيامة، هكذا أخبر النبيُّ ، وهم أهل العلم.
ففي الوقت الذي يفرح فيه المنافقون بفقد العلماء ويرفعون بذلك رأسا، يملأ هؤلاء المرتابون قلوب الضعفاء من الناس هونًا ويأسا.
وأكرِّر بهذه المناسبة ما كنت قلته في خطبة مضت في حدث مماثل: إذا كان أهل النفاق قد راقهم موت علمائنا ورفعوا بذلك رأسًا، وفرحوا بفقدهم ولم يُبدو أسًى، فليبشروا بما يسوؤهم، فإنَّ الله وعدنا على لسان نبيِّه أنَّه يبعث على رأس كلِّ مائة سنة من يجدِّد لهذه الأمَّة أمر دينها، فلا يموت جيلٌ من العلماء حتَّى يخلفه جيل آخر، إلاَّ ما شاء الله من أوقات الفترات، حتَّى ينزل عيسى بن مريم، في آخر الزمان فيحكم بشريعة الرحمان، كما بقيت محفوظة في صدور العلماء ودواوينهم. وكذلك هو الأمر، فقد ظهر في الساحة علماء بالسنَّة فقهاء في معانيها وبصراء برجالها وعللها، ما لم يكن منذ أعصار مديدة بعد وفات السخاوي والسيوطي رحمهما الله.
قال حمَّاد بن زيد حضرت أيُّوب السختياني وهو يغسل شعيب بن الحبحاب وهو يقول: "إنَّ الذين يتمنَّون موت أهل السنَّة يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متمٌّ نوره ولو كره الكافرون". فلا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
أحسن الله عزاءكم ـ أيُّها المسلمون ـ في علمائكم، وأحسن الله عليكم الخلف من بعدهم، فنسأل الله أن يتغمَّد أئمَّتنا العلماء برحمته، وأن يُلحقهم بالرفيق الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن لا يَفتننا بعدهم، ولا يَحرمنا أجرهم.
أقول ما تسمعون، والله يغفر لي ولكم.
(1/3066)
إلى رجال الإعلام والصحافة
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وقفة مع قوله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنِ أَو الخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ. 2- بعض سقطات رجال الإعلام وعثراتهم. 3- خطر العلمانية على الأمة الإسلامية. 4- أدب مناصحة الولاة وذوي السلطة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعد: يقول الله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83].
أيُّها الناس، لقد فصّلت هذه الآية بين رجل الإعلام والصحفي الصدوق وبين الكذوب، وهي أدبٌ يؤدِّب الله تعالى به عباده بعامَّة، ورجال الإعلام منهم بخاصَّة.
ومعنى الآية على ما ذكره إمام التفسير أبو الفداء ابن كثير رحمه الله أنَّ هذا إنكارٌ على من يُبادر إلى الأمور قبل تحقُّقها، فيخبر بها ويُفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحَّة.
وقوله تعالى: يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي: الذين يستخرجون الخبر من معادنه، ويستعلمونه من مظانِّه، فلا يحرِّف الخبر ولا يزيد فيه ولا ينقص، ولا يذيعه حتَّى يحقِّقه ويرجو الخير والمصلحة في نشره وإذاعته، وهذه هي مهمَّة رجال الإعلام الصدوقين.
وسبب نزول هذه الآية يزيد في وضوحها، وذلك أنَّ رسول الله حين اعتزل نساءه تحدَّث الناس فقالوا: طلَّق رسول الله نساءه، فقال عمر: لأعلمنَّ ذلك اليوم، وبعد قصَّة طويلة في التحرِّي استأذن على رسول الله، فلمَّا أذن له سأله: يا رسول الله، أطلَّقت نساءك؟ قال: ((لا)) ، ثمَّ استأذن رسول الله في إذاعة الخبر، فأذن له، فنزل وقال: أيُّها الناس، لم يطلِّق رسول الله نساءه، ونزلت على إثر ذلك هذه الآية: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ، قال عمر: فكنت أنا استنبطتُ ذلك الأمرَ. رواه مسلم. فكان عمر بن الخطَّاب أوَّل من باشر وظيفةَ الإعلام في الأمَّة بحقِّها، وهو الصدوق.
وقد جاء في معنى هذه الآية عن رسول الله أحاديث هي بمثابة دستور عام لمن يباشر وظيفة الإعلام، منها قوله : ((بئس مطيَّة الفتى زعموا)) رواه أبو داود، وقال : ((من حدَّث بحديث وهو يرى أنَّه كذبٌ فهو أحد الكاذبين)) رواه مسلم في المقدمة، وفي الصحيحين أنَّ رسول الله : ((نهى عن قيل وقال)) أي: الذي يكثر من الحديث عمَّا يقول الناس من غير تثبُّت ولا تدبّر ولا تبيُّن ولا تفكُّر في شؤم العواقب.
وأنتم ـ أيُّها الناس ـ فحظُّكم من هذه الآية وما معها أن لا تكونوا سمَّاعين للكاذبين من المتعاطين للصحافة والإعلام، مروِّجين لباطلهم، حتَّى لا تكونوا ممَّن ذم الله في هذه الآية وجعلهم من متبعي الشيطان.
وأمَّا أنتم أيُّها اللصوص اللئام، المفتئتون على منصب الإعلام، فمن أين لكم الرفعة وأنتم تجولون في أعراض الناس وتصولون بالشتم والسباب والبهت والبهتان والكذب والافتراء والطعن واللمز والثلب والقذف وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين والتجسُّس على شؤون الناس في خاصة أنفسهم وتلمُّس هفوات ذوي الهيئات وترقُّب العثرات وتتبّع عورات الناس وإظهار ما يجب ستره منها؟! أهذه هي المهمة النبيلة لرجل الإعلام؟ كلاَّ، ما هؤلاء بالإعلاميِّين المرضيين في الأمَّة.
إنَّهم اليوم قلقون وساخطون، لأنَّ مشروعًا تعزيريًّا يراد ترسيمه، قد وجدوا فيه تضييقًا لما يسمُّونه بحرِّية الصحافة وحرِّية الرأي.
وحريّة الرأي ما حريّة الرأي، إنَّها النافذة التي يدخل منها كلّ مبطل يريد لباطله رواجا، وكلًُّ أفَّاك يريد لكذبه ترويجا.
أين ما يتبجَّح به هؤلاء من حماية حرِّية الرأي؟! فحرِّية الرأي عندهم أن يقولوا ما شاءت لهم أهواؤهم، وينتقدوا من شاءوا لا بالنقد النزيه البنّاء، بل بالبهت والزور والافتراء والإفك والكذب والقذف والشتم والسباب. فمن حقِّهم أن يسبّوا من شاءوا، ولا حقَّ لأحد سواهم أن ينتقدهم أو يأخذ على أيديهم.
لا جرم أنَّ الساخطين على مشروع العقوبات هم هذه الحثالة من المفتئتين على منصب الإعلام بغير حق، بل بالباطل والإذاية للخلق.
إنَّهم حفنة لا تخفى على الأمَّة حقيقة أمرهم ومذهبِهم الذين ينتمون إليه، وهو الاتجاه المعروف بالاتجاه اللائكي العلماني، أي: ما نسميه نحن بالاتجاه اللاديني.
والعلمانية مذهب شاذٌّ ونبتة هجينة في أوطان المسلمين، ربَّما وجد مسوِّغات وجوده في أمم الضلال والظلاميَّة في أوروبا، لأنَّ كلَّ من سلَّم لعقله السليم اصطدم ضرورةً بخرافات المسيحيَّة وضلالات النصرانيَّة وظلم البابوات والقساوسة وانحرافهم، فكلُّ ذلك قد يوجب ثورة العقل وانفصاله عن ذلك الدين المحرَّف.
أمَّا نحن فليس ديننا محرَّفًا، ولا فيه ما يناقض العقل، بل هو دين كاملٌ محفوظ ناسخ لكل ما سبقه من أديان، ولا ينسخه بعده دين أبدًا.
وإنَّ من نكد الدنيا أن يتسرَّب هذا المذهب الشاذُ ـ أعني اللائكية أو العلمانية ـ إلى أوطان المسلمين، فيصاب به رهطٌ من قومنا ومن بني جلدتنا.
ويكأنَّهم نبتوا في غير أرضهم، وغُذُّوا بغير أسمِدتهم، فجاءوا بفكر دخيل، وعقلٍ بالفهم كليل، وقلب عليل، ولسان هو بلسان أمَّتهم قصير وثقيل، وبلسان المستعمر سريع وطويل، أولئك هم العلمانيُّون اللائكيُّون.
إنَّهم حفنة عفنة وطغمة نتنة، أفئدتهم عند صولة الحقِّ هواء، وقلوبهم أشربت بالأهواء، وعقولهم خواء، انقلبوا على أمَّتهم، فتنكَّروا لدينهم ولغتهم وتاريخ أمَّتهم وحضارتهم، وهؤلاء ينصبون أنفسهم أوصياء على الجميع في جميع مناحي الحياة، ولا وصاية لأحد عليهم.
ويسمُّون أنفسهم السلطة الرابعة، ويغيب عن أذهانهم أنَّ ذلك لو صحَّ فإنَّما ينطبق على الإعلامي الصدوق الذي همُّه إيصال ما تحتاج الأمَّة إلى الاطلاع عليه ومعرفته كما هو دون تحريف أو تبديل.
نعم، هم يرَون في هذا المشروع تضييقًا لوظيفتهم لأنَّ الكذب والدعاية الكاذبة وتحريف الأخبار لأغراض سياسية وقذف الأشخاص هي رأس مالهم والمادَّة الخام لعملهم، فإذا منعت عنهم أو منعوا منها فلا يجدون ماذا ينشرون.
ومن هنا تظهر الحاجة بل الضرورة للتعجيل بإصلاح المنظومة الإعلاميَّة، وتطهير وسائل الإعلام من الممارسات والنظم والأنماط الوافدة من دول ومجتمعات تختلف تقاليدها وعاداتها وطباعها عن موروثنا الإسلامي في تقاليدنا وعاداتنا وطباعنا، بفرض عقوبات زاجرة لكلِّ متطاول طويل اللسان في كلِّ محترَم مُصان.
والله المستعان وعليه التكلان.
_________
الخطبة الثانية
_________
قد تعجبون إذا علمتم أنَّ الذي زاد من غيظ هؤلاء أنَّهم أُلحقوا في ذلك المشروع بأئمَّة المساجد، فهم لا يرون أنفسهم في منزلة واحدة مع الأئمَّة، بل يرون أنَّهم أشرف وأنبل من الأئمَّة، لا بل هم قد نصبوا أنفسهم سلطة رابعة، وأمَّا الأئمَّة فهم بمعزل عنها؛ لأنَّهم في نظرهم ليسوا سوى أناس متخلِّفين عن اللحاق بركب حضارة الغرب، يثيرون الفتن والفوضى، ويقفون حائلا دون إباحة التمتع بالشهوات والشعوذات، ويصدُّون عن كلِّ رأي خبيث يثير الشبهات في الأمَّة.
ولذلك فهم غاضبون وقلقون، وللسخط على هذا المشروع معلنون، وله رافضون ولاعنون. وأعداء الدين منهم لا يكترثون بالطعن في الدين وعلمائه وانتهاك مقدَّساته تحت غطاء المعارضة السياسية، وتحت شعار حرِّية الرأي، ولا يتورَّعون من الزجِّ بالعلماء والدعاة والأئمة ـ وهم سادة الأمة وذوو الهيئات الذين تقال عثراتهم ـ في معترك الأحداث التي تناولها الجرائد السيارة، تقليدًا للغرب الذين يتناولون رجال الدين عندهم كما يُتناول المجرم والعربيد واللصّ العنيد. وتجدونهم يقحمون القضايا المحترمة كالفتاوى الشرعية المجمع على صحَّتها في خضمِّ الآراء القابلة للطعن فيها.
وإذا كانت طبيعة التعايش عند الغرب تستلزم احترام الرأي والرأي الآخر، فالأولى من ذلك والأحق بالاحترام ما يصدر عن السادة الفقهاء والأئمَّة العلماء من فتاوى، والتي يجب احترامها شرعًا.
وإذا كان من مذهبهم العلماني الفصل بين الدين والحياة، وأنَّه لا دخل للإمام في شؤون الحياة، فما الذي يبيح لهم أن يتدخَّلوا في شؤون الدين؟!
يحدث هذا كلُّه في ظلِّ غياب الرادع السلطاني المسؤول عن حراسة الدين وحماية البيضة، فكان لا بدَّ من العقوبات الرادعة للأفَّاكين من هؤلاء وهؤلاء.
فنحن إنَّما نفهم أنَّ هذا المشروع الرادع لتصرفات الطائشين ينصرف إلى من يخون الله في دينه وكتابه ورسوله، ويخون وطنه وأمَّته؛ فيدعو إلى خلاف ما أمر الله به من الائتلاف والاجتماع على كتابه وسنة نبيه ونهج أصحابه، ويدعو الناس إلى البدع والخرافات وعبادة القبور ويزرع فيهم بذور الشر والفساد والافتراق، ويحرِّم لهم الحلال ويحلِّل لهم الحرام، فمثل هذا إذا نصب إمامًا أو افتأت على منصب الإمامة أو انتصب صحفيًّا فما أحراه أن تنزَّل به أشدُّ أنواع العقوبات والتعازير، وأن يجعل عبرةً ونكالا لكل مفتئت على منصب الإمامة أو متعاط لوظيفة الإعلام بغير حق وبغير مؤهِّل شرعي علمي وخلقي.
ومع تحفّظنا في كيفية تطبيق هذا المشروع فإنَّنا نقبل به، ولا نرى فيه ما يخالف مهمَّة الإمام التربويَّة والتوجيهيَّة ورسالته الإعلاميَّة والثقافية، وما يتعيَّن عليه من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطه وضوابطه، كما كنت شرحت لكم منها كثيرًا في خطب مضت، وكما سأبسطه إن شاء الله في مناسبة لاحقة.
وقد كان مطرِّف بن عبد الله بن الشخِّير يقول: "لئن لم يكن لي دين حتَّى أقوم إلى رجل معه مائة ألف سيف أرمي إليه كلمة فيقتلني، إنَّ ديني إذًا لضيِّق". رواه ابن عبد البرّ.
يريد رحمه الله أنَّ ديننا أوسع من أن يضيَّق في دائرة واحدة وهي إعلان النكير على السلطان، وأنَّ الله لم يضيِّق علينا في ترك ذلك.
فمجال العمل التربوي والإعلامي بالنسبة للإمام واسع رحب، وهي وظيفة شريفة في غاياتها ووسائلها، مضبوطة بآداب رفيعة وأخلاق كريمة في مبادئها وأهدافها. فلا مجال للتخوُّف أو إعلان السخط.
ونحن إذ ندلي بالنصائح، ونحن أحوج ما نكون إلى من يُسدي إلينا النصيحة، فإنَّنا نراعي فيها الآداب الشرعيَّة المتعلِّقة بالنصيحة مع الكبراء وذوي السلطة، وهي آداب مباينةٌ للطرق الوافدة علينا والغريبة عن ديننا وتقاليدنا، في كيفية توجيه النصيحة، أو في كيفية التعبير عن السخَط وعدم الرضا بالحاكم أو ببعض أعماله.
وقد بيَّن ذلك رسول الله إذ قال: ((من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلاَّ كان قد أدَّى الذي عليه)).
وأنتم تلاحظون الفرقَ بين هذه الطريقة الإسلاميَّة الشريفة المسؤولة في توجيه النصيحة لذي السلطة، أو في التعبير له عن السخط وعدم الرضا ببعض أعماله، وبين الطرق الوافدة الغريبة عن ديننا وتقاليدنا، فهي طريقةٌ وسَطٌ بين طريقة الخوارج الغلاة التي أخذ بها كثير من الوُعَّاظ والخطباء وأدعياء العلم والفتوى والدعوة، وبين طريقة الغرب الجفاة التي أخذ بها كثيرٌ من الصحفيين والإعلاميين والسياسيين في التشهير بالحاكم والجهر له بالتعيير والإعلان له بالنكير.
فمن ابتُلي بوجوب النصح لذي سلطان فالأدب أن يخلوَ به ويكلِّمه فيما بينه وبينه سرًّا، بلطف ورفق ولين، ولا يخشِّن ولا يعيِّر ولا يسبُّ ولا يُعلن له بالنكير جهارا. بهذا جاءت السنَّة، وهكذا كانت أحوال السلف مع أمرائهم. وسوف أبسط لكم هذا في خطبة لاحقة إن شاء الله.
فنحن ـ معاشر الأئمَّة ـ لسنا نعْدُو هذه الآداب الإسلاميَّة الرفيعة في نصيحة الرعيَّة لراعيها.
والله يحفظني وإيَّاكم، ويغفر لي ولكم، وقوموا إلى صلاتكم.
(1/3067)
كيفية النصيحة للأمراء والولاة
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
فرق منتسبة, قضايا دعوية
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عدم صلاحية الطريقة الغربية في الإصلاح. 2- أحاديث وآثار توضح منهج الإسلام في مناصحة الولاة. 3- ابتعاد السلف عن سب الولاة والنيل منهم. 4- السبب في النهي عن سب الوالي الجائر. 5- منهج السلف في مناصحة الولاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيُّها الناس، ما أحوجنا إلى تنوّرنا بالتربية الإسلامية الصحيحة التي نبتعد بها عن الأنموذج الغربي اللاديني في كيفية أداء النصيحة، ومخاطبة الكبراء والوجهاء وذوي السلطة من الحكام والأمراء، وفي طريقة إظهار السخط وعدم الرضا. فمتى كان تخريب البيوت بأيدي أصحابها طريقًا للإصلاح؟! ومتى كان الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل سبيلاً لانفراج الأزمات وتفريج الكربات؟! بل ومتى كانت هذه المظاهرات وما يجري فيها من ضجيج واختلاط وصخب أسلوبًا حضاريًّا في نفسه ونمطًا نموذجيًّا مفروضًا علينا؟! ومتى كانت شعوب القوط والخزر والجرمن والسكسن والغال والإفرنج قدوةً لنا، وقد كانوا بالأمس القريب شعوبًا همجيَّة متوحّشة حفاة عراة، يلبسون جلود الضأن؟! فمن الطبيعي أن تكون أساليبهم في التعبير عن السخط مناسبة لطبيعتهم الهمجيَّة القديمة، لأنًَّ العرق دساس، فمتى كان هؤلاء الضلال الذين أضلَّهم الله عن الدين الحق في شؤون العبادة وشؤون الحياة، متى كانوا قدوة لنا في أساليب التعبير عن السخط؟! وهل خلا ديننا عن بيان السبيل في ذلك؟ كلاَّ.
إنَّنا أمَّة واحدة، وقد أنعم الله علينا بنعمة الإسلام، وشرع لنا الوسائل المفيدة في التعبير عن السخط وفي دفع المكاره والمظالم، وذلك باللجوء إلى الله ملك الملوك الذي نواصي الملوك بيده، فما يصيبنا من جورهم فبما كسبت أيدينا، ثمَّ ثانيًا بالمرافعة بواسطة العريفين الذين هم أعيان العشائر والقرى ووجهاء الناس وعقلاؤهم، كما أمر النبي في حجة الوداع وجعل العرفاء واسطة بينه وبين الناس يرفعون إليه ما يريدونه، وإذا لم تُفد هذه فالأولى كافية وموجبة أثرها ولا بد.
هذا وقد كنت وعدتكم في الخطبة التي مضت أنَّني سأبسط لكم الطريقة الإسلامية في نقد ولاة الأمور من أعلى هرم السلطة إلى أدناه، ولكلِّ من له نوع سلطنة وأتباع من المسلمين، وهذا حين الوفاء، وسيتطلَّب هذا البسط في الشرح شيئًا من التطويل فاصبروا الصبر الجميل، واسمعوا ما يشفي العليل ويروي الغليل.
عن جبير بن نفير أنَّ عياض بن غَنْم قال لهشام بن حكيم: ألم تسمع بقول رسول الله : ((من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلاَّ كان قد أدَّى الذي عليه)) رواه أحمد وابن أبي عاصم وهو حسن بطريقيه.
وعن شقيق بن سلمة، عن أسامة بن يزيد رضي الله عنهما قال: قيل له: ألا تدخل على عثمان فتكلِّمه فيما يصنع؟! فقال: أترون أنِّي لا أكلِّمه إلاَّ أُسمعكم؟! والله، لقد كلَّمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمرًا لا أحبُّ أن أكون أوَّل من فتحه. هذا لفظ مسلم. وعند البخاري: إنِّي أكلِّمه في السرِّ دون أن أفتح بابًا لا أكون أوَّل من فتحه.
قال القاضي عياض: "مراد أسامة أنَّه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام، لما يخشى من عاقبة ذلك، بل يتلطَّف به وينصحه سرًّا، فذلك أجدر بالقبول".
وعن سعيد بن جمهان قال: أتيت عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر، فسلَّمت عليه، قال لي: من أنت؟ قلت: أنا سعيد بن جمهان، قال: فما فعل والدك؟ قلت: قتلته الأزارقة، قال: لعن الله الأزارقة، لعن الله الأزارقة، حدَّثنا رسول الله أنَّهم كلاب النار، قال: قلت: الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلُّها؟ قال: بلى الخوارج كلُّها، قال: قلت: فإنَّ السلطان يظلم الناس ويفعل بهم، قال: فتناول يديَّ فغمزها بيده غمزةً شديدة، ثمَّ قال: ويحك يا ابن جمهان! عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم، إن كان السلطان يسمع منك فائته في بيته فأخبره بما تعلم، فإن قبل منك وإلاَّ فدعه، فإنَّك لست بأعلم منه. رواه أحمد بسند حسن.
وقال عبد الله بن مسعود: (إذا أتيت الأمير المؤمَّر فلا تأته على رؤوس الناس).
وعن السائب بن يزيد أنَّ رجلاً قال لعمر بن الخطَّاب: أن لا أخاف في الله لومة لائم خيرٌ لي أم أقبل على نفسي؟ فقال: (أمَّا من ولي من أمر المسلمين شيئًا فلا يخاف في الله لومة لائم، ومن كان خلوًا فليقبل على نفسه، ولينصح لوليِّ أمره) رواه سعيد بن منصور وعبد الرزاق بسند صحيح.
فأفادت هذه الأحاديث والآثار أنَّ السلطان ومن في معناه لا يُغيَّر عليه منكرُه باليد، ولا يجهر له بالنكير، لأنَّه إن كان عدلاً فيجب رعاية حرمته، فلا يُنصح إلاَّ سرًّا، وإن كان جائرًا فيحذر من أن يؤدِّي ذلك إلى فتح باب الفتن.
ثمَّ إنَّه لا ينكر عليه إلاَّ بالوعظ والتخويف والتذكير، بلطف ورفق، دون سِباب أو تعيير، فإن عجز عن القيام بذلك على الوجه المشروع وجب عليه الصبر والدعاء، ولم يتعرَّض له، كما نصَّ عليه العلماء، ونصوصهم كثيرة لا يتسع المقام هذا لذكرها.
قال ابن عبد البرّ: "إن لم يتمكَّن نصح السلطان فالصبر والدعاء، فإنَّهم ـ أي: علماء السلف ومن تبعهم من الخلف ـ كانوا ينهون عن سبِّ الأمراء".
وعن أبي جمرة قال: لمَّا بلغني تحريق البيت خرجت إلى مكَّة، واختلفت إلى ابن عبَّاس حتَّى عرفني، واستأنس بي، فسببت الحجَّاج عند ابن عبَّاس، فقال: (لا تكن عونًا للشيطان) رواه البخاري في تاريخه.
فلم يكن من عادة السلف سبُّ الأمراء وتعييرهم في السرِّ، فكيف في الجهر؟! فكيف في حال الإنكار؟! بل المنقول عنهم هو النهي عن سبِّ الأمراء والنيل منهم، فإنَّ السلطان إذا كان يقود بالشرع فسبُّه مناف لما يجب على الرعيَّة من إكرامه وإجلاله وتوقيره وتعزيره، كما ورد في الأحاديث والآثار الصحيحة، ومنها ما يلي:
عن زياد بن كسيب قال: كنت مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر وهو يخطب وعليه ثياب رقاق، فقال أبو بلال: انظروا أميرَنا يلبس ثياب الفسَّاق، فقال أبو بكرة: اسكت سمعت رسول الله يقول: ((من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله)) رواه الترمذي والطيالسي والبيهقي وأحمد ابن أبي عاصم وهو حسنٌ بمجموع طريقيه.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنَّه وقف يومًا على باب معاوية، فحجبه لشغل كان فيه، فكأنَّ أبا الدرداء وجد في نفسه فقال: (وإنَّ أوَّل نفاق المرء طعنه على إمامه) رواه ابن عبد البر في التمهيد وابن عساكر.
وعن عمرو البكالي قال: "إذا كان عليك أمير فأمرك بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فقد حلَّ لك أن تصلِّي خلفه، وحرم عليك سبُّه" رواه ابن زنجويه في الأموال بسند صحيح.
وأمَّا إذا كان السلطان فاسقًا فاجرا ظالمًا جائرا فلا حرمة له ولا كرامة، ولكن نهوا أيضًا عن سبِّه، وإنَّما نهَوا عن سبِّه حذرًا ممَّا يؤول إليه سبابه والمجاهرة له بالنكير من المفاسد والشرور العظيمة، والإعانة على سفك الدماء المعصومة وتحريك الفتن المشؤومة.
ولذا نهى السلف عن سبِّ الحجَّاج بن يوسف، مع بغضهم له وشكِّهم في إيمانه، بل أطلق بعضهم أنَّه كافر. وهذا نظير ما ورد في النهي عن سبِّ الشيطان دفعًا لنفخه وشرِّه، لا لحرمته وكرامته، كما ستسمعون بعد حين والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
إنَّ تحريم سبِّ السلطان الفاجر بمنزلة النهي عن سبِّ الشيطان دفعًا لنفخه وشرِّه، لا لحرمة له ولا لكرامة. فكذلك السلطان الجائر لا حرمة له، وقد قال غير واحد من السلف: "لا غيبة لفاسق" روى ذلك ابن أبي الدنيا في الصمت عن إبراهيم النخعي من وجهين.
وإنَّما نهَوا عن سبِّه لما يؤدِّي إليه من الفساد والشرور، وحرمانهم خيره وعدله في الوجوه الأخرى، فإنَّ سبابه مدعاة إلى الزيادة في الطغيان ونقص الخير والعدل.
وقد قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (ما تلاعن قومٌ قطُّ إلاَّ حقَّ عليهم القول) رواه عبد الرزَّاق والبخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة والحاكم، وقال أبو إسحاق السبيعي: "ما سبَّ قومٌ أميرهم إلاَّ حرموا خيره" رواه أبو عمرو الداني في الفتن وابن عبد البرّ في التمهيد، وقال أبو مجلز: "سبُّ الإمام الحالقة، لا أقول: حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين" رواه حميد بن زنجويه في الأموال بسند حسن، وقال الوصَّافي: "ذُكر رجلٌ من بني مروان عند أبي جعفر محمَّد بن علي بن الحسن وأنا عنده، فقال: كفَّ عنهم، فوالله لأعمالهم لتسرع فيهم أشدَّ من السيوف المشهرة عليهم" رواه البيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح، وقال سهيل بن أبي حزم: سمع محمَّد بن سيرين رجلاً يسبُّ الحجَّاج فقال: "مه أيُّها الرجل! إنَّك لو وافيت الآخرة كان أصغر ذنب عملته قطُّ أعظمَ عليك من أعظم ذنب عمله الحجَّاج، واعلم أنَّ الله عزَّ وجلَّ حكم عدل، إن أخذ من الحجَّاج لمن ظلمه شيئًا فشيئًا أخذ للحجَّاج ممن ظلمه، فلا تشغلنَّ نفسك بسبِّ أحد" رواه البيهقي في شعب الإيمان، وقال رياح بن عبيدة: كنت قاعدًا عند عمر بن عبد العزيز، فذكر الحجَّاج فشتمته، فقال عمر: "مهلاً يا رياح! إنَّه بلغني أنَّ الرجل يظلم بالمظلمة، فلا يزال المظلوم يشتم الظالم حتَّى يستوفي حقَّه، ويكون للظالم الفضل عليه" رواه ابن المبارك في الزهد، وعن قتادة قال: سبَّ الحجَّاجَ بنَ يوسف رجلٌ عند عمر بن عبد العزيز، فقال عمر: أظلمك بشيء؟ قال: نعم، ظلمني بكذا وكذا، قال عمر: فهلاَّ تركت مظلمتك حتَّى تقدم عليها يوم القيامة وهي وافرة؟! رواه عبد الرزَّاق في المصنَّف.
وقد يحتجُّ بعضهم في هذا المقام بما صحَّحه الحاكم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبيِّ قال: ((إذا رأيت أمَّتي تهاب الظالم أن تقول له: إنَّك ظالم فقد تودِّع منهم)) فهذا حديث لا يصحُّ، كما بيَّنه ابن عدي والبيهقي وغيرهما.
وبتقدير صحَّته فلا يتناول السلطان لما ذكر، وللأحاديث الآمرة بالصبر على جوره، وبتقدير تناوله للسلطان فليس في قوله: إنَّك ظالم، ما يدلُّ على مشروعية الإعلان له بذلك جهارًا، ولا أن يقال له ذلك سِبَابًا وتعييرًا، بل غاية ما فيه التصريح بمقتضى حاله من كونه ظالمًا جائرًا. ومع هذه التقادير فالحديث لا يصحُّ كما بيَّنه الحفاظ النحارير.
وأمَّا ما يذكره بعض الناس أنَّ من عادة السلف التعرُّض للأخطار والتصريح بالإنكار، فهذا حيث ينفع ذلك، وحيث كانت الأمراء تقبل منهم وتصغي إليهم، وحيث كانت المصلحة في تقديرهم راجحة، ومع هذا فلم يكونوا ينكرون على أمرائهم بالسبِّ والتعيير.
وعامَّة ما يُروى من الأخبار والحكايات في أنَّهم كانوا يغلظون لهم في الإنكار عليهم فليس بصحيح، وما صحَّ منها فله محامل معروفة، على أنَّ فعل الواحد والاثنين إذا لم يكن هديًا عامًّا للسلف فليس بحجَّة، فكيف إذا كان الهدي العامُّ بخلافه؟!
ثمَّ إنَّه لا يخفى أنَّ الذي يسبُّ السلطان يعرِّض أبويه لأن يسبَّهما السلطان أو أعوانه كما تجري به عادة الفسَّاق عمومًا وذوي السلطان خصوصا، فيكون هو المتسبِّبَ في سبِّ والديه، وقد قال رسول الله : ((إنَّ من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه)) ، قيل: كيف يسب والديه؟! قال: ((يسبُّ الرجلُ أبا الرجل فيسبُّ أباه...)) الحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وثبت عن النبيِّ أنَّه قال: ((ليس المؤمن باللعان ولا بالطعَّان)) أخرجه الترمذي وأحمد وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد وهو حديث صحيح وله شواهد، وقال : ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وهذا يعمُّ كلَّ مسلم تقيًّا كان أو فاسقًا، برّا أو فاجرا، من أهل السنة أو من أهل البدع، طالما أنَّهم كلُّهم يشملهم لفظ المسلم، ولا دليل على الاستثناء.
فإذا كان سباب السلطان المسلم فسوقًا فكيف يكون مباحًا؟! بل كيف يكون مندوبًا إليه؟!
ثمَّ الذين غلطوا فوقعوا في شيء من ذلك قد تابوا وندموا وتبرَّموا مما فعلوا، والآثار في ذلك يطول ذكرها.
وحسبكم منها ما جاء عن أبي معبد عبد الله بن عكيم قال: لن أعين على دم خليفة بعد عثمان أبدًا، فقيل له: يا أبا معبد، أعنت على دمه؟! قال: إنِّي أعدُّ ذكر مساوئه عونًا على دمه. رواه الدولابي في الكنى.
وهذا مثل ما كان يحكيه لكم قديمًا بعض الوعاظ أنَّ عمر بن الخطاب خطب فقال: لئن ملت فعدِّلوني، فقالوا له: لو ملت عدَّلناك بحدِّ سيوفنا... ونحو هذا من الحكايات، وهي حكايات باطلة، لا وجود لها في كتب الإسلام بإسناد مقبول.
فلمَّا امتنعت الأمراء عن الإصغاء إلى الناصحين، ورُفعت العصيُّ والسيوف على من يحاول التصدِّي لهم بالإنكار عليهم، امتنع السلف بعد ذلك من الدخول عليهم، لكي لا يضطرُّوا إلى الإنكار عليهم وتكذيبهم.
قال ابن عبد البرّ: "وأمَّا مناصحة ولاة الأمر فلم يختلف العلماء في وجوبها، إذا كان السلطان يسمعها ويقبلها، ولمَّا رأى العلماء أنَّهم لا يقبلون نصيحًا ولا يريدون من جلسائهم إلاَّ ما وافق هواهم زاد البعد عنهم والفرار منهم"، وقال ابن مفلح: "فأمَّا ما جرى للسلف من التعرُّض لأمرائهم فإنَّهم كانوا يهابون العلماء، فإذا انبسطوا احتملوهم على الأغلب".
وعن هذيل بن شرحبيل قال: خطبهم معاوية فقال: يا أيُّها الناس، وهل كان أحد أحقَّ بهذا الأمر منِّي؟! قال: وابن عمر جالس، قال: فقال ابن عمر: هممت أن أقول: أحقُّ بهذا الأمر منك من ضربك وأباك على الإسلام، ثمَّ خفت أن تكون كلمتي فسادًا، وذكرت ما أعدَّ الله في الجنان، فهوَّن عليَّ ما أقول. رواه ابن أبي شيبة.
وعن طاوس قال: أتى رجل ابن عبَّاس فقال: ألا أقدم على هذا السلطان فآمره وأنهاه؟ قال: لا، يكون لك فتنة... رواه عبد الرزَّاق وابن أبي شيبة والبيهقي بسند صحيح، وعن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عبَّاس: آمر السلطان بالمعروف وأنهاه عن المنكر؟ قال: إن خفت أن يقتلك فلا، ثمَّ عدت الثالثة فقال لي مثل ذلك، وقال: إن كنت لا بدَّ فاعلاً ففيما بينك وبينه.
وقيل لداود الطائي: أرأيت رجلاً دخل على هؤلاء الأمراء فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر؟ قال: أخاف عليه السوط، قال: إنَّه يقوى، قال: أخاف عليه السيف، قال: إنَّه يقوى، قال: أخاف عليه الداء الدّفين من العجب. رواه أبو نعيم.
فالسلطان الممتنع من الإصغاء إلى النصيحة، الحامل سوطه وسيفه على من ينكر عليه، قد سقط وجوب الإنكار عليه، بل يحرم إن كان يؤول إلى نشر الفتنة والفساد. ومن قوي على الإنكار فالأدب أن يخلو به ويكلِّمه فيما بينه وبينه سرًّا، بلطف ورفق ولين، ولا يخشِّن ولا يعيِّر ولا يسبُّ ولا يُعلن له بالنكير جهارا. بهذا جاءت السنَّة، وهكذا كانت أحوال السلف مع أمرائهم.
قال ابن القيِّم: "من دقيق الفطنة أنَّك لا تردُّ على المطاع خطأه بين الملأ، فتحمله رتبته على نصرة الخطأ وذلك خطأ ثان، ولكن تلطَّف في إعلامه به حيث لا يشعر به غيره".
عباد الله، هذه هي طريقة الإسلام وسعة الدين في نقد الولاة ونحوهم من الكبراء وذوي الهيئات من الوجهاء، لا كتلك الطرق الوافدة علينا من الأمَّة الغضبية الملعونة، أمة المغضوب عليهم من اليهود، ومن الأمَّة الضالة أمَّة النصارى الضالين.
وأنتم تلاحظون هذا الفرق الكبير بين طريقة الإسلام في التعبير عن السخط وعدم الرضا، وفي أسلوب النقد وكيفية توجيهه، وبين طريقة الغرب الجفاة التي قلَّدهم فيها أذنابهم من المتعاطين للصحافة والإعلام، وكذا أرباب الأحزاب السياسية وجماهيرهم التي يسوقونها كما تساق البعير، ليملأوا بها الشارع ضجيجًا وصخبا.
فالحمد لله على سماحة الإسلام وسعة الدين ويسره، والحمد لله على رحمته بعباده وعلى رفقه بهم ولطفه وتيسيره. ما جعل علينا في الدين من حرج، فتضيقَ قلوبنا، وإنَّما تضيق قلوب المجادلين بالباطل، الذين ضاقت عليهم سبل الهدى، فلا تنطلق ألسنتهم إلاَّ بالسباب والقذف والأذى.
أقول ما تسمعون والله يغفر لي ولكم، وقوموا إلى صلاتكم.
(1/3068)
العلمانية وخطرها
أديان وفرق ومذاهب
أديان
إبراهيم بن محمد الفارس
المجمعة
جامع الجزيرة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب تتبع طرق الشر والتحذير منها. 2- مدلول العلمانية ومفهومها. 3- أنواع الجاهلية. 4- الفصل بين العقيدة، والسلوك والمعاملات هدف العلمانية. 5- حكم العلمانية. 6- بعض صور الإفساد في الأرض. 7- إنكار ما ورد في صحيفة محلية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإن تقوى الله هي النجاة غدًا، والمنجاة أبدًا، والعاقبة للتقوى.
أيها المسلمون، لقد أنزل الله الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون، وأرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ففتح به أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا، وبدد بدعوته ظلمات الجهل والحماقة، وأسقط الأغلال التي كانت على العقول، فأصبحت عبادة الأصنام في ميزان المسلم إفكًا قديمًا، ويعجب المسلم فيما يعجب، من سخف المشركين، وصدق الله تعالى إذ يقول: مَن يَهْدِ ?للَّهُ فَهُوَ ?لْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا [الكهف:17].
عباد الله، غير أنه يجب أن نذكر دائمًا أن البلاء مستمر، ومادة الشر باقية، وشياطين الإنس والجن مستمرون في ترويج الضلال، حتى زخرفوه بكل لون، وروجوا له بكل لسان: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شَيَـ?طِينَ ?لإِنْسِ وَ?لْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى? بَعْضٍ زُخْرُفَ ?لْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112]، ومن الواجب أن نتتبع طرق الغي، بالتحذير منها وكشف مراميها وأبعادها، وسد السبل على دعاتها، حتى يكون المسلمون على بينة من ربهم وبصيرة من سبيلهم، ولا يضرهم انتحال المبطلين أو كيد الكائدين.
ولقد شاعت في دنيا المسلمين اليوم، فلسفات وأنظمة خدعت الكثيرين منا ببريقها، وانتشرت شعارات ومصطلحات لو قدر لها أن تنتشر، لم تأت على شيء إلا جعلته كالرميم، ومن تلك الأفكار، الفكر الصليبي (غير الديني)، وهو ما يسمى بالعلمانية، التي تسربت إلى مجتمعات المسلمين، ولعل أحد التحديات الخطيرة، التي تواجه أهل السنة الجماعة في هذا العصر هي إسقاط اللافتات الزائفة، وكشف المقولات الغامضة، وفضح الشعارات الملتبسة، التي تتخفى وراءها العلمانية، التي تبث سمومها في عقول وقلوب أبناء هذه الأمة.
ومدلول هذا المصطلح وفكره، هو إقامة الحياة على غير دين، سواء بالنسبة للأمة أو الفرد، إن هذه العلمانية، لهي أكبر نقيض للتوحيد.
عباد الله، ولقد تغيرت بعض مظاهر العبادة، فلم يعد هناك تلك الأوثان التي كان العرب في شركهم يعبدونها، ولكن عبادة الشيطان ذاتها لم تتغير، وحلت محل الأوثان القديمة أوثان أخرى، كالحزبية والقومية والعلمانية، والحرية الشخصية والجنس وغيرها... وعشرات الأوثان الجديدة، إن العلمانية- عباد الله – تعني بداهة : الحكم بغير ما أنزل الله، وتحكيم غير شرع الله، وقبول الحكم والتشريع والطاعة من الطواغيت من دون الله، فهذا معنى قيام الحياة على غير الدين وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [المائدة:44].
عباد الله، والجاهلية أنواع، منها جاهلية الإلحاد بالله سبحانه وإنكار وجوده، فهي جاهلية اعتقاد وتصور كجاهلية الشيوعيين، ومنها اعتراف مشوه بوجود الله سبحانه، وهي جاهلية الاتباع والطاعة، كجاهلية الوثنيين واليهود والنصارى، وفيها اعتراف بوجود الله سبحانه، وأداء للشعائر التعبدية، مع انحراف خطير في تصور دلالة شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم مسلمين من العلمانيين، ويظنون أنهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحققوه بمجرد نطقهم بالشهادتين، وأدائهم للشعائر التعبدية، مع سوء فهمهم لمعنى الشهادتين، ومع استسلامهم لغير الله من العبيد.
عباد الله، والعلمانية، تجعل العقيدة والشعائر لله وفق أمره، وتجعل الشريعة والتعامل مع غير الله وفق أمر غيره، وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله، لأن أهل الجاهلية الأولى لم ينكروا وجود الله، قال تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ لَيَقُولُنَّ ?للَّهُ [لقمان:25]، وكذلك لدى أهل الجاهلية الأولى بعض الشعائر التعبدية، قال تعالى: وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ?لْحَرْثِ وَ?لأَنْعَامِ نَصِيباً [الأنعام:136]، ومع ذلك فقد حكم الله عليه بأن ذلك كفر وجاهلية، وعد تلك الأمور جميعها صفرًا في ميزان الإسلام.
عباد الله، وكذلك فإن بيننا اليوم ممن يقولون: إنهم مسلمون، من يستنكرون وجود صلة بين العقيدة والأخلاق، وبخاصة أخلاق المعاملات المادية، وفي مجتمعنا الواسع أناس حاصلون على الشهادات العليا من بعض جامعات العالم، يتساءلون أولاً في استنكار: ما للإسلام وسلوكنا الاجتماعي؟! وما للإسلام واختلاط الرجال مع النساء على الشواطئ والمنتزهات؟! وما للإسلام وتعليم العلوم الطبيعية؟! وما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟! وما للإسلام والمرأة وقيادتها للسيارة واختلاطها بالرجال وحريتها الشخصية في سفرها بدون محرم وتصرفها في شؤونها؟!
وهم يتساءلون ثانيًا: بل بشدة وعنف أن يتدخل الدين في الاقتصاد، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد، ويقولون: ما للدين والمعاملات الربوية؟! وما للدين والسياسة والحكم ؟! بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الاقتصاد أفسدته، فلا يذهبنّ بنا الترفع كثيرًا عن أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى، حين قالوا لنبي الله شعيب: أَصَلَو?تُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشَؤُا [هود:87].
والعالم اليوم في جاهلية أشد جهالة، ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة وسلوك الشخص في الحياة والمعاملات المادية، تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود، وبعد أن استهلكت هذه الألفاظ، أضافت الجاهلية اليوم وصفهم بالتطرف!! أليس هذا هو بعينه ما يريده رافعوا شعار: "الدين لله والوطن للجميع" من أدعياء الإسلام من العلمانيين، الذين أفسدوا البلاد والعباد؟ قاتلهم الله أنى يؤفكون.
أيها المسلمون، إن من عادة المنافقين من علمانيين وحداثيين وغيرهم من المنتسبين لهذا الدين، عدم الإنكار الصريح والواضح، وعدم إظهار العداء السافر للإسلام، وهم يتخذون سلاح التلبيس والتمويه للالتفاف حول المسلمين، لحين المعركة الفاصلة، حتى يفاجئوا المسلمين على حين غرة، من أجل ذلك يرفع هؤلاء الزنادقة من العلمانيين وأشباههم شعارات، يحاولون بها خداع أكبر عدد ممكن من المسلمين، وتهدئة قلوب القلة التي قد تفضحهم وتشوش عليهم وتكشفهم للناس، هؤلاء الذين يرفعون شعارات العلمانية، بينما يسعون بواقعهم العملي لاقتلاع الإسلام من جذوره ولكن رويدًا رويدًا، فهم يحرصون على كل طريق يوصل لوسائل الإعلام.
عباد الله، إن العلمانية التي ولدت وترعرعت في أحضان الجاهلية، لهي كفر بواح لا خفاء فيه ولا ريب ولا التباس، ولكن الخفاء والريب والالتباس، إنما يحدث عمدًا من دعاة العلمانية أنفسهم، لأنهم يعلمون أنه لا حياة ولا اهتداء بجاهليتهم في بلاد المسلمين إلا من خلال راياتهم الزائفة، التي تخفي حقيقة أمرهم وباطن دعوتهم عن المسلمين، وتلبس على العامة أمر دينهم وعقيدتهم، بل وتحقرهم ضد إخوانهم الصادقين الداعين بحقيقة هذا الصراع، المنبهين إلى خطرهم الداهم على الدين وأهله، ومن هؤلاء ـ عباد الله ـ يجب التوقي والحذر، وأن لا يغتر المسلمون بكونهم من بني جلدتهم ويتكلمون بلغتهم، فلقد جاء في الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: ((نعم)) فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ((نعم، وفيه دَخَن)) ، قلت: وما دَخَنه؟ قال: ((قوم يَسْتَنون بغير سنتي، ويَهْدُون بغير هديِي، تعرف منهم وتنكر)) فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها)) فقلت : يا رسول الله، صفهم لنا، قال: ((نعم، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا...)) الحديث. وفي لفظ لمسلم: ((وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جُثمان إنس)) ، ولقد صدق الله: وَجَعَلْنَـ?هُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ?لنَّارِ وَيَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ لاَ يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَـ?هُم فِى هَذِهِ ?لدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَـ?مَةِ هُمْ مّنَ ?لْمَقْبُوحِينَ [القصص:41، 42].
نسأل الله أن يحفظ على المسلمين دينهم، وأن يكفيهم شر الأشرار، وكيد الفجار، وأن يرزقهم اليقظة من إفساد المفسدين ونفاق المنافقين، وأقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولعموم المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، وللمستفهم أن يقول : كيف يكون بعض المسلمين دعاة على أبواب جهنم؟ فالجواب هو أنهم كذلك ببثهم الفساد والانحراف، وإشاعة الفاحشة في مثل صور فاتنة، أو مقالات تخدش الحياء، من خلال الصحافة مثلاً أو في مجال التعليم، بزرع المبادئ الهدامة بين الطلاب من خلال كوادر غير أمينة، أو من خلال منظري التطوير التعليمي في سائر البقاع، فيما يقدمونه من الحد والتقليص لما يقوي صبغة الله في نفوس الطلاب وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138]، أو التقليل من شأن العلوم الدينية، في مقابل الحرص الدؤوب على تكثيف ما عداها.
ويكون الإفساد ببث أفكار تسيء إلى الإسلام وأهله وتحارب الدعوة إليه، وتزدي الدعاة وتسخر منهم، وتنادي بعزل دين الناس عن دنياهم وهذا ما طالعتنا به جريدة محلية تدعى "الوطن" وهي بحق مثيرة الفتن، في عددها الصادر يوم الثلاثاء قبل الماضي السادس من شهر صفر، تحت عنوان: "دعاة لا معلمون"، لكاتب دعي حاقد على الدعوة والدعاة، سائته حراسة الفضيلة قبل ذلك فقال فيما قاله: "إن سببًا رئيسًا أدى إلى تدني مستوى التعليم في بلادنا، وهو اهتمام كثير من المؤسسات والأفراد بما يسمى "الدعوة"، فأنكر المخيمات والمعارض الدعوية، إلى أن قال: "لهذا أصبحنا محاطين (بالدعوة) و(الدعاة) من كل جانب"، وينفر ممن يذكر الناس بالموت وأهمية الحجاب والجهاد والتحذير من الدجال والسحر، ويستنكر أن تدخل الدعوة في علوم الطبيعة والرياضيات، واتهم المناهج في بلادنا أنها هي السبب في وجود هؤلاء الدعاة، وكأنها جريمة لا تغتفر، حيث قال: "فقد اصطبغت الكتب الدراسية جميعها بصبغة دينية"، إلى أن قال مستنكراً: "فلا تدرس مادة اللغة الإنجليزية مثلاً ذاتها، بل لتكون وسيلة للدعوة إلى الله، وتمتلئ كتب هذه المادة بالحديث عن الإسلام" انتهى كلام هذا المغرض.
أيها المسلمون، إن هذا الحاقد على الدعوة والدعاة لا يعدو قدره، إلا أن الواجب على كل مسلم أن يقوم بما أوجب الله عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدفاع عن دين الله، والإنكار على الجريدة، والرفع عنه لولاة الأمر لمحاسبته وتأديبه، ليتعظ هو نفسه، وليرتدع به غيره، أما أن يترك الحبل على الغارب لكل دعي جاهل ليحارب الإسلام في أرضه، دون أن يقف من أهل الغيرة أحد في وجهه ووجه كل من سانده وأعانه فلا يسوغ أبدًا: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِو?حِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى? وَفُرَادَى? [سبأ:46]، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
(1/3069)
سلاح المؤمن الدعاء
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
إبراهيم بن محمد الفارس
المجمعة
جامع الجزيرة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الدعاء ومكانته. 2- الدعاء والالتجاء إلى الله سبيل النجاة عند البلاء. 3- آداب الدعاء. 4- مشروعية القنوت في النوازل. 5- فتوى اللجنة الدائمة في أمر القنوت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوا أمره ولا تعصوه.
عباد الله، إن الإيمان بالله سبب الأمن والأمان، الإيمان يجعل الخوف من الله وحده، ولا أمان فيما سواه: ?لَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالـ?تِ ?للَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ?للَّهَ [الأحزاب:39]، ولهذا كانت الصدور الجوفاء من الإيمان البعيدة من الله، مليئة بالخوف والهلع والجزع والاضطراب والحيرة.
أيها المسلمون، وإذا امتلأ القلب إيماناً، عرف صاحبه ملجأه ودواءه ومفزعه وشفاءه. إن الحياة قد طبعت على كدر، وقلما يسلم الإنسان من خطر، مصائب وأمراض، حوادث وأعراض، أحزان وحروب وفتن، ظلم وبغي، هموم وغموم، إلا أن الله تعالى لطيف بعباده رحيم بخلقه، فتح لهم باباً يتنفسون منه الرحمة، وتنزل به على قلوبهم السكينة والطمأنينة، ألا وهو باب الدعاء.
المتيقظون يلجؤون إلى حصن الإيمان وسلاح الدعاء، يفرون إلى جناب الله تعالى، ويلتجئون بحماه، يدركون أن الخلائق فقراء إلى الله هَلْ مِنْ خَـ?لِقٍ غَيْرُ ?للَّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ [فاطر:3]، ومن يهدي من أضل الله؟ من لم يتفضل الله عليه بالهداية والإيمان ومغفرة الذنوب فهو الهالك في الدنيا والآخرة، ولقد أدركوا فيما أدركوا أن المفزع في هذا الخضم من الحيرة والتذبذب والخوف، لقد أدركوا أن المفزع بعد الإيمان هو الدعاء، السلاح الذي يُستدفع به البلاء، ويُرد به شر القضاء، وهل شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء، كيف والله سبحانه يحب ذلك من عبده، وانطراحه بين يديه، والتوجه بالشكوى إليه، بل أمر عباده بالدعاء ووعدهم بالإجابة: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
فكم من بلية ومحنة رفعها الله بالدعاء، ومصيبة كشفها الله بالدعاء؟ وكم من ذنب ومعصية غفرها الله بالدعاء؟ وكم من رحمة ونعمة ظاهرة وباطنة استجلبت بسبب الدعاء؟ روى الحاكم والطبراني بسند حسن عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع فيما نزل وفيما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء، فيعتلجان إلى يوم القيامة)) رواه الحاكم والطبراني بسند حسن وله شاهد عند أحمد.
والدعاء قربة الأنبياء: إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـ?شِعِينَ [الأنبياء:90]، لا يهلك مع الدعاء أحد، ولا يخيب من لله رجا وقصد، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يَصْرف عنه من السوء مثلها)) قالوا: إذاً نكثر؟ قال: ((الله أكثر)) رواه الإمام أحمد والحاكم. وفي كتاب ربنا أكثر من ثلاثمائة آية عن الدعاء.
أيها المسلمون، إن التضرع إلى الله، وإظهار الحاجة إليه، والاعتراف بالافتقار إليه، من أعظم عرى الإيمان، وبرهان ذلك الدعاء والإلحاح في السؤال.
إخوة الإسلام، لقد مر على الأمة أزمات وابتلاءات ومآزق، فكان اللجوء إلى الله هو سبيل النجاة، والله تعالى يبتلي الناس لترق قلوبهم، ويلجؤوا إليه بصدق وتضرع: وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى? أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـ?كِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنعام:42، 43]، ولقد كان بعض المشركين الأوائل، إذ نابتهم النوائب واشتد عليهم الخطب، عرفوا أي باب يطرقون، وأين يلجؤون ويهرعون، فدعوا الله مخلصين له الدين، وهذه أمة الإسلام اليوم أحوج ما تكون إلى ربها ولطفه ونصره وعطفه، والله سبحانه لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو وحده الذي يسمع دعاء الداعين أينما كانوا، وبأي لغة تكلموا، لا يشغله سمع عن سمع، ولا يتبرم بكثرة الداعين وإلحاح الملحين، هو سبحانه الذي لا تشتبه عليه الأصوات، ولا تختلف عليه الحاجات، يعلم ما في الضمائر وما تنطوي عليه السرائر، وهو الذي ينفع ويضر على الحقيقة، دون أحد من الخلائق.
أيها المسلمون، الدعاء حبل ممدود بين السماء والأرض، يقدره حق قدره عباد الله المخلصون، هو الربح ظاهر بلا ثمن، وهو المغنم في الدنيا والآخرة بلا عناء، هو التجارة الرابحة، يملكها الفقراء كما يملكها الأغنياء على حد سواء، يتفاوت الناس في هذه العبادة بين مُقِل ومستكثر، بين حاضر القلب وشارد الذهن، بين خاشع متأمل لما يقول، وبين قاسي القلب لا يتأثر ولا يلين، وهو طريق للفلاح في الآخرة، وهو سبب من أسباب السعادة في الدنيا بإذن الله، ذلكم هو الدعاء بل هو العبادة، وهل علمت ـ أخا الإسلام ـ أن المقصر في الدعاء من أعجز الناس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام)) هذا فضل الدعاء وأهميته.
وللدعاء آداب وسنن تخفى على كثير من الناس، ومعرفتها والعمل بها سبب في استجابة الدعاء بإذن الله، فمنها:
أن يبتدئ الداعي دعوته بحمد الله والثناء عليه، والاعتراف بتقصير العبد وحاجته إلى الله، وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو ويقول: اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحدا. فقال صلى الله عليه وسلم: ((لقد سألت الله تعالى بالاسم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب)) رواه أبو داود، وفي رواية: ((لقد سألت الله باسم الله الأعظم)) وتأمل في دعاء ذي النون، إذ دعا ربه وهو في بطن الحوت: لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:87]، ((لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له)) رواه الحاكم بإسناد صحيح.
وإذا كان هذا الثناء على الله تعالى في بدء الدعاء، فإن من سننه ختمه بالصلاة والسلام على رسول الله ففي صحيح الجامع: ((كل دعاء محجوب حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم)) فالعمل بهاتين السنتين أرجى للقبول، وأدعى لفتح أبواب السماء. ومن سنن الدعاء أن يختار الداعي الأوقات الفاضلة، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الدعاء أسمع؟ قال: ((جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات)) رواه الترمذي. وإن في يوم الجمعة ساعة، لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي، يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه.
ومن آداب الدعاء، بل هو من أهم الآداب وهو: حضور القلب وخشوعه لله، ومعرفة ما يدعو به، فإن الغافل اللاهي تتحرك شفتاه بالدعاء وقلبه مشتغل بأمر آخر، وأنى لهذا الدعاء أن يصعد للسماء، والحق يرشدنا إلى هذا الأدب ويقول: ?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاهٍ)) رواه الترمذي.
ومن آداب الدعاء وسننه: أن يستقبل القبلة ويكون على طهارة، فذلك أقرب للقبول، وإن لم يكن ذلك شرطًا لازمًا، فيمكن أن يدعو المرء على كل حال، وفي أي اتجاه كان، لكن إن تيسر له الاستقبال وكان على وضوء، فهو أولى وأحرى، ومن آداب الدعاء: أن يعزم الداعي الدعاء ويوقن بالإجابة، قال سفيان بن عيينة رحمه الله: لا يمنعن أحدكم من الدعاء ما يعلمه من نفسه، فإن الله تعالى أجاب شر المخلوقين إبليس إذ قال: فَأَنظِرْنِى إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ?لْمُنظَرِينَ [الحجر:36، 37].
ومن آداب الدعاء عدم التكلف فيه، وخفض الصوت وتكراره ثلاثًا، والإلحاح فيه والدعاء في الرخاء، إذ هو سبب لقبول الدعاء في حال الشدة والضر، ويبقى بعد ذلك أمر مهم وهو معرفة موانع الاستجابة للدعاء ليتجنبها، ومن أبرز أسباب عدم قبول الدعاء: المطعم الحرام، والملبس الحرام، والاستعجال في الدعاء، والتوقف عنه، يقول صلى الله عليه وسلم: ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت ربي فلم يستجب لي)) وفي رواية لمسلم: قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: ((يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)).
أيها المسلمون، وبعد التذكير بهذه العبادة العظيمة، نجد أنفسنا بحاجة إليها في كل وقت وحين، لا سيما في زماننا هذا، الذي نرى فيه حربًا عقدية مُسَيَّسة، كلما انطفأت في بقعة من بلاد المسلمين اشتعلت في بقعة أخرى، والهدف منها يعرفه كل من له أدنى بصيرة، ألا وهو طمس الهوية وإبادة الشعوب المسلمة، وأرض العراق شاهدة حاضرة، لا تحتاج إلى سرد أدلة ولا إظهار براهين خافية، فيا أخا الإسلام ما موقفك؟ وأي جهد قدمته لإخوانك؟ فإن أعوزك المال وليس كل أحد يعوزه، ففي اللسان والقلب متسع للدعوة والدعاء، والحب والنصرة للمسلمين، والبغض والمعادة للكافرين، لا يسوغ لك بحال أن تسمع أخبار المسلمين في تلك البلاد وغيرها، وكأنها لا تعنيك، ابدأ بنفسك في إصلاحها، وجاهد قلبك ونفسك ولسانك بالدعاء لإخوانك، ولا تنس تذكير أهلك وزوجك وأبنائك بعبادة الدعاء في صلاتهم وقنوتهم وسجودهم، في جميع أحوالهم، فرب أشعث أغبر ذي طِمْرَين، مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: هُوَ ?لَّذِى يُرِيكُمْ ءايَـ?تِهِ وَيُنَزّلُ لَكُم مّنَ ?لسَّمَاء رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ فَ?دْعُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [غافر:13، 14]، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وألهمنا الدعاء والتسبيح والاستغفار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الواحد القهار، المتصرف في خلقه بما يشاء ويختار، يقبض ويبسط ويرفع ويخفض، يجعل بعض خلقه لبعض فتنه، وله في كل تصريف حكمة، وفي كل محنة على المؤمن منحة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، إن الناس جميعًا ـ وأخص المسلمين منهم ـ يعيشون هذه الأيام نازلة حلت ببلاد من بلدانهم، وشعب من بني جلدتهم، تسلط عليهم حاكم جائر، سلب أموالهم وأثخن فيهم قتلاً وتعذيبًا وأسرًا وسجنًا، ثم تحالفت عليهم بسببه علوج النصارى الحاقدين، فأصبحت أرض العراق ميدانًا لتجريب أسلحتهم، فكان التدمير والخراب ولا يزال، ولذا أصبح القنوت في الصلوات مشروعًا في حق كل إمام، وإذا لم يقنت إمام المسجد في هذه النازلة فمتى يقنت إذن؟؟ ولذا يحسن التذكير بأحكامه، وقد بينت اللجنة الدائمة للإفتاء شيئًا منه، والفتوى برقم 20926 وتاريخ 26/4/1420هـ إذ قالت:
أولاً: القنوت في النوازل العارضة التي تحل بالمسلمين من الأمور المشروعة في الصلاة، وهو من السنن الثابتة والمستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، في الصحيحين وغيرهما من كتب السنة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بعث الرسول صلى الله عليه وسلم سبعين رجلاً لحاجة يقال لهم القراء، فعرض لهم حيان من سليم: رِعْل وذَكْوان عند بئر يُقالُ لها: بئرُ مَعُونة، فقال القومُ والله ما إياكم أردنا، وإنما نحنُ مُجتازون في حاجة النبي صلى الله عليه وسلم فقتلوهم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم شهراً في صلاة الغداة، وعن أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركعة في صلاة شهراً إذا قال: سمع الله لمن حمده، يقول في قنوته: ((اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم نج سلمة بن هشام، اللهم نج عياش بن أبي ربيعة، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف)) إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة والمشهورة.
ثانيًا: المقصود بالنوازل التي يشرع فيها الدعاء في الصلوات؛ هو ما كان متعلقًا بعموم المسلمين، كاعتداء الكفار على المسلمين، والدعاء للأسرى، وحال المجاعات، وانتشار الأوبئة، وغيرها...
ثالثًا: قنوت النوازل يكون بعد الركوع من آخر ركعة في الصلاة، وفي جميع الصلوات المفروضات، جهرية كانت أو سرية، وآكد ذلك في صلاة الفجر، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح، في دبر كل صلاة، إذا قال: سمع الله لمن حمده، من الركعة الآخرة، يدعو على أحياء من بني سليم، على رِعْل وذكوان وعُصَيَّة، ويؤمِّن من خلفه) خرجه الإمام أحمد وأبو داود.
رابعًا: ليس هناك دعاء معين يدعى به في النوازل، بل يدعوا المسلمون في كل وقت ما يناسب حالهم في النازلة، ومن دعا في النوازل بدعاء قنوت الوتر الوارد: اللهم اهدنا فيمن هديت... الخ فقد خالف السنة ولم يأت بالمقصود، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقنت في النازلة بذلك، وإنما كان يعلمه الناس في دعاء الوتر.
خامسًا: قنوت النوازل مشروع من حين وقوع النازلة، ويستمر إلى حين انكشافها.
سادسًا: على أئمة المساجد ـ وفقهم الله ـ الاجتهاد في معرفة السنة، والحرص على العمل بها في جميع الأمور، فالناس بهم يقتدون، وعنهم يأخذون، فالحذر الحذر من مخالفة السنة غلوًا أو تقصيرًا.
ومن ذلك الدعاء في قنوت الوتر والنوازل، فالمشروع الدعاء بجوامع الكلمات، والأدعية والواردة، في حال من السكون والخشوع، وترك الإطالة والإطناب، والمشقة على المأمومين، وعلى الإمام أن لا يقنت إلا في النوازل العامة. والحمد لله رب العالمين.
(1/3070)
أسباب محبة الله تعالى (1)
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الله عز وجل
عبد الله بن علي الهزاني
الرياض
20/10/1422
جامع رياض الصالحين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المحبة الصادقة تستلزم الطاعة والانقياد التام. 2- قراءة القرآن بتدبر من أعظم الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى. 3- النوافل تكمل نواقص الفرائض. 4- دوام ذكره تعالى سب لرفعة الدرجات. 5- عند نزعات الهوى تظهر المحبة الصادقة. 6- معرفة الله تعالى تحصل بمطالعة أسمائه سبحانه وصفاته. 7- على قدر المحبة تكون الطاعة والعبادة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، واعبدوا ربكم الذي خلقكم وإليه ترجعون.
عباد الله، إن هذه الأجساد التي نحملها، والأعضاء التي نحركها، لا يمكن أن نسيرها إلا بمشيئة الله تعالى، ثم بحسب مشاعرها التي تكنها بين جنباتها، فهي للمشاعر تبع، ولا يمكن أن تعرف مُحبًا لشيء ولا مبغضًا له إلا بفعله تجاهه وموقفه منه، لا بكلامه وإن كثّّره وزيّنه وحلف عليه، والعمل كثيراً ما تلحقه الآفات والنقائص، أما إذا استجمع العبد في قلبه محبة صادقة خالصة دائمة لله ورسوله، فإن ذلك يعوض نقصان عمله، فالمحبة يزكو بها العمل ويبارك بها في الجهد، والعمل برهانها ودليل وجودها.
واسمع ـ يا رعاك الله ـ إلى هذا الحديث الصحيح، الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، ورواه الصحابي الجليل أنس بن مالك : أَنَّ رَجُلا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ: فَقَالَ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: ((وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟)) قَالَ: لا شَيْءَ إِلا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ((أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)) ، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)) قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ، فلماذا فرح الصحابة يا ترى بهذا الحديث من رسول الله كل هذا الفرح بعد فرحهم بدين الإسلام؟
ذلك أنهم عرفوا بأن الصدق في محبة الله تعالى ورسوله ، يدرك بها المرء منزلة عالية عند الله، قلما توصل إليها الأعمال، فمحبة الله عز وجل رأس كل أمر، وهي كما قال ابن القيم رحمه الله: "قوت القلوب وغذاء الأرواح، وقرة العيون وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات".
ولكن ينبغي لك ـ أيها المسلم المبارك ـ أن تستيقظ وتنتبه، وتعلم أن هذه المحبة لله لا تنفصل عن العمل، بل العمل ثمرة من ثمارها، فالمحب لا يستغني عن طاعة محبوبه، فكما أن كل عمل يؤدى بلا محبة لا روح فيه، فكذلك كل محبة تُدّعى بغير عمل لا صدق فيها، بل كل إيمان يُزعَم بدون محبة ولا عمل فلا حقيقة له، قال ابن تيمية رحمه الله: "محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان والدين، كما أن التصديق أصل كل قول من أقوال الإيمان والدين، فجميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن المحبة المحمودة، وأصل المحبة المحمودة هي محبة الله ورسوله".
فإذا أردت ـ أيها العبد ـ أن تبرهن على صدق محبتك لله، وأن تحصّل أصل تلك المحبة، فلا بد لك من العمل، بل إذا أردت أن ترقى أعلى من منزلة المحب لله، إلى منزلة المحبوب من الله، فعليك بالعمل في طاعة الله، فبدون العمل لن يكون لديك كبير أمل، وقد جمع لك الإمام الهمام شمس الدين بن قيم الجوزية رحمه الله لآلئ عشرًا من الأعمال الصالحة، والأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى، والتي ترفع مقامك عند الله عز وجل، وقد نظمها لك في عقد لعلك تتزين به ظاهراً وباطنًا، وإليك هذا العقد فاجعله حول عنقك تزهو به بين العباد، إن كنت من الباحثين عن الترقي في مدارج السالكين إلى ربهم، وإن كنت من الذين يسمعون ولا يعقلون، ولا يدركون أنهم هم المعنيون، فلا أملك لك من الله شيئاً، إن أراد الله أن يحول بينك وبين ذلك، فأعرني ـ يا هذا ـ سمعك وقلبك، وانتبه من نعاسك، فإنك في مجلس يحبه الله تعالى، وإليك أول لؤلؤة من ذلك العقد:
قراءة القرآن بتدبر وتفهم لمعانيه وما أريد به، وأن تعلم أن ما تقرؤه ليس من كلام البشر، وأن تستحضر عظمة المتكلم به، قال ابن الصلاح: "قراءة القرآن كرامة أكرم الله بها البشر، فقد ورد أن الملائكة لم يُعطوا ذلك، وأنها حريصة على استماعه من الإنس". واعلم ـ حفظك الله ووقاك ـ أن قراءة القرآن شرف لك ما بعده شرف، لهذا فإن رجلاً من أصحاب النبي استجلب محبة الله بتلاوة سورة واحدة، فتدبرها وأحبها، وهي سورة الإخلاص التي فيه صفة الرحمن جل وعلا، فظل يرددها في صلاته، فلما سئل عن ذلك قال: (لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرا بها) فقال النبي : ((أخبروه أن الله يحبه)) البخاري ومسلم. قال عبد الله بن مسعود : (من أحب القرآن فهو يحب الله ورسوله).
وهاك اللؤلؤة الثانية: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، وإليكم هذا الحديث، فعن طَلْحَةَ بْنَ عبيد الله قالُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرَ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ)) فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: ((لا إِلا أَنْ تَطَوَّعَ)) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَصِيَامُ رَمَضَانَ)) قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: ((لا إِلا أَنْ تَطَوَّعَ)) قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: ((لا إِلا أَنْ تَطَوَّعَ)) قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّه لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلا أَنْقُصُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ)) البخاري ومسلم.
واستمع إلى هذا الحديث الذي فيه بشارة للمتقرب إلى الله بالنوافل: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ)) البخاري.
ومن فوائد النوافل ـ أصلحني الله وإياك ـ أنها تجبر النقص في الفرائض: كما صح في الحديث: ((انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمَّل بها ما أنتقص من الفريضة)) وتقربك من محبة الله.
أخي المبارك، أود هنا أن أعطيك اللؤلؤة الثالثة فهل أدركت ما سبقها؟ ألا وهي دوام ذكر الله تعالى على كل حال، باللسان والقلب والعمل، فنصيبك من المحبة على قدر نصيبك من الذكر لله تبارك وتعالى، عن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْثُرُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ: ((أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ)) رواه أحمد. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: ((وَمَا ذَاكَ؟)) قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَفَلا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟)) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ((تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلاثِينَ مَرَّةً)) البخاري. وجاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام كثرت عليّ، فباب نتمسك به جامع، فقال : ((لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله)) رواه أحمد.
وإني على يقين أنك في لهفة وشوق إلى الحصول على اللؤلؤة الرابعة لنظمها مع أخواتها، فهاك إياها نفع الله بها قلبك وأقر بها عينك: إيثار محابه تعالى على محابك عند نزعات الهوى، إي إيثار رضى الله على رضى غيره وإن كانت نفسك، وإن عظمت فيه المحن، وثقلت فيه المؤن، وضعف عنه الطَّول والبدن، وإن كان في ذلك ما يغضب الخلق، وهذه درجة عالية حازها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وأولي العزم من أتباعهم، فالعبد الكيس الفطن لا يعطي لنفسه العنان أينما توجهت به اتجه، وما اشتهت اشتهى، وثبت عنه أنه قال: ((المجاهد من جاهد نفسه في الله عز وجل)).
قال الناظم:
إذا المرء أعطى نفسه كلما اشتهت ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار الذي دعته إليه من حلاوة عاطل
وقال الآخر:
فخالف هواها واعصها فمن يطع هوى نفسه تنزع به شر منزع
ومن يطع النفس اللجوجة تُرْدِه وترم به في مصرع أي مصرع
والسبب الخامس من الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى تلك اللؤلؤة الثمينة وهي: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، ومشاهدة آثارها ومعرفتها في الكون والأنفس، وسائر المخلوقات، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته أحبه الله لا محالة، والمعرفة ـ أيها المسلمون ـ هي إدراك الشيء على حقيقته، وهي أخص من العلم وضدها الإنكار، والعارف بالله هو من عرفه بأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم صدق الله في معاملته، ثم أخلص في قصده ونيته، ثم انسلخ من الأخلاق الرديئة، وتطهر من أوساخ الذنوب والرذيلة، ثم صبر على أحكام الله في نعمه وبلائه، قال الشاعر:
تأمل سطور الكائنات فإنها من الملك الأعلى إليك رسائل
وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل
تشير بإثبات الصفات لربها فصامتها يهدي ومن هو قائل
هذه جواهر خمس من الأسباب العشرة الموجبة لمحبة الله تعالى، وهي بحق تستحق العناية والرعاية، لأن فلاحك وفوزك ـ أيها العبد ـ متوقف عليها بإذن الله.
نفعني الله وإياكم بما سمعنا، ورزقني وإياكم محبته والصدق في ذلك، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، صلى الله وسله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله، عليكم بتقوى الله فإنها لكم وجاء وحصن حصين، تزينوا بها تفلحوا.
أيها المسلمون، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر، كما يكره أن يقذف في النار)) البخاري، وهذه صفات عالية المطلب، يحدو لها القلب طرباً وشوقًا، فمحبة الله أسمى المنى وأغلى المطالب.
عباد الله، إن تلك لمرتبة العالية: (وهي أن يجد المرء حلاوة الإيمان بالله في قلبه) إنه بقدر محبتك لله تكون استجابتك ومحبتك لتنفيذ ما أمر به الله، وما تفريطك في بعض ما أمر به، إلا لنقص في محبتك لله علمت ذلك أو لم تعلم. قال الشاعر:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
فيا عبد الله، انظر في نفسك إذا أحببت إنساناً، أو طعاماً، أو مركوباً أو ملبساً، فإنك تكثر من ذكره وطاعته واستعماله والتردد عليه، ودوام حضوره على لسانك وقلبك، فكيف بمحبة الله تعالى عندك، فإن القول الذي لا يصدقه عمل، قول مردود على صاحبه، وهو في صدقه منه في حل، فاربأ بنفسك وقد صنعك الله لنفسه أن تعطي نفسك لغيره، عليك بما أمر الله يحبك الله، وإن كنت ترى نفسك غنيًا عن هذه المحبة، فيا لبؤسك وشقائك في الدنيا والآخرة، فعليك بالعمل وتزود ما دمت في دار العمل، وتعلّم واعمل يحبك الله.
(1/3071)
أسباب محبة الله تعالى (2)
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الله عز وجل
عبد الله بن علي الهزاني
الرياض
27/10/1422
جامع رياض الصالحين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التأمل في نعمه تعالى موجب لتعلق القلب به سبحانه. 2- الخشوع الصادق كيف يكون؟ 3- قيام الليل من أسباب محبة الله تعالى لعبده. 4- الصحبة الصالحة تعين العبد على الخير. 5- معنى القلب السليم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ واعلموا أن التقوى عمل القلب والجوارح، وليست قولاً باللسان أجوف، بل هي مخافة القلب من الله، ومراقبة القلب لله.
عباد الله، تسعد وإياكم في هذه الجمعة بمعرفة خمس لآلئ من الأسباب العشرة الموجبة لمحبة الله تعالى، إذ الشأن كله أن تُحَب وليس أن تُحِب فقط، كما قال المولى عز وجل عن عبادة المخلصين له القائمين له بما أوجب حيث أحبوا ربهم فأحبهم رَّضِىَ ?للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [المائدة:119]، داعياً ربي القريب المجيب أن ينفعني وإياكم بها، وأن يجعلني وإياكم من العالمين العاملين.
أيها المسلمون، إن اللؤلؤة السادسة هي: مشاهدة بره عز وجل وإحسانه، وآلائه الباطنة والظاهرة فيك وعليك أيها الإنسان وفي الكون، فإنها داعية إلى محبة الله تعالى، وكما قيل فإن العبد أسير الإحسان، فالإنعام والبر واللطف، معاني تسترق مشاعر الإنسان، وتستولي على أحاسيسه، وتدفعه إلى محبة من يسدي إليه النعمة، ويهدي إليه المعروف.
ولا مُنعم على الحقيقة، ولا محسن على الحقيقة إليك وعليك إلا الله، فكل ما في هذا الكون خلقه الله من أجلك أيها العبد، أيها المخلوق الصغير، حتى ملائكته جعلهم في خدمتك، لتعرف بذلك مدى بره وإحسانه إليك، ولطفه ورحمته بك، فأنت حينما تتفكر في آلاء الله، وتمعن النظر في قدرة الله عز وجل، يقودك ذلك إلى محبته، أليس التفكر والتأمل في كل هذا الكون الفسيح، وما فيه، من دواعي محبته سبحانه؟ أليس هو من دواعي زيادة الإيمان؟ بلى والله، ولكن كما قال الله عز وجل عنك أيها الإنسان.
وأما الجوهرة السابعة من ذلك الكنز الذي لا يقدر بثمن فهي: انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى، والانكسار هو الخشوع لله والإخبات له، والتذلل والافتقار، ومراعاة الأدب مع الله، وكلها معان تدل على خشوع القلب لله تعالى، كان الحسن بن علي إذا توضأ اصفر لونه، فقيل له: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء ؟ فيقول: أتدرون بين من أريد أن أقوم؟ لقد كان القوم يحبون ويحيون الصلاة، فتحيا قلوبهم بها، وتقر أعينهم فيها، وكيف لا تقر أعينهم بها وهي حية في قلوبهم، والرسول يقول: ((... وجعلت قرة عيني في الصلاة...)) أحمد والنسائي.
أخي المبارك، وإني على ثقة أنك ذو فطنة وفهم، بأنك تعي أن المقصود بالخشوع ليس الخشوع في الصلاة فقط، وإنما أيضاً خارج الصلاة وذلك بمعناه الذي ذكرت لك.
والجوهرة الثامنة هي: الخلوة به سبحانه وتعالى وقت النزول الإلهي، لمناجاته وتلاوة كلامه، والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة، وهذا السبب من أبلغ أسباب المحبة، لأنه من أصدق دلائل الأدب في العبودية مع الله، ولقد أثنى الله على أهل قيام الليل، ومدحهم بقوله، وهذا رسول الله يقول لمعاذ بن جبل : ((ألا أدلك عل أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ النارَ الماءُ، وصلاة الرجل من جوف الليل)) ، ثم قرأ: تَتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ [السجدة:16]، أحمد والترمذي والنسائي، وقال عليه الصلاة والسلام: ((وأفضل الصلاة بعد الفريضة، صلاة الليل)) مسلم، وهذا الفضل لا يمتنع عن الدخول في العبادات الأخرى، قال ابن رجب: "فيدخل فيه من انتظر صلاة العشاء فلم ينم حتى يصليها، لا سيما مع حاجته إلى النوم، ومجاهدة نفسه على ذلك، ومن انتظر الصلاة بعد الصلاة" ولكن صلاة الليل لا يزال لها مزية خاصة، ولهذا فلا عجب أن يتنزل أمين الوحي جبريل عليه السلام على الأمين الصادق المصدوق ويقول له: ((واعلم أن شرف المؤمن، قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس)) الطبراني والحاكم.
أما اللؤلؤة التاسعة فهي: مجالسة الأخيار المحبين الصادقين في الله، وطلب الاستفادة منهم وإفادتهم، مع حفظ اللسان عما لا يفيد من لغو القول وفضوله، ولعل أحدكم يتسأل فيقول: كيف يكون هذا من أسباب محبة الله، وهو أمر قائم بين العباد؟ فأقول لك: هون على نفسك وهاك الدليل على ما ذكرنا، فلعلها تطمئن نفسك، لقد جاءت البشرى بذلك، وزُفت إلى أهل المحبة في الله عبر الوحي، قال رسول الله : ((قال الله عز وجل: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ والمتباذلين فيَّ)) أحمد ومالك في الموطأ وهو صحيح.
وإن كنت ـ يا أخي ـ ممن لا تطمئن نفوسهم بالدليل الواحد... فهاك آخر فعن أبي هريرة عن رسول الله : ((أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصد الله تعالى على مَدْرَجته ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك من نعمة تَرُبُّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)) مسلم، وكما تعلم: ((أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله)) وكما لا يخفاك ـ أيها العاقل الفطن ـ فإن ((الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)). ونسوق لك الأدلة من أجل أن تتبين الحق وتعلمه وتعمل به.
قال عمر بن الخطاب قال رسول الله : ((إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى)) قالوا: يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال: ((هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس)) ثم قرأ هذه الآية: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، أبو داود وابن حبان.
ثم اعلم بأنك مأمور أن تقول خيراً أو تصمت؛ لأن ذلك من مقتضيات الإيمان، وكما قال لك نبيك وحبيبك محذراً لك: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة، ما يتبين ما فيها، يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)) مسلم، وإليك هذا الحديث الذي الوجيز في ألفاظه، العميق في معانيه، حيث تزداد الحاجة إليه في مواضع الخلطة مع الناس، وفي مواطن الفتن، حيث يكون الصمت حكمة ونجاة، قال رجل للنبي يا رسول الله ما النجاة؟ قال: ((أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)) الترمذي.
أما الجوهرة العاشرة: فدعني وإياك نعمل بما عمل به المصطفى في خطبه، حيث كان يجلس ما بين الخطبتين جلسة خفيفة، ثم نتعرف وإياكم عليها. نفعني الله وإياكم بما سمعنا.. وبارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي منَّ على عباده بالعطايا والهبات، وهداهم للإيمان به وهم يسألونه الثبات، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد الأحد، الذي بيده المحيا والممات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، عليه من الله أفضل السلام وأزكى الصلوات، وعلى آله وأصحابه الذين صبروا وجاهدوا في الله حتى الممات، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الحسرات.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله، وخذوا حذركم، ولا تغرنكم الحياة الدنيا، وقدموا لأنفسكم ما تحبون أن تجدوه غداً في صحائف أعمالكم، يوم الوقوف بين يدي الله تعالى.
أيها الناس، وقفنا على نظم الجوهرة العاشرة من ذلك العقد، الذي نظمه لك عالم من علماء أمتك، عالم ذاع صيته في الآفاق، فنفع الله به خلقاً كثيراً، ألا وهو العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله رحمة واسعة، حيث قال فيها: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.
أيها الإخوة في الله، لا خيار للإنسان إذا أراد حقيقة محبة الله، في أن يسعى للمحافظة على قلبه من كل آفة وعيب وفساد ينافي ما يحبه الله تعالى، فالقلب إذا فسد فلن يجد المرء فائدة فيما يصلحه من شؤون الدنيا المادية، ولن يجد نفعاً أو كسباً في أخراه، وكان يقول في دعائه: ((وأسألك قلباً سليماً)) ومحمد بن سيرين يذكر لنا بعضاً من المعاني، التي يظل القلب بها سليماً حياً، ليصدق عليه وصف السلامة، فيقول: "القلب السليم هو أن يعلم أن الله حق، وأن الساعة حق آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور" وهذه وصية جامعة من عالم عارف.
أما ابن تيمية.. فله اختيار جامع في معنى القلب السليم، يقول فيه: هو "القلب السليم مما سوى الله، أو مما سوى عبادة الله، أو مما سوى إرادة الله، أو مما سوى محبة الله".
و اعلم أن أمراض القلوب كثيرة، أحصرها لك في ثلاثة أمور، الأول منها: الشبهات، فإنها تورث شكاً في دين الله، والثاني الشهوات، فإنها تورث تقديم الهوى على طاعة الله ورضاه، الثالث: الغضب، فإنه يورث العدوان على خلق الله، ومن خلال هذه الأبواب الثلاثة تلج الذنوب والمعاصي المفسدة للقلوب.
وتلك الأمور الثلاثة ترجع في أصولها إلى أصول ثلاثة هي: 1) تعلق القلب بغير الله، وغايته الشرك بالله، وهو للأول. 2) طاعة النفس في الشهوة، وغايتها الزنا وهو الثاني. 3) طاعة النفس في الغضب، وغايتها القتل، وهو لثالث. وقد نزه الله عبادة المتقين أصحاب القلوب السليمة عنها، فقال في وصف عباد الرحمن.
فيا عبد الله، هذه خمسة أسباب كالجواهر، نُظمت لك في عقد ينفعك الله بها في دينك ودنياك وآخرتك، فانتفع بها ـ يا رعاك الله ـ وكن ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فإن الناس يسمعون كثير ويعلمون كثيراً ولكن المنتفعين العاملين قليل. هذا وصلوا على خير الورى، نبي الرحمة والهدى، محمد النبي المصطفى، فقد أمركم الله بهذا ودعاكم نبيكم إلى الإكثار من الصلاة والسلام عليه، فصلوا عليه حين يذكر اسمه، وخاصة ليلة الجمعة ويومها.
(1/3072)
جهاد المقاطعة
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
عبد الله بن علي الهزاني
الرياض
27/2/1423
جامع رياض الصالحين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الجهاد وأهدافه في الإسلام. 2- تعدد ميادين الجهاد. 3- تأصيل جهاد المقاطعة في الدين الإسلامي. 4- فوائد المقاطعة الاقتصادية. 5- وجوب بذل ما يستطاع لنصرة الإسلام والمسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها العبد المسلم ما أجملك حين تكونُ من أهل التقوى، وما أحسنك حينما تلبس لباس التقوى ظاهراً وباطناً، ألا فاتقوا الله عباد الله، وتمسكوا بدينكم حق الاستمساك.
أيها المسلمون، يقول ربنا تبارك وتعالى: قَـ?تِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ ?للَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ [التوبة:14]، وقال تعالى: وَجَـ?هِدُواْ بِأَمْو?لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ ذ?لِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة:41].
أيها المسلمون، والجهاد هو محاربة الكفار والمبالغة في ذلك، واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول وعمل، والجهاد ثابت بالكتاب والسنة، وهو واجب متحتم، وفريضة مقدسة ماضية إلى يوم القيامة على أهل الاستطاعة والقدرة من أفراد الأمة، قال القسطلاني: "هو قتال الكفار لنصرة الإسلام وإعلاء كلمة الله" وقال الكاساني: "هو بذل الوسع والطاقة بالقتل في سبيل الله عز وجل بالنفس والمال واللسان، أو غير ذلك والمبالغةُ فيه".
والجهاد له أهداف وغايات سامية منها: إعلاء كلمةِ الله، ونشر دين الله، وتعبيد الناس لله دون إكراههم على ذلك، ورد اعتداء المعتدين على حمى الإسلام، وحماية الدولة الإسلامية من شر الكفار، وإظهار هيبة الإسلام في نفوس الأعداء. وأما ترك الجهاد والتكاسل عنه، مع القدرة عليه حين وجوبه، كبيرة من كبائر الذنوب، وتركه سبب للهلاك في الدنيا والآخرة، وسبب للذل والهوان والبلاء، قال رسول الله : ((إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أَنزل بهم بلاءً فلم يرفعه عنهم حتى يُراجعوا دينهم)) أحمد وإسناده حسن.
أيها المسلمون، وبما أننا لم نصل بعد إلى مرحلة الجهاد بالسلاح، فإننا في الوقت نفسه مطالبون اليوم، وقبل أي وقت مضى، بأن نحقق نوعاً آخر من أنواع الجهاد والتي لا تنحصر في القتال فقط، ألا وهو الجهاد، بالمال وباللسان، فهذا النوع من الجهاد قد مدح الله أهله وأثنى عليهم، لما له من أثر ودور فاعل في تربية الأمة على التعاضد ومجاهدة الأعداء، وكذلك على تقبّل الأوامر لإلهيه والعمل بها، وكذلك تربية أفراد الأمة على التفاعل مع قضاياهم المصيرية، ونبذ الفردية والأنانية المقيتة، قال تعالى: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَـ?هَدُواْ بِأَمْو?لِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لصَّـ?دِقُونَ [الحجرات:15].
أيها المسلمون، لربما يسأل أحدكم فيقول: ها نحن نتبرع بأموالنا ونجاهد بها، نُصرة لدين الله، وعوناً لإخواننا عند كل مطلب لذلك، يقال لك: أيها المبارك، حسناً فعلت, وأجراً إن شاء الله غنمت، ولكنني هنا أود أن أقرر نوعاً آخر من أنواع الجهاد، وهذا النوع فيه إضرار بالأعداء، وإضعاف لهم، وإرباك لاقتصادهم، وجعلهم يفكرون ملياً في تلك السياسة البربرية الهمجية التي يتعاملون بها مع المسلمين، وهو لون من ألوان المقاومة المشروعة، التي تنقل الأمة َ بأفرادها من السلبية المذمومة، إلى الإيجابية الممدوحة، بل وفيه تربية إيمانية لأفراد أمة الإسلام، وتحررها من العبودية والتبعية لأعدائها، وهو تعبير صادق عن وحدة الأمة، وتحقيق أخوة الإسلام، وهو رسالة غاضبة إلى الأعداء على اختلاف مشاربهم، بأن المسلمين قادرون على تغيير موازين القوى، وأنهم أمة حية، لا تزيدها النكسات والمصائب إلا صلابة وتمسكاً بدينها.
أيها المسلمون، إن اقتصاد الأعداء على اختلاف دولهم وتعدد مشاربهم هو سر قوتهم، فلماذا لا نؤذيهم فيه، ونقتلهم به، ولو طال الأمد؟! نعم ـ أيها الإخوة ـ إن بأيدينا سلاحاً لم نحسن استخدامه، وربما ظن بعضنا أنه سلاح متواضع، قد لا يجدي نفعاً مع قوة العدو، ولكن التاريخ والواقع يشهدان بقوة تأثير هذا السلاح، إذا قُرن بالإخلاص لله تعالى، وحسن الظن، ودوام الثقة به، واستشعرنا مسؤوليتنا تجاه ديننا وأمتنا، وأردنا حقاً أن نؤدي عملاً يكون عزاً لأمتنا وبراءة لذمتنا أمام الله تعالى، ثم إنه من أنواع نُصرة الدين، قال تعالى: إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
فعلينا أن نقدم فعل الشرط لنستحق جواب الشرط في الآية.
وأما شهادة التاريخ لهذا، فإن رسول الله حاصر يهود بني النضير لّمّا نقضوا العهد معه، وحاصر أهل الطائف بعد فتح مكة، وقصة المقاطعة الاقتصادية التي نفذها الصحابي ثُمامةُ بن أُثال الحنفي.. مع مشركي مكة عندما دخل في الإسلام، والقصة مبسوطة في كتب السير والمغازي، وأما شهادة الواقع فإن كثيراً من الشعوب الواعية المتفاعلة مع قضاياها، وعلى كفرها قد جربت ذلك السلاح، بوعي مع دول معادية لها فنجحت نجاحً كبيراً.
إن ذلكم الجهاد المطلوب منا القيامَ به، دون توانٍ أو تخاذل أو كسل أو تردد، هو جهاد المقاطعة للمنتجات والسلع التي تُصدر إلينا من مصانع ذاتِ رؤوس أموال يهودية، ومن دول كافرةٍ تُظهر عداءها للإسلام وتُظاهر عليه، وإن كانت سياسياً صديقة، فهي شرعاً من أكبر أعداء الإسلام والمسلمين، فيجب على المسلمين وجوباً القيام بهذا النوع من الجهاد، كما قرر ذلك جم غفير من علماء المسلمين.
أيها المسلمون، وإذا كنا أمةً مستهلِكة مستهلَكة, فإن هذا سر من أسرار ضعفنا يضاف إلى الأسرار الأخرى، فإن أضعف الإيمان أن نقاطع من يحاربوننا بأموالنا، ويقتلوننا بدراهمنا، ويُذلوننا بسبب ضعفنا وسلبيتنا، هذا وإن في المقاطعة فوائدَ عظيمة، تُجنى ثمارها للبلاد والعباد والاقتصاد، منها:
1) التخلص من العبودية والتبعية والهيمنة للأعداء على نمط وسلوك حياتنا.
2) ترشيد عادة الاستهلاك المفرط لدى الشعوب المسلمة.
3) حماية الصحة العامة للمجتمع المسلم، من أضرار تلك السلع المصنعة من مواد مشبوهة.
4) تحقيق الاكتفاء الذاتي.
5) توظيف أموالنا في أسوقنا خدمة لشعوبنا وقضايانا.
أيها المسلمون، هذا وإن للمقاطعة أشكالاً وأنواعاً كثيرة منها على سبيل المثال: مقاطعة السفر إلى تلك البلدان التي تعادي وتحارب الإسلام وأهله، ويكفي موعظةً لذوي الحجا ما فعلوه بإخواننا الدارسين في بلادهم.
أيها المسلمون، إن التجار وأصحاب الشركات، الذين يستوردون من تلك الدول الكافرة والمعادية، عليهم إعادة النظر في تعاملاتهم مع أولئك، كما أن عليهم مسؤولية عظيمة تجاه دينهم وأمتهم، فلا يكن همهم الدينار والدرهم، وأما قضايا الأمة فلا وزن لها عندهم، فعلى الجميع أن يتقوا الله تعالى، ((فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه)).
أيها الأخ المبارك، أرجو أن تسمح لي بأن أهمس في أذنك همسة رقيقة، وهي أن أمتك تعوّل عليك أمراً عظيماً، فكن على مستوى المسؤولية والأمانة، وفكر ملياً بأنك أنت بعينك لك دور كبير تستطيع أن تفعله، فلا تقلل من حجمك ودورك ((ولا تحقِرنّ من المعروف شيئاً)) كما ورد عن النبي. كما وإنني أنبه إلى قضية أخرى لا بد منها، وهي في غاية الأهمية، ألا وهي قبل أن نقاطع السلع والبضائع من أولئك الذين يستخِفّون بنا لأننا مسلمون، وينظرون إلينا على أننا شعوب همجية، لا بد من مقاطعة الذنوب والمعاصي على اختلاف تنوعها وأشكالها، والرجوع إلى الله بالتوبة النصوح، والاعتصام به سبحانه، ليحقق لنا عز وجل ما نصبوا إليه من عزة وسؤدد ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ?نفِرُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ ?ثَّاقَلْتُمْ إِلَى ?لأرْضِ أَرَضِيتُم بِ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا مِنَ ?لآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ?لْحَيَاةِ ?لدُّنْيَا فِى ?لآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التوبة:38، 39].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العزيز الوهاب، الذي أنزل على عبده الكتاب، ليبين للناس ما نُزل إليهم وخص منهم أولي الألباب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خضعت له الرقاب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله والأصحاب، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الحساب.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أنكم لم تخلقوا عبثاً، ولن تتركوا هملاً، فقدموا لأنفسكم عملاً صالحاً.
عباد الله، إن موضوع اليوم، لهو من الأمور التي ينبغي على المسلمين أن يُعيدوا النظر فيها بجد، وأن يتعاملوا معه على أنه من القضايا المصيرية للأمة، ثم إنه قد يظن البعض منكم أن الأمر صعب أو مستحيل، ولئلا أرتكب خطأ أو أُهون من هذا الأمرِ وأقول: إنه ليس صعباً في مبدئه، فأكون بذلك مجانباً لصواب، ولكني محق إن شاء الله حينما أقول: إنه ليس مستحيلاً على الرجال ذوي العزائم الصادقة، التي يدفعها الإيمان بالله والرضى بما عنده، ثم التأسي بالرعيل الأول من أخيار هذه الأمة المباركة، صحابة رسول الله ، الذين ضحوا بأرواحهم وأموالهم، وترك أوطانهم وأهليهم، دفاعاً عن دين الله، وجهاداً في سبيل الله، فمدحهم الله وأثنى عليهم، ورفع قدرهم، وحقق لهم ما وعدهم من النصر والتمكين في الأرض، وما وعدهم به في الأخرة من الجنة والرضوان، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ مِنَ ?للَّهِ فَ?سْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ?لَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة:111].
أيها المسلمون، كل ذلك يدفعنا إلى أن نحقق نصراً لأمتنا، ولو ببذل اليسير ما دمنا نستطيع ذلك، فهل تنطلق عزائم الرجال من أرض الجزيرة، كما انطلقت جحافل الصحابة فاتحين ناصرين دين الله، وهل يتغلب الإيمان على الشهوة والرغبة والهوى، ولنعلم جميعاً أن للأب دور في أسرته، وللأم كذلك، وللمعلم دور في مدرسته، وللطالب كذلك، وللشباب دور كبير ومسؤولية عظمى في أمر المقاطعة، فعليهم أن لا تغريهم الدعايات، التي تروج هنا وهناك لكثير من البضائع والمطاعم المشبوهة في تصنيع مكوناتها، وذلك كل بحسب قدرته واستطاعته، وفق الله الجميع لكل خير وفلاح، وسدد الجهود للنجاح، وأعننا وإياكم على كل ما فيه عز الإسلام والمسلمين.
(1/3073)
بروتوكولات أخبار الصهاينة
أديان وفرق ومذاهب
أديان
محمد الشعراني
غير محددة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المصادر التي تشكل الفكر اليهودي. 2- نظرة التلمود للعرب وكافة البشر. 3- أهم بروتوكولات الصهاينة التي يعملون وفقها. 4- تحذير بعض رؤساء أمريكا شعبهم من الخطر الصهيوني. 5- أهداف المنظمات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة. 6- سياسة الكيل بمكيالين في مجلس الأمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لتشخيص المعركة القادمة ومقدماتها مع أعدائنا اليهود، ولعلمنا علم اليقين بوجوب تجلية مكائد العدو للمسلمين، كما يقول الله تعالى لنبيه : وَكَذَلِكَ نفَصّلُ ?لاْيَـ?تِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ?لْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55].
وقال: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مّنَ ?لاْحْبَارِ وَ?لرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ?لنَّاسِ بِ?لْبَـ?طِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ يَكْنِزُونَ ?لذَّهَبَ وَ?لْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ?للَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34].
وقال: كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ?للَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَاداً وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64].
فإننا نتحدث اليوم عن المصادر التي تشكل الفكر اليهودي وتغذيه.
إن أعظم المصادر عند اليهود ثلاثة: التوراة والتلمود والبروتوكولات.
نظريات التلمود:
"اليهود يضعون التلمود فوق التوراة، والحاخام فوق الله، والله يقرأ وهو واقف على قدميه، وما يقوله الحاخام يفعله الله، إن تعاليم اللاهوتيين في التلمود، لهي أطيب من كلام الشريعة (كلام الله)، والخطايا المُقترفة ضد التلمود، لهي أعظم من المقترفة ضد التوراة". و"إن الرباني مناحيم يُطلعنا بالاتفاق مع كثير من العلماء، على أن الله يأخذ رأي الربانيين على الأرض، في المشاكل التي تنشأ في السماء". و"إن كلمات الربانيين أشدّ عذوبة من كلمات الأنبياء... وذلك لأن كلماتهم هي كلمات الله".
نظرة التلمود إلى العرب (القدماء):
"أمة مُحتقرة، من العار الزواج بعربية، يعبدون الأصنام، مرتكبو تسعة أعشار الجرائم في العالم، صفتهم الغدر وكراهية اليهود، كانوا قادة تخريب الهيكل مع نبوخذ نصر".
نظرة التلمود لكافة البشر:
"المخلوقات نوعان؛ علوي وسفلي. العالم يسكنه سبعون شعباً بسبعين لغة. إسرائيل صفوة المخلوقات، واختاره الله، لكي تكون له السيادة العليا، على بني البشر جميعاً، سيادة الإنسان على الحيوان المُدجّن". "إن نفوس اليهود منعّم عليها، بأن تكون جزءاً من الله، فهي تنبثق من جوهر الله، كما ينبثق الولد من جوهر أبيه"، و"هذا السبب يجعل نفس اليهودي، أكثر قبولاً عند الله، وأعظم شأناً عند الله، من نفوس سائر الشعوب، لأن هؤلاء تُشتقّ نفوسهم من الشيطان، وهي مشابهة لنفوس الحيوانات والجماد".
ولهذا يقول التلمود: "إن زرع (نطفة) الرجل غير اليهودي هي زرع حيواني". و"زرع الأغراب (القوييم)كزرع الحصان". و"إن غير اليهود كلاب عند اليهود". و"إن غير اليهودي، لا يختلف بشيء عن الخنزير البري". و"إن بيوت غير اليهود زرائب للحيوانات"، و"قد كُتب على شعوب الأرض: لحومكم من لحوم الحمير، وزرعكم من زرع الحيوانات". و"كما أن ربة البيت تعيش من خيرات زوجها، هكذا أبناء إسرائيل، يجب أن يعيشوا من خيرات الأمم، دون أن يتحمّلوا عناء العمل".
ويقولون: "أن نار جهنم لا سلطان لها، على مُذنبي بني إسرائيل، ولا سلطان لها على تلامذة الحكماء".
و"هذه الجنّة اللذيذة، لا يدخلها إلا اليهود الصالحون، أما الباقون فيُزجّون في نار جهنم". و"... ويأتي المسلمون بعد النصارى، لأنهم لا يغسلون، سوى أيديهم وأرجلهم وأفخاذهم وعوراتهم، كل هؤلاء، يُحشرون حشراً في جهنم، ولا يغادرونها أبداً".
"إذا ردّ أحد اليهود إلى الغريب القوييم ما أضاعه، فالرب لا يغفر له أبداً".
بروتوكولات الصهاينه:
1. إن قوانين الطبيعة تقضي بأن الحقّ هو القوة. (بمعنى أن الذي يملك القوة، هو الذي يُحدّد مفاهيم الحق، ويفرضها على الآخرين، والقوة تعني امتلاك المال).
2. أن الحرية السياسية ليست إلا فكرة مجردة، ولن تكون حقيقة واقعة. (بمعنى أنك تستطيع الإدعاء ظاهرياً، بأنك ديموقراطي وتسمح بحرية الرأي، ولكنك في المقابل تقمع الرأي الآخر سراً).
3. سلطة الذهب (المال) فوق كل السلطات حتى سلطة الدين. (محاربة الدين وإسقاط أنظمة الحكم غير الموالية، من خلال تمويل الحركات الثورية ذات الأفكار التحررية، وتمويل المنتصر منها بالقروض).
4. الغاية تبرّر الوسيلة. (فالسياسي الماهر: هو الذي يلجأ إلى الكذب والخداع والتلفيق، في سبيل الوصول إلى سدة الحكم).
5. من العدل أن تكون السيادة للأقوى. (وبالتالي تحطيم المؤسسات والعقائد القائمة، عندما يترك المستسلمون حقوقهم ومسؤولياتهم، للركض وراء فكرة التحرّر الحمقاء).
6. ضرورة المحافظة على السرية. (يجب أن تبقى سلطتنا، الناجمة عن سيطرتنا على المال، مخفيّة عن أعين الجميع، لغاية الوصول إلى درجة من القوة، لا تستطيع أي قوة منعنا من التقدم).
7. ضرورة العمل على إيجاد حكام طغاة فاسدين. (لأن الحرية المطلقة تتحول إلى فوضى، وتحتاج إلى قمع، وذلك لكي يتسنى لأولئك الحكام سرقة شعوبهم، وتكبيل بلدانهم بالديون، ولتصبح الشعوب برسم البيع).
8. إفساد الأجيال الناشئة لدى الأمم المختلفة. (ترويج ونشر جميع أشكال الانحلال الأخلاقي، لإفساد الشبيبة، وتسخير النساء للعمل في دور الدعارة، وبالتالي تنتشر الرذيلة حتى بين سيدات المجتمع الراقي، اقتداءً بفتيات الهوى وتقليداً لهن).
9. الغزو السلمي التسللي هو الطريق الأسلم، لكسب المعارك مع الأمم الأخرى. (الغزو الاقتصادي لاغتصاب ممتلكات وأموال الآخرين، لتجنب وقوع الخسائر البشرية في الحروب العسكرية المكشوفة).
10. إحلال نظام مبني على أرستقراطية المال، بدلا من أرستقراطية النسب، (لذلك يجب إطلاق شعارات: الحرية والمساواة والإخاء، بين الشعوب بغية تحطيم النظام السابق، وكان هذا موجهاً إلى الأسر الأوروبية ذات الجذور العريقة، ومن ضمنها الأسر الملكية والإمبراطورية، ليلقى لصوص هذه المؤامرة بعدها، شيئاً من التقدير والاحترام).
11. إثارة الحروب، وخلق الثغرات في كل معاهدات السلام التي تعقد بعدها، لجعلها مدخلاً لإشعال حروب جديدة. (وذلك لحاجة المتحاربين إلى القروض، وحاجة كل من المنتصر والمغلوب لها بعد الحرب، لإعادة الإعمار والبناء، وبالتالي وقوعهم تحت وطأة الديون، ومسك الحكومات الوطنية من خنّاقها، وتسيير أمورها حسب ما يقتضيه المخطط من سياسات هدامة).
12. خلق قادة للشعوب، من ضعاف الشخصية الذين يتميزون بالخضوع والخنوع، (وذلك بإبرازهم وتلميع صورهم، من خلال الترويج الإعلامي لهم، لترشيحهم للمناصب العامة في الحكومات الوطنية، ومن ثم التلاعب بهم، من وراء الستار بواسطة عملاء متخصّصين، لتنفيذ سياساتنا).
13. امتلاك وسائل الإعلام والسيطرة عليها. (لترويج الأكاذيب والإشاعات والفضائح الملفّقة، التي تخدم المؤامرة).
14. قلب أنظمة الحكم الوطنية المستقلة بقراراتها، والتي تعمل من أجل شعوبها، ولا تستجيب لمتطلبات المؤامرة. (من خلال إثارة الفتن، وخلق ثورات داخلية فيها، لتؤدي إلى حالة من الفوضى، وبالتالي سقوط هذه الأنظمة الحاكمة، وإلقاء اللوم عليها، وتنصيب العملاء قادة في نهاية كل ثورة، وإعدام من يُلصق بهم تهمة الخيانة من النظام السابق).
15. استخدام الأزمات الاقتصادية للسيطرة على توجهات الشعوب. (التسبب في خلق حالات من البطالة والفقر والجوع، لتوجيه الشعوب إلى تقديس المال وعبادة أصحابه، لتصبح لهم الأحقية والأولوية في السيادة، واتخاذهم قدوة والسير على هديهم، وبالتالي سقوط أحقية الدين وأنظمة الحكم الوطنية، والتمرد على كل ما هو مقدّس، من أجل لقمة العيش).
16. نشر العقائد الإلحادية المادية. (من خلال تنظيم محافل الشرق الكبرى، تحت ستار الأعمال الخيرية والإنسانية، كالماسونية ونوادي الروتاري والليونز، التي تحارب في الحقيقة كل ما تمثله الأديان السماوية، وتساهم أيضاً في تحقيق أهداف المخطط الأخرى، داخل البلدان التي تتواجد فيها).
17. خداع الجماهير المستمر، باستعمال الشعارات والخطابات الرنّانة، والوعود بالحرية والتحرر. (التي تلهب حماس ومشاعر الجماهير لدرجة يمكن معها، أن تتصرف بما يخالف حتى الأوامر الإلهية، وقوانين الطبيعة، وبالتالي بعد الحصول على السيطرة المطلقة على الشعوب، سنمحو حتى اسم "الله" من معجم الحياة).
18. ضرورة إظهار القوة لإرهاب الجماهير. (وذلك من خلال افتعال حركات تمرد وهمية، على أنظمة الحكم، وقمع عناصرها بالقوة على علم أو مرأى من الجماهير، بالاعتقال والسجن والتعذيب والقتل إذا لزم الأمر، لنشر الذعر في قلوب الجماهير، وتجنُّب أي عصيان مسلح قد يُفكّرون فيه، عند مخالفة الحكام لمصالح أممهم).
19. استعمال الدبلوماسية السريّة من خلال العملاء. (للتدخل في أي اتفاقات أو مفاوضات، وخاصة بعد الحروب، لتحوير بنودها بما يتفق مع مخططات المؤامرة).
20. الهدف النهائي لهذا البرنامج هو الحكومة العالمية، التي تسيطر على العالم بأسره. (لذلك سيكون من الضروري، إنشاء احتكارات عالمية ضخمة، من جرّاء اتحاد ثروات اليهود جميعها، بحيث لا يمكن لأي ثروة من ثروات الغرباء مهما عظُمت، من الصمود أمامها، مما يؤدي إلى انهيار هذه الثروات والحكومات، عندما يوجّه اليهود العالميون، ضربتهم الكبرى في يوم ما).
21. الاستيلاء والسيطرة على الممتلكات العقارية والتجارية والصناعية للغرباء. (وذلك من خلال؛ أولاً: فرض ضرائب مرتفعة، ومنافسة غير عادلة للتجار الوطنيين، وبالتالي تحطيم الثروات والمدخرات الوطنية، وحصول الانهيارات الاقتصادية بالأمم. ثانياً: السيطرة على المواد الخام، وإثارة العمال، للمطالبة بساعات عمل أقل وأجور أعلى، وهكذا تضطر الشركات الوطنية لرفع الأسعار، فيؤدي ذلك إلى انهيارها وإفلاسها، ويجب أن لا يتمكن العمال بأي حال من الأحوال، من الاستفادة من زيادة الأجور).
22. إطالة أمد الحروب، لاستنزاف طاقات الأمم المتنازعة، مادياً ومعنوياً وبشرياً. (لكي لا يبقى في النهاية سوى مجموعات من العمال، تسيطر عليها وتسوسها حفنة من أصحاب الملايين العملاء، مع عدد قليل من أفراد الشرطة والأمن، لحماية الاستثمارات اليهودية المختلفة، بمعنى آخر إلغاء الجيوش النظامية الضخمة حرباً أو سلماً، في كافة البلدان).
23. الحكومة العالمية المستقبلية، تعتمد الدكتاتورية المطلقة كنظام للحكم. (فرض النظام العالمي الجديد، يقوم فيه الدكتاتور بتعيين أفراد الحكومة العالمية، من بين العلماء والاقتصاديين وأصحاب الملايين).
24. تسلل العملاء إلى كافة المستويات الاجتماعية والحكومية. (من أجل تضليل الشباب وإفساد عقولهم بالنظريات الخاطئة، حتى تسهل عملية السيطرة عليهم مستقبلاً).
25. ترك القوانين الداخلية والدولية التي سنتها الحكومات والدول كما هي، وإساءة استعمالها وتطبيقها. (عن طريق تفسير القوانين، بشكل مناقض لروحها، يستعمل أولاً قناعاً لتغطيتها، ومن ثم يتم طمسها بعد ذلك نهائياً).
ثم يختم المتحدّث عرضه بالقول: "لعلكم تعتقدون أن الغرباء القوييم (غير اليهود)، لن يسكتوا بعد هذا، وأنهم سيهبّون للقضاء علينا، كلا هذا اعتقاد خاطئ. سيكون لنا في الغرب، منظمة على درجة من القوة والإرهاب، تجعل أكثر القلوب شجاعة ترتجف أمامها، تلك هي منظمة الشبكات الخفية تحت الأرض، وسنعمل على تأسيس منظمات من هذا النوع، في كل عاصمة ومدينة، نتوقّع صدور الخطر منها" انتهى.
- بتصرّف من كتاب (أحجار على رقعة الشطرنج).
ولهذا قال الرئيس الأمريكي الأسبق بنيامين فرانكلين: "أيها السادة: هنالك خطر كبير يتهدد الولايات المتحدة الأمريكية... وهذا الخطر هو اليهود... ففي أي أرض يحلُّ بها اليهود... يعملون على تدني المستوى الأخلاقي والتجاري فيها... وعلى مدى تاريخهم الطويل... ظلّوا متقوقعين على أنفسهم في معزل عن الأمم التي يعيشون فيها... ولم يندمجوا في حضاراتها... بل كانوا يعملون دوماً على إثارة الأزمات المالية وخنق اقتصادياتها... كما حصل في البرتغال وأسبانيا.
لأكثر من 1700 سنة، وهم يبكون على قدرهم ومصيرهم المحزن، أعني طردهم ونفيهم من وطنهم الأم (فلسطين)، ولو أن العالم المتحضر (الغرب) أعاد لهم فلسطين الآن، فإنهم على الفور سيختلقون الكثير من الأسباب والأعذار والحجج الواهية، ليبرروا عدم رغبتهم في العودة إليها، لماذا؟ لأنهم كائنات طفيلية، والطفيليات لا تستطيع أن تتطفل على طفيليات أخرى، فهم لا يستطيعون العيش مع بعضهم البعض، مما يستدعي ضرورة تواجدهم بين المسيحيين، أو بين أناس من غير جنسهم.
وإن لم يُطردوا من الولايات المتحدة بموجب الدستور، فإنهم وخلال مائة عام على الأقل من الآن، سيتوافدون إلى هذا البلد بأعداد كبيرة، وبتلك الأعداد سوف يحكمونا ويدمّرونا، من خلال تغيير أنظمة الحكم لدينا، والتي بذلنا نحن الأمريكيين من أجل توطيدها على مر السنين، الغالي والنفيس من دمائنا وأرواحنا وممتلكاتنا وحرياتنا، وإن لم يتم طردهم، وبعد مائتي سنة من الآن، فإن أحفادنا سيعملون في الحقول ليل نهار، من أجل إشباع بطونهم وجيوبهم، بينما يجلسون هم في قصورهم يفركون أيديهم فرحاً واغتباطاً، بما حصدوه من غلال وأرباح.
وها أنا أحذركم أيها السادة، إن لم تطردوا اليهود من هذا البلد إلى الأبد، فإن أولادكم وأحفادكم سيلعنونكم في قبوركم، ومع أنهم يعيشون بيننا منذ أجيال، فإن مُثُلهم العليا ما زالت تختلف كلياً، عما يتحلى به الشعب الأمريكي من مُثُل، فالفهد الأرقط لا يمكنه تغيير لون جلده (عبارة مقتبسة من التوراة)، سوف يُعرّضون مؤسساتنا ومقوماتنا الاجتماعية للخطر، لذلك يجب طردهم بنص من الدستور ".
وكان فرانكلين من الرؤساء الأوائل في أمريكا، والذي استشعر الخطر اليهودي قبل تغلغله في أمريكا، من خلال دراسته لتوراتهم ولتاريخهم في أوروبا، وما أحدثوه من خراب فيها.
وهذا قسم من خطاب الرئيس الأمريكي (لنكولن) للأمة الأمريكية، في نهاية مدته الرئاسية الأولى:
" إنني أرى في الأفق نُذر أزمة تقترب شيئاً فشيئاً... وهي أزمة تثيرني وتجعلني أرتجف على سلامة بلدي... فقد أصبحت السيادة للهيئات والشركات الكبرى... وسيترتب على ذلك وصول الفساد إلى أعلى المناصب... إذ إن أصحاب رؤوس الأموال، سيعملون على إبقاء سيطرتهم على الدولة... مستخدمين في ذلك مشاعر الشعب وتحزّباته... وستصبح ثروة البلاد بأكملها، تحت سيطرة فئة قليلة... الأمر الذي سيؤدي إلى تحطم الجمهورية".
وكان هذا الخطاب قبل أكثر من 130 سنة، بعد أن تغلغل اليهود في أمريكا، وقد اغتيل هذا الرئيس في بداية فترة الرئاسية الثانية، نتيجة خطاباته؛ لأن كل أصحاب رؤوس المال الأمريكي أصبحوا من اليهود.
المنظمات الإنسانية في الأمم المتحدة:
ما الذي تنادي به هذه المنظمات؟ تنادي بحرية المرأة، وحقوق الإنسان، وحقوق الطفل، وتنظيم النسل وتحديده، وغيرها، وكل هذه الحريات والحقوق، عند المناداة بها، غالباً ما تأخذ الطابع السياسي، فانظر إلى الدول المتهمة، بانتهاك هذه الحريات وهذه الحقوق، هي الدول العربية الإسلامية أولاً، والدول الإسلامية غير العربية ثانياً، والدول الشيوعية، وما عدا ذلك إذا كان موجوداً، فهو لذرّ الرماد في العيون، فما الذي يريدون من وراء ذلك ؟ انظر إلى الحياة الاجتماعية في الغرب، الذي سمح ويسمح بهذه الحريات والحقوق، تجد أن الإجابة هي ما يلي:
تحرّر الفكر، فنتج الكفر والإلحاد وعبادة المادة وتقديسها، تحررت النساء فتنازلن عن دورهن الفطري في الأمومة والتربية، فنتجت كافة أنواع الإباحية والفجور والدعارة، وأصبحت لحوم النساء عرضة للكلاب الضالّة. وتحرّرت الطفولة، فتطاولت على الآباء والأمهات والمعلّمين والمعلّمات، وتمرّدت عند البلوغ لتترك الأسرة، وطفقت تبحث عن إشباع الغرائز والشهوات.
لنخلص من ذلك إلى أن المطالبة بحماية هذه الحقوق والحريات، هي في الأصل دعوة للتمرد على الطبيعة البشرية وأبجدياتها، وعلى القيم الروحية والأخلاقية، التي قدّمتها الأديان السماوية كمنهج للحياة. تهدف إلى ضرب الأسرة، اللبنة الأساسية في بناء المجتمعات، بحرمان الأب من دوره القيادي، مما يؤدي إلى تفكيك العلاقات ما بين أفرادها، وضياع الرؤى المشتركة للبقاء والاستمرار. ولو قمت بإحصائية لعدد الغربيين ذوي الولادات الشرعية ! ربما لوجدت أن معظمهم أولاد زنا، شرّ الخلق عند الله!! أما نحن... فماضون على الدرب لنواكب مُتطلبات العصر اليهودي... بجهود الجهابذة من مفكرين وخبراء واختصاصيين... من دعاة التحرّر والتحرير والإصلاح الاقتصادي والثقافي... وسنصل... عمّا قريب... إن لم يتدّاركنا الله برحمته.
مجلس الأمن:
بغض النظر عما يُمثّله من أنظمة وقوانين وقرارات، تأخذ طابع العدالة والإنصاف، فالتطبيق في الواقع يختلف كلياً، ويأخذ طابع الجور والظلم، كما هو الحال مع فلسطين والعراق من جانب، وإسرائيل من جانب آخر. فالقرارات ملزمة للجانب الأول، وغير ملزمة للجانب الثاني. وخذ إسرائيل وجنوب إفريقيا من جانب آخر كنظاميين عنصريين، فالنظام الأول زالت عنه صفة العنصرية، بقرار من مجلس الأمن مع بقاء النظام العنصري، والثاني زالت عنه هذه الصفة بزوال النظام، وهذا لا يُسمّى كما يحلو لبعض الغافلين، ازدواجية في التعامل، أو الكيل بمكيالين، فالحقيقة هي أن مجلس الأمن الخاص بالأمم المتحدة، هو مجلس أمن يهودي عالمي، وبالتالي ليس هناك ما يُسمّى بمعيارين أو مكيالين، بل هو معيار واحد ومكيال واحد، يقيس كل الأشياء وفق الرؤى اليهودية الإسرائيلية، فهو الذي أوجد دولة إسرائيل، وهو الذي حافظ على بقائها وإدامتها.
لنطرح هذه التساؤلات: كم كان عدد الدول، التي كانت قلقة بمصير اليهود؟ وما الداعي لوجود دولة لليهود، بما أن اليهودية ديانة وليست قومية؟ ومن قال بأن القومية تعطي الشرعية لإقامة دولة ؟ فهناك الأكراد وألبان كوسوفو وغيرهم الكثير، ممن هم متواجدين على أراضيهم! فلماذا لم يُوجد لهم مجلس الأمن دولاً؟! وبدلاً من ذلك يتغاضى عن إبادتهم وقمعهم، خاصة إذا كانوا مسلمين كالبوسنة وكوسوفو والشيشان، أو أعداءً لدولة حليفة لليهود كأكراد تركيا، وعندما يتعلّق الأمر بالعراق يُصبح الأكراد في الشمال مسألة إنسانية تُقلق مجلس الأمن. فما مصلحة أمم العالم قاطبة ومجلس أمنها، في إنشاء دولة لليهود! مع وجود الأنظمة العلمانية في معظم دول العالم، حتى في معظم الدول الإسلامية والعربية! إلا أن يكون هذا المجلس هو مجلس أمن يهودي بحت، ولكن كيف تحصّل اليهود على ذلك؟
الجواب بسيط جداً، من خلال التلاعب من خلف الستار، بالترغيب والترهيب الاقتصادي، للمصوّتين على القرارات، لضمان الأغلبية لإصدار أي قرار يرغبون بتمريره. بالإضافة إلى إيجاد حق النقض (الفيتو) للدول دائمة العضوية، منها ثلاث دول مؤيدة لإسرائيل بالسيطرة الاقتصادية، مع أن واحدة تكفي، لتعطيل أي قرار لا يخدم مصالح اليهود والدولة اليهودية، واثنتان لا يرتجي منهما خير وهما روسيا والصين، اللتان غالباً ما كانتا تتماشيان مع الرغبة الأمريكية، نتيجة الاسترضاء السياسي، كغض الطرف عن ممارسات هاتين الدولتين، فيما يخص مثلاً حقوق الإنسان في الصين، أو اضطهاد الشعوب المُجاورة والأقليّات العرقية أو الدينية في روسيا، بالإضافة إلى الإغراء الاقتصادي، متعدد الأوجه والخيارات.
وفي حال فكّرت إحداهما في استعمال أي منهما، حق النقض على قرار يخدم إسرائيل، تصبح دولة نازية ولا سامية، وتبدأ الآلة الإعلامية اليهودية العالمية بالطبل والزمر، فالأمور تصبح محسومة مسبقاً، ومؤخراً كُشف النقاب عن هذه السياسة علناً، عندما هدّدت أمريكا دولة كولومبيا المستضعفة بفرض مقاطعة اقتصادية، عندما صوّتت لصالح إرسال قوة حماية دولية للفلسطينيين.
ولنأخذ على سبيل المثال، القرارات الخاصة بالعراق، حيث اتُخذت بالإجماع، بحجة مخالفة العراق للقانون الدولي آنذاك، وطريقة تأمين الإجماع، تمت كما هي العادة بطريقة آلية، بالنشاط الملحوظ للديبلوماسية اليهودية الأمريكية من وراء الستار، ومن أمام الستار أحياناً بجولات مكوكية. فمعظم دول مجلس الأمن، إمّا أن تكون حليفة، أو صديقة، أو مديونة، أو منهارة اقتصادياً. وعندما وُضع أول قرار بدأت الماكينة اليهودية، بالدوران بأقصى سرعتها وطاقتها، مدفوعة بأحقادها ومخاوفها التوراتية، لفرض قرارات جديدة، ولتأمين تطبيق القرارات وتنفيذها، والعالم كله لا يعلم لغاية الآن، حقيقة النوايا اليهودية الأمريكية البريطانية، من وراء تلك الحرب وهذا الحصار.
وفي الحقيقة ما وُضع بقرار لا يُرفع إلا بقرار، وهذا ينطبق على الحصار، ولن يُرفع هذا الحصار اليهودي التوراتي، ما دامت أمريكا تملك حق النقض، إلا أن يتم خرق هذا الحصار بدون قرار رفع، من جانب دولة عظمى كروسيا أو الصين، لا يستطيع القانون الدولي اليهودي الأمريكي معاقبتها، كونها تمتلك سلاحاً نووياً، قادراً على أن يمحو أمريكا وحلفائها عن الوجود، بما فيها من يهود، وهذا الاحتمال يُعدّ نوع من المُغامرة في الظروف الراهنة، ومع ذلك بدأ التمرد الروسي على أوامر أسياد العالم يلوح في الأفق.
وفي نظر ساسة الغرب، من يُفكّر اليوم بمناهضة اليهود ومعاداتهم في الغرب، فقد ثكلته أمه، فخذ (هايدر) مثلاً، زعيم أحد الأحزاب النمساوية، الذي أطلق يوماً عبارات مناهضة لليهود، عندما فاز حزبه ديموقراطياً، بأغلبية في مقاعد البرلمان، فقامت الدنيا ولم تقعد، ضجّة إعلامية كبرى، في إسرائيل، أمريكا، بريطانيا، فرنسا، الأمم المتحدة، حتى أُرغم الاتحاد الأوروبي على مقاطعة النمسا، لمنع (هايدر) من الحصول على أي منصب في الحكومة النمساوية.
اللهم أيقظ قلوبنا من الغفلات، وطهر جوارحنا من المعاصي والسيئات، ونق سرائرنا من الشرور والبليات، اللهم باعد بيننا وبين ذنوبنا كما باعدت بين المشرق والمغرب، ونقنا من خطايانا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، واغسلنا من خطايانا بالماء والثلج والبرد، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وثبتنا على الصراط المستقيم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم اجعلنا من المتقين الذاكرين، الذين إذا أساؤوا استغفروا، وإذا أحسنوا استبشروا، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، الذين يريدون أن تكون كلمتك هي العليا، اللهم ثبتهم وسددهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وارفع درجاتهم. اللهم واخز عدوهم من اليهود والنصارى، ومن شايعهم وسعى في التمكين لهم وتسليطهم على المسلمين، اللهم فرق جمعهم وشتت شملهم وخالف بين كلمتهم واجعلهم غنيمة للمسلمين وعبرة للمعتبرين، اللهم عليك بهم، اللهم زلزل بهم الأرض وأسقط عليهم كسفاً من السماء، اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيع والبدع والعناد والفساد.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3074)
الرافضة والشيخ محمد بن عبد الوهاب
أديان وفرق ومذاهب
أديان
محمد الشعراني
غير محددة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحملات الصليبية والمغولية على العالم الإسلامي. 2- عقيدة الباطنيين وآراؤهم الفاسدة. 3- حقد الباطنيين على أهل السنة وتنكيلهم بهم. 4- عداوة الباطنيين للشيخ محمد بن عبد الوهاب. 5- تصدي الشيخ محمد بن عبد الوهاب للباطنيين وبدعهم المنكرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، مصداقاً لقول ربكم: لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُعْتَدُونَ [التوبة:10]، وكما لا يخفى عليكم، لقد تعرض العالم الإسلامي في الماضي لثمان حملات صليبية عسكرية حربية، شنت منطلقة من مبدأ الدين ومحاربة أتباع سيد المرسلين ، وكشفت تلك الضغائن الخفية التي لا يتصورها عاقل، والتي يبطنها لنا عباد الصليب، والتي تمثلت جلية في تلك المجازر الوحشية، وبرك الدماء التي صنعتها تلك القوات بالمسلمين، بلا تفريق بين مدني أو عسكري، بل ذبح الأطفال والنساء الشيوخ وبقرت بطون الحوامل، وداست مراكبهم المرضى في الشوارع، هدمت المساجد، وسرقت مقتنياتها، وأتلفت الكتب ونهبت المنازل، واستبيحت المحرمات، أحرقت الدور على من فيها، لقد صنعوا بالمسلمين بمصطلح اليوم أفظع أنواع جرائم الحرب.
ثم تلتها الحملة التاسعة المغولية الهولاكية، فأقبلت بالهلاك والذبح الجماعي، وزادت على صنيع الصليبيين بتدمير معالم الحضارة في عاصمة الخلافة بغداد، وإحراق الكتب العظيمة، ثروة الأمة التي لا تقدر بثمن، وتحويل أنهار العراق إلى لون الحبر والمداد، من ألوف الكتب والوثائق التي سطرها علماء الإسلام، عبر قرون دفعوا فيها راحتهم، وسلامة عيونهم، وأعمارهم، ثمناً ثم هذه نهايتها؟!!
واليوم هذه الحملة العاشرة مرة أخرى على العالم الإسلامي، ابتدأت بالاستعمار ثم احتلال فلسطين وانتهاك حرمة بيت المقدس، من قبل إخوان القردة والخنازير، والدعم اللا محدود وحتى هذه الساعة من كل الدول الصليبية بلا استثناء، للسرطان المسمى بإسرائيل، وانتهت باحتلال لم يسبق له مثيل للعراق، مروراً بحروب التصفية الجماعية لمسلمي البوسنة وكوسفو والشيشان وأفغانستان، وحتى هذه الحملة على العراق مرة أخرى، والتي تدير رحاها أقوى دولتين تتبجحان بأكذوبة حقوق الإنسان، والمحافظة على التراث وحماية الآثار، تعيد إلى أذهان المسلمين نفس المشاهد، بقصف غير مسبوق للمدنيين، وقتل للأبرياء والأطفال، وهدم للبيوت، وتدمير للبنى التحتية، بل ولم يكتفوا بهذا فحسب، فتحت أعينهم وبمباركتهم تُرك آلاف المرضى والجرحى في المستشفيات بلا أطباء وبلا دواء، وترك آلاف المساجين بلا طعام أو شراب، بسبب خلو السجون من السجانين.
بل وفي نفس الوقت الذي شنوا فيها حرباً على حكومة طالبان المسلمة، وأحد أهم مبرراتها تدمير صنم بوذا، بدعوى أنه تراث أثري يجب المحافظة عليه، نراهم في نفس الوقت يشرفون على سلبٍ كامل، ونهب لم يسبق له نظير لمئات الآلاف من الآثار والتراثيات، التي هي بقايا لما يزيد على 7000 سنة من حضارات متعاقبة في بلاد العراق، وعلى مرأى العالم ومسمعه، حتى رأينا بكاء علماء الآثار على هذه الكارثة الإنسانية التي لا توصف.
واليوم نقف مع حال الباطنيين ودورهم في هذه الحملات العشر، والتاريخ يعيد نفسه في ذلك الدعم والوقوف العجيب من قبل الباطنيين، وخيانتهم العظمى لأمة الإسلام، بالترحيب بالقوى الصليبية، بل بدلاً من الاحتجاج عليها، تؤجج الأحقاد على أتباع سنة النبي ، في مسيرة مليونية تعيد شعار (يا لثارات الحسين!!) إتماماً لحديثنا عن الدور الذي تلعبه القوى الصليبية في المنطقة، لكي تثبت أقدامها على تراب العالم الإسلامي في اللعب بورقة الباطنية، الذين أجادوا الدور وبرعوا فيه، تواطؤاً مع كل حملة صليبية، بل وكل حملة مغولية، بل وكل مهاجم على بلاد الإسلام.
ها نحن نواصل رفع الستائر المسدلة.
هذي الحقائق أرويها وأسردها وأسأل الله عوناً كي أجليها
وأكشف الستر عن شر يراد بنا فافهم هديت لما أوردته فيها
أخي المسلم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عدو الباطنية اللدود، والسيف الذي سله الله على كل عدو لسلف الأمة ـ رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته ـ عن الباطنية: "... واعلم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وأن أصل كل فتنة وبلية هم الباطنية، ومن انضوى إليهم، وكثير من السيوف التي سلت في الإسلام إنما كانت من جهتهم، واعلم أن أصلهم ومادتهم منافقون، اختلقوا الأكاذيب، وابتدعوا آراء فاسدة، ليفسدوا بها دين الإسلام، ويستزلوا بها من ليس من أولي الأحلام...". "... فإنهم أعظم ذوي الأهواء جهلاً وظلماً، يعادون خيار أولياء الله تعالى بعد النبيين، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، ويوالون الكفار والمنافقين من اليهود والنصارى والمشركين، وأصناف الملحدين، كالنصيرية، والإسماعيلية، وغيرهم من الضالين...".
وقال: "...كانوا من أعظم الناس عداوة للمسلمين، ومعاونة للكافرين، وهكذا معاونتهم لليهود أمر شهير، حتى جعلهم الناس لهم كالحمير..يقول أحدهم بلسانه خلاف ما في قلبه، وهذا هو الكذب والنفاق، ويدعون مع هذا أنهم هم المؤمنون دون غيرهم من أهل الملة، ويصفون السابقين الأولين بالردة والنفاق، فهم في ذلك كما قيل: (رمتني بدائها وانسلت)، إذ ليس في المظاهرين للإسلام أقرب إلى النفاق والردة منهم، ولا يوجد المرتدون والمنافقون في طائفة أكثر مما يوجد فيهم...".
وقد قال الإمام مالك رحمه الله: "الذي يشتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ليس لهم سهم، أو قال نصيب في الإسلام" بل لكم أن تتصوروا هذه الهجمة حتى على رسول الله بالهجوم والتعرض لحبيبته وقرة عينه أم المؤمنين، ليعيدوا إلينا فرية معلمهم الأول الذي علمهم النفاق ابن سلول، باتهام عائشة بالفاحشة مرة أخرى، الله أكبر ما أعظم المشابهة؛ اليهود اتهموا (مريم) الطاهرة المطهرة عليها السلام بالزنى، وأحفادهم هؤلاء اتهموا (عائشة) الصديقة الطاهرة المطهرة أم المؤمنين ـ بنص القرآن ـ بهذه التهمة.. ألا لعنة الله على الكافرين، وصدق الله العظيم: ?لنَّبِىُّ أَوْلَى? بِ?لْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْو?جُهُ أُمَّهَـ?تُهُمْ [الأحزاب:6].
أيها المسلمون، إن الإنسان لا يستطيع أن يتصور كيف يقود كلب الحقد والضغينة هؤلاء القوم، لدرجة أنهم حتى أقبح أنواع الدناءة لا يتورعون عنها، وربما تورع عنها عباد الصليب والأحجار.. أليس قد بلغ من حنقهم أنهم يحقنون الفاكهة بالبول، ثم يبيعونها، ويضعون أذكارهم ـ أعزكم الله ـ في الأواني والأكواب قبل تقديمها لمن يخالفهم؟!! فكيف يتقى شرهم؟ لم يفت علماء التاريخ وغيرهم أن يذكروا طرفاً من أذى الباطنية، أليس شيخ الإسلام هو الذي قال: "... وقد علم أنه كان بساحل الشام جبل كبير، فيه ألوف من الباطنية، يسفكون دماء الناس، ويأخذون أموالهم وقتلوا خلقاً عظيماً وأخذوا أموالهم، ولما انكسر المسلمون سنة غازان، أخذوا الخيل والسلاح والأسرى، وباعوهم للكفار النصارى بقبرص، وأخذوا من مر بهم من الجند، وكانوا أضر على المسلمين من جميع الأعداء...".
فلم أر ودهم إلا خداعاً ولم أر دينهم إلا نفاقاً
أخي المسلم، إن الباطنيين: "..حين يعيشون في دول لا تدين بمعتقدهم، يتجه جهدهم إلى العمل والتخطيط للتمكين لمذهبهم وبني جنسهم، وإلحاق الضرر بغيرهم، ومن يقرأ ما فعله ابن يقطين ـ الباطني ـ بالمساجين المساكين، ويرى محاولات الباطنيين الدائبة في التسلل إلى أجهزة الأمن، وكذلك التغلغل في جيوش الدول الإسلامية، يعرف أن هدفهم من ذلك ليس خدمة الدولة ولا الدفاع عنها ضد أعدائها، ولكن استغلال هذه الأجهزة في العدوان على المسلمين، ونصرة الباطنية ومذهبهم كلما لاحت لهم الفرصة...".
نعم، فالباطنية كعادتهم ".. وفي سبيل الوصول لأغراضهم، سيحاولون الدخول ليتمكنوا بواسطة ذلك من التسلط على عباد الله الصالحين، وإلحاق الضرر والأذى بمخالفيهم، بل هم يثبتون هذا في كتبهم، فهذا نعمة الله الجزائري في كتابه الأنوار النعمانية يقول: إن علي بن يقطين وصل إلى منصب وزارة في عهد هارون الرشيد، وأنه قد اجتمع في حبسه جماعة من المخالفين ـ أي أهل السنة ـ فأمر غلمانه وهدموا أسقف المحبس على المحبوسين، فماتوا كلهم، وكانوا خمسمائة رجل تقريبا". وقد أثنى ـ الزعيم الباطني ـ في كتابه "الحكومة الإسلامية" على هذا الرجل لدخوله الشكلي، كما يعبر في الدولة الإسلامية لنصرة الإسلام والمسلمين ـ يعني الباطنية ومذهبهم ـ".
وكثير منا يعلم قصة ابن العلقمي الباطني، الذي جعله المستعصم وزيراً أربع عشرة سنة، وكيف كان هذا الباطني من أهم أسباب سقوط دولة الخلافة في بغداد، واستيلاء التتار عليها، وارتكبت بواسطته أعظم جريمة حرب في التاريخ، ذهب ضحيتها في شهر واحد مليون وثمانمائة نفس، ثم ترى أحفاده الباطنيين المعاصرين يثنون على صنيعه هذا، بل وعدوه من أعظم مناقبه.
ولعلنا لا نتعجب من حقد الباطنية على أتباع محمد وأصحابه، إذا نظرنا للروايات الأثيمة التي حشا بها القوم كتبهم، كما في كتاب الشرائع للباطني ابن بابويه، بروايته عن داود بن فرقد أنه سأل شيخه عن قتل مخالفهم من أهل التوحيد؟ فقال: حلال الدم، ولكني اتقي عليك، فإن قدرت أن تقلب عليه حائطاً أو تغرقه في ماء لكي لا يشهد به عليك فافعل.
وقال آخر مجيباً لمن سأله، وناصحا له: "أشفق إن قتلته ظاهراً أن تُسأل لم قتلته؟ ولا تجد السبيل إلى تثبيت حجة، ولا يمكنك إدلاء الحجة، فتدفع ذلك عن نفسك، فيسفك دم مؤمن من أوليائنا بدم كافر، وعليكم بالاغتيال".
فيا أيها المسلم، قد أعطاك الله فطنة فاحذرهم أن يغتالوك، فلقد ذكر في كتاب رجال الكشي للباطنية، أن باطنياً رفع تقريراً إلى أحد رؤوس الباطنية، يخبره أنه تمكن وحتى ذلك الوقت، من قتل ثلاثة عشر مسلماً لا ذنب لهم، إلا أنهم من أهل السنة، ويعتز هذا الباطني ويفتخر، ويصف كيف استطاع أن يقضي عليهم فيقول: ".. منهم من كنت أصعد سطحه بسلم حتى أقتله، ومنهم من دعوته بالليل على بابه، فإذا خرج علي قتلته".
ألا يجدر بنا بعد كأمة واعية، أمة تقتفي هدي رسول الله وتبع سنته، أن نأخذ حذرنا، وأن لا نغتر بظواهر الأمور، فالمؤمن كيس فطن، ليس بالخَب ولا الخب يخدعه، ونصيحتي التي أذكر نفسي وإخواني بها: لا ننسى التاريخ، لا ننسى التاريخ؟؟
فانظر كيف يعيشون في وسط المسلمين، ويتسمون باسم الإسلام، وهم يتحينون أدنى فرصة للقتل، وهذه اعترافاتهم تشهد بآثارهم السوداء".
وفي وقتنا المعاصر التاريخ يعيد نفسه، أصبحت لهم دول كما كانت الدولة العبيدية والبويهية والحمدانية والصليحية، وهاهم قد نكلوا بأتباع سنة محمد أيما تنكيل، وأقاموا لهم المذابح والمجازر، وصب عليهم العذاب صباً، وكثر فيهم القتل، فلم تكن تمضي ليلة واحدة بغير إعدام، وأيضاً فقد امتلأت سجونهم بأهل التوحيد رجالاً ونساءً.
بل يا عبد الله، لقد وصل حقدهم البغيض، وإجرامهم الرهيب، إلى أن حراس ثوراتهم الشيطانية، كانوا يغتصبون البنت العذراء البكر قبل إعدامها، وليس لها ولمثيلاتها ذنب سوى أنهن من بني أتباع سنة المصطفى ، ".. ولك أن تشعر بمشاعر من يرى أخاه الإنسان... يقتل ظلماً، أو يرى أختاً يعتدى على عرضها، وتهتك حرمتها ثم تقتل مظلومة، وهو لا يملك أن يدافع عنه أو عنها، وأما عن الحرية الدينية فهناك أكثر من ثلاثمائة ألف من أهل السنة والجماعة، وحتى اليوم لا يوجد لهم حتى الآن مسجد واحد يصلون فيه جماعة على أرض أحفاد ابن العلقمي!!".
أخي المسلم، هذا قليل من كثير، ولكن اعلم أن الباطنية إذا كانوا ضعفاء أخلدوا إلى الأمن، وأظهروا المودة والمحبة لأهل التوحيد، فإذا قويت شوكتهم عاثوا فيهم قتلاً واضطهاداً، واغتصاباً وإجراماً، وإن شئت فقلّب صفحات التاريخ وانظر إلى الواقع، وسيتضح لك خذلانهم للمسلمين، وتآمرهم عليهم كلما حدثت لهم حادثه ووقعت لهم كارثة، وحلت بهم نائبة. وما أمر بغداد عنا ببعيد، أعرفت الآن معنى أن ترى حاقداً يلبس جلد الثعلب؟!
إِنَّ فِى ذ?لِكَ لَذِكْرَى? لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ?لسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو البر الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أظهر دينه المبين، ومنعه بسياج متين، فحاطه من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سخَّر لدينه رجالاً قام بهم وبه قاموا، واعتزَّ بدعوتهم وجهادهم وبه اعتزوا، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، كان يربّي ويعلّم ويدعو، ويصوم ويقوم ويغزو. صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: إن القوم الضالين، وكل فرق الباطنية المنافقين، أعلنوا حملة شعواء لا هوادة فيها على الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب وعلى أتباعه، الذين لا ينفك الباطنيون عن نعتهم بالوهابية والوهابيين، وكأنهم طائفة من غير أهل السنة!.
وكما عادى هؤلاء بكل وسيلة شيخ الإسلام علم الدنيا والأعلام، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، فهم يسلكون مع الشيخ ابن عبد الوهاب الطريقة نفسها، من التشهير ومناصبته وأتباعه العداء، فهذا زعيم الباطنية الهالك ـ في كتابه: "الحكومة الإسلامية" يصف حركة المجدد الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه بشتى الأوصاف المقذعة، فتارة يسميهم: "وحوش نجد"، وتارة: "وحداة البعران في الرياض"، وتارة يقول: "ممن يعدون من أسوأ المخلوقات البشرية.."، وتارة يقول: "الوهابيين، الذين هم مجموعة من رعاة الإبل المجردين من أي علم ومدنية..."، فما هو السبب؟
أولاً: الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب (1115- 1206هـ) ولد ببلدة العيينة القريبة من الرياض، وتلقى علومه على والده دارساً شيئاً من الفقه الحنبلي والتفسير والحديث، حافظاً للقرآن الكريم وعمره عشر سنين.
لقد سلك الإمام رحمه الله تعالى في بحثه عن فرق الباطنية مسلك الباحث الموضوعي، الذي اعتمد في كل جزئية تناولها على مراجعهم ومصادرهم، شأنه شأن المنصفين المقسطين، ولا غرو في ذلك فهو رحمه الله تعالى سلك مسلك أئمة السلف في الرد على المخالفين، لا سيما وأن الإمام قد تأثر إلى حد كبير بمنهج الإمامين العظيمين: ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى، فجاءت كتابته عن الرافضة سديدة وموثقة.
إن الشيخ بسبب تصديه ومحاربته العظيمة لعباد القبور والأضرحة، وقيامه بأهم الواجبات وهو تصفية التوحيد من أدران الشرك، وهدمه للقباب والأضرحة، وإبطاله أن يكون هناك عتبات أو مراقد مقدسة لأي أحد كان، ومنعه من الطواف بها، والاستغاثة، وطلب كشف الكربات، وتفريج المهمات، وتطبيق ذلك عملياً، بهدم قبة قبر زيد بن الخطاب، وجميع أضرحة ومزارات نجد، وبسبب فضحه للباطنيين على نفس طريقة الإمامين العظيمين: ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى، وقيامه بالرد عليهم وتبيين دجلهم ونفاقهم، وحتى اليوم أتباعه يدعون بدعوته، فإن القوم يعادونه عداء ليس له نظير، فإنه أكبر فاضح لهم.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "وبسبب الباطنية حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد".
إن الباطنية يعبدون ويتقربون لقبور الصالحين، فإذا كان حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) رواه البخاري ومسلم في قبور الأنبياء، فكيف من اتخذ المشاهد لمن هم أدنى من الأنبياء؟!!
وهو الذي منع النبي من الأمر بإبراز قبره للناس، كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) قالت: (لو لا ذلك أُبرز قبره، غير أنه خشي أن يُتخذ مسجداً)، وقال عليه الصلاة والسلام: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) رواه أحمد.
وهذا الذي يفعله هؤلاء الباطنيون ـ بالله عليكم ـ أليس من أعظم الشرك؟ وجعل قبور الصالحين أوثاناً تدعى وتعبد ويركع لها ويسجد، إن الله تعالى في عليائه أمر بإقامة الوجوه عند كل مسجد، ولم يأمر أن نقيمها عند كل مشهد، ثم إذا كان الغلو مهلكة لأمم السابقة، فهل أعظم منهم غلواً؟!! بلى والله!!
وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله)) أخرجاه. وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)) رواه النسائي وابن ماجه.
(1/3075)
مقارنة بين جيش البعث والانتفاضة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
محمد الشعراني
غير محددة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب الاعتبار بحال من مضى. 2- السقوط والاندحار مصير كل جيش لم يقم على أساس الدين. 3- سر انتصار المسلمين، أين يكمن؟ 4- سبب ثبات الانتفاضة في فلسطين وقوتها. 5- اعترافات إسرائيلية بقوة المقاومة وثباتها. 6- موازين النصر لا تخضع لكثرة العدد والعتاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، عباد الله، فإنّ التاريخ أستاذٌ ينبغي أنْ تُستقى منه العبر، وأن تُؤخذ منه الدروس، يقول الله عزّ وجل: لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى ?لالْبَـ?بِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى? وَلَـ?كِن تَصْدِيقَ ?لَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111]، إنه لا يحدث في هذه الدنيا حدث إلا بتقدير الله له قبل أن يخلق العالم بخمسين ألف سنة، وإن أساس ما يجب أن يعتقده المسلم في أقدار الله تعالى الكونية والشرعية، أنها منطلقة من حكمة بالغة، فإن الله لا يخلق شيئاً عبثاً سبحانه، حِكْمَةٌ بَـ?لِغَةٌ فَمَا تُغْنِى ?لنُّذُرُ [القمر:5]. وإن الناس إن لم يستفيدوا مما يحدث في هذه الدنيا من الأمور، يكونون قد فرطوا تفريطاً عظيماً فيما ينفعهم وفيما يصلح من أحوالهم، ألم تسمع إلى قوله تعالى بعدما هزم بني النضير: هُوَ ?لَّذِى أَخْرَجَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ مِن دِيَـ?رِهِمْ لأَِوَّلِ ?لْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ ?للَّهِ فَأَتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ?لرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى ?لْمُؤْمِنِينَ فَ?عْتَبِرُواْ ي?أُوْلِى ?لأَبْصَـ?رِ [الحشر:2]، فأخذ العبرة من الأحداث واجب، وتأملها من أعظم ما ينفع الإنسان في تسيير حياته.
إذا عرفنا هذا كله، ونحن نشاهد سقوط جيش عظيم، قرابة نصف مليون مدجج بأنواع الأسلحة التقليدية، من الصواريخ والدبابات والآليات، جيش له تجارب وخبرة ضخمة على مدى 24 سنة، جيش عرف بقوته وجبروته وبطشه، ومع ذلك ينهار في ظرف 20 يوماً، وإن كان الأمر ما يزال محيراً، إلا أن القاعدة التي تعلمناها من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضيَ الله عنه وهو يخاطب قائد الجيش يقول له: (يا سعد بن مُهَيْج، يا سعد بن أبي وقاص، لا يضرنك أن يقول الناس أنت خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتق الله وكن على حذرٍ من المعصية، إني أوصيك ومن معك من الأجناد بتقوى الله، فإنكم لا تنتصرون على الأعداء بعددٍ ولا عُدَّة، وإنما تنصرون بطاعتكم ومعصية عدوكم, فإن عصيتم الله كنتم أنتم وهم سواء، ينتصر بعد ذلك من كان أكثر عَدَداً).
إذن إنهار جيش العراق لأجل هذا، وغلبوهم بالعدد والعدة.
وبينما نحن نشاهد جيوش الروس بجميع أسلحتها، من الطائرات والصواريخ والدبابات والآليات وخبرتها كأقوى قوة تناطح أمريكا، رأيناها مدحورة مخذولة قد دوختها طائفة مؤمنة تقية نقية و?للَّهَ مَعَ ?لْمُتَّقِينَ [التوبة:123]، ليس عندها جيش نظامي ولا دبابة واحدة، وقد رأينا كذلك نفس الجيش الأمريكي، يظل أُسْد الله من المجاهدين الأشاوس في أفغانستان، يقاومونه إلى آخر رمق وآخر نفس، بل وهم مستمرون في النيل منه حتى هذه الساعة، حصروه داخل أسواره وأسلاكه الشائكة، لا يستطيع الخروج منها والتنقل بحرية، بل إنما يمنعه من كيد المجاهدين ويحميه طائفة مرتدة من أتباعه المنافقين، كل هذا وكل العالم يعلم يقيناً بأن هذه الطائفة ليس لديها ما كان لدى جيش البعث من العتاد والخبرة، أليس هذا عجيباً؟!!
أيها الإخوة المسلمون، إن سر انتصار المسلمين مكمنه في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزَعَنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن)) فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) أخرجه أبو داود وأحمد من حديث ثوبان، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله.
نعم إنه باختصار كراهية الدنيا وطلب الآخرة بصدق، التي لا يمكن الفوز بما أعد الله تعالى فيها إلا بحب الموت، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: (اطلب الموت توهب لك الحياة).
لا تسقني كأس الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
بل حتى بلاد المسلمين المحتلة في الأرض المباركة، أرض فلسطين، أرض الشام، أرض الملاحم قبل قيام الساعة، كل العالم يشاهد ويسمع تلك العجائب! كيف يتصدى أطفال بحجارة، وشباب لا يملكون من السلاح غير سلاح الإيمان، والحرص على طلب الجنان مهما كان، كيف يتصدون لما يصفه العالم بأنه أقوى جيوش المنطقة، وخامس أقوى جيش في العالم، الذي قال أحد المراقبين اليهود: "كل شعوب العالم تملك جيشاً، إلا في إسرائيل، فإنها جيش يملك شعباً"!!
نعم شباب الانتفاضة، هم يقاومون بمعنويات مرتفعة، يسندها أنهم لا يستمعون ولا يبالون بما يصرخ به المتقاعسون اللاهثون وراء سلام الشجعان، الذين كلما وقعت عملية ناجحة بكل المعايير ضد العدو المحتل، أتى هؤلاء ونبحوا معلقين: "وكل هذا سيؤدي إلى انتقام شديد من قبل العدو المحتل". هذه الفتية التي آمنت بربها واهتدت، زادهم الله هدى، حتى اليهود في إعلامهم يعترفون بهزيمتهم مقابل الانتفاضة، فلننظر ماذا قال الخبير الإستراتيجي اليهودي "فان كرفيلد" وهو أستاذ الدراسات العسكرية في الجامعة العبرية، وعدد من الأكاديميات العسكرية حين يتحدث عن هذا التغيير ونتائجه، وكيف ربطه بكل جرأة وصراحة بنهاية دولة إسرائيل: "لا نجد جيشاً نظامياً نجح في مواجهة انتفاضة كالتي نواجهها. ما يحدث معنا اليوم هو ما حدث مع الأمريكيين في فيتنام، والإسرائيليين في لبنان، والروس في أفغانستان، وهذا ما سيحدث معنا مرة أخرى، وهذا ما سيحدث للأمريكيين في أفغانستان".
فيقول له الصحفي: ألا يوجد لديك مثال مخالف؟
قال: أنا لا أعرف مثالاً مخالفاً، إننا ندير حرباً للطرف الآخر فيها كل الإيجابيات، فنحن نقاتل في ملعبه، الجيش اليوم موجود في الجانب غير الصحيح، في الجهة التي سيحكم عليها بالفشل".
ويقول: "لدينا قوة كبيرة، ولكن معظم هذه القوة لا يمكننا أن نستعمله، وحتى لو استعملناه فثمة شك في نجاحه، فالأمريكيون أنزلوا ستة ملايين طن من القنابل، على فيتنام ولا أذكر أن هذا الأمر نفعهم".
و يعبر "يوري أفنيري" الذي كان عضواً في الكنيست عن هذه الهزيمة بمثال:
"دخل ملاكمان الحلبة: واحد منهما بطل الوزن الثقيل، والآخر وزن الريشة. ويتوقع الجميع أن يقوم البطل بتسديد ضربة قاضية تقضي على غريمه الهزيل في الجولة الأولى.
ولكن بأعجوبة تنتهي الجولة الأولى، والضربة القاضية لم تسدد بعد، ثم الجولة الثانية، ويستمر نفس الوضع، وبعد الجولتين الثالثة والرابعة لا يزال خفيف الريشة واقفاً، مما يعني أنه هو الرابح الحقيقي، لا بالضربة القاضية ولا بالنقاط، وإنما لمجرد أنه لا يزال واقفاً ومستمراً في الصراع مع غريمه القوي".
ولنعرف السبب ـ أيها الإخوة ـ لنتأمل قوله تعالى: فَأَتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ [الحشر:2]، يقول: "فان كرفيلد" أيضاً: "في عام 1994 دعيت لإلقاء محاضرة في هيئة الأركان الصهيونية العامة، وكان قائدها آنذاك إيهود باراك (رئيس الوزراء فيما بعد)، لقد خرجت من المحاضرة مصعوقاً من مستوى وسلوك الجنرالات آنذاك، فبعضهم انشغل في أكل الساندويتشات، والآخر تكلم، والبعض ثرثر، ورابع لعب في الأوراق التي أمامه، وبعضهم انشغل بالحواسيب يلعب بها كالأولاد الصغار، لقد فعلوا في أثناء المحاضرة كل ما يفعله طالب فوضوي، ما عدا قذفهم المحاضر بالأوراق! ولقد سألت باراك إن كانت هذه الفوضى دائماً تحدث أثناء المحاضرة فأجاب: "بشكل عام.. الوضع أكثر صعوبة"، إن مستوى الفوضى لدى الضباط فاجأني، إنهم مجموعة من المتخلفين، ولم ألتق بمجموعة جاهلة كهذه المجموعة في أي إطار، وهم أشد جهلاً في موضوعهم "الجيش الإسرائيلي" بما في ذلك تاريخ ونظريات الجيش".
فيقول له الصحفي: إذن ماذا يتعلمون في الدورات؟
فيجيب: الله وحده يعلم.
فيعود ليقول له: إذن نحن في طريقنا إلى البحر؟
فيجيب: "إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإننا سنصل إلى تفكيك "دولة إسرائيل"، ليس عندي شك في ذلك، والدلائل موجودة، ولكن قبل أن نتفكك نهائياً ستنشب هنا حرب أهلية، وهذا هو الخط الأحمر بالنسبة لي، ولو وقعت جريمة قتل أخرى، كتلك التي حدثت لرابين، فسأرحل أنا وعائلتي، تاركاً أبناء شعبي الذين أحبهم هنا، ليقتل الواحد منهم الآخر"اهـ.
وعن الطرف الآخر يقول:
"فيما يتعلق بالفلسطينيين، فإن هذا الأمر يعمل بشكل عكسي تماماً، فهم يملكون دائما ثقة بالنفس عالية، ويمكنك أن تلاحظ تردي الأوضاع عندنا من خلال السنوات المنصرمة، كيف أن فضيحة تتبعها فضيحة، وفشل يتبعه فشل، فالرجال يرفضون الخدمة العسكرية، والجنود يبكون على القبور، في نظري أن هذا البكاء أحد أغرب الأمور، ولو كان بوسعي فعل شيء لمنعت بث هذه المشاهد وهذه الصور، ومن الجهة المقابلة أنت ترى رغبة شديدة في الانتقام ومعنويات عالية، وما عليك إلا أن تقارن الجنازات، حتى تفهم لمن توجد همة عالية أكثر، ومعنويات أعلى: عندنا ينوحون، وعندهم يطلبون الانتقام، إننا نقترب من نقطة سيفعل الفلسطينيون بنا ما فعله المجاهدون الأفغان بالجنود السوفييت في أفغانستان، وما فعلت جبهة التحرير الوطني الجزائرية في الفرنسيين في الجزائر".
ولا بأس ـ أيها الإخوة ـ أن نذكر لكم كذلك ما قاله "جرشون باسكين"، المدير العام المشترك للمنظمة الإسرائيلية الفلسطينية للبحوث والمعلومات، حيث كتب يقول موضحاً سبب الانتصار للانتفاضة:
"إن الفلسطينيين يعرفون أن قوتهم العسكرية أقل بأضعاف من القوة الإسرائيلية، وأنه لا توجد أمامهم أية إمكانية للفوز في أرض المعركة، ولكنهم يؤمنون من الناحية الأخرى بتفوقهم السياسي والأخلاقي. واعتقادهم هو أن العدل والتاريخ يقفان إلى جانبهم، وهم يقولون: إن إسرائيل هي المحتل الأخير المتبقي في العالم، وأن أحداً لا يستطيع أن يوقف نصرهم في حرب التحرير التي يخوضونها من الاحتلال الأجنبي، ـ إلى قوله ـ وهم مقتنعون أنهم سيحققون ذلك في نهاية المطاف، من خلال الكفاح الذي يخوضونه الآن"، أي من خلال حرب التحرير الفلسطينية.
هذه شهادة العدو المحتل والحق ما شهدت به الأعداء.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ووفقنا اللهم لصالح القول والعمل برحمتك يا أرحم الراحمين، بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو البر الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي العز والسلطان، أنزل القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، أحمده سبحانه على عظيم الإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله عظيم الشان، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله، بعثه الله إلى الإنس والجان، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أولي الفضل والإيمان.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، إن أمتنا لن تحقق عزتها إلا إذا كانت تحت راية إسلامية، لا قيمة للأعداد الغفيرة، ولا العدد الكثيرة، إذا كانت الراية ليست راية إسلامية، لا قيمة للشعارات والخطب الكاذبة والدعاوى بغير بينات، لا قيمة للرايات البعثية والقومية، بل من قاتل تحتها فهو من أهل الجاهلية، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعُصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل؛ فقتلة جاهلية)).
إن الراية التي يجب أن ينضوي تحتها المسلمون هي راية لا إله إلا الله، وهي الراية التي ستنتصر، وهي الراية التي تكون في سبيل الله، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أيضاً: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)).
نحن نحتاج في الحقيقة مثل تلك الفئات التي ذكرناها آنفاً، ولاينبغي لنا أن نغتر بالكثرة والعدد أو بالقوة المادية، فهاهي قد ولت على أدبارها في بغداد: لَقَدْ نَصَرَكُمُ ?للَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ?لارْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ [التوبة:25].
يا ألف مليون وأينهم إذا دعت الجراح
هاتوا من المليار مليوناً صحاحاً من صحاح
من كل ألف واحداً أغزو بهم في كل ساح
من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح
ليست راية التوحيد راية تدعى أو تزعم، إنما تصدقها الأفعال المنبعثة من النية الصادقة، ففي الحديث الصحيح أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الرجل يقاتل للذكر ويقاتل ليُحْمد، ويقاتل ليغنم، ويقاتل ليُرَى مكانه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قاتل حتى تكون كلمة الله هي أعلى، فهو في سبيل الله ـ عز وجل ـ)). وإذا صار مقاتلاً في سبيل الله فهو الذي يستحق الجنة بجدارة.
كما في حديث أبي هريرة، قال: مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عُيَينَة من ماء عذبةٌ، فأعجبته لطيبها، فقال: لو اعتزلت الناس، فأقمت في هذا الشعب ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا تفعل؛ فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟ اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فَواق ناقة وجبت له الجنة)) رواه الترمذي وهو حسن.
وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
فهل من عودة إلى دين الله يا عباد الله؛ هل من توبة؟ هل من صحوة؟ وهل نعي أسباب النصر والهزيمة؟!!
(1/3076)
يوشك أن تداعى عليكم الأمم
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
فيصل بن عوض الردادي
الظهران
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موقف هارون الرشيد من رسالة ملك الروم. 2- نداء إلى أهل العراق وحثهم على الصبر والصمود. 3- أسباب النصر. 4- مبشرات بنصر الإسلام والمسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فعندما تضعف أمة الإسلام، فإن كلاب الأمم تطمع بخيراتها ومقدّراتها، بل تتجرأ على غزو ديارها، وإن كلاب الأمم بعامة لا يُجدي معها سوى لغة إلقام الحجر! ولا يردعها سوى لغة: ((خمس فواسق يُقتلن في الحلّ والحرم)) ! ولا يردّها خاسئة ذليلة حقيرة، إلا منطق سليمان عليه الصلاة والسلام: ((ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ)).
ولا يقطع دابرها سوى مقولة: ((مَنْ لِكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله)) رواه البخاري.
ولا يردّها عما عزمت عليه غير منطق: (الجواب ما تراه لا ما تسمعه).
لقد كان هذا هو منطق أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين في زمانه، هارون الرشيد، يوم أطلقها مُدوّية من بغداد.
لقد تجرأ نقفور ملك الروم، فكتب (مُجرّد كِتابة!!!) إلى هارون ملك العرب، أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرُّخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها، وذلك لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك، وافتد نفسك، وإلا فالسيف بيننا!
فلما قرأ هارون الرشيد الكتاب اشتد غضبه، وتفرق جلساؤه، خوفاً من بادرة تقع منه، ثم كتب بيده على ظهر الكتاب:
من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم!
قرأت كتابك يا ابن الكافرة! والجواب ما تراه دون ما تسمعه.
ثم ركب من يومه، وأسرع حتى نزل على مدينة هرقلة، وأوطأ الروم ذلاً وبلاءً، فقتل وسبى وذل نقفور، وطلب نقفور الموادعة على خراج يؤديه إليه في كل سنة، فأجابه الرشيد إلى ذلك.
لله درك يا هارون الرشيد!
والله إن الأمة بحاجة إلى مُخاطبة طاغية الروم ـ اليوم ـ بهذا الخطاب، وبهذه القوّة، وبهذه اللغة.
وكم هو والله بحاجة إلى أن يُعرّف قدره.
يا ألف مليون تكاثر عدّهم إن الصليب بأرضنا يتبخترُ
فالحرب دائرة على الإسلام يا قومي، فهل منكم أبيٌّ يثأرُ
يتقاسم الأعداء أوطاني على مرأى الورى وكأننا لا نشعرُ
أين النظام العالمي ألا ترى شعباً يُباد وبالقذائف يُقبرُ؟
أين العدالة أم شعار يحتوي سفك الدماء وبالإدانة يُسترُ؟
ما دام أن الشعب شعب مسلمٌ لا حل إلا قولهم : نستنكرُ!
يا أمتي والقلب يعصره الأسى إن الجراح بكل شبرٍ تُسعِرُ
والله لن يحمي ربى أوطاننا إلا الجهاد ومصحف يتقدّر
عباد الله، آن لنا أن نخاطب إخواننا الصامدين الثابتين.. الرابضين في الخنادق أمام الزحف الصليبي اليهودي الحاقد، فهذه نداءات يطلقها إخوان لكم من قلوب تحترق لما ترى من تكالب أعداء الله عليكم، وعظيم ما وقع عليكم من ظلم، وهي تعيش شعوركم، وتحس إحساسكم كغيرهم من آلاف الملايين، تحترق قلوبهم لما يجري لكم، وترقص طرباً لبطولاتكم وثباتكم عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ?لأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف:129].
يا أهل العراق، يا أهل الرافدين، يا أهل الكوفة والبصرة، يا أهل بغداد، يا دار الخلافة، ومنبت العلم والعلماء، والفقه والفقهاء، والحكمة والحكماء، بلد أمير المؤمنين الرشيد، وإمام أهل السنة أحمد بن حنبل، والقائد المظفر المثنى بن حارثة.
أنتم الآن رمز الأمة، وحملة لواء بطولاتها فلا تخذلوها.. الله الله.. ولا تبتغوا بإسلامكم بديلاً، فهو سر عزتكم وكرامتكم، ما عُرفت بلادكم بحضارة آشور ولا بابل، ولكن بحضارة الدين والإسلام، ولا استمدت إمامتها من حمورابي ولا بختنصر، ولكن من خلفاء الإسلام، وأئمة الدين، فالله الله.. ارفعوا لواء الجهاد وهوية الإسلام، وأخلصوا الدين لله، وتبرؤوا من كل راية جاهلية، قومية وبعثية وقبلية، واجعلوها جهاداً صادقاً ناصعاً، بعد تصحيح الاعتقاد، وتحكيم الشريعة، حتى يكون قتيلكم شهيداً وتليدكم عزيزاً.
يا أهل العراق، أيها الصامدون، صبراً صبراً في مواجهةٍ الزحف الصليبي، فإنما الشجاعة صبر ساعة، والمهزوم من يئن أولاً.
تذكروا أسلافكم المجاهدين أهل القادسية والجسر، والمعارك الفاصلة، كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ?للَّهِ [البقرة:249].
في دياركم وأراضيكم سقط العرش الكسروي، ودمر البيت الأبيض (إيوان كسرى) قال صلى الله عليه وسلم: ((عُصيبة من المسلمين يفتتحون البيض الأبيض بيت كسرى)) رواه مسلم. فعسى أن يكون على أيديكم سقوط البيت الأبيض، إيوان الطاغية.
ومن دياركم انطلقت ألوية فتح الهند والسند والصين والروس.
أيها الصامدون، تذكروا الشعوب الصامدة التي قاتلت حتى آخر قطرة دم، ووقفت في وجه الاستعمار حتى آخر رجل، تذكروا أهل فيتنام الذين ذهبوا مثلاً خالداً في تاريخ البطولة والتضحية، ودنسوا وجه أمريكا القبيح، فلا يكن الكافرون أشد وأقوى منكم بأساً: وَلاَ تَهِنُواْ فِى ?بْتِغَاء ?لْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ ?للَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:104]. لا يكن الروس الملاحدة أقوى منكم بأساً، حينما سطروا بطولات خارقة، وقاتلوا هتلر قتال المدن على خرائب "ليننغراد"، وعلى أطلال "ستالين غراد" وغيرها، أبوا على الغزاة الألمان، وصمدوا شهوراً وسنين، وتحملوا أعنف قصف جوي ومدفعي عرفته البشرية إلى ذلك الوقت، وقاتلوا فرق الإنزال، وحصدوا فرق الصاعقة والكوماندوز، حتى هزموا الألمان هزيمة منكرة، وحطموا جيشهم الذي كان عداده بالملايين.
تذكروا تضحياتهم، بل تذكروا تضحيات إخوانكم الأفغان، وخوضهم غمار حرب، واجهوا فيها بالبنادق أقوى جبروت عسكري، مجهز بكل الطائرات والصواريخ والمدافع، حتى هزموا الروس، وكان على أيديهم تفككه.
صبراً يا أيها العراقيون المسلمون، لا يكن هؤلاء الصليبيون العلوج أشد بأساً منكم، فإنما هم لفيف من اللقطاء والبغايا، وهاهم يهاجمونكم يا أحفاد الصحابة والعرب الأباة في عقر داركم، وعلى مرأى ومسمع من العالم، فلا يكن النساء الفاجرات وأولاد العلوج أشد منكم بأساً.
إياكم أن تتراجعوا في وجوه نساء الغرب، إنها سبة التاريخ ووصمة العار، قاتلوا حتى النهاية فإما الفوز وإما الشهادة.
عش عزيزاً أو مت وأنت كريم بين طعن القنا وخفق البنود
أيها المجاهدون في العراق، اعلموا أن قضيتكم عادلة، وأنتم مظلومون معتدى عليكم في دياركم أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـ?تَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ?للَّهَ عَلَى? نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ?لَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـ?رِهِم بِغَيْرِ حَقّ [الحج:39، 40]، وكل هذه الصفات محققة فيكم، قوتلتم وُظلمتم، وأراد الغزاة إخراجكم من دياركم، وسلب أموالكم وبترولكم، فلا تكونوا عبيداً للغرب، اثبتوا واصبروا إن الله يحب الصابرين.
واعلموا أن أمريكا غاشمة ظالمة، مستبدة متكبرة، مغرورة بقوتها، ظانة أن لا غالب لها، وهذه أمارات الزوال والهزيمة وَتِلْكَ ?لْقُرَى? أَهْلَكْنَـ?هُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا [الكهف:59]، فعسى أن يكون موعد هلاكهم على أيديكم، وفي دياركم، وقال تعالى: وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً [الفرقان:19]، وقال تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَـ?رِهِم بَطَراً وَرِئَاء ?لنَّاسِ [الأنفال:47]، وقال تعالى: لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْفَرِحِينَ [القصص:76]، وقال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18]، فأمريكا مكروهة مبغوضة لله، بتكبرها وغطرستها وظلمها.
واحرصوا أنتم على أسباب محبة الله لكم، بتحكيمكم شرعه واتباع هدي رسوله، والمحافظة على الطاعة، وترك المعصية، ورفع راية الجهاد الخالص، والاجتماع وترك الفرقة، حتى يكون النصر حليفكم لمحبة الله إياكم، إذا حققتم أسبابها، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لَّذِينَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَـ?نٌ مَّرْصُوصٌ [الصف:4].
يا أهل العراق، أعلنوها إسلامية خالصة جامعة، وتبرؤوا من كل عصبية سوى الإسلام، كالبعثية والاشتراكية وغيرها، لتلتئم حولكم الشعوب، وتهوي إليكم القلوب، وتُرضوا علام الغيوب، فاتقوا الله.. واجعلوه جهاداً في سبيله لإعلاء كلمة الله تعالى.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه...
عباد الله، إن المبشرات، التي يُرجى معها دحر هذا العدو الكافر عديدة، فمنها:
1- ما أعد الله للمجاهدين في سبيله من الثواب الأوفى، إذا صدقوا النية، وأخلصوا القصد، وقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا، وكم في القرآن والسنة من الآيات والأحاديث الواعدة بهذا الثواب، ويكفيكم قوله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ مِنَ ?للَّهِ فَ?سْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ?لَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة:111]. قال الحسن البصري: "يا عجباً أنفساً خلقها، وأموالاً وهبها، فباع واشترى معها، وضمن الربح لها" الله أكبر ما أعظم كرم الله، تأملوا الشروط في الآية بعدها وحققوها: ?لتَّـ?ئِبُونَ ?لْعَـ?بِدُونَ ?لْحَـ?مِدُونَ ?لسَّـ?ئِحُونَ ?لركِعُونَ ?لسَّـ?جِدونَ ?لاْمِرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?لنَّاهُونَ عَنِ ?لْمُنكَرِ وَ?لْحَـ?فِظُونَ لِحُدُودِ ?للَّهِ وَبَشّرِ ?لْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112]، والسائحون: المجاهدون أو الصائمون.
واعلموا أن قتال أهل الكتاب من أفضل القتال والجهاد، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أفضل الشهداء في زمانهم، من يقتلهم النصارى في الملحمة بينهم وبين المسلمين، هذا قدركم يا أهل العراق، جاءكم الجهاد في دياركم يسعى، ودخلت عليكم الشهادة أرضكم وبيوتكم، فقولوا: مرحباً بلقاء الله، واعلموا أنها سوق الجنة، قامت في أرضكم، فبيعوا واشتروا مع الله، وانووا الجهاد الصادق، وحققوا الدين الخالص، والتوحيد الحق، وتجردوا من كل أنواع الشرك والضلالات والبدع والمحدثات، فوالله لا نحب أن يودعنا منكم ذاهب، إلا إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
2- ومن المبشرات كثرة دعوات المسلمين لكم في أرجاء الدنيا، شعوراً منهم بفداحة ما وقع عليكم من ظلم وإجرام، وليتكم تسمعون ضجيج الأصوات بالدعوات من المساجد والبيوت والمجامع، من العجائز، والأطفال، والصغار والكبار، والرجال والنساء، يدعون الله لكم بالنصر والثبات، ولعدوكم بالهزيمة والخذلان، فلستم وحدكم في الساحة، فكم من جنود لله مجاهيل تقاتل معكم: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر:31]، ويحييون الليالي، ويتهجدون في الظلام، ويدعون الواحد الأحد، ويستمطرون لكم النصر إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَ?سْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9].
وحري أن يستجيب الله الدعاء، إذا تضافرت وتظاهرت عليه الجموع، وأنتم كذلك لا تملوا الدعاء والتضرع، فإنه من أسباب النصر والتمكين.
3- ومن المبشرات أن عدوكم ظالم، باغ، متغطرس، متكبر، يقاتل جنوده المكرهون لا لهدف ولا لغاية، وأنتم تقاتلون في بلادكم وبيوتكم، ودون محارمكم، فاصبروا فإن النصر مع الصبر، وعدوكم يقاتل غريباً وحيداً في صحراء لم يتعودها، ولا يتحملها، ولئن صبرتم قليلاً، يوشك أن تشتد عليه الشمس، فتذوب أجسادهم المنعمة، كما يذوب الثلج تحت وهج اللهب، لا تملوا ولا تستبطئوا النصر.
عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ?لأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف:129].
(1/3077)
خطبة عيد الفطر: الشرك الأصغر
التوحيد
الشرك ووسائله
محمد إقبال جابو
غير محددة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التوحيد أعظم ما اعتنى الإسلام به. 2- أنواع الشرك الأصغر في أعمال القلوب. 3- من أعظم الشرك الأصغر الرياء والسمعة. 4- معنى الشرك الأصغر في الألفاظ. 5- الأفعال التي يحصل بها الشرك الأصغر. 6- شروط جواز الرقية. 7- لا يجوز التبرك بشيء لم يرد فيه دليل.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد: عباد الله، إن الله عزّ وجلّ أحاط دينه وشرعه بسياج منيع, ونهى عن قربان هذا السّياج؛ فضلاً عن الوقوع فيه، قال تعالى: تِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا [البقرة:187]، وقال في شأن الزنا: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً [الإسراء:32]، وما هذا إلا احتياط للشرع أن تنتهك حرمته، وفي حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الحلال بَيِّن والحرام بَيِّن, وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنَّ كثير من الناس, فمن اتقى الشُّبهات استبرأ لدينه وعرضه, ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام, كالراعي يرعى حول الحِمَى, يوشك أن يَرْتَع فيه)) متفق عليه.
بل أعظم من ذلك, إذا علمنا القاعدة الشرعية القائلة: "الطاعة المؤدية لمعصية راجحة واجبٌ تركها, فكل ما أدى إلى شر فهو شر".
أيها المسلمون، وإن أعظم شيء حمى الإسلام جنابه وحثّ على تقويته وتنميته وتغذيته هو "التوحيد"، بل نهى عن كل ما يخل به أو يضعفه أو يزيله، وبالمقابل: إن أعظم شيء نهى الإسلام عنه، وحرَّض على الابتعاد عن أي وسيلة قد تؤدي إليه أو تقرب منه، هو الشرك، الذي قال تعالى فيه: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48].
فمن أجل ذلك كله، وتطبيقاً للقواعد التي ذكرناها، سنتكلم ـ إن شاء الله ـ في هذه الخطبة عن أمرٍ خطيرٍ جداً يقدح في باب التوحيد، ألا وهو الشرك الأصغر. وقد تطلَّب الكلام عنه شدَّة خفائه, وعِظم بلائه, وإفتنان الخلق ـ إلا من رحم الله ـ به. ولقد بالغ صلى الله عليه وسلم وحذّر وأنذر, وأبدأ وأعاد, وخصَّ وعَمّ، في حماية الحنيفية السمحة التي بعثه الله بها، كما قال بعض العلماء عن الشريعة الإسلامية: هي أشد الشرائع في التوحيد والإبعاد عن الشرك, وأسمح الشرائع في العمل.
أيها الأحبة في الله، إن كثيراً من المسلمين اليوم ـ وللأسف الشديد ـ قد لا يعلم أي شيء عن ماهية الشرك الأصغر, ومدى خطورته, وماهي أنواعه!! وإن الكلام عن كل ذلك يحتاج إلى عشرات الخطّب، ولكننا سنختصر ـ إن شاء الله ـ معظم هذه الأبحاث في هذه العُجالة.
فأعِرني سمعك ـ رعاك الباري ـ إلى تعريف الشرك الأصغر أولاً، فالشرك الأصغر هو كل ما نهى عنه الشرع؛ من اعتقاد أو قول أو عمل، مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر أو وسيلة للوقوع فيه... بل إنَّ بعض العلماء جعلوه كالشرك الأكبر في أن الله تعالى لا يغفره يوم القيامة, ولا يدخل تحت المشيئة كبقية المعاصي، أما الأمر الذي لا خلاف فيه، فهو أن الشرك الأصغر أعظم من الكبائر, وأن بعضه قد يكون بذاته شركاً أكبر, وبعض الآخر قد يتحول ويصبح شركاً أكبر, وبعضه المتبقي يؤدي إلى الشرك الأكبر ـ والعياذ بالله ـ.
إخوة الإيمان والعقيدة، لقد قسَّم العلماءُ، الشرك الأصغر إلى ثلاثة أنواع، اعتماداً على كيفية الإتيان به، أي مواقعته: الأول: الشرك الأصغر في أعمال القلوب. والثاني: الشرك الأصغر في الألفاظ. والثالث: الشرك الأصغر في الأعمال.
أما النوع الأول: وهو الشرك الأصغر في أعمال القلوب، فأول شرك يدخل فيه؛ الشرك الأصغر في المحبة؛ وهو الغلو في المحبة التي أصلها شرعي أو جَبَلِي. وأولى الأمثلة على هذا: الشرك الأصغر في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهو الغلو في محبة النبي وغيره من باب أولى، كعلي أو الأولياء ونحوهم, ورفعهم إلى مرتبةٍ فوق مراتبهم، أو الزيادة في الإطراء والمدح، والرسولصلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم, إنما أنا عبده, فقولوا: عبد الله ورسوله)).
ولذلك كرِه بعض العلماء تكرار كلمة "سيدنا" عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من باب أولى, ولكن ليت الأمر توقف عند هذا، بل اسمع إلى ما يقوله الصوفية والغلاة فيه صلى الله عليه وسلم, فهذا أحد كبار الصوفية يغلو في الرسول قائلاً:
ومن جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
فليت شعري! ماذا أبقى لله تبارك وتقدّس؟!
ومن أنواع الشرك الأصغر في المحبة: محبة إنسان محبة تجعلك تطيعه في معصية الله؛ بجعل الحرام حلالاً أو جعل الحلال حراماً, ومنها أيضاً العشق الذي يُخرِج الإنسان عن الحد الطبيعي, حتى يشغله عن ربه في صلاته، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن المتحابين يحب أحدهما ما يحب الآخر بحسب الحب, فإذا اتبع أحدهما صاحبه على محبته ما يبغضه الله ورسوله، نقص من دينهما بحسب ذلك, إلى أن ينتهي إلى الشرك".
عباد الله، وإن ثاني أنواع شرك أعمال القلوب: الشرك الأصغر في الخوف, وهو خوف غير الله بما يصد عن طاعة الله، مع اعتقاد أن الأمر لله، وهذا كمن ترك واجباً, أو فعل محرماً خوفاً من غير الله، فهذا شرك أصغر منافٍ لكمال التوحيد. أما أن يخاف الخوف الطبيعي من سبب تحقق إيذاؤه في مجاري العادة، فهذا ليس بمذموم، مع أن الكمال هو أن لا يبقى في قلب العبد خوف أحد غير الله, وطريقه تكميل الإيمان بالقدر. أما الخوف مما لم تجرِ العادة بأنه سبب للخوف، فهذا جبن وضعف في النفس، والله تعالى يقول: فَلاَ تَخْشَوُاْ ?لنَّاسَ وَ?خْشَوْنِ [المائدة:44].
أيها المسلمون، ومن أنواع الشرك الأصغر في أعمال القلوب: التطير، وهو التشاؤم من شيء معين ليس سبباً لذلك، كمن يتطير بالبوم أو الغربان، أو التطير بسماع بعض الكلمات، أو التطير والتشاؤم بملاقاة الأعور أو الأعرج أو العجوز, أو التطير إذا تعثر أو وقع, أو التطير والتشاؤم ببعض الأيام أو الساعات أو الجهات، فكل هذه الأمور محرمة وشرك أصغر، قد تؤدي إلى الشرك الأكبر المخرج من الملّة والعياذ بالله.
بل إنَّ خطورتها تكمن في أنَّ الإنسان إذا اعتقد أنَّ هذه الأشياء أو أحدها تملك بذاتها الضرر أو النفع أو ما شابه، فهذا بذاته هو الشرك الأكبر. فيجب على الإنسان أن يجاهد نفسه, ولا يلتفت إلى مثل هذه الأمور إطلاقاً، بل يعلّق قلبه بالله فقط، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((الطيرة شرك)).
عباد الله، ومن أنواع الشرك الأصغر: الاعتماد على الأسباب؛ أو بمعنىً أوضح: اعتقاد واتخاذ ما ليس بسبب كسبب، فمنها أولاً: ما هو شرك أكبر، كاتخاذ الأصنام أو القبور واسطة وسببًا بين الإنسان وبين الله عزَّ وجلّ. أو الاعتماد على سبب، يعتقد فيه النفع والضر بمشيئته المستقلة، فهذا انتقل من الشرك الأصغر إلى الشرك الأكبر، فكل من أثبت سببًا لم يجعله الله سببًا شرعيًا أو قدريًا، فقد أشرك بالله شركًا أصغر، لأنه لما اعتقد أن ما ليس بسبب سببٌ، فقد شارك الله تعالى في الحكم لهذا الشيء بأنه سبب، والله تعالى لم يجعله سببًا.
أيها المسلمون، ومن أعظم أنواع الشرك الأصغر، الرياء والسمعة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)) , قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: ((الرياء, يقول الله عز وجل إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء)) صححه الألباني.
والكلام عن الرياء وأقسامه يطول، ولكن ليعلم أن منه ما هو شرك أكبر وهو النفاق الأكبر، وهو أن يكون الرياء في أصل العبادة. ومن الرياء ما يطرأ أثناء العبادة، ومنه ما يصاحب العبادة، ومنه الرياء بعد الفراغ من العبادة، ومنه الفرح بحمد الناس وثنائهم، وهذه جميعها صاحبها على خطر عظيم، وجميعها شرك أصغر، وبعضها يُحبِط العمل ولا يقبل من صاحبه، وبعضها الآخر ينقص الأجر والثواب.
أما التسميع، وهو أن يعمل عملاً ولا يراه فيه أحد ـ أي غير مراء ـ ثم يذهب ويسمّع به، فهذا يعتمد على نية المسمِّع، وعلى كل، فليكن المسلم على حذر من هذا!! ومن وقع منه رياء فليتب إلى الله، ويستغفره.
ومن ذلك ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم أمته بقوله لأبي موسى الأشعري: ((الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل، وسأدلك على شيء إذا فعلته، أذهب عنك صغار الشرك وكباره، تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)) صححه الألباني. وهذا الدعاء وقاية وعلاج وكفارة ـ إن شاء الله ـ والله أعلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها الإخوة المسلمون، وأما القسم الثاني من الشرك الأصغر ـ كما ذكرنا ـ هو الشرك الأصغر في الألفاظ، وهو التشريك بين الله تعالى وشيء من خلقه بحرف "الواو"، كقول الرجل لصاحبه: "ما شاء الله وشئت"، "وما لي إلا الله وأنت "، " وأرجو الله وأرجوك"، "وأعتمد على الله وعليك"، فضلاً عن أن يقول: "ما لي إلا أنت.. معتمد عليك.." فهذه وغيرها ألفاظ شركية شركًا أصغر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، وقولوا: ما شاء الله وحده)). وفي حديث آخر قال: ((قولوا: ما شاء الله ثم شئت)). فلينتبه إلى ذلك.
إخوة الإيمان والعقيدة، ومن أنواع الشرك الأصغر: الشرك الأصغر في الأسماء، وهي على أنواع: فمن الأسماء تلك التي فيها تعظيم لا يليق إلا بالله عز وجل، مثل: ملك الملوك، وسلطان السلاطين، وقاضي القضاة.. ونحو ذلك، بغض النظر عن نية صاحب الاسم أو المنادي، فكل هذه التسميات لا يجوز لا المناداة بها، ولا إطلاقها، ولا التسمي بها، مع التذكير بأن باب الألفاظ لا ينظر فيه إلى نية المتلفظ ومقصده، والأدلة على ذلك كثيرة معروفة.
ومنها الأسماء المعبّدة لغير الله، كأن يقول السيد لمملوكه: "عبدي" أو "أمتي" أو هذا "عبد فلان" أو "أمته".. ولكن الصحيح قول: "فتاي وفتاتي وغلامي"، وكذلك قول المملوك لسيده: "ربي" أو "ربتي"، ولكن الصحيح قول "مولاي ومولاتي". ومنها التسمي "بعبد عمر وعبد تميم وعبد الكعبة وعبد الحسين وعبد الرسول وعبد المطلب". ونحوه مما يعبّد فيها الاسم لغير الله سبحانه وتعالى.
ومن الشرك الأصغر في الألفاظ: سبّ الدهر أو شتمه، وما في معناه من الزمان أو الليالي أو الأيام أو الساعات.. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تسبّوا الدهر، فإن الله هو الدهر)) رواه مسلم.
عباد الله، أما القسم الثالث والأخير من أقسام الشرك الأصغر: فهو الشرك الأصغر في الأفعال، وهو على أنواع: فأولها: الرُّقى، والتمائم "الحجب"، والتِّوَلة "الودائع"، فنقول باختصار: أما التمائم "الحجب" وهو كل ما يعلقه الشخص، أو يضعه على صدره أو يده أو رقبته، أو في أي مكان كان ـ وهي على الأغلب تشتمل على كتابة ما ـ فهذه جميعها لا تجوز، ومحرمة بل هي شرك أصغر، حتى وإن كانت الكتابة من القرآن الكريم أو السنة النبوية. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الرُّقى والتمائم والتِّوَلة شرك)). ويقول أيضا ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ: ((من عَلَّق تميمة فقد أشرك)) رواهما أحمد.
أما التِّوَلة "الودائع" وهي كالخرز أو العين أو الكف أو القلادة أو الوتر وغيره، فحكمها تمامًا كحكم التمائم، بل أشد. ولكن لينتبه "أن تعليق التمائم أو التولة قد ينتقل من الشرك الأصغر إلى الشرك الأكبر، إذا اعتقد الإنسان أنها بذاتها تنفع أو تضر، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، والعياذ بالله.
أما الرّقى: "وهو ما يقرأ على المريض" فلها شروط مهمة لجوازها: أولاً: خلوها من الشرك. ثانيًا: أن لا يعتقد أنها تؤثر بذاتها، ثالثًا: أن تكون باللغة العربية، رابعًا: أن تكون مفهومة المعنى، خامسًا: أن تكون الرقية بعد الوجع ونزول الداء، فأما قبله فلا تجوز، سادسًا: أن لا تكون من عرّاف أو كاهن أو ما شابه، سابعًا: أن تكون من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة. فإذا توفرت هذه الشروط كانت جائزة، وإذا انتفى شرط واحد فقط، أصبحت محرمة لا تجوز، وهي شرك أصغر، وقد تؤدي إلى الشرك الأكبر.
عباد الله، ومن أنواع الشرك الأصغر: تصوير ذات الأرواح، سواء كانت رسمًا أو نحتًا أو نقشًا أو نسجًا أو تصويرًا فوتوغرافيًا، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صوّرها نفسًا، فتعذبه في جهنم)) رواه مسلم، وفي رواية للبخاري: (ولعن ـ رسول الله ـ المصّور)، وقال أيضًا: ((من صوّر صورة في الدنيا، كُلّف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة، وليس بنافخ)) متفق عليه.
أيها الإخوة، وآخر ما نتعرض له من أنواع الشرك الأصغر: هو "التبرك"، وأعني التبرك بشيء لم ترد فيه البركة، كالتبرك والتمسح بقبور الأنبياء والصالحين والأولياء، أو التمسح بالقرآن أو أعمدة المساجد وأبوابها، أو بالكعبة وجدرانها، أو بتربة مكان معين، أو التمسح بإنسان أو لمس يده وثوبه وجسمه، إلى غيرها من الأشياء والأمور التي لم يأت معها دليل يدل على بركتها، فهذه جميعها لا يجوز التبرك بها ولا التمسح فيها، ويحرم ذلك بل هي شرك أصغر قد يؤدي إلى الشرك الأكبر.
مع الانتباه أن التبرك بشيء مشروع، أو استخدام سبب مشروع "شرعي أو كوني ـ قدري ـ" يجوز بشرط أن لا يعتقد أن الشيء أو السبب بذاته هو النافع أو الضار، وإنما هو مجرد سبب بيد الله عز وجل.
أيها المسلمون، هذه أهم أنواع الشرك الأصغر ـ التي كما ذكرنا ـ قد تؤدي بصاحبها إلى أن يقع بالشرك الأكبر، فليحرص المسلم على اجتنابها والابتعاد عنها والتحذير منها، مع العلم أن هناك تقسيمًا آخر للعلماء.. للشرك الأصغر ـ باعتبار آخر ـ إلى قسمين: ظاهر وخفي، هذا والله أعلم وأحكم، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان، اللهم قد بلغت فاشهد، اللهم قد بلغت فاشهد، اللهم قد بلغت فاشهد.
(1/3078)
ماذا يخفي لنا ساسة أمريكا؟ (1)
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل
بريدة
18/1/1424
جامع العودة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحرب لم تكن على العراق وحده، وإنما الهدف هو الإسلام. 2- الصراع مع أهل الكتاب طويل أمده. 3- المنطلق العقدي للحرب على العراق.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فاتقوا الله عباد الله، واعبدوه واشكروه وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.
إخوة الدين والعقيدة، لماذا الحرب على العراق؟ وما أهداف حرب الخليج الثالثة التي شرع العدو بإشعالها؟
وماذا وراء هذه الحرب؟ ولماذا بهذا التوقيت؟ وهل هي حرب لنزع أسلحة الدمار الشامل كما هو معلن، أم هي الخدعة والمكيدة من أجل استعمار جديد لأرض الإسلام؟
وما حقيقة أسلحة الدمار الشامل المحرمة على العراق، المشروعة بل الواجبة على الكيان الصهيوني؟
لماذا حرمت هذه الأسلحة على المسلمين وأحلت لليهود؟
وهل هذه الحرب الجديدة خطوة أولى لتمهيد تحقيق الحلم اليهودي الكبير، لتوسع إسرائيل وامتدادها، ليتم الوعد الأمريكي بإيجاد دولة إسرائيل الكبرى الممتدة من النيل إلى الفرات؟
أم هذه الحرب خطوة لتحقيق المشروع الكبير الذي ينتظره نصارى أمريكا قبل يهود إسرائيل، وهو المشروع المؤجل منذ خمسين عامًا، مشروع إعادة بناء هيكل سليمان؟ أم هي حرب جديدة لتغيير خارطة الدول العربية، وتقسيم دول الإسلام وتغريب الشعوب المسلمة، وتتريكها بإلحاقها بتركيا التي طمس فيها أتاتورك معالم الإسلام، ومسخ فيها هوية المسلمين؟
هل الهدف من هذه الحرب، إعادة مشاهد التغريب الذي لعب دوره خائن الأمة أتاتورك، لكن بصياغة جديدة تعتمد على التهديد والوعيد في تغيير الأخلاق والثقافات، والمبادئ الإسلامية؟
أم هي حرب عسكرية اقتصادية من أجل نفط العراق فقط؟
أم هي حرب أرادت فيها أمريكا السيطرة على العالم، ورد كرامتها، واستعادة هيبتها ومجدها، الذي مُرغ في الوحل والتراب على هضاب وسفوح أفغانستان، وقبل ذلك الإهانة الكبرى التي كانت لها في أحداث سبتمبر؟
وهل هذه الحرب على العراق فقط، أم هي حرب شاملة طويلة المدى، بدأت في العراق ولا يُدرى أين تنتهي؟
ثم هل هي وليدة خطة جديدة، أملتها أحداث سبتمبر، أم هي نتيجة دراسة واعية منذ سنوات طويلة؟
وأخيرًا ما موقفنا تجاه هذه الحرب؟
وما الدور المناط بنا في هذه الظروف الحرجة؟
وما واجب الأفراد والمجتمعات المسلمة، وهي ترى الحرب تدار ساحتها في أرضها؟
هذه تساؤلات عديدة ملحة، لابد من معرفتها، كي نكون على مستوى عال في فهم حقيقة المعركة وأهدافها.
أيها الأحبة المؤمنون، وقبل الشروع في إجابة هذه التساؤلات والمطارحات الهامة في هذه الحرب الراهنة، أرغب أن انبه إلى قضيتين هامتين:
الأولى منهما: أن هذه الحرب ليست على العراق، إنما هي على الإسلام وعلى دول الإسلام، ومن سنن الله البالغة في كونه، سنة التدافع بين الحق والباطل، وديمومة الصراع بين أهل الحق وبين المبطلين، وسنة الله تعالى في خلقه جارية ماضية قديمًا وحديثًا، لا تتغير ولا تتبدل وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62].
هي سنة ويبتلى فيها أهل الإيمان، لِيُعلم قدر جهادهم وصبرهم، ويملي الله فيها لأهل الباطل ليأخذهم يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى? جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ ?للَّهُ ?لْخَبِيثَ مِنَ ?لطَّيّبِ وَيَجْعَلَ ?لْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى? بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأنفال:36، 37].
ومع أن هذه الأحداث تروعنا، وهذه الحرب تزعجنا، إلا أنه لابد أن ندرك أنها حلقة واحدة من حلقات الصراع بين الإسلام والكفر، وأنها معركة طرفاها القرآن الحق، والتوراة والإنجيل المحرفين.
معركة يقصد من وراءها إذلال الشعوب المسلمة، وسحقُ المسلمين.
إن هذه الحرب الصليبية الغازية لبلاد الإسلام، وهذه الأحداث المؤلمة الموجعة للمسلمين، كما تؤكد سنة الابتلاء، فإنها أيضًا تؤكد عظمة هذا الدين على مدى الأزمان والعصور والدهور، وتدل على أن أعداء الدين ينظرون إلى الإسلام في بلاد المسلمين وكأنه صخرة شماء، وجبل راسٍ لا يتزعزع، وقوة ضاربة صلبة الجذور.
وعلى قدر شرف رسالتنا، وعظمة عقيدتنا، تكون شراسة عدونا، ولو لم يكن ديننا بهذه المثابة والعظمة لما اكترثوا له.
ما رأينا جيوش الصليبية يومًا تهاجم وثنية أو بوذية، لقد هاجمت أفغانستان والعراق المسلمتين، ولم يُقدموا على حرب كوريا مع أن الرئيس الأمريكي وصف كوريا من جملة محور الشر، بل لقد تراجعوا كثيرًا عن التحرش بها فكيف بحربها.
أما أفغانستان والعراق فيستحقان الحرب عند الصليبية؛ لأن شعبيهما شعب مسلم، وقد صور القرآن هذه الحقيقة في قول ربنا تعالى وعز: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217].
ولن تنتهي الصراعات بيننا وبين أهل الكتاب أبدا وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، والمتتبع للعلاقة بين الغرب وبين شعوب الإسلام، يدرك أنها تسير في دوامة صراع دائم لا يضعف، بل هو في تضاعف وازدياد، وما ذلك إلا لما تحمله قلوبهم من الرعب الشديد من الإسلام، والخوف من المسلمين، والحسد المتجذر في قلوبهم على المسلمين.
وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ?لْحَقُّ [البقرة:109].
ثم القضية الثانية أيها الإخوة، أننا كثيرًا ما نعيش في الظروف الشديدة كهذه الأيام، أزمة الغثائية والسطحية في التفكير والفهم، ونفتقد العمق في إدَراك الأهداف والأبعاد من وراء تجييش العدو للجيوش، وإقامة الحروب، وربما غرر العدو بنا، فانطلت علينا كثير من مخططاته وأهدافه.
إنك لتسمع أحيانًا من يَرُوج عليه أن هدف الحرب تنحية شخص الرئيس العراقي، أو نزع سلاح الدار الشامل.
إننا بهذه السطحية من الفهم، وبهذا التفكير البدائي نكون متخلفين عن الواقع، بعيدين عن معرفة حجم المعركة.
بل ربما برر بعض من السذج حرب العدو، واعتبرها حربًا مقبولة، ما دام يقصد من ورائها هذا.
إن العدو قد جاء بقضه وقضيضه، لمعركة واسعة شاملة بعيدة المدى، معركة حاسمة يراد من وراءها اقتلاع الإسلام من جذوره، ونزع سلاح الإيمان من القلوب، وفصل أمة الإسلام، وإبعادها عن مصدر عزها كتاب الله، الذي لاَّ يَأْتِيهِ ?لْبَـ?طِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
إنها حرب جديدة، جمعت بين الاستعمار في الماضي والتغريب في الحاضر، إنه تطور جديد في أسلوب الحرب على المسلمين، يجمع بين تجربة الماضي والحاضر.
إن أعداء الإسلام جادون غير هازلين، في فتنة المسلمين وصدهم عن دينهم وعما أنزل إليهم، ليتطلعوا إلى مناهج أخرى، ويتعاملوا مع مبادئ غير ملة الإسلام وَ?حْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ ?للَّهُ إِلَيْكَ [المائدة:49].
ولقد قال رئيس وزراء بريطانيا قبل زمن، في مجلس العموم البريطاني بعدما حمل القرآن بيده:إننا لا نستطيع القضاء على الإسلام والمسلمين، إلا بعد القضاء على ثلاثة أشياء:صلاة الجمعة والحج وهذا الكتاب، فقام أحد الحاضرين ليمزق القرآن فقال: ما هكذا أريد يا أحمق، إني أريد تمزيقه في قلوبهم وتصرفاتهم. هكذا وبكل صراحة ووضوح، يرمون من وراء حملاتهم إلى صرف المسلمين عن دينهم، ويسعون إلى تدمير الإيمان والقرآن ونزعهما من قلوب المسلمين، فكيف بعد هذا الوضوح تصدق أكذوبة العصر المضحكة، أن الهدف من الحرب نزع سلاح الدمار الشامل، أو تنحية رئيس العراق، ولقد صرح الرئيس الأمريكي بتاريخ1/1/2003، أنه لايعلم إذا ماكان الرئيس العراقي يمتلك حاليًا أسلحة دمار شامل، والآن أقبل بجنده وجيشه العرمرم لحرب العراق، بحجة نزع سلاح الدمار الشامل، مع أنه قد صرح أنه لا يعلم هل في العراق سلاح دمار شامل، إنها ألاعيب وأكاذيب وتناقضات لانهاية لها.
وآخر المطاف في مضحكات القوم: أن أحد المسؤولين في الإدارة الأمريكية صرح قبل الحرب بأيام، أن أمريكا عازمة على الحرب، حتى ولو تنحى الرئيس العراقي.
كل هذا ـ أيها الإخوة ـ وغيره كثير مما لا يسع ذكره هاهنا، دليل بين على ما بيته القوم من حرب دامية، يريدون من وراءها زلزلة المنطقة، والسيطرة التامة عليها، من أجل تغيير خارطتها ومسخ شعوبها، وطمس هويتها، واستذلال ونهب خيراتها، والتمكين للصهيونية المتشوقة لأطماع كثيرة في المنطقة.
إنها حرب عقدية سياسية، عسكرية اقتصادية توسعية، ذات أهداف كثيرة، وأبعاد عديدة، قد اخْتُطت مشاهدها، ونُظمت حلقاتُها منذ عشر سنين، إنها حرب أكبر مما نتصور، ومعركة أفظع مما نخمن ونظن، معركة أعد لها كل الإعداد، ورصد لدراستها ملايين الدولارات.
وشاهد القول ـ أيها الإخوة ـ، أن الحجم الكبير لهذه المعركة يملي علينا فهمًا أعمق، ويوجب علينا إدراكاً أكبر لما يُراد بنا، كي نكون على بصيرة من الأمر، ولنحصن نفوسنا ومجتمعاتنا وأجيالنا القادمة، بالإيمان الحق، وامتثال هذا الدين العظيم، وهذا هو الذي يفزع الأعداء، ويُزعج نفوسهم، ويفشل مكائدهم.
إن أول خطوة نضعها في الطريق الصحيح لمواجهة هذه الأزمة: الفهم الصحيح لطبيعة المعركة بيننا وبين الصليب، إذا أدركنا حجم المعركة وطبيعتها ـ بعيدا عن السطحية والغثائية ـ فإنه يمكن لنا حينئذ أن نعد لها إعدادًا سليمًا، ويمكن لنا أن نُنشئ الأجيال تنشئة صالحة متينة، لا تتأثر بالأعاصير ولا تتكدر بالرياح.
هذا هو أول واجب علينا تجاه هذه الحرب الجديدة، التي نسأل الله أن يجعل عاقبتها عزًا للإسلام، وذلاً للصليب وأهله.
ونسأله أن يبطل كيد المعتدين ويردهم خائبين. آمين والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، لا يقول إلا حقًا، ولا يعِد إلا صدقًا، أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعبدًا ورقًا.
وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، أنبل الناس خُلقًا، وأصدقهم نطقًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم اللقاء.
أما بعد: امة الإسلام، عَرْكُ العراق وعزلها، وإذلال شعبها، أصبح ضرورة أمريكية، وحاجة إسرائيلية، ومطلباً ظالمًا ينشده قادة البغي المتعطشون لسفك الدماء، وهو قبل هذا وذاك مقصد توراتي قديم، وغرض إنجيلي صهيوني حديث، وشرق العراق وغربها تواصل ذكر هما في التوراة.
حتى إن اسم بابل التي في العراق، ذكرت في التوراة أكثر من مائتي مرة، على أنها مدينة الإثم والفجور والشرور.
وهذا رسخ نظرية العداء للعراق وأهل العراق عند النصارى.
إن كراهية العراق، وبغض العراقيين جزء من عقيدة أهل الكتاب، وعداء كفار بني إسرائيل من النصارى للعراق وأهله، لا يقل عن عداء كفار بني إسرائيل من اليهود.
لأن كلاً منهما يدين بالتوراة، التي تُدين العراقيين بالإجرام في حق من يعتبرون أنفسهم بالشعب المختار.هكذا قالوا، وهذا المنطلق العقدي عند النصارى وعند اليهود، هو أحد الدوافع وراء الموقف العدائي الغربي من العراق، وهو الذي يقف وراء خلفيات الإصرار المتآزر مع اليهود على إطالة مدة عزل العراق وحصاره، تمهيدًا لتفكيكه ودماره.
وتشير الدلائل وتؤكد أن للغرب دورًا كبيرًا مباشرًا في توريط العراق في صرا عات مع جيرانه؛ إيران والكويت؛ في حربي الخليج الأولى والثانية.
وربما افتعلوا في هذه الحرب الثالثة شيئًا من ذلك، ليقنعوا العالم أنه ما زال يشكل خطرًا على جيرانه.
وبطبيعة الحال ـ أيها الإخوة ـ فإن هذه الخلفيات الدينية لعداء العراق، لا تقف وحدها وراء النية الشريرة الأمريكية، بل هناك وبلا شك، دوافع عديدية أخرى، سياسية واقتصادية وحضارية، ولكنها دوافع تتغذى بالمنطلقات الدينية العقدية.
وكون العراق بلد لا يفصل بينه وبين دولة اليهود المتربصة سوى صحراء جرداء، حتَّم على النصرانية القيام بهذه الحرب لإضعاف العراق، والسيطرة عليه، مخافة أن ينال اليهود شيء من أذاه، وحفظ أمن اليهود من المرتكزات التي توجبها الخلفيات الدينية النصرانية.
هذه الخلفيات العقدية، مع الأطماع الكثيرة الأخرى، هيأت الأسباب للقيام بهذه الحرب المدمرة، التي استعدت لها أمريكا بإسطول ضخم كانت أمريكا تعده لهذه الحرب منذ زمن طويل.
وقد اجتمعت لأمريكا عدة دوافع لتحقيق عدة أهداف من هذه الحرب المشتعلة، وثمة مستجدات عديدة دفعتها لتعجيل الحرب، إضافة للاستحقاقات القديمة، التي يرى الأمريكيون واليهود أنه قد آن الأوان لفتح ملفاتها وخرائطها على جبهة الصراع، وعلى رغم التداخل الشديد بين الواقع والأهداف، إلا أن الجامع بينهما هو أن أعداء الأمة يريدون تسديد ضربة إجهاضية جديدة، كافية لتجميد مسيرة الأمة، ودفعها إلى التقهقر على مستوى الزمان والمكان.
نسأل الله أن يرد كيد المعتدي في نحره، وأن يذله ويدمره.
(1/3079)
ماذا يخفي لنا ساسة أمريكا؟ (2)
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل
بريدة
25/1/1424
جامع العودة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مهاجمة النساء والأطفال دليل جبن العدو وذعره. 2- خطر الأسلحة المستخدمة في الحرب على العراق. 3- الأهداف الكامنة وراء الحرب تصب في صالح إسرائيل. 4- تلازم الحرب على العراق مع ما يحدث في فلسطين. 5- تغيير القيم الإسلامية أحد أهداف الحرب. 6- الأهداف الاقتصادية في الحرب على العراق. 7- النصر في نهاية المطاف حليف الإسلام والمسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، فبتقواه تزكوا، النفوس والأعمال، وبطاعته تنال العزة والغلبة على مر الدهور والأيام.
أيها المؤمنون، وتستمر الحرب الصليبية على العراق المسلمة، في تغافل متعمد لنداءات العالم الصارخة، بعد المشاهد الدامية التي نُشرت فيها صور الأشلاء، من النساء والأطفال الرضع، والشيوخ الركع.
دماء تنزف، وقنابل تقذف، وكارثة إنسانية في البصرة تشرف.
وعدو غاشم لما عاين هزيمته في البر، ألقى بثقل قنابله المدمرة على مساكن المدنيين، ليمسح عار الخيبة عن وجهه ولن يفعل!
لما جبن عن مقابلة الرجال في ساح الوغى، وأصيب بالذعر والهلع من جراء صدمة المواجهة الضارية.
جعل حنقه على الأطفال، وصب جام غضبه على المدنيين العزل، يالها من خيبة! يالها من هزيمة!
ياله من عار يُسَودُ وجوه الأمريكان على مدار التاريخ والزمان.
هذه الأحداث المتسارعة تدل على قرب نهاية القوم، وأنهم يحفرون بأيديهم قبورهم، ويصنعون بحروبهم حتوفهم.
ألم يَعِدوا العالم بأجمعه أنها حرب قصيرة في ظل أسبوعين أو ثلاثة، والآن يعلنونها صريحة قائلين:إن الحرب سيطول مداها، وسنواجه مقاومة صعبة شديدة.
والله ليأتين عليكم يوم يفرح فيه كل مسلم، وكل مظلوم على وجه الأرض، وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ غَـ?فِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ?لظَّـ?لِمُونَ [إبراهيم:42]، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ ?لْعِمَادِ ?لَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى ?لْبِلَـ?دِ وَثَمُودَ ?لَّذِينَ جَابُواْ ?لصَّخْرَ بِ?لْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِى ?لأَوْتَادِ ?لَّذِينَ طَغَوْاْ فِى ?لْبِلَـ?دِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ?لْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِ?لْمِرْصَادِ [الفجر:6-14].
إن هزيمة القوم ـ أذلهم الله ـ ابتدأت حين انتقموا مما أصابهم، بتسليط قنابلهم على المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ، إنه لا يوجد لا في الأعراف الدولية ولا الإنسانية كلها أن الانتصار يكون بقتل المدنيين العزل، والنساء والشيوخ والأطفال الرضع، والمعروف في أعراف البشر كل البشر، أن الهزيمة أو النصر إنما يكون في ساح الوغى، وفي أرض المعمعة وساحة المعركة.
مئات القتلى من الأطفال والنساء والشيوخ، أما الجرحى والمصابين في المستشفيات فآلاف مؤلفة، أخطأت في استهدافهم القنابل الذكية التي سموها ذكية لأنها لا تخطئ، ولا ندري هل تسميتها ذكية إنما كان اعتباطًا، وإلا هي في حقيقتها غبية!
أم أن من أرسلها يدرك أنها ذكية، ولكن بسبب غيظ قلبه، ولتفادي هزيمته، حول مسارها إلى العُزْل بعد أن تجهز بالعذر المعلب المعتاد "أخطأت هدفها".
عجيب والله أن تخطئ الهدف في كل مرة!
عجيب أن تكون النسبة الغالبة من ألف طلعة جوية، وخمسمائة صاروخ يوميًا قد أخطأت أهدافها!
إن في هذا لدلالات على أن العدو لا يمانع من إبادة الشعب العراقي بكامله، في سبيل مسح عار الهزيمة عن وجهه الأغبر، وتغطية ذل الفضيحة التي لحقت به في الحرب البرية.
يؤكد هذا أن 60 من القذائف الأمريكية المستخدمة في العراق تحتوي على مواد مشعة كاليورانيوم تحمله صواريخ كروز، والقنابل التدميرية، وقد ذكرت صحيفة "الزمان" اللندنية أن هذه القذائف المشعة من إنتاج مصنع إسرائيلي أمريكي، موجود في إسرائيل، كما ذكرت الصحيفة نفسها أن من القنابل المستعملة في هذه الحرب، قنبلة تسمى "أم القنابل" تحتوي على تسعة ونصف طن من المتفجرات المخلوطة بمادة البولتيوم المشعة، وهي قنبلة خطيرة، ذات قدرة تدميرية هائلة، تعادل نصف القنبلة الذرية التي ألقاها الأمريكيون على هيروشيما اليابانية عام ألف وتسعمائة وخمسة وأربعين.
وآثار هذه المواد الإشعاعية كبيرة وضخمة، يظل تأثيرها على نطاق جغرافي واسع، بسبب انتقالها بالرياح، واختلاطها بالدخان الناتج عن حرائق آبار النفط، نسأل الله أن يبطل كيدهم، وأن ينتقم للمسلمين منهم إنه عزيز ذو انتقام.
أيها الأحبة، إنه لا يخفى أن الدافع الأساسي في هذه الحرب هو الدافع العقدي، الذي أملى على أساطين الغرب ضرورة شن حرب على العراق، وثمة دوافع أخرى كثيرة، من أهمها الدافع الأمني، حيث تسعى الولايات المتحدة لخدمة دولة اليهود وذلك من خلال ما يلي:
أولاً: حفظ أمن اليهود، وهذا إنما يتأتى بالقضاء على أقوى قوة عسكرية عربية، يخشى الكيان الصهيوني أن توجه ضده في يوم من الأيام.
ثانيًا: تسعى أمريكا للسيطرة على العراق، وإيجاد مركز ثقل أمريكي قوي فيها، وتخطط لنقل القوات المتفرقة في دول الخليج إلى العراق، وذلك لتنأى بها عن التمركز في أماكن تثير مشاعر المسلمين ضدها، ولتكون هذه القوة قريبًا من دولة يهود، لتفتح لها الطريق، وتمهد لها الدرب من أجل تحقيق حلم إسرائيل الكبرى، الممتد من النيل إلى الفرات.
وما الحروب الطاحنة التي يقوم بها اليهود ضد الفلسطينيين في هذه الأيام، إلا إشارة واضحة لنية اليهود التوسعية.
وتعتزم الولايات المتحدة بعد الحرب، وضع حاكم في العراق أمريكي أو عربي يكون عبدًا لها، وصديقاً لربيبتها إسرائيل.
وفي هذا رسالة إلى شعوب المنطقة وأنظمتها، أنها بدأت تعيش عصر الحكومة العالمية الأمريكية الصهيونية، فلا بد أن تتعايش مع هذا العصر الجديد، الذي تعتبره الولايات المتحدة عصر التحرير والتجديد، وعصر التغيير لحياة التخلف التي عاشتها دول المنطقة ردحًا من الزمن، ولهذا يكرر قادة الحرب على العراق: إن حرب أمريكا عليها حرب تحرير لا حرب استعمار يَقُولُونَ بِأَفْو?هِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ وَ?للَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:167].
ثالثًا: يطمح ساسة الولايات المتحدة وإسرائيل بعد هذه الحرب إلى تهيئة الجو، والتمهيد لإنجاز المشروع الكبير المؤجل منذ خمسين عامًا، بل منذ ألفي عام، وهو مشروع إعادة بناء الهيكل الثالث، الذي ينتظره النصارى قبل اليهود، حيث إن من قطعيات عقائد اليهود والنصارى، أن نزول المسيح إلى الأرض يسبقه ثلاث خطوات:
الأولى: إقامة دولة إسرائيل.
والثانية: الاستيلاء على القدس (العاصمة).
والخطوة الثالثة من الخطوات الثلاث: إعادة بناء الهيكل.
أما الدولة فقد أقاموها وهي إسرائيل، وأما العاصمة فقد وحدوها وهي القدس، وأما منبر الدعوة وموضع القبلة لهم وهو بناء الهيكل في القدس، فهي مهمة ساسة اليهود والنصارى، التي يؤمنون بضرورتها وحتمية القيام بها.
ولهذا أصروا على شن هذه الحرب رغم معارضة العالم لها؛ لأنهم ينطلقون من عقيدة توجب عليهم خدمة اليهود، والسعي في تحقيق أهدافهم ومشاريعهم الكبيرة في المنطقة، وهذا شيء مما تفوه به أقطابهم وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].
والهدف الثالث: من أهداف أمريكا في الحرب:
وضع خريطة جديدة للشرق الأوسط، تتضمن تقسيمًا جديدًا للمنطقة العربية، وذلك لإضعاف دول المنطقة، وخلخلة بنائها من الداخل لتهيئة المجال لتدجينها أمريكيًا، وإحكام القبضة عليها جميعاً، والإحاطة بحدودها إحاطة السوار بالمعصم، لتتصرف في المنطقة بعد ذلك كما تشاء، وفكرة تغيير خارطة الشرق الأوسط هي فكرة جادة، تعتزم الولايات المتحدة القيام بها، وقد أعد الخريطة وصنعها يهوديان بارزان في الإدارة الأمريكية، هما نائب وزير الدفاع الأمريكي، والثاني (ريتشارد)رئيس مجلس السياسة الدفاعية، وهما من صقور تيار اليمين النصراني الصهيوني، المهيمن على الإدارة الأمريكية، والذي كان له الدور الأكبر في حملة أمريكا العدوانية على شعب العراق المسلم وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ?للَّهُ وَ?للَّهُ خَيْرُ ?لْمَـ?كِرِينَ [الأنفال:30]، نسأل الله أن يخذلهم، وأن يرد كيدهم في نحورهم.
والهدف الرابع: من أهداف أمريكا في حربها على العراق:
الانطلاق بقوة وحرية بعد السيطرة على العراق، لتغيير القيم وتغريب الأخلاق والمثل الإسلامية، وصهرها في بوتقة الحياة الغربية، لضمان التبعية المطلقة للحضارة الغربية، والخلاص من تأثير البيئة الإسلامية التي تزعم الولايات المتحدة أن الإرهاب يُستنبت في تربتها، وأنها هي مَعقِد الخطورة على الشعب المختار في دولة إسرائيل.
وأولى الخطوات في هذا التغيير: بلورة أنظمة التعليم والإعلام في العالم العربي، بما يخدم أهداف أمريكا وإسرائيل.
والولايات المتحدة تطالب العرب ـ بكل حزم ـ حذف كل تأريخ من شأنه رفض اليهود، وتأسيس عداوتهم في قلوب ناشئة المسلمين.
وقد نشرت صحيفة "الأسبوع" المصرية بتاريخ 12-1-2003، خبر قيام الإدارة الأمريكية بتشكيل لجنة داخل الخارجية الأمريكية، أطلق عليها "لجنة تطوير الخطاب الديني في الدول العربية والإسلامية"، مهمتها تغيير أنظمة التعليم والإعلام في الدول العربية والإسلامية، وقد لاحظنا شيئًا من هذا التغيير في بعض الدول الإسلامية، وعلى سبيل المثال، مما تطالب بتغييره هذه اللجنة:
أولاً: رأت اللجنة أن لفظة الجهاد يجب أن يتم قصر معناها على جهاد النفس فقط، دون القتال في المعارك.
ثانيًا: فسر فطاحلة المفسرين في هذه اللجنة لفظة "اليهود" في القرآن والسنة بأن المراد بها: مجموعة من البدو المتنقلين، الذين عاشوا في الماضي السحيق، وانتهى تاريخهم.
ثالثًا: تقترح اللجنة إلغاء مقررات التربية الدينية، باعتبارها مغذية الإرهاب، ومصدر الإرهابيين.
كما تقترح اللجنة المشفقة الناصحة، تخصيص يوم كامل في مدارس الشرق الأوسط للقيم الأخلاقية، يركز فيه على جانب التسامح مع الأديان الأخرى ونبذ الإرهاب.
رابعًا: وتقترح اللجنة الموقرة:
جعل المسجد منتدى اجتماعيًا، شبيهًا بالوضع الكنسي، للمرأة فيه دور ريادي كما للرجل.
هذه بعض المقترحات، التي تنشدها هذه اللجنة، من كافة المسلمين في جميع الأقطار، وصدق الله سبحانه إذ قال عنهم: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89]، وقال: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:119].
هذا ما أعدوا لنا، فماذا أعددنا لهم؟ نسأل الله أن يكبتهم خائبين، وأن يردهم على أعقابهم خاسئين، آمين
والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد: أيها المسلمون، والهدف الخامس:من أهداف الحرب على العراق: بسط السيطرة على نفط العراق العريق، الذي يمثل ثاني أكبر احتياطي في العالم، وذلك ليُضمَ إلى بقية منابع النفط التي تضع أمريكا يدها عليها، لكي تؤمن لنفسها ولحليفتها في الغرب، موارد لا تنضب في الخمسين سنة القادمة، إذا أوشك نفطها على النضوب.
وتؤمن الولايات المتحدة بأن خروجها من حالة الركود الاقتصادي الذي أصابها، مرهون بوضع يديها على احتياط النفط العراقي الضخم، الذي يتجاوز اثنا عشر مليار برميل.
كما أنها ترجو من وراء السيطرة على منابع النفط في العراق، السيطرة على سعر النفط في العالم كله.
وغني عن البيان، أن الدول العربية سيتأثر اقتصادها تلقائيًا إذا ما سيطرت أمريكا على نفط العراق، وعليه لابد أن تستعد الدول العربية النفطية ببرنامج جديد للتقشف، ولابد من تهيئة مجتمعاتنا لما هو قادم، والاستعداد لحالة طويلة الأجل من التقشف، والاعتماد على الذات في سوق العمل، والبعد عن الترف ومظاهر الرفاهية، وعدم الاعتماد على العمالة الأجنبية في كل شيء.
والهدف السادس: من أهداف أمريكا في حربها على العراق: استعادة الهيبة، ورد الاعتبار بعد صفعة الحادي عشر، وبعد أن مُرغت في الوحل على سفوح أفغانستان وهضابها، حيث لم تنجح ولم تفلح في تحقيق أهدافها المعلنة، وأحرجت حرجًا شديدًا أمام سمع العالم وبصره، وظنت أن استعادة العزة، ورد الكرامة، إنما يكون على جماجم العراقيين، فكانت المفاجأة الكبرى والحرج الأشد لها، أن وجدت نفسها في مستنقع ومضيق لايمكن أن تُخرج نفسها منه إلا بالإبادة الجماعية للأطفال والنساء والعاجزين.
أيها الإخوة المؤمنون، هذه الأهداف التي سمعتم هي بعض أهداف القوم في حربهم على العراق، وهي أهمها وأبرزها.
وقد تبدو الصورة مظلمة وقاتمة، ولكننا نؤمن أنه الظلام الذي يسبق بزوغ الفجر، أو الفجر الذي يسبق الإشراق، إشراق الإسلام الذي تنتظره الدنيا في أركان الأرض الأربعة.
((ولا يترك الله بيت مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزًّا يُعِز الله به الإسلام، وذلاً يُذِل الله به الكفر)) رواه أحمد.
هذا هو خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المخرج في مسند أحمد.
وعدوّ المسلمين حامل راية الظلم والكفر في هذا العصر، لا يزال يسير على درب الهاوية، والولايات المتحدة بخروجها عن كل قيم العدل في التعامل مع الشعوب المسلمة، وبقوتها الغاشمة الظالمة على الشعب العراقي، وإذلاله، إنما تأخذ بذلك طريق الانتحار السريع، وتستنزل مطارق السنن الإلهية والشرعية، التي تدل على أن البغي والظلم هو أسرع الذنوب عقوبة.
قال صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود والترمذي وصححه عن أبي بَكْرة رضي الله عنه: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)).
ونسأل الله أن يعجل بالفرج لأهل العراق، اللهم فرج لهم، وارفع عنهم البلاء.
(1/3080)
الابتداع
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
سعد بن أحمد الغامدي
الظهران
جامع الأمير محمد بن فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى البدع في اللغة والشرع. 2- حكمها في الإسلام. 3- المحاذير التي يقع فيها المبتدع. 4- أقوال السلف وأهل العلم في البدع. 5- مضار الابتداع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الله ـ جل وعلا ـ أمرنا في كتابه الكريم باتباع النبي الصادق الأمين، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والتسليم، وذلك بقوله سبحانه: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ [الحشر:7]. وقال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]. والآيات التي تحثنا على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة، فلذلك كان واجبًا على المسلمين أن يتبعوا هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن لا يبتدعوا في دين الله ما ليس منه.
والبدع في اللغة: هي الأشياء التي يبتدعها الإنسان. وأما في الشرع: فهي كل من تعبَّد الله سبحانه وتعالى بغير ما شرع، عقيدة أو قولاً أو فعلاً. وعرف بعض أهل العلم البدعة على أنها كل شيء كان سببه موجودًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأت به النبي صلى الله عليه وسلم فهو بدعة. وخطر البدعة عظيم، حتى قال فيها ابن القيم رحمه الله: "تزوجت بدعة الأقوال ببدعة الأعمال، فاشتغل الزوجان بالعرس، فلم يفجأهم إلا وأولاد الزنا يعيشون في بلاد الإسلام، تضج منهم العباد والبلاد إلى الله تعالى". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "تزوجت الحقيقة الكافرة بالبدعة الفاجرة، فتولَّد بينهما خسران الدنيا والآخرة".
ولا شك أن الإنسان المسلم إن اتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسار على نهجهم كان من الفائزين، وإن خالفهم وابتعد عن طريقهم كان من الخاسرين، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق عليه. وهذا الحديث يعني أنه من أحدث في شرع الله وفي دين الله ما ليس منه، فهو مردود على صاحبه غير مقبول منه.
والأعمال إما ظاهرة أو باطنة، فالأعمال الظاهرة ميزانها حديث عائشة هذا: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) ، والأعمال الباطنة ميزانها حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) متفق عليه. فلو علم المسلمون معنى هذين الحديثين والتزموا بهما لاستقام حال الأمة الإسلامية، ولما ظهر فيها البدع. وعند مسلم عن جابر رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: ((صَبَّحَكُم ومسَّاكم)) ويقول: ((بُعثت أنا والساعة كهاتين)) ويقرن بين أصبعيه، السبابة والوسطى، ويقول: ((أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)). ويعني بقوله عليه الصلاة والسلام: ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) ، أي أن أجل الدنيا قريب وأنه ليس ببعيد، فلذلك ينبغي على المسلم أن ينتبه ويحذر، فيجتنب البدع ويجتنب الذنوب كبيرها وصغيرها، وأن يجاهد نفسه على ترك المعاصي والالتزام بشرع الله.
والبدعة من أخطر الوسائل التي يستخدمها الشيطان في استدراج الإنسان، ولذلك احتجز الله التوبة عن صاحبها، فعن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله احتجز التوبة عن صاحب كل بدعة)) رواه ابن أبى عاصم في السنة والطبراني وذكره الألباني في الصحيحة رقم (1620) وقال: حسن. ولا شك أن الإنسان المبتدع يقع في محاذير كثيرة: أولاً: أن ما ابتدعه فهو ضلالة بنص القرآن والسنة، وذلك أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو الحق، وقد قال الله تعالى: فَمَاذَا بَعْدَ ?لْحَقّ إِلاَّ ?لضَّلاَلُ [يونس:32]، هذا دليل القرآن، ودليل السنة قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل بدعة ضلالة)) رواه مسلم، ومن هذا الحديث يتبين أن البدع كلها ضلالة، وأنه ليس هناك بدعة حسنة.
ثانيًا: أن في البدعة خروجًا عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، فمن ابتدع بدعة يتعبَّد الله بها، فقد خرج عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرعها، فيكون خارجًا عن شرعة الله فيما ابتدعه. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يُحتاج إليه في أمر الدين والدنيا، وهذا كما قال الشاطبي رحمه الله في كتابه (الاعتصام) لا مخالف عليه من أهل السنة، بل وجاء في الحديث الذي رواه الترمذي وأبو داود وأحمد وابن ماجه بإسناد صحيح عن العرباض بن سارية: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودِّع، فما تعهد إلينا؟ قال: ((تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين، عضُّوا عليها بالنواجذ)).
ثالثًا: أن هذه البدعة التي ابتدعها تنافي تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله، لأنه من أراد تحقيق هذه الشهادة لا بد له أن يلتزم بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن لا يتعبَّد بما لم يصح عنه.
رابعًا: أن مضمون البدعة الطعن في الإسلام، وذلك لأن المبتدع تتضمن بدعته أن الإسلام لم يكتمل، وأنه كمل الإسلام بهذه البدعة، وقد قال الله تعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].
خامسًا: أنه يتضمن الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن هذه البدعة، التي زعمت أنها عبادة إما أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم بها، وحينئذٍ يكون جاهلاً، وإما أن يكون قد علم بها ولكنه كتمها، وحينئذٍ يكون كاتمًا للرسالة أو لبعضها، وهذا خطير جدًا، إذ كيف نأخذ من الأفعال أو الأقوال ما يكون طريقًا إلى هذا الظن في النبي صلى الله عليه وسلم.
سادسًا: أن البدعة تتضمن تفريق الأمة الإسلامية، لأن الأمة الإسلامية إذا فتح الباب لها في البدع صار هذا يبتدع شيئًا، وهذا يبتدع شيئًا، كما هو الواقع الآن، وكل منهم يظن أنه على صواب، وكل منهم فرح ببدعته، فمثلاً: الذين ابتدعوا الاحتفال بمولد الرسول عليه الصلاة والسلام، يطعنون في الذين لا يحتفلون بهذا اليوم، ويقولون: هؤلاء يبغضون النبي صلى الله عليه وسلم ويكرهونه، ولهذا لم يفرحوا بمولده، والحقيقة خلاف ذلك، إذ إن المبتدع هو الذي تتضمن بدعته أنه يبغض الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان يدَّعي أنه يحبه، لأنه إذا ابتدع هذه البدعة والرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرعها للأمة، فذلك كأنما يتهمه بالجهل أو الكتمان، وحاشاه أن يكون كذلك عليه الصلاة والسلام، بل الخير في اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والشَّر في تعدِّيها، ولا ينبغي للمسلم أن يشرِّع كيف شاء ومتى شاء، فيجعل نفسه شريكًا مع الله في التشريع، بل في هذه البدع تعدٍّ صريح على الشريعة وعلى الشارع.
سابعًا: أن البدعة إذا انتشرت في الأمة اضمحلت السنة، ولهذا قال بعض السلف: "ما ابتدع قوم بدعة إلا أضاعوا من السنة مثلها أو أشد"، وذلك لأن البدع تؤدي إلى نسيان السنن واضمحلالها بين الأمة الإسلامية. ولذلك كان المسلمون يخشون البدع، ويخشون الوقوع فيها، ويَحذَرُونَها ويحذِّرون المسلمين منها، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي، فَضَلُّوا وَأَضلُّوا) وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (قد أصبحتم على الفطرة، وإنكم سَتُحْدِثُون ويُحْدَث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدى الأوَّل)، وقال رضي الله عنه: (الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة)، وقال رضي الله عنه: (إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر)، وقال: (عليكم بالطريق فالزَمُوه، ولئن أخذتم يمينًا وشمالاً لَتَضِلُّنَّ ضلالاً بعيدًا).
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما يوصي عثمان الأزدي: (عليك بتقوى الله تعالى والاستقامة، اتبع ولا تبتدع)، وقال: (إن أبغض الأمور إلى الله تعالى البدع)، وقال: (عليكم بالاستقامة والأثر، وإياكم والبدع). وقال عبد الله بن الديلمي رضي الله عنه: (بَلَغَني أن أول ذهاب الدين ترك السُّنة، يذهب الدين سُنَّةً سُنَّة، كما يذهب الحبل قُوَّةً قُوَّة). وقال الحسن البصري رحمه الله: "السُّنَّة ـ والذي لا إله إلا هو ـ بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السُّنَّة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا"، وقال رحمه الله: "لا يقبل الله لصاحب بدعة صومًا ولا صلاةً ولا حجًا ولا عمرة حتى يدعها"، وقال: "صاحب البدعة لا يزداد اجتهادًا، صيامًا وصلاةً، إلا ازداد من الله بعدًا"، وقال: "لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك". وقال حسان بن عطية: "ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنَّتهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة".
وقال يحيى بن أبي كثير: "إذا لقيت صاحب بدعة في طريق، فخذ في طريق آخر". وقال سفيان الثوري: "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يُتاب منها"، وقال: "دع الباطل، أين أنت عن الحق؟ اتبع السُّنَّة، ودع البدعة"، وقال ابن الماجشون رحمه الله: "سمعت مالكًا رحمه الله يقول: من ابتدع في الإسلام بدعةً يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله يقول: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا".
وقال الفضيل بن عياض: "من جلس إلى صاحب بدعةً فاحذروه"، وقال: "من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه"، وقال رحمه الله: "إذا رأيت مبتدعًا في طريق فخذ في طريق آخر، ولا يُرفع لصاحب البدعةإلى الله –عز وجل- عمل، ومن أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام"، وقال: "من زوَّج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها"، وقال: "اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين"، وقال الشافعي–رحمه الله-: "لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك، خيرٌ له من أن يلقاه بشيء من الأهواء". وأقوال أهل العلم أكثر من أن تحصى في ذلك.
عباد الله، إن هذه الآثار الواردة عن السلف الصالح ـ رحمهم الله تعالى ـ كلها تدعو إلى التمسك بالكتاب والسنة، وتُحذِّر من البدع والمحدثات صغيرها وكبيرها. يقول الإمام أبو محمد البربهاري ـ رحمه الله ـ في كتاب (شرح السنة للبربهاري): "واحذر صغار المحدثات، فإن صغار البدع تعود حتى تصير كبارًا، وكذلك كل بدعة أحدثت في الأمة كان أولها صغيرًا يشبه الحق، فاغتر بذلك من دخل فيها، ثم لم يستطع المخرج منها فعظمت، وصارت دينًا يدان به فخالف الصراط المستقيم. فانظر رحمك الله كل من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة، فلا تعجلن، ولا تدخلن في شيء منه حتى تسأل وتنظر، هل تكلم فيه أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من العلماء؟ فإن أصبت فيه أثرًا عنهم فتمسَّك به ولا تجاوزه لشيء، ولا تختر عليه شيئًا فتسقط في النار".
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله على إحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه.
أما بعد: عباد الله، فإن من مضار الابتداع: حبوط الأعمال وإن كانت كثيرة، ومن لوازمه دعوى عدم كمال الدين. صاحبه من أعوان الشيطان ومن أعداء الرحمن، أبغض إلى الله ـ عز وجل ـ من كثير من المعاصي. صاحبه لا يرجى له التوبة بخلاف أهل المعاصي. كل البدع ليس فيها شيء حسن.
أنواعها: في العقيدة والعبادة، وشرها بدع العقيدة. والبدع قولية وفعلية، وكلها مذمومة. وإثمها متجدد لا ينقطع ما دام يعمل بها في الأرض. وهي من أقرب مداخل الشيطان للإنسان. تؤدي إلى خلط الحق بالباطل وحيرة الأغرار في التمييز بينهما. وتؤدي إلى نفرة من ليس له قدم في فهم الإسلام منه، لكثرة ما يظن من تكاليفه. هذا ويجب عليك يا عبد الله أن تعلم علم اليقين، أن أعظم زاجر عن الذنوب وعن المعاصي وعن البدع والمحدثات، هو خوف الله تعالى وخشية انتقامه وسطوته، وحذر عقابه وغضبه وبطشه، كما قال جل وعلا: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، واتبعوا ولا تبتدعوا، واتقوا يومًا تُرجعون فيه إلى الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(1/3081)
كفى بالموت واعظًا
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
سعد بن أحمد الغامدي
الظهران
جامع الأمير محمد بن فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الموت واقع على كل حي. 2- الدنيا مزرعة الآخرة. 3- علاج قسوة القلب. 4- زيارة القبور من أعظم أسباب رقة القلب وصلاحه. 5- ذكر الموت ينسي كل لذة أو حسرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185]، وقال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَـ?باً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ?لدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ?لآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى ?لشَّـ?كِرِينَ [آل عمران:145]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه)).
الموت يأتي على الصغير والكبير، وعلى الغني والفقير، وعلى الملك والحقير، كل من عليها فان، فآثروا ما يبقى على ما يفنى، أيامنا معدودة وأنفاسنا محدودة، وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].
الموت باب وكل الناس داخله فليت شعري بعد الباب ما الدار
الدار دار نعيم إن عملت بما يرضي الإله وإن خالفت فالنار
هما محلان ما للناس غيرهما فانظر لنفسك ماذا أنت تختار
وقال عليه الصلاة والسلام: ((أكثروا ذكر هاذم اللذات)) يعني الموت، فهذا سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، كان إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، وكان يجمع كل ليلة الفقهاء فيتذاكرون الموت والقيامة، ثم يبكون، حتى كأن بين أيديهم جنازة، وقد روي عنه أيضًا أنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَمنْكِبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) ، وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) رواه البخاري.
قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]، ففي هذه الآية أمر بالتقوى، والتقوى لزوم طاعة الله بأداء الواجبات واجتناب المحرمات، وفي هذه الآية دليل على محاسبة العبد نفسه، فلينظر الإنسان ماذا يقدم لآخرته من العمل الصالح، فعلى العبد أن يتزود لآخرته حتى يكون من المرضيين عند الله، قال تعالى: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? [البقرة:197]، أي تزودوا من دنياكم لآخرتكم فالدنيا مزرعة الآخرة.
قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم)، وقال الإمام علي رضي الله عنه وكرم وجهه: (ارتحلت الدنيا وهي مدبرة، وارتحلت الآخرة وهي مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، اليوم العمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل).
واعلموا أن هذه الدنيا خائنة كذابة تضحك على أهلها، من مال عنها سلم منها، ومن مال إليها بلي فيها، هي كالحية لين ملمسها قاتل سمها، أيامها تمضي كالخيال، لذاتها سريعة الزوال، فاشتغل فيها بطاعة الله، ولا تغفل عن محاسبة نفسك.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أيها الناس، ليس للقلوب مثل زيارة القبور، وخاصة إن كانت قاسية، فعلى أصحابها أن يعالجوها بثلاثة أمور: أحدها: الإقلاع عن ما هي عليه، بحضور مجالس العلم، بالوعظ والتذكر والتخويف والترغيب وأخبار الصالحين. ثانيها: ذكر الموت، فيكثر من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات. ثالثها: مشاهدة المحتضرين، فإن النظر إلى الميت ومشاهدة سكراته ونزعاته، وتأمل صورته بعد مماته، مما يقطع عن النفوس لذاتها، ويطرد عن القلوب مسراتها، ويمنع الأجفان من النوم والأبدان من الراحة، ويبعث على العمل، ويزيد في الاجتهاد والتعب في طاعة الله. يروى أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده، فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كربه وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له: الطعام يرحمك الله، فقال: يا أهلاه، عليكم بطعامكم وشرابكم، فوالله لقد رأيت مصرعًا لا أزال أعمل له حتى ألقاه.
فهذه ثلاثة أمور ينبغي لمن قسًا قلبه، ولزمه ذنبه، أن يستعين بها دواء لدائه، ويستصرخ بها من فتن الشيطان وإغوائه، فإن انتفع بها فذاك، وإن عظم عليه ران القلب، واستحكمت به دواعي الذنب، فزيارة قبور الموتى تبلغ في دفع ذلك ما لا يبلغه الأول والثاني والثالث، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((زوروا القبور فإنها تذكر الموت)) رواه مسلم، فالأول سماع بالإذن، والثاني إخبار للقلب بما إليه المصير، وقائم له مقام التخويف والتحذير. وفي مشاهدة من احتضر، وزيارة قبر من مات من المسلمين معاينة كان أبلغ من الأول والثاني. قال صلى الله عليه وسلم: ((ليس الخبر كالمعاينة)) رواه أحمد، إلا أن الاعتبار بحال المحتضرين غير ممكن في كل الأوقات، أما زيارة القبور فوجودها أسرع، والانتفاع بها أليق وأجدر.
فينبغي لمن عزم على الزيارة أن يتأدب بآدابها، ويحضر قلبه قي إتيانها، ولا يكون حظه الطواف بالأجداث فقط، فإنها حالة تشاركه بها البهيمة، ونعوذ بالله من ذلك، فليقصد بزيارته وجه الله، وإصلاح فساد قلبه، ويتجنب المشي على القبور والجلوس عليها، ويخلع نعليه ويسلم إذا دخل المقابر، ويخاطبهم خطاب الحاضرين.
اعتبروا بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، بعد أن قاد الجيوش والعساكر، ونافس الأصحاب والعشائر، وجمع الأموال والذخائر، فجاءه الموت في وقت لم يحتسبه وهول لم يرتقبه، فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه، ودرج من أقرانه، الذين بلغوا الآمال، وجمعوا الأموال، كيف انقطعت آمالهم، ولم تغن عنهم أموالهم، ومحى التراب محاسن وجوههم، وافترقت في القبور أجزاؤهم، وترمل بعدهم نساؤهم، وشمل ذل اليتم أولادهم، واقتسم غيرهم أموالهم، وتذكر ترددهم في المآرب، وحرصهم على نيل المطالب، وانخداعهم لمواتات الأسباب، وركونهم إلى الصحة والشباب، وليعلم أن ميله إلى الهوى واللعب، كميلهم، وغفلته عن ما بين يديه من الموت الفظيع والهلاك السريع كغفلتهم، وإنه لا بد صائر إلى مصيرهم، وليحضر بقلبه ذكر من كان مترددًا في أغراضه، وكيف تهدمت رجلاه، وكان يتلذذ بالنظر إلى من حوله، وقد سالت عيناه، ويصول ببلاغة نطقه، وقد أكل الدود لسانه، ويضحك لمواتات دهره، وقد أبلى التراب أسنانه، وليتحقق أن حاله كحالهم ومآله كمآلهم، وعند التذكر والاعتبار، تزول عنه جميع الأغيار الدنيوية، ويقبل على الأعمال الأخروية، فيزهد في الدنيا، ويقبل على طاعة مولاه، ويلين قلبه وتخشع جوارحه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، الحمد لله العلي الأعلى، الولي المولى، الذي خلق فسوى، وحكم على خلقه بالموت والفناء، والباقي إلى دار الجزاء، ثم الفصل والقضاء لِتُجْزَى? كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى? [طه:15]، ولقد قال تعالى في محكم التنزيل: إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى? وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لدَّرَجَـ?تُ ?لْعُلَى? جَنَّـ?تُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لانْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَذ?لِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى? [طه:74-76]]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وإليه المنتهى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. من اعتصم بالله ورسوله فقد اعتصم بالعروة الوثقى، وسعد في الآخرة والأولى، وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِيناً [الأحزاب:36]، وخسر خسرانًا مبينا، أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن يطيعه، ويطيع رسوله صلى الله عليه وسلم، ويتبع رضوانه، ويتجنب سخطه فإنما نحن به وله.
قال عليه الصلاة والسلام: ((أكثروا من ذكر هاذم اللذات)) يعني الموت. فإنًّ ذِكر الموت يورث الانزعاج عن هذه الدار الفانية، والتوجه في كل لحظة إلى الدار الباقية، ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالتي ضيق وسعة، ونعمة ومحنة، فإن كان في حال ضيق ومحنة، فذكر الموت يسهل عليه بعض ما هو فيه، فإنه لا يدوم والموت أصعب منه، وإن كان في حالة نعمة وسعة، فذكر الموت يمنعه من الاغترار بها والسكون إليها.
فالموت ليس بعدم محض، ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن، ومفارقته وحيلولة بينهما، وتبدل حال، وانتقال من دار إلى دار، وهو من أعظم المصائب، وقد سماه الله تعالى مصيبة في قوله تعالى: فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ?لْمَوْتِ [المائدة:106]. فالموت هو المصيبة العظمى، والرزية الكبرى، قال العلماء: وأعظم منه الغفلة عنه، والإعراض عن ذكره، وقلة التفكير فيه، وترك العمل له، وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر، وفكرة لمن تفكر.
ويروى أن أعرابيًا كان يسير على جمل له، فخر ميتًا، فنزل الأعرابي عنه، وجعل يطوف به ويتفكر فيه، ويقول: مالك لا تقوم؟ مالك لا تنبعث؟ هذه أعضاؤك كاملة، وجوارحك سالمة، ما شأنك؟ ما الذي كان يحملك؟ ما الذي كان يبعثك؟ من الذي عن الحركة منعك؟ ثم تركه وانصرف متفكرًا في شأنه متعجبًا من أمره. وروى ابن ماجه عن ابن عمر أنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل من الأنصار فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا رسول الله، أي المؤمنين أفضل؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((أحسنهم خُلقًا)) قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((أكثرهم للموت ذِكرًا، وأحسنهم لما بعده استعدادًا أولئك الأكياس)).
فمن ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة، ومنعه من تمنيها في المستقبل، وزهده فيما كان فيها يؤمل. كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيرًا ما يتمثل بهذه الأبيات:
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويودى المال والولد
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: ((استأذنت ربي في أن أستغفر لها، فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت)).
مثل نفسك يا مغرور، وقد حلت بك السكرات، ونزل بك الأنين والغمرات، فمن قائل يقول: إن فلانًا قد أوصى، وماله قد أحصى، ومن قائل يقول: إن فلانًا ثقل لسانه، فلا يعرف جيرانه، ولا يكلم إخوانه، فكأني أنظر إليك وأنت تسمع الخطاب، ولا تقدر على رد الجواب، ثم تبكي ابنتك وهي كالأسيرة، وتتضرع، وأقبلت الصغرى تمرغ خدها على وجنتيك حينًا، وحينًا على صدرك، وتخمش خديها، وتبكي بحرقة تنادي: أبي إني غلبت على الصبر، حبيبي أبي من لليتامى تركتهم كأفراخ زغب، في بعد عن الوكر؟
تخيل نفسك يا ابن آدم إذا أُخذت من فراشك إلى لوح مغتسلك، فغسلك الغاسل، وألبست الأكفان، وأوحش منك الأهل والجيران، وبكت عليك الأصحاب والإخوان، وقال الغاسل: أين زوجة فلان تحالله؟ وأين اليتامى ترككم أبوكم فما ترونه بعد هذا اليوم؟ من الموت طالبه، والقبر بيته، والتراب فراشه، والدود أنيسه، وهو بهذا ينتظر الفزع الأكبر: يَوْمَ يَقُومُ ?لنَّاسُ لِرَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [المطففين:6].
من أكثر من ذكر الموت تجددت التوبة عنده، وحصلت القناعة في قلبه، ونشطت العبادة لديه، ومن نسي الموت ولم يذكره، ضيع التوبة وترك القناعة، وتكاسل عن العبادة. تفكر يا مغرور في الموت وسكرته، وصعوبة كاسه ومرارته، فيا للموت من وعد ما أصدقه، ومن حاكم ما أعدله. كفى بالموت مقرحًا للقلوب، ومبكيًا للعيون، ومفرقًا للجماعات، وهادمًا للذات، وقاطعًا للأمنيات، فهل تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك وانتقالك من موضعك، إذا نقلت من سعة إلى ضيق، وخانك الصاحب والرفيق، وهجرك الأخ والصديق، وأخذت من فراشك وغطائك إلى عرر، وغطوك من بعد لين لحاف بتراب ومَدَر؟ فيا جامع المال والمجتهد في البنيان، ليس لك والله من مالك إلا الأكفان، بل هي والله للخراب والذهاب، وجسمك للتراب والمآب. فأين الذي جمعته من المال، هل أنقذك من الأهوال؟ كلا بل تركته لمن لا يحمدك، وقدمت بأوزارك على من لا يعذرك.
صلوا وسلموا على رسول الله...
(1/3082)
احذروا الظلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
11- شؤم الظلم. 2- تحريم الله الظلم على نفسه. 3- تحريم الظلم بين العباد. 4- مراتب الظلم. 5- من صور الظلم في الواقع المعاصر. 6- من أولى الناس بالنصرة؟ 7- وسائل نصرة أخواننا المستضعفين في الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، فإنه لا فلاح لكم في الدنيا ولا نجاة في الآخرة إلا بتقوى الله تعالى.
أيها المؤمنون، إن البغي والظلم ذنب عظيم، وإثم مرتعه وخيم، وهو سبب كل شر وفساد، وكل بلاء وعقاب، فهو منبع الرذائل والموبقات، ومصدر الشرور والسيئات، وعنه تصدر سلاسل العيوب والآفات. متى فشا في أمة آذن الله بأفولها, ومتى شاع في بلدة فقد انعقدت أسباب زوالها وتحوُّل لباسها، فبه تفسد الديار, وتخرب الأوطان, وتدمر الأمصار, به ينزل غضب الواحد الجبار القهار, قال الله سبحانه وتعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [ الكهف:59 ]، وقال: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ هود:102 ], وقال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً [ الأنبياء:11 ], وقال تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: 45 ].
أيها المؤمنون, إن الله تعالى نفى عن نفسه الظلم, فقال عز وجل: وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيد [ فصلت:46], وقال : وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [ الكهف:49 ]، وقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة [ النساء:40]، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ [غافر:31]. وقد حرمه تعالى على نفسه, ففي الحديث الإلهي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (( يا عبادي, إني حرمت الظلم على نفسي, وجعلته بينكم محرمًا, فلا تظالموا )) رواه مسلم [1]. فأعلم الله تعالى عباده في هذا الحديث العظيم أنه حرم الظلم على نفسه, قبل أن يجعله محرمًا بين عباده.
وقد أعلن النبي حرمة الظلم في أعظم مجمع وموقف, فقال في خطبته يوم عرفة: ((ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)) [2] ، وفي الصحيحين أن النبي قال: (( اتقوا الظلم, فإن الظلم ظلمات يوم القيامة )) [3] وقال فيما يرويه مسلم وغيره: (( المسلم أخو المسلم, لا يظلِمه, ولا يخذله, ولا يحقره )) [4].
وقد تهدد الله تعالى أرباب الظلم وأهله, فقال جل ذكره: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42]، فالله تعالى للظالمين بالمرصاد, ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ، قال: ثم قرأ : وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. وقد لعن الله الظالمين فقال: ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]، وأخبر سبحانه أنه يبغضهم فقال: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:57].
والظلم ـ يا عباد الله ـ من أعظم أسباب ارتفاع الأمن وزوال الاهتداء عن الأفراد والمجتمعات, قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، فبقدر ما يكون في الفرد والمجتمع من الظلم بقدر ما يرتفع عنه الأمن والاهتداء, فالجزاء من جنس العمل، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أيها المؤمنون, إن الظلم الذي وردت به النصوص التحريمية وبيان سوء عاقبته والتحذير منه درجات ومراتب:
أولها: الظلم الكبير الخطير العظيم, الذي لا يغفر الله الغفور الرحيم الكريم لصاحبه إلا بالإقلاع عنه, وتوبته منه, ألا وهو الإشراك بالله تعالى، بصرف العبادة أو بعض أنواعها لغير الله, كدعاء غيره, والسجود لغيره, والذبح والنذر لغيره, ونبذ شرعه والتحاكم إلى سواه, قال الله تعالى حاكيًا عن لقمان وصيته لابنه: يا بني لا تُشْرِكْ باللَّهِ إِنَّ الشرك لظُلْم عظيم [لقمان:13]، فهذا الظلم لا يغفره الله إلا بالتوبة منه, قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرِكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء [النساء:48]. فأخلصوا ـ أيها المؤمنون ـ عبادتكم لله تعالى, فإنه من قال: "لا إله إلا الله" خالصًا من قلبه دخل الجنة، وحاربوا الشرك وأهله بالدعوة إلى التوحيد.
وأما ثاني مراتب الظلم: فذاك الظلم الذي لا يتركه الله تعالى, وهو ظلم العبد غيره من الخلق, فهذا لا بد فيه من أخذ الحق للمظلوم من الظالم, كما قال الله سبحانه في الحديث الإلهي: (( وعزتي لأنصرنّك ولو بعد حين )) [5]. وقد أجاد من قال:
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرًا فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
أيها المؤمنون, اتقوا الظلم, فإن نبيكم الصادق المصدوق أخبر أن الدنيا تملأ في آخر الزمان ظلمًا وجورًا, وها نحن نشهد صدق ما أخبر به ، فإن الظلم قد فشا وشاع بين الناس، في الدماء والأموال والأبضاع والأعراض، حتى صدق في سلوك كثير من أبناء هذا الزمان ما قاله الشاعر الجاهلي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلم
ولا تظنن ـ أيها الأخ ـ أن هذه مبالغة أو مزايدة, بل ذلك هو واقع كثير من الناس, فكم نرى من أصحاب الأعمال الذين ظلموا عمالهم, بتحميلهم ما لا يطيقون, أو بتأخير رواتبهم ومستحقاتهم, أو جحد حقوقهم, أو فرض الإتاوات عليهم. وكم نرى من أرباب الأسر والبيوت الذين جنوا على أهليهم, وظلموا أولادهم وزوجاتهم. وكم هم التجار الذين دلسوا بضائعهم وغشوا عملاءهم. وكم هم الولاة الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم, وحكموا القوانين الوضعية، فلم يعدلوا في الرعية ولم يقسموا بالسوية ولم يسيروا بالسرية. وكم هم الذين أطلقوا لأنفسهم العنان في أعراض الناس ودمائهم, فتمضمضوا بأعراض المؤمنين, وتفكهوا بدمائهم, إنهم كثير كثير كثير, قال الله تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].
فللّه ما أكثر المفلسين الذين يعملون لغيرهم ويتحمّلون عنهم, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا :المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع, فقال: ((إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة, ويأتي قد شتم هذا, وقذف هذا, وأكل مال هذا, وسفك دم هذا, وضرب هذا, فيعطى هذا من حسناته, وهذا من حسناته, فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه, أُخِذ من خطاياهم فطرحت عليه, ثم طرح في النار )) [6]. فيا لها من تجارة بائرة وصفقة خاسرة, أن تأتي يوم القيامة وأنت أحوجُ ما تكون إلى حسنة تثقل بها ميزانك, فإذا بخصمائك قد أحاطوا بك, فهذا آخذ بيدك, وهذا قابض على ناصيتك, وهذا متعلق بتلابيبك, هذا يقول: ظلمتني, وهذا يقول: شتمتني, وهذا يقول: اغتبتني أو استهزأت بي, وهذا يقول: جاورتني فأسأت جواري, وهذا يقول: غششتني, وهذا يقول: أخذت حقي.
أما والله إن الظلم شؤم وما زال المسيء هو الظلوم
ستعلم يا ظلوم إذا التقينا غدًا عند المليك من الملوم
فيا عباد الله، تداركوا الأمر قبل فوات الأوان، فما هي والله إلا ساعة ثم تبعثر القبور، ويحصّل ما في الصدور، وعند الله تجتمع الخصوم, فيقتص للمظلوم من الظالم, فتحللوا ـ أيها الإخوان ـ من المظالم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (( من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم, إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته, وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحُمِل عليه)) [7].
أيها المؤمنون, أما ثالث مراتب الظلم: فهو ظلم العبد نفسه بالمعاصي والسيئات, فكل ذنب وخطيئة تقارفها ـ يا عبد الله ـ فإن ذلك ظلم منك لنفسك, وبغي عليها, قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:229]، وما أكثر ما قال الله عند ذكر العصاة والمذنبين والظالمين: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون [النحل:118]، فكل مذنب وعاصٍ فإنما يجني على نفسه, ويعرضها لعذاب الله الأليم وعقابه الشديد, كما قال النبي فيما أخرجه ابن ماجه وغيره بسند لا بأس به عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال: سمعت رسول الله يقول في حجة الوداع: ((ألا لا يجني جان إلا على نفسه)) [8].
فتخففوا ـ عباد الله ـ من ظلم أنفسكم بامتثال ما أمركم الله به, وترك مانهاكم عنه, والتوبة مما فرط من الذنوب, فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
[1] صحيح مسلم في البر والصلة (4674).
[2] أخرجه البخاري في العلم (65), ومسلم في الحج (2137).
[3] أخرجه البخاري في المظالم والمغاصب (2267)، ومسلم في البر والصلة (4675).
[4] أخرجه مسلم في البر والصلة (4650).
[5] رواه أحمد والترمذي وابن ماجه بسند لا بأس به، انظر: السلسلة الصحيحة (868).
[6] أخرجه مسلم في البر والصلة (4678).
[7] أخرجه البخاري في المظالم والمغاصب (2269).
[8] أخرجه ابن ماجه في الديات (2659).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمنون, اعلموا أن الله سبحانه نهى عن الظلم بجميع صوره, وأمر بمجاهدة الظالمين ورفع الظلم عن المظلومين, وقد أرسل الله سبحانه رسله وأنزل كتبه لإقامة القسط ورفع الظلم, قال الله تعالى: َلقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25].
فإذا تركنا الظالم ولم نأخذ على يده فقد خالفنا ما جاءت به الرسل, ونحن مهدّدون بعقوبة عامة ومحنة عاجلة, فعن أبي بكر الصديق أنه قال: أيها الناس, إنكم تقرؤون هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، وإني سمعت رسول الله يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه)) رواه أبو داود والترمذي بإسناد جيد [1]. فرفع الظلم والإنكار على الظالم واجب على كل أحد حسب قدرته وطاقته ووسعه, قال النبي : (( انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) ، قالوا: يا رسول الله, هذا ننصره مظلومًا, فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: ((تأخذ فوق يديه )) [2].
أيها المؤمنون, إنّ أولى المظلومين بالنصر والتأييد والإعانة هم أولئك الذين ظلِموا في دينهم, فحُورِبوا وقُوتِلوا, وهُجِّروا وضُرِبوا وسُجِنوا وأُوذوا من أجل أنهم رضوا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد نبيًّا، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]. فهؤلاء وأضرابهم هم أولى الناس بالنصر والتأييد, لا سيما في هذا العصر المفتون الذي انتعش فيه أعداء الله، من اليهود والنصارى والوثنيين والملحدين والمبتدعين والمنافقين, فرموا أهل الإسلام عن قوس واحدة كما أخبر النبي في حديث ثوبان: (( يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها )) [3]. فليس ما يجري على الإسلام وأهله في كثير من بلدان العالم إلا تصديقًا لما أخبر به الصادق المصدوق.
أحلّ الكفر بالإسلام ظلمًا يطول به على الدين النحيب
فقوموا بما أوجب الله عليكم من نصرة دينكم وإخوانكم, وذلك من خلال عدة أمور:
الأول: التوبة النصوح من جميع الذنوب, قال الله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. فإن ما أصاب أمتنا هو بما كسبت أيدينا, ويعفو عن كثير, قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]. فالتوبة إلى الله تعالى من أعظم أسباب رفع ظلم الظالمين وتسلط الطاغين, قال ابن القيم رحمه الله: " فليس للعبد إذا بغي عليه أو أوذي أو تسلط عليه خصومه شيء أنفع من التوبة النصوح ".
الأمر الثاني: مجاهدة أعداء الله تعالى ومراغمتهم على اختلاف أنواعهم, كل حسب ما يناسبه, فالكفار والمشركون جهادهم بالسيف والسنان, وأما المنافقون والمشككون والمرتابون فبالحجة والبرهان والعلم والبيان, وأما الظالمون والعصاة فبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان الدين وتبليغ ما في الكتاب والسنة من الأمر والنهي والخير.
الأمر الثالث: مدُّ يد العون والمساعدة لكلّ من أوذي في سبيل الله, قريبًا كان أو بعيدًا, وذلك من خلال تقديم كل ما يمكن تقديمه من دعم مادي أو معنوي, لا سيما ـ أيها الإخوة ـ ونحن في هذه البلاد, لا زال كثير منا ولله الحمد يعيش في سعة من الرزق ورغد من العيش, فالواجب علينا أكبر من الواجب على غيرنا, فمدوا ـ بارك الله فيكم ـ أيديكم بسخاء لإخوانكم المسلمين في كل مكان, واعلموا أن الصدقة تطفئ غضب الرحمن وتقي مصارع السوء, فإياكم والبخل, فإنه من يبخل فإنما يبخل عن نفسه.
فإن شحت نفسك أو عدمتَ ما تقدمه لإخوانك فلن تعدم ـ هداك الله ـ لسانًا بالدعاء والتضرع لاهجًا, ولله سائلاً أن يعزّ أهل دينه, وأن يذل أعداءه, فادعوا ـ أيها المؤمنون ـ لإخوانكم المسلمين المظلومين في دينهم, فإن دعوة المظلوم والدعوة له ليس بينها وبين الله حجاب, عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي بعث معاذًا إلى اليمن فقال: ((اتق دعوة المظلوم, فإنها ليس بينها وبين الله حجاب )) [4].
[1] أخرجه الترمذي في الفتن (2094), وأخرجه أبو داود في الملاحم (3775).
[2] أخرجه البخاري في المظالم والمغاصب (2264).
[3] أخرجه أبو داود في الملاحم (3745).
[4] أخرجه البخاري في المظالم والغصب (2268).
(1/3083)
احذروا الظلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
11- شؤم الظلم. 2- تحريم الله الظلم على نفسه. 3- تحريم الظلم بين العباد. 4- مراتب الظلم. 5- من صور الظلم في الواقع المعاصر. 6- من أولى الناس بالنصرة؟ 7- وسائل نصرة أخواننا المستضعفين في الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، فإنه لا فلاح لكم في الدنيا ولا نجاة في الآخرة إلا بتقوى الله تعالى.
أيها المؤمنون، إن البغي والظلم ذنب عظيم، وإثم مرتعه وخيم، وهو سبب كل شر وفساد، وكل بلاء وعقاب، فهو منبع الرذائل والموبقات، ومصدر الشرور والسيئات، وعنه تصدر سلاسل العيوب والآفات. متى فشا في أمة آذن الله بأفولها, ومتى شاع في بلدة فقد انعقدت أسباب زوالها وتحوُّل لباسها، فبه تفسد الديار, وتخرب الأوطان, وتدمر الأمصار, به ينزل غضب الواحد الجبار القهار, قال الله سبحانه وتعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [ الكهف:59 ]، وقال: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ هود:102 ], وقال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً [ الأنبياء:11 ], وقال تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: 45 ].
أيها المؤمنون, إن الله تعالى نفى عن نفسه الظلم, فقال عز وجل: وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيد [ فصلت:46], وقال : وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [ الكهف:49 ]، وقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة [ النساء:40]، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ [غافر:31]. وقد حرمه تعالى على نفسه, ففي الحديث الإلهي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (( يا عبادي, إني حرمت الظلم على نفسي, وجعلته بينكم محرمًا, فلا تظالموا )) رواه مسلم [1]. فأعلم الله تعالى عباده في هذا الحديث العظيم أنه حرم الظلم على نفسه, قبل أن يجعله محرمًا بين عباده.
وقد أعلن النبي حرمة الظلم في أعظم مجمع وموقف, فقال في خطبته يوم عرفة: ((ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)) [2] ، وفي الصحيحين أن النبي قال: (( اتقوا الظلم, فإن الظلم ظلمات يوم القيامة )) [3] وقال فيما يرويه مسلم وغيره: (( المسلم أخو المسلم, لا يظلِمه, ولا يخذله, ولا يحقره )) [4].
وقد تهدد الله تعالى أرباب الظلم وأهله, فقال جل ذكره: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42]، فالله تعالى للظالمين بالمرصاد, ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ، قال: ثم قرأ : وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. وقد لعن الله الظالمين فقال: ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]، وأخبر سبحانه أنه يبغضهم فقال: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:57].
والظلم ـ يا عباد الله ـ من أعظم أسباب ارتفاع الأمن وزوال الاهتداء عن الأفراد والمجتمعات, قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، فبقدر ما يكون في الفرد والمجتمع من الظلم بقدر ما يرتفع عنه الأمن والاهتداء, فالجزاء من جنس العمل، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أيها المؤمنون, إن الظلم الذي وردت به النصوص التحريمية وبيان سوء عاقبته والتحذير منه درجات ومراتب:
أولها: الظلم الكبير الخطير العظيم, الذي لا يغفر الله الغفور الرحيم الكريم لصاحبه إلا بالإقلاع عنه, وتوبته منه, ألا وهو الإشراك بالله تعالى، بصرف العبادة أو بعض أنواعها لغير الله, كدعاء غيره, والسجود لغيره, والذبح والنذر لغيره, ونبذ شرعه والتحاكم إلى سواه, قال الله تعالى حاكيًا عن لقمان وصيته لابنه: يا بني لا تُشْرِكْ باللَّهِ إِنَّ الشرك لظُلْم عظيم [لقمان:13]، فهذا الظلم لا يغفره الله إلا بالتوبة منه, قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرِكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء [النساء:48]. فأخلصوا ـ أيها المؤمنون ـ عبادتكم لله تعالى, فإنه من قال: "لا إله إلا الله" خالصًا من قلبه دخل الجنة، وحاربوا الشرك وأهله بالدعوة إلى التوحيد.
وأما ثاني مراتب الظلم: فذاك الظلم الذي لا يتركه الله تعالى, وهو ظلم العبد غيره من الخلق, فهذا لا بد فيه من أخذ الحق للمظلوم من الظالم, كما قال الله سبحانه في الحديث الإلهي: (( وعزتي لأنصرنّك ولو بعد حين )) [5]. وقد أجاد من قال:
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرًا فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
أيها المؤمنون, اتقوا الظلم, فإن نبيكم الصادق المصدوق أخبر أن الدنيا تملأ في آخر الزمان ظلمًا وجورًا, وها نحن نشهد صدق ما أخبر به ، فإن الظلم قد فشا وشاع بين الناس، في الدماء والأموال والأبضاع والأعراض، حتى صدق في سلوك كثير من أبناء هذا الزمان ما قاله الشاعر الجاهلي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلم
ولا تظنن ـ أيها الأخ ـ أن هذه مبالغة أو مزايدة, بل ذلك هو واقع كثير من الناس, فكم نرى من أصحاب الأعمال الذين ظلموا عمالهم, بتحميلهم ما لا يطيقون, أو بتأخير رواتبهم ومستحقاتهم, أو جحد حقوقهم, أو فرض الإتاوات عليهم. وكم نرى من أرباب الأسر والبيوت الذين جنوا على أهليهم, وظلموا أولادهم وزوجاتهم. وكم هم التجار الذين دلسوا بضائعهم وغشوا عملاءهم. وكم هم الولاة الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم, وحكموا القوانين الوضعية، فلم يعدلوا في الرعية ولم يقسموا بالسوية ولم يسيروا بالسرية. وكم هم الذين أطلقوا لأنفسهم العنان في أعراض الناس ودمائهم, فتمضمضوا بأعراض المؤمنين, وتفكهوا بدمائهم, إنهم كثير كثير كثير, قال الله تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].
فللّه ما أكثر المفلسين الذين يعملون لغيرهم ويتحمّلون عنهم, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا :المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع, فقال: ((إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة, ويأتي قد شتم هذا, وقذف هذا, وأكل مال هذا, وسفك دم هذا, وضرب هذا, فيعطى هذا من حسناته, وهذا من حسناته, فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه, أُخِذ من خطاياهم فطرحت عليه, ثم طرح في النار )) [6]. فيا لها من تجارة بائرة وصفقة خاسرة, أن تأتي يوم القيامة وأنت أحوجُ ما تكون إلى حسنة تثقل بها ميزانك, فإذا بخصمائك قد أحاطوا بك, فهذا آخذ بيدك, وهذا قابض على ناصيتك, وهذا متعلق بتلابيبك, هذا يقول: ظلمتني, وهذا يقول: شتمتني, وهذا يقول: اغتبتني أو استهزأت بي, وهذا يقول: جاورتني فأسأت جواري, وهذا يقول: غششتني, وهذا يقول: أخذت حقي.
أما والله إن الظلم شؤم وما زال المسيء هو الظلوم
ستعلم يا ظلوم إذا التقينا غدًا عند المليك من الملوم
فيا عباد الله، تداركوا الأمر قبل فوات الأوان، فما هي والله إلا ساعة ثم تبعثر القبور، ويحصّل ما في الصدور، وعند الله تجتمع الخصوم, فيقتص للمظلوم من الظالم, فتحللوا ـ أيها الإخوان ـ من المظالم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (( من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم, إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته, وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحُمِل عليه)) [7].
أيها المؤمنون, أما ثالث مراتب الظلم: فهو ظلم العبد نفسه بالمعاصي والسيئات, فكل ذنب وخطيئة تقارفها ـ يا عبد الله ـ فإن ذلك ظلم منك لنفسك, وبغي عليها, قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:229]، وما أكثر ما قال الله عند ذكر العصاة والمذنبين والظالمين: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون [النحل:118]، فكل مذنب وعاصٍ فإنما يجني على نفسه, ويعرضها لعذاب الله الأليم وعقابه الشديد, كما قال النبي فيما أخرجه ابن ماجه وغيره بسند لا بأس به عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال: سمعت رسول الله يقول في حجة الوداع: ((ألا لا يجني جان إلا على نفسه)) [8].
فتخففوا ـ عباد الله ـ من ظلم أنفسكم بامتثال ما أمركم الله به, وترك مانهاكم عنه, والتوبة مما فرط من الذنوب, فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
[1] صحيح مسلم في البر والصلة (4674).
[2] أخرجه البخاري في العلم (65), ومسلم في الحج (2137).
[3] أخرجه البخاري في المظالم والمغاصب (2267)، ومسلم في البر والصلة (4675).
[4] أخرجه مسلم في البر والصلة (4650).
[5] رواه أحمد والترمذي وابن ماجه بسند لا بأس به، انظر: السلسلة الصحيحة (868).
[6] أخرجه مسلم في البر والصلة (4678).
[7] أخرجه البخاري في المظالم والمغاصب (2269).
[8] أخرجه ابن ماجه في الديات (2659).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمنون, اعلموا أن الله سبحانه نهى عن الظلم بجميع صوره, وأمر بمجاهدة الظالمين ورفع الظلم عن المظلومين, وقد أرسل الله سبحانه رسله وأنزل كتبه لإقامة القسط ورفع الظلم, قال الله تعالى: َلقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25].
فإذا تركنا الظالم ولم نأخذ على يده فقد خالفنا ما جاءت به الرسل, ونحن مهدّدون بعقوبة عامة ومحنة عاجلة, فعن أبي بكر الصديق أنه قال: أيها الناس, إنكم تقرؤون هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، وإني سمعت رسول الله يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه)) رواه أبو داود والترمذي بإسناد جيد [1]. فرفع الظلم والإنكار على الظالم واجب على كل أحد حسب قدرته وطاقته ووسعه, قال النبي : (( انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) ، قالوا: يا رسول الله, هذا ننصره مظلومًا, فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: ((تأخذ فوق يديه )) [2].
أيها المؤمنون, إنّ أولى المظلومين بالنصر والتأييد والإعانة هم أولئك الذين ظلِموا في دينهم, فحُورِبوا وقُوتِلوا, وهُجِّروا وضُرِبوا وسُجِنوا وأُوذوا من أجل أنهم رضوا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد نبيًّا، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]. فهؤلاء وأضرابهم هم أولى الناس بالنصر والتأييد, لا سيما في هذا العصر المفتون الذي انتعش فيه أعداء الله، من اليهود والنصارى والوثنيين والملحدين والمبتدعين والمنافقين, فرموا أهل الإسلام عن قوس واحدة كما أخبر النبي في حديث ثوبان: (( يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها )) [3]. فليس ما يجري على الإسلام وأهله في كثير من بلدان العالم إلا تصديقًا لما أخبر به الصادق المصدوق.
أحلّ الكفر بالإسلام ظلمًا يطول به على الدين النحيب
فقوموا بما أوجب الله عليكم من نصرة دينكم وإخوانكم, وذلك من خلال عدة أمور:
الأول: التوبة النصوح من جميع الذنوب, قال الله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. فإن ما أصاب أمتنا هو بما كسبت أيدينا, ويعفو عن كثير, قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]. فالتوبة إلى الله تعالى من أعظم أسباب رفع ظلم الظالمين وتسلط الطاغين, قال ابن القيم رحمه الله: " فليس للعبد إذا بغي عليه أو أوذي أو تسلط عليه خصومه شيء أنفع من التوبة النصوح ".
الأمر الثاني: مجاهدة أعداء الله تعالى ومراغمتهم على اختلاف أنواعهم, كل حسب ما يناسبه, فالكفار والمشركون جهادهم بالسيف والسنان, وأما المنافقون والمشككون والمرتابون فبالحجة والبرهان والعلم والبيان, وأما الظالمون والعصاة فبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان الدين وتبليغ ما في الكتاب والسنة من الأمر والنهي والخير.
الأمر الثالث: مدُّ يد العون والمساعدة لكلّ من أوذي في سبيل الله, قريبًا كان أو بعيدًا, وذلك من خلال تقديم كل ما يمكن تقديمه من دعم مادي أو معنوي, لا سيما ـ أيها الإخوة ـ ونحن في هذه البلاد, لا زال كثير منا ولله الحمد يعيش في سعة من الرزق ورغد من العيش, فالواجب علينا أكبر من الواجب على غيرنا, فمدوا ـ بارك الله فيكم ـ أيديكم بسخاء لإخوانكم المسلمين في كل مكان, واعلموا أن الصدقة تطفئ غضب الرحمن وتقي مصارع السوء, فإياكم والبخل, فإنه من يبخل فإنما يبخل عن نفسه.
فإن شحت نفسك أو عدمتَ ما تقدمه لإخوانك فلن تعدم ـ هداك الله ـ لسانًا بالدعاء والتضرع لاهجًا, ولله سائلاً أن يعزّ أهل دينه, وأن يذل أعداءه, فادعوا ـ أيها المؤمنون ـ لإخوانكم المسلمين المظلومين في دينهم, فإن دعوة المظلوم والدعوة له ليس بينها وبين الله حجاب, عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي بعث معاذًا إلى اليمن فقال: ((اتق دعوة المظلوم, فإنها ليس بينها وبين الله حجاب )) [4].
[1] أخرجه الترمذي في الفتن (2094), وأخرجه أبو داود في الملاحم (3775).
[2] أخرجه البخاري في المظالم والمغاصب (2264).
[3] أخرجه أبو داود في الملاحم (3745).
[4] أخرجه البخاري في المظالم والغصب (2268).
(1/3084)
أشد الناس عداوة لأهل الإيمان
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
أديان, القتال والجهاد, جرائم وحوادث
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
11- من سنن الله الكونية. 2- شدة عداوة اليهود للمسلمين. 3- صور من مكائد اليهود بالرسول. 4- عداوة اليهود للأنبياء عامة. 5- حماية الله تعالى لرسوله وأنصار دينه من كيد الكائدين. 6- جرائم اليهود عبر التاريخ. 7- من أسباب النصر والتمكين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أن لله سبحانه سننًا في الأمم والمجتمعات لا يَنْخَرم نظامها, ولا يضطرب ميزانها, ولا يتغير سيرها, ولا يتأخر وقوعها، دائمة دوام الليل والنهار, مطردة على مر العصور والأعوام، لا يعتريها ارتباك ولا اختلال، قال الله تعالى: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].
ومن هذه السنن أن الله سبحانه وتعالى قضى بأن يكون لكل نبي عدوٌّ من المجرمين, يحاربه ويعمل على إبطال رسالته, وإطفاء أنوار شريعته, ودحض حجته, وتبديد دعوته, وإفساد ملته, وتمزيق أمته, وتشويه سمعته, ليصد الناس عنه, قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان:31]، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:112].
وقد بين الله سبحانه وتعالى في كتابه هؤلاء المجرمين, وذكر كثيرًا من أوصافهم وأعمالهم وأحوالهم, وقصصهم مع الأنبياء السابقين وأتباعهم المصدِّقين، بيد أن المتأمل في كتاب الله وما فيه من القَصص يلاحظ أن فئة من هؤلاء الأعداء قد شَغلت أخبارهم واحتلت أنباؤهم قسمًا كبيرًا من آيات القرآن وقصصه، فبين أفعالهم مع أنبيائهم وصادقيهم, وأظهر مواقفهم من المؤمنين على توالي السنين, وأماط اللثام عن كثير من صفاتهم وأحوالهم وخصالهم التي اختصوا بها دون سائر الأعداء والمعاندين.
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن شدة عداوتهم للمؤمنين الصادقين عامة, ولخاتم النبيين وأتباعه خاصة, فقال تبارك وتعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82]، فأشد الناس عداوة لرسول الله ودينه وأتباعه هم اليهود, الذين مَرَنوا على تكذيب الأنبياء والرسل وقتلهم، ودَرَبوا بالعتو والكفور والمعاصي والفجور, عاندوا الله في أمره ونهيه, وحرفوا كتبه، مردوا على اللعنة والذلة والمسكنة، طويت قلوبهم على الكفر والفسوق والعصيان, فحاربوا الإسلام وأهله منذ أول وهلة, وسعوا بكل وسيلة، وطرقوا كل باب, وسلكوا كل درب, لإطفاء نور الله, وإحباط دعوته ورسالته, فباؤوا باللعنة والخيبة والغضب والخسار: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
وقد حفظت آيات الكتاب ودواوين السنة وكتب السيرة ألوانًا وصورًا من مكايد هؤلاء، ومكرهم بالنبي.
منها: لما قدم المدينة مهاجرًا عاهد من فيها من اليهود وسالمهم, وأقرهم على البقاء فيها ما أقاموا العهود, وحفظوا المواثيق، إلا أن يهود لما رأوا ظهور الدين وانتصارات خاتم النبيين ملأ الحسدُ والحقد قلوبهم, فتفجرت ينابيع الشر والغدر والخيانة في أفعالهم وأقوالهم, فناصبوا رسول الله وأصحابه العداء المستحكم المرير، وأخذوا ضده كل كافر ومنافق أثيم, فرحوا واستبشروا بما نزل برسول الله وأصحابه من المنكرات والأزمات، وتألموا لما أحرزوه من الفتوحات والانتصارات, فطفقوا يخططون, وأخذوا يمكرون برسول الله أنواعًا من المكر والكيد.
فمن ذلك أنهم أكثروا على رسول الله الأسئلة تعنتًا وتعجيزًا, ليحرجوا رسول الله ، ويشككوا في صدقِه ونبوته، فأحبط الله عملهم، وخيب سعيهم، وفلّ قصدهم، فأجابهم عما كانوا يسألون، وأسمعهم ما يكرهون، فقال الله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة:144].
ومما آذوا به رسول الله أنهم سحروه, فقد أوعزت يهود ـ عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ـ إلى لبيد بن الأعصم اليهودي, فسحر رسول الله ، فكان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله, فأبطل الله كيدهم, وأفسد مكرهم, ففك الله عن رسوله السحر وشفاه.
ومما آذت به يهود رسول الله أنهم نقضوا العهود, ونكثوا بالمواثيق, وسلكوا دروب الغدر والخيانة والغش والاحتيال, فألبوا القبائل على رسول الله ، وأغروهم بقتاله، وحرضوا على حربه، ووعدوهم بالمساندة والمناصرة عليه، فلما بان نكثهم وظهر نقضهم أجلاهم رسول الله عن المدينة طائفةً تلو أخرى, حتى كان آخرهم خروجًا بنو قريظة, الذين أجلاهم النبي بعد غزوة الأحزاب, كما قص الله علينا نبأهم في سورة الأحزاب.
وقد بلغ الحقدُ والغلُ والكفرُ في يهود منتهاه بعد انتصارات رسول الله وأصحابه, وبعد انحساراتهم وانكساراتهم, فحاولوا أن يحيوا سنة آبائهم وأسلافهم, فدبروا عددًا من المؤامرات لقتل النبي , وكان آخر محاولاتهم أن امرأة منهم دست السم لرسول الله في شاة صنعتها, فتناول الذراع, فلاك منها مضغة ولم يسغها, فما زال لهذه الأكلة التي أكلها أثر, حتى إذا كانت ساعةُ وفاته قال لعائشة رضي الله عنها كما في البخاري معلقًا بصيغة الجزم: ((يا عائشة, ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر, فهذا أوان وجدت انقطاع أَبهري من ذلك السم)) [1]. والأبهر: عِرق في الظهر متّصل بالقلب, إذا انقطع مات صاحبه. وقد وردت العديد من الروايات بهذا المعنى, وهي تفيد أنه مات شهيدًا من أثر السمّ الذي وضعته اليهودية كما قال بعض أهل العلم. ومهما يكن من أمر في ذلك فإن الله سبحانه وتعالى قد قص علينا أخبارهم مع أنبيائهم, وكيف فعلوا بهم, فقال عنهم سبحانه: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87].
ومع هذه المكايد كلها فقد رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا, وكفى الله رسوله والمؤمنين شرَ أعدائهم, وصدق الله العظيم حيث قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64]. فقد أخبر الله سبحانه أنه كافٍ نبيه, وكافٍ أتباع نبيه , فلا حاجة للمؤمنين مع كفاية الله سبحانه وتعالى إلى أحد, فمن كفاه الله وقاه, ومن كان الله معه خاب كل من ضاده وعاداه.
[1] أخرجه البخاري في كتاب المغازي معلقًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي وعد بإظهار دينه على كل دين, ووعد بنصر عباده المؤمنين على كل عدو أفاك مبين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين, نبينا محمد الأمين, وعلى آله وأصحابه الطيبين.
أما بعد: فقد استعرضنا صفحة من تاريخ يهود مع هذه الأمة, ممثلة بنبيها , وقد رأينا ما اجتمع في هؤلاء القوم من الكفر والاستكبار والعناد والظلم والغدرِ والحسدِ والبغي؛ ورأينا كيف آل بهم الأمر, فأجلاهم النبي عن المدينة، وغزاهم في خيبر آخر معاقلهم في الجزيرة, وأنزل بهم ألوانًا من العذاب, بسبب ما اجتمع فيهم من خلال الكفر وصفاته, فصدق الله تعالى حيث قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].
والمتأمل في ماضي الأمة وحاضرها يدرك أن بليةَ الإسلام في أهله باليهود عظيمة شديدة, فكم من معقل للإسلام قد سعوا في هدمه، وكم من حصن راموا هتكه، وكم من عَلَم عملوا على طمسه, ضربوا بمعاول الشبهات في أصله, وروجوا الإباحية والفساد ليصدوا الناس عن عبادة رب العباد, تحالفوا مع شياطين الإنس والجن ضده, عملوا على إحداث الفُرقة في أمته وإثارة الفتن بين أهل ملته، وعكفوا على ترويج وإشاعة وإنشاء الأقوالِ المبتدعة والآراء الضالة والمذاهب المنحرفة, فهل السبئية إلا من بنات أفكارهم؟! وهل الباطنية إلا ثمرة جهودهم؟! وهل الماسونية والعلمانية إلا نتاجُ مؤامراتهم ومخططاتهم؟! فعداوة القوم للإسلام وأهله لم ترضَ محلاً لها إلا سويداء قلوبهم.
وعداوة يهود للأمة ليست رهينة فترة زمنية ثم تنتهي، بل عداوتهم للإسلام وأهله دائمة إلى آخر الزمان, ممتدةٌ عبر الليالي والأيام, متوارثة جيلاً بعد جيل, أوصى بها الأكابر الأصاغر, وحمّلها سلفهم خلفَهم، لذا فإن اليهود حلفاءُ كلِ من عادى الأمة؛ فبالأمس حالفوا مشركي العرب ضدّ النبي , واليوم حالفوا النصارى وغيرهم ضدّ أهل الإسلام, وغدًا يحالفون الدجال ويتبعونه ضد أمة الإسلام, ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفًا, عليهم الطَّيَالِسة)) [1] ، وقد قال في حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: ((وأكثر تبعه ـ أي: الدجال ـ اليهود والنساء)) [2].
إلا أن هذا الكيد والمكر الكُبَّار إلى زوال واضمحلال, إذا صبرت الأمة واتقت ربها وتمسكت بدينه, قال الله تعالى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120].
ولا نشك أن الله سبحانه وتعالى سينصر دينه, ويعلي كلمته, ويؤيد أوليائه, طال الزمن أو قصر, فإن العاقبة لله ولرسوله وللمؤمنين, ويصدّق هذا ما وعد به رسول الله أمته, ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود, فيقتلهم المسلمون, حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر, فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم, يا عبد الله, هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله, إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)) [3].
وهذا الحديث يفيد أن الصراع بين أمة الإسلام وبين يهود لن يضع أوزاره حتى يُقتلوا عن آخرهم, كما أخبر النبي , فما دام في اليهود عرق ينبض وعين تلحظ وقلب يخفق فلن تزول هذه العداوة, فإن معركتنا معهم معركة إبادة، فكل من حاول إزالة هذه العداوة أو رفعها فإنما يركض وراء السراب, ويحرث في الماء, ويضادُ ما قضاه الله سبحانه كونًا وقدرًا وشرعًا, والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
[1] أخرجه مسلم في الفتن وأشراط الساعة (5237).
[2] أخرجه أحمد من حديث عثمان بن أبي العاص (17226).
[3] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2708 )، ومسلم في الفتن وأشراط الساعة (5202).
(1/3085)
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الذكر في الكتاب والسنة. 2- مراتب الذكر. 3- فوائد الذكر. 4- اغتنام الأوقات في ذكر الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله, اتقوا الله, وأكثروا من ذكره, فإن ذكره سبحانه قوت قلوب الذاكرين, وهو قرة عيون الموحدين, وهو عدتهم الكبرى, وسلاحهم الذي لا يبلى, وهو دواء أسقامهم, الذي متى تركوه أصيبت منهم المقاتل, فانتكسوا على أعقابهم خاسرين.
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحيانًا فننتكس
فبالذكر يستدفع الذاكرون الآفات, ويستكشفون الكربات, وتهون عليهم المصيبات, فإليه الملجأ إذا ادلهمت الخطوب, وإليه المفزع عند توالي الكوارث والكروب, به تنقشع الظلمات والأكدار, وتحلّ الأفراح والمسرّات.
وقد أمر الله تعالى به المؤمنين فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]، وقال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]. وقد أثنى الله سبحانه وتعالى في كتابه على الذاكرين فقال تعالى: إِنَّ ?لْمُسْلِمِينَ وَ?لْمُسْلِمَـ?تِ وَ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَ?لْقَـ?نِتِينَ وَ?لْقَـ?نِتَـ?تِ وَ?لصَّـ?دِقِينَ وَ?لصَّـ?دِقَـ?تِ وَ?لصَّـ?بِرِينَ وَ?لصَّـ?بِر?تِ وَ?لْخَـ?شِعِينَ وَ?لْخَـ?شِعَـ?تِ وَ?لْمُتَصَدّقِينَ وَ?لْمُتَصَدّقَـ?تِ و?لصَّـ?ئِمِينَ و?لصَّـ?ئِمَـ?تِ وَ?لْحَـ?فِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ?لْحَـ?فِظَـ?تِ وَ?لذ?كِرِينَ ?للَّهَ كَثِيرًا وَ?لذ?كِر?تِ أَعَدَّ ?للَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].
وأما الأخبار عن النبي فقد دلت الأدلة على أن أفضل ما شغل العبدُ به نفسه في الجملة ذكر الله تعالى, فمن ذلك ما رواه أحمد وغيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (( ألا أنبئكم بخير أعمالكم, وأزكاها عند مليككم, وأرفعها في درجاتكم, وخير لكم من إنفاق الذهب والوَرِق, وخير لكم من أن تلقوا عدوكم, فتضربوا أعناقهم, ويضربوا أعناقكم؟ )) قالوا: بلى، قال: (( ذكر الله تعالى )) [1]. ومن ذلك أيضًا ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله يسير في طريق مكة, فمر على جبل يقال له جُمْدان, فقال : ((سيروا هذا جُمْدان, سبق المفرِّدون))، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: (( الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات )) [2].
ومما يظهر فضل الذكر وعلوَ مرتبته ما أخرجه الترمذي عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: ((لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله)) [3]. ومما يدل على ذلك أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يذكروه قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم, فقال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]. وهكذا كان النبي فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي يذكر الله على كل أحيانه [4].
أيها المؤمنون, اعلموا أن أعلى مراتب الذكر الذي أمر الله به هو ما تواطأ فيه القلب واللسان, واعلموا أن هذا الفضل العظيم والأجر الكثير ليس معلقًا على ذكر الشفة واللسان فحسب, بل لا يثبت هذا الأجر الموعود إلا على ذكر يتواطأ فيه القلب واللسان, فذكر الله إن لم يخفق به القلب, وإن لم تعش به النفس, وإن لم يكن مصحوبًا بالتضرع والتذلل والمحبة لله تعالى, فلن يكون سببًا لتحصيل هذه المزايا والفضائل.
وقد يسأل المرء: ما سر تفضيل الذكر على سائر أنواع وأعمال البر, مع أنه خفيف على اللسان ولا يحصل به تعب على الأبدان؟
فالجواب: إن سر هذا التفضيل هو أن الذكر يورث يقظة القلب وحياته وصلاحه, ولذلك قال النبي : (( مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت )) [5]. فالذكر حياة القلوب وصلاحها, والذكر للقلب كالماء للزرع, بل كالماء للسمك, لا حياة له إلا به. فإذا حييت القلوب وصَلَحت صلحت الجوارح واستقامت, قال النبي : (( ألا وإن في الجسد مضغة, إذا صَلَحت صَلَح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب )) متفق عليه [6].
فعليكم ـ عباد الله ـ بالإكثار من ذكره سبحانه, وعمارةِ الأوقات والأزمان بالأذكار والأوراد المطلقة والمقيدة, كقول: لا إله إلا الله, فإنها من خير الأقوال وأحبها إلى الله, أو قول: سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر, فإنها خير مما طلعت عليه الشمس, وغير ذلك من الأقوال التي تنمَّى بها الحسنات, وترفع بها الدرجات, وتوضع السيئات. فإن قصرت همتك وضعفت قوتك عن تلك المنازل الكبار فلا أقل من أن تحافظ على الأذكار المؤقتة والمقيدة, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وأقل ذلك ـ أي: ما ينبغي على العبد المحافظة عليه من الأذكار ـ أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين , كالأذكار المؤقتة في أول النهار وآخره, وعند أخذ المضجع, وعند الاستيقاظ من المنام, وأدبار الصلوات. والأذكار المقيدة مثل ما يقال عند الأكل والشرب واللباس والجماع ودخول المنزل والمسجد والخلاء والخروج من ذلك وعند المطر والرعد وغير ذلك ". وقد صنفت في ذلك بعض الكتيبات, فما عليك ـ أيها المبارك ـ إلا أن تقتني واحدًا من تلك المصنفات, وتواظب على المسابقة في الخيرات.
ومما يشحذ همتك ويلهب حماسك ويجذبك إلى ذكر مولاك أن تعلم أن للذكر فوائد كثيرة وعواقب حميدة لمن حافظ عليه وأكثر منه, وإليك بعض هذه الفوائد:
فمن فوائد الذكر الكبار: أنه يورث محبة الله سبحانه وتعالى, فالذكر باب المحبة وشارعها الأعظم وصراطها الأقوم, فكلما ازداد العبد لله ذكرًا ازداد له حبًا, فمن أراد أن يفوز وينال محبة الله تعالى فليلهج بذكره.
ومن فوائد ذكر الله تعالى: أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره, ويزيل الهم والغم والحزن, ويجلب للقلب الفرح والسرور والبسط, ففي الترمذي وأبي داود والنسائي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له حينئذ: هديت وكفيت ووقيت، وتنحى عنه الشيطان، فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل هدي وكفي ووقي )) [7].
وقد ثبت أن الشيطان يهرب من الأذان, ففي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضُراط, حتى لا يسمع التأذين, فإذا قضى النداء أقبل, حتى إذا ثُوِّب بالصلاة أدبر, حتى إذا قضى التثويب أقبل, حتى يَخْطِر بين المرء ونفسه, يقول: اذكر كذا, اذكر كذا, لما لم يكن يذكر, حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى)) [8].
ومنها: أنه يكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة, ويمده بالقوة في قلبه وبدنه, حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لا يفعله بدونه, ولذلك علم النبي ابنته فاطمة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثًا وثلاثين, ويحمدا ثلاثًا وثلاثين, ويكبرا أربعًا وثلاثين, لما سألته أن يعطيها خادمًا, وقال: (( فهو خير لكما من خادم )) [9].
ومنها: أن الذكر يورث ذكر الله تعالى للعبد, قال الله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]. وفي الحديث القدسي قال تعالى: ((فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم )) [10].
[1] أخرجه أحمد من حديث أبي الدرداء (20713).
[2] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4834).
[3] أخرجه الترمذي في الدعوات (3297).
[4] أخرجه مسلم في الحيض (558).
[5] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1299).
[6] أخرجه البخاري في الإيمان (50), ومسلم في المساقاة (2996).
[7] أخرجه الترمذي في الدعوات (3348), وأبو داود في الأدب (4431).
[8] أخرجه البخاري في الأذان (573), ومسلم في الصلاة (582).
[9] أخرجه البخاري في المناقب (3429), ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4906).
[10] أخرجه البخاري في التوحيد (6856), ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4832).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أمر بذكره, ورتب على ذلك عظيم أجره, والصلاة والسلام على أعظم الناس ذكرًا لربه, نبينا محمد وعلى آله وصحبه, ومن سار على دربه.
أما بعد: فاعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أن من فوائد الذكر أن الله عز وجل يباهي بالذاكرين ملائكته, كما في حديث أبي سعيد الخدري أن النبي قال لجماعة اجتمعوا يذكرون الله: (( أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم ملائكته )) [1].
ومن فوائد الذكر: أنه سبب لنزول الرحمة والسكينة, كما قال : (( وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله, يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم, إلا نزلت عليهم السكينة, وغشيتهم الرحمة, وحفتهم الملائكة, وذكرهم الله فيمن عنده )) [2].
ومن فوائده: أنه يورث المراقبة, حتى يُدخل العبد في باب الإحسان, فيعبد الله كأنه يراه.
ومن فوائد الذكر: أنه يورث الإنابة, وهي الرجوع إلى الله تعالى, فإنه متى أكثر العبد الرجوع إلى الله تعالى بذكره أورثه ذلك رجوعه إلى الله تعالى بقلبه في كل الأحوال, فيصير الله تعالى مفزعه وملجأه, وملاذه ومعاذه, وقبلة قلبه, ومهربه عند النوازل والبلايا.
ومن فوائده: أنه يزيل الوحشة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى, فإن الغافل بينه وبين الله حجاب كثيف, ووحشة لا تزول إلا بالذكر.
ومن فوائده: أنه سبب اشتغال اللسان عن الغيبة والنميمة, والكذب والفحش والباطل, فإن العبد لا بد له من أن يتكلم, فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى تكلم بهذه المحرمات, ولا سبيل إلى السلامة منها ألبتة إلا بذكر الله تعالى, والمشاهدة والتجربة شاهدان بذلك, فمن عود لسانه ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو, ومن يبس لسانه عن ذكر الله تعالى ترطب بكل باطل ولغو وفحش، ولا حول ولا قوة إلا بالله, ونفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل ولا بد.
ومن فوائد الذكر: أنه من أكبر العون على طاعته سبحانه, فإنه يحبب الطاعة إلى العبد ويسهلها عليه، يجعلها قرة عينه, فلا يجد في الطاعة من الكلفة والمشقة والعناء ما يجده الغافل.
ومن فوائده: أنه يسهل المصاعب, وييسر العسير, ويخفف المشاق, فما ذُكِر الله على صعب إلا هان, ولا على عسير إلا تيسر, ولا على شاق إلا خف, ولا على شدة إلا زالت, ولا كربة إلا انفرجت, وذلك لأن الذكر يذهب عن القلب المخاوف كلها, وله تأثير عجيب في حصول الأمن, فليس للخائف الذي قد اشتد خوفه أنفع من ذكر الله عز وجل, إذ بحسب ذكره يجد الأمن ويزول الخوف, قال الله تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
ومن أعظم فوائد الذكر: أنه ينبه القلب من نومه, ويوقظه من سِنَته, والقلب إذا كان نائمًا فاتته الأرباح والمتاجر, وكان الغالب عليه الخسران, فإذا استيقظ وعلم ما فاته في نومته شد المئزر, وأحيا بقية عمره, واستدرك ما فاته, ولا تحصل يقظته إلا بذكر.
أيها المؤمنون, هذه بعض فوائد الذكر الذي هو من أسهل الأعمال وأيسرها, وأقلها كلفة, فهلا عمرنا به الأوقات, وشغلنا به المشاهد والخلوات, عسى أن ندرك بعض هذه المناقب والخيرات, فإنه والله وبالله من أعظم الحرمان ومن أشد الخذلان أن يمضي الواحد منا الساعات إما صامتًا ساكتًا, أو متكلمًا فيما لا يعود عليه بنفع لا في الدنيا ولا في يوم المعاد, بل إنه قد أصبح من غرائب المشاهدات عند أكثر الناس أن يروا من يحرك شفتيه بالذكر في المجامع والخلوات, فما إن يروا من ذلك شيئًا إلا رمقه الناس بأبصارهم, وتابعوه بأنظارهم, وقد يسيء به بعضهم الظن, فينسبه إلى قلة العقل, أو غير ذلك من الأمراض, فإنا لله وإنا إليه راجعون.
[1] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4869).
[2] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4867).
(1/3086)
الإخلاص وفوائده
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الإخلاص في الإسلام. 2- أسباب الإخلاص. 3- فوائد الإخلاص.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله, وخير الهدي هدي محمد , وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة.
أيها الناس, اتقوا الله وأطيعوه, فإنه تعالى أمركم بذلك فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
أيها الإخوة الكرام, إن الله تعالى خلق الخلق لعبادته, وبعث الرسل إلى الناس ليعبدوه وحده لا شريك له, قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، وقال جل ذكره: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].
وعبادة الله سبحانه وتعالى لا تقوم إلا بالإخلاص له, فالإخلاص هو حقيقة الدين ولب العبادة وشرط في قبول العمل, وهو بمنزلة الأساس للبنيان, وبمنزلة الروح للجسد, ولذلك لما كانت أعمال الكفار لا توحيد فيها ولا إخلاص, جعلها الله تعالى هباءً منثورًا, قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]. وهذا الإبطال والإحباط نصيب كل من لم يخلص العمل لله تعالى وقصد غيره, قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُون أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الإسراء:15، 16].
فيا خيبة من جاء بأعمال مثل الجبال, يجعلها الله هباء منثورًا, ويكبه على وجهه في النار, فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: ((إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد, فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها, قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت, قال: كذبت, ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء, فقد قيل, ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلّمه, وقرأ القرآن, فأتي به فعرفه نعمه فعرفها, قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلّمته, وقرأت فيك القرآن, قال: كذبت, ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم, وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ, فقد قيل, ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسّع الله عليه, وأعطاه من أصناف المال كله, فأتي به فعرفه نعمه فعرفها, قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحبّ أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك, قال: كذبت, ولكنك فعلت ليقال: هو جواد, فقد قيل, ثم أمر به فسحب على وجهه, ثم ألقي في النار )) [1] نعوذ بالله من الخذلان.
فسبحان من لا تخفى عليه خافية, بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور, فإن المرء مهما ضلّل الناس وخدعهم ظاهره وصورته، فإن هذه الظواهر والصور وهذا التزييف والتضليل لا يغني عنه شيئًا. أما عند الله تعالى فقد قال في كتابه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142]، وقد قال النبي : (( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم, ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )) [2].
أما الناس فسرعان ما ينكشف الستار, وتبدو الحقيقة للأنظار, إما في الدنيا أو في دار القرار, قال الله تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ [الرعد:17].
أيها المسلمون, اعلموا أن من أعظم أسباب تخلّف الإخلاص وغيابه في الأعمال هو طلب الدنيا, أو محبة المدح والثناء, قال ابن القيم رحمه الله: "لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت"، وقال رحمه الله: "فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص, فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس, وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة, فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص, فإن قلت: وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك يقينك أنه ليس شيء يطمع فيه إلا هو بيد الله وحده, لا يملكه غيره, ولا يؤتي العبد منه شيئًا سواه. وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمه ويشين إلا الله وحده, فازهد في مدح من لا يزينك مدحه, وفي ذم من لا يشينك ذمه, وارغب في مدح من كل الزين في مدحه, وكل الشين في ذمه".
فإذا جاهد العبد نفسه حتى زهد في الدنيا, وفي مدح الناس وثنائهم, وقصد الله في عمله, كان من أهل الإخلاص الذين أعمالهم كلها لله تعالى, وأقوالهم لله, وحبهم لله, وبغضهم لله, فمعاملتهم ظاهرًا وباطنًا لوجه الله وحده, لايريدون بذلك من الناس جزاءً ولا شكورًا, ولا ابتغاء الجاه عندهم, ولا طلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم, ولا هربًا من ذمهم, وبهذا تكون أقوى الناس, لأن وليك حينئذ هو مولاك القوي المتين, وبهذا تكون من أهل الكرامة في هذه الدار, وفي دار الجزاء.
[1] أخرجه مسلم في الإمارة (3527).
[2] أخرجه مسلم في البر والصلة (4651).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون, إن لإخلاص العمل لله تعالى فوائد كثيرة, أذكر بعضها, عسى أن تكون حافزة لنا إلى مزيد من الاجتهاد, والعمل في تحقيق الإخلاص لله تعالى في الأقوال والأعمال.
اعلموا أن من فوائد الإخلاص: أن الأقوال والأعمال لا تقبل إلا إذا صاحَبها الإخلاص, فالأعمال مهما حسن أداؤها إذا لم يصاحبها إخلاص لله تعالى فهي مردودة حابطة, فعن أبي أمامة مرفوعًا: ((إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا، وابتغي به وجهه)) [1]. وكذلك الأقوال, قال النبي في وصف أسعد الناس بشفاعته يوم القيامة: (( من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه)) [2].
ومنها: أن الإخلاص سبب لقوة القلب, ورباطة الجأش, وتحمل أعباء العبادة وتكاليف الدعوة, ولو تأمل الواحد منا حال بعض المخلصين الصادقين لتبين له ذلك, فمن ذلك رباطة جأش النبي وقوته, مع توافر أسباب الهلاك عليه, حيث قال لصاحبه وهو في الغار: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].
فالإخلاص والصدق مع الله تعالى يعين على النهوض بالحق ومجابهة الباطل, مهما عظمت قوة الباطل, فهذا نبي الله هود لم تكن له آية بارزة كما كان لغيره من الأنبياء, دعا قومه إلى عبادة الله وحده, وترك عبادة ما سواه, فجادله قومه, وقالوا كما قص الله علينا نبأهم في كتابه: قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِين إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود:53-55].
ومنها: أن من فوائد الإخلاص التخلص من كيد الشيطان وتسلطه, قال الله تعالى إخبارًا عما قاله إبليس لما طلب أن ينظره ربّ العالمين: إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:40].
ومنها: أنه سبب لصرف السوء والفحشاء, قال تعالى في قصة يوسف: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].
ومنها: أن العمل القليل مع الإخلاص سبب للفوز برضا الله تعالى, ومن أمثلة ذلك قوله : ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)) [3] , فشق التمرة مع الإخلاص يقي النار بمنة الكريم المنان, وأطنان التمر مع الرياء تولج أسفل النيران, قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145].
قال ابن القيم رحمه الله:
واللهُ لا يرضى بكثرة فعلنا لكن بأحسَنه مع الإيمان
فالعارفون مرادهم إحسانه والجاهلون عموا عن الإحسان
بقي من الفوائد: أن العبد ينصر بإخلاصه, قال النبي فيما أخرجه النسائي عن مصعب بن سعد رأى سعد بن أبي وقاص أن له فضلاً على من دونه: (( إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم )) [4].
أيها الإخوة المؤمنون, اعلموا ـ وفقكم الله ـ أن الأعمال والطاعات لا تتفاضل بصورها وعددها, وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب, فتكون صورة العملين واحدة, وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض, والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدًا, وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض, فعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عُشر صلاته، تُسعها، ثمنها، سُبعها، سُدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها )) [5]. فيا إخواني عليكم بتصحيح النيات والأعمال لله تعالى.
[1] أخرجه النسائي في الجهاد (3089).
[2] أخرجه البخاري في العلم ( 97).
[3] أخرجه البخاري في الزكاة (1328).
[4] أخرجه النسائي في الجهاد (3127).
[5] أخرجه أبو داود في الصلاة (675).
(1/3087)
الإسراء
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, القصص
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
11- نعمة إرسال الرسل. 2- قصة الإسراء والمعراج. 3- الدروس والعبر المستفادة من القصة. 4- عظم شأن الصلاة في الإسلام. 5- وجوب الإيمان والتصديق بكل نصوص الوحيين. 6- بدعة الاحتفال بليلة السابع والعشرين من رجب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها المؤمنون ـ بتقوى الله تعالى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28]. فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على أن أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن من أجل نعم الله عليكم أن جعلكم من أمة الإسلام، ومن أتباع خير الأنام من أمة محمد الذي رفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وجعل الذل والصغار على من خالف أمره، فهو خليل الرحمن وسيد الأنام، صاحب المقام المحمود والكوثر والحوض المورود، فنعمة الله عليكم به ـ يا عباد الله ـ أجل النعم وأعظمها رحمةً وفضلاً، فلله الحمد على ذلك كثيرًا كثيرًا.
عباد الله، أيها المؤمنون، إن الله تعالى قد اصطفى محمدًا النبي الأمي، وخصه بخصائص عديدة وفضائل كثيرة، فاق بها الأولين والآخرين، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124].
فمن خصائصه العظيمة وآياته المبينة خبر الإسراء به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى أولاً، ثم العروج به إلى السماء ثانيًا، تلك الرحلة العجيبة والآية العظيمة الباهرة.
فبينما رسول الله نائم في الحجر في الكعبة قبل الهجرة أتاه آت فشقّ ما بين ثغرة نحره إلى أسفل بطنه، ثم استخرج قلبه فملأه حكمة وإيمانًا، ثم أتي بدابة بيضاء، يقال لها: البراق، يضع خطوه عند منتهى طرفه، فركب ومعه جبريل حتى أتيا بيت المقدس، فدخل المسجد فلقي الأنبياء جميعًا، فصلى بهم ركعتين، كلهم يصلي خلف محمد ، ثم خرج رسول من المسجد الأقصى، فجاءه جبريل بإناء فيه خمر وإناء من لبن، فاختار اللبن فقال له جبريل: اخترتَ الفطرة.
ثم عرج به جبريل إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، ففتح له فوجد آدم فسلم عليه فرد عليه السلام، وقال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم عرج به إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل ففتح له، فرأى فيها النبي عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا صلوات الله عليهم، فرحبا به فدعوا له بالخير، ثم عرج به إلى السماء الثالثة فإذا هو بيوسف وقد أعطي شطر الحسن، فرحب به ودعا له بخير، ثم عرج به إلى السماء الرابعة فإذا هو بإدريس عليه السلام، ثم عرج به إلى السماء الخامسة فإذا هو بهارون فرحب به ودعا له، ثم عرج به إلى السماء السادسة فإذا هو بموسى فرحب به ودعا له بالخير، ثم عرج به إلى السماء السابعة فإذا هو بإبراهيم عليه السلام مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وهو بيت يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذُهب به إلى سدرة المنتهى، فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، فأوحى إليه الله تعالى ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزل إلى موسى فقال له: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أُمتك لا يطيقون ذلك، فرجع فوضع الله تعالى عنه عشرًا، وما زال يراجع حتى استقرت على خمس فرائض في اليوم والليلة، ثم نادى مناد: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، ثم عاد رسول الله إلى فراشه قبل الصبح [1].
عباد الله، كل هذا النبأ العظيم والأحداث الكبار كانت في ليلة واحدة، فسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا إله إلا الله.
وعاد محمد من ليلته، فلما أصبح رسول الله في قومه أخبرهم بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له وأذاهم إياه وتعديهم عليه ، فسألوه أن يصف لهم بيت المقدس فجلاه الله له حتى عاينه، فطفق يخبرهم عن آياته ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئا.
وكان أبو بكر رضي الله عنه كلما قال شيئًا قال: صدقت أشهد أنك رسول الله، وأخبرهم عن إبلهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها، فكان الأمر كما قال، فلم يزدهم ذلك إلا نفورًا، وأبى الظالمون إلا كفورًا.
أيها المؤمنون، هذا خبر الإسراء بمحمد والعروج به إلى السماوات العلا، آية وعبرة ينتفع بها من أحيا الله قلبه بالعلم والإيمان، وأما الذين في قلوبهم مرض فهم في ريبهم يترددون، وفي مثل هذه الأخبار يشككون، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلا: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:124، 125]، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
فقد ذكر الله في كتابه فقال في شأن الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَه [الإسراء:1]، وقال الله تعالى في شأن المعراج: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:1-18].
[1] أخرجها البخاري في بدء الخلق (3207) من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا ـ يا أولي الأبصار ـ بما في هذه القصة من الآيات الباهرات والمنن الوافيات، فإن فيها ما يبهر العقول ويأسر الألباب ويزيد الإيمان في قلوب المتقين من العباد.
أيها المؤمنون، إن أبرز ما في هذه القصة بيانُ عظيم منزلة هذا الرسول الكريم عند الله جل وعلا، فمحمد خليل الرحمن، فقد جعله الله إمامًا وبلغه منزلة لم يبلغها أحد من الأولين والآخرين، فبلغ مكانًا سمع فيه صريف الأقلام أي: صوت الأقلام التي تكتب الأقدار، ورأى في معراجه الجنة والنار، وفي هذه الحادثة العظيمة إقرار جميع الأنبياء بنبوة محمد ، وبذلك يظهر وفاؤهم بما أخذ عليهم من الميثاق.
وفي ليلة الإسراء والمعراج أظهر الله فضل هذه الأمة، وأنها أمة الفطرة ودينها دين الفطرة؛ فإنه لما خُيّر بين الخمر واللبن اختار اللبن، فسلامة الفطرة لبن هذا الدين، ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) [1].
أيها المؤمنون، في ليلة المعراج وفي أشرف مكان فرض الله على نبيه الصلوات الخمس، فرضها على نبيه مباشرة بلا واسطة، فدل ذلك على عظيم منزلة هذه العبادة وعناية الله تعالى بها.
فاتقوا الله عباد الله، وحافظوا على الصلوات، فإنه من لم يصل فقد قطع صلته بربه ومولاه، وسوف يدعو ثبورًا ويصلى سعيرًا، مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:42، 43].
أيها المؤمنون، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، فإذا جاءه الخبر أو الحكم عن الله أو عن رسوله قابله بالتصديق والتسليم بلا شك ولا ريبة، كيف لا وربه ـ أيها المؤمنون ـ هو رب السماوات والأرض الذي له الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله، فهو العليم الخبير القوي العزيز، ورسول الله صادق أمين، وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3، 4].
فاحذر ـ يا عبد الله ـ أهل التشكيك الذي يشككونك في أخبار الله ورسوله وأحكام دينك، وليكن لك في صديق هذه الأمة أبي بكر رضي الله عنه أسوة حسنة، فإنه لما جاءه أن رسول الله يحدث بخبر الإسراء والمعراج قال بلسان صادق وقلب ثابت وإيمان راسخ: (إن كان قد حدثكم بذلك فهو صادق)، فرضي الله عنه وأرضاه.
أيها المؤمنون، هذه بعض الفوائد والعبر المستفادة من هذا الخبر، فالحمد لله على إحسانه وامتنانه، والشكر له على عظيم فضله وإحسانه.
عباد الله، إن حادثة الإسراء والمعراج كانت قبل هجرة النبي إلى المدينة، وقد اختلف المؤرخون في تحديد السنة والشهر الذي وقعت فيه هذه الآية العظيمة، منهم من قال: إنها في ربيع الأول، ومنهم من قال: إنها في ربيع الآخر، ومنهم من قال: إنها في رجب، ومنهم من قال: إنها في رمضان، ومنهم من قال: إنها في شوال، وليس على واحد من هذه الأقوال دليل صحيح يعتمد عليه.
كما أنه يجب أن تعلموا ـ يا عباد الله ـ أنه ليس في ليلتها فضل خاص، فلا تخص بقيام ولا احتفال، ولا بغير ذلك؛ فإن هذا كله من البدع، وكل بدعة ضلالة.
وبهذا يتبين خطأ الذين يحتفلون في ليلة السابع والعشرين من هذا الشهر، فوالله لو كان ذلك خيرًا لسبقنا إليه الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان.
فاتقوا الله عباد الله، فإن خير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن الله مع الجماعة.
[1] أخرجه البخاري في الجنائز (1358)، ومسلم في القدر (2658).
(1/3088)
غلاء المهور
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
زهير بن حسن حميدات
الخليل
28/2/1424
عبد الرحمن بن عوف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النهي عن المغالاة في المهور. 2- نماذج من مهور السلف الصالح. 3- أخطاء ومخالفات يقع فيها كثير من أولياء الأمور عند الخطبة. 4- دعوة لأولياء الأمور لتيسير المهور. 5- دعوة للعلماء وطلاب العلم وأهل الصلاح بأن يكونوا قدوة للناس في تخيفيف المهور. 6- شبهة والرد عليها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، لقد ازدادت مشكلة غلاء المهور، حتى صار الزواج عند بعض الناس من الأمور الشاقة والمستحيلة، وبلغ المهر في بعض البقاع حدًا خياليًا، لا يطاق إلا بجبال من الديون التي تثقل كاهلَ الزوج. ويؤسف كلَّ غيور أن يصل الجشع ببعض الأولياء أن يطلب مهرًا باهظًا من أناس يعلم الله حالهم، لو جلسوا شطر حياتهم في جمعه لما استطاعوا، فيا سبحان الله، أإلى هذا المستوى بلغ الطمع وحب الدنيا ببعض الناس؟! وكيف تعرض المرأة المسلمة سلعة للبيع والمزايدة وهي أكرم من ذلك كله؟! حتى غدت كثيرات من العوانس مخدرات في البيوت حبيسات في المنازل بسبب ذلك التعنت والتصرف الأرعن.
إخوة الإسلام، يقول الفاروق رضي الله عنه: (ألا لا تغالوا في صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة لكان النبي أولاكم بها؛ لم يصدق امرأة من نسائه ولم تُصدق امرأة من بناته بأكثر من ثنتي عشرة أوقية)، ولعله لا يزيد في عملتنا المعاصرة على عشرين دينارا فقط.
وجاءت امرأة إلى رسول الله فقالت: إني وهبت من نفسي، فقال رجل: زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((هل عندك من شيء تصدقها؟)) ، قال: ما عندي إلا إزاري، فقال: ((إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك، فالتمس شيئًا)) ، فقال: ما أجد شيئًا، فقال النبي : ((التمس ولو خاتمًا من حديد)) ، فلم يجد، فقال: ((أمعك من القرآن شيء؟)) ، قال: نعم سورة كذا وكذا وسورة كذا، لسور سمّاها، فقال: ((قد زوجناكها بما معك من القرآن)).
ولقد خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: والله، ما مثلك يرد، ولكنك كافر، وأنا مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذلك مهري، ولا أسألك غيره، فكان كذلك، أسلم وتزوجها.
وهذا عبد الرحمن بن عوف وهو من أغنى أهل المدينة، والذي توفي عن أربعة وستين مليون دينار، تزوج على وزن نواة من ذهب، صاحب الملايين تزوج على وزن نواة من ذهب.
والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يمهرون ملء الكف من الدقيق أو السويق أو التمر، قال النبي : ((من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقًا أو تمرًا فقد استحل)).
وهذا سعيد بن المسيب رحمه الله سيد التابعين، يتقدم لخطبة ابنته الخليفة عبد الملك بن مروان لابنه الوليد ولي العهد، فيرفض، ويزوجها لتلميذ صالح صاحب دين وخلق، اسمه عبد الله بن أبي وداعة، ماتت زوجته، فقال له شيخه: وهل استحدثت امرأة غيرها؟ قال: ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟! فقال: أنا أزوجك، وزوجه بابنته على درهمين أو ثلاثة. يقول التلميذ عبد الله بن أبي وداعة: فدخلت بها فإذا هي من أجمل النساء، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله، وأعرفهم بحق الزوج، وبعد شهر عاد إلى شيخه سعيد، فدفع له شيخه عشرين ألف درهم.
معاشر الإخوة، إن قصة سعيد بن المسيب وتلميذه عبد الله بن أبي وداعة توبيخ لمن باع ابنته بالدرهم والدينار، واشترط لها أموالاً طائلة وتكاليف باهظة، لقد آثر سعيد ما يبقى على ما يفنى، والسعادة ـ والله ـ ليست في الأموال، وإنما في الإيمان بالله والعمل الصالح، قال تعالى: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
وقد أنكر الرسول على المغالين في المهور، فقد جاءه رجل يسأله فقال: يا رسول الله، إني تزوجت امرأة على أربع أواق من الفضة، فقال النبي : ((أوّه، على أربع أواق من الفضة؟! كأنما تنحتون الفضة من عُرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك)).
أمة الإسلام، يا أمة محمد، يقول الرسول : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)). هذا أمر رسول الله الذي خالفه بعض الأولياء هداهم الله، فخانوا الأمانة التي حُمِّلوها في بناتهم بمنعهنّ من الزواج من الأكفاء دينًا وخلقًا وأمانة، فقد يتقدم إليهم الخاطب الكفء فيماطلونه ويعتذرون له بأعذار واهية، وينظرون فيه إلى أمور شكلية وجوانب كمالية، يسألون عن ماله، وعن وظيفته، وعن وجاهته ومكانته، ويغفلون أمر دينه وخلقه وأمانته، بل لقد وصل ببعض الأولياء الجشع والطمع أن يعرض ابنته سلعة للمساومة وتجارة للمزايدة والعياذ بالله، وما درى هؤلاء المساكين أن هذا عضل وظلم وخيانة، ألم يسمع هؤلاء بالقصص الواقعية لضحايا هذه الظاهرة؟! ألم يقرؤوا الرسائل المؤلمة المفجعة التي سطرتها دموع هؤلاء؟! إنها صرخة نذير في آذان الآباء والأولياء، ورسالة عاجلة إليهم أن يتداركوا شرفهم وعفتهم وعرضهم قبل فوات الأوان.
أين الرحمة في قلوب هؤلاء الأولياء؟! كيف لا يفكرون بالعواقب؟! أيسرُّهم أن تلطَّخ سمعتهم مما يندى له جبين الفضيلة والحياء؟! سبحان الله، كيف يجرؤ مسلم غيور يعلم فطرة المرأة وغريزتها على الحكم عليها بالسجن المؤبد إلى ما شاء الله؟! ولو عقل هؤلاء لبحثوا هم لبناتهم عن الأزواج الأكفاء، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعرض ابنته حفصة على أبي بكر ليتزوجها، ثم على عثمان رضي الله عنهم أجمعين. وهذا سعيد بن المسيب رحمه الله سيد التابعين يزوج تلميذه أبا وداعة.
أيها المسلمون، يا أحباب محمد، إن الإسلام لم يشرع في نفقات العقد والزفاف سوى المهر للمرأة، والوليمة لحفلة العرس، وإكرام الضيف بما يناسب الحال. أما ما عداها من الهدايا والنفقات، كغرفة النوم وأثاث البيت والملابس والمال الذي يعطى لأب العروس وإخوتها وعمها وخالها، فهي ليست فرضًا واجبًا، وليس من شروط العقد والنكاح في شيء أبدًا. ومن أراد أن يكرم على العروس فليكرم عليها من ماله.
والله الذي لا اله إلا هو، إنه لمن العار على أقارب العروس أن يأخذوا من العريس ما يكرمون به على رحمهم أمام الناس، يطلب ولي العروس مهرا بآلاف الدنانير، ويبخل عليها بعشرة دنانير، أإلى هذا المستوى ـ أيها الناس ـ أصبحنا تبعا للعادات والتقاليد الجاهلية؟!
يا أمة محمد، يا خير أمة أخرجت للناس، لم يشرع في الزواج إلا المهر، فمن أين جاءت تلك التكاليف الباهظة؟! ذهب، غرفة نوم، ملابس، أثاث بيت، هدايا لأقارب العروسين، العم والخال، أجرة صالون، نفقات حفلة الزفاف، وغير ذلك من تبعات الزواج، ناهيك عن المهر المؤجل الذي يبقى دينا على الزوج في حياته ومماته، آلاف الدنانير هي تكاليف الزواج عندنا.
كل هذا على من؟! على عامل ينام في العبارات أو في الحرش، تحت الأرض أو فوق الشجر، يعمل يوما ويسجن أياما، أو على موظف معاشه لا يكفي لحاجاته الضرورية، فكيف سيوفر آلاف الدنانير؟! كم سنة يحتاجها لتوفير هذا المبلغ؟! شباب فقراء مساكين في مجتمع لا يرحم، يحلمون بالزواج وكأنه أصبح ضربا من الخيال.
فإلى من تكلوهم يا عباد الله؟! إلى الاحتلال الصهيوني الذي يسقطهم أفواجا أفواجا، أم إلى السلطة الفلسطينية التي أحلت لهم الزنا واللواط، ووفرته لهم في الجامعات وأماكن الاختلاط؟!
فيا أولياء الأمور، أين الرحمة بهؤلاء؟! بل أين الرحمة ببناتكم؟! كل شيء بالانتفاضة تأثر إلا المهر، وكل العادات تتغير وتتبدل إلا في الزواج، فإلى متى يا عباد الله؟! إلى متى يا أولياء الأمور؟! إلى متى يا من تتركون سنة الحبيب المصطفى؟!
الرسول لم يُزَوِّج ولم يَتَزَوَّج بأكثر من عشرين دينارا بمستوى معيشتنا، وأمته في هذا البلد لم تُزَوِّج ولم تَتَزَوَّج بأقل من ثمانية آلاف دينار.
فيا أولياء الأمور، نسألكم بالله العظيم أن تتعاونوا على تخفيض المهور، ويا أيها العلماء، يا أئمة المساجد، يا أهل الدين، يا أهل الخير، نسألكم بالله العظيم أن تزوِّجوا بسنة محمد، فأنتم القدوة، وغيركم تبع لكم. سنة ميتة، من يحييها له أجر مائة شهيد، من منكم يكون أهلا لها؟! من منكم يملك الجرأة الكافية والإيمان القوي لينتصر على نفسه الأمارة بالسوء، وعلى تلك العادات الجاهلية الموروثة، فيثبت بذلك حبه لرسول الله ، ويسن سنة حسنة، له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة؟!
أيها المؤمنون، يقول النبي : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)). وهذا خطاب للرجال العقلاء، لا للنساء اللواتي قُلِّدن أمر الزواج في هذا المجتمع.
لقد صار بيد المرأة الموافقة على الزواج، وبيدها تحديد المهر، فكثرت العوانس، وغلت المهور، وتضاعفت نفقات الزواج. ولا شك أن المرأة بما جبلت عليه من فِعال وعاطفة، وبما تحبه من المظاهر والمفاخرة وحب الظهور أمام الناس، لا يمكن أن يتحقق على يديها خطبة أو زواج، إلا إذا كانت تزن الأمور بميزان الشرع والدين، ومثل ذلك قليل. فكم سمعنا عن أمهات يفسدن زواج بناتهن؛ لأن الواحدة منهن تدعي أن ابنتها ليست بأقل من بنت فلان.
إن المرأة ـ أيها الناس ـ مهما بلغت فهي ناقصة عقل، ولا تكاد تعرف عواقب الأمور، لذلك قال الرسول : ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)). ولذلك جعل الله أمر التزويج بأيدي الرجال الراشدين والأولياء الصالحين، قال تعالى: وَأَنْكِحُواْ ?لأَيَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32]. هذا أمر الله للأولياء بتزويج أبنائهم وبناتهم، ووعد منه برزقهم ورعايتهم، ومن أصدق من الله قيلا؟!
إن العار إذا لحق إنما يلحق بالرجال. فاحذروا ـ أيها الرجال ـ فالقوامة لكم لا لنسائكم.
فيا أيها الأولياء، اتقوا الله فيمن تحت أيديكم من البنات، بادروا بتزويجهن متى ما تقدم الأكفاء في دينهم وأخلاقهم، ((إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)).
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني وإياكم بالآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليمًا غفورًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبا وصهرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، بعثه الله هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الأحبة، إننا نقولها وبصراحة: ماذا ينفع المرأةَ أهلها إذا بقيت عانسًا قد فاتها ركب الزواج، وأصبحت أيِّمًا لم تسعد في حياتها بزوج وأولاد، يكونون لها زينة في الحياة، وذخرًا لها بعد الوفاة؟! وكم من امرأة فاتها قطار الزواج، وذهبت نضارتها، وذبلت زهرتها، وتمنت بعد ذلك الموت لمن عطل زواجها، لتسمع كلمة الأمومة على لسان وليدها، وكم هي الصيحات والزفرات الحرَّاء التي أطلقت من مثل هؤلاء، فأين الرحماء ببناتهم؟! أين العقلاء؟!
والله، إننا لنحزن على أخوات لنا ظلمهن أولياؤهن ظلما كبيرا، فلا هن متزوجات فيسعدن، ولا هن بميتات فيسترحن. فهذه امرأة في عصرنا الحاضر شابة تقدم إليها الخطاب، فرفض أبوها أن يزوجها، فلما تقدم بها السن، وحضرت أباها الوفاة، قال لها: يا بنية، اجعليني في حل، سامحيني سامحك الله، فقالت له: والله، لا أسامحك، بل عليك لعنة الله كما حرمتني من حقي في الحياة. وهذا رجل آخر يزور أخته في المستشفى، وقد تقدم بها السن ولم تتزوج، بعد أن رد أخوها خطابها، ولما كانت على فراش الموت في آخر لحظة من حياتها قالت لأخيها: اقترب مني يا أخي، فلما اقترب منها، قالت له: حرمك الله الجنة كما حرمتني من الزواج، وفاضت روحها إلى الله. هذه المآسي ـ يا عباد الله ـ بسبب المغالاة في المهور وتعسير أمور الزواج.
فاتقوا الله عباد الله، يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، ((إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)).
أمة الإسلام، لقد حث الإسلام على تسهيل الزواج وتيسير أموره، ونهى عن المغالاة في المهور، والمبالغة في تكاليفه، فهذا خير البشر محمد يزوج ابنته فاطمة رضي الله عنها بعلي بن أبي طالب بما يساوي أربعة دراهم. والإسلام اعتبر أن المرأة كلما كان مهرها قليلاً كان خيرها كثيرًا، قال رسول الله : ((إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة)) ، وقال : ((يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها)).
فاتقوا الله عباد الله، ويسروا أمر الزواج، واحرصوا على من ترضون دينه وخلقه، وإياكم من الرغبة في المال دون الدين، فالمال عرض زائل وعارية مستردة، والبقاء للدين.
وإني لأدعوكم ـ أيها الأخوة ـ للعودة إلى المهر المحدود المقطوع، كما كان قديما، به تشتري العروس ما شاءت، ولا تسأله غير هذا المهر، حقا خالصا لها، كخطوة أولى نحو أحياء سنة الحبيب المصطفى ، ليتزوج العازبون، ويعدد المتزوجون، وتقل نسبة العوانس، ويستغني الشباب بالحلال عن الحرام.
ولعل هذا الكلام ـ أيها الأحبة ـ قد لا يعجب بعض السامعين، فيستخفون به، ويعترضون عليه، ظانين بأن هذا يقلل من قيمة بناتهم.
فأقول لهؤلاء: إن بناتكم ونساءكم لسن بأشرف من بنات ونساء الرسول اللواتي قبلن بأقل من هذا، وهن أشرف وأطهر نساء الأرض، وأنتم لستم بأفضل من رسول الله الذي قبل بأقل من ذلك لبناته وأزواجه، والبركة في القليل من المهر، لقول الرسول : ((إن أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة)).
فاتقوا الله أيها الناس، وقوموا بمسؤولياتكم، وَأَنْكِحُواْ ?لأيَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ [النور:32].
ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد، فقد أمركم بذلك ربكم فقال في محكم تنزيله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبيّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
(1/3089)
فضل الشهادة
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
زهير بن حسن حميدات
الخليل
26/12/1423
عبد الرحمن بن عوف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل الشهادة في سبيل الله. 2- صور من عشق الصحابة للجهاد والاستشهاد. 3- نماذج من الجهاد المعاصر. 4- كرامات الشهيد. 5- وصف الحور العين. 6- وصف للجنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، أيها المرابطون في هذه الديار، لقد اختاركم الله حلقة ممتدة في سلسلة الرباط الممتد في هذه الديار إلى يوم الدين، فكنتم أهلا لذلك، تذودون عن شرف أمتكم وكرامتها، وتحرسون مقدساتها، وكنتم طليعة متقدمة للأمة، فنلتم شرف الرباط في سبيل الله الذي يقول عنه نبيكم رسول الله : ((رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها)).
واتخذ الله منكم شهداء، ففازوا بأوسمة الشهادة، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [آل عمران:170].
فالشهداء في الأمة هم تاج شرفها، ومفخرة مفاخرها، وجوهرة هامتها العالية.
وكم من شهيد يتمنى الرجوع إلى الدنيا ليذوق ثانية حلاوة الشهادة، يقول النبي : ((ما من أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع للدنيا فيقتل عشرات مرات لما يرى من فضل الشهادة)).
وهذا رسول الله يعبر عما في نفسه الشريفة من حب عميق للشهادة حمله على التمني أن يرزق بها مرات متعددة, فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((والذي نفسي بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل, ثم أغزو فأقتل, ثم أغزو فأقتل)) , وإنها لأمنية يا لها من أمنية، كيف انبعثت من هذا القلب الطهور معبرة أبلغ التعبير عن هذا الحب العميق والشوق الغامر إلى هذا الباب العظيم من أبواب جنات النعيم.
قال الله تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ أَمْو?تًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِ?لَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ?للَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ?لْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171].
آيات من كتاب الله نزلت في شهداء أحد، حيث جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر، ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق؛ لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب؟ فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات.
هؤلاء الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله قد أمنوا من عظيم الأهوال والكربات، وسكنوا بأجل المحالّ في أعلى الغرفات، وشربوا من النعيم أكوابا، وادرعُوا من التنعيم أثوابا، ومتعوا بجنان الفردوس مستقرا ومآبا، وتمتعوا بحور عين كواعب وأترابا.
أرواحهم في جوف طير خضر تجول في الجنان، تأكل وتشرب وتأوي إلى قناديل معلقة في عرش الرحمن، يتمنون الرجوع إلى هذه الدار ليقتلوا في سبيل الله مرات ومرات لما بهرهم من ثواب الله الجزيل.
قال النبي : ((إن للشهيد عند ربه سبع خصال: أن يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلّى حلية الإيمان، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج ثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه)).
ومنها أن كل الناس يموتون فتنقطع أعمالهم إلا من ثلاثة: من ولده الصالح يدعو له، والولد الصالح مصيره الموت، ومن ترك علما ينتفع به، والعلم قد يأتي عليه زمان يندثر، ومن ترك صدقة جارية، وهذه كذلك قد يأتي طاغوت يعطل جريانها، ثم ماذا بقي بعد ذلك؟! بقي ما للشهيد، يُنمّى له في عمله، ليس منقطعا أثره إلى قيام الساعة، فالعمل جَارٍ، الصلاة تكتب والزكاة والصيام وغيرها من الصالحات، كل ذلك وهو في قبره في عالم الشهداء. هل هناك فضل أعظم من هذا؟!
إن الشهيد لمّا بذل حياته لله أعطاه الله سبحانه حياة أكمل منها عنده في محلّ قربه وكرامته، ولكن أي حياة؟! غير الشهيد يحيا مع من؟! والشهيد يحيا عند من؟! فارق أهل الدنيا الذين يموتون، فمنّ الله عليه بالحياة عند الحي الذي لا يموت.
مُزِّقَت أجسادهم في دار الدنيا لله عز وجل، فمنّ الله عليهم بحواصل طير خضر، حبست أقدامهم عن السعي، فمنّ الله عليهم بأن يسرحوا في الجنة حيث شاؤوا.
فانظر وتأمل ـ أخي المسلم ـ لمّا ترك المجاهد الفراش والأزواج، جاد عليه الملك الوهاب بكثرة الأزواج من الحور العين، والجزاء عند الله من جنس العمل.
فاز بوصالِ مَن خلقتَ من النور، والله لا يجف دم الشهيد حتى تلقاه، وتستمتع برؤية نورها عيناه، حوراء عيناء، جميلة حسناء، بكر عذراء، كأنها الياقوت والمرجان، لم يطمثها إنس قبله ولا جان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ مِنَ ?للَّهِ فَ?سْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ?لَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة:111].
عباد الله، لقد عرف الصحابة جنة ربهم, فتوطدت في نفوسهم أعمق معاني الشهادة, وترسخت في قلوبهم أسمى درجات الحب لها والولع بها، والعمل الدؤوب لبلوغ مقامها والتنعم برياضها.
قال رسول الله في غزوة بدر: ((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض)) , فقال عمير بن الحمام: يا رسول الله، إلى جنة عرضها السموات والأرض؟! قال: ((نعم)) , قال: بخ بخ, قال الرسول : ((ما يحملك على قول: بخ بخ؟)) قال: لا والله يا رسول الله، إلا رجاء أن أكون من أهلها, فقال: ((فإنك من أهلها)) , فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن, ثم قال: إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة, فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتل حتى قتل.
فانظروا ـ رحمكم الله ـ كيف استبطأ رضي الله عنه الشهادة لتأخرها عنه دقائق معدودات.
ولقد كانت كلمات بعضهم عند الشهادة صرخات مدوّية زلزلت قلوب قاتليهم, وحملتهم على الدخول في دين الله, فهذا حرام بن ملحان رضي الله عنه يصيح عند الاستشهاد في وجه قاتله: (فزتُ ورب الكعبة), فكانت تلك العبارة سببًا في إسلام هذا القاتل. وهذا سيف الله المسلول خالد بن الوليد الذي عرف معنى الاستشهاد في سبيل الله يقول عند احتضاره وهو يبكي بكاء شديدا: (خضت أكثر من مائة معركة، وما في جسمي موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا قرت أعين الجبناء).
ثم استمعوا ـ رعاكم الله ـ إلى خبر هذا الأعرابي المسلم، كيف صدق الله في طلب الشهادة فصدقه الله وبلغه ما أراد:
جاء أعرابي إلى النبي بعد أن قَسَمَ له النبي من الغنائم ما قسم، فقال الأعرابي: ما هذا؟ قال النبي : ((قسمته لك)) , قال الأعرابي: ما على هذا اتبعتك, ولكن اتبعتك على أن أرمى ها هنا بسهم فأموت فأدخل الجنة, فقال النبي : ((إن تصدق الله يصدقك)) , فلبثوا قليلا ثم نهضوا إلى قتال العدو فأتي به إلى النبي وقد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي : ((أهو هو؟)) ، قالوا: نعم, قال: ((صدق الله فصدقه)) , ثم كفنه النبي في جبته, ثم قدمه فصلى عليه، وكان مما قال في صلاته: ((اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا, أنا شهيد على ذلك)).
فأي شهادة ـ يا عباد الله ـ أرفع وأسمى وأصدق وأخلص من هذه الشهادة الكريمة العظيمة, وكم في حياة السلف الصالح من صور هذا الحب العاطر والشوق الظامئ إلى الظفر بمقام الشهادة، يا له من مقام.
وهكذا مضت على بذل الشهادة كواكب متتابعة وقوافل متعاقبة من الشهداء الأبرار، الذين بدمائهم الزكية سطروا أروع صحائف التضحية والبذل، وأرفع أمثلة العطاء والجود, إنه الجود بالنفس, وهو أقصى غاية الجود.
فها هم شهداء المسلمين في الشيشان, وفي أفغانستان, ومن قبل في البوسنة والهرسك، وفي غيرها من ديار الإسلام.
وها نحن اليوم نرى بأم أعيننا, نرى ويرى العالم كله معنا هذه الصور العظيمة المتجددة من صور الشهادة على أرض بيت المقدس, أرض الإسراء والمعراج، أرض الجهاد والرباط.
إن الإنسان الفلسطيني الذي يتوق للحرية ويرفض القهر والظلم والاحتلال يسعى ليموت شهيدا محفوظة كرامته، رافعا هامته، تشده عزة الإيمان ليطاول الجبال، ويدفعه عبق الشهادة نحو الجنان، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
عباد الله، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة رسوله، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي جعل الشهادة بابا من أعظم أبواب الجنة, أحمده سبحانه حث الأمة على المضي في درب الشهادة في سبيله, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله, خير من ضرب الأمثال في حب الشهادة, وفي بذل التضحيات العظام, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمة الأبرار الأعلام وسلم تسليما كثيرا.
وبعد: فإن للشهيد كرامات، ومن كراماته أنه يخفف عنه ألم الموت حتى إنه لا يجد من ألمه إلا كما يجد أحدنا من مس القرصة, قال رسول الله : ((ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة)).
ومنها أن دار الشهداء في الجنة أحسن الدور وأفضلها, قال رسول الله : ((رأيت الليلة رجلين أتياني، فصعدا بي الشجرة، فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل، لم أر قط أحسن منها، قالا لي: أما هذه فدار الشهداء)).
ومن ألوان الكرامة أيضا أن الملائكة تظله بأجنحتها، ويأتي يوم القيامة بجرحه والدم ينزف منه، قال رسول الله : ((والذي نفسي بيده، لا يكلم أحد في سبيل الله ـ والله أعلم بمن يكلم في سبيله ـ إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك)).
وهم الذين قال عنهم الله عز وجل في قوله: وَنُفِخَ فِي ?لصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَن فِي ?لأرْضِ إِلاَّ مَن شَاء ?للَّهُ [الزمر:68]، فهم الذين شاء الله أن لا يصعقوا يوم النفخ في الصور؛ حيث يبعثهم الله متقلدين أسيافهم حول عرشه.
أيها المسلمون، لعل أحدنا لا يدرك ما معنى أن يتزوج الشهيد بثنتين وسبعين من الحور العين، ولا يدرك جمالهنّ، إنهن الكواعب الأتراب. فالحوراء ـ يا إخوة ـ تجري الشمس من محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت، يرى وجهه في خدها، ويرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم والحلل، لو اطلعت على الدنيا لملأت ما بين الأرض والسماء ريحا، ولطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم، ولنَصِيفُها على رأسها خير من الدنيا وما فيها.
فما ظنك بامرأة إذا ضحكت في وجه زوجها أضاءت الجنة من ضحكها، وإذا انتقلت من قصر إلى قصر قلت: هذه الشمس متنقلة في بروج فلكها، وإذا غنّت فيا لذة الأبصار والأسماع، ينادين بأصوات غنجة لذيذة: نحن الخالدات فلا نموت أبدا، ونحن الغانجات فلا نبأس أبدا، ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا، ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا، ونحن الحور الحسان، أزواج أقوام كرام، ونحن الأبكار السوام، للعباد المؤمنين، طوبى لمن كان لنا وكنا له. فكلما نظرت إليها ازدادت في عينيك حسنا، وكلما جالستها زادت إلى ذلك الحسن حسنا.
أفيجمل بعاقل ـ أيها الناس ـ أن يسمع بهذه ويقعد عن وصالها؟! كيف وله في الجنة من الحور العين أمثال أمثالها؟!
إنها الجنة التي غرس غراسها الرحمن بيده، قال النبي : ((يا رب، أخبرني بأعلاهم منزلة، قال: أولئك الذين أردت، وسوف أخبرك، غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر)). نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها.
(1/3090)
وفاة النبي
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
زهير بن حسن حميدات
الخليل
عبد الرحمن بن عوف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الهجرة النبوية. 2- خطبة الرسول بمنى في الحج. 3- قصة مرضه وموته. 4- جرائم اليهود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، في شهر ربيع الأول اجتمعت ثلاثة أحداث، وهي مولد النبي ، وهجرته إلى المدينة، ووفاته.
ولا ريب أن كلا منها كان حدثا مهما في حياة المسلمين، لكن بعض المسلمين وللأسف يجعلون حدث المولد أهم الأحداث الثلاثة، بل ويعتبره بعضهم أهم أحداث السيرة النبوية قاطبة.
والحق أن ميلاد النبي حدث مبارك، حيث أشرق النبي على الأرض بمولده، ولكن هذا الحدث ليس له تميز عن سائر ولادات الناس لو لم يبعث ويرسل عليه الصلاة والسلام.
والحدث الأهم من ولادته هو هجرته التي أوجدت لنا المجتمع المسلم والدولة المسلمة التي استمرت قرونا طويلة، وقدمت للإنسانية حضارة فريدة على مر الزمن، ولأهمية هذا الحدث أرخ به عمر بن الخطاب رضي الله عنه والمسلمون بعده التاريخ الإسلامي.
والحدث المهم في سيرة النبي هي وفاته؛ لأن وفاته ليست كوفاة سائر الناس، ولا كسائر الأنبياء، فبموته انقطعت النبوات، وانقطع خبر السماء ووحي الله عن الأرض.
أيها المسلمون، يا أحباب محمد، في اليوم الثامن من ذي الحجة نزل الحبيب المصطفى بمنى فخطب في مائة وأربعة وأربعين ألفا من المسلمين، في حجة الوداع، قال فيها: ((أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا، إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله. أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم، وحجون بيت ربكم، وأطيعوا ولاة أمركم، تدخلوا جنة ربكم، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون)) ، قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال عليه الصلاة والسلام وهو يشير بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد)).
ولما فرغ من خطبته نزل عليه قول الله تعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]. وعندما سمعها عمر رضي الله عنه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان.
ثم خرج ليلة مع غلامه أبي مويهبة إلى البقيع فاستغفر لهم، وقال: ((يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، وخيِّرت بين ذلك وبين لقاء ربي عز وجل والجنة)) ، فقال أبو مويهبة: بأبي وأمي فخذ مفاتيح الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، قال: (( لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي عز وجل والجنة)).
وفي يوم الاثنين آخر أيام شهر صفر شهد عليه الصلاة والسلام جنازة في البقيع، فلما رجع وهو في الطريق أخذه صداع في رأسه واشتدت حرارته، فدخل على عائشة رضي الله عنها فقالت: وارأساه! فقال النبي: ((بل أنا وارأساه، وما ضرّك لو مِتِّ قبلي فغسلتُكِ وكفنتُكِ وصليتُ عليكِ ودفنتُكِ)) ، فقالت: لكأني بك ـ والله ـ لو فعلت ذلك لرجعت إلى بيتي فعرسّت فيه ببعض نسائك، فتبسم رسول الله.
وفي يوم الأربعاء ارتفعت حرارة العلة في بدنه، فاشتد به الوجع، ثم أحس بخفة فدخل المسجد وهو معصوب الرأس، حتى جلس على المنبر فخطب الناس فقال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) ، وقال: ((لا تتخذوا قبري وثنا يعبد)) ، ثم قال: ((من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه)). ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، ثم قال: ((إن عبدًا خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده)) ، فبكى أبو بكر رضي الله عنه، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا.
وفي يوم الخميس أوصى عليه الصلاة والسلام بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأوصى بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم.
ومع ما كان عليه من شدة المرض إلا أنه كان يصلي بالناس جميع الصلوات، فصلى بالناس صلاة المغرب من يوم الخميس، وعند العشاء زاد ثقل المرض، فلم يستطع الخروج إلى المسجد.
تقول عائشة رضي الله عنها: فقال النبي : ((أصلّى الناس؟)) ، قلنا: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك، فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: ((أصلى الناس؟)) ، قلنا: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك، فاغتسل فخرج لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: ((أصلى الناس؟)) ، قلنا: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك، فاغتسل فخرج لينوء فأغمي عليه، فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلى أبو بكر تلك الأيام.
وفي يوم الأحد أعتق عليه الصلاة والسلام غلمانه، وتصدّق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، وكانت درعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من الشعير.
وفي يوم الاثنين بينما المسلمون في صلاة الفجر وأبو بكر يصلي بهم، فإذا برسول الله يكشف ستر حجرة عائشة فينظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم وضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله يريد أن يخرج إلى الصلاة، وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله ، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.
إنها النظرة الأخيرة، نظرة الوداع وهو يبتسم ويضحك رضًا وسرورًا بثبات أصحابه على الحق، إنها البسمة الأخيرة التي لن يراها صحبه وأحباؤه بعدها في الدنيا.
إنها طلة الفراق، فلن ينعموا برؤية هذا الوجه الكريم في الدنيا بعد اليوم أبدًا، نظرة وداع يلقيها رسول الله على أصحابه، نظرة من سيد الخلق أجمعين، وحبيب رب العالمين، نظرة مودع لم يبق من عمره إلا ساعات قليلة، فيودع هذه الدنيا التي ذاق فيها من العذاب ما لم يذقه أحد، وصبر على ذلك.
عباد الله، يا أهل الجهاد والرباط، لقد كان سبب مرض النبي مؤامرة اليهودية حين دست له السُمّ في طعامه الذي دعته إليه، فأكل رسول الله منها، وأكل القوم فقال: ((ارفعوا أيديكم؛ فإنها أخبرتني أنها مسمومة)) ، ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصى بهما خيرا، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن، وطفق الوجع يشتد عليه ويزيد، وهو يقول لعائشة: ((يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم)). والأبهر: عرق في الظهر متصل بالقلب، فإذا انقطع لم تبق معه حياة.
ثم أوصى الناس فقال: ((الصلاة، الصلاة، وما ملكت أيمانكم)) ، كرر ذلك مرارا.
قال عبد الله بن مسعود: لما دنا الفراق جمعنا في بيت أمنا عائشة رضي الله عنها، فنظر إلينا، فدمعت عيناه.
وبدأ الاحتضار، فأسندته عائشة إليها، وكانت تقول: إن من نِعَم الله عليّ أن رسول الله توفي في بيتي وفي يومي، وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته؛ دخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله ، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك، فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فاشتدّ عليه وقلت: أليِّنه لك، فأشار برأسه أن نعم، فليّنته فاستنّ به كأحسن ما كان مستنا، وبين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)). وما إن فرغ من السواك حتى رفع يده أو إصبعه وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول: ((مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى)) ، كررها ثلاثا، ثم مالت يده ولحق بالرفيق الأعلى.
إنا لله وإنا إليه راجعون. مات الشفيق الرحيم بأمته، مات شمس الحياة وبدرها، مات الداعية الناصح، مات صاحب القلب الكبير الذي وسع المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والصغير والكبير.
مات من كان للأيتام أبا وللأرامل عونًا وسندًا، مات مَهرَب الفقراء والمساكين وملاذ المعوزين المحتاجين، مات الإمام المجاهد، مات نبي الأمة وقدوة الخلق، مات خير البشر وأحب الخلق إلى الله، مات الذي نعمت برؤياه الأبصار وتشنفت بسماع جميل حديثه الأسماع والآذان.
إنها المصيبة العظيمة، وكل مصيبة دون مصيبتنا بموته تهون، فبموته عليه الصلاة والسلام انقطع الوحي من السماء إلى يوم القيامة، وبموته انقطعت النبوات، وبموته ظهر الفساد في البر والبحر، وتذكُّر ذلك تسلية وعزاء للمصائب يقول : ((يا أيها الناس، أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي)).
نعم أيها الناس، إن تذكُّر النبي وما حل بنا بفقده هو أعظم مصيبة.
فاصبر لكل مصيبة وتجلّد لها واعلم بأن المرء غير مخلّد
فإذا ذكرت مصيبة ومصابها فاذكر مصابك بالنبي محمد
عباد الله، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة رسوله، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله إلى جميع الثقلين بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: أيها المسلمون، وبلغ أبا بكر الصديق الخبر، فأقبل مسرِعا حتى دخل بيت عائشة رضي الله عنها، ورسول الله مسجّى، فكشف أبو بكر عن وجه رسول الله وأكبّ عليه، وقبّل وجهه مرارا وهو يبكي، ويقول: وانبياه، وخليلاه، واصفياه، بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متَّها.
إنا لله وإنا إليه راجعون، مات ـ والله ـ رسول الله.
فلو أن ربَّ العرش أبقاك بيننا سعدنا ولكن أمرُه كان ماضيًا
لبيك رسول الله من كان باكيا فلا تنس قبرا بالمدينة ثاويًا
جزى الله عنا كلَّ خير محمَدا فقد كان مهديا وقد كان هاديا
وكان رسول الله روحا ورحمة ونورا وبرهانا من الله باديا
وكان رسول الله بالقسط قائما وكان لما استرعاه مولاه راعيا
وكان رسول الله يدعو إلى الهدى فلبى رسول الله لبيه داعيا
ثم خرج وعمر يكلّم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، من كان منكم يعبد محمدًا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وتلا قول الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ?لرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ?نقَلَبْتُمْ عَلَى? أَعْقَـ?بِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى? عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ?للَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِى ?للَّهُ ?لشَّـ?كِرِينَ [آل عمران:144].
قال ابن عباس رضي الله عنه: والله، لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها، فيهوي إلى الأرض.
وانتشر خبر وفاة رسول الله فضجت المدينة كلها بالبكاء.
وهكذا ـ أيها الأحبة ـ طويت أعظم صفحة في تاريخ البشرية جمعاء، مات القدوة الناصح وخير البشر، مات أفضل الأنبياء، لتبقى حياته نبراسا لأبناء الأمة من بعده، تنير لهم طريق السير إلى الله، عبادته وأخلاقه، توحيده وجهاده، تعامله وزهده، أخذه وعطاؤه، بيعه وشراؤه.
وما مات رسول الهدى حتى بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
أمة الإسلام، يا أمة محمد، إن حبيبكم ونبيكم محمّدا مات شهيدا قتيلا مسموما، قتلته وسمته تلك الأمة المغضوب عليها، إنهم اليهود، أهل الكذب والبهت وأهل الغدر والمكر، قتلة الأنبياء وأكلة السحت، أخبث الأمم طوية وأرداهم سجية، وأبعدهم من الرحمة وأقربهم من النقمة، عادتهم البغضاء، وطبيعتهم العداوة والشحناء، بيت السحر والكذب والحيل، لا يرعَون لنبي حرمة، ولا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة.
(1/3091)
أخوة الدين وفساد الجماعات المفرّقة
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الوحدة الإسلامية. 2- حال العرب قبل الإسلام. 3- التفريق سلاح استخدمه أعداء الدين ضد المسلمين. 4- أخطاء يقع فيها كثير ممن ينتسب إلى الصلاح والعلم. 5- ذم الاختلاف. 6- موقف بعض الصحابة من الاختلاف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، يقول الحق سبحانه: إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92]، ويقول الحق سبحانه: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
إن من مقاصد هذه الآيات ـ أيها المؤمنون ـ أن تكون أمة لا الله إلا الله كمثل الجسد الواحد، أمة أصولها المحبة والأخوة والترابط والاعتصام.
إن من عظمة هذا الدين أن جمع بين الأعداء كما هو الحال في أول الإسلام؛ حيث كانت القبائل آنذاك تتقاتل وتقوم بينها الحروب والملاحم على أتفه الأسباب، فجاء الإسلام بأخوة الدين، وجعل الفرقة والدعوة للتحزب من الجاهلية.
وقال للذي عيّر رجلاً بأمه: (( إنك امرؤ فيك جاهلية)).
وقال تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ مِنَ ?لَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31-32].
وإن أصغر طالب في الابتدائي يعلم نظرية الأعداء: "فرق تسد"، وعدو الإسلام اليوم ـ أيها المؤمنون ـ ينخر جسد الأمة بشتى وسائل الكيد والمكر، ويجنّد شباب الأمة تحت كل دعوة ضالة بدون ما يشعرون؛ حيث يعمل بعض بني جلدتنا ممن يتكلمون بكلامنا ويعتقدون عقيدتنا، وقد انحرف بهم التيار، فصار مثلهم، كمثل الضفدعة، يقذفها السيل للهاوية وهي تزغد.
لقد نبتت في أبناء الأمة دعوات فاسدة، تزرع في الشباب الحقد والضغينة وكره المسلمين، وأصبح التنابز بالألقاب والمسميات والطعن في الناس، بل الطعن في دعاة الإسلام وأولياء الأمة أصبح رمزًا للتدين واتباع السلف، ونعوذ بالله من الكذب على صالحي سلف الأمة الذين فهموا الخلاف وأدب الخلاف، وما سمعنا ولا قرأنا في تاريخ أمتنا المجيدة عالمًا يفسّق غيره، أو يدعو لتفريق كلمة الأمة، بمسميات هي في الحقيقة كعنقاء مغرب، فترى الشاب الطريّ الغصن الفارغ من علم الشرع الفاشل في حرفة أو صناعة أو وظيفة يقعد ويُأصِّل ويصنّف ويجرّح ويعدّل، ويقول في العمالقة من جهابذة الدنيا والإسلام قولاً عظيمًا وإفكًا مبينًا، ولعلك تلتمس عذرًا لهذا الجاهل المغرور، لكن الداهية الدهياء ممن ينتسبون للعلم والدعوة للإسلام زورًا وكذبًا، ينشرون الأشرطة والرسائل والكتب باسم الإسلام والدين والسلفية، يسلخون علماء الأمة وعبادها وأوليائها، يسلخونهم من كل وصف حسن مليح، على مسمياتهم الكاسدة الفاسدة.
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالناس أعداء له وخصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسدًا وزورًا: إنه لدميم
أيها المؤمنون، اختلفت اليهود والنصارى قبل أن يبعث محمد فتفرقوا، فلما بعث محمد أنزل عليه: إِنَّ ?لَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيء [الأنعام:159].
قالت أم سلمة: ليتقينّ امرؤ أن لا يكون من رسول الله في شيء، ثم قرأت هذه الآية: إِنَّ ?لَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيء [الأنعام:159]. ألا إن الله ورسوله بريئان من الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعًا.
وقال تعالى: وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء يقتل بعضكم بعضًا، ويأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام، فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، فألف به بينكم، وجمع جمعكم عليه، وجعلكم عليه إخوانًا.
إِذْ كُنتُم أَعْدَاء ، كانت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين ومائة سنة حتى قام الإسلام، فأطفأ الله ذلك، وألف بينهم.
قال قتادة: وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا إذ كنتم تذابحون فيها، يأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام، فآخى به بينكم، وألف به بينكم.
أما ـ والله الذي لا إله إلا هو ـ إن الألفة لرحمة، وإن الفرقة لعذاب.
قال رسول الله : ((يا معشر الأنصار، بم تمنون عليَّ؟ أليس جئتكم ضلالاً فهداكم الله بي، جئتكم أعداء فألف الله بين قلوبكم بي؟!)) ، قالوا: بلى يا رسول الله.
وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ [آل عمران:103]، وكنتم على طرف النار، من مات منكم وقع في النار، فبعث الله محمد ، فاستنقذكم به من تلك الحفرة.
وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَ?خْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ?لْبَيّنَـ?تُ [آل عمران:105]، نهى الله أهل الإسلام أن يتفرقوا ويختلفوا كما تفرق واختلف أهل الكتاب.
وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَ?خْتَلَفُواْ ، أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنما هلك من كان قبلكم بالخصومات في دين الله.
وقال تعالى: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي: معجبون برأيهم، فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [المؤمنون:53، 54] أي: في ضلالتهم إلى الموت.
فكيف يطيب لمسلم يؤمن بأخوة الدين أن يفرق بين أبناء الأمة، بمجرد آراء وفتاوى هي من باب الرأي والرأي الآخر؟!
إن الله سبحانه ذم الاختلاف في كتابه، ونهى عن التفرق والتنازع، فقال: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، وقال: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159]، وقال: وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، وقال: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون:53]، والزبر: الكتب، أي: فرقة صنفوا كتبًا أخذوا بها وعملوا بها ودعوا إليها دون كتب الآخرين كما هو الواقع عند بعض الجماعات وللأسف.
وقال: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، قال ابن عباس: (تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف).
وقال النبي : ((لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)) ، وقال: ((اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا)).
ولقد كان التنازع والاختلاف أشد شيء على رسول الله ، وكان إذا رأى من الصحابة اختلافًا يسيرًا في فهم النصوص يظهر في وجهه حتى كأنما فُقِئ فيه حب الرمان ويقول: ((أبهذا أمرتم)).
إن الاختلاف مهلكة، والمقصود أن الاختلاف مناف لما بعث الله به رسوله.
قال عمر رضي الله عنه: (لا تختلفوا؛ فإنكم إن اختلفتم كان من بعدكم أشد اختلافا).
ولما سمع رضي الله عنه أبيّ بن كعب وابن مسعود يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد أو الثوبين صعد المنبر، وقال: (رجلان من أصحاب النبي اختلفا، فعن أيّ فتياكم يصدر المسلمون؟ ما أسمع اثنين اختلفا بعد مقامي هذا إلا صنعت وصنعت).
وقال علي رضي الله عنه في خلافته للقضاة: (اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الخلاف، وأرجو أن أموت كما مات أصحابي).
وقد أخبر النبي أن هلاك الأمم من قبلنا إنما كان باختلافهم على أنبيائهم.
وقال أبو الدرداء وأنس وواثلة بن الأسقع: خرج علينا رسول الله ونحن نتنازع في شيء من الدين، فغضب غضبًا شديدًا لم يغضب مثله، قال: ثم انتهرنا، قال: ((يا أمة محمد، لا تهيجوا على أنفسكم وهج النار)) ، ثم قال: ((أبهذا أمرتم؟! أوليس عن هذا نهيتم؟! إنما هلك من كان قبلكم بهذا)) ، وعنه قال: ((سِباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)).
_________
الخطبة الثانية
_________
قال : ((إذا قال الرجل لأخيه يا كفر، وجب الكفر على أحدهما)) ، لا يرمي رجل رجلاً بالفسق أو الكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك، ما شهد رجل على رجل بالكفر إلا باء بها أحدهما إن كان كافرًا فهو كما قال، وإن لم يكن كافرًا فقد كفر بتكفيره إياه.
قال حذيفة بن اليمان: قال رسول الله : ((إن مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رئيت عليه بهجته وكان رداء الإسلام أعثره إلى ما شاء الله، وانسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وخرج على جاره بالسيف، ورماه بالشرك)) ، قال: قلت: يا رسول الله، أيهما أولى بالشرك المرمي أو الرامي؟ قال: (( لا، بل الرامي)).
فهل من العقل أو الدين ـ يا أمة الإسلام ـ أن يكفر المسلمون بعضهم بعضًا، أو تهدر الأوقات وتقام العداوات في مسائل الفروع، ويصنف الناس بأهواء وآراء مستوردة من دعاة التفريق والتجريح والطعن والسباب، ممن لو تتبعت جذورهم لوجدتهم موجهين بدون شعور إذ لا شعور عندهم.
والدليل على أن القوم في سباتهم يعمهون أنهم يؤلّفون الرسائل ويوزّعون الأشرطة في الطعن والسباب وسوء الظن والتحريش بين المسلمين، ويتفرجون فقط على أعمال اليهود والصليبيين ومكائدهم للإسلام، ولا يغيرون المنكر، بل إنهم يرون خطر اليهود أقل خطرًا من خطر إخوانهم الذين نبذوهم بالألقاب والبهتان.
(1/3092)
السفر
موضوعات عامة
السياحة والسفر
فهد بن عبد الله الصالح
المجمعة
القادسية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإجازة والسفر. 2- أنواع السفر في الإسلام. 3- وقفات مع المسافرين. 4- توجيهات عامة للمسافرين. 5- أخطاء يقع فيها كثير من المسافرين.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، ونحن على أبواب الإجازة الصيفية يناسب الحديث عن السفر والسياحة، إذ إن البعض من المسلمين اعتاد أن يسافر في هذه الإجازة، وبعضٌ أخطأ في وجهته أثناء سفره, وبعضٌ سأل: إلى أين يسافر هذه الأيام؟ ولا عجب في ذلك.
فالسياحة في الأرض أمرٌ محبب للنفوس؛ لأن النفس تَمل المكث والبقاء في مكان واحد، وقد نُقل عن الزاهد الورع بشرٍ الحافي رحمه الله أنه قال: "يا معشر القراء، سيحوا تطيبوا، فإن الماء إذا ساح طاب، وإذا طال مقامه في موضع تغير".
والسفر ـ أيها الإخوة ـ له مقاصد في الإسلام كثيرة ومشروعة، فأعلى أنواع السفر هو ما كان للجهاد في سبيل الله ونصرة الدين والدعوة إلى الله وإغاثة المسلمين وتفقد أحوالهم، وفي الحديث: ((سياحة أمتي الجهاد)).
ولقد أمر الله بالخروج والنفرة من أجل الغزو والجهاد، قال الله تعالى: ?نْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَـ?هِدُواْ بِأَمْو?لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ ذ?لِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة:41]، وقال: لَـ?كِنِ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ جَـ?هَدُواْ بِأَمْو?لِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [التوبة:88].
والسفر يكون للحج والعمرة سواءً حج الفريضة أو النافلة, ويكون لطلب العلم رفعًا للجهل عن النفس ونفعًا للأمة، يقول : ((من سلك طريقًا يلتمس به علمًا سهل الله لديه طريقًا إلى الجنة)) رواه مسلم.
والسفر يكون لطلب الرزق لتعذر حصوله في بلده, ويكون السفر بقصد التجارة وجلب السلع وتصديرها.
ومن السفر ما يكون للبقاع الكريمة الثلاثة لقوله : ((لا تشد الرحال إلاَ إلى ثلاث مساجد، مسجدي هذا ـ يعنى المسجد النبوي ـ والمسجد الحرام والمسجد الأقصى)).
ومن السفر المشروع ـ أيها الإخوة ـ السفر لصلة الرحم وزيارة الأقارب والإخوان في الله تعالى، جاء في الحديث الصحيح عنه أنه قال: ((زار رجل أخًا له في قرية، فأرصد الله على مدرجته ملكًا، فقال: أين تريد؟ قال: أريد أخي في هذه القرية، قال: هل لك من نعمةٍ تربُّها عليه؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)) رواه مسلم.
هذه معظم أنواع السفر المشروعة في دين الإسلام.
ويبقى سفر مباح وسفر محرم، وتبقى النية هي التي تحكم على العمل، فهذا العلامة أبو بكر ابن العربي رحمه الله يبين أهمية النية في السفر، بعد أن عدد أنواع السفر، يقول رحمه الله: "فالنية تقلب الواجب من هذا حراما، والحرام حلالا، بحسب حسن القصد وإخلاص السر عن الشوائب".
أيها المسلمون، هنالك وقفاتٌ سريعة مع موضوع السفر بعد أن عرفنا شيئًا عن أنواعه.
فالسفر في الإجازة ليس أمرًا واجبًا، والذين لا يسافرون ليسوا على خطأ؛ إذ الأصل هو الإقامة والاستقرار، ولكن يبقى السفر إمَّا واجبًا أو مباحًا أو حرامًا كما تقدم.
وإذا كان بعض الآباء يسافرون بعائلاتهم سفرًا نزيهًا للفرجة وتغيير الجو عليهم ومكافأةِ الناجحين على اجتهادهم، إلاَ أنه لا يحق للزوجة ولا للأولاد مضايقة الأب أو إحراجه إذا كان لا يستطيع السفر بهم، إمَّا لقلة ذات اليد أو لعدم التفرغ أو غيرها من الشواغل والموانع. ومن التجاوزات الخاطئة أن يحمّل الإنسان نفسه ديونًا من أجل السفر.
ووقفة أخرى ـ أيها الإخوة ـ مع السفر وأماكن السفر، فمعلوم أن بلاد الكفر كأوربا وأمريكا هي بلاد ليست إسلامية، فلا يسمع فيه الأذان للصلاة، ولا تكاد ترى مسجدًا إلاَ نادرا، ومظاهر الكفر والفسق والفجور فيها منتشرة, وقريبًا من هذا الوضع المتردي أخلاقيًا بعضُ الدول العربية والإسلامية التي دمرها الاستعمار أثناء وجوده، ونشر فيها المراقص والزنا وأماكن الخمر والاختلاط, فالذهاب إلى هذه البلاد خطرٌ على الإنسان وعلى أخلاقه وسلوكه، إلاَّ لمن ذهب لمصلحةٍ راجحة وغلب على ظنه أنه لن يقع في هذه المستنقعات، ولن يتأثر بتلك المظاهر والمفاتن.
أيها المسلمون، الأولى بالإنسان إذا أراد السفر أن يختار المكان اللائق به، فالسياحة داخل المملكة أصبحت ولله الحمد متيسرة إلى درجة كبيرة, وفي هذه البلاد الحرمان الشريفان، واللذان تضاعف فيهما الصلاة مع أداء العمرة في مكة, وفي هذه البلاد أماكن طيبة الهواء، وأماكن تطل على البحار، ووسائل التنقل متيسرة والطرق معظمها سريع.
ووقفة ثالثة ـ أيها الأحبة ـ مع السفر وهو وجوب البعد عن أماكن الشر، سواءً كان في أسواق فيها نساء أو حفلات غنائية، أو مهرجانات فيها صخب واختلاط، أو أي أمر ٍ محرم في الشرع.
فلا يحل للمسلم أن يذهب بنفسه أو يصطحب عائلته إلى أي موقع يغلب على ظنه أن فيه منكرًا، وقد قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: وَإِذَا رَأَيْتَ ?لَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ءايَـ?تِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى? يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ?لشَّيْطَـ?نُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ ?لذِّكْرَى? مَعَ ?لْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنعام:68].
أمَا الوقفة الرابعة فهي ضبط الأهل والأولاد وذلك أثناء السفر.
فينبغي مراعاة تصرف الأولاد والبنات، فلا يذهبوا إلى أي مكان شاؤوا دون إذن ورقابة، ولا تتساهل المرأة في أمر الحجاب في الأسواق والطرقات بحجة أنها لا تُعرف، فالحجاب شريعة يُتعبد الله بها في كل مكان، وهو ستر لها عن أعين جميع الرجال، وكذا مراقبة الأولاد في مشاهدة القنوات الفضائية التي توجد في بعض الشقق المفروشة.
وأمَا من اضطر إلى السفر خارج هذه البلاد إلى بلاد فيها تبرج واختلاط وخمر ومخدرات، فعليه أن يراقب ربه وأن يغض بصره، وأن يبحث عن سكن ليس فيه منكرات، وأن يبتعد عن جميع الأماكن التي يغلب على ظنه أن فيها شيئًا من ذلك، وإلا أصبح متساهلاً معرضًا نفسه المهالك والوقوع فيما حرم الله.
والمسافرون ـ أيها الإخوة ـ سواءً كان سفرًا قصيرًا أو طويلاً عليهم أن يحسنوا النية في سفرهم، ولا ينسوا دعاء السفر، فهو دعاء عظيم ووردٌ حصين.
وعليهم اختيار الرفيق الصالح وقديمًا قيل: "الرفيق قبل الطريق"، وإنما سمى السفر بهذه الاسم لأنه يسفر عن حقيقة المرء وعن أخلاقه.
وعلى المسافرين أن يتأملوا عجيب صنع الله في المناظر الطبيعية، في الأنهار والبحار، وأن يتأملوا كثيرًا في واقع بعض الدول إمَّا لفقر أهلها مع وجود الخيرات والأنهار والبحار فيها، وإمَّا لاضطراب الحياة الاجتماعية والأخلاقية، وإمَّا لخراب ديارهم كبقايا الأمم السالفة، وكل ذلك بسبب التكذيب والبعد عن التمسك الدين. يقول الله تعالى في ذلك: أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي ?لأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَءاثَارًا فِي ?لأرْضِ فَأَخَذَهُمُ ?للَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مّنَ ?للَّهِ مِن وَاقٍ [غافر:21].
وينبغي على مريد السفر أن يتجنب الإسراف في المسكن والمأكل وغيرهما من المصروفات؛ فإن الله أمر بالتوسط في كل شيء.
والمؤمن كالغيث حيثما حَلّ كان الخير والفلاح، فعلى المسلم أن يكون في حِلِه وتِرحاله داعية ً إلى الله بالقدوة الطيبة والموعظة الحسنة وإهداء الشريط والمطوية والكتاب المناسب والمشاركة في أعمال الخير المتنوعة، وكما يكون آمرًا بالمعروف وداعيًا إلى الله يكون ناهيًا عن المنكر إذا صادفه أو رآه.
هذا هو عمل المسلم، هو في عباده وفي طاعة، وفي عمل صالح ما دام في رحلة الحياة يَمتثِل قوله تعالى: وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99].
والمسافر عليه أن يلهث بشكرِ الله على نعمه، فهو سبحانه وتعالى الذي سهل له سفره، ورَزَقه هذا المال وهذه الزوجة وهؤلاء الأولاد، وأعطاه هذه المركبة، ومكنه من قيادتها وسهل له الطرق ووسائل المواصلات من طائرات وسيارات، فالإنسان يقطع الطريق إلى مكة المكرمة في أقل من نهار، ولقد كان الآباء والأجداد يمكثون شهرًا كاملاً مع التعب والنصب.
فهذه النعم ينبغي أن تُشكر لله، ومن شكرها عدم استخدامها في غير طاعة الله تعالى.
ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض المسافرين ـ هداهم الله ـ التساهل في أمر الصلاة، فلا ينتبه عند بحثه عن سكن أن يكون قريبًا من مسجد, فإذا استقر واستأجر وإذا ليس بقربه مسجد فأصبحت الصلاة بعضها يذهب لها بسيارة، وأكثرها يصليها منفردًا في المنزل، وهذا خطأ وتفريط، ومثل السكن والجلوس في بعض المنتزهات.
فعلى المسلم أن يبحث عن جماعة يصلي معهم. وللمسافر دعوة مستجابة فلا يحرم نفسه وأهله والمسلمين منها.
هذه ـ معاشر الأحبة ـ بعض الوقفات السريعة مع أمور تتعلق بالسفر، وهي من فقه السفر، وفي الحديث الصحيح عنه أنه قال: ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)).
جعلنا الله وإياكم من أهل التقى والرشاد، وممن يراقب الله في السر والخفاء، وجنبنا وإياكم المعاصي والمنكرات،ووفقنا لمرضاته، إنه وليّ ذلك.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3093)
العِلْم
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي, قضايا المجتمع
فهد بن عبد الله الصالح
المجمعة
القادسية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الجهل العدو الأكبر للإنسان. 2- فضل العلم. 3- مكانة الأمة الجاهلة بين الأمم. 4- حاجة الأمة الإسلامية للعلماء. 5- من أساليب الدعوة للتنصير. 6- طرق تحصيل العلم. 7- رسالة إلى الشباب وأوليائهم وللمجتمع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة في الله، للإنسان أعداءٌ كثيرون يسعون للقضاء عليه وتهميش دوره في هذا الكون، ويبرز من بين تلكم الأعداء عدوٌ شرس فتك بالأمم وذهب بخيرات بلادها، وجعلها فريسة للأعداء.
هذا العدو اللدود هو الذي جعل الإنسان ينسى خالقه، ويعبد شهوته، هذا العدو اسمه الجهل.
إن الجهل ـ أيها الإخوة ـ ما وصف به شيء إلا شانه، ولا أُضيف إلى شيء إلا أساء إليه, ما غُزيت العقول غزوًا فكريًا ولا تحول العاقل الرشيد إلى بوق يصفق للعدو ويهتف بشعاراته إلا عبر قنوات الجهل والتخلف.
ومن أجل هذه المصائب وغيرها أَمَر الخالق سبحانه عباده بالعلم، وحث على التعلم، وتوالت الرسالات السماوية تدعو إلى العلم وترفع من شأنه: يَرْفَعِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ دَرَجَـ?تٍ [المجادلة:11].
ولم يأمر الله نبيه بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم، وذلك في قوله مخاطبًا إياه: وَقُل رَّبّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114].
وأقسم الله بالتعلم لما له من عظيم الأثر في محو الأمية، ورفع مستوى الثقافة والمعرفة، بسم الله الرحمن الرحيم: ن وَ?لْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم:1].
وقد كرّمَ الله الإنسان على سائر الحيوان بالعلم، وبقدر ما يحمل الإنسان من العلم يكون فضله ومقداره. فالعلم من خصائص الإنسان، فإذا تخلى عنه فقد تخلى عن إنسانيته، ورسول الله كان قدوةَ الداعين إلى التعلم بأقواله وأفعاله، حتى جعل التعلم فريضة ً لازمةً لكل فرد، وذلك بقوله: ((طلب العلم فريضة ٌ على كل مسلم ومسلمة)). وحرر بعض أسرى بدر على أن يعلموا طائفةً من المسلمين القراءة والكتابة. وسار على هذا النهج السلف الصالح رحمهم الله، كانوا يوجهون النشء إلى التعليم لينشؤوا صالحين لأنفسهم ولأمتهم. يقول عبد الملك بن مروان لبنيه: "يا بني، تعلموا العلم، فإن كنتم سادة فُقتُم، وإن كنتم وسطًا سُدتُم، وإن كنتم سوقةً عِشتم".
أيها المسلمون، إن التسابق اليوم بين قوى الأرض هو في مِضمار العلم. والأمة الجاهلة المتخلفة لا مكان لها بين الأمم، بل إنها الأمة الضعيفة المنهزمة دائمًا العالة على غيرها حتى ولو كان عدوها.
ودول الغرب الكافرة ما وصلت إلى ما وصلت إليه من علو شأنها وقوةِ اقتصادها ونفاذ أمرها إلاَ بسلاح العلم, في الوقت ذاته نجد كثيرًا من ديار الإسلام تعيش حالاتٍ من التخلف والمرض؛ بسبب جهل أبنائها، مما جعل الأعداء يجدون مراتع خصبة لإخراجهم عن ديارهم وإدخالهم في النصرانية الكافرة.
تأتى جيوشٌ من المنصّرين من أوربا وأمريكا إلى بلدانٍ إسلامية في أفريقيا وفي شمال شرق وأواسط آسيا لعلاج مرضى المسلمين، وتعليمهم القراءة والكتابة، يعطونهم العلاج وعليه شعار الصليب، ومكتوب عليه هدية من المسيح، ويعلمونهم مبادئ النصرانية وعقائدها المنحرفة، ويشوهون حقائق الإسلام حتى ينفر الناس منه. ويقولون لهم: نحن إخوانكم وأحبابكم، ولو كان الإسلام دينًا صحيحًا لجاء أتباعه المسلمون لنصرة إخوانهم. وما حدث هذا وغيره إلا بسبب الجهل وقلةِ الوعي الديني وقلة الأطباء والمعلمين من المسلمين.
أيها المسلمون، إن الله تعالى لفت أنظار الناس إلى الكون وما فيه ليتعرفوا على أسراره، ويستخرجوا كنوزه فهو مسخرٌ لهم، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِي ?لأَرْضِ جَمِيعًا مّنْهُ [الجاثية:13]. كما أنه أشار إلى تعلم الصناعات وكل ما يتوقف عليه العمران.
فقد خلق الحديد وبيّن أن فيه قوة ً لصد المعتدين ومحاربة الظالمين، وفيه منافع للناس يصنعون منه ما يلائم عصورهم من عجائب المصنوعات ودقيق الآلات، فقال تعالى: وَأَنزْلْنَا ?لْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَـ?فِعُ لِلنَّاسِ [الحديد:25]، ويقول تعالى: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ [الأنفال:60]. وإعداد القوة يقتضي تعلم صناعة الذخائر الحربية والتدريبات العسكرية التي تلائم كل عصر. كل ذلك من أجل حماية الدين وأعراض المسلمين وأموالهم ودمائهم، ومن أجل إقامة شريعة الجهاد.
أيها المؤمنون، درَج عند البعض تحدثًا أو كتابة وصف العلوم الشرعية كعلوم القرآن والحديث والتفسير والفقه والعقيدة علومًا دينية، هذه التسمية غير صحيحة؛ لأنه يفهم منها أن العلوم الأخرى كالطب والهندسة والكيمياء والرياضيات ونحوها علومٌ غير دينية.
والحق الذي عليه الدليل أن جميع العلوم علومٌ دينية؛ لأن الدين شرعها أو أباحها، بل أمر بها وحث على تعلمها؛ لأنها من ضرورات الحياة ولا تستقيم الحياة البشرية إلاَ بها، والمسلم محتاج لها حتمًا، محتاج للطب والصيدلة والهندسة وغيرها، فإن لم يكن من أهلها كان أسيرًا لعدوه، ولقد نهى الله عن ذلك: وَلَن يَجْعَلَ ?للَّهُ لِلْكَـ?فِرِينَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141].
أيها الإخوة في الله، إن العلم والمعرفة والثقافة لا تولَد مع الإنسان، بل لا بد من اكتسابها من طرقها المتنوعة، وفي كل عصر تتجدد وسائل طلب العلم.
فأحسن طرق كسب العلم الشرعي ملازمة العلماء وسؤالهم، ومن لم يتيسر له ذلك فعليه بالكليات الشرعية، وتبقى وسيلة القراءة الفردية وحضور المحاضرات والندوات وسماعها عبر الأشرطة المسجلة تبقى في متناول كل إنسان بحسبه.
أيها المسلمون، لن تنهض أمة الإسلام من جمودها ولن ترقى سلم العز والمجد، ولن تحافظ على أعراضها ودمائها إلاَ باعتمادها على ربها، ثم اعتمادها على شبابها، والجميع مسئول عن ذلك.
فالشباب المسلم عليه الجد والاجتهاد، والبعد عن إضاعة الأوقات منذ دخوله المدرسة حتى يتخرج من الثانوية، بهمةٍ عالية وتحصيل مرتفع، وطموح لا نهاية له لنيل الشهادات العالية، والتخصص في علوم الحياة المتنوعة. وولي أمر الولد عليه متابعة ابنه منذ الصغر، وعدم إشغاله وقت الدراسة، والسؤال عنه وتشجيعه على الدراسة، وإبعاده عن قرناء السوء وكل ما يشغله عن طاعة ربه وعن مستقبله.
والمجتمع المسلم مسؤول عن أبنائه في فتح المدارس والجامعات لهم، واختيار النخبة من المعلمين والمسؤولين, وبتضافر الجهود والهمم تبني الأمة مجدها، وتنتقل من مؤخرة الركب إلى قيادة القافلة، وتكون بحق خير أمةٍ أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم.
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3094)
غزوة بدر
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
المسلمون في العالم, غزوات
فهد بن عبد الله الصالح
المجمعة
القادسية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تاريخه الغزوة وسببها وأحداثها وآثارها. 2- فضل الجهاد في سبيل الله. 3- أسباب تخلف الأمة. 4- من مآسي المسلمين في البوسنة والهرسك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَا بعد: أيها المسلمون، شهر رمضان شهر القرآن، شهر كتاب الله الكريم، فيه خبر ما قبلكم وحكم ما بينكم، كتاب الله الذي يهدي إلى صراطٍ مستقيم، شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِي أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ [البقرة:185]، فالقرآن سمَاه الله فرقانًا لأن فيه التفريق بين الحق والباطل، وبين الحلال والحرام، وبين الإيمان والضلال.
وفي شهر رمضان ـ أيها الإخوة ـ فرقانٌ من نوع آخر، فرقانٌ بين الحق والباطل، إنه فرقانُ بدر المعركة الكبرى، وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى? عَبْدِنَا يَوْمَ ?لْفُرْقَانِ يَوْمَ ?لْتَقَى ?لْجَمْعَانِ [الأنفال:41]، لقد سمى الله تعالى يوم بدر فرقانا لأنه المعركة الأولى التي تميز بين الحق والباطل.
ولئن وقعت هذه المعركة في رمضان من السنة الثانية من الهجرة فإن النصر لم يكن خاصًا بمن كان له شرف خوضها، إن النصر فيها هو نصرٌ لهذا الدين ولمن يحمل هذا الدين.
لقد كانت معركة بدر أولى المعارك في تاريخ الإسلام، وأول مواجهةٍ بين المؤمنين وأعداء الدعوة.
لقد خرج المسلمون مع الرسول من المدينة يوم بدر، وهم لا ينوون قتالاً، إنما يريدون قافلة التجار الخاصة بكفار مكة ليستولوا عليها في مقابل جانب مما استولى المشركون عليه من أموال المسلمين وحقوقهم، فهم لم يأخذوا للمعركة حسابا، ولم يعدوا للقتال عدة، هذه مشيئتهم، ولكن شاء الله أمرًا آخر، شاء الله أن يكون القتال مع المشركين.
عِير قريش التي أتت من الشام استطاع قائدها أبو سفيان النجاة بها، ولكن قريشٌ أصرت على الخروج بطرًا ورئاء الناس وصدًا عن سبيل الله، حتى قال أبو جهل: والله، لا نرجع حتى نبلغ بدرًا، ونقيم فيها ثلاثًا، تنحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدًا.
وأعلم النبي أصحابه أن الله وعده إحدى الطائفتين، إمَا العير وإمَا قريش، وأخذ من أصحابه الرأي والمشورة، فأشاروا عليه بمقاتلة المشركين، فسُر من موقف المهاجرين والأنصار، ثم قال: ((سيروا وأبشروا، فوالله لكأني أنظر إلى مصارع القوم)). فساروا إلى الموقع واختاروا المكان المناسب، ولجأ النبي إلى ربه مستنزلا نصره قائلاً : ((اللهم قريش جاءت بفخرها وخيلائها وخيلها، تحادّك وتكذب رسولك، اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تٌعبد)). وجاء الردّ من الله تبارك وتعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَ?سْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9].
وقد كان عدد المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، أما خصومهم الكفار فكانوا أكثر من ألف مقاتل، ومعهم مائة فرس، وستمائة درع، وجمال كثيرة.
وما إن بدأت المعركة حتى انهزمت جموع الكفار وولت الدبر، ولقي المصير السيىء سبعون منهم، وسبعون وقعوا في الأسر، وفر البقية هاربين، واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا رضي الله عنهم.
أيها المسلمون، لقد استجاب الله دعاء رسوله ، فنصرهم الله على عدوه وعدوهم، مع تباين في العدد والعدة. إن النصر سنةٌ من سنن الله، ينصر الله من ينصره، ينصر الله من يشاء وهو العزيز الرحيم.
القلة والكثرة ليس لها حساب في سنن الله، كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ?للَّهِ وَ?للَّهُ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ. على المسلمين إذا أرادوا نصرًا أن يخلصوا عملهم لله، ويأخذوا بأسباب النصر من قوةٍ وعدة وحيطةٍ وحذر.
لقد أراد الله تعالى للمسلمين أن تتعانق الانتصارات، انتصار الجيش الإسلامي وانتصار القلوب المؤمنة حين اتصلت بالله وتخلصت من ضعفها الذاتي، وانتصرت على نفسها الأمارة بالسوء، وغلب اليقين والثقة بالله على الحسابات الظاهرية، ونزول الملائكة الأطهار لتقاتل مع المسلمين في بدر هو مدد من الله تعالى للمؤمنين، لم يكن مددًا من أجل النصر بل مددًا لنفوسهم، وبشرى وطمأنينةً لها، أمَا النصر فلم يكن إلاَ من عند الله. اقرؤوا كتاب الله: فَ?سْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ ?لْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ ?للَّهُ إِلاَّ بُشْرَى? وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا ?لنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:9-10].
معركة بدر ـ أيها الإخوة ـ أظهرت قوة الإسلام ودولته، تلكم التي تُهاب ويُحسب لها كل حساب، وشعر المسلمون فيها بالعزة الحقيقية: وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].
تذوّق المسلمون فيها طعم الإيمان وحلاوة التضحية ولذة العبادة. لقد شعر المسلمون بعد غزوة بدر بالعزة بعد الذلة، وبالأمن بعد الخوف، وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ?للَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، وأمة الإسلام عزّها في الجهاد، متى ما رفعت راية الجهاد كانت عاقبتها النصر والعزة والتمكين، ومتى ما استكانت ورضيت بالقعود وتركت الجهاد ضربت بالذلة، وتسلط عليها أعداؤها بشتى أنواع التسلط.
يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (لا يدع قومٌ الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل).
وروى أبو داود في سننه عن النبي أنه قال: ((إذا تبايعتم بالعينة ـ نوع من البيوع المحرمة ـ وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع ـ أي: اشتغلتم بالزراعة والرعي ـ وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)).
والجهاد فريضة إسلامية كفريضة الصلاة والصيام، والذي شرعها أعلم بمصلحتها لعباده المؤمنين: كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
والجهاد هو أفضل عملٍ يتقرب به العبد لربه بعد الإيمان به لحديث أبى ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال : ((الإيمان بالله والجهاد في سبيله)) رواه البخاري ومسلم.
ومنزلة الجهاد منزلة عظيمة لا يرقى إليها إلاَ مَن عظمةُ الآخرة في قلبه وهانت عليه الدنيا، لا يرقى إليها إلا من تمكن الإيمان في قلبه ورسخت محبة الإيمان في سويداء قلبه، فسرى الإيمان في أعضاء الجسم سريان الدم في العروق، فعاش هذا الإنسان بالله ولله، وأيقن أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي أجلها ورزقها، وأن الروح لن تخرج إلاَ في اليوم المحدد لها، وأن دخول المعارك لا يقرب ولا يبعد أجلها، وأنه لن يصيبه إلاَ ما كتبه الله له، ومهما أصيب أو أوذي في الله فإنها كفارةٌ لذنوبه حتى الشوكة يشاكها.
بهذه العقيدة الصحيحة ربى الرسول أصحابه، فتسابقوا للجهاد، وواجهوا أعداء الله بثبات وإيمان، وحرصوا على الموت حرص غيرهم على الحياة، فنصر الله دينه على أيديهم وشرفهم بخدمة دينه، فهم أحياءٌ بعزةٍ وتمكين فوق الأرض، وهم أحياءٌ عند ربهم يرزقون.
وما كانت انتصارات المسلمين إلا بالجهاد، وما تسلط أعداؤنا علينا في هذا الزمن إلا لما تركنا الجهاد.
مأساة البوسنة والهرسك مثالٌ شاهد على ذلك، مدة اثنين وأربعين شهرًا والنصارى يُعملون القتلَ في رقاب المسلمين، وينتهكون أعراض المسلمات، ويخربون الديار، ويشردون الأبرياء، والعالم الغربي ومنظماته يقومون بأدوار المسرحية مع إخوانهم النصارى الصرب، حتى لما خافوا من يقظة الجهاد ويئسوا من إبادة شعب مسلم ودولته وتشفوا من المسلمين بقتل ما يزيد عن مائتي ألف مسلم، وكل فترة نسمع عن اكتشاف مقبرة جديدة، وهتك عرض أكثر من أربعين ألف فتاة مسلمة، وجعلوا سرايفو وغيرها خرابًا دمارا، عطفوا على البوسنة باتفاق هش وظالم؛ جعلهم أقلية داخل ديارهم يخافون أن يتخطفهم الناس، وهكذا في كل صقع من عالمنا الإسلامي يتمكن الأعداء فيه من رقاب المسلمين.
هذا ـ أيها الإخوة ـ حديثٌ عن الجهاد وعن يوم الفرقان، حديثٌ عن العزة والانتصار.
فاتقوا الله يرحمكم الله، وخذوا من دينكم عزتكم ونصرتكم في الدنيا، وفلاحكم وفوزكم في الآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَ?ذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي ?لأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ?لنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مّنَ ?لطَّيّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3095)
غض البصر
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, الكبائر والمعاصي
فهد بن عبد الله الصالح
المجمعة
القادسية
_________
ملخص الخطبة
_________
11- الدين منهج شامل لجميع مناحي الحياة. 2- أسباب انتشار الأمراض الخطيرة. 3- خداع وتضليل من قِبلِ الغرب الكافر. 4- من طرق كيد أعداء الدين في تضليل المسلمين. 5- خطورة النظر إلى الحرام. 6- الأدلة على وجوب غض البصر. 7- فوائد غض البصر. 8- المنكرات والفتن محك لاختبار إيمان العبد. 9- واجب الفرد المسلم تجاه هذه الفتن المتلاطمة. 10- مسؤولية الأب في حماية بيته من هذه المنكرات.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن من فضل الله علينا أن هدانا للإسلام، ففيه الفلاح في الدنيا والنجاة في الآخرة.
جاء دين الله كاملاً شاملاً لمناحي الحياة. في الإسلام ـ أيها المسلمون ـ شرائعُ وأحكام لو أخذ بها المسلمون أخذًا صحيحًا لاستقامة حالهُم، ولملكوا الأرض، وكانوا بحق خير أمةٍ أُخرجت للناس.
ومما شرعه الله للبشرية التوجيهات والشرائع التي تمنع الوقوع في جريمة الزنا، ذلكم المنكر الفظيع الذي يجر على المجتمعات الويلات والمصائب, والتي من أبرزها الأمراض الفتاكة التي تعاني منها الأمم والشعوب.
وقد كثرت في هذا الزمن مع ضعف المسلمين وتسلط الكفار والمنافقين, كثرت مع كثرة الوسائل الحديثة التي تدعو للزنا والدعارة والفجور والخلاعة، وآخر إحصائيةٍ عن مرض ـ هو واحد من مسببات الزنا ـ مرض الإيدز، عدد المصابين به يصل إلى ثلاثين مليون شخص.
وهذا رسول الله يحذر أمته من هذه الأمراض قبل أربعة عشر قرنًا، ويخاطب في حديثه الإلهي، يخاطب أفضل الناس في الأمة بعد رسولها، إنهم الصحابة رضى الله عنهم، ويسأل ربه أن لا تدرك هذه الفئة المؤمنة التي رضي الله عنها ورضت عنه، أن لا تدرك هذه الأمراض القاتلة، يقول : ((خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن)) وذكر منها: ((ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلاَ فشت فيهم الأمراض التي لم تكن في أسلافهم)) الحديث رواه ابن ماجة في سننه وغيره.
وإذا كان الغرب الكافر بمؤسساته وإعلامه ومن يدور في فلكه إذا كان يُشرع دور السينما والملاهي وأماكن الرقص والدعارة، ثم يدعو إلى محاربة الإيدز، ويضع يومًا لذلك، وهذا خداعٌ وتضليل وتناقض وازدواجية؛ إذا كان هذا حال الغي والضلال فإن منهج الإسلام هو الحق والرشاد.
الإسلام حرَم الزنا تحريمًا قاطعًا، ودعا أهل الإيمان إلى البعد عنه، ودعاهم إلى الزواج المشروع قطعًا لدابر الجريمة.
ومنهج الإسلام في تحريم الزنا منهجٌ صحيح، إذ إنه لا يحرم الزنا فحسب، بل يحرم قربان الزنا، وهي الوسائل المؤدية لذلك، كما قال تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32].
ومن الوسائل التي توقع في الزنا النظر، وهو موضوع اليوم، ولقد عرف أعداء الأمة ما هي بداية الطريق المؤدي للفاحشة، فأغرقوا المجتمعات وبالذات المجتمعات المسلمة، أغرقوها بسيل جارف مما يدعو إلى النظر المحرم من المجلات الهابطة والمسلسلات الماجنة والصور الفاتنة، واستغلوا إمكانات الفضاء لتدمير عفة الأرض، ودعوا وسعوا إلى إخراج المرأة واختلاطها مع الرجال، كل ذلك من أجل إفسادها وإفساد الرجال بها، ولا عجب في ذلك فهذه عقيدتهم وتلك مسالكهم.
أيها المسلمون، جاء في الحديث: ((العينان تزنيان، وزناهما النظر)).
إطلاق البصر بالنظر هو زنا للعين، وهو بريد الزنا الفرج، وهو بداية التفكيرِ في الزنا.
والذين يسافرون من أجل الفساد أو يبحثون عنه في كل مكان، كان سبب ذلك النظر في وجوه الفاتنات الكاسيات العاريات المائلات المميلات.
والنظر في وجوه تلك النساء يجعل بعض الرجال يزهد في زوجته وأم أولاده؛ لأنه رأى من هي أحسن منها وأجمل.
والنظر المحرم سببٌ لوقوع الهوى في القلب، لأنه سُمّ إبليس يجري في عروق المرء كما يجري الدم، فيفسدُ كل أجزاء الجسم، يبدأ بالباطن قبل أن يرى أثره في الظاهر، ومن أدمن النظر في وجوه الحسناوات لم يعد يستطيع الغفلة عن ذلك.
إن فتنة النظر إلى ما حرم الله ـ أيها الإخوة ـ هي أصلُ كل فتنة ومنجم كل شهوة، ويحكي التاريخ والواقع قصصًا متواترة لأناس ضلوا بسبب النظرة المحرمة، ومنهم من ترك دينه بالكلية وتحول إلى دين عشيقته النصرانية؛ لتعلق قلبه بها ولتحقيق شرطها.
ومن وقع في داء النظر أدمن عليه وصار همه وعادته.
وفي الجملة أيها الأحبة، فالنظر إلى ما حرم الله فتنة ٌ في الدين، وفسادٌ للخلق القويم، وبريدٌ للزنا واللواط وسائر الفساد.
والله تعالى خلق العينين نعمةً منه وفضلاً، فلا يحل لمن يخالط الإيمان شفاف قلبه أن يمدها إلى حرام أو يصرفها إلى معصية.
ليس الشجاع الذي يحمي مطيته يوم النزال ونار الحرب تشتعلُ
لكن فتى غضّ طرفًا أو ثنى بصرًا عن الحرام فذاك الفارسُ البطلُ
أيها المؤمنون، إن الله تعالى يخاطب أهل التقوى والإيمان بقوله: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، قال ابن كثير رحمه الله: "وهذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم الله، فلا ينظرون إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه، وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع البصر على محرم من غير قصد فليصرف بصره عنه سريعًا".
وقال ابن القيم رحمه الله: "وأمر الله تعالى نبيه أن يأمر المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم، وأن يُعْلِمهم أنه شاهدٌ لأعمالهم مطًلع عليها ـ ثم قال: ـ ولما كان مبدأ ذلك من قِبل ِالبصر جعلَ الأمرَ بغضِه مقدمًا على حفظ الفرج؛ فإن الحوادثَ مبدؤها من البصر، كما أن معظم النار من مستصغرِ الشرر، تكون نظرة ثم خطره ثم خطوة ثم خطيئة".
أيها الإخوة في الله، من غض بصره عن الحرام تخلص قلبُه من ألم الحسرة، تلكم الحسرة التي تنتاب الناظر لتعلقه بمن رآه، وتخلصه أيضا من أسر الشهوة، فكم للشهوة من أسير ومنكسر.
وغض البصر ـ أيها المؤمنون ـ يورث الإنسان أنسًا بالله، لأنه ترك شهوته من أجل مولاه, وغضُّ البصر ينوّر القلب وسائر الجوارح بسلامتها من السهم المسموم وإغلاق منافذ الشيطان عنها, ويسهلُ طريقَ التفكير والتفقه في الدين، ويورث القلب قوةً وشجاعة وثباتا.
وغضُ البصر ـ أيها الإخوة ـ يزرع في القلب بهجة وفرحة، وقد قال بعض العارفين: "والله، للذة العفة أعظمُ من لذة الذنب".
غض البصر يخلص القلب والعقل من سكر الشهوة ورقدةِ الغفلة، ذلك أن إطلاق البصر يتدرج بصاحبه حتى تستحكم الغفلة عن الله فيه ويقع في سكرِ العشق.
ويكفى ـ معاشر الأحبة ـ يكفي مصلحةً من غض البصر عن النظر إلى النساء أنه يسدّ بابًا من أبواب جهنم وهو الوقوع في الزنا، والعياذ بالله.
أيها المسلمون، يزداد النكير على من يطلقون أبصارهم بالنظر إلى الحرام، ويزداد الحث بغض البصر كلما كانت الفتنة بالنساء أشد، وكلما كثر الاختلاط والتبرج في زمن أو مكان ما، فإن بعض مجتمعات المسلمين كانت محافظة ومحتشمة ولما جاء الاستعمار نشر فيها التبرج والسفور والاختلاط وسائر وسائل الفساد.
يزداد النكير والتذكير بزيادة الصحف والمجلات والأفلام والفضائيات ودور السينما وأماكن اللهو المختلفة، والمسلم مسؤول أمام الله تعالى عن نفسه أولاً، وعن مجتمعه ثانيًا.
كلٌ منا مسؤولٌ عن تصرفاته التي تكون بمحض إرادته واختياره: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? [فاطر:18]، فلا يقبَل عذرُ معتذر بأن وسائل النظر منتشرة.
القابض على دينه في وسط تكثر فيه النساء الكاسيات العاريات ـ بذاتها أو بصورتها ـ مضاعفٌ له الأجر إن شاء الله جزاءَ صبره وقوة إيمانه.
وهذه المصائب والمنكرات هي فتنة وهي محك لاختبار الإيمان: لِيَمِيزَ ?للَّهُ ?لْخَبِيثَ مِنَ ?لطَّيّبِ [الأنفال:37]. فالناجح هو الممتثل لأمر ربه المراقب لمولاه، والخاسر هو من يطلق لشهوته العنان ويلقي التبعة على غيره إن كان له إحساس بالذنب.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله في أبصاركم، وغضوا أبصاركم عن الحرام، تحفظوا فروجكم عن الوقوع في فاحشة الزنا واللواط، وينوّر الله قلوبكم ويزيد في درجاتكم، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30، 31].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدى سيد المرسلين...
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، الإسلام ليس دينًا نظريًا لا صلة له بالواقع, فأحكامه وتشريعاته ليست مواعظ ونصائح فحسب، بل هي دينٌ أنزله الله ليحكم بين الناس، فالله تعالى يربط بين القول والفعل في آيات كثيرة، ويحذر من الفصل بينهما: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ ?للَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ [الصف:2-3].
المسلم مطلوب منه أن يمتثل قول رسوله : ((اتق الله حيثما كنت)). ومطالبٌ أيضًا أن يراقب ربه في الخلوات، كما هي حاله أمام أصحابه وكل الناس، لا ينتهك حرمات الله إذا خلا بها بمفرده.
المسلم مطالبٌ بإقامة المعروف وإنكار المنكر، كلٌ بحسب جهده وموقعه، وكلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته، الأبُ راع ٍ ومسؤولٌ عن أهل بيته، فلا يسمح بالمجلات الخليعة ولا المسلسلات المدمرة بدخول البيت, وهذا الدش الذي أصبح يوزع الضلالات والفتن، على المسلمين أن يحذروه وأن يقوا أنفسهم وأهليهم منه، وهكذا موقفُ المسلم في كل ما يدعو للنظر وللشر، فإن تجفيف منابع النظر في مجتمعات المسلمين هي الأهم في قطع الطريق على شهوات النفس وسهام إبليس المسمومة، مع ما يصاحب ذلك من نشر العلم الشرعي والوعي الصحيح بالدين وبخطر المؤامرة على المسلمين.
ومن تربية الأبناء والأهل على الآداب الشرعية ربطهم بالكتاب والسنة، فالأمة متى ما عملت في سبيل مرضاة ربها وأخلصت في ذلك فإن الله يوفقها للخيرات، ويعصمها من المنكرات، ويبارك لها في الحياة، ويسكنها فسيح الجنات.
(1/3096)
احذروا الظلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
11- شؤم الظلم. 2- تحريم الله الظلم على نفسه. 3- تحريم الظلم بين العباد. 4- مراتب الظلم. 5- من صور الظلم في الواقع المعاصر. 6- من أولى الناس بالنصرة؟ 7- وسائل نصرة أخواننا المستضعفين في الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، فإنه لا فلاح لكم في الدنيا ولا نجاة في الآخرة إلا بتقوى الله تعالى.
أيها المؤمنون، إن البغي والظلم ذنب عظيم، وإثم مرتعه وخيم، وهو سبب كل شر وفساد، وكل بلاء وعقاب، فهو منبع الرذائل والموبقات، ومصدر الشرور والسيئات، وعنه تصدر سلاسل العيوب والآفات. متى فشا في أمة آذن الله بأفولها, ومتى شاع في بلدة فقد انعقدت أسباب زوالها وتحوُّل لباسها، فبه تفسد الديار, وتخرب الأوطان, وتدمر الأمصار, به ينزل غضب الواحد الجبار القهار, قال الله سبحانه وتعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [ الكهف:59 ]، وقال: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ هود:102 ], وقال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً [ الأنبياء:11 ], وقال تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: 45 ].
أيها المؤمنون, إن الله تعالى نفى عن نفسه الظلم, فقال عز وجل: وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيد [ فصلت:46], وقال : وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [ الكهف:49 ]، وقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة [ النساء:40]، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ [غافر:31]. وقد حرمه تعالى على نفسه, ففي الحديث الإلهي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (( يا عبادي, إني حرمت الظلم على نفسي, وجعلته بينكم محرمًا, فلا تظالموا )) رواه مسلم [1]. فأعلم الله تعالى عباده في هذا الحديث العظيم أنه حرم الظلم على نفسه, قبل أن يجعله محرمًا بين عباده.
وقد أعلن النبي حرمة الظلم في أعظم مجمع وموقف, فقال في خطبته يوم عرفة: ((ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)) [2] ، وفي الصحيحين أن النبي قال: (( اتقوا الظلم, فإن الظلم ظلمات يوم القيامة )) [3] وقال فيما يرويه مسلم وغيره: (( المسلم أخو المسلم, لا يظلِمه, ولا يخذله, ولا يحقره )) [4].
وقد تهدد الله تعالى أرباب الظلم وأهله, فقال جل ذكره: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42]، فالله تعالى للظالمين بالمرصاد, ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ، قال: ثم قرأ : وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. وقد لعن الله الظالمين فقال: ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]، وأخبر سبحانه أنه يبغضهم فقال: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:57].
والظلم ـ يا عباد الله ـ من أعظم أسباب ارتفاع الأمن وزوال الاهتداء عن الأفراد والمجتمعات, قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، فبقدر ما يكون في الفرد والمجتمع من الظلم بقدر ما يرتفع عنه الأمن والاهتداء, فالجزاء من جنس العمل، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أيها المؤمنون, إن الظلم الذي وردت به النصوص التحريمية وبيان سوء عاقبته والتحذير منه درجات ومراتب:
أولها: الظلم الكبير الخطير العظيم, الذي لا يغفر الله الغفور الرحيم الكريم لصاحبه إلا بالإقلاع عنه, وتوبته منه, ألا وهو الإشراك بالله تعالى، بصرف العبادة أو بعض أنواعها لغير الله, كدعاء غيره, والسجود لغيره, والذبح والنذر لغيره, ونبذ شرعه والتحاكم إلى سواه, قال الله تعالى حاكيًا عن لقمان وصيته لابنه: يا بني لا تُشْرِكْ باللَّهِ إِنَّ الشرك لظُلْم عظيم [لقمان:13]، فهذا الظلم لا يغفره الله إلا بالتوبة منه, قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرِكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء [النساء:48]. فأخلصوا ـ أيها المؤمنون ـ عبادتكم لله تعالى, فإنه من قال: "لا إله إلا الله" خالصًا من قلبه دخل الجنة، وحاربوا الشرك وأهله بالدعوة إلى التوحيد.
وأما ثاني مراتب الظلم: فذاك الظلم الذي لا يتركه الله تعالى, وهو ظلم العبد غيره من الخلق, فهذا لا بد فيه من أخذ الحق للمظلوم من الظالم, كما قال الله سبحانه في الحديث الإلهي: (( وعزتي لأنصرنّك ولو بعد حين )) [5]. وقد أجاد من قال:
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرًا فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
أيها المؤمنون, اتقوا الظلم, فإن نبيكم الصادق المصدوق أخبر أن الدنيا تملأ في آخر الزمان ظلمًا وجورًا, وها نحن نشهد صدق ما أخبر به ، فإن الظلم قد فشا وشاع بين الناس، في الدماء والأموال والأبضاع والأعراض، حتى صدق في سلوك كثير من أبناء هذا الزمان ما قاله الشاعر الجاهلي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلم
ولا تظنن ـ أيها الأخ ـ أن هذه مبالغة أو مزايدة, بل ذلك هو واقع كثير من الناس, فكم نرى من أصحاب الأعمال الذين ظلموا عمالهم, بتحميلهم ما لا يطيقون, أو بتأخير رواتبهم ومستحقاتهم, أو جحد حقوقهم, أو فرض الإتاوات عليهم. وكم نرى من أرباب الأسر والبيوت الذين جنوا على أهليهم, وظلموا أولادهم وزوجاتهم. وكم هم التجار الذين دلسوا بضائعهم وغشوا عملاءهم. وكم هم الولاة الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم, وحكموا القوانين الوضعية، فلم يعدلوا في الرعية ولم يقسموا بالسوية ولم يسيروا بالسرية. وكم هم الذين أطلقوا لأنفسهم العنان في أعراض الناس ودمائهم, فتمضمضوا بأعراض المؤمنين, وتفكهوا بدمائهم, إنهم كثير كثير كثير, قال الله تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].
فللّه ما أكثر المفلسين الذين يعملون لغيرهم ويتحمّلون عنهم, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا :المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع, فقال: ((إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة, ويأتي قد شتم هذا, وقذف هذا, وأكل مال هذا, وسفك دم هذا, وضرب هذا, فيعطى هذا من حسناته, وهذا من حسناته, فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه, أُخِذ من خطاياهم فطرحت عليه, ثم طرح في النار )) [6]. فيا لها من تجارة بائرة وصفقة خاسرة, أن تأتي يوم القيامة وأنت أحوجُ ما تكون إلى حسنة تثقل بها ميزانك, فإذا بخصمائك قد أحاطوا بك, فهذا آخذ بيدك, وهذا قابض على ناصيتك, وهذا متعلق بتلابيبك, هذا يقول: ظلمتني, وهذا يقول: شتمتني, وهذا يقول: اغتبتني أو استهزأت بي, وهذا يقول: جاورتني فأسأت جواري, وهذا يقول: غششتني, وهذا يقول: أخذت حقي.
أما والله إن الظلم شؤم وما زال المسيء هو الظلوم
ستعلم يا ظلوم إذا التقينا غدًا عند المليك من الملوم
فيا عباد الله، تداركوا الأمر قبل فوات الأوان، فما هي والله إلا ساعة ثم تبعثر القبور، ويحصّل ما في الصدور، وعند الله تجتمع الخصوم, فيقتص للمظلوم من الظالم, فتحللوا ـ أيها الإخوان ـ من المظالم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (( من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم, إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته, وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحُمِل عليه)) [7].
أيها المؤمنون, أما ثالث مراتب الظلم: فهو ظلم العبد نفسه بالمعاصي والسيئات, فكل ذنب وخطيئة تقارفها ـ يا عبد الله ـ فإن ذلك ظلم منك لنفسك, وبغي عليها, قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:229]، وما أكثر ما قال الله عند ذكر العصاة والمذنبين والظالمين: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون [النحل:118]، فكل مذنب وعاصٍ فإنما يجني على نفسه, ويعرضها لعذاب الله الأليم وعقابه الشديد, كما قال النبي فيما أخرجه ابن ماجه وغيره بسند لا بأس به عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال: سمعت رسول الله يقول في حجة الوداع: ((ألا لا يجني جان إلا على نفسه)) [8].
فتخففوا ـ عباد الله ـ من ظلم أنفسكم بامتثال ما أمركم الله به, وترك مانهاكم عنه, والتوبة مما فرط من الذنوب, فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
[1] صحيح مسلم في البر والصلة (4674).
[2] أخرجه البخاري في العلم (65), ومسلم في الحج (2137).
[3] أخرجه البخاري في المظالم والمغاصب (2267)، ومسلم في البر والصلة (4675).
[4] أخرجه مسلم في البر والصلة (4650).
[5] رواه أحمد والترمذي وابن ماجه بسند لا بأس به، انظر: السلسلة الصحيحة (868).
[6] أخرجه مسلم في البر والصلة (4678).
[7] أخرجه البخاري في المظالم والمغاصب (2269).
[8] أخرجه ابن ماجه في الديات (2659).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمنون, اعلموا أن الله سبحانه نهى عن الظلم بجميع صوره, وأمر بمجاهدة الظالمين ورفع الظلم عن المظلومين, وقد أرسل الله سبحانه رسله وأنزل كتبه لإقامة القسط ورفع الظلم, قال الله تعالى: َلقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25].
فإذا تركنا الظالم ولم نأخذ على يده فقد خالفنا ما جاءت به الرسل, ونحن مهدّدون بعقوبة عامة ومحنة عاجلة, فعن أبي بكر الصديق أنه قال: أيها الناس, إنكم تقرؤون هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، وإني سمعت رسول الله يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه)) رواه أبو داود والترمذي بإسناد جيد [1]. فرفع الظلم والإنكار على الظالم واجب على كل أحد حسب قدرته وطاقته ووسعه, قال النبي : (( انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) ، قالوا: يا رسول الله, هذا ننصره مظلومًا, فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: ((تأخذ فوق يديه )) [2].
أيها المؤمنون, إنّ أولى المظلومين بالنصر والتأييد والإعانة هم أولئك الذين ظلِموا في دينهم, فحُورِبوا وقُوتِلوا, وهُجِّروا وضُرِبوا وسُجِنوا وأُوذوا من أجل أنهم رضوا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد نبيًّا، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]. فهؤلاء وأضرابهم هم أولى الناس بالنصر والتأييد, لا سيما في هذا العصر المفتون الذي انتعش فيه أعداء الله، من اليهود والنصارى والوثنيين والملحدين والمبتدعين والمنافقين, فرموا أهل الإسلام عن قوس واحدة كما أخبر النبي في حديث ثوبان: (( يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها )) [3]. فليس ما يجري على الإسلام وأهله في كثير من بلدان العالم إلا تصديقًا لما أخبر به الصادق المصدوق.
أحلّ الكفر بالإسلام ظلمًا يطول به على الدين النحيب
فقوموا بما أوجب الله عليكم من نصرة دينكم وإخوانكم, وذلك من خلال عدة أمور:
الأول: التوبة النصوح من جميع الذنوب, قال الله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. فإن ما أصاب أمتنا هو بما كسبت أيدينا, ويعفو عن كثير, قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]. فالتوبة إلى الله تعالى من أعظم أسباب رفع ظلم الظالمين وتسلط الطاغين, قال ابن القيم رحمه الله: " فليس للعبد إذا بغي عليه أو أوذي أو تسلط عليه خصومه شيء أنفع من التوبة النصوح ".
الأمر الثاني: مجاهدة أعداء الله تعالى ومراغمتهم على اختلاف أنواعهم, كل حسب ما يناسبه, فالكفار والمشركون جهادهم بالسيف والسنان, وأما المنافقون والمشككون والمرتابون فبالحجة والبرهان والعلم والبيان, وأما الظالمون والعصاة فبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان الدين وتبليغ ما في الكتاب والسنة من الأمر والنهي والخير.
الأمر الثالث: مدُّ يد العون والمساعدة لكلّ من أوذي في سبيل الله, قريبًا كان أو بعيدًا, وذلك من خلال تقديم كل ما يمكن تقديمه من دعم مادي أو معنوي, لا سيما ـ أيها الإخوة ـ ونحن في هذه البلاد, لا زال كثير منا ولله الحمد يعيش في سعة من الرزق ورغد من العيش, فالواجب علينا أكبر من الواجب على غيرنا, فمدوا ـ بارك الله فيكم ـ أيديكم بسخاء لإخوانكم المسلمين في كل مكان, واعلموا أن الصدقة تطفئ غضب الرحمن وتقي مصارع السوء, فإياكم والبخل, فإنه من يبخل فإنما يبخل عن نفسه.
فإن شحت نفسك أو عدمتَ ما تقدمه لإخوانك فلن تعدم ـ هداك الله ـ لسانًا بالدعاء والتضرع لاهجًا, ولله سائلاً أن يعزّ أهل دينه, وأن يذل أعداءه, فادعوا ـ أيها المؤمنون ـ لإخوانكم المسلمين المظلومين في دينهم, فإن دعوة المظلوم والدعوة له ليس بينها وبين الله حجاب, عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي بعث معاذًا إلى اليمن فقال: ((اتق دعوة المظلوم, فإنها ليس بينها وبين الله حجاب )) [4].
[1] أخرجه الترمذي في الفتن (2094), وأخرجه أبو داود في الملاحم (3775).
[2] أخرجه البخاري في المظالم والمغاصب (2264).
[3] أخرجه أبو داود في الملاحم (3745).
[4] أخرجه البخاري في المظالم والغصب (2268).
(1/3097)
احذروا الظلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شؤم الظلم. 2- تحريم الله الظلم على نفسه. 3- تحريم الظلم بين العباد. 4- مراتب الظلم. 5- من صور الظلم في الواقع المعاصر. 6- من أولى الناس بالنصرة؟ 7- وسائل نصرة أخواننا المستضعفين في الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، فإنه لا فلاح لكم في الدنيا ولا نجاة في الآخرة إلا بتقوى الله تعالى.
أيها المؤمنون، إن البغي والظلم ذنب عظيم، وإثم مرتعه وخيم، وهو سبب كل شر وفساد، وكل بلاء وعقاب، فهو منبع الرذائل والموبقات، ومصدر الشرور والسيئات، وعنه تصدر سلاسل العيوب والآفات. متى فشا في أمة آذن الله بأفولها, ومتى شاع في بلدة فقد انعقدت أسباب زوالها وتحوُّل لباسها، فبه تفسد الديار, وتخرب الأوطان, وتدمر الأمصار, به ينزل غضب الواحد الجبار القهار, قال الله سبحانه وتعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [الكهف:59]، وقال: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102], وقال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً [الأنبياء:11], وقال تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: 45].
أيها المؤمنون, إن الله تعالى نفى عن نفسه الظلم, فقال عز وجل: وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيد [فصلت:46], وقال: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، وقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة [النساء:40]، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ [غافر:31]. وقد حرمه تعالى على نفسه, ففي الحديث الإلهي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: ((يا عبادي, إني حرمت الظلم على نفسي, وجعلته بينكم محرمًا, فلا تظالموا)) رواه مسلم [1]. فأعلم الله تعالى عباده في هذا الحديث العظيم أنه حرم الظلم على نفسه, قبل أن يجعله محرمًا بين عباده.
وقد أعلن النبي حرمة الظلم في أعظم مجمع وموقف, فقال في خطبته يوم عرفة: ((ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)) [2] ، وفي الصحيحين أن النبي قال: ((اتقوا الظلم, فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)) [3] وقال فيما يرويه مسلم وغيره: ((المسلم أخو المسلم, لا يظلِمه, ولا يخذله, ولا يحقره)) [4].
وقد تهدد الله تعالى أرباب الظلم وأهله, فقال جل ذكره: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42]، فالله تعالى للظالمين بالمرصاد, ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ، قال: ثم قرأ : وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. وقد لعن الله الظالمين فقال: ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]، وأخبر سبحانه أنه يبغضهم فقال: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:57].
والظلم ـ يا عباد الله ـ من أعظم أسباب ارتفاع الأمن وزوال الاهتداء عن الأفراد والمجتمعات, قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، فبقدر ما يكون في الفرد والمجتمع من الظلم بقدر ما يرتفع عنه الأمن والاهتداء, فالجزاء من جنس العمل، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أيها المؤمنون, إن الظلم الذي وردت به النصوص التحريمية وبيان سوء عاقبته والتحذير منه درجات ومراتب:
أولها: الظلم الكبير الخطير العظيم, الذي لا يغفر الله الغفور الرحيم الكريم لصاحبه إلا بالإقلاع عنه, وتوبته منه, ألا وهو الإشراك بالله تعالى، بصرف العبادة أو بعض أنواعها لغير الله, كدعاء غيره, والسجود لغيره, والذبح والنذر لغيره, ونبذ شرعه والتحاكم إلى سواه, قال الله تعالى حاكيًا عن لقمان وصيته لابنه: يا بني لا تُشْرِكْ باللَّهِ إِنَّ الشرك لظُلْم عظيم [لقمان:13]، فهذا الظلم لا يغفره الله إلا بالتوبة منه, قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرِكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء [النساء:48]. فأخلصوا ـ أيها المؤمنون ـ عبادتكم لله تعالى, فإنه من قال: "لا إله إلا الله" خالصًا من قلبه دخل الجنة، وحاربوا الشرك وأهله بالدعوة إلى التوحيد.
وأما ثاني مراتب الظلم: فذاك الظلم الذي لا يتركه الله تعالى, وهو ظلم العبد غيره من الخلق, فهذا لا بد فيه من أخذ الحق للمظلوم من الظالم, كما قال الله سبحانه في الحديث الإلهي: ((وعزتي لأنصرنّك ولو بعد حين)) [5]. وقد أجاد من قال:
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرًا فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
أيها المؤمنون, اتقوا الظلم, فإن نبيكم الصادق المصدوق أخبر أن الدنيا تملأ في آخر الزمان ظلمًا وجورًا, وها نحن نشهد صدق ما أخبر به ، فإن الظلم قد فشا وشاع بين الناس، في الدماء والأموال والأبضاع والأعراض، حتى صدق في سلوك كثير من أبناء هذا الزمان ما قاله الشاعر الجاهلي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلم
ولا تظنن ـ أيها الأخ ـ أن هذه مبالغة أو مزايدة, بل ذلك هو واقع كثير من الناس, فكم نرى من أصحاب الأعمال الذين ظلموا عمالهم, بتحميلهم ما لا يطيقون, أو بتأخير رواتبهم ومستحقاتهم, أو جحد حقوقهم, أو فرض الإتاوات عليهم. وكم نرى من أرباب الأسر والبيوت الذين جنوا على أهليهم, وظلموا أولادهم وزوجاتهم. وكم هم التجار الذين دلسوا بضائعهم وغشوا عملاءهم. وكم هم الولاة الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم, وحكموا القوانين الوضعية، فلم يعدلوا في الرعية ولم يقسموا بالسوية ولم يسيروا بالسرية. وكم هم الذين أطلقوا لأنفسهم العنان في أعراض الناس ودمائهم, فتمضمضوا بأعراض المؤمنين, وتفكهوا بدمائهم, إنهم كثير كثير كثير, قال الله تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].
فللّه ما أكثر المفلسين الذين يعملون لغيرهم ويتحمّلون عنهم, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع, فقال: ((إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة, ويأتي قد شتم هذا, وقذف هذا, وأكل مال هذا, وسفك دم هذا, وضرب هذا, فيعطى هذا من حسناته, وهذا من حسناته, فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه, أُخِذ من خطاياهم فطرحت عليه, ثم طرح في النار)) [6]. فيا لها من تجارة بائرة وصفقة خاسرة, أن تأتي يوم القيامة وأنت أحوجُ ما تكون إلى حسنة تثقل بها ميزانك, فإذا بخصمائك قد أحاطوا بك, فهذا آخذ بيدك, وهذا قابض على ناصيتك, وهذا متعلق بتلابيبك, هذا يقول: ظلمتني, وهذا يقول: شتمتني, وهذا يقول: اغتبتني أو استهزأت بي, وهذا يقول: جاورتني فأسأت جواري, وهذا يقول: غششتني, وهذا يقول: أخذت حقي.
أما والله إن الظلم شؤم وما زال المسيء هو الظلوم
ستعلم يا ظلوم إذا التقينا غدًا عند المليك من الملوم
فيا عباد الله، تداركوا الأمر قبل فوات الأوان، فما هي والله إلا ساعة ثم تبعثر القبور، ويحصّل ما في الصدور، وعند الله تجتمع الخصوم, فيقتص للمظلوم من الظالم, فتحللوا ـ أيها الإخوان ـ من المظالم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم, إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته, وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحُمِل عليه)) [7].
أيها المؤمنون, أما ثالث مراتب الظلم: فهو ظلم العبد نفسه بالمعاصي والسيئات, فكل ذنب وخطيئة تقارفها ـ يا عبد الله ـ فإن ذلك ظلم منك لنفسك, وبغي عليها, قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:229]، وما أكثر ما قال الله عند ذكر العصاة والمذنبين والظالمين: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون [النحل:118]، فكل مذنب وعاصٍ فإنما يجني على نفسه, ويعرضها لعذاب الله الأليم وعقابه الشديد, كما قال النبي فيما أخرجه ابن ماجه وغيره بسند لا بأس به عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال: سمعت رسول الله يقول في حجة الوداع: ((ألا لا يجني جان إلا على نفسه)) [8].
فتخففوا ـ عباد الله ـ من ظلم أنفسكم بامتثال ما أمركم الله به, وترك مانهاكم عنه, والتوبة مما فرط من الذنوب, فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
[1] صحيح مسلم في البر والصلة (4674).
[2] أخرجه البخاري في العلم (65), ومسلم في الحج (2137).
[3] أخرجه البخاري في المظالم والمغاصب (2267)، ومسلم في البر والصلة (4675).
[4] أخرجه مسلم في البر والصلة (4650).
[5] رواه أحمد والترمذي وابن ماجه بسند لا بأس به، انظر: السلسلة الصحيحة (868).
[6] أخرجه مسلم في البر والصلة (4678).
[7] أخرجه البخاري في المظالم والمغاصب (2269).
[8] أخرجه ابن ماجه في الديات (2659).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمنون, اعلموا أن الله سبحانه نهى عن الظلم بجميع صوره, وأمر بمجاهدة الظالمين ورفع الظلم عن المظلومين, وقد أرسل الله سبحانه رسله وأنزل كتبه لإقامة القسط ورفع الظلم, قال الله تعالى: َلقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25].
فإذا تركنا الظالم ولم نأخذ على يده فقد خالفنا ما جاءت به الرسل, ونحن مهدّدون بعقوبة عامة ومحنة عاجلة, فعن أبي بكر الصديق أنه قال: أيها الناس, إنكم تقرؤون هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، وإني سمعت رسول الله يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه)) رواه أبو داود والترمذي بإسناد جيد [1]. فرفع الظلم والإنكار على الظالم واجب على كل أحد حسب قدرته وطاقته ووسعه, قال النبي : ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) ، قالوا: يا رسول الله, هذا ننصره مظلومًا, فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: ((تأخذ فوق يديه)) [2].
أيها المؤمنون, إنّ أولى المظلومين بالنصر والتأييد والإعانة هم أولئك الذين ظلِموا في دينهم, فحُورِبوا وقُوتِلوا, وهُجِّروا وضُرِبوا وسُجِنوا وأُوذوا من أجل أنهم رضوا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد نبيًّا، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]. فهؤلاء وأضرابهم هم أولى الناس بالنصر والتأييد, لا سيما في هذا العصر المفتون الذي انتعش فيه أعداء الله، من اليهود والنصارى والوثنيين والملحدين والمبتدعين والمنافقين, فرموا أهل الإسلام عن قوس واحدة كما أخبر النبي في حديث ثوبان: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) [3]. فليس ما يجري على الإسلام وأهله في كثير من بلدان العالم إلا تصديقًا لما أخبر به الصادق المصدوق.
أحلّ الكفر بالإسلام ظلمًا يطول به على الدين النحيب
فقوموا بما أوجب الله عليكم من نصرة دينكم وإخوانكم, وذلك من خلال عدة أمور:
الأول: التوبة النصوح من جميع الذنوب, قال الله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. فإن ما أصاب أمتنا هو بما كسبت أيدينا, ويعفو عن كثير, قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]. فالتوبة إلى الله تعالى من أعظم أسباب رفع ظلم الظالمين وتسلط الطاغين, قال ابن القيم رحمه الله: "فليس للعبد إذا بغي عليه أو أوذي أو تسلط عليه خصومه شيء أنفع من التوبة النصوح".
الأمر الثاني: مجاهدة أعداء الله تعالى ومراغمتهم على اختلاف أنواعهم, كل حسب ما يناسبه, فالكفار والمشركون جهادهم بالسيف والسنان, وأما المنافقون والمشككون والمرتابون فبالحجة والبرهان والعلم والبيان, وأما الظالمون والعصاة فبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان الدين وتبليغ ما في الكتاب والسنة من الأمر والنهي والخير.
الأمر الثالث: مدُّ يد العون والمساعدة لكلّ من أوذي في سبيل الله, قريبًا كان أو بعيدًا, وذلك من خلال تقديم كل ما يمكن تقديمه من دعم مادي أو معنوي, لا سيما ـ أيها الإخوة ـ ونحن في هذه البلاد, لا زال كثير منا ولله الحمد يعيش في سعة من الرزق ورغد من العيش, فالواجب علينا أكبر من الواجب على غيرنا, فمدوا ـ بارك الله فيكم ـ أيديكم بسخاء لإخوانكم المسلمين في كل مكان, واعلموا أن الصدقة تطفئ غضب الرحمن وتقي مصارع السوء, فإياكم والبخل, فإنه من يبخل فإنما يبخل عن نفسه.
فإن شحت نفسك أو عدمتَ ما تقدمه لإخوانك فلن تعدم ـ هداك الله ـ لسانًا بالدعاء والتضرع لاهجًا, ولله سائلاً أن يعزّ أهل دينه, وأن يذل أعداءه, فادعوا ـ أيها المؤمنون ـ لإخوانكم المسلمين المظلومين في دينهم, فإن دعوة المظلوم والدعوة له ليس بينها وبين الله حجاب, عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي بعث معاذًا إلى اليمن فقال: ((اتق دعوة المظلوم, فإنها ليس بينها وبين الله حجاب)) [4].
[1] أخرجه الترمذي في الفتن (2094), وأخرجه أبو داود في الملاحم (3775).
[2] أخرجه البخاري في المظالم والمغاصب (2264).
[3] أخرجه أبو داود في الملاحم (3745).
[4] أخرجه البخاري في المظالم والغصب (2268).
(1/3098)
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
الدعاء والذكر
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الذكر في الكتاب والسنة. 2- مراتب الذكر. 3- فوائد الذكر. 4- اغتنام الأوقات في ذكر الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله, اتقوا الله, وأكثروا من ذكره, فإن ذكره سبحانه قوت قلوب الذاكرين, وهو قرة عيون الموحدين, وهو عدتهم الكبرى, وسلاحهم الذي لا يبلى, وهو دواء أسقامهم, الذي متى تركوه أصيبت منهم المقاتل, فانتكسوا على أعقابهم خاسرين.
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحيانًا فننتكس
فبالذكر يستدفع الذاكرون الآفات, ويستكشفون الكربات, وتهون عليهم المصيبات, فإليه الملجأ إذا ادلهمت الخطوب, وإليه المفزع عند توالي الكوارث والكروب, به تنقشع الظلمات والأكدار, وتحلّ الأفراح والمسرّات.
وقد أمر الله تعالى به المؤمنين فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]، وقال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]. وقد أثنى الله سبحانه وتعالى في كتابه على الذاكرين فقال تعالى: إِنَّ ?لْمُسْلِمِينَ وَ?لْمُسْلِمَـ?تِ وَ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَ?لْقَـ?نِتِينَ وَ?لْقَـ?نِتَـ?تِ وَ?لصَّـ?دِقِينَ وَ?لصَّـ?دِقَـ?تِ وَ?لصَّـ?بِرِينَ وَ?لصَّـ?بِر?تِ وَ?لْخَـ?شِعِينَ وَ?لْخَـ?شِعَـ?تِ وَ?لْمُتَصَدّقِينَ وَ?لْمُتَصَدّقَـ?تِ و?لصَّـ?ئِمِينَ و?لصَّـ?ئِمَـ?تِ وَ?لْحَـ?فِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ?لْحَـ?فِظَـ?تِ وَ?لذ?كِرِينَ ?للَّهَ كَثِيرًا وَ?لذ?كِر?تِ أَعَدَّ ?للَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].
وأما الأخبار عن النبي فقد دلت الأدلة على أن أفضل ما شغل العبدُ به نفسه في الجملة ذكر الله تعالى, فمن ذلك ما رواه أحمد وغيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (( ألا أنبئكم بخير أعمالكم, وأزكاها عند مليككم, وأرفعها في درجاتكم, وخير لكم من إنفاق الذهب والوَرِق, وخير لكم من أن تلقوا عدوكم, فتضربوا أعناقهم, ويضربوا أعناقكم؟ )) قالوا: بلى، قال: (( ذكر الله تعالى )) [1]. ومن ذلك أيضًا ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله يسير في طريق مكة, فمر على جبل يقال له جُمْدان, فقال : ((سيروا هذا جُمْدان, سبق المفرِّدون))، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: (( الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات )) [2].
ومما يظهر فضل الذكر وعلوَ مرتبته ما أخرجه الترمذي عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: ((لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله)) [3]. ومما يدل على ذلك أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يذكروه قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم, فقال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]. وهكذا كان النبي فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي يذكر الله على كل أحيانه [4].
أيها المؤمنون, اعلموا أن أعلى مراتب الذكر الذي أمر الله به هو ما تواطأ فيه القلب واللسان, واعلموا أن هذا الفضل العظيم والأجر الكثير ليس معلقًا على ذكر الشفة واللسان فحسب, بل لا يثبت هذا الأجر الموعود إلا على ذكر يتواطأ فيه القلب واللسان, فذكر الله إن لم يخفق به القلب, وإن لم تعش به النفس, وإن لم يكن مصحوبًا بالتضرع والتذلل والمحبة لله تعالى, فلن يكون سببًا لتحصيل هذه المزايا والفضائل.
وقد يسأل المرء: ما سر تفضيل الذكر على سائر أنواع وأعمال البر, مع أنه خفيف على اللسان ولا يحصل به تعب على الأبدان؟
فالجواب: إن سر هذا التفضيل هو أن الذكر يورث يقظة القلب وحياته وصلاحه, ولذلك قال النبي : (( مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت )) [5]. فالذكر حياة القلوب وصلاحها, والذكر للقلب كالماء للزرع, بل كالماء للسمك, لا حياة له إلا به. فإذا حييت القلوب وصَلَحت صلحت الجوارح واستقامت, قال النبي : (( ألا وإن في الجسد مضغة, إذا صَلَحت صَلَح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب )) متفق عليه [6].
فعليكم ـ عباد الله ـ بالإكثار من ذكره سبحانه, وعمارةِ الأوقات والأزمان بالأذكار والأوراد المطلقة والمقيدة, كقول: لا إله إلا الله, فإنها من خير الأقوال وأحبها إلى الله, أو قول: سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر, فإنها خير مما طلعت عليه الشمس, وغير ذلك من الأقوال التي تنمَّى بها الحسنات, وترفع بها الدرجات, وتوضع السيئات. فإن قصرت همتك وضعفت قوتك عن تلك المنازل الكبار فلا أقل من أن تحافظ على الأذكار المؤقتة والمقيدة, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وأقل ذلك ـ أي: ما ينبغي على العبد المحافظة عليه من الأذكار ـ أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين , كالأذكار المؤقتة في أول النهار وآخره, وعند أخذ المضجع, وعند الاستيقاظ من المنام, وأدبار الصلوات. والأذكار المقيدة مثل ما يقال عند الأكل والشرب واللباس والجماع ودخول المنزل والمسجد والخلاء والخروج من ذلك وعند المطر والرعد وغير ذلك ". وقد صنفت في ذلك بعض الكتيبات, فما عليك ـ أيها المبارك ـ إلا أن تقتني واحدًا من تلك المصنفات, وتواظب على المسابقة في الخيرات.
ومما يشحذ همتك ويلهب حماسك ويجذبك إلى ذكر مولاك أن تعلم أن للذكر فوائد كثيرة وعواقب حميدة لمن حافظ عليه وأكثر منه, وإليك بعض هذه الفوائد:
فمن فوائد الذكر الكبار: أنه يورث محبة الله سبحانه وتعالى, فالذكر باب المحبة وشارعها الأعظم وصراطها الأقوم, فكلما ازداد العبد لله ذكرًا ازداد له حبًا, فمن أراد أن يفوز وينال محبة الله تعالى فليلهج بذكره.
ومن فوائد ذكر الله تعالى: أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره, ويزيل الهم والغم والحزن, ويجلب للقلب الفرح والسرور والبسط, ففي الترمذي وأبي داود والنسائي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له حينئذ: هديت وكفيت ووقيت، وتنحى عنه الشيطان، فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل هدي وكفي ووقي )) [7].
وقد ثبت أن الشيطان يهرب من الأذان, ففي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضُراط, حتى لا يسمع التأذين, فإذا قضى النداء أقبل, حتى إذا ثُوِّب بالصلاة أدبر, حتى إذا قضى التثويب أقبل, حتى يَخْطِر بين المرء ونفسه, يقول: اذكر كذا, اذكر كذا, لما لم يكن يذكر, حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى)) [8].
ومنها: أنه يكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة, ويمده بالقوة في قلبه وبدنه, حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لا يفعله بدونه, ولذلك علم النبي ابنته فاطمة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثًا وثلاثين, ويحمدا ثلاثًا وثلاثين, ويكبرا أربعًا وثلاثين, لما سألته أن يعطيها خادمًا, وقال: (( فهو خير لكما من خادم )) [9].
ومنها: أن الذكر يورث ذكر الله تعالى للعبد, قال الله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]. وفي الحديث القدسي قال تعالى: ((فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم )) [10].
[1] أخرجه أحمد من حديث أبي الدرداء (20713).
[2] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4834).
[3] أخرجه الترمذي في الدعوات (3297).
[4] أخرجه مسلم في الحيض (558).
[5] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1299).
[6] أخرجه البخاري في الإيمان (50), ومسلم في المساقاة (2996).
[7] أخرجه الترمذي في الدعوات (3348), وأبو داود في الأدب (4431).
[8] أخرجه البخاري في الأذان (573), ومسلم في الصلاة (582).
[9] أخرجه البخاري في المناقب (3429), ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4906).
[10] أخرجه البخاري في التوحيد (6856), ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4832).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أمر بذكره, ورتب على ذلك عظيم أجره, والصلاة والسلام على أعظم الناس ذكرًا لربه, نبينا محمد وعلى آله وصحبه, ومن سار على دربه.
أما بعد: فاعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أن من فوائد الذكر أن الله عز وجل يباهي بالذاكرين ملائكته, كما في حديث أبي سعيد الخدري أن النبي قال لجماعة اجتمعوا يذكرون الله: (( أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم ملائكته )) [1].
ومن فوائد الذكر: أنه سبب لنزول الرحمة والسكينة, كما قال : (( وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله, يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم, إلا نزلت عليهم السكينة, وغشيتهم الرحمة, وحفتهم الملائكة, وذكرهم الله فيمن عنده )) [2].
ومن فوائده: أنه يورث المراقبة, حتى يُدخل العبد في باب الإحسان, فيعبد الله كأنه يراه.
ومن فوائد الذكر: أنه يورث الإنابة, وهي الرجوع إلى الله تعالى, فإنه متى أكثر العبد الرجوع إلى الله تعالى بذكره أورثه ذلك رجوعه إلى الله تعالى بقلبه في كل الأحوال, فيصير الله تعالى مفزعه وملجأه, وملاذه ومعاذه, وقبلة قلبه, ومهربه عند النوازل والبلايا.
ومن فوائده: أنه يزيل الوحشة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى, فإن الغافل بينه وبين الله حجاب كثيف, ووحشة لا تزول إلا بالذكر.
ومن فوائده: أنه سبب اشتغال اللسان عن الغيبة والنميمة, والكذب والفحش والباطل, فإن العبد لا بد له من أن يتكلم, فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى تكلم بهذه المحرمات, ولا سبيل إلى السلامة منها ألبتة إلا بذكر الله تعالى, والمشاهدة والتجربة شاهدان بذلك, فمن عود لسانه ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو, ومن يبس لسانه عن ذكر الله تعالى ترطب بكل باطل ولغو وفحش، ولا حول ولا قوة إلا بالله, ونفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل ولا بد.
ومن فوائد الذكر: أنه من أكبر العون على طاعته سبحانه, فإنه يحبب الطاعة إلى العبد ويسهلها عليه، يجعلها قرة عينه, فلا يجد في الطاعة من الكلفة والمشقة والعناء ما يجده الغافل.
ومن فوائده: أنه يسهل المصاعب, وييسر العسير, ويخفف المشاق, فما ذُكِر الله على صعب إلا هان, ولا على عسير إلا تيسر, ولا على شاق إلا خف, ولا على شدة إلا زالت, ولا كربة إلا انفرجت, وذلك لأن الذكر يذهب عن القلب المخاوف كلها, وله تأثير عجيب في حصول الأمن, فليس للخائف الذي قد اشتد خوفه أنفع من ذكر الله عز وجل, إذ بحسب ذكره يجد الأمن ويزول الخوف, قال الله تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
ومن أعظم فوائد الذكر: أنه ينبه القلب من نومه, ويوقظه من سِنَته, والقلب إذا كان نائمًا فاتته الأرباح والمتاجر, وكان الغالب عليه الخسران, فإذا استيقظ وعلم ما فاته في نومته شد المئزر, وأحيا بقية عمره, واستدرك ما فاته, ولا تحصل يقظته إلا بذكر.
أيها المؤمنون, هذه بعض فوائد الذكر الذي هو من أسهل الأعمال وأيسرها, وأقلها كلفة, فهلا عمرنا به الأوقات, وشغلنا به المشاهد والخلوات, عسى أن ندرك بعض هذه المناقب والخيرات, فإنه والله وبالله من أعظم الحرمان ومن أشد الخذلان أن يمضي الواحد منا الساعات إما صامتًا ساكتًا, أو متكلمًا فيما لا يعود عليه بنفع لا في الدنيا ولا في يوم المعاد, بل إنه قد أصبح من غرائب المشاهدات عند أكثر الناس أن يروا من يحرك شفتيه بالذكر في المجامع والخلوات, فما إن يروا من ذلك شيئًا إلا رمقه الناس بأبصارهم, وتابعوه بأنظارهم, وقد يسيء به بعضهم الظن, فينسبه إلى قلة العقل, أو غير ذلك من الأمراض, فإنا لله وإنا إليه راجعون.
[1] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4869).
[2] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4867).
(1/3099)
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الذكر في الكتاب والسنة. 2- مراتب الذكر. 3- فوائد الذكر. 4- اغتنام الأوقات في ذكر الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله, اتقوا الله, وأكثروا من ذكره, فإن ذكره سبحانه قوت قلوب الذاكرين, وهو قرة عيون الموحدين, وهو عدتهم الكبرى, وسلاحهم الذي لا يبلى, وهو دواء أسقامهم, الذي متى تركوه أصيبت منهم المقاتل, فانتكسوا على أعقابهم خاسرين.
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحيانًا فننتكس
فبالذكر يستدفع الذاكرون الآفات, ويستكشفون الكربات, وتهون عليهم المصيبات, فإليه الملجأ إذا ادلهمت الخطوب, وإليه المفزع عند توالي الكوارث والكروب, به تنقشع الظلمات والأكدار, وتحلّ الأفراح والمسرّات.
وقد أمر الله تعالى به المؤمنين فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]، وقال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]. وقد أثنى الله سبحانه وتعالى في كتابه على الذاكرين فقال تعالى: إِنَّ ?لْمُسْلِمِينَ وَ?لْمُسْلِمَـ?تِ وَ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَ?لْقَـ?نِتِينَ وَ?لْقَـ?نِتَـ?تِ وَ?لصَّـ?دِقِينَ وَ?لصَّـ?دِقَـ?تِ وَ?لصَّـ?بِرِينَ وَ?لصَّـ?بِر?تِ وَ?لْخَـ?شِعِينَ وَ?لْخَـ?شِعَـ?تِ وَ?لْمُتَصَدّقِينَ وَ?لْمُتَصَدّقَـ?تِ و?لصَّـ?ئِمِينَ و?لصَّـ?ئِمَـ?تِ وَ?لْحَـ?فِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ?لْحَـ?فِظَـ?تِ وَ?لذ?كِرِينَ ?للَّهَ كَثِيرًا وَ?لذ?كِر?تِ أَعَدَّ ?للَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].
وأما الأخبار عن النبي فقد دلت الأدلة على أن أفضل ما شغل العبدُ به نفسه في الجملة ذكر الله تعالى, فمن ذلك ما رواه أحمد وغيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم, وأزكاها عند مليككم, وأرفعها في درجاتكم, وخير لكم من إنفاق الذهب والوَرِق, وخير لكم من أن تلقوا عدوكم, فتضربوا أعناقهم, ويضربوا أعناقكم؟)) قالوا: بلى، قال: ((ذكر الله تعالى)) [1]. ومن ذلك أيضًا ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله يسير في طريق مكة, فمر على جبل يقال له جُمْدان, فقال : ((سيروا هذا جُمْدان, سبق المفرِّدون)) ، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: ((الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات)) [2].
ومما يظهر فضل الذكر وعلوَ مرتبته ما أخرجه الترمذي عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: ((لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله)) [3]. ومما يدل على ذلك أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يذكروه قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم, فقال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]. وهكذا كان النبي فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي يذكر الله على كل أحيانه [4].
أيها المؤمنون, اعلموا أن أعلى مراتب الذكر الذي أمر الله به هو ما تواطأ فيه القلب واللسان, واعلموا أن هذا الفضل العظيم والأجر الكثير ليس معلقًا على ذكر الشفة واللسان فحسب, بل لا يثبت هذا الأجر الموعود إلا على ذكر يتواطأ فيه القلب واللسان, فذكر الله إن لم يخفق به القلب, وإن لم تعش به النفس, وإن لم يكن مصحوبًا بالتضرع والتذلل والمحبة لله تعالى, فلن يكون سببًا لتحصيل هذه المزايا والفضائل.
وقد يسأل المرء: ما سر تفضيل الذكر على سائر أنواع وأعمال البر, مع أنه خفيف على اللسان ولا يحصل به تعب على الأبدان؟
فالجواب: إن سر هذا التفضيل هو أن الذكر يورث يقظة القلب وحياته وصلاحه, ولذلك قال النبي : ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت)) [5]. فالذكر حياة القلوب وصلاحها, والذكر للقلب كالماء للزرع, بل كالماء للسمك, لا حياة له إلا به. فإذا حييت القلوب وصَلَحت صلحت الجوارح واستقامت, قال النبي : ((ألا وإن في الجسد مضغة, إذا صَلَحت صَلَح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب)) متفق عليه [6].
فعليكم ـ عباد الله ـ بالإكثار من ذكره سبحانه, وعمارةِ الأوقات والأزمان بالأذكار والأوراد المطلقة والمقيدة, كقول: لا إله إلا الله, فإنها من خير الأقوال وأحبها إلى الله, أو قول: سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر, فإنها خير مما طلعت عليه الشمس, وغير ذلك من الأقوال التي تنمَّى بها الحسنات, وترفع بها الدرجات, وتوضع السيئات. فإن قصرت همتك وضعفت قوتك عن تلك المنازل الكبار فلا أقل من أن تحافظ على الأذكار المؤقتة والمقيدة, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأقل ذلك ـ أي: ما ينبغي على العبد المحافظة عليه من الأذكار ـ أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين , كالأذكار المؤقتة في أول النهار وآخره, وعند أخذ المضجع, وعند الاستيقاظ من المنام, وأدبار الصلوات. والأذكار المقيدة مثل ما يقال عند الأكل والشرب واللباس والجماع ودخول المنزل والمسجد والخلاء والخروج من ذلك وعند المطر والرعد وغير ذلك". وقد صنفت في ذلك بعض الكتيبات, فما عليك ـ أيها المبارك ـ إلا أن تقتني واحدًا من تلك المصنفات, وتواظب على المسابقة في الخيرات.
ومما يشحذ همتك ويلهب حماسك ويجذبك إلى ذكر مولاك أن تعلم أن للذكر فوائد كثيرة وعواقب حميدة لمن حافظ عليه وأكثر منه, وإليك بعض هذه الفوائد:
فمن فوائد الذكر الكبار: أنه يورث محبة الله سبحانه وتعالى, فالذكر باب المحبة وشارعها الأعظم وصراطها الأقوم, فكلما ازداد العبد لله ذكرًا ازداد له حبًا, فمن أراد أن يفوز وينال محبة الله تعالى فليلهج بذكره.
ومن فوائد ذكر الله تعالى: أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره, ويزيل الهم والغم والحزن, ويجلب للقلب الفرح والسرور والبسط, ففي الترمذي وأبي داود والنسائي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له حينئذ: هديت وكفيت ووقيت، وتنحى عنه الشيطان، فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل هدي وكفي ووقي)) [7].
وقد ثبت أن الشيطان يهرب من الأذان, ففي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضُراط, حتى لا يسمع التأذين, فإذا قضى النداء أقبل, حتى إذا ثُوِّب بالصلاة أدبر, حتى إذا قضى التثويب أقبل, حتى يَخْطِر بين المرء ونفسه, يقول: اذكر كذا, اذكر كذا, لما لم يكن يذكر, حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى)) [8].
ومنها: أنه يكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة, ويمده بالقوة في قلبه وبدنه, حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لا يفعله بدونه, ولذلك علم النبي ابنته فاطمة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثًا وثلاثين, ويحمدا ثلاثًا وثلاثين, ويكبرا أربعًا وثلاثين, لما سألته أن يعطيها خادمًا, وقال: ((فهو خير لكما من خادم)) [9].
ومنها: أن الذكر يورث ذكر الله تعالى للعبد, قال الله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]. وفي الحديث القدسي قال تعالى: ((فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)) [10].
[1] أخرجه أحمد من حديث أبي الدرداء (20713).
[2] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4834).
[3] أخرجه الترمذي في الدعوات (3297).
[4] أخرجه مسلم في الحيض (558).
[5] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1299).
[6] أخرجه البخاري في الإيمان (50), ومسلم في المساقاة (2996).
[7] أخرجه الترمذي في الدعوات (3348), وأبو داود في الأدب (4431).
[8] أخرجه البخاري في الأذان (573), ومسلم في الصلاة (582).
[9] أخرجه البخاري في المناقب (3429), ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4906).
[10] أخرجه البخاري في التوحيد (6856), ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4832).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أمر بذكره, ورتب على ذلك عظيم أجره, والصلاة والسلام على أعظم الناس ذكرًا لربه, نبينا محمد وعلى آله وصحبه, ومن سار على دربه.
أما بعد: فاعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أن من فوائد الذكر أن الله عز وجل يباهي بالذاكرين ملائكته, كما في حديث أبي سعيد الخدري أن النبي قال لجماعة اجتمعوا يذكرون الله: ((أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم ملائكته)) [1].
ومن فوائد الذكر: أنه سبب لنزول الرحمة والسكينة, كما قال : ((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله, يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم, إلا نزلت عليهم السكينة, وغشيتهم الرحمة, وحفتهم الملائكة, وذكرهم الله فيمن عنده)) [2].
ومن فوائده: أنه يورث المراقبة, حتى يُدخل العبد في باب الإحسان, فيعبد الله كأنه يراه.
ومن فوائد الذكر: أنه يورث الإنابة, وهي الرجوع إلى الله تعالى, فإنه متى أكثر العبد الرجوع إلى الله تعالى بذكره أورثه ذلك رجوعه إلى الله تعالى بقلبه في كل الأحوال, فيصير الله تعالى مفزعه وملجأه, وملاذه ومعاذه, وقبلة قلبه, ومهربه عند النوازل والبلايا.
ومن فوائده: أنه يزيل الوحشة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى, فإن الغافل بينه وبين الله حجاب كثيف, ووحشة لا تزول إلا بالذكر.
ومن فوائده: أنه سبب اشتغال اللسان عن الغيبة والنميمة, والكذب والفحش والباطل, فإن العبد لا بد له من أن يتكلم, فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى تكلم بهذه المحرمات, ولا سبيل إلى السلامة منها ألبتة إلا بذكر الله تعالى, والمشاهدة والتجربة شاهدان بذلك, فمن عود لسانه ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو, ومن يبس لسانه عن ذكر الله تعالى ترطب بكل باطل ولغو وفحش، ولا حول ولا قوة إلا بالله, ونفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل ولا بد.
ومن فوائد الذكر: أنه من أكبر العون على طاعته سبحانه, فإنه يحبب الطاعة إلى العبد ويسهلها عليه، يجعلها قرة عينه, فلا يجد في الطاعة من الكلفة والمشقة والعناء ما يجده الغافل.
ومن فوائده: أنه يسهل المصاعب, وييسر العسير, ويخفف المشاق, فما ذُكِر الله على صعب إلا هان, ولا على عسير إلا تيسر, ولا على شاق إلا خف, ولا على شدة إلا زالت, ولا كربة إلا انفرجت, وذلك لأن الذكر يذهب عن القلب المخاوف كلها, وله تأثير عجيب في حصول الأمن, فليس للخائف الذي قد اشتد خوفه أنفع من ذكر الله عز وجل, إذ بحسب ذكره يجد الأمن ويزول الخوف, قال الله تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
ومن أعظم فوائد الذكر: أنه ينبه القلب من نومه, ويوقظه من سِنَته, والقلب إذا كان نائمًا فاتته الأرباح والمتاجر, وكان الغالب عليه الخسران, فإذا استيقظ وعلم ما فاته في نومته شد المئزر, وأحيا بقية عمره, واستدرك ما فاته, ولا تحصل يقظته إلا بذكر.
أيها المؤمنون, هذه بعض فوائد الذكر الذي هو من أسهل الأعمال وأيسرها, وأقلها كلفة, فهلا عمرنا به الأوقات, وشغلنا به المشاهد والخلوات, عسى أن ندرك بعض هذه المناقب والخيرات, فإنه والله وبالله من أعظم الحرمان ومن أشد الخذلان أن يمضي الواحد منا الساعات إما صامتًا ساكتًا, أو متكلمًا فيما لا يعود عليه بنفع لا في الدنيا ولا في يوم المعاد, بل إنه قد أصبح من غرائب المشاهدات عند أكثر الناس أن يروا من يحرك شفتيه بالذكر في المجامع والخلوات, فما إن يروا من ذلك شيئًا إلا رمقه الناس بأبصارهم, وتابعوه بأنظارهم, وقد يسيء به بعضهم الظن, فينسبه إلى قلة العقل, أو غير ذلك من الأمراض, فإنا لله وإنا إليه راجعون.
[1] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4869).
[2] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4867).
(1/3100)
الإخلاص وفوائده
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الإخلاص في الإسلام. 2- أسباب الإخلاص. 3- فوائد الإخلاص.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله, وخير الهدي هدي محمد , وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة.
أيها الناس, اتقوا الله وأطيعوه, فإنه تعالى أمركم بذلك فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
أيها الإخوة الكرام, إن الله تعالى خلق الخلق لعبادته, وبعث الرسل إلى الناس ليعبدوه وحده لا شريك له, قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، وقال جل ذكره: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].
وعبادة الله سبحانه وتعالى لا تقوم إلا بالإخلاص له, فالإخلاص هو حقيقة الدين ولب العبادة وشرط في قبول العمل, وهو بمنزلة الأساس للبنيان, وبمنزلة الروح للجسد, ولذلك لما كانت أعمال الكفار لا توحيد فيها ولا إخلاص, جعلها الله تعالى هباءً منثورًا, قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]. وهذا الإبطال والإحباط نصيب كل من لم يخلص العمل لله تعالى وقصد غيره, قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُون أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15، 16].
فيا خيبة من جاء بأعمال مثل الجبال, يجعلها الله هباء منثورًا, ويكبه على وجهه في النار, فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: ((إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد, فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها, قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت, قال: كذبت, ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء, فقد قيل, ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلّمه, وقرأ القرآن, فأتي به فعرفه نعمه فعرفها, قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلّمته, وقرأت فيك القرآن, قال: كذبت, ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم, وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ, فقد قيل, ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسّع الله عليه, وأعطاه من أصناف المال كله, فأتي به فعرفه نعمه فعرفها, قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحبّ أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك, قال: كذبت, ولكنك فعلت ليقال: هو جواد, فقد قيل, ثم أمر به فسحب على وجهه, ثم ألقي في النار)) [1] نعوذ بالله من الخذلان.
فسبحان من لا تخفى عليه خافية, بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور, فإن المرء مهما ضلّل الناس وخدعهم ظاهره وصورته، فإن هذه الظواهر والصور وهذا التزييف والتضليل لا يغني عنه شيئًا. أما عند الله تعالى فقد قال في كتابه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142]، وقد قال النبي : ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم, ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) [2].
أما الناس فسرعان ما ينكشف الستار, وتبدو الحقيقة للأنظار, إما في الدنيا أو في دار القرار, قال الله تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ [الرعد:17].
أيها المسلمون, اعلموا أن من أعظم أسباب تخلّف الإخلاص وغيابه في الأعمال هو طلب الدنيا, أو محبة المدح والثناء, قال ابن القيم رحمه الله: "لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت"، وقال رحمه الله: "فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص, فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس, وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة, فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص, فإن قلت: وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك يقينك أنه ليس شيء يطمع فيه إلا هو بيد الله وحده, لا يملكه غيره, ولا يؤتي العبد منه شيئًا سواه. وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمه ويشين إلا الله وحده, فازهد في مدح من لا يزينك مدحه, وفي ذم من لا يشينك ذمه, وارغب في مدح من كل الزين في مدحه, وكل الشين في ذمه".
فإذا جاهد العبد نفسه حتى زهد في الدنيا, وفي مدح الناس وثنائهم, وقصد الله في عمله, كان من أهل الإخلاص الذين أعمالهم كلها لله تعالى, وأقوالهم لله, وحبهم لله, وبغضهم لله, فمعاملتهم ظاهرًا وباطنًا لوجه الله وحده, لايريدون بذلك من الناس جزاءً ولا شكورًا, ولا ابتغاء الجاه عندهم, ولا طلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم, ولا هربًا من ذمهم, وبهذا تكون أقوى الناس, لأن وليك حينئذ هو مولاك القوي المتين, وبهذا تكون من أهل الكرامة في هذه الدار, وفي دار الجزاء.
[1] أخرجه مسلم في الإمارة (3527).
[2] أخرجه مسلم في البر والصلة (4651).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون, إن لإخلاص العمل لله تعالى فوائد كثيرة, أذكر بعضها, عسى أن تكون حافزة لنا إلى مزيد من الاجتهاد, والعمل في تحقيق الإخلاص لله تعالى في الأقوال والأعمال.
اعلموا أن من فوائد الإخلاص: أن الأقوال والأعمال لا تقبل إلا إذا صاحَبها الإخلاص, فالأعمال مهما حسن أداؤها إذا لم يصاحبها إخلاص لله تعالى فهي مردودة حابطة, فعن أبي أمامة مرفوعًا: ((إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا، وابتغي به وجهه)) [1]. وكذلك الأقوال, قال النبي في وصف أسعد الناس بشفاعته يوم القيامة: ((من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه)) [2].
ومنها: أن الإخلاص سبب لقوة القلب, ورباطة الجأش, وتحمل أعباء العبادة وتكاليف الدعوة, ولو تأمل الواحد منا حال بعض المخلصين الصادقين لتبين له ذلك, فمن ذلك رباطة جأش النبي وقوته, مع توافر أسباب الهلاك عليه, حيث قال لصاحبه وهو في الغار: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].
فالإخلاص والصدق مع الله تعالى يعين على النهوض بالحق ومجابهة الباطل, مهما عظمت قوة الباطل, فهذا نبي الله هود لم تكن له آية بارزة كما كان لغيره من الأنبياء, دعا قومه إلى عبادة الله وحده, وترك عبادة ما سواه, فجادله قومه, وقالوا كما قص الله علينا نبأهم في كتابه: قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِين إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود:53-55].
ومنها: أن من فوائد الإخلاص التخلص من كيد الشيطان وتسلطه, قال الله تعالى إخبارًا عما قاله إبليس لما طلب أن ينظره ربّ العالمين: إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:40].
ومنها: أنه سبب لصرف السوء والفحشاء, قال تعالى في قصة يوسف: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].
ومنها: أن العمل القليل مع الإخلاص سبب للفوز برضا الله تعالى, ومن أمثلة ذلك قوله : ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)) [3] , فشق التمرة مع الإخلاص يقي النار بمنة الكريم المنان, وأطنان التمر مع الرياء تولج أسفل النيران, قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145].
قال ابن القيم رحمه الله:
واللهُ لا يرضى بكثرة فعلنا لكن بأحسَنه مع الإيمان
فالعارفون مرادهم إحسانه والجاهلون عموا عن الإحسان
بقي من الفوائد: أن العبد ينصر بإخلاصه, قال النبي فيما أخرجه النسائي عن مصعب بن سعد رأى سعد بن أبي وقاص أن له فضلاً على من دونه: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم)) [4].
أيها الإخوة المؤمنون, اعلموا ـ وفقكم الله ـ أن الأعمال والطاعات لا تتفاضل بصورها وعددها, وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب, فتكون صورة العملين واحدة, وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض, والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدًا, وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض, فعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عُشر صلاته، تُسعها، ثمنها، سُبعها، سُدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها)) [5]. فيا إخواني عليكم بتصحيح النيات والأعمال لله تعالى.
[1] أخرجه النسائي في الجهاد (3089).
[2] أخرجه البخاري في العلم ( 97).
[3] أخرجه البخاري في الزكاة (1328).
[4] أخرجه النسائي في الجهاد (3127).
[5] أخرجه أبو داود في الصلاة (675).
(1/3101)
الحنين إلى بيت الله الحرام
فقه
الحج والعمرة
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حلول موسم الحج. 2- الشوق إلى بيت الله الحرام. 3- ميزة السفر للحج.
_________
الخطبة الأولى
_________
هبَّت في أيَّامكم هذه على قلب كلِّ مؤمن نسيم الشوق إلى الله تعالى، أما شعرتم ـ أيُّها المسلمون ـ أنَّكم في أيَّام مباركات ذكرها الله تعالى في كتابه فقال: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [الحج:197]، فالأشهر المعلومات هي هذه الأشهر الثلاثة التي يُهَلُّ فيها بالحجّ.
ولا شكَّ أنَّ المؤمن في هذه الأيَّام المباركة تتحرَّك نفسه شوقًا إلى بيت الله الحرام، لأداء فريضة الحجِّ والعمرة، استكمالا لمباني الإسلام.
يذكر عن بعض الصالحات أنَّها حين وصلت إلى مكَّة بقيت تقول لرفقائها: أروني بيت ربِّي؟ أين بيت ربِّي؟ قيل لها: الآن ترينه، فلمَّا رأته اشتدَّت نحوه فالتزمته وفاضت عيناها من شدَّة الشوق، وليس بها الشوق إلى البيت، ولكن إلى ربَّ البيت، فاستذكرتها رؤية بيت الله رؤيةَ الله يوم القيامة، فلم تزل على تلك الحال حتَّى خرجت روحها فماتت.
أيُّها المسلمون، إنَّنا نؤمُّ هذا البيت خمس مرات في اليوم، فلا تزال قلوبنا متَّصلة به كلَّ يوم باستمرار، فلا غرو أن تدفع هذه الصلة المستمرَّة قلب المؤمن إلى توقان نفسه للتوجُّه إلى بيت الله حتَّى يمتع بصره بالنظر إليه والطواف به والتماس الحجر الأسود الذي هو بمنزلة يمين الله في الأرض.
ولذا تجد قلوب الصالحين تحنُّ إليه، لا ينقطع شوقها إليه حتَّى تلتزمه وتطوف به، كما تطوف الملائكة حول البيت المعمور في السماء.
تتأهَّب في هذه الأيام نفوسٌ اكتملت لديها أسابب الاستطاعة، للسفر إلى بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج والعمرة.
إنَّ السفر للحجِّ والعمرة ليس كمثل سائر الأسفار، المسافر إلى بيت الله مسافرٌ إلى ربِّه على جناح الشوق والمحبَّة، يقطع في سفره بقلبه مسافات ومنازل ليست كمسافات الأرض التي يقطعها ببدنه، إنَّها مسافة الدنوِّ والاقتراب إلى الله في المكان الذي يتقرَّب فيه من عباده ويدنو منهم، والعبد في سفره هذا ينزل بقلبه منازل تغمر روحه بمشاعر الأنس بالله والفرح به وبمناجاته والسرور بقربه والفوز برضوانه ومغفرته، إنَّه سفر فوق الوصف، تقصر دونه العبارات.
قيل لامرأة خرجت مسافرة: إلى أين؟ قالت: إلى الحج إن شاء الله، فقيل لها: إنَّ الطريق بعيد، فقالت: بعيد على كسلان أو ذي ملالة، فأمَّا على المشتاق فهو قريب.
وقد جرت للصالحين حين ركوبهم لسفر الحج أحوال من الخوف تارة والشوق والمحبة تارة أخرى، وقلب المؤمن يتقلَّب بين هاتين المنزلتين.
فذكر عن علي بن الحسين أنَّه حجَّ، فلمَّا أحرم واستوت به راحلته اصفرَّ لونه وارتعد ولم يستطع أن يلبِّي، فقيل: ما لك؟ قال: أخشى أن يقول لي: لا لبيك ولا سعديك، فلمَّا لبَّى غشي عليه. ويذكر نحو هذا عن جعفر الصادق وغيره.
ويذكر عن بعض الصالحين حين ركب دابَّته في سفر الحجِّ أخذه البكاء فقيل: لعلَّه ذكر عياله ومفارقته إياهم، فسمعهم فقال: يا أخي، والله ما هو ذاك، وما هو إلاَّ لأنِّي ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة، وعلا صوته بالنحيب والبكاء، وهيَّج من حوله بالبكاء.
فها أنتم ـ أيُّها المسلمون ـ في موسم من مواسم الخير عظيم، رتب الله عليه الثواب الجزيل والأجر الكثير لمن أداه فأحسن.
واعلموا ـ عباد الله ـ أنَّ من أعظم حقوق الإسلام ومبانيه حج بيت الله الحرام، قال تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27].
هذا ما تسمعون وبالله التوفيق.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3102)
أحكام الأضحية
فقه
الذبائح والأطعمة
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل ذي الحجة. 2- حكم الأضحية. 3- شروط الأضحية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيُّها المسلمون، أنتم في الأسبوع الأخير من شهر ذي القعدة، ثم يليه شهر ذي الحجَّة، وهو أعظم الأشهر حرمة عند الله تعالى، فيه العشرة الأيَّام الأولى قبل عيد الأضحى، التي هي أفضل أيَّام العام، والعمل الصالح فيها أعظم أجرًا ممَّا سواها، واليومان التاسع والعاشر يومان عظيمان، بل هما أعظم الأيام عند الله عزَّ وجل، فالتاسع هو يوم عرفة وهو يوم القر، والعاشر يوم عيد الأضحى وهو يوم الحج الأكبر.
فقد روى الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما بسند صحيح من حديث عبد الله بن قرط الثمالي عن النبيِّ قال: ((إنَّ أعظم الأيَّام عند الله يوم النحر، ثمَّ يوم القر)).
ولهذا أقسم الله بهما في قوله تعالى: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [الفجر:3]. فالشفع يوم النحر، والوتر يوم عرفة. فهما أعظم الأيام حرمة وأعظمها بركة. كما أنَّ ليلة القدر هي أفضل الليالي وأعظمها حرمة وبركة.
والحديث عن عظمة هذين اليومين وما فيهما من البركات يطول جدا، ولا يتَّسع له هذا المقام، ولكن سأتكلَّم عن منسكين يتعلَّقان بيوم النحر.
فقد خصَّ الله تعالى هذا اليوم بمناسك يتقرَّب بها عباده إليه، ففي هذا اليوم يعمل الحجَّاج أكثر أفعال الحج من رمي الجمار وذبح القرابين وحلق الرؤوس وطواف الإفاضة والسعي بين الصفا والمروة. وأمَّا غير الحجاج فعليهم في هذا اليوم منسكان عظيمان: صلاة العيد والأضحية.
وإذ نحن على مقربة من هذا اليوم فينبغي على كلِّ مسلم أن يتهيَّأ لأداء هذين المنسكين على أحسن الوجوه وأكملها، من الإخلاص والاتباع اللذين هما شرط القبول في كل عمل صالح.
أمَّا المنسك الأول وهو صلاة العيد فقد شرحت لكم أحكامها في خطبة مضت.
وأمَّا المنسك الآخر الأضحية فهذا أوان بيانه:
فالأضحية هي شاةٌ يُتقرَّب بذبحها إلى الله تعالى بعد صلاة العيد، وهي سنَّة مستحبَّة على أهل كلِّ بيت من المسلمين، ممَّن وسَّع الله عليه في المال. وليست بواجبة لعدم الدليل على الوجوب، فإنَّ الاستدلال بحديث: ((على أهل كلِّ بيت في كلِّ عام أضحية)) الذي رواه أحمد وغيره من وجهين ليس بصحيح، وكذا حديث: ((من كان له سعة ولم يضحِّ فلا يقربنَّ مصلاَّنا)) رواه أحمد وابن ماجة والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعًا، فالصواب أنَّه موقوف.
ولا يدلُّ على وجوبها أيضًا قول النبيِّ : ((من ذبح قبل أن يصلِّي فليعد مكانها أخرى، ومن لم يذبح فليذبح)) رواه البخاري ومسلم، فهذا ليس صريحًا في الوجوب، بل هو أمر معلَّق بالشرط لبيان صفة الحكم، ولو أفاد الوجوب لكان السلف أسبق إلى فهم ذلك وتبليغه.
وعلى هذا جمهور الأئمة من السلف والخلف، أنَّ الأضحية سنة مستحبة لمن قدر عليها، غير واجبة. ولا يصح عن الصحابة غير هذا، وكفى أنَّه قول أبي بكر وعمر اللذين أمرنا بالاقتداء بهما.
وإذا علم هذا، فاعلم أخا الإيمان إذا كنت عاجزًا عن الذبح غير قادر على ثمن الأضحية كما هو شأن كثير منَّا بل كما هو حال أكثرنا، فإن كانت لك نيَّة صحيحة على إرادة التقرب إلى الله بالذبح فإنَّه سينالُك أجرها بتضحية غيرك. نعم، فإنَّ رسول الله ذبح كبشين وقال: ((اللهمَّ هذا عنِّي وعمَّن لم يضحِّ من أمَّتي)) رواه أبو داود وأحمد والحاكم.
ويتعلَّق بالأضحية آداب وأحكام وسنن نبيِّنها بعد حين، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
قد علمتم ما تقدم، فاعلموا أنَّه لا يجوز ذبح الشاة قبل صلاة العيد، فمن ذبحها قبل صلاة العيد أعاد كما تقدَّم.
وكلُّ أيَّام التشريق يجوز فيها الذبح، وهي الأيام الثلاثة التي بعد يوم العيد، فيجوز تأخير الذبح إلى اليوم الثالث بعد العيد، لقول النبيِّ : ((كلُّ أيَّام التشريق ذبح)) وهو حسن بطرقه.
ولا يجوز من الأضحية إلاَّ ما بلغ السنَّ المطلوب، وسلم من العيوب.
فالسنُّ المطلوب من الضأن ـ أي: الكبش ـ الجذعُ، وهو ما أكمل سنة، وقيل: ما جاوز ستة أشهر. ومن المعز ما استكمل سنتين.
وأمَّا السلامة من العيوب، فكما رواه مالك في الموطأ وأصحاب السنن بسند صحيح عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله : ((أربعٌ لا تجزي: ـ ويدي أقصر من يده ـ العوراء البيِّن عورها، والعرجاء البيِّن ضلعها، والمريضة البيِّن مرضها، والكسير التي لا تنقي)) أي: لضعفها وهزالها، وقال علي بن أبي طالب: أمرنا رسول الله أن نستشرف العين والأذن. وهو حديث صحيح بمجموع طريقيه.
والمستحبُّ من الأضحية الكبش الأقرن الأملح، أي: الأبيض الذي يخالطه لون أسود حول عينيه وفي قوائمه، لما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة أنَّ رسول الله أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد. ومعنى الحديث أنَّ قوائمه الأربعة وبطنه وما حول عينيه أسود اللون.
ويكره التباهي بالأضاحي، فإنَّ الكبش الواحد يجزئ عن الرجل وعن أهل بيته، ولو كثر عددهم.
قال أبو أيوب الأنصاري: كان الرجل في عهد رسول الله يضحِّي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويُطعمون، حتَّى تباهى الناس فصاروا كما ترى. رواه مالك والترمذي وابن ماجة بسند حسن.
هذا وإنَّ من عجيب أمر الناس اليوم أنَّك تجد الغنيَّ الثريَّ يمتنع عن الضحية إمَّا شحًّا وإمَّا كبرًا. وتجد الفقير البائس يستقرض ويستدين ويتكلَّف المشاقَّ من أجل أن يضحِّي، فإن كانت نيَّته المباهاة فقد خسر، وإن كانت نيَّته التقرب إلى الله، فإنَّ الله تعالى لم يكلِّفه ما لا يستطيع، وقد نال المحروم أجره بتضحية غيره. وعلى كلٍّ فإنَّما الأعمال بالنيَّات، ولكلِّ امرئ ما نوى.
وبعد: فهذه عُدَّة علميَّة لتستعدُّوا بها على أداء منسك الأضحية أحسن أداء وأكمله إخلاصًا لرب العالمين واتباعًا لسنَّة خاتم النبيِّين، صلَّى الله وسلَّم عليه وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربِّ العالمين. أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(1/3103)
ذم الفرقة والاختلاف
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
فرق منتسبة, قضايا دعوية
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرص النبي على الاجتماع والتآلف. 2- الخلاف المذموم. 3- الخلاف في المسائل الاجتهادية. 4- السبيل إلى تضييق دائرة الخلاف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يقول الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].
معاشر المسلمين، إنَّ قلوبنا تعاني اختلافًا كبيرا وفُرقة خطيرة، وهذا ضد ما أمرنا به الله في كتابه من اجتماع الكلمة ووحدة الصف، والحرص على اجتناب كلِّ ما يوجب الفرقة بين المسلمين.
فلقد كان رسول الله يحرص على الاجتماع والتآلف، حتَّى في أدق الأمور، فقال ابن مسعود: كان رسول الله يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: ((لا تختلفوا فتختلف قلوبكم. ليليني منكم أولو الأحلام والنهى، ثمّ الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) رواه مسلم، وروى أبو داود بسند صحيح عن أبي ثعلبة الخشني قال: كان الناس إذا نزلوا منزلا تفرَّقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله : ((إنَّ تفرُّقكم في هذه الشعاب والأودية إنَّما ذلكم من الشيطان)) ، فلم ينزل بعد ذلك منزلاً إلاَّ انضمَّ بعضه إلى بعض، حتَّى يقال: لو بسط عليهم ثوب لعمَّهم.
روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: خرج رسول الله ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: ((خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)).
وهذا عبد الله بن مسعود عندما صلَّى بهم عثمان بمنى أربع ركعات قال ابن مسعود: صليتُ مع رسول الله ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، فيا ليت لي ركعتين مقبولتين، فقيل له: ألا صليت ركعتين؟! قال: الخلاف شر. رواه البخاري بمعناه.
وليس الخلاف جنسًا واحدًا كلُّه شرّ، كما قد يتبادر إلى ذهن من لا يحقِّق، بل الخلاف منه ما يوجب التفرُّق في الدين، وهو الاختلاف الواقع بين ملَّة الإسلام وما سواه من الأديان والملل، وهو اختلاف بين الكفر والإيمان، ثمَّ الاختلاف الواقع بين أهل السنَّة والجماعة وبين أهل الأهواء والبدع، وهو اختلاف بين السنَّة والبدعة.
فهذا هو الخلاف المذموم، وكلُّه شرٌّ وفتنة ونقمة، وليس هو برحمة، وهو الذي قال الله فيه: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118، 119]. فهذا الذي نهينا عنه، لأنَّه يوجب الفُرقة والاختلاف، ويمنع من الجماعة والائتلاف.
وأمَّا الخلاف الواقع بين العلماء من الصحابة ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة، فهذا ليس كلُّه مرفوضًا، بل منه ما هو تنوّع وليس باختلاف، ومنه ما هو تناقض أو تضادّ، فهذا عامَّته اختلاف اجتهادي، والعلماء معذورون فيه، ولذلك فلا يجوز الإنكار على المخالف لأنَّه لا ينقض اجتهاد باجتهاد، ولا يحجر على رأي برأي. فهذا النوع من الخلاف هو من توسعة الله على هذه الأمة ورحمته، كما وسّع عليهم في تنوُّع بعض العبادات وحروف القرآن، فأنزله على سبعة أحرف، ثمَّ جمعهم على مصحف عثمان، وكذلك كان من رحمته أن يسَّر لهم سبيل الفقه في الدين والعمل به، فجمعهم على أربعة مذاهب فقهيَّة مضبوطة محرَّرة محفوظة، فلا ينكر حنفيٌّ على مالكيٍّ، ولا شافعي على حنبليٍّ، ولا بعضهم على بعض، كما كان الأئمَّة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل إخوة متحابين متآلفين يستفيد المتأخِّر منهم من سابقه، وهذه المذاهب لا يخرج الحقُّ في المسائل والدلائل عن واحد منها، وبأيِّها تفقّه الطالب أجزأه.
ومع هذا فباب البحث والمناصحة والمناقشة يبقى مفتوحًا، سواء في ذلك الدلائل أو المسائل، ما تعلَّق بالرواية أو بالدراية، وسواء في ذلك مسائل الاعتقاد التي سبيلها الاجتهاد أو مسائل الأحكام، وليبقى باب الاجتهاد في التوصُّل إلى الراجح أو الأرجح والأصوب مفتوحًا إلى قيام الساعة، كما هو مفتوح في قضايا النوازل إلى آخر الدهر.
وإنَّما المذموم هو العصبيَّة لواحد منها بعينه وامتحان الناس به، ونصب العداوة لما سواه، فهذه هي الفُرقة في الدين التي نهينا عنها، والتي نهى عنها أرباب المذاهب أنفسهم.
ومع هذا فالسعي إلى تضييق دائرة الخلاف حسن، والسبيل إلى ذلك كما نبيِّنه بعد حين، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
إنَّ السبيل إلى تضييق دائرة الخلاف يكون بما يلي:
أوَّلاً: ردُّ الخلافات كلِّها إلى حكم الله وهو كتابه وسنة نبيِّه، كما أدَّبنا الله تعالى بذلك فقال: فإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]، وقال: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10].
ثانيًا: كِلة الأمر إلى أهله، فأهل العلم هم الذين يدرسون القضايا ويستنبطون أحكامها، وهم الذين يُصدرون فيها القرارات، وعنهم تصدر الأمَّة في جميع شؤونها، قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، وقال: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83].
ولكن ربَّما بعض طلبة العلم فضلاً عمَّن دونهم من صبيان الطلبة، ربَّما رضي بما عنده من العلم، وأصبح يجادل به كلَّ من يخالفه، وهذا سبب من أسباب الفُرقة والاختلاف. وأنت إذا كنت طالب علم، فنظرت إلى قصورك، بل إلى عدم بلوغك رتبة العلماء المبرَّزين في شتَّى فنون العلم، شُغلت بنفسك عن انتقاد الآخرين.
ويساعدك على هذا أن تنظر إلى اختلاف الصحابة فمن بعدهم من التابعين والأئمَّة المتبوعين، إذا نظرت إلى اختلافهم حملت مخالفك على السلامة، ولم تطالبه بالخضوع لرأيك، وعلمت أنَّك بمطالبته للخضوع لرأيك تدعوه إلى تعطيل فهمه وعقله، وتدعوه إلى تقليدك، وأصل التقليد في الدين حرام.
وإذا نظرت إلى أحوال المجتمع الذي تعيش فيه، وما يتخبَّط فيه من الجهل بأهمِّ حقائق الإسلام، شغلت عن مخالفة أخيك الذي يخالفك في مجرَّد الفهم لآية أو حديث، أو في علَّة قد توهن الحديث وقد لا توهنه، وقدَّمت الأهمَّ فالأهم، فإنَّ النبيَّ حين بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: ((ليكن أوَّل ما تدعوهم إلى شهادة ألا إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله...)) الحديث متفق عليه.
وحسبك أن تعلم أنَّ الاختلاف لا انفكاك عنه لأحد، فهذه ملائكة الرحمن يختلفون ويختصمون، كما قال تعالى: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإٍ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ [ص:67-69]، وكذلك الأنبياء يختلفون، فهذا نبي الله سليمان خالف أباه النبي داود عليهما السلام في الحكم بين امرأتين اختصمتا في صبي؛ تدَّعي كل واحدة أنَّه ابنها، والقصة في الصحيحين، وخالفه أيضًا في غير ذلك كما قال تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:78، 79].
فدع عنك ـ أخا الإسلام ـ الاشتغال بالتنابز والتدابر والتهاجر والتقاطع بسبب الاختلاف في أمور لا توجب ذلك، واذكر قول النبيِ : ((إنَّ الشيطان قد أيس أن يعبده المصلُّون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)) رواه مسلم.
وإذا لم يردعك هذا فما أنت إلاَّ واحد من دجَّالين وفتانين كانوا قبلك وسيكونون بعدك، خلقهم الله لذلك، وجعلهم فتنة للناس، كالأفاعي ينفثون سمًّا ثمَّ يهلكون. والله المستعان.
(1/3104)
التحذير من العصبيات الجاهلية
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, الولاء والبراء, مساوئ الأخلاق
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العز والمجد في التمسك بالدين. 2- حال العرب قبل الإسلام. 3- إثارة الأعداء للنعرات العرقية بين المسلمين. 4- النهي عن المفاخرة بالأنساب. 5- فضائل البربر وبيان بعض علمائهم. 6- فضل العرب.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].
أيُّها المسلمون، لقد أعزَّنا الله بالإسلام، وبالإسلام فقط، لا بلسان ولا بلهجة، ولا بلون ولا بجنس، ولا بعِرق ولا بنسب، ولا بإقليم ولا بوطن ولا بقوم، وإنَّه من ابتغى العزة في غير الإسلام فإنَّ الذلّ والصغار مآله ولا بد. وكيف يقدّس الله أمَّة أنعم عليها بعزة الإسلام فنبذته وراء ظهرها، وتطلَّبت العزة والشرف في غيره؟! تارة في تقليد ملَّتَي الغضب والضلالة من اليهود والنصارى، حتَّى لو دخلوا جحر ضب اتبعوهم، وتارةً ينبِّشون في مقبرة التاريخ لعلَّهم يجدون عظْمة عظيم ينتسبون إليه ويتمجَّدون به. يتمجَّدون بالأسلاف، لا بأسلاف الإسلام ولكن بأسلاف الجاهلية. وإن كان أولئك الأسلاف في غاية من الجهل والضلالة، عساهم يكتسون لباس العظمة والمجد والشرف بذلك، كما هو شأن أهل الجاهلية سواء بسواء.
فيا للغباوة، إنَّ المجد والعظمة لا تكتَسَب بالانتساب إلى العظماء، فكيف بالانتساب إلى أهل الجاهليَّة الذين حرموا نعمة الإسلام، ولم ينعموا بعزَّته وعظمته ومجده؟!
فالعزة والمجد والعظمة لمن تمسَّك بالإسلام، والذلُّ والمهانة والمسكنة والصغار على من أبى الإسلام بعد أن أنعم الله به عليه.
فقد روى الحاكم بسند صحيح عن ابن شهاب قال: خرج عمر بن الخطاب إلى الشام ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فأتوا على مخاضة وعمر على ناقة، فنزل عنها، وخلع خفَّيه، فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، أأنت تفعل هذا؟! تخلع خفَّيك، وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟! ما يسرُّني أنَّ أهل البلد استشرفوك، فقال عمر: (أوَّه! لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً لأمَّة محمَّد ، إنَّا كنَّا أذلَّ قوم فأعزَّنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزَّ بغير ما أعزَّنا الله به أذلَّنا الله)، وفي رواية: يا أمير المؤمنين، تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالك هذه؟! فقال عمر: (إنا قوم أعزَّنا الله بالإسلام، فلن نبتغي العزَّ بغيره).
وقال رسول الله : ((أتاني جبريل فقال: يا محمَّد، عش ما شئت فإنَّك ميِّت، وأحبب من شئت فإنَّك مفارقه، واعمل ما شئت فإنَّك مجزيٌّ به، واعلم أنَّ شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزُّه استغناؤه عن الناس)) رواه الطبراني وغيره وهو حسن بشواهده.
هذا هو العز والشرف، ومن أين لك الشرف إذا كنت تنتسب إلى أقوام لم ينعم الله عليهم بنعمة الإسلام؟!
ثم انظروا ـ وفقكم الله ـ إلى الإمام المفسر قتادة بن دعامة رحمه الله وهو يصف حال العرب قبل الرسالة وهو يتلو قول الله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا [آل عمران:103]، يقول قتادة: "كان هذا الحي من العرب أذلّ الناس ذلا وأشقاه عيشا وأبينه ضلالة وأعراه جلودا وأجوعه بطونا بين فكي أسد فارس والروم، لا والله ما في بلادهم يومئذ شيء يحسَدون عليه، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات ردي إلى النار، يؤكلون ولا يأكلون. والله، ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض كانوا فيها أصغر حظا وأضعف شأنا منهم، حتى جاء الله عز وجل بالإسلام، فورثكم به الكتاب، وأحل لكم به دار الجهاد، ووضع لكم به الأرزاق، وجعلكم به ملوكا، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا نعمته، فإن ربكم منعم يحب الشاكرين، وإن أهل الشكر في مزيد من الله، فتعالى ربنا وتبارك".
فوالله، هذا حال كلِّ أمَّة من العرب أو الفرس أو الروم أو البربر أو الترك أو الحبش إذا تركوا نعمة الإسلام، حرموا العزَّة والمجد والعظمة.
وشيطان الغرب يعلم أنَّ هذه الأمَّة المسلمة بجميع أجناسها وشعوبها على اختلاف ألسنتهم وألوانهم لا تزال متماسكة منيعة عزيزة رفيعة الشأن جليلة الخطر ما دامت متمسِّكةً بالإسلام، وأنَّه ليس هناك شيء يهدم هذه القوة مثل إثارة العرقيات والعصبية للجنس واللغة واللون على قاعدة: "فرّق تسُد"، ولذلك فلا يألو المستعمر الغربي في إذكاء نيران الفتن بنشر هذه الأفكار والمبادئ الهدامة من النعرات العرقيَّة، وبعث القوميَّات وتغذية العصبيَّات، فيستخدم البعثيَّ للقوميَّة العربيَّة فيفتخر بالآباء وإن كانوا كفارًا، كما يستخدم ذا النعرة البربريَّة فيفخر بالأجداد الذين كانوا في الجاهليَّة قبل الإسلام.
وقد قال النبي : ((لينتهينَّ أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فحم جهنم، أو ليكوننّ أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخراء بأنفه. إن الله قد أذهب عنكم عبِّيَّة الجاهلية وفخرَها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي. الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب)) رواه الترمذي وأحمد، وعن أبي مالك الأشعري أن النبي قال: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة)) رواه مسلم.
قال ابن تيمية: "إن تعليق الشرف في الدين بمجرد النسب هو حكمٌ من أحكام الجاهلية الذين اتبعتهم عليه الرافضة وأشباههم من أهل الجهل، ولهذا ليس في كتاب الله آية واحدة يمدح فيها أحدا بنسبه، ولا يذم أحدا بنسبه، وإنما يمدح بالإيمان والتقوى، ويذم بالكفر والفسوق والعصيان".
فالشرف والعزة والمجد ليس في الانتساب إلى العروبة ولا إلى البربرية، بل بالتقوى والإيمان وبالعلم النافع والعمل الصالح.
فأنت ـ أيُّها البعثيُّ القوميُّ العروبي ـ كفَّ لسانك عن البربر، وأنت ـ أيُّها البعثيُّ القوميُّ الأمازيغي ـ كفَّ لسانك عن العرب، فيكفيهم كلاهما شرفًا أنَّ الله تعالى أراد بهم خيرا، حين أدخل الإسلام عليهم جميعا.
فعن كرز بن علقمة الخزاعي قال: قال رجل: يا رسول الله، هل للإسلام من منتهى؟ قال : ((نعم، أيما أهل بيت من العرب أو العجم أراد الله بهم خيرا أدخل عليهم الإسلام)) ، قال: ثم مه؟ قال: ((ثم تقع الفتن كأنها الظلل)) ، قال الأعرابي: كلا والله إن شاء الله، قال : ((بلى، والذي نفسي بيده ثم تعودون فيها أساود صبا، يضرب بعضكم رقاب بعض)). أساود صبا: قال سفيان: الحية السوداء تنصب أي: ترتفع. رواه أحمد والحاكم بسند صحيح.
فهذا يدلُّ على أنَّ العرب وإخوانهم البربر قد أراد الله بهم جميعًا خيرا حين أدخل عليهم الإسلام، ولو لم يرد الله بأحدهما خيرًا لتركهم يتخبَّطون في جاهليَّتهم الجهلاء، تحت سطوة الروم والفرس في القديم، ثمَّ تحت سطوة المستعمر الغربي الجديد. فالحديث يشهد بأنَّ الله قد أراد بهم خيرًا ما تمسَّكوا بالإسلام، فمن رغب عنه وابتغى العزة في غيره أذلَّه الله.
ونحن نعرف للعرب فضلهم ونعرف للبربر فضلهم، ولا نبخس أحدًا من هؤلاء وهؤلاء فضله.
فمن العبارات الجاهليَّة التي يجب الأخذ بشدَّة على قائليها والإنكار عليهم أن يسبَّ غير العربي جنسَ العرب طاعنًا عليهم بفعل السفهاء، أو أن يسبَّ العربيُّ غيره من البربر ومسلمي العجم لمجرَّد المخالفة في الجنس واللسان، فهذا الذي نهى عنه النبيُّ حين قال: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب...)) رواه مسلم.
فالله المستعان، وعليه التكلان.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيُّها الناس، ليكفَّ أقوام تحملهم النعرة القبليَّة على امتهان غيرهم واحتقارهم والطعن في أنسابهم، وقد قال رسول الله : ((بحسب امرئ من الشرِّ أن يحتقر أخاه المسلم)).
فمن طعن في نسب مسلم وافتخر عليه بالآباء والأجداد فقد احتقره مهما كان جنسه ولسانه ولونه. وأنا أمهِّد لكم من فضائل البربر والعرب في عهد الإسلام ما يدلُّكم على ضرورة التمسُّك به، وإنَّما يتفاضل الناس والشعوب بحسب تمسُّكهم بشرائع الإسلام وأخلاقه.
ويكفي البربر شرفًا ـ ولا أقول فخرًا ـ أنَّ فيهم أبطالا مدَّ الله بهم الإسلام، وثبَّته على أيديهم. ألا تذكرون طارق بن زياد الذي فتح الله به البلاد، بلاد الأندلس، ذاك الفتى البربري بلسان عربي مبين؟! أم نسيتم المعزَّ بن باديس الصنهاجي الذي أعزَّ الله به أهل السنة، وأذلَّ به دولة الرفض الباطنية حكامَ بني عبيد العتاة في القرن الخامس. ومن بعده حين كادت الأندلس تسقط في أيدي القوط النصارى لم يجد المسلمون منقذًا لهم ـ بعد الله تعالى ـ سوى ذاك الأمير البربري الصنهاجي العادل الشهم البطل الشجاع يوسف بن تاشفين، الذي أسَّس دولة المرابطين، وبنى الجامع الكبير الذي في ساحة الشهداء من نحو ألف عام، وأعاد الاعتبار لأهل السنَّة والجماعة فحارب البدع ومنع أهل الكلام والخصام وأعزَّ الله به الإسلام.
وبجاية كانت تزخر بكبار الأدباء وأئمَّة النحو واللغة العربيَّة وهم من البربر. ومنهم محمَّد الأريسي الذي كان يسلك في شعره سلوك المتنبي وكان في المائة السابعة.
ولم تخل بجاية من قديم الأعصار من فقهاء وعلماء ومحدثين وأدباء باللسان العربي المبين، فمنهم ابن يبكي صاحب الرابطة الذي كان إليه المرجع في الفتيا في القرن السابع، وكان يفتي بالحديث والأثر ولا يقلِّد أحدا، ومنهم في القرن السادس الحافظ الكبير المتقن عبد الحق بن الخراط خطيب بجاية ومفتيها، ومنهم المحدث عبد الله بن محمَّد الصنهاجي الأشيري من محدثي القرن السادس، ومنهم محمَّد بن يحيى الباهلي من أدباء وفقهاء بجاية قي القرن الثامن، ومنهم المحدثة البجائية المقيمة بمكة رقية بنت عبد القوي التي أجاز لها الحافظان العراقي والهيثمي، وأجازت هي للحافظ السخاوي، ومنهم علي الحسناوي من فقهاء بجاية في القرن التاسع، وغيرهم كثير وكثير...
وأمَّا زواوة، هذه القبيلة العظيمة في جبال جُرجُرة، فلم تزل موطنًا منيعًا عزيزًا للأشراف من أهل البيت الذين كانوا يفرُّون من ملاحقات أمراء بني أميَّة وبني العباس.
بل الأغرب والأعجب أنَّ هذه المنطقة منطقة زواوة التي يسمِّيها الناس اليوم القبائل الكبرى كانت قبلة المتعلِّمين والمتفقِّهين في الدين، بل وحتَّى في لسان العرب المبين، يأتيها الطلبة من المشرق والمغرب، ألم تسمعوا بالشيخ اللغوي البربري الذي كان يعدُّ من أئمَّة عصره في النحو وعلوم العربيَّة يحيى بن عبد النور بنِ معط، صاحبِ الألفية في النحو العربي والتي جاء ابن مالك من بعده فألف ألفيته على منوالها، وهذه مقدِّمة ابن آجروم في النحو، والتي تسمَّى بالآجرومية، لا تزال إلى يومنا تدرَّس في المعاهد والثانويات في جميع بلاد العرب، وهذا الشيخ طاهر السمعوني الجزائري، مؤسِّس المكتبة الظاهريَّة بدمشق، هاجر والده من أرض زواوة مع الأمير عبد القادر لما استولى الإفرنج الكفرة على بلادهم، ثمَّ حنَّ إلى وطنه فزاره في عام 1893م، ودخل موطن آبائه بزواوة، والتقى بالشيخ محمَّد السعيد بن زكري الزواوي الذي كان مفتى مدينة الجزائر في ذلك الوقت. ومنهم الشيخ المهدي السكلاوي اليراثني نسبة إلى قبيلة يراثن، ويقال لموطنهم اليوم: "أربعاء نَايت إيراثن"، وكان هذا من علمائهم وفضلائهم في القرن الثالث عشر. ومنهم الشيخ محمَّد السعيد بن علي اليلولي الشلاطي، المتوفَّى من نحو مائة عام، وكان قد ألَّف كتابًا باللغة الأمازيغيَّة لكن بالحرف الذي يناسبها وهو الحرف العربي، وفي علم شريف هو علم التوحيد والعقيدة الإسلامية، لا كما يريد المستعمر وأذنابه اليوم أن تخطَّ بالحرف اللاتيني والمحتوى اللاديني، وكان رحمه الله قد بنى معهدًا للعلوم الإسلامية في زمانه، وقد دمَّرته فرنسا في أثناء حرب التحرير، ثمَّ أعيد بناؤه في الأعوام الأخيرة، ولا يزال يؤدِّي مهمَّته في نشر الثقافة الإسلاميَّة.
ومن شيوخ زواوة في القرون الغابرة الشيخ محمَّد صالح بن علي الورتلاني المتوفى في القرن الحادي عشر، وضريحه معلوم هناك في قرية أجَلْميم عرش بني أجْمات، وكان يوصف بالعالم المجدِّد للدين، ومن النوادر أنَّ هذا الفقيه الصالح كان يأمر أهل منطقته بالتزام أحكام الشريعة، وكانوا يمنعون ميراث النسوة، فلم يستجيبوا له، فتركهم إلى وقت ذهابهم لقطف الزيتون، فأخذ متاعه وزوجته وعزم على الهجرة من بلادهم، فصاح القوم ليجتمعوا على الشيخ ليمسكوه، فلمَّا ألحّوا على رجوعه حلف لا يرجع إليهم حتَّى يرجعوا إلى العمل بالشريعة في المواريث وغيرها، فامتثلوا أمره بجدّ وصدق، ولم يزالوا على ذلك قرونًا إلى زمان الاستعمار، حتَّى غيَّرت فرنسا الأوضاع وردَّتهم إلى حكم شيوخ الجماعة، وهو حكم جاهلي.
ومنهم في القرن الثامن عيسى بن مسعود المنكلاتي كان محدثًا فقيها، ومنهم في القرن التاسع منصور بن علي المنكلاتي، والشيخ علي بن عثمان المنكلاتي، والشيخ عبد الرحمن الوغليسي، وأبو القاسم بن محمَّد المشدَّالي فقيه بجاية في القرن الثامن، ويحيى بن إدير التَّدلسي... ولست أريد أن أطيل عليكم بذكر جميع شيوخ زواوة فما أكثرهم، وما أكثر من يجهلهم.
ودونكم شهادة المؤرخ الشهير ابن خلدون الذي يقول عن البربر: "وأمَّا تخلُّقهم بالفضائل الإنسانيَّة وتنافسهم في الخلال الحميدة وما جبلوا عليه من الخلق الكريم فلهم في ذلك آثار نقلها الخلف عن السلف، لو كانت مسطَّرة لحفظ منها ما يكون أسوة لمتَّبعيهم من الأمم.
فمن خلقهم عزُّ الجوار وحماية النزيل ورعاية الذمَّة والوفاء بالعهد وبر الكبير وتوقير أهل العلم ورحمة المسكين وحمل الكلِّ وكسب المعدوم وقري الضيف والصبر على المكارم والإعانة على النوائب ومقارعة الخطوب وإباية الضيم ومشاقَّة الدول" أي: عدم القابليَّة للاستعمار، إلى آخر ما طوَّل به ابن خلدون من أوصافهم وأخلاقهم في غابر الأزمان قبل أن تفسدها الفتن المتتالية التي غرست في القوم هذه النعرات القبليَّة والعصبيَّة العرقيَّة وبعث القوميَّة، فأفسدت الأخلاق ودمَّرت القيم وأوهنت التديُّن، فكانت النتيجة الحتميَّة التخبط في الفقر والخوف والجوع وتسلُّط الأشرار.
نذكر هذا تذكيرًا لكلِّ بربريّ لعلَّه يتذكَّر أخلاق أسلافه وما كانوا عليه من الاعتزاز والتمجُّد بالإسلام دون ما سواه.
وربَّما اضمحلَّت اليوم فيهم هذه الأخلاق، كما اضمحلَّت في غيرهم من العرب والعجم، لأنَّ الفساد قد عمَّ كلَّ مكان، وأرباب الفتن لا يزالون متربِّصين يغذُّون العصبيَّات القوميَّة.
فأين أنتم ـ أيُّها الطاعنون ـ في الأنساب؟! وأين أنتم ـ أيُّها البعثيون للنعرات القومية الجاهليَّة ـ عربيَّة كانت أو بربريَّة؟!
وأنت ـ أيُّها البعثيُّ للقوميَّة البربريَّة الجاهليَّة ـ ما لك وللعرب؟! فإنَّ مآثرهم وفضائلهم لا تخفى، ويكفيهم شرفًا أنَّ الله أنزل كتابه الخالد بلسانهم، فأصبح اللسان العربي هو لسان كل مسلم مهما كانت أصوله وجذوره غير عربيَّة، ويكفيهم شرفًا أنَّ منهم سيِّدَ ولد آدم، النبيَّ الخاتم محمَّدَ بنَ عبد الله القرشيَّ عليه الصلاة والسلام.
وحبُّ العرب والعروبة إذا كان لأجل ذلك ولأجل الدين فهو حسنٌ، وإلاَّ كان نعرة جاهليَّة كسائر النعرات العرقيَّة الأخرى.
وفي هذا المعنى الشريف ألَّف الحافظ العراقي كتابه الممتع المفيد "محجَّة القرب في محبَّة العرب". وكذا ألف قبله الإمام ابن قتيبة كتابه في فضل العرب، ولا تخلو كتب الفضائل والمناقب من ذكر فضل العرب وغيرهم.
ولست هنا لأغذي نخوة الافتخار عند العرب ولا عند البربر فهما إخوان بحكم الدين، ينالهم الشرف والعزَّة ما تمسكوا بالدين، ويذوقون مرارة العيش ومذلة الحياة ما تركوا هذا الدين.
فإذا أراد العرب والبربر وسائر العجم العزة والكرامة والمجد والشرف فلن يجدوا سوى الإسلام مؤلِّفًا بين قلوبهم جامعًا لكلمتهم رافعًا لشأنهم.
أقول هذا وأستغفر الله...
(1/3105)
لا لدعوى الجاهلية
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, الولاء والبراء, مساوئ الأخلاق
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أصل بني آدم التراب. 2- محاربة الإسلام للعصبيات والقوميات. 3- نصوص من السنة وآثار السلف في النهي عن التفاخر بالأنساب. 4- إثارة النعرات القبلية من مكائد أعداء الإسلام. 5- وسائل التعبير عن السخط. 6- الفرق بين الفاتحين المسلمين وبين المستعمر الغربي. 7- آية اختلاف الألسن.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
هذا خطاب من الله تعالى للناس جميعًا أنَّه خلقهم من ذكر هو آدم ومن أنثى هي حواء، فالناس كلهم لآدم، وآدم من تراب. فالتراب هو منتهى الأنساب، فبم يفتخر شعب على شعب؟! وبم يحتقر قوم قوما؟! وكلُّهم كان ترابا، وكلُّهم يصير ترابا. ثمَّ كشف الله للناس في الآية عن العلَّة في جعلهم شعوبًا وقبائل وهي التعارف، أي: ليعرف بعضكم بعضا، لا ليبغي بعضكم على بعض، والمراد قطع التفاخر بالأنساب والأحساب.
وعن ابن عباس قال: (لا أرى أحدًا يعمل بهذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ، فيقول الرجل للرجل: أنا أكرم منك، فليس أحدٌ أكرم من أحد إلاَّ بتقوى الله). رواه البخاري في الأدب المفرد.
هذا وقد كنت خطبت فيكم من بضعة أسابيع خطبة في هذا الموضوع، بسطت فيها هذه القضيَّة؛ قضية العصبية والفخر بالأنساب والآباء والأجداد والألوان والأعراق واللغات، وبيَّنت لكم بما سقته من كتاب الله وسنة رسول الله وآثار السلف ما يشفي القلوب من أدوائها، ويحرِّر النفوس من أهوائها، ولكن ما حدث أمس يدلُّ على أنَّ الأمر يتطلب مزيدًا من البيان والتذكير، ونافلةً من الإيضاح والتبصير.
فاعلموا ـ أيُّها المسلمون ـ أنَّ أهل الجاهلية من العرب والبربر وسائر الناس كانوا متفرقين، لا يحكمهم دين ولا عقل سليم، قويُّهم يأكل ضعيفهم، تفنيهم الحروب أجيالاً بعد جيل من أجل استغاثة رجل بقبيلته ولو على باطل، ونحو ذلك من تفاهات الأسباب وحقير البواعث.
فجاء الإسلام ماحيًا هذه الجاهليات والعصبيات النتنة، وألَّف بين قلوب المؤمنين، بالأخوَّة الصحيحة أخوَّة الدين، بعدما بيَّن لهم أنَّهم إخوة في الطين، فالناس كلهم من آدم، وآدم من طين، لكنَّ الأخوَّة الرابطة بإحكام والجامعة بالدفء هي أخوة الإسلام.
إنَّ معرفة الإنسان لقبيلته وانتسابه لها والمحافظة على الأنساب لا يذم في الدين، بل جاء: ((تعلَّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم)) ، إنَّما المذموم الافتخار بالقبائل، وذم أنساب الناس، واحتقار من لم يعرف بقبيلة، فتلك دعوى الجاهليَّة.
أنا أتلو عليكم من مشكاة النبوَّة ومنهاج السلف ما يكفي رادعًا وزاجرًا لكلِّ عاقل ومبصر، وأذكِّركم الله الذي يقول: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ [النور:51، 52].
كتب عمر بن الخطاب إلى أمراء الأجناد: (إذا تداعت القبائل فاضربوهم بالسيف حتَّى يصيروا إلى دعوة الإسلام) رواه ابن أبي شيبة، أي: حتّى تكون دعوتهم وانتسابهم للإسلام وليس للقبائل، كما في رواية عند أبي عبيد: (سيكون للعرب دعوى قبائل، فإذا كان ذلك فالسيف السيف والقتل القتل حتَّى يقولوا: يا للمسلمين)، وفي رواية: (يا أهل الإسلام).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من قاتل تحت راية عُمِّيَّة ـ أي: الأمر الأعمى للعصبيَّة لا يستبين وجهها ـ، يغضب لعصبيَّة أو يدعو إلى عصبيَّة، أو ينصر عصبيَّة، فقتل فقِتلته جاهليَّة)) ، وفي رواية: ((فليس من أمَّتي)).
وعن الحارث الأشعري عن النبيِّ : ((من دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثاء جهنم)) ، قالوا: يا رسول الله، وإن صام وصلى؟ قال: ((وإن صام وصلَّى وزعم أنَّه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم؛ بما سمَّاهم الله عز وجل به: المسلمين المؤمنين عباد الله)) رواه أحمد وغيره وهو حديث صحيح.
وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله : ((إنَّ أنسابكم هذه ليست بسباب على أحد، وإنَّما أنتم ولد آدم، طفُّ الصاع لم تملؤوه ـ أي: قريب بعضكم من بعض في النسب ـ، ليس لأحد على أحد فضل إلاَّ بالدين أو عمل صالح)) رواه أحمد بسند حسن.
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي ردِّي ـ أي: سقط في البئر ـ، فهو ينزع ـ أي: يحاول الخروج ـ بذَنَبه)) رواه أبو داود بسند صحيح.
ولعلَّ أبلغ حديث في ذم العصبيَّة ما رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: غزونا مع النبيِّ وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتَّى كثروا، وكان من المهاجرين رجل لعاب، فكسع أنصاريًّا، فغضب الأنصاري غضبًا شديدا، حتَّى تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبيُّ فقال: ((ما بال دعوى الجاهليَّة؟)) ، ثمَّ قال: ((ما شأنهم؟)) فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري، فقال: ((دعوها فإنَّها خبيثة)).
وهذا من أبلغ ما جاء في ذم العصبيَّة، فإنَّ الانتساب للأنصار والمهاجرين ممدوح غير مقبوح، لكن لمَّا خرج عن أن يكون اعتزازًا بالدين إلى الاعتزاز بالقوم والعصبة والقبيلة صار من الجاهليَّة.
والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله.
_________
الخطبة الثانية
_________
إنَّ الأحداث الأخيرة مؤامرة مكشوفة، لا تخفى على عاقل، فاحذروا ـ أيُّها المسلمون ـ أن تساقوا إلى ما تدبِّره الشياطين شياطين الإنس ـ ومن ورائهم شيطان الجنِّ ـ لهذه الأمَّة من فتن وحروب وتناحر وتشاجر وتقاطع وتدابر، فلا فتيل هو أسرع اشتعالاً من فتيل إثارة النعرات العرقيَّة، فاحذروها واحذروا دعاة الفتنة الذين يريدون تفريق الأمَّة، ويغذُّون فيها أسباب الشجار والاقتتال بحمى الجاهلية ودعوى الجاهليَّة العروشيَّة والقبليَّة والعرقية.
فمتى كان تخريب البيوت بأيدي أصحابها طريقًا للإصلاح؟! ومتى كان الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل سبيلاً لانفراج الأزمات وتفريج الكربات؟! بل ومتى كانت هذه المظاهرات وما يجري فيها من ضجيج واختلاط وصخب أسلوبًا حضاريًّا في نفسه ونمطًا نموذجيًّا مفروضًا علينا؟!
ومن عجائب الزمان أن يعلِّق بعض الناس فيقول: لا ضير ولا عيب في التخريب والفساد لإظهار السخط والغضب، لأنَّ شعوبًا متحضرة اليوم تفعل مثل ذلك. فيا سبحان الله! متى كانت شعوب القوط والخزر والجرمن والسكسن والغال والإفرنج قدوةً لنا، وقد كانوا بالأمس القريب من نحو ثلاثة قرون فقط شعوبًا همجيَّة متوحشة حفاة عراة، يلبسون جلود الضأن من الجوع والفقر، فمن الطبيعي أن تكون أساليبهم في التعبير عن السخط مناسبة لطبيعتهم الهمجيَّة القديمة، لأنًَّ العرق دساس، فمتى كان هؤلاء الضلال الذين أضلَّهم الله عن الدين الحق في شؤون العبادة وشؤون الحياة، متى كانوا قدوة لنا في أساليب التعبير عن السخط؟! وهل خلا ديننا عن بيان السبيل في ذلك؟! كلاَّ.
إنَّنا أمَّة واحدة، وقد أنعم الله علينا بنعمة الإسلام، وشرع لنا الوسائل المفيدة في التعبير عن السخط وفي دفع المكاره والمظالم، وذلك باللجوء إلى الله ملك الملوك الذي نواصي الملوك بيده، فما يصيبنا من جَورهم فبما كسبت أيدينا، ثمَّ ثانيًا بالمرافعة بواسطة العريفين الذين هم أعيان العشائر والقرى ووجهاء الناس وعقلاؤهم، كما أمر النبي في حجة الوداع، وجعل العرفاء واسطة بينه وبين الناس، يرفعون إليه ما يريدونه، وإذا لم تفد هذه فالأولى كافية وموجبة أثرها ولا بد.
فيا من جمعتهم رابطة الإسلام كفّوا عن الشقاق والخلاف، فإنَّ الشيطان ـ شيطان الغرب ومن ورائه شيطان الجن ـ قد يئس أن يخرج الناس في هذا الوطن من دينهم أفواجا، لكنَّه رضي بالتحريش بيننا والتفريق بيننا ليسود علينا، على قاعدة: "فرّق تسُد"، مصداقًا لقول النبيِّ : ((إنَّ الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم)) رواه أحمد ومسلم وغيرهما.
وبماذا يفرّق بيننا؟! فديننا واحد، ووطننا واحد، وجنسنا واحد، فد اختلط فيه العرق البربري بالعرق العربي، وأصلنا واحد من آدم، وآدم من تراب وطين، فنحن إخوة في الطين، وإخوة في الدين جميعا، فلما لم يتأت لهذه الشياطين أن تفرقنا من جهة الطين والدين لجأت إلى اختلاف اللغات، واختلاف اللغات عند المسلمين مفخرة من مفاخر الإسلام لو كانوا يعلمون.
انظروا إلى الفارق بين الفاتحين المسلمين الذين فتحوا بلاد الأعاجم من الفرس والترك والديلم والحبشة والروم والقوط والكرد والهند والسند والصين والبربر، وتركوا الناس من جميع هذه الأجناس على ألسنتهم ولغاتهم، ومن تعرَّب لسانه منهم تعرَّب اختيارًا ورغبة في الدين، وليس بإجبار أو إكراه.
وهذا عكس ما يفعله الاستعمار الغربي، فكان من غاياته طمس الهويات والقضاء على الحضارات، فكان يمنع تعلُّم العربيَّة في بلاد الإسلام، ويفرض تعلُّم اللغة الفرنسية.
ولا أذهب بعيدًا ففي 24 من شهر أكتوبر سنة 1842 أجبر المستعمر الفرنسى أهالي مدينة الجزائر على تعلم اللغة الفرنسية في الجامع الكبير وفي المدارس الأهليَّة، مما اضطر الناس وعلى رأسهم مفتي الجزائر آنذاك مصطفى الكبابطي على إعلان العصيان، وانتهى الأمر بسجنه ثم بنفيه إلى مصر، ثمَّ بعد ذلك منع المستعمر من تعلُّم اللغة العربيَّة، لأنَّها لغة الدين الإسلامي، لأنَّهم قدَّروا أنَّه متى ارتبطت هذه الأمة باللغة العربية ارتبطت بدينها، ومتى ارتبطت بالإسلام لم تقبل بوجود المستعمر.
فقارنوا ـ أيُّها الإخوان ـ بين الفاتحين المسلمين وبين الغرب المستعمرين.
أمَّا الفاتحون المسلمون، فقد احترموا اللغات، فبقي الفرس بلسانهم الفارسي، والترك بلسانهم التركي، والبربر بلسانهم الأمازيغي... إنَّ اختلاف الألسنة من آيات الله، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [الروم:22]، فقد جعل الله تعالى اختلاف ألواننا وألسنتنا آية من آياته، وإذا كان من شأن آيات الله أن تعظَّم وتحترم، فالطاعن في لون غيره أو في لسانه ولغته إنَّما يطعن في آيات الله تعالى، وقد قال الله تعالى: وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [البقرة:231]، وقال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:19]، وقال: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65]، وقال: إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء:140]، وقال: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ [الأعراف:36]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [الأعراف:40]، وقال: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الأنعام:68]. والآيات في تعظيم آيات الله كثيرة.
والشاهد منها أنَّ من الآيات التي يجب احترامها وتعظيمها آية اختلاف اللغات وألسنة بني آدم، فإنَّ الله تعالى جعل ذلك التنوع آية من آياته.
نعم قد فضَّل بعضها على بعض، فكان اللسان العربي هو اللسان الذي اختاره الله لأمَّة الإسلام لسانًا يتفقَّهون به في دينهم، وجعله لسان القرآن، يتلى به في كلِّ يوم خمس مرات في جميع بقاع الأرض من عرب وعجم، فقال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف:3]، وقال: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:195]؛ لأنَّ اللسان العربي هو أقدر الألسنة بيانًا.
ومن ثمَّ فتمسُّكنا باللسان العربي ليس تمسُّكًا بعرق أو جنس، بل لأنَّه لسان القرآن والإسلام، فهو لسان أمَّة الإسلام كيفما كانت أنسابهم وألسنتهم وألوانهم، دون أن يحتِّم على الشعوب والقبائل الأعجمية أن تتخلَّى عن لسانها.
هذا ما سمعتم، والله يغفر لي ولكم.
(1/3106)
إلى رجال الإعلام والصحافة
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وقفة مع قوله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنِ أَو الخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ. 2- بعض سقطات رجال الإعلام وعثراتهم. 3- خطر العلمانية على الأمة الإسلامية. 4- أدب مناصحة الولاة وذوي السلطة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعد: يقول الله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83].
أيُّها الناس، لقد فصّلت هذه الآية بين رجل الإعلام والصحفي الصدوق وبين الكذوب، وهي أدبٌ يؤدِّب الله تعالى به عباده بعامَّة، ورجال الإعلام منهم بخاصَّة.
ومعنى الآية على ما ذكره إمام التفسير أبو الفداء ابن كثير رحمه الله أنَّ هذا إنكارٌ على من يُبادر إلى الأمور قبل تحقُّقها، فيخبر بها ويُفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحَّة.
وقوله تعالى: يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي: الذين يستخرجون الخبر من معادنه، ويستعلمونه من مظانِّه، فلا يحرِّف الخبر ولا يزيد فيه ولا ينقص، ولا يذيعه حتَّى يحقِّقه ويرجو الخير والمصلحة في نشره وإذاعته، وهذه هي مهمَّة رجال الإعلام الصدوقين.
وسبب نزول هذه الآية يزيد في وضوحها، وذلك أنَّ رسول الله حين اعتزل نساءه تحدَّث الناس فقالوا: طلَّق رسول الله نساءه، فقال عمر: لأعلمنَّ ذلك اليوم، وبعد قصَّة طويلة في التحرِّي استأذن على رسول الله، فلمَّا أذن له سأله: يا رسول الله، أطلَّقت نساءك؟ قال: ((لا)) ، ثمَّ استأذن رسول الله في إذاعة الخبر، فأذن له، فنزل وقال: أيُّها الناس، لم يطلِّق رسول الله نساءه، ونزلت على إثر ذلك هذه الآية: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ، قال عمر: فكنت أنا استنبطتُ ذلك الأمرَ. رواه مسلم. فكان عمر بن الخطَّاب أوَّل من باشر وظيفةَ الإعلام في الأمَّة بحقِّها، وهو الصدوق.
وقد جاء في معنى هذه الآية عن رسول الله أحاديث هي بمثابة دستور عام لمن يباشر وظيفة الإعلام، منها قوله : ((بئس مطيَّة الفتى زعموا)) رواه أبو داود، وقال : ((من حدَّث بحديث وهو يرى أنَّه كذبٌ فهو أحد الكاذبين)) رواه مسلم في المقدمة، وفي الصحيحين أنَّ رسول الله : ((نهى عن قيل وقال)) أي: الذي يكثر من الحديث عمَّا يقول الناس من غير تثبُّت ولا تدبّر ولا تبيُّن ولا تفكُّر في شؤم العواقب.
وأنتم ـ أيُّها الناس ـ فحظُّكم من هذه الآية وما معها أن لا تكونوا سمَّاعين للكاذبين من المتعاطين للصحافة والإعلام، مروِّجين لباطلهم، حتَّى لا تكونوا ممَّن ذم الله في هذه الآية وجعلهم من متبعي الشيطان.
وأمَّا أنتم أيُّها اللصوص اللئام، المفتئتون على منصب الإعلام، فمن أين لكم الرفعة وأنتم تجولون في أعراض الناس وتصولون بالشتم والسباب والبهت والبهتان والكذب والافتراء والطعن واللمز والثلب والقذف وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين والتجسُّس على شؤون الناس في خاصة أنفسهم وتلمُّس هفوات ذوي الهيئات وترقُّب العثرات وتتبّع عورات الناس وإظهار ما يجب ستره منها؟! أهذه هي المهمة النبيلة لرجل الإعلام؟ كلاَّ، ما هؤلاء بالإعلاميِّين المرضيين في الأمَّة.
إنَّهم اليوم قلقون وساخطون، لأنَّ مشروعًا تعزيريًّا يراد ترسيمه، قد وجدوا فيه تضييقًا لما يسمُّونه بحرِّية الصحافة وحرِّية الرأي.
وحريّة الرأي ما حريّة الرأي، إنَّها النافذة التي يدخل منها كلّ مبطل يريد لباطله رواجا، وكلًُّ أفَّاك يريد لكذبه ترويجا.
أين ما يتبجَّح به هؤلاء من حماية حرِّية الرأي؟! فحرِّية الرأي عندهم أن يقولوا ما شاءت لهم أهواؤهم، وينتقدوا من شاءوا لا بالنقد النزيه البنّاء، بل بالبهت والزور والافتراء والإفك والكذب والقذف والشتم والسباب. فمن حقِّهم أن يسبّوا من شاءوا، ولا حقَّ لأحد سواهم أن ينتقدهم أو يأخذ على أيديهم.
لا جرم أنَّ الساخطين على مشروع العقوبات هم هذه الحثالة من المفتئتين على منصب الإعلام بغير حق، بل بالباطل والإذاية للخلق.
إنَّهم حفنة لا تخفى على الأمَّة حقيقة أمرهم ومذهبِهم الذين ينتمون إليه، وهو الاتجاه المعروف بالاتجاه اللائكي العلماني، أي: ما نسميه نحن بالاتجاه اللاديني.
والعلمانية مذهب شاذٌّ ونبتة هجينة في أوطان المسلمين، ربَّما وجد مسوِّغات وجوده في أمم الضلال والظلاميَّة في أوروبا، لأنَّ كلَّ من سلَّم لعقله السليم اصطدم ضرورةً بخرافات المسيحيَّة وضلالات النصرانيَّة وظلم البابوات والقساوسة وانحرافهم، فكلُّ ذلك قد يوجب ثورة العقل وانفصاله عن ذلك الدين المحرَّف.
أمَّا نحن فليس ديننا محرَّفًا، ولا فيه ما يناقض العقل، بل هو دين كاملٌ محفوظ ناسخ لكل ما سبقه من أديان، ولا ينسخه بعده دين أبدًا.
وإنَّ من نكد الدنيا أن يتسرَّب هذا المذهب الشاذُ ـ أعني اللائكية أو العلمانية ـ إلى أوطان المسلمين، فيصاب به رهطٌ من قومنا ومن بني جلدتنا.
ويكأنَّهم نبتوا في غير أرضهم، وغُذُّوا بغير أسمِدتهم، فجاءوا بفكر دخيل، وعقلٍ بالفهم كليل، وقلب عليل، ولسان هو بلسان أمَّتهم قصير وثقيل، وبلسان المستعمر سريع وطويل، أولئك هم العلمانيُّون اللائكيُّون.
إنَّهم حفنة عفنة وطغمة نتنة، أفئدتهم عند صولة الحقِّ هواء، وقلوبهم أشربت بالأهواء، وعقولهم خواء، انقلبوا على أمَّتهم، فتنكَّروا لدينهم ولغتهم وتاريخ أمَّتهم وحضارتهم، وهؤلاء ينصبون أنفسهم أوصياء على الجميع في جميع مناحي الحياة، ولا وصاية لأحد عليهم.
ويسمُّون أنفسهم السلطة الرابعة، ويغيب عن أذهانهم أنَّ ذلك لو صحَّ فإنَّما ينطبق على الإعلامي الصدوق الذي همُّه إيصال ما تحتاج الأمَّة إلى الاطلاع عليه ومعرفته كما هو دون تحريف أو تبديل.
نعم، هم يرَون في هذا المشروع تضييقًا لوظيفتهم لأنَّ الكذب والدعاية الكاذبة وتحريف الأخبار لأغراض سياسية وقذف الأشخاص هي رأس مالهم والمادَّة الخام لعملهم، فإذا منعت عنهم أو منعوا منها فلا يجدون ماذا ينشرون.
ومن هنا تظهر الحاجة بل الضرورة للتعجيل بإصلاح المنظومة الإعلاميَّة، وتطهير وسائل الإعلام من الممارسات والنظم والأنماط الوافدة من دول ومجتمعات تختلف تقاليدها وعاداتها وطباعها عن موروثنا الإسلامي في تقاليدنا وعاداتنا وطباعنا، بفرض عقوبات زاجرة لكلِّ متطاول طويل اللسان في كلِّ محترَم مُصان.
والله المستعان وعليه التكلان.
_________
الخطبة الثانية
_________
قد تعجبون إذا علمتم أنَّ الذي زاد من غيظ هؤلاء أنَّهم أُلحقوا في ذلك المشروع بأئمَّة المساجد، فهم لا يرون أنفسهم في منزلة واحدة مع الأئمَّة، بل يرون أنَّهم أشرف وأنبل من الأئمَّة، لا بل هم قد نصبوا أنفسهم سلطة رابعة، وأمَّا الأئمَّة فهم بمعزل عنها؛ لأنَّهم في نظرهم ليسوا سوى أناس متخلِّفين عن اللحاق بركب حضارة الغرب، يثيرون الفتن والفوضى، ويقفون حائلا دون إباحة التمتع بالشهوات والشعوذات، ويصدُّون عن كلِّ رأي خبيث يثير الشبهات في الأمَّة.
ولذلك فهم غاضبون وقلقون، وللسخط على هذا المشروع معلنون، وله رافضون ولاعنون. وأعداء الدين منهم لا يكترثون بالطعن في الدين وعلمائه وانتهاك مقدَّساته تحت غطاء المعارضة السياسية، وتحت شعار حرِّية الرأي، ولا يتورَّعون من الزجِّ بالعلماء والدعاة والأئمة ـ وهم سادة الأمة وذوو الهيئات الذين تقال عثراتهم ـ في معترك الأحداث التي تناولها الجرائد السيارة، تقليدًا للغرب الذين يتناولون رجال الدين عندهم كما يُتناول المجرم والعربيد واللصّ العنيد. وتجدونهم يقحمون القضايا المحترمة كالفتاوى الشرعية المجمع على صحَّتها في خضمِّ الآراء القابلة للطعن فيها.
وإذا كانت طبيعة التعايش عند الغرب تستلزم احترام الرأي والرأي الآخر، فالأولى من ذلك والأحق بالاحترام ما يصدر عن السادة الفقهاء والأئمَّة العلماء من فتاوى، والتي يجب احترامها شرعًا.
وإذا كان من مذهبهم العلماني الفصل بين الدين والحياة، وأنَّه لا دخل للإمام في شؤون الحياة، فما الذي يبيح لهم أن يتدخَّلوا في شؤون الدين؟!
يحدث هذا كلُّه في ظلِّ غياب الرادع السلطاني المسؤول عن حراسة الدين وحماية البيضة، فكان لا بدَّ من العقوبات الرادعة للأفَّاكين من هؤلاء وهؤلاء.
فنحن إنَّما نفهم أنَّ هذا المشروع الرادع لتصرفات الطائشين ينصرف إلى من يخون الله في دينه وكتابه ورسوله، ويخون وطنه وأمَّته؛ فيدعو إلى خلاف ما أمر الله به من الائتلاف والاجتماع على كتابه وسنة نبيه ونهج أصحابه، ويدعو الناس إلى البدع والخرافات وعبادة القبور ويزرع فيهم بذور الشر والفساد والافتراق، ويحرِّم لهم الحلال ويحلِّل لهم الحرام، فمثل هذا إذا نصب إمامًا أو افتأت على منصب الإمامة أو انتصب صحفيًّا فما أحراه أن تنزَّل به أشدُّ أنواع العقوبات والتعازير، وأن يجعل عبرةً ونكالا لكل مفتئت على منصب الإمامة أو متعاط لوظيفة الإعلام بغير حق وبغير مؤهِّل شرعي علمي وخلقي.
ومع تحفّظنا في كيفية تطبيق هذا المشروع فإنَّنا نقبل به، ولا نرى فيه ما يخالف مهمَّة الإمام التربويَّة والتوجيهيَّة ورسالته الإعلاميَّة والثقافية، وما يتعيَّن عليه من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطه وضوابطه، كما كنت شرحت لكم منها كثيرًا في خطب مضت، وكما سأبسطه إن شاء الله في مناسبة لاحقة.
وقد كان مطرِّف بن عبد الله بن الشخِّير يقول: "لئن لم يكن لي دين حتَّى أقوم إلى رجل معه مائة ألف سيف أرمي إليه كلمة فيقتلني، إنَّ ديني إذًا لضيِّق". رواه ابن عبد البرّ.
يريد رحمه الله أنَّ ديننا أوسع من أن يضيَّق في دائرة واحدة وهي إعلان النكير على السلطان، وأنَّ الله لم يضيِّق علينا في ترك ذلك.
فمجال العمل التربوي والإعلامي بالنسبة للإمام واسع رحب، وهي وظيفة شريفة في غاياتها ووسائلها، مضبوطة بآداب رفيعة وأخلاق كريمة في مبادئها وأهدافها. فلا مجال للتخوُّف أو إعلان السخط.
ونحن إذ ندلي بالنصائح، ونحن أحوج ما نكون إلى من يُسدي إلينا النصيحة، فإنَّنا نراعي فيها الآداب الشرعيَّة المتعلِّقة بالنصيحة مع الكبراء وذوي السلطة، وهي آداب مباينةٌ للطرق الوافدة علينا والغريبة عن ديننا وتقاليدنا، في كيفية توجيه النصيحة، أو في كيفية التعبير عن السخَط وعدم الرضا بالحاكم أو ببعض أعماله.
وقد بيَّن ذلك رسول الله إذ قال: ((من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلاَّ كان قد أدَّى الذي عليه)).
وأنتم تلاحظون الفرقَ بين هذه الطريقة الإسلاميَّة الشريفة المسؤولة في توجيه النصيحة لذي السلطة، أو في التعبير له عن السخط وعدم الرضا ببعض أعماله، وبين الطرق الوافدة الغريبة عن ديننا وتقاليدنا، فهي طريقةٌ وسَطٌ بين طريقة الخوارج الغلاة التي أخذ بها كثير من الوُعَّاظ والخطباء وأدعياء العلم والفتوى والدعوة، وبين طريقة الغرب الجفاة التي أخذ بها كثيرٌ من الصحفيين والإعلاميين والسياسيين في التشهير بالحاكم والجهر له بالتعيير والإعلان له بالنكير.
فمن ابتُلي بوجوب النصح لذي سلطان فالأدب أن يخلوَ به ويكلِّمه فيما بينه وبينه سرًّا، بلطف ورفق ولين، ولا يخشِّن ولا يعيِّر ولا يسبُّ ولا يُعلن له بالنكير جهارا. بهذا جاءت السنَّة، وهكذا كانت أحوال السلف مع أمرائهم. وسوف أبسط لكم هذا في خطبة لاحقة إن شاء الله.
فنحن ـ معاشر الأئمَّة ـ لسنا نعْدُو هذه الآداب الإسلاميَّة الرفيعة في نصيحة الرعيَّة لراعيها.
والله يحفظني وإيَّاكم، ويغفر لي ولكم، وقوموا إلى صلاتكم.
(1/3107)
خطبة عيد الأضحى1421هـ
فقه
الذبائح والأطعمة
مراد وعمارة
باب الوادي
10/12/1421
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطبة الرسول يوم الحج الأكبر. 2- الأصل في سنة الأضحية. 3- سنن الأضاحي. 4- السنن المشروعة في أيام التشريق.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إنَّ يومكم هذا يوم فضيل وعيد جليل، رفع الله قدرهُ وأظهر، وسمَّاه يوم الحجِّ الأكبر.
في هذا اليوم خطب رسول الله خطبةً جامعة رسم فيها قواعد الدين، وعظَّم فيها حرمة المسلم في دمه وماله وعرضه، وذكَّر فيها بحقوق المرأة ومالها وما عليها وأوصى فيها بالحقِّ والعدل، وشدَّد في الدماء حتَّى قال : ((لا ترجعوا بعدي كفَّارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)) ، وقال : ((إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) ، ثمَّ قال : ((ولقد تركت فيكم ما لن تضلُّوا بعده إن اعتصمتم به؛ كتاب الله)) ، ثمَّ أشهد اللهَ تعالى والمسلمين على أنَّه قد بلَّغ. ونحن نشهد أنَّه ـ بأبي هو وأمِّي ـ قد بلَّغ وأدَّى ونصح.
معاشر المسلمين، في هذا اليوم يجتمع الحجاج بمنى يستكملون مناسكَ الحجِّ، ويتقرَّبون إلى الله عزَّ وجل بالعجِّ والثجِّ، يحيون سنَّة نبيِّ الله إبراهيم بإهراق دماء الهدي والأضاحي في هذا اليوم العظيم.
فلقد ابتلاه ربُّه سبحانه، فأمره بذبح ولده إسماعيل ليُسلم قلبَه لربِّه، ولا يكون فيه شركة لغيره، فإنَّ العباد لهذا خلقوا، وبه أمروا، أن يوحِّدوا الله فلا يعبدون من دونه شيئًا غيره، فامتثل إبراهيم أمر ربِّه طائعا، وخرج بابنه مسرعا، وقال: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102]. قال ذلك لا متوقِّفًا ولا متفكِّرًا، فاستسلما للقضاء المحتوم، وسلَّما أمرهما للحيِّ القيوم، فلمَّا تلَّه للجبين، وأهوى إلى حلقه بالسكين، أدركته رحمة أرحم الراحمين: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:104، 105]، وأتي بكبش من الجنَّة فذبحه فداء ولده.
فأحيا نبيُّنا محمَّد هذه السنَّة وعظَّمها، فأهدى في حجَّته مائة بدنة، كما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله. وضحَّى في المدينة بكبشين أملحين أقرنين، كما رواه مسلم من حديث عائشة.
فبادروا ـ معاشر المسلمين ـ إلى إحياء سنن المصطفَين الأخيار، ولا تكونوا ممَّن بخل وآثر كنز الدرهم والدينار على طاعة الملك الجبَّار العزيز الغفَّار.
فيا معشر من وسَّع الله عليهم، ضحُّوا تقبَّل الله ضحاياكم، فمن كان منكم يحسن الذَّبح فليذبح أضحيته بيده، فإنَّها سنَّة نبيِّكم، كما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك.
ومن كان منكم لا يحسن الذَّبح فأناب غيره فلا حرج عليه، ولكن لا يعطي الجزار من أضحيته شيئًا، لما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث علي بن أبي طالب قال: أمرني رسول الله أن أقوم على بُدَنه وأن أتصدَّق بلحومها وجلودها وحِلالها، وأن لا أعطي الجازر منها شيئًا. زاد مسلم في روايته: ونحن نعطيه من عندنا.
ويستحبُّ التسمية والتكبير عند ذبحها، فعن أنس بن مالك أنَّ رسول الله ضحى بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده وسمَّى وكبَّر ووضع رجله على صفاحهما. رواه البخاري ومسلم.
ويستحبُّ لأهل البيت أن يأكلوا من أضحيتهم، وأن يتصدَّقوا منها، وليس لذلك قدر محدود، كما يجوز لهم أن يدَّخروا منها، فإنَّ حديث النهي عن ادِّخار لحوم الأضاحي قد نسخه أحاديث أخر؛ منها قوله : ((كلوا وادّخروا وتصدَّقوا)) رواه البخاري ومسلم.
وفي صحيح مسلم عن ثوبان قال: ذبح رسول الله أضحيته يعني بمكَّة ثمَّ قال: ((يا ثوبان، أصلح لي لحم هذه)) ، فلم أزل أُطعمه منه حتَّى قدم المدينة، وقال جابر: كنَّا لا نأكل من بدننا فوق ثلاث، فرخَّص لنا النبيُّ قال: ((كلوا وتزوَّدوا)) ، فأكلنا وتزوَّدنا. رواه البخاري ومسلم.
وصلَّى الله على نبيِّه وسلَّم.
_________
الخطبة الثانية
_________
معاشر المسلمين، يومكم هذا هو يوم الحجِّ الأكبر، وتليه غدًا ثلاثة أيام أخر، تسمَّى أيَّام التشريق، وهي الأيَّام التي سمَّاها الله تعالى في كتابه إذ قال: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203]. فصحَّ عن ابن عباس أنَّه قال: (الأيَّام المعلومات أيّام العشر، والأيام المعدودات أيام التشريق).
فالمشروع لكم في هذه الأيام الاستكثار من ذكر الله تعالى وخصوصًا التكبير، فيكرِّر الواحد منكم ذلك في الأوقات، ومن جملتها أدبار الصلوات من غير تخصيص، وقد تواتر عن رسول الله أنَّه قال: ((أيَّام التشريق أيَّام أكل وشربٍ وذكر الله)).
معاشر المسلمين، لقد كان أصحاب رسول الله إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبَّل الله منَّا ومنك، روى ذلك المحاملي في أماليه بسند حسن عن جبير بن نفير.
ومن السنَّة المتعلِّقة بهذا المنسك ما رواه البخاري في صحيحه من حديث جابر قال: كان النبيّ إذا كان يوم عيد خالف الطريق، فيستحبُّ لكلِّ مسلم أن يتأسَّى بهذا الفعل وإن لم يَعلم حكمتَه.
واعلموا ـ عباد الله ـ أنَّه ليس السعيد من أدرك العيد ولبس الجديد، إنَّما السعيد من اتقى الله عز وجل فيما يبدئ ويعيد، وفاز بجنَّة لا يفنى نعيمها ولا يبيد، ونجا من نار حرُّها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلها الزقوم، وشرابهم الصديد، ولباسهم القطران والحديد.
فاتقوا الله عباد الله، وجدِّدوا إيمانكم كما جدَّدتم ثيابكم، وانطلقوا إلى ضحاياكم بارك الله فيها لكم، والله يغفر لي ولكم، ويتقبَّل مني ومنكم، والسلام عليكم.
(1/3108)
مبدأ التأريخ الهجري وخطورة تركه - فضل المحرم وعاشوراء
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدروس والعبر المستفادة من تعاقب الليل والنهار. 2- قصة بدأ التأريخ الهجري. 3- مفاسد وأضرار مترتبة على التأريخ الميلادي. 4- دعوة للمحاسبة في نهاية العام. 5- فضل شهر الله المحرم. 6- فضل صيام يوم عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمنون, اتقوا الله حق تقاته, بامتثال أوامره واجتناب زواجره, فإنها وصيته تعالى للأولين والآخرين, قال تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].
أيها المؤمنون, إن الله جل ذكره خلق الشمس والقمر, وجعل الليل والنهار لحكم عديدة, وفوائد كثيرة, ذكرها الله تعالى منثورة في كتابه الحكيم, في أماكن متفرقة, فمن تلك الحكم والفوائد: أن يعلم الناس من اختلافهما وتعاقبهما وسيرهما في منازلهما عدد السنين والحساب, وتغير الفصول والبروج, قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء:12]، وقال عز وجل: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس:5]، وقال في ذلك: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَج [البقرة:189]، فجعل تعالى معرفة السنين والشهور مستفادة من سير القمر وتنقله في منازله, وذلك من نعم الله على عباده, ورحمته بهم, إذ إن ظهور هذه العلامة في السماء مشاهد مبصر, لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب, بل يميزه ويعرفه الصغير والكبير, والعالم والجاهل، والحاضر والباد, بخلاف سير الشمس, فإن معرفتها تحتاج إلى حساب وكتاب, وفي ذلك عسر ومشقة, فالحساب لا يعرفه إلا الأقلون من الخلق, إذ إن ذلك أمر غائب لا يشاهد, ولما كانت هذه الشريعة مبنية على اليسر والسهولة, كما قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج [الحج:78]، وقوله: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج [المائدة:6]، وقوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، جعل الله الحساب الشرعي الذي ترتبط به عبادات الناس مبنياً على سير القمر, قال الله تعالى: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189].
فهذه الآية العظيمة التي يشاهدها الناس في سمائهم، يبدوالهلال صغيراً في أول الشهر, ثم يتزايد إلى التمام في نصفه, ثم يشرع في النقص والاضمحلال, إلى الغياب والزوال في آخر الشهر, وهكذا دواليك, بها يعرف الناس مواقيت عباداتهم, من الصيام, والحج, وأوقات الزكاة, والكفارات, وغير ذلك من السنن والمكتوبات, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنا أمة أمية؛ لا نكتب ولا نحسب, الشهر هكذا وهكذا)) [1] يعني مرة تسعة وعشرين, ومرة ثلاثين، كما قال رسول الله : ((الشهر تسع وعشرون ليلة, فلا تصوموا حتى تروه, فإن غُم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) [2] رواه الشيخان. فجعل الله المرجع في الفطر والصيام إلى رؤيته. واعتبار الأهلة في العبادات هي الشريعة التي جاء بها الأنبياء جميعاً, ولكن اليهود والنصارى حرفوا ذلك [3].
أيها المؤمنون, لقد كانت العرب في جاهليتها تؤرخ بأيامها وأحداثها الكبار, ووقائعها العظام, واستمر ذلك في حياة النبي , وخلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه, وأوائل خلافة عمر الفاروق رضي الله عنه, ثم إنه مع اتساع الخلافة, توافرت أسباب البحث عن تأريخ يعمل به المسلمون, يجتمعون عليه, فجمع عمر الناس سنة: ست عشرة أو سبع عشرة من الهجرة, فشاورهم من أين يبدأ التأريخ؟ فقال بعضهم: من بعث النبي , وقال آخرون: من متوفاه, فقال عمر رضي الله عنه: من خروجه من مكة إلى المدينة, فاتفقوا على ذلك, ثم إنهم تشاوروا في أي شهر تبدأ السنة, فاتفقوا على أن يكون شهر الله المحرم هو أول الشهور في السنة, وقال بعض أهل العلم: "إن الصحابة رضي الله عنهم أخذوا التأريخ بالهجرة من قول الله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ " [التوبة:108]. ومهما يكن من أمر, فقد استقر هذا التأريخ في أمة الإسلام, منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا, وأصبح التأريخ بالهجرة النبوية الشريفة إلى المدينة, كما تميزت به أمة الإسلام عن غيرها من الأمم.
إذا قامت الدنيا تعد مفاخراً فتاريخنا الوضاء من الهجرة ابتدا
فلما دب إلى الأمة داء الوهن والضعف, وأصابها العجز والكسل, وتسلط عليها أعداؤها المستعمرون, وأذنابهم المنافقون, فمزقوها شرّ ممزق, وكان من جملة ما ذهب من معالم شخصيتها وأعلام تميزها التأريخ العربي الإسلامي الهجري, فاستبدل كثير من أبناء الأمة ودولها الذي هو أدنى بالذي هو خير, فغدا التاريخ الهجري الإسلامي مجهولاً مغموراً, وأصبح التاريخ النصراني الإفرنجي مشهوراً معروفاً. وقد ترتب على هذا التبديل مفاسد كثيرة, منها:
عزل أبناء الأمة عن تاريخهم وأمجادهم, وأسلافهم وسالف حضارتهم وعزهم, ولا يستريب عاقل أن الأمة لا تستطيع أن تصنع مستقبلها ولا أن تصلح واقعها, إلا من خلال دراستها لتاريخها ومعرفتها به, فبقدر ما تكون الأمة واعية بماضيها, محيطة بتاريخها, حريصة على الإفادة منه, بقدر ما تسمو شخصيتها, وتدرك غايتها, وتعرف سبيل الوصول إلى بغيتها.
فالأمة المعزولة عن تاريخها أمة قريبة الجذور, سريعة الاجتثاث والأفول لأدنى عارض, ولأدهى عائق, ولذا حرص الأعداء بشتى صنوفهم؛ الكافرون المشركون, والمنافقون العلمانيون, على عزل الأمة عن تاريخها, وسلكوا لذلك طرائق قدداً, كان منها ـ بل من أبرزها ـ تغييب التأريخ العربي الإسلامي الهجري.
ومن مفاسد الاعتماد على التأريخ الإفرنجي, وجعله هو الأصل في حياة الأمة وتعاملاتها: ضياع كثير من الشعائر التعبدية, والمعالم الشرعية, فلا يدري المسلم على سبيل المثال متى الأيام البيض, التي رغب النبي في صيامها, ولا يعرف ما هي الأشهر الحرم, التي أوجب الله على المؤمنين احترامها وتعظيمها, ولا يعلم ما هي أشهر الحج, التي يفعل فيها وغير ذلك من العبادات.
ومن مفاسد التأريخ بتاريخ النصارى الميلادي, وجعله أصلاً في ذلك: الوقوع في الإثم العظيم, والذنب الكبير, الذي نهى الله ورسوله عنه, وهو التشبه بالكفار وتقليدهم, والتبعية لهم, ففيه قول الله تعالى: لا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ [المائدة:48]، وقال: وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب:1]، وقال : ((من تشبه بقوم فهو منهم)) [4] , وقال : ((ليس منا من تشبه بغيرنا, لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى)) [5].
وقد نهى العلماء رحمهم الله عن تسمية الشهور بالأسماء الأعجمية, روي ذلك عن مجاهد وأحمد وغيرهما.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "الخطاب بها من غير حاجة في أسماء الناس والشهور؛ كالتواريخ ونحو ذلك, فهو منهي عنه مع الجهل بالمعنى بلا ريب, وأما مع العلم به فكلام أحمد بيّن في كراهته أيضاً ونحوه, ومعناه غير معروف" [6].
فالتأريخ بتاريخ النصارى الميلادي لا يجوز إلا لحاجة, أو تبعاً للتاريخ الهجري, فاحرصوا ـ بارك الله فيكم ـ على المحافظة على معالم شخصية أمتكم, وإياكم إياكم إياكم والتشبه بأعداء الله؛ من اليهود والنصارى والمشركين, والمنافقين والعلمانيين, وغيرهم, فإن الله قد حذركم من ذلك غاية التحذير, فقال جل ذكره: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51].
[1] أخرجه البخاري في الصوم برقم (1780), وأخرجه مسلم في الصيام برقم (1806).
[2] أخرجه البخاري في الصوم برقم (1776), وأخرجه مسلم في الصيام برقم (1796).
[3] اقتضاء الصراط 1(/474).
[4] أخرجه أبو داود في اللباس برقم (3512), وأخرجه أحمد من حديث ابن عمر برقم (4868).
[5] أخرجه الترمذي في الاستئذان والآداب برقم (2619).
[6] اقتضاء الصراط (1/464).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمنون, قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62]، فقد جعل الله تعالى الليل والنهار يتعاقبان, فيخلف كل واحد منهما الآخر, لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ , أي: يستدرك ما فاته من عمل, هذا مع كثرة تكرر هذا التعاقب, وقرب زمانه, فكيف ـ أيها الإخوان ـ بتعاقب الشهور وتوالي السنين؟! أليس ذلك مدعاة للتذكر والتفكر والاستدراك؟! بلى والله, فهذه دعوة لنا جميعاً أن نتوب إلى الله تعالى, ونستدرك ما فات, فإنما الأعمال بالخواتيم.
فهل لك أن تمحو الذنوب بعبرة وتبكي عليها حسرة وتندما
وتستقبل العام الجديد بتوبة لعلك أن تمحو بها ما تقدما
أيها المؤمنون, أنتم في شهر عظيم, شرفه الله تعالى وخصه دون سائر الشهور, بأن أضافه إليه, فاحفظوا حرمة هذا الشهر, فإنه من الأشهر الحرم, التي قال الله تعالى فيها: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36]. فبادروا ـ عباد الله ـ بالأعمال الصالحة فيه, لاسيما الصيام, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((وأفضل الصيام بعد شهر رمضان, شهر الله الذي تدعونه: المحرم)) [1].
شهر الحرام مبارك ميمون والصوم فيه مضاعف مسنون
فأكثروا فيه من الصوم, فإن ضعفتم عن ذلك فلا يفوتنكم صيام يوم عاشوراء, أي: يوم العاشر منه, فإن فضيلته عظيمة, وحرمته قديمة, وكان النبي يداوم ويتحرى صيامه, فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن صوم يوم عاشوراء فقال: (ما رأيت النبي يتحرى صيام يوم فضله على غيره, إلا هذا اليوم؛ يوم عاشوراء, وهذا الشهر ـ يعني شهر رمضان ـ) [2] رواه الشيخان. وكان يحث عليه ويأمر به, فعن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: ((يكفر السنة الماضية)) [3].
وأما سبب صومه: فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء, فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: هذا يوم صالح, هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم, فصامه موسى, فقال: ((فأنا أحق بموسى منكم)) فصامه وأمر بصيامه. رواه البخاري ومسلم [4].
فهذا يوم أعز الله فيه أولياءه وأحبابه, وأذل أعدائه وأعداء رسله, فلذا نحن نصومه شكراً لله تعالى على ذلك, فنصر موسى عليه السلام هو نصر لنا أمة الإسلام, قال الله تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]. فمن قال: لا إله إلا الله, وقام بتوحيد الله, وصدق رسله, ودعا إليه, فهو منا ونحن منه, مهما تباعد الزمان ونأى المكان وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52].
وبإحياء ذكرى ذلك النصر المجيد، على ذلك الطاغية الكبير، نعلن أن الدعوات لا تهزم بالأذى والحرب والاضطهاد. فإن عاقبة الظلم وخيمة. والله ناصر دينه, وكتابه, وأوليائه.
تالله ما الدعوات تهزم بالأذى أبداً وفي التاريخ بَرُّ يميني
أيها المؤمنون, إن من المعالم البارزة في شريعتكم؛ مخالفة أعداء الله تعالى وعدم التشبه بهم, لذا فإن النبي حرص على مخالفة اليهود والنصارى, وغيرهم من الكفار, في دقيق الأمر وجليله, ومن ذلك صيام عاشوراء, فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: حين صام رسول الله يوم عاشوراء وأمر بصيامه, قالوا: يا رسول الله, إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا كان العام المقبل ـ إن شاء الله ـ صمنا اليوم التاسع)) فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله. رواه مسلم.
فصوموا ـ أيها المؤمنون ـ اليوم العاشر من هذا الشهر, وصوموا اليوم التاسع, كما هم نبيكم أن يفعل ذلك.
[1] أخرجه أحمد برقم (8151).
[2] أخرجه البخاري في الصوم برقم (1867), وأخرجه مسلم في الصيام (1914).
[3] أخرجه مسلم في الصيام برقم (1976).
[4] أخرجه البخاري في الصوم برقم (1865), وأخرجه مسلم في الصيام برقم (1911).
(1/3109)
الأمة الإسلامية بين الأنفاق والآفاق
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, المسلمون في العالم
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
12/2/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الوقع المرّ. 2- تداعي الأمم على الأمة الإسلامية. 3- خطورة الخلل العقدي والأخلاقي. 4- الهجمة الصهيونية واغتيال الشيخ أحمد يلسين. 5- الإجرام اليهودي. 6- ضرورة حل القضية الفلسطينية. 7- دعوة للشعب الفلسطيني المجاهد. 8- كلمة لقادة المسلمين. 9- العاقبة للتقوى. 10- التحذير من برنامج "ستار أكاديمي" وأمثاله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ بتقوى الله عزّ وجلّ، فمن حقّق التقوى في هذه الدنيا سعِد وعلا، ونال في الآخرة الدرجات العُلا، فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ في كلّ حال، تحقِّقوا بتوفيقِ الكريم المتعال صلاحَ الحال والمآل والسلامةَ من حال أهل الضلال.
أيّها المسلمون، لا يحتاج المرءُ إلى كبير عناءٍ ليدرِك أنّ الواقع المعاصر لأمّتنا الإسلاميّة هو مِن أمرِّ ما مرَّ بها عبر تاريخها الطويل، إن لم يكن هو أمرّها على الإطلاق، فأزمتُها الحاضرة ليست كسالِف الأزَمات ونكبتها ونكستُها المعاصرة في كثيرٍ من المجالات تكاد تكون غيرَ مسبوقة في النكبات والنكسات، وما ذلك إلا لخطورة التحدِّيات وشدّة الصراعات وضراوَة المؤامرات المتثِّلة في تداعي الأمم عليها من خارجِها والغثائيّة المهينة من داخلها. خرّج أبو داود وغيره أنّ رسول الله قال: ((يوشِك أن تداعَى عليكم الأممُ كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، فقال قائل: أوَمِن قلّة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنّكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن)) ، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حبُّ الدنيا وكراهية الموت)) [1].
معاشرَ المسلمين، وها قد تحقَّقت النِّذارة، فهذه الأممُ المتداعية تعيش القمّة والصّدارة، بينما تعيش الأمة الإسلامية حياةَ الاستجداء والزِّراية، ولئن اعترَف الغيورون بالحقّ المرِّ في ذلك الواقعِ المؤلم فإنهم ينظرُون إلى مرمًى بعيدٍ يرومون تحصيلَه، وهو أنّ الاعترافَ بالخطأ والتقصير أوّل الخطوات على طريق الإصلاح والتغيير، وأنّ أوّل مراحلِ البناء هو بناءُ النفوس بالمعتقَد الصحيح والإيمان القويِّ والعبادة الزاكية والفِكر النيِّر والأخلاق الكريمة.
إخوةَ العقيدة، وإنّ أشدَّ أنواع الخلَل فتكًا بالأفراد والمجتمعات هو دُخول النّقص على الأمّة في دينها وعقيدتها والإزراءُ بفكرها وثقافتها وإرثِها الحضاريّ والانسياقُ وراءَ قراصنة الفِكر والثقافة وسماسرةِ الأخلاق الذين يجرّون الأمة إلى مستنقعاتٍ عميقة من الرذيلةِ وهوّةٍ سحيقة من الانحلال والإباحية، وهي من أعظم أسبابِ هزائم الأمم وانتكاساتِ الشعوب وهدمِ الأمجاد وتقويض الحضارات، وكم عانت منها أمّتنا، فأوصلتها إلى حضيضِ الغبراء بعد أن كانت في ذُرَى العلياء، فإلى جانِب التخلُّف المزري الذي تعيشه الأمّة في جوانبَ شتى من حياتها أصيبَت بالوهَن والضّعف، لا أمامَ القوى العالميّة فحسب، بل أمام قوّةٍ ضئيلة في دوليةٍ صغيرة ضعيفة في ذاتها متخلّفة في كيانها، ولكنها بدأت تستنسرُ على الأمة وتستأسِد على أبنائها، فتقيم لهم المجازرَ بين الفينة والأخرى، وتجوس خلال ديارِها، فتنهبُ خيراتها وتستنزف طاقاتها وتعبَث بمقدَّراتها وتنتهك حرماتها وتجتاح أراضيها، وكأنها حمًى مستباحٌ لكلّ معتدٍ مأفون، يصاحِب ذلك ضياعٌ فكريّ وسقوط أخلاقيّ وتسطيحٌ تربويّ وانتكاسَة ثقافيّة وإعلاميّة تنظر إلى الدين على أنّه تخلُّف ورجعية. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل تعدّاه إلى ما هو أشدّ وأنكى، إلى إقامةِ متاريس من أجيالٍ مُسخَت هويّتها وانتُزعت شخصيّتُها وسُمِّمت أفكارها، تنعق بدعواتٍ غريبة على دينها ومجتمعاتها، وتستغلّ الأحداث، وتفتعِل الأزمات، لتحقيق الأهدافِ وتصفية الحسابات، وتكلّمت الرويبِضة في أمرِ العامّة، وخاضت كثيرٌ من الأقلام في أمورِ الحلال والحرام، وأصبح الخوضُ في أمور الشريعة تخصُّصَ من لا تخصّص له، وعمَد أقوامٌ إلى ثقافة العُنف تخلُّصًا من هذا الواقع المزري.
أمّةَ الإسلام، والكارثة الأخطرُ في المنطقة التي لا تزال الأمّة تعيش عقابيلَها حتى هذه اللحظةِ هي تلك الهجمَة الصهيونيّةُ الغاشمة على الأمّة الإسلامية؛ حيث يشهَد الكيان الصهيونيّ هذه الأيامَ حالةً من التخبّط والإمعان في الكيد للأمّة ودينها ومقدَّساتها ورموزها، ولقد كان آخر مسلسَلِ الجرائم البشِعة التي أقدم عليها هذا الكيان الغاشِمُ هو ما رُزِئت به الأمّة الإسلامية عامّةً والقضيّة الفلسطينيّة خاصّة من جريمةِ اغتيال الشيخ المجاهد أحمد ياسين رحمه الله رحمةً واسِعة، وكتبه في عِداد الشهداء الأبرار والصِّدّيقين، ورفع درجتَه في المهديّين، وأعلى منازلَه في عِلّيِّين، وخَلَفه في عقِبه في الغابِرين، فعلى مِثلِه فلتَبكِ البواكِي، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
ولقد تولَّى كبرَ هذه الجريمةِ النّكراء والحادثةِ الشّنعاء مَن شَنُّ الشرِّ وراءُ الإرهاب وواوُ القسوةِ ونون العنصرية والعدوان والطغيان في اسمه.
وقلَّ أن أبصرَت عيناك ذا لقبٍ إلاّ ومعناه إن فكَّرت في لقبه
لقد هزّت هذه الجريمةُ البشِعة مشاعرَ الأمّة جميعًا، بل مشاعرَ كلّ الشرفاء ممّن يؤمِن بقيَم الحقّ والعدل والحرّية وحقوقِ الإنسان في العالم، كما أنها تمثِّل في فصولها ومشاهِدها أبشعَ معاني الغدر والظلمِ والخيانة والخسَّة والدناءة التي ينتهجها أبناء صهيون.
إنّ إقدام إسرائيلَ على اغتيالِ الشيخ المجاهد المسِنّ المقعَد المريض ـ عليه سحائب الرحمة والرضوان ـ بهذه الطريقة المروّعة يُعتبَر خرقًا لكلّ المبادئ الإنسانيّة والأعرافِ والمواثيق الدولية وتجاوزًا لكلّ الخطوط الحمراءِ وإمعانًا في الحِقد السافر والكيد الكُبَّار والمشروعِ الدمويّ الغادِر لهؤلاء وإماطةً للِّثام عن الوجه الكالح وإذكاءً للحِقد والكراهية والعنصرية البغيضة بين الشعوب. ومع أنّ الإسلامَ هو دين الرحمة والتسامُح والسلام، فإنّه يأبى كلَّ الإباء معانيَ التخاذل والضَّيم والاستسلام. ألم يئِن الأوان ـ يا أمّة الإسلام ـ لوقفِ نزيف الدمِ المسلم المتدفِّق على ثرَى فلسطين وفي كل مكان؟!
ولا عجب، فتاريخُ القوم قاتِم بمدادٍ سوداء في سلسلةِ قتل الأنبياء والمجاهدين والصّلَحاء، مع أنّ الكتاب الذي أنزِل على موسى رحمةٌ كلُّه، قال تعالى: وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى? إَمَامًا وَرَحْمَةً [هود:17]، فأينَ الرحمة من هذه الوحشية المجرّدة عن كلّ القيَم الأخلاقية والإنسانية؟! لكن لعلّها بداية النهاية لهم.
إنّ على المجتمع الدّولي أن يبادرَ بوضع حلٍّ عاجل واتِّخاذ موقفٍ حاسِم لعلاج ما آل إليه وضعُ إخواننا المسلمين في فلسطين وإيقاف سياسةِ العبَث والعُنف الصهيونيّ المستمر واستهتاره بأرواحِ ودماءِ الشعب الفلسطينيّ المسلم، والذي لا يؤدّي إلاّ إلى مزيدٍ من العنف والتدهوُر والفوضى، مما يشكِّل عائقًا أمام الجهود الراميةِ لوقف النزيف الدمويّ على أرض الإسراء والمعراج. فهل تأخذ الأمّة الدروسَ والعبر من هذه الأحداث المؤلمة؟! وهل تعي أنّ القوّة الحقيقيّة إنما هي قوّة العقيدة والإيمان، وأنَّ بلوغ القمّة إنما هو في القوة وعلو الهمة، وأنّ ولاءَ الأمة إنما هو لعقيدتها ومنهجِها، لا للأشخاصِ والذوات، كما أنّ معركة الأمّة مع عدوّها ـ ممن لا يرقُبون في مؤمنٍ إلاً ولا ذمّة وأولئك هم المعتدون ـ إنما هي معركةُ عقيدةٍ وهويّة ومصير، وأنّ أمّتنا تأبى الانهزاميّة وتستعصِي على التلاشِي والذوَبان، وأنّ روح المقاومةِ تحفر خنادقَ في القلوب للتضحيةِ بالنفس والنفيس من أجلِ نُصرة دين الله والاضطلاع بهمومِ الأمة وقضاياها، وأنّ السيرَ خلف الوَهم والسراب والوعود الكاذبة والأحلام الوَردية ضربٌ من تخديرِ الأمّة عن نُصرة قضاياها العادلَة، وأنّ ما حصل ويحصُل للمسلمين إنما هو تمحيصٌ وابتلاء يتمخَّض عنه بحول الله بشائرُ عاجلة وآجلة، تدفع لصحوةِ الأمة من غفوَتها ونهوضِها من كبوتها، وتبعَث همّتها الحضارية وقوّتها المعنويّة والمادية حتى يتحقَّق النصر بإذن الله.
إنَّ الدعوةَ موجَّهة من منبر المسجدِ الحرام الذي يمثِّل الارتباط العقديَّ والتاريخيّ مع المسجد الأقصى المبارك لإخواننا المجاهدين على أرض فلسطين المباركة أن يقِفوا صفًّا واحدًا أمام العدوّ الصهيونيّ الغاشم، وأن يتخلَّوا عن كلّ عواملِ الاختلاف والتنازع والشِّقاق، وإننا نناشِدهم التمسّكَ بالكتاب والسنّة وتضييعَ الفرصة على المنتهزين والمستفزِّين ومَن يريدون الاصطياد بالمياه العكِرة.
فيا إخواننا في أرض الرسالات ومهدِ البطولات، يا أبناءَ الأبطال المجاهدين، ويا أحفادَ الصناديد الفاتحين، لقد أحييتم في الأمّة آمالها بجهادِكم المبارك، فالله اللهَ في الصبر والمصابرةِ حتى تتحقَّق لكم بإذن الله إحدى الحسنيَين: النصر أو الشهادة. قلوبُنا معكم، والدعاء مبذولٌ لكم، ولن تدَّخِر الأمّة مالاً ولا جُهدًا في نُصرة قضيّتكم التي هي قضيّة المسلمين الأولى حتى يأتيّ وعد الله الذي لا يخلِف الميعاد.
ويا قادةَ المسلمين، يا مَن مكّنكم الله في أرضِه وعباده، القدسُ والأقصى أمانةٌ في أعناق الأمّة، والشعوب الإسلاميّة تتطلّع إلى اجتماع قمَّتكم في أقربِ فرصةٍ سانحة للخروجِ بمواقفَ عمليّةٍ حازمة لنُصرة المستضعفين، خاصّة في أرض العراق وفلسطين، ووضعِ حدٍّ صارم للتّجاوزات الصهيونيّة وخطرِها على المنطقة والعالم، سدَّد الله الخطى وبارك في الجهود.
فصِدقًا صِدقًا أيها المسلمون، وصَبرًا صبرًا أيها المجاهدون، وليستيقِنْ الجميعُ أنّ ثمةَ حقيقةً شرعيّة ينبغي أن لا تعزب عن الأذهان مطلقًا، وهي أن عاقبةَ التدافعِ بين القوى وثمرةَ الصراع بين الحقّ والباطل إنما هي للمؤمنين المتّقين، فليهنَأ المسلمون بذلك، وليقرَّ المؤمنون أعُينًا بهذا، ولتُشفَ صدورهم ويذهب غيظ قلوبهم، فالنصر للإسلام وأهله، طالَ الزمان أو قصر، وما علينا إلاّ الإخلاص والصدقُ والجدّ والعمل، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
وَ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ?للَّهَ لَمَعَ ?لْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنّة، ونفعني وإيّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، فيا بُشرى للتائبين، ويا لفوز المستغفرين، وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
[1] سنن أبي داود: كتاب الملاحم (4297) عن ثوبان رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (5/378)، والطبراني في الكبير (1452)، والبيهقي في الدلائل (6/534)، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (958).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ الأرباب ومسبِّب الأسباب وخالق الناس من تراب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، منزلِ الكتاب ومُجري السحاب وهازم الأحزاب، وأشهد أنّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، خيرُ نبيٍّ أنزل عليه خيرُ كتاب، بعثه الله ليتمّم مكارمَ الأخلاق والآداب، صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير آل وأصحاب، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآب.
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أيّها الإخوة الأحبّة في الله، وفي الوقتِ الذي تكفكِف الأمة دموعَها على ما آل إليه حالها تتعرَّض الأمّة في صفحةٍ أخرى من مآسيها لنكبةٍ أخلاقيّة ونكسة قيَميَة خطيرة، تمثِّل أدنى دركاتِ الانحطاط الأخلاقيّ المتمثِّل في إفرازاتٍ إعلامية عبر قنواتٍ فضائية غيرِ مسؤولة، تعمَد لإقصاء الفضيلة وإعلاءِ راية الرذيلة، في مشاهدَ من التبذّل والعُري الذي لا يقرّه أهلُ النفوس السليمَة والفِطَر المستقيمِة والذّوق الرفيع، فضلاً عن أهل الديانة والعفّة والحياء والحشمة، تحت مسمّيات "ستارٍ من المهازل" و"على الرذيلة سواء" و"على طريق العَفَن معًا"، في نوعٍ من أنواع الحربِ على قيَم الأمّة وفضائلها، وسلاح فتّاك من أسلحة الدّمار الشامل لكلّ أنواع القيم والعفافِ والفضيلة، مما يُسهِم بجلاءٍ في خلخلة المنظومةِ الاجتماعيّة المحافظَة والنسيج الأخلاقيّ المتميّز لهذه الأمة، ويفرز آثارًا اجتماعيّة خطيرةً في التمرّد على القيَم والانفلاتِ مِن الأخلاق والمثُل، في الوقتِ الذي تعيش فيه أمّتنا ظروفًا عصيبة، تتطلّب العنايةَ بالجيل والحفاظَ على النشء من موجاتِ الانفتاح والتغيير والتغريبِ التي حلّت بالأمّة دون ضوابطَ شرعيّة أو آدابٍ مرعية، مما يجسِّد المسؤوليةَ على الأسرة والمجتمع بأسرِه في بثّ الوعي بين أطيافه، لا سيما بين الشبابِ والفتيات.
أمّا المسؤولون عن هذه القنواتِ فإنّنا نناشِدهم الله في الكفِّ عن أمثالِ هذه البرامجِ المسطَّحة التي تعمل على إشاعة الفاحشةِ في المؤمنين، والتي تعَدّ بحقٍّ خذلانًا للأمّة وقَفزًا على اهتماماتها ونكأً لجراحها وخيانةً لقضاياها، ومع ما قد يُظنّ أنّ الحديث يجنح لعاطفةٍ فإنّ من التعقُّل والحكمة أن يعيشَ المرء وسطًا بين الرؤى، بين منابع اليأس وإشراقات التفاؤل والأمل، فلا يُضاق بالتشاؤم لما يبثّه من كسرِ النفس وجَلدِ الذات والركون إلى الإحباط وترك العمل، ولا إفراطَ في الحديث عن جوانبِ القصور والسلبيّة، ففي الأمّة بحمد الله جوانبُ خير كثيرة، ينبغي أن تستثمَر في بثّ روح الأمل والتفاؤل.
فالحقّ منصورٌ وممتحَن فلا تعجَب هذه سنة الرحمن
فكم في طيّات المحَن من مِنَح، وكم في ثنايا النِّقم من نِعم، وتلك سنّة الله الكونيّة والشرعية، وسِجِلّ التأريخ خير شاهدٍ مما يبعَث في نفس المسلم الثقةَ بالله عزّ وجلّ ونصرة دينه من غير يأسٍ مقعِد ولا إحباطٍ قاتل، ومن غير تهوّرٍ عاجل وحماسٍ واندفاع زائل، والموفَّق من قوّمته الدروس وأنارته المواقفُ والعبر، فأدرك أوّلَ الأحداث وآخرها، وفهِم آثارها وأسرارها وعواقبَها، والله هو هادي الخلق إلى الحقّ، وهو المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ألا وصلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على سيد ولد آدم، نبيّ الرحمة والملاحم، ورسول الخير والرحمة والمكارم، نبينا محمد أبي القاسم، كما أمركم بذلك ربّكم جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلِّم وبارك على سيّدنا وحبيبنا وقدوتِنا محمّد بن عبد الله، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
(1/3110)
خصائص الأمة المحمدية
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
12/2/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة مراجعة خصائص الأمة. 2- خاصية الاستسلام لله تعالى ورسوله. 3- خاصية الجدّ والبعد عن اللغو واللهو. 4- خاصية الاجتماع والترابط. 5- خاصية الخيرية. 6- خاصية النصرة والعزة والتمكين. 7- ضرورة معرفة شروط النصر. 8- منهج الأمة الإسلامية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، بها يحسُن المخرَج من كلِّ ضيق، وبها تحصُل النجاة من الشقاء، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
معاشرَ المسلمين، إنَّ الأمةَ الإسلاميّة اليوم ـ وهي على مفترَق طرقٍ، تعاني تكالُب الأعداء، وتقاسي التحدِّيات المتنوعة، وتتجرَّع الأضرارَ المختلفة، وتعايش الأخطار المحدِقة ـ لفي أشدِّ الحاجة إلى ما يُصلح أحوالَها ويسدِّد شؤونها. ما أحوجَها لما يعيد الثقةَ والطمأنينة، ويُرسي لها سبيلَ العزّة والرفعة، ويقودها لطريق الفلاح والسعادة.
إنّ الأمّةَ المحمدية اليوم في أمسِّ الحاجة لمراجعةِ خصائصها والتبصُّر في مقوِّماتها؛ إذ الأمةُ ذاتُ خصائصَ لا تقوم لها حياةٌ طيبة ولا تندرج في مدارجِ الكمال ولا تنتظِم في سِلك السعادة والنُصرة والفلاح والعزَّة إلاَّ بتحقيقها وتحصيلها.
معاشرَ المؤمنين، إنَّ أعظمَ خصائصِ هذه الأمّة أنَّها أمّة خضوع لله جل وعلا واستسلام لأمره ونهيه في كلِّ شأنٍ من شؤونها، على ضوء قوله جلّ وعلا: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]. إنه الاستسلام الكاملُ لله ولرسوله في جميع نواحي الحياة صغيرها وكبيرها، تنفيذًا لقول الله جل وعلا: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:65].
أمّةُ الإسلام لا تحصِّل سعادةً وفلاحًا ولا تحقِّق عزًا وتمكينًا إلا بتحقيق كاملٍ لعقيدة التوحيد الخالص والإيمان التامّ، ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]. أمنُها بكلِّ صُوَره واستقرارها بشتَّى مجالاته موهونٌ بتلك القاعدةِ الإيمانية التي تعطِيها الثقةَ والطمأنينة، فلا تخشى أحدًا إلاَّ الله جل وعلا، لإيمانها بأنَّ كلَّ قوّةٍ عند قوّة الله هباء، وكلَّ سلطانٍ سوى سلطانه سراب، يقول الله جل وعلا حاكيًا عن خليله إبراهيم: وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى شَيْئًا وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَىْء عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ [الأنعام:80].
إخوةَ الإسلام، أمّةُ الإسلام أمةٌ من خصائص أبنائها البعدُ عن اللغو في جميع صُوَره وشتى حالاته، ومجانبةُ اللهو الباطل والشهواتِ المحرَّمة، ذلكم أنَّها أمّةٌ يجب أن تبقى في المرتقَى الأعلى الذي يتطلَّبه إيمانها بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمَّد نبينًا ورسولا. أمّةُ جدٍّ وإصلاح، تعمّر حياتها بكلِّ نافع، وتستثمِر طاقاتها في سبيل البناء والنماء والرقيّ.
أمّةُ الإسلام أمّةٌ ترتبط مجتمعاتُها بالطهارة والنزاهة في التصرُّفات كلّها والرغبات جميعها، فهي دائمًا بحُكم دينها منتصِرة على النفوس وشهواتِها وحبِّ الذات ولذّاتها، إلاَّ فيما أباح الربُّ جل وعلا وأحلّ، يقول سبحانه مبيّنًا خصائص الأمة المحمدية: قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ عَنِ ?للَّغْوِ مُّعْرِضُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَو?ةِ فَـ?عِلُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـ?فِظُونَ إِلاَّ عَلَى? أَزْو?جِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون:1-6].
معاشر المؤمنين، إن أمّةَ الإسلام أمةٌ من أبرز خصائصِها وأمتن مقوِّمات عزِّها وأعظم أسبابِ صلاحها مبدأ الاتفاق على كلِّ خير والاجتماعِ على كلّ برّ والالتحام في ضوء عقيدتها وثوابت دينها، فربّنا جل وعلا يقول: وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، ونبينا يقول: ((إنّ الله يرضى لكم ثلاثًا ويكره لكم ثلاثًا، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرّقوا، ويكره لكم قيلَ وقال وكثرةَ السؤال وإضاعةَ المال)) أخرجه مسلم [1].
ومِن هنا فمتى حادَت الأمةُ الإسلامية عن هذه الخاصيّة، فتفرّقت كلمتُها واختلفت توجهاتُ أبنائها وتبدَّدت وحدةُ صفِّها، عندئذ يضعُف شأنها، وتذهب هيبتها، وتفشل في جميع أمورها، وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:46].
وإنّه لحريّ بالأمّة اليوم أن تنسَى خِلافاتها، وأن تقدِّم الصالحَ العامّ على الصالح الخاصّ، وأن تحذوَ حذوَ غيرها فتأخذَ بمضامين الوحدةِ وأسباب الاجتماع على الهدى والخير والصلاح.
هذه الأمّة من خصائصها أنها خيرُ الأمم، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، حقيقتُها أنها أُخرِجت لتكونَ طليعةً وقائدةً إلى كلّ خير، واجبُها إبراز الخير للأمم بما تمارسِه من اعتقادٍ صحيح وخُلُق قويم ومبادئ فاضلة، هي خيرُ الأمم لما تحقِّقه من الإيمان الصحيح ومن النهوض بتكاليفِ الأمّة الخيِّرة بكلّ عملٍ خيِّر إيجابيّ يحفَظ حياةَ البشر من الفسادِ وعوامله والمنكر وأسبابه والشر ومضامينه، وبما تقوم به من دعوةٍ للفضيلة وإقامةِ حياةٍ خيِّرة تقود للموازين العادلة والقيم الطيبة.
وحينئذ، فمتى فقدت الأمّة مقوّمات هذه الخيريّة التي اختُصَّت بها أو أخلَّت بشيء من شروطها وقعت في الأضرار والمِحن وحَصَلت لها الشرورُ والفتن، يقول : ((والذين نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر أو ليوشكنَّ الله أن يبعثَ عليكم عقابًا منه، ثمّ تدعونَه فلا يُستجاب لكم)) رواه الترمذي وهو حديث حسن وله شواهد [2].
معاشر المسلمين، الأمةُ المحمدية أمةٌ من خصائصها أنها منصورةٌ من الله جلّ وعلا، مهما وُضِعت في سبيلها العوائق وقامت في طريقها العراقيل، ومهما رصَدَ الباطلُ من قوّة الحديد والنار وفنون الدعايات المُغرضة والافتراءات المتناهية، فهي موعودةٌ بالنّصر الشامِل والعزِّ الكامل في دينها ودنياها، في حربها وسلمها، لكنَّ هذا النصرَ مشروطٌ بالصّدق في الإيمان والعمل بالإسلام والقيام بسنة سيّد الأنام والاهتداء بسيرته عليه أفضل الصلاة والسلام، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:171-173]، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51].
أمةُ الإسلام أمةٌ موعودةٌ بالاستخلاف في الأرض وبالتمكين المتين على الدين الحقِّ والحياة الآمنة من المخاطر والأضرار، ولكن هذا الوعدُ مرتبطٌ بقيام الأمة بحقوق هذا الدين، والالتزام بطاعة ربِّ العالمين، حتى لا يبقَى منها هوًى في النفس ولا شهوةٌ في القلب ولا حركة في هذه الدنيا إلاَّ وهي تبعٌ لما جاء به المصطفى ، وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ وَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:55، 56].
إنّه الإيمان الذي يلزِم الأمّةَ بالتوجُّه الصادق لله في الاعتقاد والتعبُّد، في التشريع والحُكم، في العَمَل والسلوك والتصرُّفات. الإيمانُ الذي يقود لاتِّخاذِ الإسلام منهجَ حياةٍ لتحقيق الاستخلاف في الأرض، الاستخلافِ الذي تقوم به أمّةُ محمد ؛ تقوم به في الإصلاح والبناء، لا في الهدم والفساد، تقومُ به الأمة على العدل والإحسان، لا على الظلم والجَور.
أيتها الأمة المفضَّلة، أدرِكوا الشَّرطَ والمشروط، تبصَّروا في الوعد والموعود. تذكَّروا أنه عَبر تاريخ الأمة المحمدية فإنها ما استقامت على المنهج المرتضى وما مِن مرّة سارت على هذه القاعدة القرآنيّة وحكَّمت هذا المنهجَ الرباني وارتضته في كلّ أمورها إلاَّ وتحقَّق لها وعدُ الله جلَّ وعلا بالاستخلاف والأمن والفلاح والسعادة، وما من مرَّة خالفت هذا المنهجَ إلاَّ وتخلَّفت في ذيل القافلة، وذلَّت بعد العزّة، واستبدَّ بها الخوفُ بعد الأمن، وتخطَّفها الأعداءُ من كلّ جانب.
أيّها المسلمون، كيفَ ترجُو الأمّة الإسلامية فلاحًا وقد أضاعت كثيرًا من مقوّماته؟! كيف تصبو إلى عزٍّ وتمكين وقد فرَّطت في أسُسه وشروطه؟! كيف تفلح الأمةُ حين تحكِّم غيرَ شرع الله، وحين تقود حياتَها بغير هديه؟! كيف ترجو النجاةَ من المخاطر وقد أهملت في كثير من مواضِعها قاعدةَ الإصلاح، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياتها وبين أبنائها؟! أنّى للأمة العزّة والسؤددُ والنصر والسعادة حين ترى في أبنائها إطلاقَ الشهوات بغير ضوابطِ الشرع المطهَّر التي تضبط الخلَلَ وتصون عن الفساد بكلّ مجالاته؟! كيف تنجو الأمة من مصائبها وتتخلَّص من مِحَنها وفي أبنائها ومِن بني جِلدتها مَن يسعَى لإضلال مجتمعاتها ويتسبّب في [فساد] أخلاقِ أفرادها بما يبثُّه من برامجَ إعلاميةٍ هابطةٍ تتضمَّن كلَّ فسادٍ وتشتمل على كلِّ ضرر؟! وربُّنا جل وعلا يقول: إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النور:19].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بسنة سيّد الأنام، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الأقضية (1715) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] سنن الترمذي: كتاب الفتن (2169) عن حذيفة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (5/388، 391)، والبيهقي في الشعب (6/84)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1762).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ سيدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فهي وصيّة الله للأولين والآخرين.
معاشر المسلمين، إنّ الأمةَ الإسلامية أمةٌ واضحةُ المنهج، منهجُها منهجُ الهداية والإيمان، منهجُ الشريعة والإسلام، فمتى خالفت أو حادت أصابَها شقاءُ الدنيا قبلَ شقاءِ الآخرة، وعاشت في تخبُّطٍ وحيرة وأصابها الضّنك من كلّ جانب، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:123، 124].
ثمّ إنّ الله جل وعلا أمرنا بأمر عظيم تزكو به حياتنا، ألا وهو الإكثار من الصلاة والسلام على النبي المصطفى.
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، اللهمّ ارضَ عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين...
(1/3111)
فضل الصدق
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الألوهية
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
12/2/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمر الله سبحانه بالصدق. 2- الصدق مع الله تعالى. 3- التحذير من النفاق. 4- الصدق في الدعوة إلى الله تعالى. 5- الصدق في الحسبة. 6- الصدق في أداء أركان الإسلام. 7- فضل الصادق وصفاته. 8- الصدق ملازم للمؤمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جلّ وعلا آمرًا عبادَه المؤمنين السّامِعين المستجِيبين لله ورسولِه: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
أمرٌ مِن ربّ العالمين لعبادِه المؤمنين أن يَكونوا معَ الصادقين، وفي جملةِ الصّادقين، وأن يلزَموا الصِّدقَ في أقوالهم وأعمالهم، فإنَّ الصدقَ يهدِي إلى البر، وإنَّ البر يهدي للجنة، ولا يزال العبد يصدُق ويتحرّى الصدق حتى يكتَب عند الله صِدّيقًا.
أيّها المسلم، كن صادقًا مع ربّك، كن صادقًا مع نفسِك، كُن صادقًا في تعامُلك. الزَم الصدقَ، فإنّه حِلية المؤمنين، ومن أفضل أخلاقِهم وصفاتهم.
أيّها المسلم، الصدقُ طمأنينة، الصّدق نجاة من كلّ مكروه، الصدقُ دليلٌ على قوّة الإيمان واليقين.
أيّها المسلم، كن صادقًا مع ربّك، فإنّ المؤمن صادقٌ في توحيده لربِّه، إذ إيمانه بالله إيمانٌ ظاهر وباطن، آمن قلبُه ونطَق لسانه واستقامَت جوارحه. وذاك بخلافِ غير المؤمنين، وهم المنافقون، آمَنوا ظاهرًا وكفَروا باطنًا، آمَن اللِّسان وكفَر القلب، قال تعالى: إِذَا جَاءكَ ?لْمُنَـ?فِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ?للَّهِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ?للَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لَكَـ?ذِبُونَ [المنافقون:1]، وَإِذَا لَقُواْ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى? شَيَـ?طِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ ?للَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـ?نِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:14، 15].
أيّها المسلم، فكُن صادقًا في توحيدِك، فإيمانك بالله وبكمال ربوبيّته، وإيمانُك بأنّ الله وحدَه هو المستحِقّ أن يعبَد دون سِواه، وإيمانُك بأسماء الله وصفاتِه إيمانٌ ظاهر وباطن، لتكونَ من المؤمنين حقًّا. واحذَر الخداعَ والباطل فإنّ الله جلّ وعلا عالم بما انطَوى عليه ضميرُك، قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ?للَّهُ [آل عمران:29]. ويومَ القيامة إذا أمِر الناس بالعبور على الصّراط وجاء المنافقون أُعطُوا نورًا، فإذا جاءَ العبور حُرِموا ذلك النور، لأنَّ إيمانهم كان ظاهرًا، ولم يكُن إيمانهم باطنًا وظاهرًا، ينادون المؤمنين: أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى? وَلَـ?كِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَ?رْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ ?لأَمَانِىُّ حَتَّى? جَاء أَمْرُ ?للَّهِ وَغَرَّكُم بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [الحديد:14].
أخي المسلم، كُن صادقًا في دعوتِك إلى الله، ليكُنَ منطلقك في الدعوة حبَّ الخير للأمّة والسّعي في توجيهها وإرشادِها وإنقاذِها مِن ظلماتِ الجهل إلى نورِ العلم والهدى، فالصادِق في دعوتِه واضحٌ في منهجه، ظاهرُه وباطنُه سواء، ليس هدفُه من دعوته حظوظَ نفسه ولا إبراز شخصيّته ولا أن يُتحدّث عنه، ولكن يقصد بها وجهَ الله والدارَ الآخرة.
أيّها المسلم، كن صادقًا في أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، فتأمر بالمعروف بصِدق، وتنهى عن المنكر بصدق، تحبّ الإحسانَ إلى عباد الله ورحمةَ عباد الله وإنقاذَهم من مخالفة الشرع.
أيّها المسلم، الصّدقُ معك في أدائِك لأركانِ دينك: صلاتِك وزكاتِك وصومِك وحجِّك، فكن صادقًا في أقوالك كلِّها، لأنّ الله لا يقبل العملَ إلاَّ إذا كان خالصًا لوجهِه، وكان ذلك العملُ على وفقِ ما دلّ الكتاب والسنة عليه.
أيّها المسلم، ترى الصادقَ حقًّا تطمئنّ إليه النفس، ويرتاح إليه القلب، إن حدّثك وثقتَ بحديثه، فحديثه وإخبارُه صدقٌ لا شكّ فيه، أحاديثه صِدق لا كذبَ فيها، ترى ذلك الصادقَ إن حدّثك اطمأننتَ لحديثه ورغبت فيه لكونه صدقًا لا كذبَ فيه.
الصادق ـ أخي المسلم ـ الصادقُ في محبته، فمحبّته محبة صادقة، قائمةٌ على محبة الله ورسوله، فهو لا يحبّك لدنيا يرجوها منك، ولا لمصالح، وإنما يحبّك لله وفي سبيلِ الله، ولذا أوثقُ عُرى الإيمان الحبّ في الله والبغض في الله.
أيّها المسلم، الصادقُ تطمئنّ إليه دائمًا وأبدًا في أحاديثه وإخباره، والصادق تطمئنّ إليه إن استنصحته واستشرته، فإن طلبتَ منه النصيحة محضكَ النصيحةَ الحقّة، لا يخفِي عليك، ينصحُك لله وفي سبيل الله، وإن استشرتَه أشار عليك بالخير، فهو يحبّ لك ما يحبّ لنفسه، ويكرَه لك ما يكرَه لنفسك، ولكن عياذًا بالله مِن ناصحٍ متملّق ومشير مخادِع، يظهر لك النصحَ والله يعلم ما وراء ذلك من العداوةِ والبغضاء لك، ينصحك بخلافِ ما يعتقده، ويشير عليك بخلاف ما يصلُح، والناصحُ مؤتمَن، إن أدّى النصيحة صِدقًا وإلاّ كان من الخائنين.
أيّها المسلم، الصادقُ يؤدّي الشهادةَ على الوجهِ المرضيِّ، لا يحمِله حبّه للشّخص أن يشهدَ له بالباطل، ولا يحمِله كراهيّتُه لشخص أن يشهدَ عليه بالباطل، بل هو يؤدِّي الشهادةَ على الوجه المرضيّ، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِ?لْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ ?لْو?لِدَيْنِ وَ?لأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَ?للَّهُ أَوْلَى? بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لْهَوَى? أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135].
أيّها المسلم، الصادقُ عندما تعامِله تجدُ الوفاءَ حقًّا، فليس خائنًا ولا غاشًّا ولا خادعًا ولا مدلّسًا، بل معاملته معاملةُ صدقٍ ووفاء، يحدِّثك فيصدقك، ويخبِرك بالخبر الحق، ويتعامَل معك بصدق، إن بايعتَه وجدته صادقًا في إخباره، فهو لا يتحدّث عن السّلَع التي يبيعها بخلافِ ما هي عليه، ولكن يوضح الأمر ويجلوه، ولذا في الحديث في المتبايِعَين يقول فيهما : ((فإن صدقا وبيّنا بورِك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتَما محِقت بركة بيعهما)) [1]. هذا الصادقُ في معاملته يوضِح الحقيقةَ فهو لا يغشّ المسلمين، ولا يخدَعهم، ولا يخبرهم بخلاف الواقع، ولا يمدح مبيعاته بخلاف حقيقتِها، يتّقي الله في إخباره فالناس واثقون به.
الصادق يظهر أثرُ الصدق عليه فيما تولى وتحمّل من مسؤولية، فهو لا يتَّخذ مسؤوليتَه وسيلةً لثراه، ولا وسيلة لانتقامه من هذا وإكرام ذا، ولا وسيلةً يميل به الهوى حيث مال، ولكنّه الصادق في ولايته، فيؤدّي الأمانة المطلوبةَ منه أداءً كاملاً بصدقٍ وإخلاص وخوفٍ من الله.
الصادق في تعامله مع الناس صادقٌ في وفائه والتزامه بالعقود واحترامه للمواثيق، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِ?لْعُقُودِ [المائدة:1]، فهو يعطي الناسَ حقوقهم، ولا يماطلهم، ولا يكذب عليهم، يحدّث فيصدق، التزم شروطًا فوجب عليه الوفاء بها، والمسلمون على شروطهم إلاّ شرطًا أحلّ حرامًا أو حرّم حلالاً.
السماسرة في البيع والشراء لا بدّ من صدقٍ في إخبارهم وفيما يتحدّثون به وفيما ينقلونه، فإن كانوا صادقين فما أخذوه فحلال، وإن كانوا مخادِعين وكاذبين فما أخَذوه عليهم حرام.
المحقِّقون في الأشياء كلِّها إن يكن الصدقُ ملازمًا لهم صار تحقيقهم تحقيقًا عادلاً، لا يظلِمون أحدًا لمصلحة أحد.
وهكذا المسلم في كلّ ميادين الحياة؛ صادقٌ مع الله، ثم هو صادق مع نفسِه، ثم هو صادق في تعامله مع عباد الله، صدقًا ينجيه من عذابِ الله، وصِدقًا يبوّئه جناتِ رب العالمين.
أيّها المسلم، صدقك في إيمانك سببٌ لنجاتك من عذاب الله، قال تعالى: هَـ?ذَا يَوْمُ يَنفَعُ ?لصَّـ?دِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِىَ ?للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [المائدة:119].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في البيوع (2079، 2082، 2110، 2114)، ومسلم في البيوع (1432) عن حكيم بن حزام رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أخي المسلم، إنَّ الصدقَ خُلُق كريم، فتخلَّق به لتكونَ من السعداء في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً لّيَجْزِىَ ?للَّهُ ?لصَّـ?دِقِينَ بِصِدْقِهِمْ [الأحزاب:23، 24]، وقال جلّ وعلا مبيّنًا أخلاقَ المؤمنين والمؤمنات: إِنَّ ?لْمُسْلِمِينَ وَ?لْمُسْلِمَـ?تِ وَ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَ?لْقَـ?نِتِينَ وَ?لْقَـ?نِتَـ?تِ وَ?لصَّـ?دِقِينَ وَ?لصَّـ?دِقَـ?تِ [الأحزاب:35]، وقال جل وعلا: فَلَوْ صَدَقُواْ ?للَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ [محمد:21].
أخي المسلم، الصدقُ يصحَب المسلمَ في حركاته وسكناته، في أقواله وأعماله، فيما وُليَ من عمل وفيما أوجب الله عليه من الواجبات. كن ـ يا أخي المسلم ـ صادقًا في أقوالك، تحرَّ الصدقَ والزمه، يلزمُك بذلك البعدُ عن قيل وقال، وبئس مطيّة القومِ "زعموا"، وكفى بالرجل كذبًا أن يحدّث بكلّ ما سمع.
أيّها المسلم، كن صادقًا في أحوالِك كلِّها.
المعلّم والمعلّمة عليهم الصدقُ في مهمّتهم التي هم فيها، فيحمِلون للطلاب والطالبات الأقوالَ الطيبة والأفكار الحسنة والتعاليمَ الطيبة، ويبعدونهم عن الأخلاق الرذيلة والكلمات البذيئة، فيكون المعلّم أو المعلِّمة صدقًا في الأداءِ وصدقًا في انتظام الوقت.
الكاتبُ في صحيفتِه والمحرِّر في صحيفته يجب أن تكونَ صادقًا مع الله، صادقًا في أطروحته، صادقًا فيما يكتب وينشر متحرِّيًا الصدقَ في ذلك، هل ما يكتبه يعلم أنه صدق وأنه حق، وأن ما يقول حقيقة، أم أنه يظهر أنه حقّ وهو يعلم في باطنه أمرِه أن ما كتبه كذب وافتراء.
أيها المسلم، فكن صادقًا فيما تقول، كن صدقًا، وليكن العمل والقولُ متطابقًا، يقول الله جل وعلا: أَتَأْمُرُونَ ?لنَّاسَ بِ?لْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:44]، ويقول شعيب عليه السلام: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى? مَا أَنْهَـ?كُمْ عَنْهُ [هود:88]، والله يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ ?للَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ [الصف:2، 3]. كم من منادٍ للخير وداعٍ للإصلاح وداعٍ وداع، وهم يعلمون في قرارةِ أنفسهم أنَّ مقالَه باطل، ولكن يظهرون الإصلاحَ أحيانًا والله يعلم ما وراءَ ذلك، وقد ذمَّ الله المنافقين بأنهم إذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض قالوا: إنما نحن مصلحون، أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:12]، فليحذرِ المسلم أن يتشبّه بأولئك.
أمةَ الإسلام، إنّ ما أصاب الأمة إنما هو بضعف الصدقِ في نفوسهم، فالصدقُ الحقيقيّ هو الذي نجا به الأوائل وسعدوا وفازوا ونالوا العزَّ في الدنيا والآخرة، لما صدَقوا الله في دينهم صدقوا الله في تعاملهم، فكانوا خيرَ الناس صدقًا في كل الأحوال. إن ما أصاب المسلمين من نقص إنما هو بسبب الكذِب وضَعف الصدق في النفوس، فليكُن المسلم منا حريصًا على أن يكونَ صادقًا مع ربه في تعامله مع ربه، وصادقًا في تعامُله مع نفسه، يربِّي أولاده على الخير، ويصدُق في برّه بأبويه، ويصدق في تأديبه لأولاده، ويصدُق في كلّ أحواله.
أيّها المسلم، الزَم الصدقَ في تعاملك مع عباد الله على اختلافهم، فالصدقُ نجاة وسعادة لك في الدنيا والآخرة، واحذَر الكذب فإنّ الكذب طريق الهلاك، والصدق نجاةٌ للمسلم، والصادق لا يزال يلزَم الصدقَ حتى يكتَب عند الله صديقًا، يثق الناس بخبره، ويثِق الله بأخباره، ويثقون بأعماله، ويعلَمون أنّه صادق، أما الكذّاب فإن الثقةَ فيه تنعدِم، ولذا جعَل الله نبيّنا محمّدًا قبلَ أن يوحَى إليه متخلِّقًا بالصدق والأمانة، فكانوا يعرفونه بمكّة أنّه الصادق الأمين، وحقًّا إنّ صدقَه وأمانته كانت خلُقًا له قبل النبوة، ولذا اختاره الله، وربك يعلم حيث يجعل رسالته.
فاصدقوا الله في أحوالكم كلّها لعلكم تفلحون.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد امتثالاً لأمر ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهم من خلفائه الراشدين...
(1/3112)
جرائم أمريكا عبر التاريخ
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
9/2/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جرائم أمريكا في اليابان وفيتنام ومع الهنود الحمر. 2- جرائم أمريكا بحق المسلمين في العراق وأفغانستان. 3- إساءة أمريكا للأسرى المسلمين. 4- سنة الله عز وجل في إهلاك الأمة الظالمة لا تتبدل ولا تتغير. 5- وجوب مناصرة الشعب العراقي بكل وسيلة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: كان يظن كثير من الناس ـ بسبب الإعلام المزيف لسنوات عديدة ـ بأن أمريكا هي فعلاً دولة الديمقراطية، ودولة الحرية، وأنها راعية السلام، فتبين ـ ولله الحمد ـ من خلال غزوها الصليبي لبلاد العراق، كذب ذلكم الادّعاء، وتبين زيف ديمقراطيتها وحريتها. وقد آن الأوان أن نقلب بعض أوراق التاريخ، ونُخرج ما يجهله الكثيرون عن هذه الدولة الطاغية المعتدية، من خلال عرض سريع لبعض جرائمها عبر التاريخ.
إن أمريكا عدوّة الإنسانية، ليس المسلمين فحسب، بل من كل ملة، اسألوا أفريقيا السوداء، واسألوا اليابان، واسألوا أمريكا الجنوبية، الذين يُجزرون بعشرات الملايين، أرقام خيالية، وأعداد مذهلة، ووفيات فوق حسابات البشر، قَـ?تَلَهُمُ ?للَّهُ أَنَّى? يُؤْفَكُونَ [التوبة:30]. وطريقة القتل عند الأمريكان طريقة وحشية، وليست إنسانية، فهم يصبون وابلاً من أطنان القنابل على الأبرياء، وكأنهم يصبونها على جبال صماء، وصدق الله حيث يقول: إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ [الكهف:20].
في ليلة من ليالي عام 1366هـ، في الحرب العالمية الثانية، دمرت 334 طائرة أمريكية ما مساحته 16 ميلاً مربعًا من طوكيو، بإسقاط القنابل الحارقة، وقتلت مائة ألف شخص في يوم واحد، وشردت مليون نسمة، ولاحَظَ أحدُ كبار الجنرالات بارتياح، أن الرجال والنساء والأطفال اليابانيين قد أحرقوا، وتم غليهم وخبزهم حتى الموت، وكانت الحرارة شديدة جدًا، حتى إن الماء قد وصل في القنوات درجة الغليان، وذابت الهياكل المعدنية، وتفجر الناس في ألسنة من اللهب، وتعرضت أثناء الحرب حوالي 64 مدينة يابانية للقنابل، واستعملوا ضدهم الأسلحة النووية، ولذلك فإن اليابان لا تزال حتى اليوم تعاني من آثارها.
وألقت قنبلتين نوويتين فوق مدينتي هيروشيما ونجازاكي، وقال بعدها الرئيس الأمريكي هاري ترومان، وهو يكنّ في ضميره الثقافة الأمريكية: "العالم الآن في متناول أيدينا". وما بين عام 1371هـ وعام 1392هـ ذبحت الولايات المتحدة في تقدير معتدل زهاء عشرة ملايين صيني وكوري وفيتنامي وكمبودي، وتشير أحد التقديرات إلى مقتل مليوني كوري شمالي في الحرب الكورية، وكثير منهم قتلوا في الحرائق العاصفة في "بيونغ يانغ" ومدن رئيسة أخرى.
وفي منتصف عام 1382هـ سببت حرب فيتنام مقتل 160 ألف شخص، وتعذيب وتشويه 700 ألف شخص، واغتصاب 31 ألف امرأة، ونُزعت أحشاء 3.000 شخص وهم أحياء، وأحرق 4.000 حتى الموت، وهوجمت 46 قرية بالمواد الكيماوية السامة.
هذه هي أمريكا، وهذه بعض أفعالها لمن يجهلها. وأدى القصف الأمريكي "لهانوي" في فترة أعياد الميلاد، وعام 1391هـ إلى إصابة أكثر من 30 ألف طفل بالصمم الدائم. وقتل الجيش الأمريكي المدرب في "غواتيمالا" أكثر من 150 ألف فلاح، ما بين عام 1385هـ وعام 1406هـ.
وقاموا بإبادة ملايين الهنود الحمر، يصل عددهم في بعض الإحصائيات إلى أكثر من مائة مليون، وهم السكان الأصليون لأمريكا، وبعدها أصدرت قرارًا بتقديم مكافأة مقدارها 40 جنيهًا، مقابل كل فروة مسلوخة من رأس هندي أحمر، و40 جنيهًا مقابل أسر كل واحد منهم، وبعد خمسة عشر عامًا، ارتفعت المكافأة إلى 100 جنيه، و50 جنيه مقابل فروة رأس إمرأه أو فروة رأس طفل، هذه هي الحضارة الأمريكية.
وأصدرت بعد ذلك قانونًا بإزاحة الهنود من أماكنهم إلى غربي الولايات المتحدة؛ وذلك لإعطاء أراضيهم للمهاجرين، وكان ذلك عام 1245 هـ، وهُجّر إلى المناطق الجديدة أكثر من 70.000 ألف هندي، فمات كثير منهم في الطريق الشاق الطويل، وعرفت هذه الرحلة تاريخيًا: برحلة الدموع.
وفي عام 1763م أمر قائد أمريكي برمي بطانيات كانت تستخدم في مصحات علاج الجدري إلى الهنود الحمر؛ بهدف نشر المرض بينهم، مما أدى إلى انتشار الوباء الذي نتج عنه موت الملايين، ونتج عن ذلك شبه فناء للسكان الأصليين في القارة الأمريكية. إنها حرب جرثومية بكل ما في الكلمة من معنى، فكانت هذه الحادثة هي أول وأكبر استخدام لأسلحة الدمار الشامل ضد الهنود الحمر.
وفي إحدى المعارك قتلت أمريكا فيها خلال ثلاثة أيام فقط 45.000 ألف من الأفريقيين السود، ما بين قتيل وجريح ومفقود وأسير.
وأمريكا أكثر من استخدم أسلحة الدمار الشامل، فقد استخدمت الأسلحة الكيماوية في الحرب الفيتنامية، وقتل مئات الآلاف من الفيتناميين. وأمريكا أول من استخدم الأسلحة النووية في تاريخ البشرية.
هذه جرائم الطاغية الباغية رأس الكفر أمريكا في حق غير المسلمين، وهذا ما لطخته أمريكا بأيديها القذرة النجسة، وهذه بعض جرائمها وأرقامها الخيالية، فهي لا تراعي لذي حَرم حرمته، ولا لحر حريته، ولا للإنسان إنسانيته.
أيها المسلمون، وأما جرائمهم في دماء المسلمين فحدث ولا حرج، فملفاتهم سوداء من دماء المسلمين، ودم المسلم دم وحشي في قاموس أمريكا، ليس له حرمة ألبتة، بل هو في نظر أمريكا أخس من الكلاب النجسة، وقد ثبت أنهم يقولون عن الرسول أنه رجل شاذ، وتزوج عدة مرات للوصول إلى السلطة، ومثل هذه الادعاءات الملعونة، تدرس لديهم في مناهجهم الدراسية، وقد أنتجوا أكثر من 700 فيلم يسيء للإسلام والمسلمين. ويرى الرئيس السابق نكسون أن ليس هناك من شعب ـ حتى ولا الصين الشعبية ـ له صورة سلبية في ضمير الأمريكيين، بالقدر الذي للعالم الإسلامي.
أيها المسلمون، وهذه بعض جرائم أمريكا الديمقراطية، في قتلهم الوحشي الشنيع ضد المسلمين، لقد قُتل أكثر من مليون طفل عراقي، بسبب قصف الطائرات الأمريكية للعراق، وحصارها الظالم له خلال أكثر من عشر سنوات، وأصيب الآلاف من الأطفال الرضع في العراق بالعمى لقلة الأنسولين، وهبط متوسط عمر العراقيين 20 سنة للرجال، و11 سنة للنساء، بسبب الحصار والقصف الأمريكي، وأكثر من نصف مليون حالة وفاة بالقتل الإشعاعي. وقد رفع أحد المحامين النصارى الأمريكيين دعوى على الرئيس الأمريكي جورج بوش ـ الأب ـ يطالب فيها بمحاكمته على أنه مجرم حرب، بسبب ما أحدثه في العراق من قتل وتدمير.
وارتكب الأمريكان المجازر البشعة، في حرب الخليج الثانية ضد العراق، فقد استخدمت أمريكا متفجرات الضغط الحراري، وهو سلاح زنته 1500 رطل. وكان مقدار ما ألقي على العراق من اليورانيوم المنضب أربعين طنًا، وألقي من القنابل الحارقة ما بين 60 إلى80 ألف قنبلة، قتل بسببها 28 ألف عراقي. وقتل الآلاف من الشيوخ والنساء والأطفال الفلسطينيين بالسلاح الأمريكي. وقتل الآلاف من اللبنانيين واللاجئين الفلسطينيين في المجازر التي قامت بها إسرائيل بحماية ومباركة أمريكية.
وما بين تاريخ 1412و1414هـ قتل الجيش الأمريكي الآلاف من الصوماليين أثناء غزوهم للصومال. وفي عام 1419هـ شنت أمريكا هجومًا عنيفًا بصواريخ كروز على السودان وأفغانستان، وقصفوا خلاله معمل الشفاء للدواء في السودان، وقتلوا أكثر من مائتين، وحتى هذه الساعة، لا يوجد سبب واحد ومعلن للفجوة بين أمريكا والسودان غير الإسلام، بصفته كيانًا عربيًا أفريقيًا إسلاميًا موحدًا، ولأجل ذلك كثفت أمريكا جهودها، وسعت للالتقاء بجميع المعارضين "الميرغني والصادق المهدي وقارنق" وألّبت جميع جيرانها ضدها، ودعمت حركة التمرد، وبعض الدول المحيطة بها.
والعجيب أن أمريكا تسعى بكل طاقاتها، للضغط على العرب من أجل السلام مع إسرائيل، وفي نفس الوقت تقف بكل إمكانياتها في عرقلة السلام في السودان، من خلال توظيف النصارى في الجنوب، والذي تصل نسبتهم إلى 5 من السكان فقط، ويأتي القرار الأمريكي المشؤوم يدين السودان، ثم تأتي الصواريخ الأمريكية لتقصف مصنع الشفاء للأدوية، وهي لا تملك أدلة تستدل بها، وهل يقبل المنطق أن هذا المصنع يهدد الأمن الأمريكي؟ إن الهدف الحقيقي لضرب السودان هو العنجهية الأمريكية، وإضعاف السودان اقتصاديًا والضغط عليها سياسيًا.
وقتل في أفغانستان خلال ثلاثة أشهر فقط، نتيجة القصف الأمريكي ما لا يقل عن 50.000 أفغاني، جُلّهم إن لم يكونوا كلهم من المدنيين. وتسبب حصارهم لأفغانستان في قتل أكثر من 15.000 طفل أفغاني.
وحصارها على ليبيا، إذ أدى هذا الحصار الغاشم إلى كوارث كبرى، وفواجع عظمى، إذ بعد خمسة أشهر فقط من بداية الحظر الجوي والحصار، بلغت خسائر ليبيا ما يزيد على 2 مليار دولار.
وقتل عسكريو أندونيسيا أكثر من مليون شخص بدعم أمريكي.
وأما معاملتهم للأسرى فأسوء معاملة، فالإنسانية معدومة لديهم، والقيم الأخلاقية ليس لهم فيها ناقة ولا جمل، وقد تمثلت في أمريكا أعظم أنواع الإرهاب المنظم، وبلغ فيهم الاضطهاد والإرهاب مبلغًا لم يشهد مثله في عالمنا الحاضر، بل وعلى مر التاريخ المتقدم، لقد خالفوا الأديان والشرائع بل والقوانين الوضعية.
لقد حرص الأمريكيون على إظهار التشفي من هؤلاء الأسرى في "غونتناموا" في كل مناسبة، حتى بلغ بهم الحال أن يتركوا هؤلاء الأسرى في مقاعدهم، لأكثر من يوم ونصف بلا أي حراك، ومن دون تمكينهم من استخدام دورات المياه، ثم يعلنون ذلك لمجرد التشفي والتهكم والسخرية من هؤلاء الأسرى.
كما توضح الصور، أن الأمريكيين حرصوا على تعطيل كافة الحواس: السمع والبصر بل وحتى الفم والأنف، وضع عليها أغطية كثيفة، والمتأمل للصور يشعر بأن الأسرى يفتقدون حتى الإحساس بالمكان، وربما الزمان، ومن الواضح خلال تصريحات المسؤولين الأمريكيين، أنهم لن يترددوا في استخدام أي وسيلة يتم من خلالها إهانة وتحطيم هؤلاء الأسرى. فهم بذلك خالفوا كل الأديان والشرائع، وخالفوا ـ أيضًا ـ القوانين الوهمية؛ فإن من الاتفاقات القانونية أن إجبار أسير الحرب على الإدلاء باعترافاته هو عمل إرهابي. هذه هي أمريكا لمن لا يعرفها وهذه بعض إنجازاتها.
أين أمة المليار من هذه الثيران الهائجة والوحوش الشريرة والمواقف الفظيعة؟! أين العقلانية؟! أين الإنسانية؟! أين القيم الأخلاقية؟! بل أين القوانين الدولية؟! أليس فيهم رجل رشيد؟! حقًا إن هذه جرائم وحشية،وأفعال شيطانية وتصرفات حيوانية صامتة.
إن أمريكا لا تلتزم لا بقانون ولا بأعراف ولا بمواثيق، وإنما تسعى لمصالحها الذاتية، وهيمنتها الشخصية، دون مراعاة لروابط دولية، فهي كانت تنادي بالديمقراطية، ولما وقعت عليها الهجمات في الحادي عشر من سبتمبر، تلاشت الديمقراطية المزعومة.
إن أمريكا تدعي مكافحة الإرهاب! وقد سبق القوائم في أعمالها ومشاريعها الإرهابية، وقد اتخذت أمريكا من هذا المصطلح وهو ما تسميه هي مكافحة الإرهاب غطاء لها في ضرب المسلمين، ومنشآتهم تحت هذا المسمى. ولذلك فإن قانون الإرهاب، وضع على المسلمين، وبالتالي امتد إلى الإسلام.
إن أمريكا تتسنم بالأحادية، والطمع والهمجية، والتدخل السافر في شؤون الدول الداخلية، دون احترام لدينهم بل وقوانينهم، فهي تُشرّع بالغداة وتنسخ بالعشي، ليس لديها قانون منضبط، فهي تنتهك القوانين والاتفاقيات، فلسان حالها يقول: لا نُسأل عما نفعل وهم يسألون! ونأخذ ما نشاء وندع ما نشاء، وننتهك حقوق من نشاء، ولا معقب لحكمنا.
يقول ممثل إحدى الولايات في مجلس الشيوخ الأمريكي، وهو يلقي خطابه قال فيه: "إن الله لم يهيئ الشعوب الناطقة بالإنجليزية لكي تتأمل نفسها بكسل ودون طائل، لقد جعل الله منا أساتذة العالم! كي نتمكن من نشر النظام حيث تكون الفوضى، وجعلنا جديرين بالحكم، لكي نتمكن من إدارة الشعوب البربرية الهرمة، وبدون هذه القوة، سيعم العالم مرة أخرى البربرية والظلام، وقد اختار الله الشعب الأمريكي ـ دون سائر الأجناس ـ كشعب مختار، يقود العالم أخيرًا إلى تجديد ذاته".
أيها المسلمون، ولما كانت سنة الله تعالى لا تتغير بتغير الزمن، ولا باختلاف الأحوال والأجواء، ابتلى الله هذه الأمة الظالمة بآلام عديدة، تخص كثيرًا من الشؤون الحياتية الاجتماعية والاقتصادية، يقول الله تعالى: وَتِلْكَ ?لأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لظَّـ?لِمِينَ وَلِيُمَحّصَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ ?لْكَـ?فِرِينَ [آل عمران:140، 141].
ودمار أمريكا قريب إن شاء الله، ونقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا؛ لأن سنة الله تعالى الكونية التي لا محيص عنها ولا محيد، جرت في أن الأمة إذا طغت وبغت، وعاثت في الأرض فسادًا، أنه يهلكها، كما هي حال الأمم الغابرة، قال الله تعالى: وَضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ?للَّهِ فَأَذَاقَهَا ?للَّهُ لِبَاسَ ?لْجُوعِ وَ?لْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ?لْعَذَابُ وَهُمْ ظَـ?لِمُونَ [النحل:112، 113].
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد:11]. وقال تعالى: وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِيَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]. وقال تعالى: وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَـ?لِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ ?لْمَصِيرُ [الحج:48].
وهؤلاء عاد لما تكبروا وطغوا وتجبروا، وقالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15] رد الله عليهم بقوله: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ?للَّهَ ?لَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِئَايَـ?تِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ ?لْخِزْىِ فِي ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ?لآخِرَةِ أَخْزَى? وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ [فصلت:15، 16]. ولما عاينوا السحب في السماء، قالوا: هَـ?ذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا [الأحقاف:24]، رد الله عليهم بقوله: بَلْ هُوَ مَا ?سْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمّرُ كُلَّ شَيْء بِأَمْرِ رَبّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى? إِلاَّ مَسَـ?كِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْقَوْمَ ?لْمُجْرِمِينَ [الأحقاف:24، 25].
وهؤلاء ثمود لما طغوا وتكبروا على نبي الله صالح، وقالوا له: يَاصَـ?لحُ ?ئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ ?لْمُرْسَلِينَ [الأعراف:77]، عاقبهم الله تعالى بقوله: فَأَخَذَتْهُمُ ?لرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَـ?ثِمِينَ [الأعراف:78]، أي: صرعى لا أرواح فيهم، ولم يفلت أحد منهم لا صغير ولا كبير، لا ذكر ولا أنثى.
وهذا قارون لما تكبر وطغى، وقال مقولته النكراء إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى? عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، رد الله سبحانه عليه: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ?لأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ?للَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ?لْمُنتَصِرِينَ [القصص:81]. وقال رسول الله : ((إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته)) ثم قرأ رسول الله : وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِيَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، متفق عليه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (لو بغى جبل على جبل، لجعل الله الباغي دكًّا) رواه البخاري في الأدب المفرد.
فجانب الظلم لا تسلك مسالكه عواقب الظلم تُخشى وهي تَنتظر
وكل نفس ستجزى بالذي عملت وليس للخلق من دنياهم وطر
والقصص الواقعية والعبر التاريخية طافحة بمثل هذا، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وأمور الناس تستقيم مع العدل، الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وقد قال النبي : ((ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم)) فالباغي يصرع في الدنيا، وإن كان مغفورًا له مرحومًا في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة...".
اللهم أهلك الظالمين بالظالمين، وأخرجنا من بينهم سالمين.
نفعني الله وإياكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، وإنه لمن الأمر المرير والجرم الكبير، ما تقوم به السياسة الأمريكية الغاشمة، والتي أسست على الإرهاب والعنف والتطرف، من أعمالها في العراق هذه الأيام، والتي أهلكوا فيها الحرث والنسل، وأبادوا الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، بل وحتى الحيوان البهيم، بل وحتى اليابس والأخضر.
أيها المسلمون، إن الدفاع عن القضية العراقية من واجبات الدين والعقيدة، ومن مستلزمات الأخوة الإيمانية وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]، وقال تعالى: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]. وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلِمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)) وقال : ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) رواه البخاري.
والنصرة تتمثل بكل شيء يتقوون به على رأس الكفر العالمي، من المال والنفس والدعاء لهم، والقنوت في الصلوات الخمس، ومن علم أنه قد حلت بالمسلمين نازلة، من الجوع والعري والقتل والتشريد، ولم ينصرهم، وهو قادر على ذلك، فقد أتى ذنبًا عظيمًا. وما من شك أن التخاذل في هذه المواقف، يجر على المسلمين الذلة والصغار والخزي والعار.
يا أمةً طالما ذلّت لقاتلها حتى متى تخفضين الرأسَ للذنب
ألا ترين دماء الطهر قد سُفكت في كل ناحيةٍ صَوْتٌ لمنتحبِ
حتى متى تَقبلين الضيمَ خاشعةً لكل باغٍ ومأفونٍ ومغتصبِ
وأما الذين يناصرون الكفرة الصليبيين على المسلمين المستضعفين، سواء كانت المناصرة بالسلاح والقتال، أو المال والمشورة، وتسهيل الوسائل والإمكانيات، فهؤلاء منافقون، قال تعالى: بَشّرِ ?لْمُنَـ?فِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ?لَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ?لْكَـ?فِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ?لْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ?لْعِزَّةَ فَإِنَّ ?لعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعًا [النساء:138، 139]. وقال تعالى: فَتَرَى ?لَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَـ?رِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى? أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى ?للَّهُ أَن يَأْتِيَ بِ?لْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى? مَا أَسَرُّواْ فِي أَنفُسِهِمْ نَـ?دِمِينَ [المائدة:52].
والدفاع عن الشعب العراقي لا يعني بوجه من الوجوه الدفاع عن النظام العراقي البعثي الخبيث، فهؤلاء شرذمة مجرمون، وحاكم العراق رجل شرير كان شؤمًا على العراق، وإن فترة حكمه هي الأسوأ في تاريخ الأمة المعاصرة، وربما في تاريخها كلها.
لقد ارتكب ضلالات كبيرة، واتخذ قرارات مهلكة، أركست الأمة في أزمات بل كوارث سياسية، هي من الخطورة بمكان، وهو يحسب أنه يحسن صنعًا، سيرًا على خطى فرعون من قبل مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى? وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ?لرَّشَادِ [غافر:29]، والتزامًا بتعليمات أستاذه من قبل ميشيل عفلق، فطبق هذا الهمجي هذا المنهج المأفون، فتعامل بقسوة مع شعبه وجيرانه وصديقه قبل عدوه، وتصرف بحمق وجهل وظلم.
إن تاريخه مليء بالظلم والكبر وعبودية الذات، وجرائمه النكراء تمثلت في إبادة أربعة آلاف قرية كردية، وخمسة وعشرين مدينة، وأباد أيضًا أكثر من مائتين وخمسين ألف قتيل كردي بريء، بأسلحة كيمائية وغازات سامة، وكل ذنبهم أنهم مسلمون، وقد فوجئوا بالموت يطوقهم من كل جانب، الرجل في عمله، والمرأة تعمل في بيتها أو حقلها، والطفل يلعب في الشارع أو ساحة بيته، أَحرَق الزرع وأباد الحيوانات ودمر الأرض.
لقد كان وجوده وأمثاله من المصالح التي كسبتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وخصوصًا في الخليج العربي، وكان وجوده مما خدم الهيمنة والسيطرة الأمريكية، فلم يكن مرفوضًا من الغرب قط كلا، وبالأخص من أمريكا.
وأما الأكذوبة الكبرى التي تجري على لسان طاغيتي أمريكا وبريطانيا، أنهم لا يضمرون إلا كل خير للشعب العراقي، فإن هذا كذب ولا يمت للحقيقة بصلة، إن تدمير قوة الأمة، وإرجاعها إلى الخلف، لتنتهي حيث بدأت، هو هدف من أهداف أعداء الإسلام، وقوة العراق كشعب مسلم أمر يخشاه الغرب الكافر، ليس لأن حاكم العراق كان لا يسير على ركابهم ومنهجهم كلا، ولكن لأن القوة قد تصير يومًا من الأيام لمن لا يسير في ركابهم ومنهجهم الضال، ولأجل ذلك كانوا حريصين على تدمير العراق، ويخططون لذلك من وقت بعيد.
بغدادُ ماذا أرى في حالِكِ الظُّلَم نجمًا يلوحُ لنا أم لفحةَ الحِمَمِ
أرى النواحي وضوءُ النارِ يلفَحُها فكيف تجتمعُ النيرانُ بالظُّلمِ؟
بغدادُ لا تسكتي رُدي على طلبي وامحي سؤالي الذي أحكيه ملءَ فمي
بغدادُ أين زمانُ العِزِّ في بلدٍ كان السلام به أسمى من العَلَمِ؟
دارَ السلامِ أيا بغدادُ، هل بعُدت عنك الجحافلُ في يومِ الوغى النَّهِمِ
بغدادُ أين سحابُ المزنِ إذ حكمت يَدُ الرشيدِ بعدلِ اللهِ في الأُممِ؟
يقولُ أنَّى سَكَبتِ المزنَ سوف أرى منه الخراجَ ويأتيني بلا غُرُمِ
أين الجحافلُ يا بغدادُ عن زمنٍ تخاذَلَ العُرْبُ عن أفعالِ مُعتصِمِ ؟
قادَ الجحافلَ لم يهنأ بشربَتِه حتى أتى ثأرَهُ في الأنجُمِ الحُرُم
بالله لا تخجلي واحكي حقيقتَنا ولتكشفي حالنا حالٌ من السَّدَمِ
بالله يا نخلةً مدَّت جذائرَها بين الفراتين في شطٍ من السَّقَمِ
هل روَّعتكِ المآسي فوق طينتِها؟ وهل سقتكِ دمًا تجريهِ بعدَ دَمِ ؟
وهل ستأتي أسودُ العُربِ يدفعُها نبضُ الكرامَةِ في قلبٍ لها هَرِمِ
النارُ نارُك يا بغدادُ فاصطبري فما يفيدكِ بعدَ الحَرقِ من نَدَمِ
واستنجدي ببني الإسلامِ إنهمو أُسدُ الوغى وأسودُ الشرك كالعَدمِ
بالله قولي أيا بغدادُ ما فتئت يَدُ المغولِ تزيدُ الجرحَ بالكَلِمِ
مرت قرونٌ ثمانٍ والجراحُ بنا تغورُ من رجسِ ما صبُّوه من نِقَمِ
تبًا لمستعصمٍ لم يحمِ دولتَه فاستهدفتها عبيدُ الرجس والصنَمِ
تبًا لمستعصمٍ كانت بطانَتُهُ تُزيغُهُ عن طريق الحقِ والقيَم
تبًا لمستعصمٍ أمست حواشيهِ تُشارك الناسَ في الأرزاقِ واللُّقمِ
تبًا لمستعصمٍ أفنى خزينتَهُ على الغواني وأهلِ الرَّقصِ والنَّغَم
تبًا لمستعصمٍ يخشى رعيَته وآمِنٌ بينَ أعداءٍ على الحُرَمِ
تبًا لمستعصمٍ لا يستحي أبدًا ينقادُ ذلاً من الأعداءِ كالبَهَم
تبًا لمستعصمٍ أبدى شجاعتَه على الرَّعِيةِ بالتنكيل والتُهَمِ
حانَ الوداعُ أيا بغدادُ فانتحبي فقد أصيبَ جميعُ القومِ بالصَّمَم
حانَ الوداعُ أيا بغدادُ قد نُحِرَتْ رجولةُ القَومِ في ميدانِ مُنتقِمِ
حان الوداعُ وعذرُ القومِ أنهمو لا يقدرون على الأرماحِ والحُسُمِ
هذا الوداعُ فموتى خيرَ عاصمةٍ مذبوحةً ربما ماتتْ بلا ألَم!
(1/3113)
دروس من حرب العراق
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
16/2/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قد يكون في طيات المحن منح. 2- الانهزام الأخلاقي للغرب في حرب العراق. 3- سنة الله عز وجل في إهلاك الأمم الباغية لا تتغير. 4- تبين عدم مصداقية الإعلام الغربي. 5- في الابتلاء تمييز للخبيث من الطيب. 6- الصراع بين الإسلام والكفر أبدي، والنصر في النهاية حليف الإسلام. 7- لا بد من مراجعة شاملة لأوضاع الأمة الإسلامية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، وما تزال أحداث العراق دامية ومؤلمة، لقد مرّت أحداثها وكأنها طيف خيال، لا تعلم أكانت مسرحية؟ أم مؤامرة؟ أم خيانة؟ وأيًا كانت فإن الأيام القادمة كفيلة بكشف المخبوء، لكن الأهم من هذا وذاك هو أن مثل هذا الحدث الضخم لا ينبغي أن يمر علينا كسحابة صيف، دون أن نقف أمامها طويلاً وطويلاً جدًا على كافة المستويات، الدول والحكومات والعلماء والدعاة والمصلحين والمفكرين والكتاب وعامة الناس، نستلهم بعض فوائد هذه الحرب، ونستوضح بعض العبر، ونستفهم بعض المفاهيم، تحسبًا للمستقبل وَمَا عِندَ ?للَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [القصص:60]. فهذه بعض الفوائد والعبر:
أولاً: ليس هناك شر محض: نعم إن هذا الغزو الذي حصل على بلاد العراق فيه من الآلام والجراح ما فيه، وقد قتل فيه الآلاف من الأبرياء والمدنيين، وحصل بسببه تخريب لممتلكات ضعفاء وفقراء، لكن مع كل هذا نعتقد ـ نحن المسلمون ـ أنه ليس هناك شر محض في هذا الكون. إننا نجزم ونوقن بأن ما يدور الآن من حرب وقتل وهجوم شرس على بلدان المسلمين، إنما هو بعلم الله تعالى وقدره وحكمته، قال الله تعالى: وَلَوْ شَاء ?للَّهُ مَا ?قْتَتَلُواْ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253].
إن ما يحدث في هذه الأيام العصيبة إنما هو بإرادته سبحانه الكونية والقدرية، وله الحكمة البالغة في ذلك، وتقدير الله عز وجل لذلك إنما هو وفق سننه سبحانه، التي لا تتبدل ولا تتحول، ومنها سنة التغيير، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، وسنة الابتلاء والتمحيص وغيرها. والأمة مطالبة بأن تدفع قدر الله عز وجل بقدره، وذلك بأن الله أراد منا دينًا وشرعًا أن نرجع إليه، ونأخذ بالأسباب الشرعية التي ندفع بها قدره الكوني. فإن نحن انطلقنا إزاء هذه الأحداث من السنن الربانية التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم، فإننا سننتفع من هذه الأحداث، وتكون عاقبتها خيرًا للإسلام والمسلمين. وهذا ما نرجو من الله أن يوفق المسلمين إليه، ويجعل في أعطاف هذه المحنة العصيبة منحة عظيمة وعاقبة حميدة، قال الله تعالى: لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [النور:11].
فلا حركة ولا سكون في هذا الكون إلا بما أراد الله، فهذا الذي يُخطط له الأعداء، ويبيتون له بالليل والنهار، لا يمكن أن ينفذ ويقع إلا إذا أراد الله، وإذا قدّر الله وقوع شيء فلِحِكم قد ندرك بعضها وقد لا ندركه، ولذا وجب التعامل مع مثل هذه الملمات بشيء من الحلم والاتزان، من غير تهويل ولا تهوين. فأعداؤنا أقوياء بسبب ما تملكوا من معدات وأدوات، وبما أخذوا من مظاهر القوة التي بسطها الله للكافر والمؤمن، وجعل معيار التحكم فيها يخضع للجهد والاجتهاد والعمل الدؤوب، لكن إرادة الله أقوى وأعظم مهما خططوا وأعدوا وأحكموا.
وإنهم إذا كانوا يتصورون بأنهم سيحققون كل ما يطمحون إليه بجرة قلم، أو بإطلاق حمم القذائف والصواريخ والقنابل، فإنه يجب علينا أن نوقن بأنه لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ ?للَّهُ لَنَا [التوبة:51]، وبأن: ((ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك)) ، ((واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)) ، وبأنهم يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين، وبأن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته: وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:45]، سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ [الأعراف:182]، حَتَّى? إِذَا أَخَذَتِ ?لأْرْضُ زُخْرُفَهَا وَ?زَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا [يونس:24]، وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـ?كِنِ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ [إبراهيم:45].
ولا بد مع ذلك من اليقين بأن وراء المحن منحًا، ومع العسر يسرًا، ومع الشدة والكرب فرجًا ومخرجًا: سَيَجْعَلُ ?للَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:7]، إِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:6]، فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، فلا مكان للوهن، ولا مجال للاتكال، وإن العمل وتركيز الجهد يدفع المكروه بالمقدور، وصد العدوان بالصبر والثبات وَ?للَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ [محمد:35]، فما ضاع حق وراءه مطالب قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى ?لْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ?للَّهُ بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا [التوبة:52].
ثانيًا: من فوائد هذه الحرب: انهزام أمريكا أمام العالم، نعم انهزامها أخلاقيًا، فهي وإن انتصرت بعض الانتصار عسكريًا، لكنها انهزمت كليًا أخلاقيًا. فبعد أن أعلنت أمريكا بأنها ستنزع أسلحة الدمار الشامل، ثم قالت العراق بأنها لا تملك من ذلك شيئًا، ثم سمحت للمفتشين الدوليين بالدخول والتفتيش، ثم أعلن المفتشون بأنهم لم يجدوا شيئًا، وبعد كل هذا دخلت أمريكا العراق بالقوة، وفعلت ما فعلت أمام سمع وبصر العالم، ضاربة بكل القيم، وبكل الأعراف، وبكل الأديان، وبكل القوانين، عرض الحائط، وانتهكت كل القيم الأخلاقية، فاستهدفت الآمنين، وضربت المدنيين، وتقصدت المؤسسات الإعلامية المحايدة، فانكشف أمرها أمام العالم، وكشفت الحرب عن الوجه الأسود الكالح.
فالولايات المتحدة الأمريكية المدعية بأنها حامية حقوق الإنسان، والداعية للحرية والعدالة والديمقراطية، هي أكبر قوة في العالم تتعدى على هذه المبادئ وتتجاوزها. بل تعدت ذلك بأن تفرض على المؤسسات العالمية أن تعطل دورها، وترضخ لأطماعها وعجرفتها. بل إن تلك المؤسسات العالمية قد سُلبت من قبل الولايات المتحدة حتى قدرتها على التساؤل والانتقاد. فانكشاف أمريكا، وظهور زيف شعاراتها عن العدالة والحرية، والإنسانية والحضارة، وحق الشعوب في تقرير المصير، من أعظم فوائد هذه الحرب، فكان الأمر كما قال الله تعالى: قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الأْيَـ?تِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118]. وبناءً عليه فإن العالم لن يكون كما تريده الصهيونية بشقيها اليهودي والمسيحي، إن العالم دائمًا ينبذ الأشرار ويكره المجرمين، وكثير من الاستبداديين لُفظوا إلى مزابل التاريخ، فأمريكا لن تكون القطب الأوحد كما تريد هي أن تكون.
ثالثًا: نريد أن نعرف الآن ما هو موقف العلمانيين في العالم الإسلامي من دولتهم التي طالما تحدثوا عن ديمقراطيتها وحريتها وعدالتها، طالما طنطنوا وكتبوا وأزكموا أنوفنا بكتابات ومقالات تشيد بالحضارة الغربية، ويطالبون أن تحذوا الدول الإسلامية حذو أولئك، فلا ندري هل سيستمر إعجابهم وتقديرهم للغرب عمومًا وأمريكا خصوصًا، بعدما انكشفت حقيقة ديمقراطيتها وحريتها وعدالتها، أم سيستحون بعض الوقت، أم يبررون لها ما فعلت؟! والأيام كفيلة بفضح هؤلاء كما فضحت أولئك.
رابعًا: لكل أمة أجل، قال الله تعالى: وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، فكما أن للأفراد آجالاً، فكذلك للأمم آجال، ولها نهوض وسفول، ولها شباب وهرم. لكن هذه الأمة تختلف عن غيرها من الأمم بخصائص ميزها الله تعالى عن سائر الأمم، وهو أن أجلها لا ينتهي إلا بقيام الساعة، نعم قد تمرض هذه الأمة، لكنها لا تموت كغيرها من الأمم.
وأما الأمة الأمريكية فانهيارها قادم بإذن الله ومن داخلها، وهي تجلس الآن على فوهة بركان ممكن أن ينفجر في أية لحظة، وهذا يدفع العالم للتوحد ضد مجرمي الإدارة الأمريكية، التي أعلنتها حربًا لتدمير البشرية، تحت اسم مكافحة الإرهاب أو نزع أسلحة الدمار الشامل، ولو أضفنا إلى هذا زيادة انتشار ثقافة الجريمة، وثقافة المخدرات، وثقافة الجنس، وثقافة الشواذ، ومعلوم أن المجتمعات التي تحتوي على مثل هذه الثقافات لا يمكن أن تستمر، كما لا يمكن أن تسود العالم ومصيرها إلى الهاوية. وبناءً على ذلك لا يمكن لأمريكا أن تكون شرطيًا أو مصرفة لشؤون العالم، كما لا يمكن لها أخلاقيًا وأدبيًا وثقافيًا ودينيًا أن تتهم أحدًا أو منظمة أو دولة بالإرهاب، لأنها أصبحت هي الآن بلد الإرهاب الأعظم، ومصدر الإرهاب العالمي، وداعمة أكبر دولة إرهابية في العالم (إسرائيل)، وانكشاف هذا الأمر من أعظم فوائد هذه الحرب.
فأبشروا فإن الله عز وجل ناصر دينه لا محالة، والمستقبل للإسلام، فلا يرهبنكم الغرب الكافر بقيادة أمريكا الطاغية، فإنها في بلاء أشد من البلاء الذي يتعرض له المسلمون. وأي بلاء أعظم من الكفر والظلم الذي هو فيه، ثم إنه الآن يعيش في سنة الإملاء والإمهال من الله عز وجل، والتي يعقبها المحق والتدمير، لأن الله عز وجل لا يُمد الظالم في ظلمه إلى ما لا نهاية، بل إن له نهاية محتومة في علم الله عز وجل، يدفعه الله عز وجل إليها دفعًا، بإمهاله والإملاء له حتى يزداد غطرسة وظلمًا وإثمًا، فتحق عليه سنة المحق من الله عز وجل. وأمريكا الظالمة تقترب الآن من نهايتها، لما هي عليه من الكفر والتمادي في الظلم والكبر والغطرسة، وقد قال الله تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًَا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:178]، وقال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا فَمَهّلِ ?لْكَـ?فِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق:15-17].
ففي الوقت الذي يُبتلى فيه المؤمنون ويمحّصون، فإن الكافرين يبتلون بسنة الإملاء، حتى إذا مُحِّص المؤمنون، وتميز الخبيث من الطيب، وبلغ ظلم الكافر منتهاه، جاء محقهم ونهايتهم، وجاء تمكين الله لعباده المؤمنين على أنقاض تدمير الكفار، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21]. والسعيد من ثبته الله أيام المحن، وخرج منها معافىً طيبًا، وشرفّه الله عز وجل بأن يكون من الطائفة المنصورة وحزبه المصلحين.
لقد ظلم حزب البعث شعبه وجيرانه، وقتل وفعل الأفاعيل، فأمهله الله تعالى برهة من الزمن لكن لم يهمله، فأخذه بظالم آخر، وشتت أمرهم وأصبحوا كما رأيتم، وأمريكا ظلمها أشد وأقسى من ظلم حزب البعث، وبحسب سنة الله فإن أخذها سيكون أشد، وتدميرها سيكون أقسى مما حصل للبعثيين، والله يمهل ولا يهمل.
خامسًا: من فوائد هذه الحرب: تبين للعالم كله الكذب الصريح والواضح من وسائل الإعلام الغربية ووكالات أنبائها، فإلى فترة قريبة كان كثير من الناس يثقون بهذه المحطات والإذاعات، بل كان كثير من المسلمين إذا أراد أحدهم أن يعرف ما يجري في بلدان المسلمين، توجه لبعض هذه الإذاعات والمحطات. وفي هذه الحرب انكشف للعالم ـ والحمد لله ـ أنهم يكذبون ويزيفون ويزورون ولا يستحون، صراحة وبكل وقاحة، وأنهم قد تخلوا عن كل مبادئهم إن كان لهم مبادئ.
سادسًا: كان الإعلام العربي ولا يزال بوقًا للإعلام الغربي، يردد كالببغاء ما يقوله أولئك، فمن فوائد هذه الحرب أننا سمعنا في بعض الأحيان، وفي بعض الفترات، من بعض المحطات والقنوات وحتى الإذاعات كلامًا يخالف ما كان يردده الإعلام الغربي، وأحيانًا يعارض وأحيانًا مصبوغًا بالصبغة الإسلامية، وكل هذا يعتبر قفزة نأمل أن يستمروا عليها ولو لبعض الوقت، وأن يكون لهم استقلالهم على الأقل فيما يقولون وينطقون.
سابعًا: إن مناشدة ما يسمى بهيئة الأمم أو الأمم المتحدة، أو المجتمع الدولي وأشباهها لا يجدي شيئًا كما هو مُجرب، وما أشبه المناشدة بالاستغاثة بالغريق أو السجين، وقد شنّع سلفنا الصالح على من هرع إلى القبور وقت الأزمات مستغيثًا بهم، قائلين لهم: "هؤلاء الذين تستغيثون بهم، لو كانوا معكم في القتال لانهزموا". إن الله جل جلاله إذا اشتكى إليه المخلوق، وأنزل حاجته به، واستغفره من ذنبه، أيّده وقوّاه وهداه وسدّ فاقته وأغناه، وأحبه واصطفاه، والمخلوق إذا أنزل العبد به حاجته، استذله وازدراه، ثم أعرض عنه فخسر الدنيا والآخرة. فيا ليت قومي يعلمون.
ثامنًا: قال الله تعالى: مَّا كَانَ ?للَّهُ لِيَذَرَ ?لْمُؤْمِنِينَ عَلَى? مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى? يَمِيزَ ?لْخَبِيثَ مِنَ ?لطَّيّبِ وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ?لْغَيْبِ [آل عمران:179]، عندما نُنزل هذه الآية على هذه النازلة التي حلت بديار المسلمين، يمكننا القول بأن الذين يواجهون لهيب هذه الحرب من المسلمين داخل العراق، أو من هم خارجه من المسلمين، كلهم يعيشون الآن في أتون الابتلاء والتمحيص، حيث إن مجتمعات المسلمين سواء داخل العراق أو خارجه تعيش مفاسد عظيمة، وخليطًا من الأفكار والمواقف والانتماءات الكفرية، ففيهم المؤمن الصادق، والطاغوت الخائن، والمنافق، والعميل، وضعيف الإيمان، والمتعلق بهذا المبدأ أو ذاك، وفيهم دعاة الإصلاح، وفيهم دعاة الفساد.
فما كان الله عز وجل ليذر المؤمنين على هذا المزيج الذي لا يعرف طيبه من خبيثه، فقدر الله عز وجل هذه الأحداث الموجعة لحكم بالغة، منها تمييز الناس حتى يظهر فيها المنافق الخائن والكافر المستتر على كفره، ويتميز فيها أصحاب العقائد الصادقة من أصحاب المبادئ الفاسدة، وطلاب الدنيا من طلاب الآخرة، وقد بدت بوادر هذا التميز من الآن، فكيف الحال في نهايته؟
وقد تكلم أناس كنا نحسن بهم الظن، وإذا بهم يخالفون كثيرًا من الثوابت والأصول التي كانوا هم يدعون إليها قبل فترة بسيطة. فاللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
إن نصر الله عز وجل وتمكينه لأوليائه ومحقه لأعدائه، لا يتم إلا بعد هذا الفرز والتمحيص، كما يمحَّص الذهب المختلط بالأتربة والشوائب بحرقه وتمحيصه في النار، فيخرج تبرًا أحمرًا نقيًا. فلننتبه نحن معاشر المسلمين، فنحن في هذه الأيام العصيبة في ابتلاء وتمحيص، ابتلاء لما في قلوبنا، وابتلاء لما تقوله ألسنتنا، وابتلاء لأعمالنا ومواقفنا، وما أكثر من يسقط في هذا الابتلاء. نسأل الله أن يعافينا ويثبتنا، وأن يجعلنا ممن يخرج من هذه الفتنة طيبين مؤهلين لنصر الله عز وجل وتمكينه.
تاسعًا: إن هذه الهجمة الشرسة التي شنتها الولايات المتحدة على الإسلام، والمسلمين لا تدل على ضعف الإسلام بل هي ظاهرة تدل على أن هذا الدين بدأ ـ بأتباعه الصادقين ـ يشكل مصدر خطر ورعب على أعدائه، وما الحملة المسعورة التي تشنها أمريكا وحلفاؤها الكفرة على بلاد المسلمين، بداية من حملتهم على أفغانستان، وبما يقومون به هذه الأيام من عدوان شامل على العراق، والسعي لاحتلاله إلا دليل على ذلك. ومع كل هذا الكيد والمكر فنحن نعتقد بأن نصر الله آت، وقد ضرب الله لنا أمثالاً بالأمم قبلنا، ومن أكثر القصص في القرآن قصص بني إسرائيل، وذلك لوجود بعض أوجه الشبه بينهم وبين هذه الأمة، وقد عاشوا سنين عديدة تحت الذل والهوان والتسلط الفرعوني، بعد أن نسوا ما ذكروا به، وتعلقوا بالدنيا وأَنِسُوا بها، وركنوا إلى الشهوات وحب الحياة، ثم اشتد عليهم العسف والأذى قبيل ميلاد موسى عليه السلام، ولما بلغ أشده وأُكرم بالنبوة، زاد عليهم الأذى والظلم، حتى قالوا: أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ?لأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف:129].
ومكثوا على هذا الحال من الاضطهاد سنين عديدة، وفيهم أهل الإيمان بالله موسى وهارون ومن استجاب لهما، ونبي الله يعدهم بالنصر والاستخلاف في الأرض وهلاك العدو، وبعد هذه السنين الطوال أُمروا بالخروج وركوب البحر، فخرجوا من الذلة والهوان: وَأَوْرَثْنَا ?لْقَوْمَ ?لَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـ?رِقَ ?لأرْضِ وَمَغَـ?رِبَهَا ?لَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ ?لْحُسْنَى? عَلَى? بَنِى إِسْرئيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ [الأعراف:137]، وفي هذا دليل على أن نصر الله تعالى آت، وزمانه مقبل، ولكنه لا يحسب بحساب أعمارنا القصيرة، ولا يقاس وفق قياسات زمنية قريبة: خُلِقَ ?لإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءايَـ?تِى فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ [الأنبياء:37]. فيجب أن نوقن بأن عاقبة هذه الحرب الصليبية الجديدة ستكون للإسلام. لقد جرب الأوربيون مرتين وفشلوا في القضاء على الإسلام، ولم يستطيعوا الاستمرار طويلاً في احتلال العالم الإسلامي، ونحن موقنون بأن هجومهم هذه المرة سينتهي بعد سلسلة من الحروب والكوارث.
لقد علَّمَنَا القرآن، وبينت لنا السنة النبوية أن الصراع الأبدي المستمر حتى نهاية العالم، هو بين الإسلام من جهة، وبين اليهودية والنصرانية من الجهة الأخرى، وأنه مستمر حتى تسقط في النهاية إحدى الجبهتين، وقد أخبرنا نبينا أن نهاية هذا الصراع ستكون بانتصار المسلمين، وظهور الإسلام على الدين كله، والقضاء على اليهود، وكسر الصليب.
لكن ينبغي ألا نغترّ بهذه البشائر الواردة في السنة، وألا نتَّكِل عليها ونتواكل بسببها، فقد لا نكون نحن هذا الجيل المقصود بها، وينبغي ألا نزكي أنفسنا، فقد نُبتلَى بتسليط العدو علينا، حسب ذنوبنا، وحالنا وحال قلوبنا، وحال قياداتنا، وقد نكون نحن وقودَ المعركة، والذي سيجني ثمار النصر غيرنا، مسلمون آخرون يُوَفُّون بشروط النصر، وقد نشهد نحن بشائر النصر وبوادره بعد ابتلاء شديد وحوادث جِسَام، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: وأيضًا من فوائد هذه الحرب:
عاشرًا: ولعلها أن تكون من أهم فوائدها: مراجعة الأوضاع على كافة الأصعدة والمستويات، إن ما حصل للعراق قد يحصل لأية دولة أخرى، وما نزل بالشعب والمجتمع العراقي قد ينزل بأي شعب أو مجتمع، فالعالم أصبح فوضى، لا يحكمه نظام ولا تقيده شريعة ولا قانون، إلا شريعة الغاب التي سنتها أمريكا مؤخرًا. لذا أصبح لزامًا على الجميع أن يحتاط وأن يراجع وضعه، الحكومات تراجع أوضاعها وتتقفد أحوالها وتستعد، والعلماء يراجعون أوضاعهم وفتاويهم ويكونون على مستوى الأحداث، والدعاة يراجعون أوضاعهم وخططهم الدعوية، وما يقدمونه للناس بما يناسب المقام، والحركات الإسلامية تراجع أوضاعها ومناهجها، وكيف تتصرف في مثل هذه الظروف، والمؤسسات الخيرية تراجع أوضاعها وبرامجها وكيف يمكنها أن توصل المساعدات في ظل أوضاع صعبة وملاحقة مستمرة، وهكذا الكل يراجع وضعه، ويبدأ يضع الخطط ويهيئ نفسه لحالة قد تشبه حال العراق، فلو حصل لا قدّر الله فماذا نصنع؟ وكيف نتصرف؟
فلعل ما حصل يكون منطلقًا للمرحلة الإصلاحية القادمة، على مستوى الحكومات والدول والشعوب والأفراد والمؤسسات الخيرية والحركات الإسلامية وغيرها، دعوةً، وجهادًا، وتربيةً، وتزكيةً، وأن نستعد فكريًا ونفسيًا للمرحلة القادمة، وأن لا نغرق في الأوهام، وأن لا نحزن ولا نَهِنَ، ولا نفقد ثقتنا بديننا مهما كانت النتائج: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، هذا العلو هو علو الإيمان والدين، الذي يقتضي منا أن نكون الأفضل في كل شيء، فرغم كل المساوئ والهزائم التي ابتلي بها المسلمون إلا أن الخير ما زال فيهم.
فإلى العمل لا التحازن، وإلى الصدق لا التباهي، وإلى التناصح لا التلاوم، فالأمة الإسلامية تمرّ هذه الأيام بأعنف المراحل وأكثرها حرجًا في تاريخها، فقد اجتمعت الأزمات دفعة واحدة، حيث تكالبت عليها قوى الشر الخارجية، في الوقت الذي تعاني فيه من الوهن والتمزق في الصف الداخلي، مع الميوعة والفوضى الفكرية، وهذا يدعو للعمل لا التخلف، ورغم هذه الفترة المظلمة، إلا إن الأمل في الله سبحانه وتعالى أن يخرج هذه الأمة من ظلماتها وغفلاتها.
الحادي عشر: من دروس هذه الحرب وفوائدها: ما رأيناه من تلاحم الشعوب الإسلامية مع بعضها، وقد وقفوا وقفة واحدة ضد هذه الحرب، ورفضوا هذا العدوان الغاشم من الصليبيين ضد إخوانهم المسلمين، إلا من بعض الشذاذ، ممن لا عبرة بهم، فظهرت ـ والحمد لله ـ فتاوى شرعية مؤصلة، جماعية وفردية، في جملة من بلاد المسلمين، تبين الحكم الشرعي في هذه الحرب وحكم المشاركة أو المعاونة، بل حصل الاهتمام بهذه الفتاوى حتى من الغربيين وفي كل هذا خير. وكان هذا الحدث فرصة للكثير من الخطباء والدعاة أن يتحدثوا في قضايا مهمة جدًا، وأن يوضحوا مفاهيم أساسية كمفهوم نصرة الدين وتولي المؤمنين، التي هي فرض عين على كل مسلم، وعقيدة الولاء والبراء، والقنوت والدعاء، والجهاد في سبيل الله وغيرها من القضايا والمفاهيم. وأدرك الكثيرون أن الأمة تعيش حالة الحرب الشاملة، والتي يجب عليها أن تكون أبعد الناس عن اللهو والترف والمباريات، وأن تصرف جهودها وطاقتها للتقرب إلى الله ورجاء ما عنده.
وحصل بسبب هذه الحرب نوع من الوعي لدى الأفراد والشعوب والدول، ولم تنخدع باللعبة الأمريكية، وأنها قد جاءت من أجل تحرير العراق، لأنها قد شاهدت بأعينها كيف أن الإدارة الأمريكية تركت بعض ضعاف النفوس يمارسون السلب والنهب، وكان بإمكانها أن تمنع ذلك، وإلا فما تفسير أنها قد حافظت وحمت آبار النفط، ولم تحافظ على بقية مرافق الدولة، وقد صرح فرعون أمريكا بأن آبار النفط العراقي ستكون وديعة عند الولايات المتحدة لحساب الشعب العراقي، فأعاد إلى ذاكرتنا تلك القصة التي مفادها أن الأسد استعان بالذئب والثعلب في يوم صيد، فصادوا جملاً وغزالاً وأرنبًا، فضحك الثعلب وقال بفضول: قد جاءت النسبة قدرية واضحة التناسب: فالجمل لمولانا الملك، والغزال للذئب، والأرنب لي. فلطمه الأسد وأسال دمه على وجهه، والتفت إلى الذئب يستشيره، فقال الذئب: بل الجمل تأكله الآن أيها الملك، وأُحِبُّ لك أن تتلهى عصرًا بين الوقتين بالأرنب، ثم يكون عشاؤك الغزال، فإنه أخف على المعدة عند النوم. فابتسم الأسد وقال: هذه هي الحكمة بعينها. من أين تعلمتها؟ قال: رأيتها في الكتاب الذي كتب بالمداد الأحمر، يعني وجه الثعلب الدامي.
فوديعتنا لدى فرعون أمريكا لن تقسم إلا كذلك، ودروس أمريكا لشعوب الأرض هي الكتاب البليغ الفصيح الأحمر، وستسيطر على العراقيين أحزان وآلام نتيجة سعة التدمير، وكثرة القتلى وجريان الدماء، والأمريكي المنتصر سيتصرف بزهو وخيلاء وتكبّر، ويتبجح علانية، وستدون مكتبة واسعة من كتب سطرت بالمداد الأحمر التهديدي لكل البشرية، وليس كتابًا واحدًا.
كانَ الخليجُ خليجًا كلُّهُ عَرَبُ واليومَ أضحى خليطًا ما لهُ نَسَبُ
ما كنتُ أحسبُ يومًا من جزيرتنا أنَّ العُلوجَ علىَ أعراضِنا تثبُ
ماذا التَّحالفُ ضدَّ الأهلِ تنعته ماذا النُّكوصُ يُسمَّى أيُّها العربُ
لو في الجنودِ من المليارِ من رَجُلٍ لما تَرَأّسَ من للغربِ ينتَسبُ
فقد توطنَّ في مليارنا وهنٌ وقد تكشَّفتِ الأستارُ والحجُبُ
خمسُونَ عامًا بنا الحادي وقافِلَةٌ تمشي بَغيرِ هُدىً في الليلِ تحتطبُ
إنْ قلتَ طنجةُ أو نجدٌ بها خللٌ ففي العراقِ كما في مِصْرِنَا عَطَبُ
وإن نَظرتَ إلى الجولانِ تلحظُهُ يبكي الكرامةَ والأرْدنُّ ينتحبُ
لولا بغزَّةَ والأقصى بنا فئةٌ تلقى العدوَّ كآسادٍ وتَنتدبُ
رَبَّاهُ عفوكَ إنَّ الهمَّ يعْصِفُ بي والقلبُ تُثقلُهُ الأوْصَابُ والنُّوبُ
أتيتُ بَابَكَ يا مولايَ أطرُقُهُ ومن سِوَاكَ يُرَجَّىَ عندهُ الطَّلَبُ
أعِدْ بعونِكَ للإسْلامِِ عزَّتَهُ فللخلافة باتَ الكلُّ يرتقبُ!
(1/3114)
الأمة الإسلامية بين الأنفاق والآفاق
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, المسلمون في العالم
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
12/2/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الوقع المرّ. 2- تداعي الأمم على الأمة الإسلامية. 3- خطورة الخلل العقدي والأخلاقي. 4- الهجمة الصهيونية واغتيال الشيخ أحمد يلسين. 5- الإجرام اليهودي. 6- ضرورة حل القضية الفلسطينية. 7- دعوة للشعب الفلسطيني المجاهد. 8- كلمة لقادة المسلمين. 9- العاقبة للتقوى. 10- التحذير من برنامج "ستار أكاديمي" وأمثاله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ بتقوى الله عزّ وجلّ، فمن حقّق التقوى في هذه الدنيا سعِد وعلا، ونال في الآخرة الدرجات العُلا، فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ في كلّ حال، تحقِّقوا بتوفيقِ الكريم المتعال صلاحَ الحال والمآل والسلامةَ من حال أهل الضلال.
أيّها المسلمون، لا يحتاج المرءُ إلى كبير عناءٍ ليدرِك أنّ الواقع المعاصر لأمّتنا الإسلاميّة هو مِن أمرِّ ما مرَّ بها عبر تاريخها الطويل، إن لم يكن هو أمرّها على الإطلاق، فأزمتُها الحاضرة ليست كسالِف الأزَمات ونكبتها ونكستُها المعاصرة في كثيرٍ من المجالات تكاد تكون غيرَ مسبوقة في النكبات والنكسات، وما ذلك إلا لخطورة التحدِّيات وشدّة الصراعات وضراوَة المؤامرات المتثِّلة في تداعي الأمم عليها من خارجِها والغثائيّة المهينة من داخلها. خرّج أبو داود وغيره أنّ رسول الله قال: ((يوشِك أن تداعَى عليكم الأممُ كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، فقال قائل: أوَمِن قلّة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنّكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن)) ، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حبُّ الدنيا وكراهية الموت)) [1].
معاشرَ المسلمين، وها قد تحقَّقت النِّذارة، فهذه الأممُ المتداعية تعيش القمّة والصّدارة، بينما تعيش الأمة الإسلامية حياةَ الاستجداء والزِّراية، ولئن اعترَف الغيورون بالحقّ المرِّ في ذلك الواقعِ المؤلم فإنهم ينظرُون إلى مرمًى بعيدٍ يرومون تحصيلَه، وهو أنّ الاعترافَ بالخطأ والتقصير أوّل الخطوات على طريق الإصلاح والتغيير، وأنّ أوّل مراحلِ البناء هو بناءُ النفوس بالمعتقَد الصحيح والإيمان القويِّ والعبادة الزاكية والفِكر النيِّر والأخلاق الكريمة.
إخوةَ العقيدة، وإنّ أشدَّ أنواع الخلَل فتكًا بالأفراد والمجتمعات هو دُخول النّقص على الأمّة في دينها وعقيدتها والإزراءُ بفكرها وثقافتها وإرثِها الحضاريّ والانسياقُ وراءَ قراصنة الفِكر والثقافة وسماسرةِ الأخلاق الذين يجرّون الأمة إلى مستنقعاتٍ عميقة من الرذيلةِ وهوّةٍ سحيقة من الانحلال والإباحية، وهي من أعظم أسبابِ هزائم الأمم وانتكاساتِ الشعوب وهدمِ الأمجاد وتقويض الحضارات، وكم عانت منها أمّتنا، فأوصلتها إلى حضيضِ الغبراء بعد أن كانت في ذُرَى العلياء، فإلى جانِب التخلُّف المزري الذي تعيشه الأمّة في جوانبَ شتى من حياتها أصيبَت بالوهَن والضّعف، لا أمامَ القوى العالميّة فحسب، بل أمام قوّةٍ ضئيلة في دوليةٍ صغيرة ضعيفة في ذاتها متخلّفة في كيانها، ولكنها بدأت تستنسرُ على الأمة وتستأسِد على أبنائها، فتقيم لهم المجازرَ بين الفينة والأخرى، وتجوس خلال ديارِها، فتنهبُ خيراتها وتستنزف طاقاتها وتعبَث بمقدَّراتها وتنتهك حرماتها وتجتاح أراضيها، وكأنها حمًى مستباحٌ لكلّ معتدٍ مأفون، يصاحِب ذلك ضياعٌ فكريّ وسقوط أخلاقيّ وتسطيحٌ تربويّ وانتكاسَة ثقافيّة وإعلاميّة تنظر إلى الدين على أنّه تخلُّف ورجعية. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل تعدّاه إلى ما هو أشدّ وأنكى، إلى إقامةِ متاريس من أجيالٍ مُسخَت هويّتها وانتُزعت شخصيّتُها وسُمِّمت أفكارها، تنعق بدعواتٍ غريبة على دينها ومجتمعاتها، وتستغلّ الأحداث، وتفتعِل الأزمات، لتحقيق الأهدافِ وتصفية الحسابات، وتكلّمت الرويبِضة في أمرِ العامّة، وخاضت كثيرٌ من الأقلام في أمورِ الحلال والحرام، وأصبح الخوضُ في أمور الشريعة تخصُّصَ من لا تخصّص له، وعمَد أقوامٌ إلى ثقافة العُنف تخلُّصًا من هذا الواقع المزري.
أمّةَ الإسلام، والكارثة الأخطرُ في المنطقة التي لا تزال الأمّة تعيش عقابيلَها حتى هذه اللحظةِ هي تلك الهجمَة الصهيونيّةُ الغاشمة على الأمّة الإسلامية؛ حيث يشهَد الكيان الصهيونيّ هذه الأيامَ حالةً من التخبّط والإمعان في الكيد للأمّة ودينها ومقدَّساتها ورموزها، ولقد كان آخر مسلسَلِ الجرائم البشِعة التي أقدم عليها هذا الكيان الغاشِمُ هو ما رُزِئت به الأمّة الإسلامية عامّةً والقضيّة الفلسطينيّة خاصّة من جريمةِ اغتيال الشيخ المجاهد أحمد ياسين رحمه الله رحمةً واسِعة، وكتبه في عِداد الشهداء الأبرار والصِّدّيقين، ورفع درجتَه في المهديّين، وأعلى منازلَه في عِلّيِّين، وخَلَفه في عقِبه في الغابِرين، فعلى مِثلِه فلتَبكِ البواكِي، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
ولقد تولَّى كبرَ هذه الجريمةِ النّكراء والحادثةِ الشّنعاء مَن شين الشرِّ وراءُ الإرهاب وواوُ القسوةِ ونون العنصرية والعدوان والطغيان في اسمه.
وقلَّ أن أبصرَت عيناك ذا لقبٍ إلاّ ومعناه إن فكَّرت في لقبه
لقد هزّت هذه الجريمةُ البشِعة مشاعرَ الأمّة جميعًا، بل مشاعرَ كلّ الشرفاء ممّن يؤمِن بقيَم الحقّ والعدل والحرّية وحقوقِ الإنسان في العالم، كما أنها تمثِّل في فصولها ومشاهِدها أبشعَ معاني الغدر والظلمِ والخيانة والخسَّة والدناءة التي ينتهجها أبناء صهيون.
إنّ إقدام إسرائيلَ على اغتيالِ الشيخ المجاهد المسِنّ المقعَد المريض ـ عليه سحائب الرحمة والرضوان ـ بهذه الطريقة المروّعة يُعتبَر خرقًا لكلّ المبادئ الإنسانيّة والأعرافِ والمواثيق الدولية وتجاوزًا لكلّ الخطوط الحمراءِ وإمعانًا في الحِقد السافر والكيد الكُبَّار والمشروعِ الدمويّ الغادِر لهؤلاء وإماطةً للِّثام عن الوجه الكالح وإذكاءً للحِقد والكراهية والعنصرية البغيضة بين الشعوب. ومع أنّ الإسلامَ هو دين الرحمة والتسامُح والسلام، فإنّه يأبى كلَّ الإباء معانيَ التخاذل والضَّيم والاستسلام. ألم يئِن الأوان ـ يا أمّة الإسلام ـ لوقفِ نزيف الدمِ المسلم المتدفِّق على ثرَى فلسطين وفي كل مكان؟!
ولا عجب، فتاريخُ القوم قاتِم بمدادٍ سوداء في سلسلةِ قتل الأنبياء والمجاهدين والصّلَحاء، مع أنّ الكتاب الذي أنزِل على موسى رحمةٌ كلُّه، قال تعالى: وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى? إَمَامًا وَرَحْمَةً [هود:17]، فأينَ الرحمة من هذه الوحشية المجرّدة عن كلّ القيَم الأخلاقية والإنسانية؟! لكن لعلّها بداية النهاية لهم.
إنّ على المجتمع الدّولي أن يبادرَ بوضع حلٍّ عاجل واتِّخاذ موقفٍ حاسِم لعلاج ما آل إليه وضعُ إخواننا المسلمين في فلسطين وإيقاف سياسةِ العبَث والعُنف الصهيونيّ المستمر واستهتاره بأرواحِ ودماءِ الشعب الفلسطينيّ المسلم، والذي لا يؤدّي إلاّ إلى مزيدٍ من العنف والتدهوُر والفوضى، مما يشكِّل عائقًا أمام الجهود الراميةِ لوقف النزيف الدمويّ على أرض الإسراء والمعراج. فهل تأخذ الأمّة الدروسَ والعبر من هذه الأحداث المؤلمة؟! وهل تعي أنّ القوّة الحقيقيّة إنما هي قوّة العقيدة والإيمان، وأنَّ بلوغ القمّة إنما هو في القوة وعلو الهمة، وأنّ ولاءَ الأمة إنما هو لعقيدتها ومنهجِها، لا للأشخاصِ والذوات، كما أنّ معركة الأمّة مع عدوّها ـ ممن لا يرقُبون في مؤمنٍ إلاً ولا ذمّة وأولئك هم المعتدون ـ إنما هي معركةُ عقيدةٍ وهويّة ومصير، وأنّ أمّتنا تأبى الانهزاميّة وتستعصِي على التلاشِي والذوَبان، وأنّ روح المقاومةِ تحفر خنادقَ في القلوب للتضحيةِ بالنفس والنفيس من أجلِ نُصرة دين الله والاضطلاع بهمومِ الأمة وقضاياها، وأنّ السيرَ خلف الوَهم والسراب والوعود الكاذبة والأحلام الوَردية ضربٌ من تخديرِ الأمّة عن نُصرة قضاياها العادلَة، وأنّ ما حصل ويحصُل للمسلمين إنما هو تمحيصٌ وابتلاء يتمخَّض عنه بحول الله بشائرُ عاجلة وآجلة، تدفع لصحوةِ الأمة من غفوَتها ونهوضِها من كبوتها، وتبعَث همّتها الحضارية وقوّتها المعنويّة والمادية حتى يتحقَّق النصر بإذن الله.
إنَّ الدعوةَ موجَّهة من منبر المسجدِ الحرام الذي يمثِّل الارتباط العقديَّ والتاريخيّ مع المسجد الأقصى المبارك لإخواننا المجاهدين على أرض فلسطين المباركة أن يقِفوا صفًّا واحدًا أمام العدوّ الصهيونيّ الغاشم، وأن يتخلَّوا عن كلّ عواملِ الاختلاف والتنازع والشِّقاق، وإننا نناشِدهم التمسّكَ بالكتاب والسنّة وتضييعَ الفرصة على المنتهزين والمستفزِّين ومَن يريدون الاصطياد بالمياه العكِرة.
فيا إخواننا في أرض الرسالات ومهدِ البطولات، يا أبناءَ الأبطال المجاهدين، ويا أحفادَ الصناديد الفاتحين، لقد أحييتم في الأمّة آمالها بجهادِكم المبارك، فالله اللهَ في الصبر والمصابرةِ حتى تتحقَّق لكم بإذن الله إحدى الحسنيَين: النصر أو الشهادة. قلوبُنا معكم، والدعاء مبذولٌ لكم، ولن تدَّخِر الأمّة مالاً ولا جُهدًا في نُصرة قضيّتكم التي هي قضيّة المسلمين الأولى حتى يأتيّ وعد الله الذي لا يخلِف الميعاد.
ويا قادةَ المسلمين، يا مَن مكّنكم الله في أرضِه وعباده، القدسُ والأقصى أمانةٌ في أعناق الأمّة، والشعوب الإسلاميّة تتطلّع إلى اجتماع قمَّتكم في أقربِ فرصةٍ سانحة للخروجِ بمواقفَ عمليّةٍ حازمة لنُصرة المستضعفين، خاصّة في أرض العراق وفلسطين، ووضعِ حدٍّ صارم للتّجاوزات الصهيونيّة وخطرِها على المنطقة والعالم، سدَّد الله الخطى وبارك في الجهود.
فصِدقًا صِدقًا أيها المسلمون، وصَبرًا صبرًا أيها المجاهدون، وليستيقِنْ الجميعُ أنّ ثمةَ حقيقةً شرعيّة ينبغي أن لا تعزب عن الأذهان مطلقًا، وهي أن عاقبةَ التدافعِ بين القوى وثمرةَ الصراع بين الحقّ والباطل إنما هي للمؤمنين المتّقين، فليهنَأ المسلمون بذلك، وليقرَّ المؤمنون أعُينًا بهذا، ولتُشفَ صدورهم ويذهب غيظ قلوبهم، فالنصر للإسلام وأهله، طالَ الزمان أو قصر، وما علينا إلاّ الإخلاص والصدقُ والجدّ والعمل، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
وَ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ?للَّهَ لَمَعَ ?لْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنّة، ونفعني وإيّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، فيا بُشرى للتائبين، ويا لفوز المستغفرين، وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
[1] سنن أبي داود: كتاب الملاحم (4297) عن ثوبان رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (5/378)، والطبراني في الكبير (1452)، والبيهقي في الدلائل (6/534)، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (958).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ الأرباب ومسبِّب الأسباب وخالق الناس من تراب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، منزلِ الكتاب ومُجري السحاب وهازم الأحزاب، وأشهد أنّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، خيرُ نبيٍّ أنزل عليه خيرُ كتاب، بعثه الله ليتمّم مكارمَ الأخلاق والآداب، صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير آل وأصحاب، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآب.
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أيّها الإخوة الأحبّة في الله، وفي الوقتِ الذي تكفكِف الأمة دموعَها على ما آل إليه حالها تتعرَّض الأمّة في صفحةٍ أخرى من مآسيها لنكبةٍ أخلاقيّة ونكسة قيَميَة خطيرة، تمثِّل أدنى دركاتِ الانحطاط الأخلاقيّ المتمثِّل في إفرازاتٍ إعلامية عبر قنواتٍ فضائية غيرِ مسؤولة، تعمَد لإقصاء الفضيلة وإعلاءِ راية الرذيلة، في مشاهدَ من التبذّل والعُري الذي لا يقرّه أهلُ النفوس السليمَة والفِطَر المستقيمِة والذّوق الرفيع، فضلاً عن أهل الديانة والعفّة والحياء والحشمة، تحت مسمّيات "ستارٍ من المهازل" و"على الرذيلة سواء" و"على طريق العَفَن معًا"، في نوعٍ من أنواع الحربِ على قيَم الأمّة وفضائلها، وسلاح فتّاك من أسلحة الدّمار الشامل لكلّ أنواع القيم والعفافِ والفضيلة، مما يُسهِم بجلاءٍ في خلخلة المنظومةِ الاجتماعيّة المحافظَة والنسيج الأخلاقيّ المتميّز لهذه الأمة، ويفرز آثارًا اجتماعيّة خطيرةً في التمرّد على القيَم والانفلاتِ مِن الأخلاق والمثُل، في الوقتِ الذي تعيش فيه أمّتنا ظروفًا عصيبة، تتطلّب العنايةَ بالجيل والحفاظَ على النشء من موجاتِ الانفتاح والتغيير والتغريبِ التي حلّت بالأمّة دون ضوابطَ شرعيّة أو آدابٍ مرعية، مما يجسِّد المسؤوليةَ على الأسرة والمجتمع بأسرِه في بثّ الوعي بين أطيافه، لا سيما بين الشبابِ والفتيات.
أمّا المسؤولون عن هذه القنواتِ فإنّنا نناشِدهم الله في الكفِّ عن أمثالِ هذه البرامجِ المسطَّحة التي تعمل على إشاعة الفاحشةِ في المؤمنين، والتي تعَدّ بحقٍّ خذلانًا للأمّة وقَفزًا على اهتماماتها ونكأً لجراحها وخيانةً لقضاياها، ومع ما قد يُظنّ أنّ الحديث يجنح لعاطفةٍ فإنّ من التعقُّل والحكمة أن يعيشَ المرء وسطًا بين الرؤى، بين منابع اليأس وإشراقات التفاؤل والأمل، فلا يُضاق بالتشاؤم لما يبثّه من كسرِ النفس وجَلدِ الذات والركون إلى الإحباط وترك العمل، ولا إفراطَ في الحديث عن جوانبِ القصور والسلبيّة، ففي الأمّة بحمد الله جوانبُ خير كثيرة، ينبغي أن تستثمَر في بثّ روح الأمل والتفاؤل.
فالحقّ منصورٌ وممتحَن فلا تعجَب هذه سنة الرحمن
فكم في طيّات المحَن من مِنَح، وكم في ثنايا النِّقم من نِعم، وتلك سنّة الله الكونيّة والشرعية، وسِجِلّ التأريخ خير شاهدٍ مما يبعَث في نفس المسلم الثقةَ بالله عزّ وجلّ ونصرة دينه من غير يأسٍ مقعِد ولا إحباطٍ قاتل، ومن غير تهوّرٍ عاجل وحماسٍ واندفاع زائل، والموفَّق من قوّمته الدروس وأنارته المواقفُ والعبر، فأدرك أوّلَ الأحداث وآخرها، وفهِم آثارها وأسرارها وعواقبَها، والله هو هادي الخلق إلى الحقّ، وهو المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ألا وصلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على سيد ولد آدم، نبيّ الرحمة والملاحم، ورسول الخير والرحمة والمكارم، نبينا محمد أبي القاسم، كما أمركم بذلك ربّكم جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلِّم وبارك على سيّدنا وحبيبنا وقدوتِنا محمّد بن عبد الله، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
(1/3115)
حقائق التاريخ في حرب العراق
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
23/2/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقارنة بين الغزو المغولي لبغداد والحملة الأمريكية عليها. 2- من حقائق الحرب: أ- زوال الرايات المزيفة. ب- جبن الأمريكيين وخورهم. ج- الصراع مع الصليبية طويل أمده. 3- الأسباب المؤذنة بهلاك دولة الكفر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن التاريخ هو عنوان الأمم، ولولا التاريخ لم يصل إلينا خبر ولا أثر، إنه غذاء الأرواح، وخزانة أخبار الناس والرجال، يحتاج إليه الملك والوزير والقائد البصير، وغيرهم ممن عز أمرُهم.
أما الملك فيعتبر بما مضى وسقط من الدول، ومن سلف من الأمم، وأما الوزير فيعتبر بفعال من تقدم ممن حاز فضلي السيف والقلم، وأما قائد الجيوش فيطلع به على مكائد الحرب، ومواقف الطعن والضرب.
أيها المسلمون، إن الأمة التي لا تقرأ تاريخها، ولا تستفيد منه في حاضرها ومستقبلها، لهي أمة مقطوعة منبتة، فالماضي ليس مفتاحًا لفهم الحاضر فحسب، بل هو من أسس إعادة صياغة الحاضر، ومقولة: أن التاريخ يعيد نفسه ليست خطأ من كل الوجوه، وقد استخدم القرآن الكريم قصص الأمم السابقة للتأثير في نفوس الناس، أو للتأثير في نفوس الذين لم تنتكس فطرتهم، قال الله تعالى: ذ?لِكَ مِنْ أَنْبَاء ?لْقُرَى? نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ [هود:100].
إن سجِلّ التاريخ ما هو إلا المنار، الذي ينبئ الملاحين الجدد، عن الصخور المهلكة التي قد تكون خافية تحت سطح البحر. ولو أن المسلمون في هذا العصر استوعبوا دروس الماضي لما أخطؤوا في كثير من الأمور. يقول المؤرخ ابن الأثير رحمه الله: "وإنه لا يحدث أمر إلا وقد تقدم هو أو نظيره، فيزداد الإنسان بذلك عقلاً، ويصبح لأن يقتدى به أهلاً".
إليكم بعض عجائب التاريخ فيما يتعلق بأحداث العراق: إن سقوط بغداد على يد هولاكو المغولي، فيه شبه كبير فيما حصل في الأيام الماضية، على يد هولاكو الأمريكي.
تحرك هولاكو المغولي بجيش كبير نحو العراق. وهذا ما فعله هولاكو الأمريكي حيث جمع ما يزيد على ثلاثمائة ألف، وأحاطوا بالعراق من كل جانب.
وصل هولاكو المغولي إلى مقربة من العراق وأقام بها شهرًا، وجه خلالها رسائل للملوك يطلب منهم معاونته في القضاء على الإسماعيلية، وفي مقابل ذلك تعهد لهم بأن يبقيهم على ولايتهم ولا يتعرض لهم بسوء، وهددهم بأن امتناعهم عن مساعدته يجرهم إلى الهلاك.
وهولاكو الأمريكي أيضًا نزل بالدول المجاورة للعراق، وأقام بها شهرًا وهو يستعد لخوض الحرب، وطالب كثيرًا من دول العالم أن تتحالف معه للقضاء على حزب البعث.
استولى هولاكو المغولي على قلاع الإسماعيلية، وأهمها قلعة آلموت الواقعة على بحر قزوين. ولم يكتف بهذه القلاع، بل طلب من زعيم الإسماعيلية تسليم جميع القلاع في بلاد الشام، فاستجاب له، وبعدها رفع الرايات المغولية على كل القلاع الإسماعيلية في الشام.
عندما استولى هولاكو الأمريكي على ميناء أم قصر، بعد مقاومة استمرت أكثر من عشرة أيام، رفعوا مباشرة الأعلام الأمريكية على الميناء، وعلى المناطق التي استولوا عليها في الجنوب في بداية الأمر.
فرح المسلمون بقضاء هولاكو المغولي على الطائفة الإسماعيلية الباطنية الحاقدة على أهل السنة، على الرغم مما كان ينتظرهم من الخطر المغولي الذي كان أشد من خطر الإسماعيلية.
وأيضًا في هذه الحرب فرح بعض المسلمين بقضاء هولاكو الأمريكي على حزب البعث الباطني الحاقد على أهل السنة، على الرغم مما ينتظرهم من الخطر الأمريكي الذي هو أشد من خطر البعث.
بعد القضاء على الإسماعيلية توجه هولاكو المغولي إلى بغداد، ودارت مراسلات بينه وبين المستعصم بالله فترة من الزمن، يطلب منه هولاكو الاستسلام وهو يرفض.
وهنا وبعد القضاء على المقاومة التي كانت في الجنوب، توجه هولاكو الأمريكي إلى بغداد وطلب من رئيسها الاستسلام وهو يرفض.
كان هولاكو المغولي يهاب من غزو بغداد، ويخشى أن يقف العالم الإسلامي وتقف الممالك الإسلامية كلها في وجه الغزو المغولي، وكان يخشى أن يعلن الخليفة العباسي الجهاد في سبيل الله، فيخسر هولاكو المعركة، لذا عمد إلى تمزيق الصف الإسلامي من الداخل، والاستفادة من المنافقين الذين يوالون المغول.
وأيضًا هولاكو الأمريكي حسب لدخول بغداد في أول الأمر ألف حساب، وكان يخشى من حصول أمور لا يتوقعها، إما من داخل العراق أو من خارجها، من مثل دخول الآلاف من المسلمين للعراق، لإعلان الجهاد ضد الغزو الصليبي الأمريكي، لذا عمد إلى تمزيق الصف من الداخل، والاستفادة من المنافقين الذين يوالون الأمريكان.
ممن لعب دورًا كبيرًا في أحداث السقوط الأول نصير الدين الطوسي، وهو مستشار هولاكو المغولي، الذي كان ينتمي إلى الإسماعيلية في قلعة "آلموت" ثمان وعشرين سنة، ثم كشف عن حقيقته، وأنه ينتمي إلى الإمامية الاثني عشرية. وأيضا الوزير ابن العلقمي، والذي دارت بينه وبين هولاكو مراسلات، أدت إلى تخفيف الجيش في بغداد حتى تمكن من الدخول إليها.
وفي هذه الأحداث، الذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن بغداد سقطت بقرار، سقطت بقرار ممن كانوا يملكون قرار توجيه وتحريك الحرس الجمهوري وغير الجمهوري. وهو نوع من الخيانة، سهل الأمر لهولاكو الأمريكي دخول بغداد في هذه السرعة، التي لا يقبلها عقل ولا منطق، فإذا كانت أم قصر والناصرية التي هي أصغر بكثير من حارة من حارات بغداد، قاومت بشكل عجيب لأيام، فهل يعقل سقوط بغداد، والذي يبلغ تعداد سكانها قرابة السبعة ملايين، أن تسقط في ساعات.
في يوم الثلاثاء 22 من شهر محرم سنة 656هـ، شرع المغول في الهجوم الكاسح على بغداد، وأحاطوا بالمدينة من كل الجهات ونصبوا عليها المنجنيق، وأخذوا يمطرونها بوابل من الحجارة، حتى دكوا الثغرات في السور والأبراج.
وفي يوم الخميس 17 من شهر محرم سنة 1424هـ شرع الأمريكان في الهجوم الكاسح على بغداد، وأمطروا المدينة بوابل من الصواريخ والقنابل، حتى دكوا الكثير من المرافق والمستشفيات، وبيوت المدنيين، ومواقع عسكرية بنيران صديقة.
في يوم الأربعاء الموافق السابع من شهر صفر، أعلن هولاكو المغولي الهجوم العام على المدينة من الشرق والغرب، وأمر بردم الخنادق وهدم الأسوار، فدخلها وخرب المساجد، وهدم القصور، وانتشر السلب والنهب، وأسرفوا في القتل واستمروا على ذلك أربعين يومًا.
وفي نفس التاريخ بالضبط، يوم الأربعاء السابع من شهر صفر، دخلت القوات الأمريكية بغداد وعاثت في الأرض الفساد، وأهلكت الحرث والنسل، وأسرفوا في القتل والأسر، وانتشر بعدها السلب والنهب.
بسقوط بغداد على يد هولاكو المغولي، انتشر التشيع في المنطقة، وازداد نفوذهم في البلاد، فقد مكن لهم المغول ذلك.
وها نحن ننتظر بعد سقوط بغداد على يد هولاكو الأمريكي، لمن تكون السلطة، ولأية جهة سيمكن الأمريكان، في بلد تكثر فيه الأحزاب والتوجهات والأفكار والمذاهب، خليط عجيب نسأل الله تعالى أن يلطف بالمسلمين.
أيها المسلمون، وأمام هذا العرض التاريخي السريع، نعرض بعض الحقائق المهمة:
أولاً: زوال الرايات المزيفة: من حكمة الله عز وجل، وله الحكمة البالغة أن شتت الله شمل البعث في هذه الحرب، وفرق جمعهم، وأزال دولتهم، ولو بقي البعث لكانت الحرب بين رايات كفرية، البعثية والصليبية، لكن بعد زوال البعث، صارت الحرب واضحة، وأنها الآن بين الإسلام والصليبية، وفي هذا خير عظيم، وهو وضوح الرايات، وتحديد موقف كل من يقف تحت أية راية.
ولا يعني هذا أن أمريكا خير لنا من البعث، فنحن نعلم بأن وجود النظام السابق في العراق، خير للعراق وللمسلمين خارج العراق، من احتلال الولايات المتحدة لأرض المسلمين. والإنسان قد يفرح لحدوث أمر ما، أو زوال شيء ما، والأيام والتاريخ يثبت بعد ذلك أن وجوده كان خيرًا له، ولعلي أذكركم بمثال سابق في التاريخ: كم فرحنا نحن المسلمين جميعًا عند سقوط الاتحاد السوفيتي، واندحار الشيوعية وهلاك الدب الأحمر، لكن ألا تتصورون لو كان الاتحاد السوفيتي موجودًا، وبنفس قوته التي كانت تمثل القوة الثانية الضاربة في العالم، فإن أمريكا كانت ستقدم رجلاً وتؤخر عشرين رجل لدخولها العراق، وربما كان في صالحنا الآن وجود السوفييت، لكي لا تتفرد أمريكا بشؤون العالم. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
الحقيقة الثانية: جبن الأمريكان، وأن قتالهم وحربهم إنما هو حرب طائرات وإلقاء القنابل من بعد، والتاريخ قد أثبت بأنهم لم ولن يدخلوا أي بلد دخولاً بريًا، إلا بالتنسيق مع المنافقين في تلك الدولة، والتاريخ القديم والحديث شاهد على ذلك، ففي حربهم مع الأفغان، كانت حرب طائرات، ومن مسافات شاهقة جدًا، ولم ينزلوا إلى الأرض إلا بعد التنسيق مع المنافقين في الشمال.
وفشلت أمريكا فشلاً ذريعًا في كل من كوبا والصومال، وانسحبوا ولم يحققوا ما أرادوا، والسبب هو أنهم لم يجدوا منافقين في الداخل يخدمونهم، وفي العراق أصابع النفاق أصبحت واضحة لكل من كان يتابع الأحداث، أنهم وراء ما حصل في بغداد وغيرها من المدن العراقية، والتاريخ لن يخفي شيئًا، وسيأتي اليوم الذي تنكشف فيه الأوراق. لكن نخرج من هذه النقطة، بأن القضاء على الوجود الأمريكي في العراق أو في غيره من الأماكن، يستلزم القضاء على المنافقين في الداخل أولاً.
الحقيقة الثالثة: الحر ب لم تنته، إن صراعنا مع الصليبية صراع طويل، وهذه الحرب ليست هي نهاية المطاف، ولا يعني دخولهم العراق واحتلالهم لبغداد نهاية الإسلام في أرض الرافدين، وإنما هي جولة وستعقبها جولات وجولات، وحتى بالنسبة لاحتلال أمريكا للعراق، فإن المؤشرات القريبة والبعيدة تشير إلى أن أمريكا لن يستقر لها قدم في العراق، والزمن سيثبت هذا، صحيح أن جزءًا كبيرًا من الشعب العراقي كان يكره النظام السابق، لكنهم جميعًا يكرهون أمريكا أكثر، كيف ينسى العراقيون عشر سنوات عجاف، مرت عليهم وقد ذاقوا فيها الجوع والفقر والمرض، بسبب الحصار الذي ضربته أمريكا على بلادهم، بحجة تأديب النظام، الذي ما شعر بالحصار، فقد كان ينعم كأغنى دولة في العالم، والذي دفع الثمن هو الشعب.
كيف ينسى العراقيون موت مليوني طفل بسبب منع أمريكا دخول الدواء والغذاء إلى بلادهم؟!
فأمريكا لن تستقر في العراق، ومن تاريخ الدنيا أن الظالم لن يستمر، ولن يستقر في أرض يظل بأهلها يدافعون عن حقهم، حتى ولو كانوا كفارًا، فكيف بهذه الأمة، وربما الأمريكان لا يعرفون بأننا أمة لا تنسى هزائمها، وهذه من الخصائص العجيبة لهذه الأمة، وهو أننا لا ننسى هزائمنا، فمعظم شعوب الأرض يمكن أن ينسوا الخلافات بينهم بعد حروب طاحنة، أكلت أخضرهم ويابسهم، ويعشوا سويًا وكأن لم يحدث شيء، وقد رأينا بعض الشواهد على ذلك، فالألمانيون توحدوا في دولة واحدة، بعد خلافات استمرت سنوات عديدة، بل أوربا كلها حصل بينها توحد، بعد خلافات وحروب وكوارث، وتناسوا ذلك كله، ويتوقع أنهم سيمثلون في المستقبل قوة في العالم، وهناك أمثلة غيرها.
أما هذه الأمة، فهي أمة لا تنسى هزائمها، فنحن إلى الآن لم ننس الأندلس، ولن ننساها حتى نستردها، وما زلنا نذكر الأيام الخالدة، والحضارة الراقية التي شيدها المسلمون هناك في بلاد الأندلس، ومعظم المسلمون تحن قلوبهم لبلاد الأندلس، وهم لم يروها، ولم يعيشوا على أرضها، ولم يتنفسوا من هوائها، بل لماذا نذهب بعيدًا، فهذه فلسطين وقد احتلها اليهود منذ أكثر من خمسين سنة هل نسيناها؟! وهل يمكن أن ننساها؟! بل كل يوم يزداد شوقنا لها، وكل سنة تزداد المقاومة، وكلما زاد اليهود بطشًا وقتلاً وتخريبًا، كلما زاد ذلك من حرارة الانتفاضة.
فنحن أمة لا تعترف بالهزيمة أبدًا، فكيف إذا أضفنا إلى ذلك ما معنا من رصيد ضخم من النصوص القرآنية، والبشائر النبوية، وشواهد التاريخ، بأن المستقبل لهذا الدين، وأن النصر لهذه الأمة، وأن المحق والكسر يكون لليهودية والنصرانية.
فمن الخطأ أن نفترض بأن جميع الخيوط بأيدي الأمريكان، أو بأيدي غيرهم من قوى الأرض. قد يقول قائل: لكن المشاهد والواقع الحالي بأن هناك خيوطًا كثيرة وقوية، بل حبالاً غليظة سميكة بأيدي الغرب عمومًا، وأمريكا خصوصًا، يتمكنون من خلالها فرض هيمنتهم على مناطق كثيرة من العالم، والتحكم في معظم بل كل دول العالم.
فنقول: هذا الكلام قد يكون فيه كثير من الصحة، لكن نحن بأيدينا أعظم حبل، إن تمسكنا به، إنه حبل الله تعالى: وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، خذ هذا المثال: الشعب الفلسطيني، كيف استطاع هذا الشعب الأعزل المحاصر، وقد حاولت أمريكا أن تقطع عنه كل الحبال، أن يقاوم دولة تملك السلاح النووي؟ الجواب في كلمة واحدة: إنه حبل الله.
اركض برجلك يا هذا ولا تَهَبِ وانثر بها النقع في أجفان مغتصبِ
واعقِل بقلبك أن الحق منتصرٌ وأن طالبَ ربِ العرش لم يخِبِ
تقول نفسي لنفسي وهي خائفةٌ ألم تري أن هذا الليث لم يَثِبِ
وتشتكي الكمَد المغليَّ في دمها عن حال أمتها معقورة الرُّكبِ
يمتصُّ خيراتها البرغوثُ في وضحٍ كالشمسِ طاهرةً من غمرةِ السحبِ
ويشتم الدِّين ما للدين من رجلٍ يَعُدُّ إذلاله من أفضل القُرَبِ
يا ويل من أقسم العبد الفقير لهُ ولم يراوغ له باللهو واللعبِ
والله لن ينعم الكفَّار في بلدٍ حتى نعايشه أمنًا بلا رِيَبِ
ولن تزال بظهر الأرض طائفةٌ يزلزلون عروش البغي باللهبِ
أيحسبُ العلج تيْهًا أنَّنا نفرٌ نقيم في الضَّيم كالأوتاد للطنبِ
والله إن الفتى فينا لمرخيَةٌ عيناه دمعًا ينادي كاشفَ الكربِ
ويحمل الروح فوق الكفّ يوم ترى قرينَه في ظلال العيش والرَّغبِ
يسعى إلى الموت سعيَ الليل في غسَقٍ يغشى النهار حثيث السعي والطلبِ
إنا لمن أمةٍ دان العدوّ لها لمَّا ارتدت حلَّةً مفتولة السَّبَبِ
تضمُّ كلّ بنيها بالجناح معًا وترقَعُ الخرقَ لا تُغضي لذي حسَبِ
ونقشُ حلَّتها يا قوم لا تهنوا أو تحزنوا ما دَجى ليلٌ على يَبَبِ
إن أرجفت صُحُف التضليل في سفهٍ فالسيف أصدق إنباءً من الكُتُبِ
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، بالتأمل في سنن الله تعالى، يتبين لنا أن أمريكا ينتظرها عقاب إلهي مدمر يمزقها تمزيقًا. فما بلغت أمة في الطغيان والجبروت، والكذب والإفساد في الأرض، والصدِّ عن سبيل الله، ومعاداة أولياء الله، ومطاردتهم وتعذيبهم بأشدِّ الأسلحة فتكًا وتدميرًا ما بلغته أمريكا، ومن سنن الله إهلاك الأمة إذا بلغت ذلك. إليكم عرضًا موجزًا لأسباب الهلاك التي يمكن أن نستقرأها من حال هذه الدولة الكافرة:
أولاً: الكفر والصد عن سبيل الله، ومطاردةُ المجاهدين والدعاة والمصلحين والمؤسسات الخيرية، والتضييق عليهم بالأساليب غير المباشرة سابقًا عن طريق عملائها، أو بالأساليب المباشرة الآن، بعناصر مخابراتها دون حياء أو خجل، وفي الحديث: ((من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب)) فكيف وهي تعادي كل أولياء الله، بل وتعادي الربَّ سبحانه استكبارًا وعنادًا. قال الله تعالى: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ?لْبِلَـ?دِ مَتَـ?عٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمِهَادُ [آل عمران:196، 197]، وقال تعالى: وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ?لْقَوْمِ ?لْمُجْرِمِينَ [يوسف:110].
ثانيًا: التأله، فقد ادعت أمريكا لنفسها من القدرات، ما لا يليق إطلاقه إلا على الله تعالى، فهي تتعامل مع الدول الأخرى ولسانُ حالها يقول: "أنا ربكم الأعلى"، "أنا أفعل ما أشاء"، "من أردتُ بقاءه أبقيته، ومن أردت إهلاكه أهلكته"، وكأنها هي المتصرفة في تدبير شؤون الكون. ولذلك قال فرعونها في خطابه لرئيس باكستان: "أمامك خياران: إما أن تدخل في حلف الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب، وإما أن نعيد باكستان إلى العصر الحجري". ولهذا فهي تنتظر ما حل بفرعون وقومه: وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ [الأعراف:137].
ثالثًا: الظلم، لا يختلف اثنان على الحجم الهائل للظلم، الذي أوقعته أمريكا على الدول والشعوب والأفراد، فهي رائدة الظلم على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري، فقد نهبت ثروات الأمم والشعوب، وتسلطت على المنظمات الدولية ذات الطابع الدبلوماسي والاقتصادي، كهيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والبنك الدولي، ومن يخرج عن رأيها، ترهبه بالقوة العسكرية، وبالتجويع، فهي الدولة الوحيدة التي استخدمت أشد الأسلحة فتكًا، وهي الرائدة في تصنيع وتصدير الأسلحة الكيميائية والجرثومية، وهكذا وُلِدت مع الظلم، حيث مارس المستعمرون الأوائل حرب إبادة على السكان الأصليين من الهنود الحمر، واستمر مسلسلها الإجرامي الدامي في فيتنام والصومال وأفغانستان وغيرها، والآن على المسلمين في العراق.
فقد ذكر أحد العسكريون الروس، أن حجم ما صُبَّ على العراق من القنابل والصواريخ في الأيام الخمسة الأولى، يعادل أربعة أضعاف حجم القنبلة التي ضَربت اليابان. أطنان من القنابل دون تمييز أو رحمة، وبشكل مستمر، ترعب به النساء والشيوخ والأطفال، فلا أمن ولا نوم ولا أمان، فويل لها من الرحمن ثم ويل لها من الرحمن.
انظر إلى مطاردتها للدعاة والمجاهدين في فلسطين وكشمير والفلبين وأفغانستان والشيشان، وفي كل مكان ترفع فيه راية الجهاد، شتتت شملهم، ورملت نساءهم، ويتمت أطفالهم، كل ذلك ضدَّ الشعوب الإسلامية، بغية القضاء على دينها، وامتصاص ثرواتها، والهيمنة على ممتلكاتها، واستثماراتها، والسيطرة على أراضيها، فقد احتلت البر والبحر والجو.
إنه ظلم عالمي تقوده أمريكا، لم يشهد له العالم مثيلاً على مرِّ قرونِه، وتعاقب دهوره، فهل بدأت نهايتها كما قال سبحانه: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى ?لْقُرَى? إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَـ?لِمُونَ [القصص:59]، قال الله تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَـ?لِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا ءاخَرِينَ [الأنبياء:11]، وقال تعالى: فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـ?هَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى? عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ [الحج:45].
رابعًا: البطر، وهو كفر النعمة، ويكون بأحدِ أمرين: إما بجحد المنعم بها، وإما بعدم شكره، واستخدامِها في غير ما خلقت لأجله. كصناعة الخمر، وكالمتاجرة بالجنس، وتصنيع أسلحة الدمار الشامل، وذلك لإخضاع الأمم ظلمًا وعدوانًا وبطرًا وغير ذلك.
والمتأمل لأسلوب ومنهج حياة الأمريكيين، يرى أن جميع هذه الطامات موجودة فيهم كل بحسبه، فهي الرائدة في جميع أنواع الكفر والفساد، بدءًا من أفلام الجنس والخلاعة والرعب، ونهايةً بالتباهي بالقوة وأسلحة الدمار الشامل، ولسان حالهم يقول إنهم هم القوة العظمى، فهي تجول في البحار والأجواء والبراري، بحاملات الطائرات والمدمرات والصواريخ شرقًا وغربًا، وهذا هو البطر بعينه، والذي هو من أسباب إهلاك الله للأمم، قال الله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَـ?كِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ ?لْو?رِثِينَ [القصص:58].
خامسًا: الاستكبار والغرور، إن الحرب العالمية الثالثة التي تقودها أمريكا الآن، وتسميها حربًا على الإرهاب، وهي حرب على الإسلام، وهذا من أعظم الاستكبار في الأرض، فمن يحارب دين الله وأولياءه، فقد استكبر وعتا عتوًا كبيرًا، لقد كانت في عتوها واستكبارها تستعرض قوتَها الهائلة في أفغانستان، ذلك البلد الفقير الممزق، فهل كان يحتاج كل هذا الطغيان، وحجم القنابل بكل أنواعها، دون رحمة ببني الإنسان، وها هي اليوم تعود لتصب جام غضبها على المسلمين في العراق، ذلك البلد المحاصر لعشر سنوات، فما ذنب شعب العراق. فحسبنا الله ونعم الوكيل، قال تعالى: وَأَمَّا ?لَّذِينَ ?سْتَنكَفُواْ وَ?سْتَكْبَرُواْ فَيُعَذّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا [النساء:173].
أيها المسلمون، هذه بعض أسباب هلاكهم، ولعله قريبًا ـ إن شاء الله ـ وما ذلك على الله بعزيز، فقد أهلك الله أممًا بذنب واحد، فكيف إذا اجتمعت هذه الأسباب في أمة واحدة. إنه ـ والله ـ الهلاك الأكيد ولكنكم تستعجلون.
(1/3116)
هل انتهت حرب العراق؟
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
1/3/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب فضح المخططات والمكائد الصليبية. 2- اختلاف أساليب مقاومة العدو وتنوع صورها. 3- مفهوم الإسلام لا يقتصر على الشعائر والتدين الشخصي. 4- المقاتل لأجل دينه وعقيدته هو من يستطيع الثبات في ميدان المواجهة. 5- حرمة مظاهرة الكافر على المسلم. 6- من رحمته سبحانه ابتلاء الأمة بالمصائب لتعود وتتوب. 7- نداءان إلى العلماء وولاة الأمر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، كلما أراد الخطيب أن يتحدث عن موضوع آخر غير موضوع العراق، يجد نفسه مضطرًا للرجوع مرة أخرى، وذلك لأن كل يوم تتكشف أشياء، وكل ساعة تتبين حقائق كانت خافية، ولا تزال عدد من القضايا الأساسية تحتاج إلى توضيح وتبيين للناس، من ذلك:
أن أمريكا هي التي وقفت بكل ثقلها وراء نظام البعث، فهم الذين دفعوه إلى إعلان الحرب على إيران، وهم الذين زودوه بالسلاح الكيماوي الذي حسم به الحرب، وأرغم الإيرانيين على الصلح. وهم الذين أغروه بفعلته الحمقاء، عندما غزا الكويت في تصرف عنتري بائس، يفتقر إلى أبسط معاني الإحساس بالمسؤولية، ثم وقفت القوات الأمريكية على حدود الكويت، رافضة أن تُنزل به العقاب، رغم أن العالم كله كان معها آنذاك.
كما أن التاريخ الحي سجل لنا أن أمريكا وبريطانيا وفرنسا، هم من تستروا على إجرام صدام ودمويته، وقمعه الرهيب لشعبه، بما في ذلك استعماله أسلحة دمار شامل ضد شعبه، والقصص في هذا الشأن سارت بها الركبان، فلم يعرف العرب في تاريخهم الحديث، حاكمًا في دموية وإجرام صدام وعصابة البعث.
لكن يجب أن يُعلم الآن، بأن الكلام في هذه الفترة عن حزب البعث، والاسترسال في تعداد جرائمه، لا يغني شيئًا، فقد أصبح اليوم نسيًا منسيًا، ولنترك هذا العمل الصغير للمتأمركين العرب، مثقفين وكُتَّابًا، الذين لم يُبدوا أي امتعاضٍ لاحتلال قوات التحالف أرضَ العراق، ولم تؤثر فيهم صور المأساة هناك.
فالذي يجدي الآن، ويتعين علينا، هو التوجه إلى تعرية التحالف الصليبي، والحديث عن أمريكا الطاغية وفضحِ مخططاتها، وكشف جرائمها، حتى تظهر للناس في صورتها الحقيقية.
والإسهام في هذا لا يختص بالمثقفين ولا المفكرين ولا العلماء، إنه الإسهامُ من الجميع، فمثلاً: في استطاعة الشاب الصغير ـ في المرحلة المتوسطة، الذي لا يحسن قراءة الأحداث ولا متابعتها، باستطاعته ـ أن يتعرف على جرائم أمريكا وحلفائها من خلال آثار الدمار والقتل والنهب الذي خلفته حرب التحرير الموهوم. ولن يعجَزَ مثل هذا الشاب ـ ذي القدرات البسيطة ـ أن يجمعَ صورها، ويجعلها وثائق يحتفظ بها في مكتبته الصغيرة، لإدانة سياسة أمريكا، وتحرك كراهيته لها كلما سكنت، وتذكيره بجرائمها كلما نسيها.
أيها المسلمون، إن المحنة الكبرى ليست في سقوط بغداد، وإن كان سقوطها أمرًا يجعل المسلم الحقيقي يبكي دمًا بدل الدموع، لكن مصيبتنا الكبرى الآن، وبعد سقوطها، هو الاحتلال الأجنبي لبلاد المسلمين، وعودة العهود الاستعمارية المظلمة، وأن يكون الحاكم والآمر والناهي على المسلمين وفي بلادهم رجل أجنبي كافر. وإذا كان الواقع كذلك، فإن من الأمر العجَبِ أن تخفُتَ أصواتُنا في الدعاء على التحالف الصليبي، وأن يفتُر تأميننا عليه، وكأن المسألة قد حُسمتْ وانتهتْ في أول مراحلها.
فينبغي أن نعي أن الحرب لا يلزم أن تقع في صور متشابهة، يحويها أسلوب واحد، إن صورة الحرب على كل بلد تتشكل بما يناسبه، فهي على بعض البلاد حربٌ عسكرية، كما فعلت أمريكا في أفغانستان سابقًا، والآن في العراق، وعلى بلد آخر حرب اقتصادية، وعلى آخر حرب سياسية نفسية. ولذا فليس بالضرورة أن تكون المرحلة القادمة، لحرب التحالف الصليبي على الإسلام، كما وقعت في العراق، فواقع العراق فرض الحربَ العسكريةَ، لأجل الإطاحة بنظامٍ مَرَدَ على العصيان، ثم الاستيلاء على حقول النفط.
أما المرحلة التالية فليس التحالف فيما يبدو بحاجة إلى كل هذا، فيكفيه أن يلوِّح بالتهديد بالقوة على باقي الدول، ويمارس ضغوطًا سياسيةً واقتصادية، لفرض الهيمنة والوصاية عليها، ومن ثَمَّ القضاء على كل نظامٍ أو فكرٍ يعزز المدَّ الحركي للإسلام، أو نشاطٍ يهدد أمن إسرائيل. ولذا تستدعي المرحلة القادمة مزيدًا من الحيطة والحذر، والعمل والمقاومة المنضبطة بالحكمة، ومراعاة المصلحة.
أيها المسلمون، إذا كانت الحرب تختلف صورها وتتنوع أساليبها، فإن المقاومةَ هي الأخرى ينبغي أن تختلف صورها، تبعًا لاختلاف أساليب الحرب وصورها. فلكل حربٍ ما يناسبها من صور المقاومة.
إن المقاومة لا تعني بالضرورة المواجهةَ العسكرية لجيش العدو، لأنك أحيانًا قد لا ترى العدو أمامك، وقد لا يكون لك قِبَلٌ به ولا طاقة. فمعنى المقاومة إذن تخرج من مجرد المواجهة، إلى الأخذ بجميع الأسباب، التي تمنع العدو أن يصل إلى أطماعه في بلاد المسلمين، أو يفرض عليهم وصايته.
إن المقاومة تعني في أول ما تعنيه: حياطةَ الدين ومبادئه وقيمِه من كيد الأعداء، أن يبدلوا منه شيئًا، أو يحرِّفوه أو يُقْصوه أو يُحجِّموه. كما تعني حفظَ البلد وثرواته من الاستعمار والنهب والاستيلاء، وهي تفرض على الأمة مزيدًا من التواصي والتعاون على سدِّ كل ثغرةٍ، قد يتسلل من خلالها العدوُ إلى التدخل في شؤون البلاد الداخلية، لتغيير نُظُمِها التي لا تخلو من النظم الشرعية. ومزيدًا من التواصي على تربية المجتمع على عقيدة الإسلام وقيمه، وعلى بنائه فكريًا واقتصاديًا وأمنيًا، ليصبح قادرًا على التمنع والمقاومة.
والمجتمع الذي اعتاد حياة الترف واللعب والكسل والخنوع، لا يقوى على مقاومة إغراء الشهوات والملذات، فكيف بمقاومة عدوٍ يملك أقوى عتاد! ولكن كما أن للحرب سبعين حيلة، فللمقاومة سبعون مثلها. المهم أن نستشعر الخطرَ المحدِقَ بنا، وأن تجتمع كلمتنا وقوتنا، وأن نستنفرَ مجتمعاتِنا وجهودَنا لمقاومته، وأن نوظِّف هذه الكراهية التي نجدها من الناس على أمريكا، في أعمالٍ إيجابية تعزز لمقاومة وتُنوِّع طرقها، وأن نُذكي نارَ الكراهيةِ والبغضاء ضدها، كلما خبت زدناها سعيرًا.
أيها المسلمون، ومما ينبغي أن نعلمه جيدًا، أن حرب التحالف الصليبي على حزب البعث، وإن بدت أنها قد وضعت أوزارها، لكنَّ حربَهم على الإسلام لا تزال قائمةً، يَشُنّونها تحت شعار مكافحة الإرهاب، فهي حرب طويلة لا تنتهي بإسقاط رمزٍ أو دولةٍ، فالإسلام الذي يخشونه ليس حزبًا محدود الأعضاء، ولا نظامًا يحصره بلد، حتى يكون بقاؤه مرهونًا ببقاء رمز أو دولة.
إن الحرب على الإسلام ستطول؛ لأن وجوده متجذِّر في القلوب، ممتد في أقطار الأرض، له سحره الأخّاذ وتأثيره العجيب، تنتمي إليه شعوب كثيرة مختلفة الأعراق واللغات. ولكن السؤال: أيُّ إسلامٍ هذا الذي يعلنون الحرب عليه؟ هذا السؤال هو أحد الأسئلة المهمة، التي لا ينبغي أن يغيب جوابُها عن الأذهانِ في هذه الأيام. أيُّ إسلامٍ هذا الذي يعلنون الحرب عليه؟
إنه ولا شك الإسلام الحركي العملي، الذي يحكم الحياة ويصرِّفها، ويهيمن على نظمها، ويحيل العقائد المستكنّة في القلوب، واقعًا ملموسًا في الحياة إنه الإسلام الذي يحرك عقيدة الولاء والبراء في القلوب، لتنطلق منها وشيجة الأخوة الإيمانية بين أتباعه، وتقيمَ بينهم رابطةً أقوى وأسمى من الرابطة القومية والوطنية والعرقية والإقليمية.
إنه الإسلام الذي يُعلِّمُ أهله أن إعداد القوة فريضة، وأنّ مقاومة الاستعمار جهادٌ مقدس، وأن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين نفاقٌ مخرجٌ من الملة، وصورة من أكبر صور الخيانة للأمة. هذا هو الإسلام الذي يحذره الغرب، وتحاربه أمريكا اليوم.
أما التدين الشخصي الذي لا يحدث في الواقع تغييرًا، ولا يجاوز حدودَ الشعائر التعبُّدية، كالصلاة والصوم والحج، فهم لا يحاربونه إن لم يكونوا يؤيدونه، ويودّون لو لم يفهم المسلمون من الإسلام إلا هذا التدين الشخصي، ونحن لا نشك بأنه تدينٌ واجبٌ ومهمٌ، لكن لا يجوز أن نختصرَ الإسلام فيه.
والذين يقصرون الإسلام على هذه الشعائر التعبدية، هم وحدهم الذين يتوهمون أن أمريكا لا تحارب الإسلام. وليس بمستغرَب عليهم هذا التوهم، ما دام أنهم لم يخرجوا في فهم الإسلام وتطبيقه، عن صورته المختزلة في بعض الطقوس، وهو الإسلام الذي لا تعارضه أمريكا إن لم تكن تؤيده كما ذكرنا، لأنه لا يهدد مصالحها، ولا يقاوم استعمارها.
أيها المسلمون، يأتي في طليعة الدروس المستخلصة من حرب العراق، إدراك أن الشعوب هي التي تحمي وجودها وأوطانها، طالما التحمت مع قضاياها، وكانت الملاحظة المذهلة أن بعض الشباب العراقي، ومعهم شباب إسلامي من بلدان أخرى، هم الذين خاضوا المعارك الكبرى، في أم قصر والبصرة والناصرية وتكريت وغيرها، وكبدوا العدو خسائر فادحة، وأذهلوه ببسالتهم، وأوقفوا تقدمه طوال ثلاثة أسابيع.
بينما جحافل صدام وحرسه الجمهوري، سلموا العاصمة إلى الأمريكيين في يومين اثنين دون قتال، فالذين يَنشؤون على العبودية، لا يصلحون لمعارك التاريخ الكبرى، والذين يدافعون عن شخص، غير الذين يقاتلون عن دين، وهذا درس للشعوب، وللنظم الحاكمة أيضًا، فإن الشعب يكون داعمًا لنظامه السياسي عندما يستشعر أنه يعبر حقيقة عن اختياره وهويته، ويحترم حرياته وكرامته، وعندما يشعر المواطن العادي أنه شريك حقيقي في صناعة مستقبل بلاده.
وأما خرافة أن نظامًا مستبدًا يصنع قوة عسكرية مُهابة، ويؤسس دولة تحمي الوطن وتؤمن مستقبله، فهذه خرافة سقطت مع سقوط أول أصنام صدام في بغداد، ومن توابع هذه الحقيقة ندرك أن العراق والشعب العراقي لم يهزما، وإنما المهزوم هو نظام البعث، الذي سبق له أن أهان العراق وشعبها وهزمهما، وأطاح بكرامة الإنسان العراقي، قبل أن يأتي الأمريكان أو غيرهم.
إن معركة أمريكا لم تكن أبدًا مع الشعب العراقي، وإنما كانت مع نظام فاسد، وعندما تأتي ساعة المواجهة، والمعركة الحقيقية بين الشعب العراقي وأمريكا، سيرى العالم صورة مختلفة تمامًا، ولن تقوى لا أمريكا ولا غيرها على هزيمة إرادة شعب مقاوم، هكذا علمنا التاريخ، وهكذا كان درس أمريكا ذاتها في أكثر من مواجهة على مستوى العالم.
أيها المسلمون، لقد انكشف للعالم أجمع بأن أمريكا لم تأت بجيوشها من أجل تحرير العراق، لأنه أصلاً لم يكن تحت الاحتلال، ولأن العالم كله لم يسمع من قبل بمصطلح تحرير الشعب من حكومته قبل هذه الحرب، ولأنه لم يسبق لأمريكا أن حررت شعبًا يقع تحت ظلم حكومته قبل هذه الحرب، فقد ظلت شعوب أوربا الشرقية نصف قرن ترزح تحت حكم أنظمة شيوعية استبدادية، ولم تفكر أمريكا قط بإرسال جيوشها لتحرير تلك الشعوب الأوربية المسيحية، فكيف تفعل ذلك للشعب العراقي المسلم؟
ففعل أمريكا بانت أهدافه، ووضحت مقاصده، وهذا ليس بغريب أن تفعله أمريكا، لكن الغريب هو أن بعض المشايخ، ممن كنّا نسمع منهم أنهم يحرِّمون على الشعوب الثورة على حكوماتها الاستبدادية، ويقولون بأن هذا محظور في الشريعة الإسلامية، وأن الصبر على الظلم خير من إثارة الفتن وإراقة الدماء، وإن جلد ظهرك وأخذ مالك، فإذا بهم فجأة وبلا سابق إنذار، يُجيزون لبعض فصائل المعارضة العراقية، ليس فقط الثورة على النظام، بل والاستعانة بالجيوش الصليبية لتدمير بلد إسلامي، وقتل الآلاف من أبنائه، واحتلال أرضه بدعوى رفع الظلم عنهم.
إن هذه الفتاوى الجديدة تجعل من خيانة الوطن عملا شريفًا، ومن العمالة للعدو الأجنبي فعلا مشروعًا، وتجعل من أبي رغال قدوة، ومن ابن العلقمي إمامًا، ومن الطوسي حجة، ولم يعد لاستقلال الأوطان في الفتاوى الجديدة حرمة، ولا لسيادة البلدان ذمة!. وبناءً على هذه الفتاوى الجديدة، أصبح من حق كل قوى المعارضة في الخارج، كالمعارضة السورية، والمصرية، والليبية، والجزائرية، وغيرها أن تستعين بالقوى الاستعمارية، وتحثها على غزو بلدانها، واحتلال أوطانها من أجل إسقاط حكوماتها غير الديمقراطية، وإقامة حكومات عميلة تحت حماية الجيوش الغازية.
فهذا حق مشروع بناءً على الفتاوى الجديدة وفتاوى الفقه الوليدة على فراش الزواج الإسلامي البروتستانتي، وفي ظل رعاية عهد الاستعمار الأمريكي الجديد لدول المنطقة.
فهل يعي أولئك الذين تكلموا بهذا الكلام الساقط، في تلك الفترة، خطورة ما تكلموا به. وقد يكونون هم الذين يشعلون فتنًا قد تحدث في بلدان أخرى.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن الأزمة التي تمر بها أمتنا الإسلامية، هي من أخطر الأزمات في تاريخها، لا من حيث طبيعة المعركة، أو السلاح المستخدم المدمر، الذي يملكه العدو، ولا من حيث ضعف المسلمين وتشرذمهم، وتسلط المنافقين ومكرهم مع الكافرين، وهذه الأزمة هي أشبه بحديث رسول الله : ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)).
ومع هذا فلنعلم أنه بقدر ما في هذه الأزمة من الشدة والضيق، فإن فيها خيرًا كثيرًا، بل هي أول بشائر النصر والغلبة إن شاء الله، فهي تبشر بولادة جديدة لهذه الأمة المسلمة، ولادة ترفع فيها رايات الجهاد، وتقال فيها كلمة الحق، ويَضْعُف فيها جانب الكفر والنفاق، يقول الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216]، ويقول تعالى: فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
أيها المسلمون، إن من يتأمل حال العالم الإسلامي، ليرى العجب في إعراض كثير من أبنائه عن الله سبحانه، على مستوى الشعوب والحكومات، فقد أصبحت بعضُ بلاد المسلمين أشد فسادًا من بلاد الكفر، حيث أماكن الفساد ومحاربة الدعاة، ونشر الرذيلة، ومحاربة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. ويكفيك ـ أخي الكريم ـ نموذجًا لهذه الحالة، أن تراقب بعض القنوات الفضائية الرسمية وغير الرسمية، التي تبث من بلاد المسلمين، وكيف أنها في معظمها تهدم القيم والأخلاق والدين، لينشأ جيل لا يعرف من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، ولذلك فإننا نلمس في هذه الأزمة خيرًا كثيرًا، فلعلها أن تعيد الأمة إلى ربها، وحتى تعرف شعوب العالم الإسلامي، بل وحتى حكوماته، أنه لا ملجأ من الله إلاّ إليه، وأن النصر والتمكين منه وحده، وأنه لا نجاة لهم من قوة وجبروت أمريكا وحلفائها الكافرين، إلا بالاعتصام بالله، فأين قوتهم المادية من قوة أمريكا الطاغية التي تملك من القنابل الهيدروجينية ما يمكنها من تدمير عشرة أضعاف الكرة الأرضية لو أذن لها الرحمن؟!
ولذلك فمنذ بداية الأزمة، ونحن نرى ونسمع عودةً إلى الله سبحانه، وإيقافًا لكثير من البرامج الساذجة، التي تقابل نعم الله بالجحود والنكران، نعم ـ أيها المسلمون ـ إن المصيبة هي مصيبة الدين، هي أن يعرض الناس عن ربهم، هي أن يتنكر المسلمون لدينهم، أما أن يجوع المسلم، أو يخاف أو يشرد أو يقتل، وهو متمسك بدينه، فلا شك أن ذلك من المصائب، ولكنه لا يساوي شيئًا مع مصيبة الدين.
إن من نعمة الله على هذه الأمة المسلمة، أن يبتليها بالمصائب، لتعود لدينها ولربها، حتى لا يأخذها على حين غرة وغفلة، فتموت على الجاهلية، كما قال تعالى: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَيْء حَتَّى? إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَـ?هُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ ?لْقَوْمِ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ وَ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأنعام:44، 45]. كما قال سبحانه: وَلَوْ بَسَطَ ?للَّهُ ?لرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي ?لأَرْضِ [الشورى:27].
ومن الخير كذلك أنه يبتلي عباده بالضراء، كما يبتليهم بالسراء، ليتم لهم العبودية الكاملة، فيجمعوا بين الشكر والصبر، ومع هذه الحكمة، فلا بد للأمة على جميع المستويات، أن تأخذ للأمر عدته، وأن تفقه طبيعة المعركة، وأنها حلقة في سلسلة متواصلة لحرب صليبية ضروس، ضمن مخططٍ رهيبٍ، في معركة طويلة بدأت في أفغانستان، بل بدأت في تل أبيب، ومرورًا الآن بالعراق، وانتهاءً بالقضاء على الإسلام وأهله زعموا!! ولكن هيهات إِنَّ ?لْبَـ?طِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، إِنَّ كَيْدَ ?لشَّيْطَـ?نِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، وَمَا كَيْدُ ?لْكَـ?فِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلَـ?لٍ [غافر:25].
فيا علماء الأمة، اتقوا الله في أمة الإسلام، فأنتم بعد الله صمَّام أمانها، أنتم ورثة محمد ، والأمة إنما تنتصر حين تعود إلى الحق والهدى، وأنتم أولى الناس ببيان ذلك للأمة، ودعوتها إليه، ببيان الحق وعدم كتمانه، لا سيما في أوقات الأزمات التي تختلط فيها الأوراق، وتضطرب فيها المفاهيم الشرعية الأساسية، ويصبح الحليم فيها حيرانًا، قال الله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ?لْبَيِّنَـ?تِ وَ?لْهُدَى? مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّـ?هُ لِلنَّاسِ فِي ?لْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ ?للَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ?للَّـ?عِنُونَ [البقرة:159].
عليكم بالبعد عن الاختلاف وحظوظ النفس، والحذر من مرض الزعامة والمصالح الشخصية، وتوظيف أزمة الأمة لهذه المصالح الدنيوية، والبعد عن الآراء الفردية، التي كثيرًا ما يعتريها الخلل والاستعجال. وعليكم بالقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تكونوا في مقدمة الصفوف لإقامة هذا الواجب العظيم، فلا يليق بعالم رباني، أو داعية صادق، أن يرى المنكرات تعم بلاد المسلمين، ولا يبادر إلى المشاركة في الإنكار كما أمر الله.
ويا من ولاهم الله أمر هذه الأمة، اتقوا الله سبحانه، واعلموا أن المصير إليه، واحذروا من التقصير في حق الأمة، وإضاعة حقها، وتبديد ثرواتها، وتركها نهبة لذئاب الكفر والظلم، واحذروا من موالاة الكافرين، أو مناصرتهم في بغيهم وعدوانهم، فقد قال الله تعالى: وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ?لنَّارُ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ ?للَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ [هود:113].
واعلموا أن الملك بيد الله، يؤتيه من يشاء، وليس بيد أمريكا أو غيرها، فلا تخشوها أو تخافوا سطوتها وسلاحها الفتاك، فهي أضعف مما تتصورون، والأمر هو لله وحده، فإن صدقتم الله بالعودة إليه والتوبة، وتحكيم شرعه، والعدل، فإن الله سبحانه سيصدقكم ويمكِّن لكم في الأرض، قال الله تعالى: فَلَوْ صَدَقُواْ ?للَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ [محمد:21]، وقال سبحانه: قُلِ ?للَّهُمَّ مَـ?لِكَ ?لْمُلْكِ تُؤْتِى ?لْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ ?لْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ ?لْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى? كُلّ شَيْء قَدِيرٌ [آل عمران:26].
وعليكم بالتوجيه الصادق للإعلام من قنوات وإذاعات وصحف ومجلات، لتكون مناصرة للإسلام وأهله، بعيدة عن عرض المنكر والفاحشة، وكل ما يغضب الرحمن، وأن لا تكون ببّغاء لنقل سياسات ولقاءات أهل الكفر والطغيان، أهل الكذب والبهتان، وأن تنطلق هذه الوسائل الإعلامية من ثوابت ديننا ومسلماته، في نقل الخبر وتحليله، بعيدًا عن الهزيمة الإعلامية أو التباطؤ.
أيها المسلمون، إن بشائر النصر كثيرة، ومكر الله بالقوم ظاهر، وما على الأمة إلا أن تعود إلى دينها بصدق وإخلاص، وأن ترفع راية الجهاد في سبيل الله، وأن تعتصم بحبل الله، حتى يتحقق وعد الله بنصر هذه الأمة وتأييدها، وإهلاك الظالمين المجرمين، وما ذلك على الله بعزيز: وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـ?كِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَ?لَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـ?لَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ ?لْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:4-6].
(1/3117)
خارطة الطريق
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
15/3/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الجهات التي أعدت خارطة الطريق. 2- المراحل الثلاث التي تقوم عليها خارطة الطريق. 3- بعض النقاط المهمة التي أغفلتها خارطة الطريق. 4- بعض الحقائق عن اليهود. 5- الهدف الذي يرمي إليه اليهود من خارطة الطريق. 6- منافاة مشروع الخارطة لعقيدة الولاء والبراء وشريعة الجهاد. 7- الدعوة للتريث والحذر في إطلاق الاتهامات حول تفجيرات الرياض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، بعد كل فترة يطلع علينا الإعلام بمصطلح جديد، تتناقله وكالات الأنباء العالمية والمحلية، ويبدأ يتردد على مسامع الناس هذا المصطلح، ويبقى الناس وقتًا من الزمن لا يعلمون ما معناه، وما هو المقصود منه! وما إن يتبين الناس حقيقة هذا المصطلح، وإذا بمصطلح آخر بدأ ينتشر ويتردد هنا وهناك.
ومن آخر ما صم آذاننا في الأيام القليلة الماضية، مصطلح "خارطة الطريق"، فما المقصود بهذا المصطلح؟ ومن وراء هذه الخارطة؟ ومن الذي كتبه ورسمه؟ وأسئلة أخرى كثيرة تحتاج إلى جواب حول هذا المصطلح، سيتبين لك الإجابة عليه في هذه الدقائق المعدودة.
لو أردنا أن نعرّف معنى خارطة الطريق، بعبارة واضحة وقصيرة، دون الدخول في التفاصيل، فالمقصود به خطة السلام الأخيرة في الشرق الأوسط، بهدف إقامة دولة فلسطينية بحلول عام 2005م، والتوصل إلى ذلك بطريقة سلمية. إذن الهدف من هذه الجعجعة الإعلامية، وهذه اللقاءات والتحركات، من قبل مسؤولين كبار في عدد من الدول، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما، هو الوصول إلى حل المشكلة بين الفلسطينيين واليهود عام 2005م.
على ماذا تقوم هذه الخارطة؟
تقوم هذه الخارطة على أساس قيام دولتين: دولة إسرائيل الموجودة، ودولة للفلسطينيين، ولا يمكن تحقيق هذه الدولة وهذه الخارطة، إلا من خلال إنهاء ما يسمونه بالإرهاب والعنف.
من الذي أعد هذه الخارطة؟
أُعدت الخارطة أو قل بتعبير أوضح الخطة بواسطة ما يعرف "برباعي الشرق الأوسط". من هم رباعي الشرق الأوسط؟ الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا. هذا الرباعي هم الذين وضعوا خطة السلام الجديدة في المنطقة، من أجل سواد عيون إسرائيل وتأمين مستقبلها، وكان منطلقهم من كلمة ألقاها فرعون أمريكا في 24 يونيو 2002م.
ما الذي دفع الرئيس الأمريكي لإطلاق هذه المبادرة، وفي هذا الوقت بالذات؟
الذي دفعه إلى ذلك ليس حبه المستميت لإسرائيل، وإن كان يحبها ! الذي دفعه إلى ذلك حبه لنفسه أولاً ثم لإسرائيل ثانيًا!
لقد وجهت له انتقادات عديدة بسبب تجاهله لعملية السلام في الشرق الأوسط، والانتخابات الرئاسية عام 2004م تلوح في الأفق. والرئيس الأمريكي حريص على أن يحصل على أصوات يهودية بنسبة أكبر من 10 التي حصل عليها في انتخابات عام 2000م، وليس أمامه طريق إلى تحقيق هذه الرغبة في نفسه، لتولي الرئاسة مرة أخرى، إلا عن طريق دغدغة عواطف اليهود، ليكسب أصواتهم ويحقق لهم ما يريدون.
ولعل أن بوش الصغير يستفيد من خطأ بوش الكبير، عندما فتح الباب أمام انتصار كلينتون عليه في الانتخابات الرئاسية عام 92م، حين مارس ضغوطًا مكثفة من أجل عملية السلام، ودخل في مواجهة مع شارون نفسه، والعجيب أن شارون لم يقبل بهذه الخارطة في بداية الأمر، ويريد تحقيق مكاسب أكبر مما في هذه الخارطة، وقال عن ذلك الرباعي أنهم لا يمثلون أي شيء، وعرض خطة سلام بديلة، لن تبدأ إلا بعد تنحية ياسر عرفات.
وقال: إنه في حالة اتخذ الفلسطينيون خطوات لوقف الإرهاب، فإنه على استعداد للاعتراف بدولة فلسطينية منزوعة السلاح تمامًا، ليس لها حدود جغرافية نهائية، ولا تمتلك سوى قوات شرطة بتسليح خفيف، وطالب بإدخال تعديلات على خارطة الطريق قبل الموافقة عليها. وفعلاً نشرت الولايات المتحدة خارطة الطريق بعد ساعات من تأدية أبو مازن اليمين القانونية، كرئيس للحكومة الفلسطينية، وتعهده بوقف العمليات ضد المدنيين الإسرائيليين.
والذي يظهر أن رفض شارون لخطة الخارطة، إنما هي لعبة أمريكية إسرائيلية، فإسرائيل ترفض في البداية باتفاق مسبق، ثم يتم الضغط عليها أمام الدول العربية، ويحصل بعض التعديل، ثم توافق في النهاية، لكي يقبل الفلسطينيون والدول العربية هم أيضًا بالخارطة.
هذه الخارطة تقوم على أساس ثلاث مراحل، لا يمكن الانتقال إلى مرحلة إلا بعد تطبيق المرحلة التي قبلها:
المرحلة الأولى: إنهاء الإرهاب والعنف، بمعنى أنهم يريدون القضاء على المقاومة المسلحة في فلسطين، والقضاء على الجماعات الإسلامية، كحركة حماس والجهاد الإسلامي وغيرها، إضافة إلى القضاء على الجماعات الوطنية. بل ومن فقرات هذه الخارطة عدم التحريض على المقاومة، هل تعلمون ما يعني ذلك؟ إنه يعني منع أي خطيب في فلسطين أن يتكلم عن اليهود، أو عن الجهاد، أو عن حق الفلسطينيين للعودة إلى بلادهم. ومن فقرات هذه المرحلة إيقاف جميع الأنشطة العسكرية، وتفكيك جميع الخلايا والشبكات، والقضاء على جميع أماكن صناعة الأسلحة.
والحكومة الجديدة لو حاولت تطبيق هذه المرحلة فقط، دون كامل الخارطة، فإن هذا ـ والله أعلم ـ سيؤدي إلى حرب أهلية بين الحكومة الفلسطينية والشعب.
ماذا كان رد الفعل بعد الإعلان عن خارطة الطريق؟ جل الفلسطينيين رفضوا هذه الخارطة جملة وتفصيلاً، فحركتي حماس والجهاد الإسلامي رفضتا خارطة الطريق رفضًا كليًا منذ البداية، وأعربتا عن اعتزامهما مواصلة شن الهجمات على الجنود والمدنيين الإسرائيليين، إلى أن ينتهي الاحتلال الإسرائيلي. وأكدت كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس أن خارطة الطريق التي تسير على دماء وأشلاء الشهداء، لن يكتب لها النجاح، وستُفشلها دماء وأشلاء الشهداء، كما أفشلت المؤامرات التي سبقتها.
وأكدت الكتائب أنها ماضية في خيار الجهاد والمقاومة والاستشهاد، حتى تحرير أرض فلسطين من دنس اليهود المغتصبين. واعتبرت كتائب القسام أن من يشارك في خارطة الطريق، شريك في سفك الدم الفلسطيني. وقالت أيضًا: إن خطة خارطة الطريق خطة مشبوهة وعميلة، وأن التعاون معها ينصب في دائرة التعاون مع الاحتلال المجرم، وكتائب القسام وشعبنا ستسقط المتآمرين. وأضاف البيان: إن سلاحنا هو كرامتنا ودمنا وشرفنا، وإن اليد التي تمتد إليه بالسوء ستقطع، وسنجعلها عبرة للجماهير.
المرحلة الثانية: بعد إنهاء الإرهاب على حد زعمهم، تأتي مرحلة إنشاء دولة فلسطينية مستقلة بحدود مؤقتة، وهذه المرحلة أطلقوا عليها مرحلة الانتقال، وستكون في حزيران 2003م. في هذه المرحلة ستبدأ المطالبة بالديمقراطية والتسامح والحرية. وتضع الخارطة تصورًا لإقامة دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة، بعد الالتزام باتفاق لوقف إطلاق النار، والذي يتعين على الحكومة الجديدة، حكومة أبو مازن، العمل من أجل قمع المتشددين. أما إسرائيل سيتعين عليها الانسحاب من المدن الفلسطينية، وتجميد بناء المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة.
ثم يعقد بعدها مؤتمر دولي رباعي، بمشاركة أمريكا والأمم المتحدة والاتحاد الأوربي وروسيا، لإعادة الحياة الفلسطينية إلى طبيعتها، وللنظر في مدى نجاح الخطة وإلى أي نقطة وصلت.
المرحلة الثالثة: الاتفاق على الوضع النهائي، وإنهاء النزاع الإسرائيلي الفلسطيني عام 2004م و2005م. وبناء على هذه المرحلة، فسوف تستقر المؤسسات الفلسطينية. ثم يعقد مؤتمر دولي ثانٍ.
هذه هي المراحل الثلاث التي نَصّت عليها خارطة الطريق المزعومة!
ولو أردنا التدقيق بعض الشيء، على ما في هذه الخارطة من الملاحظات الكبيرة، التي لا يمكن أن يَقبل الشعب الفلسطيني بها، بل الثغرات التي لا يشك أحد أنها لم تسقط سهوًا على الرباعي الإجرامي، الذي كتب وسطّر فقرات هذه الخارطة من ذلك:
أن هذه الخارطة لم تقم بحل المشكلات الأساسية، الموجودة في الوضع الفلسطيني، فمثلاً لم تتكلم الخارطة عن وضع القدس، وهل تعطى للفلسطينيين أم سيستولي عليها اليهود؟ وهي من أخطر القضايا، ومن أهم الأمور بالنسبة للمسلمين عامة والفلسطينيين خاصة.
لم تقدم الخارطة ولم تتحدث عن وضع الحدود بالضبط، لو كانوا صادقين في منح الفلسطينيين دولة مستقلة، فكيف تقام دولة من غير حدود ؟، لم تقدم الخارطة حلاً لقضية اللاجئين، قرابة أربعة ملايين فلسطيني مشرد ومشتت في عشرات الدول القريبة والبعيدة.
لم تتكلم بشكل واضح عن المستوطنات. لم تعالج الخارطة مسألة النزاع بين إسرائيل وبقية المسلمين! وكأن القضية تخص الفلسطينيين وحدهم، وهذا أمر مقصود، وهو إبعاد جميع الدول والشعوب المسلمة عن المسألة، وحصرها في شعب واحد، وفي منطقة صغيرة، والحقيقة أن المسألة أكبر عند المسلمين من ذلك بكثير؛ لأن لها علاقة بأماكن مقدسة، وتاريخ ديني، تهم كل مسلم على وجه هذه الأرض. وغيرها وغيرها من القضايا الأساسية، في مسألة الصراع العربي الإسرائيلي.
لكن خارطة الطريق ركزت وبشكل قوي على الأمن، وعلى ما يسمونه بالإرهاب؛ لأجل القضاء على جميع أشكال وصور المقاومة الفلسطينية. وهذا لن يكون بإذن الله تعالى.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن مما ينبغي علمه من كليات وأصول الدين، أن اليهود من أعظم أعداء الإسلام وأهله، قال الله تعالى عنهم: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ?لنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ [المائدة:82]، وقد وصفهم الله سبحانه في كتابه بأنهم يقتلون الأنبياء، والذين يأمرون بالقسط من الناس، وأنهم سمّاعون للكذب، أكالون للسحت، يأخذون الربا وقد نهوا عنه، ينقضون المواثيق، ويحكمون بالطواغيت، ويصفون الله تعالى بالنقائص، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون، وغيرِ هذا مما هو مشهور عنهم.
وتاريخ اليهود مليء بالمؤامرات والدسائس، فقد أرادوا قتل المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، فشُبه لهم ورفعه الله، وأرادوا قتل النبي مرارًا فأنجاه الله منهم، وأرادوا أن يوقعوا الفتنة بين الصحابة فسلمهم الله، وأول فتنة فرّقت بين المسلمين كانت فتنة ابن سبأ اليهودي، واستمر كيدهم طوال التاريخ، فأثاروا فتنًا، وأسقطوا دولاً، حتى تمكنوا أخيرًا من اغتصاب أراضي المسلمين.
ومطامع اليهود ليس لها حد، فهم لا يقيمون وزنًا لعهد ولا لميثاق ولا لخارطة، فقد قال الله تعالى على لسانهم يقولون: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ?لامّيِينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75]، وقال تعالى: أَوَكُلَّمَا عَـ?هَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم [البقرة:100]، وقال سبحانه: ?لَّذِينَ عَـ?هَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ [الأنفال:56].
وأرض إسرائيل الكبرى التي يحلمون بها، والتي وضعوا رايتهم على أساسها، من النيل غربًا حتى الفرات شرقًا، ومن شمال الجزيرة جنوبًا حتى جنوب تركيا شمالاً. وقد علموا جيدًا أنه لا بقاء لهم، ما دام للعقيدة الإسلامية القائمة على الولاء والبراء، والجهاد في سبيل الله وجود بين الشعوب، حتى لو طال مُقامهم، فإن قاعدة الدين وملة إبراهيم وأصل دين الإسلام، ومقتضى شهادة التوحيد، موالاة الإسلام وأهله ومحبتهم، والبراءة من الكفر وأهله ومعاداتهم، كما قال تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْر?هِيمَ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ?لْعَدَاوَةُ وَ?لْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى? تُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4].
فانتبه يا عبد الله، وإياك وسماع الدعوات التي تقول إنه لا عداء بيننا وبين اليهود، أو غيرهم من الكفار، أو أننا لا نبغضهم من أجل دينهم، فإن أصل الأصول البراءة من الكفر وأهله ومعاداتُهم وبغضهم.
من أجل هذا يخترعون لنا في كل مرة ما يصب في مشروع السلام، في السابق أطلقوا عليه السلام الدائم والشامل، واليوم خارطة الطريق، والذي يريدون من خلاله اختراق صفوف الشعوب المسلمة، ومحاولة كسر الحاجز النفسي بين المسلمين واليهود، وإذابة عقيدة البراء ومعاداة الكافرين، من خلال الذوبان الثقافي والتعليمي والإعلامي، ونشر ما يسمى بحوار الحضارات، وحوار الأديان في سبيل السلام ونحوها، بالإضافة إلى إفساد أخلاقيات المسلمين.
ويهدف اليهود من خلال هذه العملية، بالإضافة إلى تغيير عقلية المسلمين، إلى تأمين بلادهم من ضربات المجاهدين، وتعزيز اقتصادهم المنهار، وتهجير بقية اليهود إلى فلسطين، وإكمال بناء المستوطنات، تمهيدًا لإكمال الهيمنة على المنطقة بأسرها. لذلك فالتصور الصحيح لخارطة الطريق، ولهذا السلام المزعوم، كافٍ في معرفة حكمه الشرعي، إذ هو مشتمل على منكرات كثيرة محرمة بإجماع المسلمين، منها: التحاكم إلى الطواغيت، وهدم أصل البراء في الإسلام، وإلغاء شريعة الجهاد في سبيل الله، وتسليط اليهود على المسلمين، وغيرها من العظائم.
إن أرض فلسطين وما حولها أرض مباركة، وصفها الله سبحانه بذلك في خمسة مواضع من كتابه، وفيها المسجد الأقصى: أولى القبلتين، وثالث المسجدين، ومسرى الرسول ، افتتحها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحرّرها صلاح الدين رحمه الله، فهي مملوكة للمسلمين، وأرضها وقف عليهم والحق فيها لله عز وجل، ليست حقًا شخصيًا لأحد كائنًا من كان، حتى يتنازل عن شيء منها.
وهناك فرق كبير بين ترك قتال اليهود لعدم القدرة، وبين إعطائهم صكًا بملكية الأرض، وإضفاء شرعية مزعومة عليهم، فالأول من باب العجز المسقط للتكليف، والثاني من باب الخيانة الموجبة للعقوبة. لذا فإن ما يسمى بخارطة الطريق ومؤتمراته ستفشل، ولو نجحت فنجاحها سيكون مؤقتًا، وإن المسلمين سيقاتلون اليهود فيقتلونهم، حتى يختبئ اليهودي خلف الشجر والحجر، فيقول الشجر والحجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء.
إن مشروع خارطة الطريق، له آثارٌ سيئة على المسلمين وعلى بلادهم، ولو تم ـ ونسأل الله أن لا يكون ـ فسيقضي على عقيدة الولاء والبراء عند المسلمين، أو على الأقل يضعفها، عن طريق شعار: حوار الحضارات، والإسلام دين السلام، ونبذ التطرف وكراهية الآخر، وسيقضي على روح الجهاد بينهم، وسيُضرَب المجاهدون بسلاح السلام، كما سيحصل تغيير وتشويه للتاريخ الإسلامي، وستُستنزف ثروات المسلمين، وتُبنى عندهم أوكار الجاسوسية، وتصدر لهم الآفات والأمراض، وغير ذلك.
إن اتفاقيات السلام مع اليهود، وإقامة العلاقات الدائمة معهم، تعد إقرارًا لهم في ديار الإسلام، وتمكينهم من الدخول والعبث بعقول المسلمين، وإمدادهم بما يزيد من قوتهم وجبروتهم، وهذا كله في الشرع من باب الموالاة لليهود، وإلقاء المودة لهم، والركون إليهم، وقد دلت نصوص كثيرة على النهي عن ذلك، قال الله تعالى: لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْو?نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22]، وقال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [المائدة:51]، وقال تعالى: بَشّرِ ?لْمُنَـ?فِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ?لَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ?لْكَـ?فِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ?لْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ?لْعِزَّةَ فَإِنَّ ?لعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعًا [النساء:138، 139].
والنصوص في النهي عن موالاة الكفار، والركون إليهم ومودتهم، ووجوب بغضهم ومعاداتهم كثيرة جدًا، وفرق كبير بين ترك قتالهم والهدنة معهم، بسبب ضعف الإعداد لهم، وبين الاعتراف بهم وإقرارهم على أراضي الإسلام، فالأول جائز بالإجماع، والثاني محرم بالإجماع، إضافة إلى أن تطبيق خارطة الطريق مضاد لشرع الله سبحانه ولقدره:
أما مضاداته للشرع فلأنه يلغي شعيرة الجهاد في سبيل الله، وقد قال الله تعالى: وَقَاتِلُواْ ?لْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَـ?تِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36]، وقال سبحانه: فَقَـ?تِلُواْ أَئِمَّةَ ?لْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَـ?نَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ [التوبة:12]، وقال عز وجل: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ?للَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْء فِي سَبِيلِ ?للَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [الأنفال:60].
وفي المسند وغيره: أن النبي قال: ((جاهدوا المشركين بأموالِكم وأنفسِكم وألْسِنتِكم)). وفي المسند أيضًا وسنن أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: ((بُعِثْتُ بالسيف بين يدي الساعة حتى يُعبد اللهُ وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي)).
وأما مضادة خارطة الطريق للقدر: فقد أخبر الرسول ـ وخبره حق ـ أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، ومن ذلك: ما في الصحيح عن النبي : ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة؛ الأجر والمغنم)). وقد تواتر عنه في الصحاح وغيرها أنه قال: ((ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله)).
إن مساعي خارطة الطريق ستفشل، نقول هذا تحقيقًا لا تعليقًا، وتحقيق ما يسمى بالأمن الدائم في ما يسمونه بالشرق الأوسط مع اليهود لن يحصل مطلقًا، ولو حصل فهو وقتي سيفشل سريعًا، وهذا الأمر دلت عليه الأدلة الشرعية.
إنها حرب طويلة مديدة بيننا وبين اليهود، بدأت منذ بعثة الرسول ، وسوف تستمر حتى خروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، والقضاء على آخر يهودي في الأرض، هذه المعركة الطويلة لها جولات وجولات، وفيها كر وفر، يغلبنا فيها اليهود مرة، ونغلبهم مرات، ويهزمونا مرة، ونهزمهم مرات. وإن أشد وأعنت وأقسى جولات هذه المعركة هي هذه الجولة التي نعيش فيها في هذا الوقت، والتي تحققت فيها غلبة اليهود علينا، وهزيمتهم لنا، ولكنها جولة، تتبعها جولات، لنا فيها الظفر والغلبة والنصر بإذن الله.
وسيظل الغرب المستعمر يهزأ بنا ويسخر منا، ما دمنا نعالج مشكلة فلسطين على أساس أنها أرض عربية، اغتصبها الاستعمار والصهيونية، وحينما نضع نحن خارطة الطريق، ونوجه سير المعركة وجهة أخرى، ونعلن أن فلسطين ليست أرضًا عربية فحسب، وإنما هي ملكٌ لمليار مسلم يفتدونها بالأرواح والمهج؛ لأنها أرض مقدسة، تربطهم بها روابط دينية وتاريخية، أقوى من رابطة بضعة ملايين من اليهود في فلسطين، عندها ترجح كفتنا ويصبح زمام الأمر بأيدينا.
إن خارطة الطريق امتحان شديد لأمة الإسلام, أمة الإسلام أمة معطاء, تجود ولا تبخل, في تاريخها المشرق الطويل قدمت ما يشبه المعجزات، وهي اليوم تعيش مفترق طرق خطير، يحيط بها وبقدسها وبأجزاء محتلة من ديارها. أمة محمد أمة الإسلام، وأمة الجهاد، وأمة العزة، لا تعجز ـ بإذن الله ـ أن تجد لنفسها بتوفيق الله وعونه مخرجًا من أزمتها، والقدس والأرض المباركة أغلى وأثمن وأكبر من أن تترك لمفاوضات أو لمساومات سلام مزعوم، وما أخذ بالقوة فإنه لا يرجع إلا بالقوة.
فنسأل الله تعالى أن يبصرنا بخطط أعدائنا.
أيها المسلمون، لقد تسامع الجميع أنباء التفجيرات التي حصلت في مدينة الرياض، وصار هو حديث الناس منذ عدة أيام. ولا شك بأن ما حصل أمر لا يرضاه مسلم، وفاعلوا هذه التفجيرات أخطؤوا خطًا كبيرًا.
إن تحقيق الأمن ـ أيها الأحبة ـ مطلب للجميع، والمجتمع بدون أمن تسوده الفوضى والاضطراب.
لكن الأمر الذي ينبغي أن نكون منه على حذر، هو عدم إطلاق التهم بدون بينة، قال الله تعالى : ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ [الحجرات:6].
إن إطلاق العبارات، التي قد يفهم منها بأن كل متمسك بالدين وآدابه وهديه، هو في قفص الاتهام أمر خطير. وهناك من يستغل مثل هذا الحدث، ويلصق ذلك بكل الدعاة والصالحين والأخيار، وجميع العاملين في الحقل الإسلامي. بل ربما بعضهم كان يتمنى حصول مثل هذا في مجتمعنا، ليجد مادة يتهجم بها على الدعاة والأخيار وطلبة العلم. وقد حصل شيء من هذا في الأيام الماضية، بل ورسمت بعض صور الكاركتير فيها غمز ولمز بالعلماء والصالحين. إن مثل هذه الكتابات لا تعالج الموضوع بل تزيد منه.
فالتفجيرات التي حصلت أمر لا نرضى به ولا نقره، لكن في نفس الوقت فإن الأذان، وصلاة الجماعة، وارتياد المساجد، والتزام السنة في اللباس، وإكرام اللحى، والبعد عن التشبه بالكفار، وأهل الفسوق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل هذا وغيره من الدين، ومن الأمور التي يجب حفظها ورعايتها وتقديرها، وتقدير أهلها. والمسلم الحق عنده ثقة بدينه لا تزعزعها طعنات الطاعنين، ولا أخطاء بعض المنتسبين.
(1/3118)
مقتل الشيخ أحمد ياسين
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
سعد القحطاني
غير محدد
5/2/1425
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعي الشيخ أحمد ياسين. 2- من فوائد المحن والبلايا. 3- ترجمة موجزة للشيخ أحمد ياسين. 4- دورس وعبر مستفادة من حياة الشيخ أحمد ياسين. 5- دورس وعبر مستفادة من وفاة الشيخ أحمد ياسين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها المسلمون، فجعت أمة الإسلام بمقتل قائد عظيم وسيد من سادات المسلمين, حامل لواء الجهاد في فلسطين ضد اليهود المعتدين، الشيخ المجاهد البطل أحمد ياسين. نسأل الله عز وجل أن يتقبله في عداد الشهداء, وأن يخلف للأمة خيرًا في مصابها الأليم, وأن يجعل في موته حياة لكثير من المسلمين كما أحيا بدعوته وجهاده شعب فلسطين، فرحمه الله رحمة واسعة.
لقد اغتالته يد الغدر اليهودية وهو خارج من صلاة فجر يوم الاثنين, غرة شهر صفر بثلاثة صواريخ من من طائراتهم المقاتلة, وهو على كرسيه المتحرك وعلى باب المسجد, فأصبح قتيل المسجد وشهيد المحراب. وقد قال أهله: "إنه أمضى الليل يصلي ويقرأ القرآن", كأنه يودع الدنيا.
ضحّوا بَأشمط عنوانُ السجودِ به يقطع الليل تسبيحًا وقرآنا
لتسمعنّ قريبًا في دياركم الله أكبر يا لثارات ياسينَ
أيها المسلمون، منذ أن بدأ هذا الدين وأعداء الإسلام يكيدون المؤامرات ويدسون الدسائس بشتى الطرق والوسائل, لا يهتمون لدين أو شرع أو نظام أو قانون يتفق على عدله بعض البشر, وبخاصة اليهود، ولذا قال عنهم جل وعلا: كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا [المائدة:64]، ويقول جل وعلا عن هدفهم: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
وها هي الجريمة الجديدة، في فجر يوم الاثنين 1/2/1425هـ خرج الشيخ المجاهد أحمد ياسين ليعفر وجهه بالتراب، مُصليًا خاشعًا لله وليشهد قرآن الفجر، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، واستقبل يومه الأخير وودعه وقرَّت عينه بالصلاة، وخرج من المسجد كالمغتسل من النهر الجاري؛ هل يبقى من درنه شيء؟! وطوبى لعبد كانت الصلاة آخر مشهدٍ له في الدنيا. وفي المقابل بات الرهط المفسدون يتقاسمون لنبيِّتنه وأهله ويمكرون ويخططون، وكان الاغتيالُ الآثم الهدية المقدمة للجسد الطاهر والشيخ المقعد!!
إنه توقيت شاروني غبي من حيث الزمان والمكان والانتقاء للرموز، وتصعيدٌ خطير للأسوأ للحالة المتردية أساسًا في فلسطين وإسرائيل، وسيفتح هذا التصعيد الباب أمام الفلسطينيين والإسرائيليين ليكون كلُّ شيء مستباحًا هنا وهناك بعد اليوم.
والمؤسف أن يقف العالم بدوله ومنظماته متفرجًا وصامتًا وذليلاً وغائبًا، بل ويكيل بمكيالين أمام إرهاب دولة بل دولٍ بهذا المستوى. سُحقًا للقوم المجرمين وهم يستخدمون الطائرات والصواريخ الآثمة لشيخ لا تحمله رجلاه ولا تتحرك يداه، بل يُحمل على عربته ويحيط به جمعٌ من إخوانه وأبنائه ومحبيه وكان مصيرهم مصيره. وسحقًا لليهود الغادرين وزعيمهم السفاح شارون، يتبجح أمام الملأ بأنه المخطط والمتابع لهذه الجريمة النكراء. أجل، مات الشيخ المجاهدُ أحمد ياسين عظيمًا مثلما عاش كبيرًا، ولم يكن هيّابًا للموت، بل كان الموت وكانت الشهادة أغلى أمانيه. والناس كلُّهم يموتون ولكن فرقٌ بين موتِ الأبطال وموت الجبناء، وفضل الله يؤتيه من يشاء.
علوّ في الحياة وفي المماتِ لحقٌّ أنت إحدى المعجزاتِ
كأن الناس حولك حين قاموا وفود نداك أيام الصِلاتِ
كأنك واقف فيهم خطيبًا وهم وقفوا قيامًا للصلاة
ولما ضاق بطن الأرض عن أن يواروا فيه تلك المكرمات صيروا الجوّ قبرك، واستعانوا عليك اليوم صواريخ الطائرات. مات البطل المجاهد ثابتًا على المبدأ الحق، صامدًا في وجه المخطط الصهيوني، مبتهجًا بكتائب الجهاد التي سقى شجرتها، وهي اليوم توقع الخسائر وتلقي الرعب داخل الأراضي المحتلة بالصهاينة المحتلين.
نعم نزف دم الشهيد ياسين ـ إن شاء الله ـ على الأرض، ولكن دمه الزكي الطاهر حُقن في أوردة الملايين من المسلمين، ليظل نهرًا دفاقًا يدعوهم للجهاد والاستشهاد، وتناثرت أشلاءُ الشيخ على قارعة الطريق، ولكن ستظل هذه الذكرى المؤلمة في قلوب المؤمنين تحفزهم لتحرير المقدسات، وتغذو سيرهم نحو المكرمات.
لقد كان الفارسُ الأعزل مشروع شهادة، وهو القائل في آخر لقاء معه: "نحن طلاب شهادة"، وكان رمزًا للصمود والشجاعة، وهو القائل: "التهديدات لا تهمنا"، وكان عاليَ الهمة تجاوز حطام الدنيا وحقارتها، وصوّب همّه نحو الآخرة ونعيمها. ونرجو أن يكون الله قد حقق له ما تمنى.
لقد كان الشيخ الراحل بابًا للجهاد ومدرسةً لمقاومة المستعمر؛ استطاع بعزم وحزم ومساعدة طلابه النجباء أن ينقلوا المقاومة للصهاينة من الخارج إلى الداخل، وأن يتحرروا من القيود والضغوط والمساومة والمزايدة على قضية فلسطين، فتحركت الانتفاضة من قلب فلسطين، فكان أطفال الحجارة وكانت العمليات الاستشهادية فصولاً جديدةً في القضية العادلة، ودرسًا موجعًا لإخوان القردة والخنازير.
وأحدثت هذه النقلةُ بإشراف الشيخ الراحل رُعبًا وقلقًا وخسائر لليهود عطّلت كثيرًا من مشاريعهم، وأبطأت بتحقيق عددٍ من مخططاتهم، واضطروا لطلب المساعدة والنجدة من إخوانهم النصارى، وأعلنوا الانسحاب من المناطق الملتهبة برصاص المجاهدين ـ كغزة حيث يقيم المجاهد الراحل ـ وهم صاغرون، وانتهى بهم التفكير الأحمق والتخطيط الأهوج إلى قتل الزعيم الكبير، وساهم اليهود من حيث يشعرون أو لا يشعرون بدخول الشهيد ياسين التاريخ من أوسع أبوابه، والظنُّ بل الأمل والرجاء أن قتل الشيخ ياسين ـ وبهذه الطريقة البشعة ـ سيُجدد في فصول القضية العادلة، وسيبعث الحماس في قلوبٍ طالما غفلت أو تناست هذه القضية المهمة من قضايا المسلمين.
وكذلك تشرق الأمة حين تحترق وتتفجر طاقاتها، حين تُذل وتقهر، ودماء الشهداء ماءٌ لحياة الأمة وصحوتها، ومن أخافهم شيخ مقعد كيف يواجهون توالد النمور الساخطة تخرج من بطون المسلمات وفي مقدمتهن الفلسطينيات، إلى حيث يموت كلُّ غاصب أو مبررٍ للاغتصاب؟!!
عادةً ما تكون الأزمات النازلة بالأمة منعطفًا تاريخيًا لمسيرتهم، تصدمُهم فتحركهم، وتفاجئهم فتمسح الغشاوة عن أعينهم، وتزيل الران عن قلوبهم، ثم يعودون بعد هول الصدمة مقتنعين بقيمة الوحدة وآثار التنازع والفرقة، ثم يدعوهم ذلك كلّه إلى إعادة البناء من جديد، وصدق العزائم والتعاهد على الجدِّ والجهاد، فتتحول المحن إلى منح، والمكروه إلى خير، والأتراح إلى أفراح، والذلُّ والهوان إلى عزة ويقين وإباء بإذن الله تعالى.
أيها المسلمون، من هو الشيخ ياسين؟ وما أثره وعمله في الأمة؟
قيل عنه الشيخ، وقيل المجاهد، وقيل الأستاذ. لكن أحدًا لم يجرؤ في يوم أن يذكر أنه المقعَد أو المشلول؛ لأنه لم يكن مشلول العقل أو الإرادة والتفكير. المشلول هو من لا يقدّم لدينه وأمته شيئًا تشرُف به وتفخر به على غيرها. إنه مقعد, لكنه أكثر من حرّك الأمة في فلسطين للجهاد والإيمان وطرد المحتل. لقد نشرت سيرته عبر أجهزة الإعلام, وهي سيرة مشرقة مشرفة, بما يغني عن الإعادة هنا, لكن حسبك أن تعرف أنه نشأ يتيمًا, ثم مرض مرضًا شديدًا لكن من رحمة الله وتقديره أنه جاء على بطء وتدرج.
ولد الشيخ في زمن الاستعمار البريطاني، فنشأ بين الرصاصة والمدفع، وتعلم بين الكراسة والقلم, وتنقل بين الجامعة والمسجد. فتخرج معلمًا مربيًا، فربى أمة من الناس على تعاليم الدين القويم. تعرض الشيخ للسجن والاعتقال أكثر من مرة، كانت إحداها على يد النظام الناصري بتهمة الانتماء للإخوان المسلمين, في زمن القوميات والأحزاب الثورية, فما غادر فلسطين ولا خرج من غزة, وهذا جهاد ورباط في سبيل الله.
لما أراد الشيخ أن يبدأ دعوته اختار المساجد؛ لما رأى من إفلاس للأنظمة الثورية وغيرها التي شوهت سمعة الفلسطيني، وأصبح ألعوبة في يد الأنظمة الثورية والطغاة الحاكمين, يستخدمونهم لقمع المعارضين, وانشغل عدد من الفلسطيين عن قضية فلسطين، فجاء الشيخ ليبني من جديد, فلم يؤسس منظمة ولا حزبًا, فاتهم أنه موالٍ لدولة اليهود, ولا يناضل المحتل مثل تلك الأحزاب الثورية.
ولكن الشيخ عرف حقيقة ذلك النضال, وأراد أن يعيد الشعب للإيمان, وأن يغرس فيهم حب الجهاد والاستشهاد, فغير النظرة لكل فلسطين, فأصبحت رمز الجهاد والتضحية والفداء. وهذا الأثر أعظم من أثر تكوينه لحماس أو بثه لروح الانتفاضة, فهو أولاً بث روح الإيمان، ثم عمل على وحدة الشعب الفلسطيني ووأد التقاتل الداخلي, وجعل ذلك من المحرمات, ولطالما استغل المنافسون هذا الصبر من الشيخ في الضغط عليه وعلى أتباعه, ولكن العاقبة للتقوى. وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ [الصافات:171].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد: أيّها المسلمون، إن في حياة الشيخ ياسين قبل موته عبرًا ودروسًا لكل فرد في هذه الأمة؛ أعطى الشيخ درسًا في آخر لحظات حياته أن أصحاب العزائم القوية والمواجهة المتواصلة هم أصحاب الأيدي المتوضئة والقلوب المؤمنة، وأن هؤلاء هم الذين يتذوّقون لذة الجهاد وبهجة التشوق إلى الشهادة واسترواح نعيم الجنة.
إن الشيخ رزق الشهادة عائدًا من صلاة الفجر في المسجد، فإذا كان الشوق إلى صلاة الجماعة يخرج شيخًا مريضًا معاقًا مستهدفًا في غلس الفجر ليكون وداعه للحياة بعدها، فأي دلالة يسكبها ذلك في نفوس الشباب؟! وأي معان نورانية يضيئها في جوانحهم؟! وأي دلالة للإيمان يدلها موت شيخ على باب المسجد بيد عدو حاقد؟!
أيها المسلمون، فليسأل الإنسان منا نفسه: ماذا قدم لوالديه ولأهله ولدينه؟! بماذا يلقى الله وقد عافاه في بدنه ورزقه من حيث لا يحتسب؟!
ومن أهم الدروس: معرفة الدافع لهذه الجماهير الغفيرة في العالم وإجماعها على محبة الشيخ. لا شك أن إصلاح الذات من أهم الأمور, والتمسك بالكتاب والسنة والتماس طريق الحكمة والسير على طريق الأنبياء.
وأما في وفاة الشيخ فالمهم أن نتجاوز العواطف، مع أهمية إثارتها لاستثمار الحدث استثمارًا إيجابيًا؛ وذلك بالأمور التالية:
1- ينبغي أن لا نفرغ طاقاتنا للتفاعل مع الحدث بخطابات حماسية وقتية، لا تلبث أن تخبو، بل ينبغي أن نعضد ذلك بمشاريع عملية نافعة وخطط مستقبلية مدروسة لمواجهة اليهود ومن وراء اليهود، ولتحرير المقدسات وتثمين القضايا الكبرى.
2- أن لا يكون ثمة انفصامٌ أو اختلاف في هذه المشاريع بين المشاعر الشعبية والمواقف الرسمية، فيُضرب بعضنا ببعض، ويظل العدو متفرجًا على مآسينا.
3- أن تستثمر وسائل الإعلام العربية والإسلامية مثلَ هذا الحدث لمزيد التعريف بقضيتنا الكبرى فلسطين، وأن نوظف الطاقات الإعلامية والفكرية لفضح المخططات الصهيونية بل والغربية في منطقتنا وعلى شعوبنا المسلمة.
4- أن لا نظل نحن المسلمين في دائرة دفع التهمة، ونخشى الوصف بالإرهاب، ونتحسسُ من الجهاد، وبالتالي نظلُّ محبوسين في المربّع الذي اختاره لنا أعداؤنا، وأوشكوا أن ينجحوا بتقسيمنا إلى فئتين، فئة تمارس الإرهاب وأخرى تقاومه، والخسارة بكل حالٍ علينا وعلى مؤسساتنا ووحدتنا، والعدوّ كاسبٌ متفرجٌ بكل حال.
5- أن تبعث قضية فلسطين ومثيلاتها من قضايانا في مناهجنا التعليمية بشكل يشعر الدارسين بعدالة قضاياهم، ويُحملهم مسؤولية الدفاع والحفاظ عليها، وأن لا نستجيب للمخطط الرامي لتفريغ المناهج من أهم محتوياتها.
6- أن تُجدد فينا هذه الجريمة الجديدة دعمَنا المستمر للقضية الفلسطينية ماديًا ومعنويًا، وأن نحطم أغلال الحصار الاقتصادي الذي يراد لنا ولهيئاتنا الخيرية ومؤسساتنا الإسلامية، وإذا تأخر أو تباطأ دعمنا الماديُّ للقضية الكبرى فليكن في مثل هذه المآسي البشعة ما يجدد العزائم.
7- أن نمزج مشاعر الحزن بمشاعر الفأل، وأن نطرد اليأس والإحباط باليقين والشعور بالعزة والثقة بالنصر، وهنا تتحول المحن إلى منح، والأزمات الخانقة إلى مخارج واسعة نبصر فيها بوارق النصر قبل وقوعها.
8- إن في بداية حياة الشيخ ياسين رحمه الله ونهايته وخلاصة تجاربه ومجموع جهاده درسا عظيمًا للكسالى وأصحاب الوهن؛ فالمرضُ لا يُقعد، والشيخوخة لا تعوق، والبطولة ليست وهمًا فارغًا ولا جعجعةً وادعاءً، بل هي عزمٌ وتصميم وامتلاءُ القلب بالصدق والإخلاص والجهاد والصبر حتى اليقين.
9- ودرسٌ من التاريخ لا بد أن نعيه وفصولٌ من الملاحم حول فلسطين لا بد أن نستحضرها ونؤمن بها، والدرسُ يقول والتجربة تؤكد أن ما أُخذ بالقوة لا يُستردّ إلا بها، وكلُّ ساعةٍ نتأخر فيها عن إعداد العدَّة وعقد ألوية الجهاد ـ وبكافة أنواع الجهاد ـ فإنما نُمكّن للعدوِّ أكثر، ونزيدُ في أمد الاحتلال، ونضعف في مقاومة الاستعمار.
10- ينبغي أن لا نستغرب تحالف اليهود والنصارى ضدنا، وهم يتبادلون الأدوار ويتعاونون لمجابهتنا، وهل غاب عنا أن بذرة اليهود في فلسطين كانت نصرانية صهيونية الهويّة بلفورية الوعد؟! ولكن الذي يجب أن ننكره أن يكون فينا سماعون لهم ممهدون لخططهم، وقاتل الله النفاق والمنافقين، ملعونون أينما ثقفوا ومهما كانت ألوانهم ومذاهبهم.
11- وأخيرًا أيها الأخيار، إن الجهدَ الذي تصنعونه اليوم سيسرّكم غدًا، والغفلة والضياع الذي تمارسونه اليوم ستتحمّلون أنتم وأولادكم تبِعته بعد حين، أنتم قلب الأمة النابض وأملها في الحاضر والمستقبل، فكونوا على مستوى التحدي، وكونوا لوحةً صادقة لإسلامكم ومرآة عاكسة لجهادِ وجهود أمتكم، لا يفتنكم الكافرون، ولا يستخفنكم الذين لا يوقنون.
(1/3119)
فداء الأقصى
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
محمد أحمد حسين
القدس
12/2/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نداء تذكير للمجتمعين في القمة العربية. 2- درس من ورع عمر وآخر من غيرة نور الدين زنكي. 3- دعوة المسلمين لمناصرة شعب فلسطين المرابط. 4- تذكير القمة بأهمية قضية فلسطين وقضية العراق المحتلَّين.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره لقوله تعالى: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت القدس وأكناف بيت المقدس، القمة العربية المؤجلة أو التي يجري الإعداد لانعقادها تصدّرت حديث الشارع العربي ما بين سائل عن أسباب التأجيل، أو حائر في هذه الأسباب، أو محبَط من مواقف الأنظمة العربية التي فقدت الحد الأدنى من التوافق أو الاتفاق حول مجمل قضايا هذه الأمة، وهي قضايا تستحقّ كل واحدة منها قمة لبحثها وإيجاد السبل للخروج منها، أو التخفيف من آثارها، فإذا كان التأجيل لأسباب داخلية فلماذا يجتمع وزراء خارجية الدول العربية للإعداد لمثل هذه القمة، ثم ينفضّ اجتماعهم في المراحل النهائية من إعداد جدول الأعمال الذي سيرفع للقادة على مستوى القمة وليس على مستوى التحديات التي تواجه الأمة، وتكاد تعصف بوجودها بعد أن زعزعت هذه التحديات أركان هذا الوجود، وتمكنت من مكوناتهم، مع أن داعي الحق ينادي: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِ?لْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ ?لْحَقّ [الممتحنة:1].
أيها المسلمون، يا حكام الأمة، إن أمانة المسؤولية توجب عليكم النهوض بما وُسِد إليكم من سياسة الأمة والنظر في مصالحها، وما يحفظ كيانها وثقافتها، ويذود عن عقيدتها وأرضها، وإلا فقدتم شرعية وجودكم، واستوجبتم غضب ربكم، لقول نبيكم عليه الصلاة والسلام: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت هو غاش رعيته إلا حرم الله تعالى عليه الجنة)).
وخوفًا من هذا الوعيد وأمثاله نهض سلفكم الصالح بمسؤولياتهم حتى لقوا ربهم وهو راض عنهم، ألم يقل الفاروق عمر رضي الله عنه: (والذي بعث محمدًا بالحق، لو أن بغلة عثرت على شط الفرات لأُخذ بها عمر)، ـ أو ـ سئل عنها عمر يوم القيامة: لِمَ لمْ تسوِّ لها الطريق يا عمر؟).
وهذا نور الدين زنكي يصنع منبر المسجد الأقصى تمهيدًا لتحريره من دنس الصليبيين، وهو يقول لمن يراجعه في هذا الأمر: والله لأصنعنه، والله لأفتحنه. يريد بيت المقدس.
ويحقق الله هذا الأمر العظيم على أيدي الناصر صلاح الدين، والذي لم يُرَ مبتسمًا حتى دخل بيت المقدس، وحرر مسجدها الأقصى، ونصب فيه المنبر الذي أمر بصنعه نور الدين، رحمهم الله أجمعين.
وبقي هذا المنبر الشريف معلم دعوة وهداية، تنطلق من رحاب المسجد الأقصى المبارك لمدة ثمانية قرون، حتى نالته يد الإثم والعدوان بالحريق المشؤوم الذي أتى على المنبر وعلى أجزاء هامة من المسجد الأقصى في بدايات الاحتلال الإسرائيلي.
هذا الاحتلال الذي ما زال يتربص بهذا المسجد وأهله، ويتحين الفرصة لهدمه لإقامة الهيكل المزعوم مكانه، ولعل ما نشرته وتنشره وسائل الإعلام الإسرائيلية عن خطر انهيار المسجد أو انهيار أجزاء منه يأتي ضمن الحملة المسعورة لمحاولة تفريغ المسجد من المصلين أو إغلاق بعض أجزائه، تحت ذرائع خطر الانهيار جراء هزة أرضية، وربما جراء جريمة تقترفها عصابات المستوطنين ومن يرعاهم في حكومة الاحتلال.
إننا ـ أيها الناس ـ من علياء هذا المنبر نؤكد للقاصي والداني للعدو وللصديق بأن المسجد الأقصى يفتديه شعب صابر مرابط بالمُهج والأرواح، ويدافع عنه وعن هذه الديار المباركة بلحمه ودمه، يوم غابت جيوش المسلمين عن الوغى، ولن يفرط هذا الشعب المرابط بديار الإسراء والمعراج مهما اشتدت الهجمة الاستيطانية والاستعمارية التي تستهدف الأرض والإنسان والوجود الإسلامي في هذه الديار.
هذا الشعب الذي قدم مواكب الشهداء من خيرة أبنائه وقيادته، وعلى رأسهم الشيخ المجاهد الشهيد الشيخ أحمد ياسين، الذي ودعته الأمة في موكب الشهادة التي تمناها، إلى جنان الخلد بإذن الله، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، ولا نامت أعين الجبناء.
ولله در القائل:
يا أحمد الياسين إن ودعتنا فلقد تركت الصدق والإيمان
أنا إن بكيت فإنما أبكي على ديارنا لما غدوا قطعان
أبكي على هذا الشتات لأمتي أبكي الخلاف المُر والأضغان
أبكي ولي أمل كبير أن أرى في أمتي من يكسر الأوثان
جاء في الحديث الشريف عن أنس رضي الله أن النبي قال: ((ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وأن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات لما يرى من فضل الشهادة)) ، أو كما قال.
التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة السلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، أحب لعباده أن يعملوا لدينهم ودنياهم حتى يفوزوا بنعم الله وينالوا رضوانه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، دعا إلى الله على بصيرة حتى أقام الدين وأوضح السبيل، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اقتدى واهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
وبعد: أيها المسلمون، أيها الحكام والمحكومون، في الوقت الذي تواجه فيه الأمة خطر الاندثار جراء انكفائها على المفاهيم القُطرية والمصالح الآنية يجب أن ترتفع الأصوات عاليًا وقوية مطالبة الحكام في الدرجة الأولى وكل أصحاب الفكر والرأي في الأمة بالوقوف أمام هذا التحدي الكبير والشر المستطير، الذي لم يفرق بين قطر وآخر من بلاد العرب والمسلمين، وإذا كانت الأمة لا ترى في مؤتمرات القمة حلاً جذريًا لهذه التحديات التي تواجه الأمة فلا يقبل من هذا المؤتمر الذي تسعى الدول العربية لعقده أقل من موقف يحفظ للأمة شيئًا من الكرامة وقليلاً من مكونات شخصيتها، التي أصبحت في مهب رياح التغيير العاصفة من الخارج، وكأن أمتكم التي أسهمت بقسط كبير في تقدم الإنسانية لا تمتلك ما يصلح حالها وينقذها من وهدة التردي والتخلف عن ركب الحضارة.
أيها المسلمون، أيها الحكام والمحكومون، إن أهم القضايا والتحديات التي يجب بحثها وعدم المرور عليها مرور الكرام في مؤتمر القمة العربي ـ إن قدر له الانعقاد ـ قضية فلسطين، هذه القضية التي كانت وما زالت تشكل محور البحث في لقاءات المسئولين على مستوى القمة أو أقل من ذلك، لارتباطها المباشر بمجمل الأوضاع في المنطقة العربية وما تمثله من بُعدها الإسلامي، كونها بلد المسجد الأقصى المبارك، ومحور معجزة الإسراء والمعراج، التي تشكل جزءًا من عقيدة المسلمين. إن شعب هذه القضية الذي قدم التضحيات الجِسام من أبنائه ومقدراته دفاعًا عن كرامة المسلمين وذودًا عن جزء عزيز من ديارهم ومقدساتهم، إن هذا الشعب يستحق من أمته كل الدعم حتى يندحر الاحتلال عن أرضه وينال حقوقه المشروعة فوق هذا التراب الطهور، ولا يعقل أن يبقى الفلسطينيون وحدهم في الساحة يدافعون عن كل الأمة الإسلامية.
ولا تقلّ ـ أيها المسلمون ـ قضية العراق الذي مضى على احتلاله عام كامل أهمية عن قضية فلسطين، فالذي يحتل العراق هو الذي يكرس الاحتلال في فلسطين ويدعمه بكل وسائل البطش والقتل، ولا يجوز أن يقال: إن أمريكا تسعى إلى تحرير شعوب هذه المنطقة من استبداد الحكام، وتريد أن تجلب لهم حرية وديمقراطية وحقوق الإنسان. أي إنسان هذا؟! فمتى كان المستعمر والمحتل تعنيه مصالح الشعوب الواقعة تحت احتلاله؟! فاعتبروا يا أولي الأبصار.
ومن التحديات التي تواجه الأمة هذا الغزو الثقافي الذي يستهدف اقتلاع المسلمين من ثقافتهم وتاريخهم تحت مسميات الإصلاح.
أيها المسلمون، أيها المرابطون في ديار الإسراء والمعراج، إن أمتكم تملك من عوامل الوحدة والإصلاح ما يمكنها من المحافظة على أوطانها وشعوبها، إنها تملك العقيدة والشريعة ونظام الحياة الذي أراده الله لسعادة البشرية في كتاب ودستور خالد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فخذي ـ يا خير أمة أخرجت للناس ـ بهذا الهدى، واعملي على تحكيمه في جميع شؤون الحياة، حتى تكوني أهلاً لهذا الموقع بين الأمم، ونبراسًا يهتدي به الحائرون.
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(1/3120)
إمام العصر اغتيل بعد صلاة الفجر
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
علاء الدين بن محمود زعتري
حلب
5/2/1425
جامع الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإيمان بالآجال. 2- مما رثي به الشيخ أحمد ياسين. 3- فاجعة اغتيال الشيخ. 4- فضائل الشيخ أحمد ياسين. 5- الدروس المستفادة من استشهاد الشيخ أحمد ياسين. 6- النصرة بالرعب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن من صحة الإيمان الاعتقاد بأنه لا يموت الإنسان إلا عند انقضاء أجله، ولا ينتقل من هذه الدنيا إلا مع انتهاء عمره، والمسلم لا يقاس عمره بالأيام والسنوات، بل بالأعمال والتضحيات والبطولات، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].
ولقد علم القاصي والداني بنبأ استشهاد الشيخ أحمد ياسين شيخ المجاهدين ومجاهد الشيوخ، وقد قيل فيه الكثير، ومما قيل فيه:
وثََّقْتَ باللهِ اتصالكَ حينما صلََّيْتَ فجرك تطلب الغفرانا
وتَلَوْتَ آياتِ الكتاب مرتِّلاً متأمِّلاً تتدبَّر القرآنا
ووضعت جبهتك الكريمةَ ساجدًا إنَّ السجود ليرفع الإنسانا
وخرجتَ يَتْبَعُكَ الأحبَّة ما دَروا أنَّ الفراقَ من الأحبةِ حانا
كرسيُّكَ المتحرِّك اختصر المدى وطوى بك الآفاقَ والأزمانا
علَّمتَه معنى الإباءِ فلم يكن مِثل الكراسي الراجفاتِ هَوانا
معك استلذَّ الموتَ صار وفاؤه مَثَلاً وصار إِباؤه عنوانا
أشلاءُ كرسيِّ البطولةِ شاهدٌ عَدْلٌ يُدين الغادرَ الخوَّانا
ولما سئل رسول الله عن أحب الأعمال إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها))، قيل: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين))، قيل: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)).
إن مقتل حارس الأقصى هزّ قلب كل مسلم، وجرح مشاعره، وفاضت بالأعين أدمع، وجهشت بالبكاء حناجر، وتردد صدى قول الله تعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمْ ?لْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَـ?لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَـ?لَهُمْ [محمد:4-9].
ولقد شق على النفوس سماع خبر استشهاد المجاهد، لا الجهاد، فالجهاد مستمر ما بقي الليل والنهار، وقافلة الأحامد والأماجد تمد الدنيا بشهداء على الحقّ.
ستظلُّ نجمًا في سماءِ جهادنا يا مُقْعَدًا جعل العدوَّ جبانا
إنّ دم الشهيد نور ونار، وشرف وعار. دم الشهيد نور يضيء دروب المؤمنين، وشرف على جبين المسلمين، ووسام على صدور المجاهدين. دم الشهيد نار على الطغاة الظالمين، وعار على المعتدين الآثمين.
وفي زمن الإفلاس العسكري والعهر السياسي والنفاق الاجتماعي تتحرك القوى لتضرب كراسي المقعدين، أي إنسانية يدّعونها؟! وأي مدنيّة ينادون بها؟! وأي حضارة يحاولون بناءها؟! ويبقى الإيمان هو الأقوى، فرجل على كرسيه المتحرك، وبأطرافه التي لا تعمل، دوَّخ أعتى الدول، حتى سخِّرت أقوى الأسلحة الفتاكة وأحدث الطائرات المتطورة الـ( F16 ) والأباتشي، لتوجه صواريخ ثلاثة على كرسيّ يحمل رجلاً بطلاً بفكره، عاجزًا بجسده، رجلا لولا الكرسي لما غادر مكانه.
لن ننساك يا أيها الشهيد البطل، يا إمام الوقت والعصر؛ ما دامت في العروق دماء تجري، وما دامت في الصدور قلوب تخفق، فلقد حملت فرض الكفاية عن علماء الأمة، فمَن يخلفك اليوم في هذه المهمة؟!
يا شيخ المجاهدين، ومجاهد الشيوخ، هنيئًا لك هذه الرفعة والعزة والشموخ. يا شبيهًا بالفاروق عمر إذ اغتالته اليد الآثمة أثناء صلاة الفجر. يا شبيهًا بذي النورين عثمان إذ فارق الدنيا وهو صائم، وقد غادرتنا يوم اثنين، ونحسبك صائمًا. يا شبيهًا بسيد البطولة والرجولة والفداء أبي السبطين عليّ؛ إذ غدروا به على باب المسجد. لقد جمع الله لك المحاسن والفضائل، فنم قرير العين في جنات الخلد بإذن الله تعالى، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
أما الباقون في الدنيا فحديث الوقائع أقوى من حديث الكلام؛ إذ إنه شتان بين ميت يحيي أمة، وبين أحياء يميتون أممًا. شتان بين من ضحى بنفسه من أجل تحرير الأقصى وبين من يضحي بالأقصى من أجل إنقاذ نفسه. شتان بين من ضحى بكرسيه من أجل تحرير الأقصى، وبين من يضحي بالأقصى من أجل تثبيت كرسيه وعرشه. شتان بين من ضحى بالمال من أجل تحرير الأقصى، وبين من يضحي بالأقصى من أجل المال والمنافع الدنيوية. لذا نقول: ما مات مَن مات لله، وهذا الشيخ المجاهد كان لله، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأنعام:162].
يا شيخًا ملأ الدنيا بعطائه، يا شيخًا كوى العدو بجذوة ناره، يا شيخًا أضاء شعلة الجهاد بمشعل نوره، يا شيخًا ألهب نفوس المسلمين ومشاعرهم بحركة حماسه، يا شيخًا أسرج نور المقاومة بزيت وقاره، يا شيخًا ضحى من أجل الأقصى بعزيز ماله، يا شيخًا أفنى في سبيل الله عزَّ شبابه، يا شيخًا قضى شهيدًا نهاية حياته، يا شيخًا ظل صامدًا أيام عمره، يا شيخًا ناضل كافح جاهد حتى وصل إلى نهاية حتفه، يا رائد الشيوخ، قدت الأمة لأرفع مراتب العزة والشموخ، يوم عجزت عن المواجهة الجيوش حولت للاستشهاد الأطفال والنساء والعُجَّز والشيوخ.
ولئن كان الشيخ حيًا في عالم الأموات فبعض المسلمين اليوم أموات في عالم الأحياء. ولئن كان الشيخ قد قتلته يهود فبعض المسلمين اليوم قتلتهم أيدي القعود. ولئن كان الشيخ قد قتل في معركة الجهاد فبعض المسلمين اليوم قد ماتوا في معركة الكلام وزمن الاستعباد.
علمتنا ـ أيها الشيخ المجاهد ـ في حياتك وبعد استشهادك، فمن الدروس التي استفدناها:
1- أن العظماء في كل البقاع وفي كل الأزمنة هم الذين يضحون بأنفسهم ونفيسهم من أجل بقاء مبادئهم؛ فالمبادئ هي التي تعيش ولو تقطعت الأجساد وتمزقت الأعضاء وتحول البدن إلى أشلاء.
2- أن القوة الحقيقية ليست بالسلاح والنار، وليست بالأجساد والأبدان؛ بل بكمال العقيدة وقوة الإيمان، وبإرادة فولاذية وعزيمة حديدية.
3- ازددنا معرفة بمدى الحقد المستحكم في قلوب أعداء الله يهود، قال الله تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
وأنت أيها الشيخ الجليل، بعد صلاة الفجر عزمتَ ترحلُ عنا، بعد الفجرِ في عتبات المسجد أضحى دمكَ الطاهرُ حُرًّا يجري، ودّعتَ الدنيا بسجودٍ لله بمحراب الطهرِ.
يا من لا تحمل كفيكَ كيف حملتَ هموم العصرِ؟! يا من لا تملك قدميكَ كيف شققتَ دروب النصرِ؟! يا من قد غامت عيناك كيف قنصتَ شعاع الفجرِ؟!
شيخَ الأمة، لا ينقصنا إلا قلبُ إمامٍ حرّ، نحمدُ ربَّ الأقصى أنا عِشنا عصرَ إمام العصرِ. هذه البطولات تذكرنا ببطولات الصحابة الكرام؛ يوم كان الواحد منهم يحمل هم الأمة على كاهله، ويجعل نشر الإسلام على عاتقه، وكأنه الوحيد في الميدان، دون توقف عند ظل زائل أو عَرَض حائل أو عارية مستردّة.
وقد نقلت وسائل الإعلام عنه أنه يطلب الحياة الأبدية، حياة الأرواح والأجساد، لا حياة المتع والشهوات.
نحو العُلا يا شيبة الإسلامِ وإلى جوار الناصر العلاّمِ
ياسين إن قتلوك في غدرٍ فكم قتلوا نبيًّا في نهارٍ دامي
ياسينُ يا شيخ البسالة والعلا يا قدوةً لجحافل الإسلامِ
في صوتك المبحوح صدقُ عزيمةٍ أقوى من الآلات والألغامِ
عبّأت للجنات ألف كتيبةٍ وصفعت وجه البغي والإجرامِ
ولسانُ حالك: عيشةٌ أبديّة في جنّة الأرواح والأجسامِ
هنيئًا لك البطولة والاستشهاد، هنيئًا لك العز والفداء، ليسير المسلمون من بعدك على دروب النصر والعطاء، لتستمر المقاومة والجهاد، ويتحقق التحرير والانتصار، ويكون للعدو الذل والاندحار.
ومما يعلم المسلمون ما رواه رجال الحديث عن رسول الله : ((نصرت بالرعب مسيرة شهر))، وأفاض العلماء في بيان معنى الحديث، واستفاض المؤرخون في بيان وقائع الحديث؛ حيث كان الله يقذف الرعب في قلوب أعداء الإسلام، والذين يسعون لحرب رسول الله ، فينصره عليهم قبل انطلاقة جيش المسلمين من المدينة بشهر.
واليوم نرى معنى جديدًا للحديث؛ فهذا الرجل الذي رأيتم شكله، وعرفتم هيكل جسمه ونحول عظمه، عيون تكاد لا تبصر، وأيدٍ لا تتحرك من موضعها، وأقدام لا تقوى على النهوض بالجسم النحيل، دوّخ من على كرسيّه عروش الصهاينة الأعداء، وقذف الله في قلوبهم الرعب منه؛ فاستهدفوه وتبجّحوا بتنفيذ مهمتهم وتعالت أصوات ضحكاتهم بما غدروا. وما دروا أنهم بفعلهم هذا أيقظوا ضمائر الشعوب، ولفتوا أنظار العالم إلى مكرهم، ولطخوا سمعتهم بالعار، وجعلوا أمة الإسلام تستيقظ، وتجمِع على خيار المقاومة.
وأختم بالقول: شيخ قعيد أحيا أمة، ونال شهادة، فمتى يتحرك صحيح البدن ضعيف الهمة؟! سيُنصر المسلمون بالرعب عندما تتّحد أهدافهم، وتجتمع أرواحهم، وتتوحّد كلمتهم.
لا إله إلا الله حقًا حقًا، محمد رسول الله صدقًا صدقًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3121)
إرهاب اليهود في فلسطين وقتلهم لأحمد ياسين
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
إبراهيم بن عبد الله صاحب
جازان
5/2/1425
جامع قرية المجديرة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لوازم عقيدة الولاء والبراء. 2- الأوضاع المأساوية في فلسطين المحتلة. 3- الإرهاب الحقيقي. 4- عداوة اليهود وحقدهم على الشعوب. 5- سياسة إسرائيل تصفية الرؤوس. 6- اغتيال الشيخ أحمد ياسين رحمه الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها السلمون، إن مما توجبه علينا عقيدة الولاء للمسلمين وتحتمه علينا هو تذكر إخواننا المسلمين في جميع بلاد العالمين، ومن ذلك في أرض فلسطين، الذين عاشوا حياتهم تحت أزيز الطائرات وقصف المدافع والرشاشات وطائرات الأباتشي، منذ نعومة أظفارهم ومنذ أن رأت أعينهم النور وهم يسمعون الطلقات، ويرون كل يوم جثث الموتى والعدو اليهودي يضع عليهم قدمه، ويركلهم بجزمته، كم من شاب قد قتل، وكم من طفلة لا علاقة لها بفتح ولا بحماس ولا الجهاد قتلوها، وكم من بيت هدموه، وكم من أسرة اشتعلت سيارتها فحولتها صواريخ يهود إلى قطع لحم وحديد متناثرة، وكم من شيخ كبير عذبوه، وكم من طفل يتموه، وكم من أم فجعوها بفلذات أكبادها من البنين والبنات، قتلوا بعضًا وأصابوا بعضًا وأسروا بعضًا.
أيها المسلمون، أي حياة يعيشها أبناء فلسطين منذ خمس وخمسين سنة؛ نصف قرن؟! وأي هناء تعيشه الشعوب المسلمة المضطهدة في كل مكان؟! يا له من عالمٍ مداهن يرى القتل المتعمّد للأطفال والنساء بأرقى أنواع الأسلحة ويعلّق بنفسه قائلاً: "من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها". يا له من مجتمع دولي ممسوخ يندّد بتحطيم الأصنام والأحجار التي تعبَد من دون الله، ويرسِل وفودَه ولا يتمعّر وجهه لبني الإنسان، يرفقون بالحيوان ويهينون كرامة الإنسان، ولكن ليس كل إنسان، بل هو المسلم فقط الذي لا كرامة له عندهم، أليس هذا هو الإرهاب؟! أليس هذا هو التطرف؟! لماذا ينددون بدفاع الفلسطيني عن نفسه بالحجر والمقلاع ويسكتون على طائرات الأباتشي والصواريخ الموجهة بالليزر؟!
ولئن كانت أمريكا ذاقت الرعب والخوف في الحادي عشر وذاقت إسرائيل بعض العمليات العسكرية في الأيام الماضية، فالمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يُسامون سوء العذاب، فيقتّل أبناؤهم وتُستحيى نساؤهم منذ عشرات السنين، ولا بواكي لهم، والمقابر الجماعية التي تكتشف يومًا بعد يوم في بلاد البلقان بعد أن وضعت الحرب أوزارها أقوى دليل على ما نقول، وما بكتهم عين، ولا سمعتهم أذنٌ صاحبة قرار.
عباد الله، إن الإرهابَ الحقيقيّ خيوط مستقرّة في نفوس الذين كفروا من اليهود والنصارى والشيوعيين وغيرهم، ليس ضدّ البشرية فقط، بل في حق الله تبارك وتعالى قبل كل شيء، ألم يشركوا بالله ويكفروا به؟! وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ عُزَيْرٌ ?بْنُ ?للَّهِ وَقَالَتِ ?لنَّصَـ?رَى ?لْمَسِيحُ ?بْنُ ?للَّهِ [التوبة:30]، ألم يقولوا: إن الله فقير ونحن أغنياء؟! ألم يقولوا: يد الله مغلولة؟! بل وإرهابهم ليس ضد البشرية فقط بل ضد صفوة البشرية، أليسوا هم الذين قال الله عنهم: وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى ?لْكِتَـ?بَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِ?لرُّسُلِ وَءاتَيْنَا عِيسَى ?بْنَ مَرْيَمَ ?لْبَيِّنَـ?تِ وَأَيَّدْنَـ?هُ بِرُوحِ ?لْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم ?سْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87]، وقال عنهم: ذ?لِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِئَايَـ?تِ ?للَّهِ وَيَقْتُلُونَ ?لأنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [آل عمران:112]، أليسوا هم الذين زعموا قتل المسيح ابن مريم ويفتخرون بذلك فقالوا: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله؟! فرد الله عليهم بقوله: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـ?كِن شُبّهَ لَهُمْ [النساء:157].
يقول الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية رحمه الله عن إرهابهم في هداية الحيارى: "فهذه الأمة الغضبية معروفة بعداوة الأنبياء قديمًا، وأسلافهم وخيارهم قد أخبرنا الله عن أذاهم لموسى ونهانا عن التشبه بهم في ذلك فقال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ ءاذَوْاْ مُوسَى? فَبرَّأَهُ ?للَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ ?للَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69]، وأما خلَفهم فهم قتلة الأنبياء، قتلوا زكريا وابنه يحيى وخلقًا كثيرًا من الأنبياء، حتى قتلوا في يوم واحد سبعين نبيًا، وأقاموا السوق في آخر النهار كأنهم لم يصنعوا شيئًا، وموقفهم من نبينا محمد معروف ومشهور، فقد تآمروا على قتله غير مرّة، فلما ذهب إليهم يطلب منهم المشاركة في دية العامريين تآمروا على قتله بإلقاء الحجر عليه من أعلى أحد منازلهم، فنزل عليه الوحي بذلك، فغادر المكان، ودعوه إلى الشاة، فوضعوا له السمَّ فيها، وحاولوا قتله بكل وسيلة وأسلوب، فجعل الله كيدهم في ضلال". ولقد تعرض عليه الصلاة والسلام لثلاثة عشر اغتيالاً، ولكن الله ينجيه منها، يقول تعالى: وَ?للَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ?لنَّاسِ [المائدة:67]. ويعبر عن هذا الإرهاب الدائم لنبينا محمد قول حُيي بن أخطب لأخيه أبي ياسر عندما انصرفا من رؤية النبي بقباء قال أبو ياسر كما حدثت بذلك زوج النبي صفية بنت حُيي رضي الله عنها فقالت: قال أبو ياسر لحُيي: أهو هو؟! أي: أهذا محمد الموصوف بالتوراة؟! قال حُيي: نعم، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت.
أما إرهابهم للأمم والشعوب فالحديث ذو شُعب، فهم الذين قالوا: لَيْسَ عَلَيْنَا فِى ?لأمّيِينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75]، وهم الذين قال الله عنهم: لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاً وَلاَ ذِمَّةً [التوبة:8]، وقال عنهم: قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].
لقد جاء في شرائعهم أنه يجوز سرقة مال الأمي أي: غير اليهودي، وجاء في تلموذهم: إذا وجدت الأمي في حفرة فضع قدمك عليها حتى لا يخرج، ويجوز لليهودي أن يقتل الأميين ويسبي نساءهم لأنهم حمير لشعب الله المختار. وأُشرب يهود هذا الفكر المتطرف وجرى في عروقهم كما يجري الدم، لا فرق بين الحمائم والصقور، ولا بين العمل والليكود، ولا بين الحاخامات والساسة، لقد رضعوه كما يرضع الطفل الحليب من ثدي أمه، وأُنشئوا عليه في مدارسهم ومعاهدهم وكلياتهم وجامعاتهم العلمية والعسكرية.
وقد ترجموا هذا الفكر إلى واقع، فإحراق المسجد الأقصى إرهاب، ومذبحة صبرا وشاتيلا إرهاب، ومذبحة دير ياسين واللد وتل الزعتر إرهاب، ومجزرة قانا إرهاب، وتفجيراتهم لحي جنين إرهاب، ولسنا بحاجة إلى تصفّح الماضي، فالواقع المعاصر أكبر شاهدٍ على الإرهاب، فالدم الفلسطيني يتفجر كالبركان في جميع أنحاء فلسطين؛ في سهولها وجبالها ووديانها ومزارعها وضياعها، في المنازل والمساجد، في الشوارع والأسواق، في المدارس والكليات.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الكريم المنان، الرحيم الرحمن، وفّق من شاء لطاعته بفضله ورحمته، وخذل من شاء بعدله وحكمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم ما كان وما يكون وما هو كائن وهو العليم الخبير، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وأتباع التابعين إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها المؤمنون، هل فتحنا وسائل الإعلام وسمعنا غير هذا؟! هل قرأنا ورأينا في الصحف غير هذا؟! فهنا قصف اليهود بصواريخ الأباتشي المساجد، وهناك طائرات إف ستة عشر تقصف البيوت، وجرافات ودبابات تهدم المنازل، ومجنزرات مدعومة بطائرات الأباتشي تجتاح، قتل للرجال، وللشباب الاعتقال، وتدمير للممتلكات، ولا يقيمون وزنًا للمسلمين، ولا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، ومع ذلك كله نجد تلك الشمطاء المدعوّة بأمريكا بكلّ برود وسخرية تدعو الفلسطينيين وجميع المسلمين إلى الاتزان والروية وعدم الحماس والالتزام بالهدوء وضبط النفس، بل وتبرّر موقف إسرائيل بأنه دفاع عن نفسها كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5].
وتنتهج إسرائيل هذه الأيام نهجًا جديدًا من نوعه، وهو اغتيال رموز الحركات الإسلامية، وكأنهم يحسبون أنه إذا مات رمز أوقائد هذه الحركة سوف يقعد الباقون يبكون ويقفون مكتوفي الأيدي، وخابت والله توقعاتهم، بل بموت بعض الرجال يولد به أجيال، فيوم أن مات الشيخ المجاهد أحمد ياسين رحمه الله ولد عشرة أطفال في غزة وكلهم قد سُمّي بالشيخ المجاهد الذي نسأل الله تعالى أن يكون قد رزقه الشهادة وهي الأمنية التي كان يتمناها دائمًا وهو مقعد على كرسيه، ولقد مات ـ والله ـ ميتة سوية، يتمناها كل مسلم، مات مجاهدًا لأنه في أرض الجهاد، ومات بعد خروجه من المسجد لصلاة الفجر، وهذه ميتة الأبطال في صلاة الفجر، فعمر وعلي وغيرهم من رموز المسلمين ماتوا على أيدي الكفار في صلاة الفجر بالمسجد، وقد أراد الأعداء قتله لكي يتخلصوا من أفكاره الجهادية التي يرميهم بها، ولقد تعرض قبل ذلك لعدة اغتيالات باءت بالفشل، يشرف عليها مباشرة ذلك الخنزير المدعو آرئيل صموئيل مردخاي شرايبر وهو المشهور بشارون عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وفي هذا الاغتيال الآثم جاءت صواريخهم على رأس الشيخ الأسد الهصور الذي زلزل كيانهم بعقله وهو على مقعده، فكيف لو كان على رجليه؟! ولكن الصواريخ لم ولن تخرج حب الجهاد من عقله وقلبه، فقد طلبته كثير من الدول العربية لكي يعيش بها، فأبى إلا أن يعبق في أنفه رائحة دخان الجهاد، ويغبر قدميه مع المجاهدين، ويصبر على أذى الكافرين، فلله دره من بطل مجاهد قضى حياته في الجهاد منذ شبابه، فقد عاش حياته ما بين الاعتقال والتعذيب والدعوة والجهاد حتى أتاه اليقين، حتى قبل موته بساعات كتب رسالة إلى الملوك والرؤساء الذين سوف يحضرون القمة العربية المرتقبة في تونس، يذكرهم بأرض فلسطين، وكأنني به يقول: "أنا بستاني في صدري، أنا سجني سياحة، وقتلي شهادة".
هم أكسبوكَ من السِّباقِ رِهانا فربحتَ أنتَ وأدركوا الخسرانا
هم أوصلوك إلى مُنَاكَ بغدرهم فأذقتهم فوق الهوانِ هَوانا
إني لأرجو أن تكون بنارهم لما رموك بها بلغتَ جِنانا
غدروا بشيبتك الكريمة جَهْرةً أَبشرْ فقد أورثتَهم خذلانا
يا أحمدُ الياسين كنتَ مفوَّها بالصمت كان الصَّمْتُ منكَ بيانا
فرحي بِنَيْلِ مُناك يمزج دمعتي ببشارتي ويُخفِّف الأحزانا
وثََّقْتَ باللهِ اتصالكَ حينما صلََّيْتَ فجرك تطلب الغفرانا
وتَلَوْتَ آياتِ الكتاب مرتِّلاً متأمِّلاً تتدبَّر القرآنا
ووضعت جبهتك الكريمةَ ساجدًا إنَّ السجود ليرفع الإنسانا
وخرجتَ يَتْبَعُكَ الأحبَّة ما دروا أنَّ الفراقَ من الأحبةِ حانا
كرسيُّكَ المتحرِّك اختصر المدى وطوى بك الآفاقَ والأزمانا
علَّمتَه معنى الإباءِ فلم يكن مِثل الكراسي الراجفاتِ هَوانا
معك استلذَّ الموتَ صار وفاؤه مَثَلاً وصار إِباؤه عنوانا
أشلاءُ كرسيِّ البطولةِ شاهدٌ عَدْلٌ يُدين الغادرَ الخوَّانا
لكأنني أبصرت في عجلاته أَلَما لفقدكَ لوعةً وحنانا
يا أحمدُ الياسين إن ودَّعتنا فلقد تركتَ الصدق والإيمانا
أنا إنْ بكيتُ فإنما أبكي على مليارنا لمَّا غدوا قُطْعانا
أبكي على هذا الشَّتاتِ لأُمتي أبكي الخلافَ المُرَّ والأضغانا
أبكي ولي أملٌ كبيرٌ أن أرى في أمتي مَنْ يكسر الأوثانا
يا فارسَ الكرسيِّ وجهُكَ لم يكنْ إلاَّ ربيعا بالهدى مُزدانا
في شعر لحيتك الكريمة صورةٌ للفجر حين يبشِّر الأكوانا
ستظلُّ نجمًا في سماءِ جهادنا يا مُقْعَدًا جعل العدوَّ جبانا
عباد الله، صلوا وسلموا على خير المجاهدين وسيد ولد آدم أجمعين.
(1/3122)
الوجه السافر للعدوان الكافر
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
19/2/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وعد الله تعالى بنصرة دينه. 2- حال الأمة المزري. 3- حرب الأوهام. 4- حقيقة قوى الظلم والطغيان. 5- الابتلاء سنة عامة. 6- الرضا بقضاء الله تعالى وقدره. 7- العمل على جمع الكلمة. 8- ضرورة العمل الجاد. 9- احتساب المصائب. 10- السياسة الفرعونية. 11- العاقبة للإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، واللجوء إليه في السرّاء والضراء والسَّعَة والضيق، فما خاب من اتقاه، ولا أيِس من رجاه، ولا ذلّ من اعتصم به، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
أيها المسلمون، يقول الله جل وعلا في محكم التنزيل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55].
لقد صدق الله وعدَه وهو أصدق القائلين، وأنجز لنبيّه ما وعده به. ومن هنا حمل هذا الدينَ رجالٌ وقادة علّمهم نبيُّهم أن لا يخافَ العبدُ إلاّ ربَّه، وأن لا يذلّ إلا لمن ذلّ له كلّ شيء وخلق كلَّ شيء ولمن بيده أسبابُ الخوف وأسبابُ الأمن وحدَه، إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175].
ألا وإن العالمَ الإسلاميَّ اليوم ليمرّ بحالة عصيبةٍ وخطوب مستعصِية، والأمّة المسلمة برُمّتها شاخصة ببصرها ألمًا وحيرةً وذهولاً، بل يزداد ألمها وفاجعتُها حينما ترجع البصر كرّاتٍ ومرّات، ثم ينقلبُ إليها البصر خاسئًا وهو حسير، فإذا بالضّربات تتوالى عليها وتتقاذف كحُمَم بركانيّة لا تجد الأمّة أمامها ملجأً أو مغاراتٍ أو مدَّخلاً يحميها من الظلم الطاغي والإرهاب الدولي المقنَّن، بل إنها تتلقّى تلك الضربات تلو الضربات ثم هي تُصرَع أمامها، ذلك كلُّه كان سببًا ولا شكَّ في أن يغشى الأمّةَ وهمٌ يوقفها أمام مرآةِ المزعجات ومجنى المفزِعات، حتى لقد بلغ الوهمُ في صفوفها مبلغًا مثّل لها الضعيفَ قويًّا والقريبَ بعيدًا والمأمنَ مخافًا والموئل مهلكًا، فجعلت تتخبَّط إزاءَ هذا الوهم تخبُّطَ المصروع؛ لا يرى ماذا أدركه وماذا تركه.
أيّها المسلمون، إننا نعيش في زمن بُلِيت فيه أمّة الإسلام بتفريق الكلمةِ وتصارُع الأهواء، وحُجبت بالجهل والكبت عن معرفةِ أحوال عدوّهم وصنائِعهم وعوائدهم، ما جعلها تستسلِم للمحتلِّ الباطش ببعض غرائب سلاحِهم المدجَّج الذي أثار فيها خواطرَ الوهم بأنها أمام قوّةٍ لا يُمكن أن تُغلَب، بل هي حاكمة على أقطارٍ واسعة وأنحاء شاسعةٍ، وهي جميعُها في عين عديم الوهم ضعيفةٌ واهنة لا تستطيع ذودًا ولا دِفاعًا، وإن أخفَّ حركةٍ تنبثق هنا أو هناك توجب زعزعةً في تلك القوّةِ إن لم توجب هدمَها بالمرّة في حين رجفةٍ على أملاكها وخيفةٍ من غرقها وضياعها. إنّ تلك القوى لتتوجّس من كلّ حركةٍ في العالم، وكلُّ ملمّة تلمّ بالعالم الإسلامي والعربي توجب بحدوثها زلزلةً في قوى الظلم والجبروت المنتشرة في الأنحاء الضعيفة من أرجاء البلاد الإسلامية.
ومع هذا كلّه فإننا نرى الأمرَ لم يزل خفيًّا على جمهور أهلِ الإسلام، محجوبًا عنهم بحجاب الوهم. ولو دقّقنا النظرَ لوجَدنا أنّ قوى الشرِّ نفسَها تحسّ بضعفِها أكثرَ من إحساسِنا نحن بضعفِنا، لكنها في الوقت نفسه تبذل وُسعَها جاهدةً في سَتر ضعفها، ولا ستارَ أشدّ كثافةً من الوهم، ولذا نراهم في كلّ حادثة يجلبون ويصيحون ويزمجرون ليثيروا بالضوضاء هواجسَ الأوهام، فتحول دونَ استطلاعِ الحقيقة، وإلاّ فإنّ قليلاً من الالتفات الواعي كفيلٌ بأن يكشفَ ذلك ويميط اللثامَ عنه.
عبادَ الله، إنّ البشرَ جميعًا يشتركون في إمكانيّة حصول البلاء لهم، دون فرقٍ في الانتماء الدينيّ أو العرقيّ، بيد أنّ المسلمين إذا ابتُلوا فإنهم يتقلّبون في جناحَي خير وسكينةٍ إن هم استحضروا أمرَ الله وخلقَه، فيكون أمرهم كلُّه لهم خيرًا لهم، إن أصابتهم سرّاء شكروا فكان خيرًا لهم، وإن أصابتهم ضرّاء صبروا فكان خيرًا لهم، ولا يكون ذلك إلا لأمّة الإسلام، ولذلك قال الله تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35، 36]، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28].
إنّ الأوجاعَ التي تصيب المسلمين في مقتلهم في هذا العصر والأوخاز التي لم تسلم منها براجمهم لهم في أشدّ الحاجةِ إلى أن يقِفوا أمامها وقفةَ ناشدٍ للإصلاح، مستحضِرةً الأمّةُ أمامها عدّةَ أمور، يكمُن أهمّها في الآتي:
الأمر الأوّل: الرضا بالله وبقدر الله، وأنَ ما أصاب الأمةَ لم يكن ليخطئها، وأنّ ما أخطأها لم يكن ليصيبها، وأنّ الإقدام والشجاعةَ والنصر لا يكون إلا مع البلاء والضيق والكرب، وأنّ مع العُسر يسرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:6]، وأنه لن يغلبَ عُسرٌ يُسرين.
الأمر الثاني عباد الله: أن تعملَ هذه الأمةُ جاهدةً في وحدةِ صفِّها وجمع كلمتِها وتوحيد مصدر التلقي عندها إن هي أرادت النجاةَ، بحيث تكون المصدريّة متمثّلةً في كتاب الله وسنّة رسوله ، والعزم على إقصاء كلِّ الشعارات العصبيّة والأهواء العِبِّيّة. كما أنّ على الأمة الاعترافَ بأخطائها وما ارتكبته من تقصير في جنب الله وتهميشٍ لشريعته الخالدة عن واقع الحياة.
الأمر الثالث: أن الندبَ وحدَه لا يجدي شيئًا، فكيف بالشّجب والاستنكار إذًا؟! لأننا من خلال هذا الحديث لسنا ننقّب عن نائحةٍ مستأجرَة تُسمعنا نحِيبها أو تفجعنا بلطم خدَّيها، ولسنا نبحَث أيضًا عن ظئر عاريةٍ مؤدّاة تودع قضايانا سرائبها فلا ترى النور، أو هي تكتفي بالبكاء وحدَه؛ لأنّ البكاءَ لا يحيي الميّت، والأسف لا يردّ الغائب، ولكن العملَ مفتاح النجاح، والصدقَ والإخلاص مع متابعة الرسول ليُعَدّ سُلَّم الفلاح ودَرَجه، وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105].
ورابع الأمور عباد الله: أنّ الأمةَ المسلمة بحاجةٍ ماسّة إلى احتساب المصائب التي تطالها عند الله تعالى، وأن تعلمَ أنها على أجرٍ ومثوبة إن هي صبرت وجاهدت، فما يصيب المرءَ من نصَب ولا وَصَب حتى الشوكة يُشاكها إلا كتَب الله له بها أجرًا كما ذكر ذلك النبيّ. خرجه مسلم في صحيحه [1].
وبمثل هذا الاستحضارِ تبرز الشجاعةُ وينبثق الإقدام والتسليم بأقدار اليوم والغد وبأن العزةَ والقوة لله جميعا، الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173، 174].
إنه بمثل هذا تتعالى صيحاتُ الذادّين عن حياضهم والحامين لدينهم حين يلاقون قوى الشرّ والظلم قائلين لهم: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51]، وقائلين لهم أيضًا: قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة:52]، يعنون بذلك كسبَ المعركة بالنصر على الأعداء، وقوى الظلم والجبروت أو الموت دون الظفَر بالنصر وهو حسَن كذلك؛ لأنّ ما عند الله خير وأبقى، بخلاف أعداءِ الدين وقوى الشرّ والظلم فهم إن انتصَروا أو انهزموا بين عذابين: آجلٍ أو عاجل، وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:52].
ألا فإنّ سنّةَ المداولة الربانية ماضيةٌ لا محالة، فالحرب سِجال، والله يقول: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140، 141]، فاتخاذ الشهداءِ فضلٌ من الله ومِنّة، إذ الشهادةُ ليست رزيَّة ولا خسارة، وإنما هي اختيارٌ وانتقاء وتكريم واختصاص، ومن هنا برز قولُ الفاروق لأبي سفيان رضي الله عنهما في أُحُد حينما قال أبو سفيان رضي الله عنه قبل أن يسلِم: يومٌ بيوم بدر والحربُ سجال، فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النار [2].
أما الأمر الخامس عباد الله: فعلى الأمّة أن تعيَ جيِّدًا أنّ منطقَ المجرمين واحد، وأنّ السياسة الفرعونية تُذكَى بين الحين والآخر، وأنّ أهلَ الكفر والظلم مهما زعَموا أنهم أهلُ إصلاح ودعاةُ حرية فهم في الحقيقة أهل دمارٍ وخراب، ودعاةٌ لمصالحهم الشخصيّة ولذائذهم الذاتية البشِعة، كيف لا وقد وصفهم الله بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6]، إلى أن قال سبحانه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
والواقع ـ عباد الله ـ خيرُ شاهدٍ على هذا، ولنا أن نتساءل إذًا: أيّ حرية يُرادُ جلبُها للعراق الجريح وفلسطين المغتصَبَة؟! أيّ سعادةٍ ستطال أهلَها بفُوَّهاتِ المدافع وصريخ الرشّاشات؟! أيّ حياةٍ هانئةٍ جاؤوا يبشّرون بها لا تقوم إلا على الأشلاء والقتلِ والدمار وهدمٍ لبيوت العبادةِ والنسُك؟! والذي نستطيع أن نعلمه جيِّدًا أنّ الطباعَ العقليّة لم تنقلب معاييرها بحيث نظنّ بأنّ الدمارَ إصلاح والقتلَ حياةٌ والفوضى نظام والظلمَ عدل.
إن الألباب لتتّفِق جميعًا على أنّ هذا ما هو إلا منطقٌ فرعونيّ يتلوه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها منذ قرونٍ في قول الله تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]. أفيُعقل إذًا أنّ قتلَ أربعةٍ جريمةٌ غير مغتفَرة وقتل شعبٍ كاملٍ مسألةٌ ليست إلاّ محتقرة؟! أفيُعقل إذًا أن تقابَل إرادات الشعوب والمجتمعات الدوليّة في إدانة قتل العُزّل والاحتلال والاغتصاب وقتل الأطفال والشيوخ والمجاهدين أيُعقَل أن تُقابل بحقّ النقض ضدَّ التصويتِ وما يسمّى بلغة العصر "الفيتو"، فترجع إرادةُ العالم القهقرى؟! أين حقوقُ الإنسان المزعومة؟! وأين الحريّة التي يدعو إليها أولئك؟! أفتكون دعاوى الحقوق والرحمة والعدل منصبَّةً على دعم وتحصين المنظَّمات العالمية لمحبِّي الكلاب والحيوانات الأليفة؟! أفتكون الكلاب المكلَّبة أهمَّ وأعظم من طفلٍ رضيع، بله قطر إسلاميّ برمّته؟! تالله وبالله، بمثل هذا تموت الحقوق وتبلغ القاع.
إنه بمثل هذا قُلبَت المعايير العقليّة حتى لقد صار الغبيّ حقًّا هو من يحاوِل أن ينالَ حقَّه باسم العدالة أو الرحمة الدولية، وصار المغبون حقًّا هو ذلك الضعيف المهزول الجاثي على ركبتَيه المهزولتين أمام تلك القوى الظالمة الغاشمة يستجديها حقّه ويسألها إنصافَه ويطلب إليها بالمدمَع لا بالمدفَع، فصار لا يوجد العدل الدوليّ إلا حيث يوجد الجور، ولا يوجد السِّلم إلا حيث توجد الحرب، وصارت القوى الظالمة لا تذكر العدالةَ ولا الحقوقَ الإنسانيّة إلا إذا تحدّثت إلى الأقوياء الباطشين أمثالها، وهم في ذلك كلِّه يجعلون المالك الطريد في أرضه إرهابيًّا لا حقَّ له، واللصَّ الغالب على الأرض والحقوقِ والمقدّسات ربَّ بيتٍ محترمًا، مالكًا للأرض لا بالإحياء الشرعي بل بالإماتة الجماعية والقهر النفسيّ، ولو بقي فيهم بصيصُ رحمة وإنصاف مزعوم فسيجعلون المنكوبَ المغتصَب يقول لهم بلسان حاله:
إذا مرِضنا أتيناكم نعودكمُ وتخطئون فنأتيكم ونعتذر
بمثلِ هذا ـ عبادَ الله ـ انفصَمت علائق الآمال لدى المشرئبّين لعَود حقوقهم السليبة بعد أن مسَّهم الضرّ من إفراطِ قوى الظلم والجبروت، حتى ردّوهم عن بلوغ الأرب وهمّوا بما لم ينالوا، ثم وقرت أسماعهم عن حسيسِ همسات الغيلة، فكانت الداهية ما منها بدّ، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196، 197].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطًا فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
[1] صحيح مسلم: كتاب البر (2573) عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما بمعناه، وأخرجه أيضا البخاري في المرضى (5642).
[2] رواه أحمد (1/287)، والطبراني في الكبير (10/301) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (3163)، وقال الهيثمي في المجمع (6/111): "فيه عبد الرحمن بن أبي الزناد، وقد وثق على ضعفه"، قال ابن كثير (1/413): "هذا حديث غريب وسياق عجيب، وهو من مرسلات ابن عباس، فإنه لم يشهد أحدا ولا أبوه... ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها"، وقال أحمد شاكر: "سياق القصة في ذاتها صحيح، له شواهد كثيرة في الصحاح"، وصححه الألباني في تخريج أحاديث فقه السيرة (ص279).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده.
وبعد: فاتقوا الله معاشرَ المسلمين، واعلموا أنّ الله كتب العزّة والرفعة والعلوَّ لعباده المؤمنين، فالمسلمون هم الأعلَون بدينهم وعقيدتهم ومبادئهم وإن هُزمُوا عسكريًّا ووطئتهم قوّةُ الاحتلال، فالله جل وعلا يقول: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، ولما قال أبو سفيان رضي الله عنه يومَ أحد: اعلُ هُبل، قال رسول الله : ((ألا تجيبوه؟!)) قالوا: ما نقول؟ قال: ((قولوا: الله أعلى وأجلّ)) ، ثم قال أبو سفيان: لنا العُزّى ولا عُزّى لكم، قال رسول الله : ((ألا تجيبوه؟!)) قالوا: ما نقول؟ قال: ((قولوا: الله مولانا ولا مولَى لكم)) [1].
فالنصر قادمٌ بإذن الله لأمّة الإسلام، وإن تباطأ مجيئُه لحكمةٍ يريدُها الباري جلّ شأنه؛ لأنّ وعدَ الله واقعٌ لا محالةَ وكلمتَه قائمة: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173].
وما علينا نحن ـ معاشر المسلمين ـ إلاّ أن نستكمل الأسبابَ الجالبةَ لوعد الله؛ لأنّ شعوبًا لا تعرف إلا الله لن يغلبَها من لا يعرف الله، وإنّ شعوبًا لا تعرف إلاّ الحقّ لن يغلبَها من لا يعرف إلا الباطل.
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:20، 21].
هذا، وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال عزّ من قائل عليم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه البخاري في الجهاد (3039) عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
(1/3123)
صلة الرحم
الأسرة والمجتمع
الأرحام
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
19/2/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القرآن والسنة فيهما تفصيل كل شيء. 2- تعريف الأرحام. 3- الأمر بصلة الرحم. 4- ثواب الصلة. 4- فوائد صلة الأرحام. 5- صلة الرحم واجبة وإن قطعت. 6- مفاسد قطيعة الرحم ووعيدها. 7- حقيقة الصلة. 8- السبيل إلى صلة الرحم. 9- أهمية المرأة في هذا الباب. 10- التذكير باليوم الآخر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله أيّها المسلمون، وأدّوا الحقوقَ لأربابها، وأوصِلوها لأصحابها، يكتبِ الله لكم عظيمَ الثواب، ويجزكم على ذلك ثوابًا عظيمًا، ويجِركم من أليم العقاب.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن ربَّكم بمنِّه وكرمه فصَّل في كتابه كلَّ شيء، وأرشدكم رسولُ الهدى عليه الصلاة والسلام إلى ما يقرِّبكم من الجنّة وما يباعدكم من النار ويسعدكم في هذه الدار، فبيَّن الحقوقَ التي لربِّ العالمين على عباده؛ لأنّ حقَّ الله علينا أعظم ما افترضه وأكبر ما أوجبه، ولكنّ الله برحمته فرض علينا بعضَ ما في وُسعنا، وإلاَّ فحقّ الله أن يُذكَر فلا ينسَى، وأن يطاع فلا يُعصَى، وأن يشكَر فلا يكفَر.
وبيَّن الله حقوقَ العباد بعضِهم على بعض؛ لتكونَ الحياة آمنة مطمئنّة راضية مباركة، تظلُّها الرحمة، وتندفع عنها النِّقمة، ويتمّ فيها التعَاون، ويتحقّق فيها التناصُر والمودّة، فبيَّن حقوقَ الوالدين على الولَد وحقوقَ الولد على الوالدين وحقوقَ ذوي القربى والأرحام بعضِهم على بعض.
وكلٌّ يُسأَل عن نفسِه في الدنيا والآخرة عن هذه الحقوقِ الواجبات، فإن أدَّاها وقام بها على أحسنِ صِفة كان بأعلى المنازل عند ربِّه تبارك وتعالى، وقام بأداء هذه الأمانة التي أشفَقت منها السموات والأرض والجبال، ومن ضيَّع هذه الحقوقَ كان بأخبثِ المنازل عند ربّه الذي هو قائم على كلّ نفس بما كسبت، لا يعزُب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.
عباد الله، إنَّ صلةَ الرحم حقٌّ طوَّقه الله الأعناقَ، وواجبٌ أثقل الكواهلَ وأشغل الذمم. والأرحامُ هم القراباتُ من النَّسَب والقرابات من المصَاهرة.
وقد أكَّد الله تعالى على صِلة الأرحام وأمَر بها في مواضعَ كثيرة من كتابه، فقال تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [الإسراء:26]، وجعل صلةَ الرحم بعد التّقوى من الله تعالى فقال عز وجل: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
ولعِظم صلةِ الرحم ولكونها من أسُسِ الأخلاق وركائز الفضائلِ وأبواب الخيرات فرَضها الله في كلِّ دين أنزله، فقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:83]، وفي حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنَّ النبي قال أولَ مقامٍ بالمدينة: ((أيّها الناس، أفشوا السلامَ وأطعِموا الطعام وصِلوا الأرحام وصَلّوا بالليل والناس نيام تدخلُوا الجنة بسلام)) رواه البخاري [1].
وثوابُ صِلة الرحِم معجَّل في الدنيا مع ما يدَّخر الله لصاحبِها في الآخرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من سرَّه أن يُبسَط له في رزقه وأن يُنسَأَ له في أثره فليصِل رحمه)) رواه البخاري [2] والترمذي ولفظه قال: ((تعلَّموا من أنسابِكم ما يَصِلون به أرحامكم، فإنّ صلَة الرحم محبَّةٌ في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر)) [3] ، وعن علي رضي الله عنه عن النبي : ((من سرَّه أن يُمَدّ له في عُمُره ويوسَّع له في رزقه ويُدفع عنه ميتةُ السوء فليتَّق الله وليصِل رحمه)) رواه الحاكم والبزار [4] ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إنّ الله ليعمِّر بالقوم الديار، ويثمِّر لهم الأموال، وما نظر إليهم منذ خلَقَهم بُغضًا لهم)) ، قيل: كيف ذاك يا رسول الله؟! قال: ((بصِلَتهم أرحامَهم)) رواه الحاكم والطبراني [5] ، قال المنذري: "بإسناد حسن" [6] ، وعن أبي بكرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما مِن ذنبٍ أجدرُ أن يعجِّل الله لصاحبه العقوبةَ في الدنيا مع ما يدَّخر له في الآخرة من البغيِ وقطيعة الرحم)) رواه ابن ماجه والترمذي والحاكم [7] ، وعن أبي بكرةَ رضي الله عنه أيضًا قال: قال رسول الله : ((إنّ أعجل البرّ ثوابًا لصِلةُ الرحم، حتى إنَّ أهلَ البيت ليكونون فَجَرة، فتنمو أموالهم ويكثُر عددهم إذا تواصلوا)) رواه الطبراني وابن حبان [8].
وصلة الرحِم لها خاصّيّة في انشراحِ الصدر وتيسُّر الأمر وسماحةِ الخلُق والمحبّة في قلوب الخلق والمودَّة في القربى وطيب الحياة وبركتها.
والمسلم فرضٌ عليه صلةُ الرحم وإن أدبَرت، والقيامُ بحقِّها وإن قطَعت، ليعظمَ أجرُه ويقدِّم لنفسه، وليتحقّق التعاون على الخير، فإنَّ صلَة الرحم وإن أدبرت أدعى إلى الرجوعِ عن القطيعة وأقربُ إلى صفاء القلوب، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي بخصالٍ من الخير: (أوصاني أن لا أنظرَ إلى من هو فوقي وأن أنظر إلى من هو دوني، وأوصاني بحبّ المساكين والدُنُوِّ منهم، وأوصاني أن أصِلَ رحمي وإن أدبرت، وأوصاني لا أخاف في الله لومة لائم) رواه الإمام أحمد وابن حبان [9] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، إنّ لي قرابةً أصِلُهم ويقطعوني، وأحسِن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلُم عليهم ويجهَلون عليّ، فقال: ((إن كنتَ كما قلت فكأنما تسفُّهم الملّ ـ أي: الرماد الحار ـ ، ولا يزالُ معك من الله عليهم ظهير ما دمتَ على ذلك)) رواه مسلم [10] ، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبيّ قال: ((ليس الواصلُ بالمكافئ، ولكنّ الواصل الذي إذا قطعت رحمُه وصلها)) رواه البخاري [11].
وقطيعةُ الرحِم شؤمٌ في الدنيا ونَكَد وشرّ وحَرج وضيقٌ في الصدر وبُغض في قلوب الخلقِ وكراهةٌ في القربى وتعاسَة في أمور الحياة وتعرّضٌ لغضَب الله وطردِه وعقوبةٌ أليمة في الآخرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنَّ الله خلق الخلقَ حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال الله: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلَك وأقطعَ من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك)) ، قال رسول الله : ((اقرؤوا إن شئتم قول الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23] )) رواه البخاري ومسلم [12] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إنّ أعمالَ بني آدم تعرَض كلَّ خميس ليلةَ الجمعة فلا يقبَل عملُ قاطع رحِم)) رواه أحمد [13] ، وعن الأعمش قال: كان ابن مسعود رضي الله عنه جالسًا بعد الصبح في حلقة فقال: (أنشد الله قاطع رحم لما قام عنا، إنَّا نريدُ أن ندعوَ ربَّنا، وإنَّ أبواب السماء مُرتَجَة [14] دون قاطِع رحم) رواه الطبراني [15] ، وعن أبي موسى رضي الله عنه أنّ النبي قال: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمنُ الخمر وقاطع الرحم ومصدِّقٌ بالسحر)) رواه أحمد والطبراني والحاكم [16].
أيها المسلمون، إنَّ صلةَ الرحِم هي بذلُ الخير لهم وكفُّ الشرّ عنهم، هي عيادةُ مريضهم ومواساة فقيرهم ونفع وإرشاد ضالّهم وتعليمُ جاهلهم وإتحاف غنيّهم بالهدية له ونحوها ودوامُ زيارتهم والفرحُ بنعمتهم والتهنئة بسرورهم والحزنُ لمصيبتهم وتفقُّدُ أحوالهم وحفظهم في غيبتهم وتوقيرُ كبيرهم ورحمةُ صغيرهم والصبر على أذاهم وحسنُ صحبتهم والنصحُ لهم، وفي مراسيل الحسن: ((إذا تحابَّ الناس بالألسن وتباغضوا بالقلوب وتقاطعوا بالأرحام لعنهم الله عند ذلك، فأصمَّهم وأعمى أبصارهم)) [17].
وإنَّ القطيعة بين الأرحام في هذا الزمان قد كثُرت، وساءت القلوب، وضعُفت الأسباب، وعامّةُ هذه القطيعة على الدنيا الحقيرة وعلى الحظوظ الفانية، فطوبى لمن أبصر العواقبَ، ونظر إلى نهاية الأمور، وأعطى الحقَّ من نفسه، وأبدى الذي عليه، ورغب إلى الله في الذي له على غيره، وأتى إلى الناس ما يحبُّ أن يأتوه إليه.
وإنَّ القطيعةَ المشؤومة قد تستحكم وينفخ الشيطان في نارها، فيتوارثها الأولاد عن الآباء، وتقع الهلكة وتتَّسع دائرة الشرّ، ويكون البغي والعدوان، وقد تدوم هذه القطيعةُ بين ذوي الرحِم حتى يفرِّق بينهما الموتُ على تلك الحالِ القبيحة، وعند ذلك يحْضر الندم وتثور الأحزان وتتواصَل الحسرات وتتصاعد الزفرات، وعند ذلك لا ينفعُ الندم، ولا يداوي الأسف جراحاتِ القلوب، ويتركون جيفةَ الدنيا بعدَهم، فلا لقاءَ إلاَّ بعد البعث والنشور، فيجثو كلٌّ أمام الله الحَكَم العدل، فيقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم.
والصبرُ والاحتمال والمعروف والعفو خير الأمور وأفضل دواءٍ لما في الصدور، عن عُقبة بن عامر رضي الله عنه قال: لقيتُ رسولَ الله فأخذتُ بيده فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضلِ الأعمال، فقال: ((يا عقبة، صِل من قطعَك، وأعطِ من حرمك، وأعرض عمّن ظلمك)) ، وفي رواية: ((واعفُ عمّن ظلمك)) رواه أحمد والحاكم [18].
أيها المسلمون، إنّ المرأةَ قد تكون من أسباب القطيعة؛ بنقلها الكلام وبثِّها المساوئ ودفنها المحاسن وتحريشها للرجال، وقد تَرى لحماقتها أنَّ لها في ذلك مصلحةً، وقد تدفع أولادَها في الإساءة لذوي القربى، فعليها يكونُ الوزرُ، والله لها بالمرصاد.
وقد تكون المرأة من أسبابِ التواصل بين الأرحام وتوطيدِ المودّة بينهم؛ بصبرها وتحمُّلها ونصيحتها لزوجها وأولادها وحثِّها على الخير وتربية أولادها، والله عز وجل سيثيبها، ويصلِح حالها وحالَ أولادها، ويحسِن عاقبتها.
فيا أيتها المسلمات، اتقِين الله تعالى وأصلِحن بين ذوي القربى، ولا تكن القطيعةُ مِن قِبَلكن، فإنّ الله لا يخفَى عليه خافية، قال الله تعالى: فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الروم:38].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/451)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2485)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيهما، باب: ما جاء في قيام الليل (1324)، وصححه الحاكم (3/14)، والمقدسي في الأحاديث المختارة (6/431)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2019).
[2] صحيح البخاري: كتاب الأدب (5985) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] سنن الترمذي: كتاب البر (1979) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (2/374)، وابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق (252)، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (7284)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (276).
[4] المستدرك (7280)، مسند البزار (693)، وأخرجه أيضا عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/143)، والمحاملي في الأمالي (201)، والطبراني في الوسط (3014)، وابن عدي في الكامل (4/239، 7/111)، والبيهقي في الشعب (6/219)، وصححه الضياء في المختارة (537، 538)، وجوده المنذري في الترغيب (3/227)، وقال الهيثمي في المجمع (8/153): "رجال البزار رجال الصحيح غير عاصم بن ضمرة وهو ثقة"، وصححه الألباني بدون زيادة: ((ويدفع عنه ميتة السوء)) ، ضعيف الترغيب (1488).
[5] المستدرك (7282)، المعجم الكبير (12/85)، وقال الحاكم: "تفرد به عمران بن موسى الرملي الزاهد عن أبي خالد، فإن كان حفظه فهو صحيح"، وحسنه الهيثمي في المجمع (8/152)، وقال الألباني في ضعيف الترغيب (1491): "يشير الحاكم إلى سوء حفظ عمران الذي أشار إليه غير واحد... ولذلك خرجته في الضعيفة (2425)".
[6] الترغيب والترهيب (3/228).
[7] سنن ابن ماجه: كتاب الزهد (4211)، سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة (2511)، مستدرك الحاكم (3359)، وأخرجه أيضا أحمد (5/36)، وأبو داود في الأدب (4902)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (455، 456)، وهو في السلسلة الصحيحة (918).
[8] صحيح ابن حبان (440)، قال الهيثمي في المجمع (8/152): "رواه الطبراني عن شيخه عبد الله بن موسى بن أبي عثمان الأنطاكي ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2537)، وانظر: السلسلة الصحيحة (918).
[9] مسند أحمد (5/159، 173)، صحيح ابن حبان (449)، وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط (7739)، قال الهيثمي في المجمع (10/263): "أحد إسنادي أحمد ثقات"، وقال في موضع آخر (8/154): "رجال الطبراني رجال الصحيح غير سلام بن المنذر وهو ثقة"، وحسن إسناده الألباني في تخريج أحاديث المشكاة (5187).
[10] صحيح مسلم: كتاب البر (2558).
[11] صحيح البخاري: كتاب الأدب (5991).
[12] صحيح البخاري: كتاب الأدب (5987)، صحيح مسلم: كتاب البر (2554).
[13] مسند أحمد (2/483)، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد (61)، والبيهقي في الشعب (6/224)، قال المنذري في الترغيب (3/233) والهيثمي في المجمع (8/151): "رواته ثقات"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2538). وفي الباب عن أسامة بن زيد رضي الله عنه عند الطبراني في الكبير (1/167).
[14] مرتجة بضم الميم وفتح التاء المثناة فوق وتخفيف الجيم: مغلقة.
[15] المعجم الكبير (9/158)، ورواه أيضا معمر في جامعه (11/174 ـ المصنف ـ)، والبيهقي في الشعب (6/224)، قال المنذري في الترغيب (3/234) والهيثمي في المجمع (8/151): "رواته محتج بهم في الصحيح إلا أن الأعمش لم يدرك ابن مسعود"، وأورده الألباني في ضعيف الترغيب (1502).
[16] مسند أحمد (4/399)، المستدرك (7234)، وصححه ابن حبان (6137)، وهو في صحيح الترغيب (2539).
[17] لم أقف عليه من مرسل الحسن، وأخرجه الطبراني في الأوسط (1578)، وأبو نعيم في الحلية (3/109) عن سلمان رضي الله عنه مرفوعا، قال العراقي في تخريج الإحياء (1/47): "إسناده ضعيف"، وقال الهيثمي في المجمع (7/287): "فيه جماعة لم أعرفهم". وروي عن سلمان موقوفا عليه.
[18] مسند أحمد (4/148، 158)، مستدرك الحاكم (7285)، وأخرجه أيضا الروياني في مسنده (157)، والطبراني في الكبير (17/269، 270)، والبيهقي في الشعب (6/222، 261)، قال المنذري في الترغيب (3/232) والهيثمي في المجمع (8/188): "أحد إسنادي أحمد رجاله ثقات"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2536).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، أحمدُ ربي وأشكره على فضلِه العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له العليم الحكيم، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الهادي إلى صراط مستقيم، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولِك محمّد النبيّ الأميّ ذي الخلُق الكريم، وعلى آله وصحبه ذوي النهج القويم.
أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، فتقوى الله أربحُ بضاعة والعدّةُ لكلِّ شدّة في الدنيا ويوم تقوم الساعة.
أيّها المسلمون، عظِّموا أوامرَ الله بالعمل بها، وعظِّموا ما نهى الله عنه باجتنابِه، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، واعمَلوا للدار الآخرة صالحَ الأعمال، فإنها دار القرار، لا ينفَد نعيمها، ولا يبلى شبابها، ولا تخرب دارها، ولا يموت أهلُها، واتّقوا نارًا وقودُها الناس والحجارة، عذابها شدِيد، وقعرُها بعيد، وطعام أهلِها الزقوم، وشرابهم المهلُ والصديد، ولباسهم القطران والحديد.
واعلموا أن لله عمَلاً بالليل لا يقبله بالنهار، وعملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وأعمالُ العباد هي ثوابُهم أو عقابهم، قال الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [الجاثية:15]، وفي الحديث عن النبيّ عن ربّه تعالى أنه قال: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمدِ الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنّ إلاَّ نفسه)) [1]. وتذكَّروا تطايرَ صحفِ الأعمال، فآخذٌ كتابه بيمينه، وآخذٌ كتابه بشماله، وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلّم تسليمًا كثيرًا، اللهم وارض عن الصحابة أجمعين...
[1] أخرجه مسلم في البر (2577) عن أبي ذر رضي الله عنه.
(1/3124)
إنما المؤمنون إخوة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, القرآن والتفسير
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
19/2/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقتضيات الأخوة الإيمانية. 2- أهمية معرفة حقوق الأخوة. 3- حقوق المسلم على أخيه المسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جل جلاله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
يخبرنا تعالى عن صفاتِ المؤمنين، وأنّ المؤمنين إخوةٌ بعضُهم لبعض، فالمؤمن أخٌ لأخيه المؤمن، جمعتهم أخوةُ الإيمان، وحَّدتهم رابطةُ الإسلام، فهم إخوانٌ في الله متحابّون في الله. تلك الأخوّة تدعو ذلك المؤمنَ إلى أن يحبَّ لأخيه ما يحبّه لنفسه، وأن يكره له ما يكرهه لنفسه.
أجل أيها المؤمن، تحبُّ له ما تحبّ لنفسك، فكلّ أمر تحبُّه لنفسك فأنت تحبُّه وترضاه لأخيك المؤمن، وكلُّ أمر تكرهه لنفسك ولا ترضاه لنفسك فأنتَ تكرهه ولا ترضاه لأخيك المؤمن، وفي الحديث عنه قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه)) [1].
أيها الإخوة، هذه الأخوّة الصادقةُ تحمِل المؤمنَ إلى أن يعرفَ حقوقَ أخيه المؤمن، ويؤدِّيَ تلك الحقوق طاعةً لله وتقرُّبًا إلى الله، ليس لرجاءِ مصلحةٍ من أحد، ولا خوفًا من أحد، ولكن الذي يميله عليه أخوتُه الإيمانية في ذات الله، فهو يؤدِّي تلك الحقوق طاعةً لله وقربةً يتقرَّب بها إلى الله.
أيّها المؤمن، حقوقُ المسلم عليك عديدةٌ، فالسعيدُ من عرَف تلك الحقوقَ، وأدّاها على الوجه المرضيّ.
فمن أعظم حقوق أخيك المسلم عليك بذلُ النصيحة لهُ، دعوتُه إلى الله، حثُّه على الخير، السعيُ في إصلاح دينه واستقامة أخلاقه ودعوتُه إلى الاستقامة على هذا الطريق المستقيم. فتلك أعظمُ الحقوق؛ أن تنصحَ أخاك في الله نصيحةً تبتغي بها وجهَ الله، تمحضُ النصحَ.
إن رأيتَه مخالفًا للشرع ورأيتَ في أعماله وتصرفاتِه ما يخالف شرعَ الله فتدعوه إلى الخير، وتنصحه وتوجِّهه وتحذِّره من مزالق السوء.
إن رأيته يصحبُ فئةً منحرفة يُخشى عليه من صُحبتها شرٌّ وبلاء فحذِّره من تلك الرفقة السيئة، وبيِّن له عواقبَ رفقة أصحاب السوء وما تؤدِّي صحبتُهم من البلاء والفساد.
إن رأيتَ أخاك المسلمَ يحمل فكرًا منحرِفًا وآراءً خاطئة مجانبة للصواب فليكُن موقفك منه تحذيره من تلك الأفكار السيئة والآراء المنحرفة، وتبيِّن له وجهَ ذلك، وتسوق له الأدلة من كتاب الله ومن سنة رسوله، وتخاطبه بكلِّ خطابٍ ليِّن؛ لأن قصدَك استنقاذه وتخليصُه من هذه الأفكار المنحرفة والآراء الشاطّة التي تنافي تعاليم الإسلام.
عندما تشعر أن أخاك المؤمنَ عنده تصوّرات خاطئةٌ وآراء غيرُ صحيحة ونظرات لمجتمعه المسلم لا توافق الصوابَ فلا تدَعه يلجّ في طغيانه ويتمادى في انحرافه، خُذ على يديه بنصيحةٍ ودعوة صالحة وحِكمة ورِفق ولين، عسى أن يقتنعَ منك ويتجنّبَ تلك الآراء والأفكارَ الخاطئة التي لا تعود عليه ولا على مجتمعه بالخير.
عندما تشعر أن أخاك المؤمنَ خدعته دعاياتٌ مضلِّلة وأغواه منحرفون وزيّنوا له الباطلَ بما يضرُّ الأمةَ في دينها وأدنياها وبما يجلب عليها البلاءَ والمصائب فليكن موقفك منه موقفَ الناصح الكاشف لتلك الأباطيل الموضِّح له نتائجها السيئة وما يترتَّب عليها من أضرار على الفرد والجماعة.
عندما تشعر أن أخاك المؤمنَ غير مقتنِع ببعض الأشياء أو أن عنده شكًّا في بعض تعاليم الشريعة، قد خدعته الدعاياتُ المضلّلة، فليكن موقفك منه موقفَ الناصح الموجِّه الذي يوضح الحقَّ ويبيّنه، هكذا فليكن المؤمنون فيما بينهم، تناصحٌ وتعاون ودعوةٌ إلى الخير وتحذيرٌ من أسباب البلاء والانحراف.
أيها المسلم، من حقِّ أخيك المسلم عليك أن تمحض له المشورةَ الصادقة عندما يستشيرك ويستنصحك، فأدِّه مشورةً طيبة ونصيحة مباركةً تعتقدُ أنها الحقّ الذي ترضاه لنفسك.
أخي المسلم، من حقِّ أخيك عليك أن تنصُره إذا وقعت عليه مظلمة، فتكون في صفِّه بالدعوة إلى الخير، وتكون في صفِّه بتوجيهه وتعليمه؛ كيف يتخلّص من تلك المظالم، وكيف يعالج القضايا، فتكون معه إلى أن يحقِّق الله له مطلوبَه بالطرق السليمة.
وإن رأيته ظالمًا غاشمًا فكن ناصرًا له بأن تردعَه عن الظلم، وتبيِّن له نتائجَ الظلم الوخيمة في الدنيا والآخرة، حذِّره من مظالم العباد، حذِّره من دعواتِ المظلومين، وأن دعوةَ المظلوم مستجابة، ((واتقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) [2].
أخي المؤمن، عندما تشعر أن أخاك المسلمَ بينه وبين زوجتِه شقاق ونزاع، وأنت قادر على الإصلاح والتوفيق، فتذكر قول الله: وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، فأصلح بين الزوجين، ووفِّق بينهما؛ لتكونَ من المؤمنين حقًّا.
عندما يبلغك فجوةٌ بين الرجل وأبنائه وأمورٌ بينه وبين أبنائه واختلاف بينهم فبادر بنصيحةِ الأبناء، وحُثِّهم على البر والصلة وتحذيرهم من العقوق، ثم قابلِ الأبَ وحُثّه على الخُلُق الطيب والصبر مع الأولاد وعدم إحداث ما يسبِّب الشقاقَ والنزاع، حتى يعينَ أبناءَه على برِّه والإحسان إليه.
أيها المسلم، من حقِّ أخيك المسلم عليك أن لا تكونَ غاشًّا له عندما تبيعه وعندما يشتري منك، فإياك أن تكونَ غاشًّا له ومدلِّسًا عليه وخادعًا له ومُخفيًا عيوبَ السِّلَع، فإنّ النبي يقول: ((من غشَّنا فليس منّا، والكذب والخداع في النار)) [3].
من حقِّ أخيك المسلم عليك أن يَسلَم أخوك من شرِّ لسانك ويدك، فلا يكن لسانُك مغتابًا له ولا ساعيًا بنميمةٍ بينه وبين إخوانه لقصدِ الإفساد، ولا يكن لسانك يرميه بالعظائم ويتَّهمه بما هو براء منه ويقول عليه إثمًا، فحذّره من ذلك وبيّن له قول الله: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].
من حقِّ أخيك المسلم عليك أن لا ينال بسبب هفواتِ لسانك أن تقول فيه باطلاً، أو تشهدَ عليه زورًا وبهتانًا، أو تنسبَ إليه ما هو براء منه، فهذا من أعظم حقوقه عليك.
ومن حقِّ أخيك عليك أن يسلَم من يدك، فلا تضربه ولا تُتلف مالَه ولا تخُطَّ بقلمك ما فيه ضررٌ وإيذاء له في الحاضر والمستقبل.
من حقِّ أخيك المسلم عليك إن يكن عندك شهادةٌ له هو غافلٌ عنها لا يعلَم بها ويترتَّب على هذه الشهادةِ حفظُ حقوقه المالية فإنَّ الواجب عليك أن تظهرَها ولا تخفيها، وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة:283].
من حقِّ أخيك عليك عندما ترى وصيَّته التي يريدُ أن يوصيَ بها أو أوقافَه التي يريد أن يوقِفَها، حينما ترى فيها حَيفًا ومخالفةً للصواب وتفضيلاً للبعض على البعض فخُذ على يده ومُره بالعدل في وصيته وعدم مخالفة الشرع، فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:182].
من حقِّ أخيك المسلم عليك أن تحفظَ ماله عندما يفقدُه وعندما يغيبُ ماله عنه وينساه، والنبي سأله الصحابيّ عن لُقطة الذهب والفضة قال: ((اعرِف عِفاصها ووكاءها، ثم عرِّفها سنة، فإن جاء صاحبها يومًا من الدهر فهي له، وإلاَّ فهي مال الله يؤتيه من يشاء)) [4]. فأمره أن يعرِف وعاءها ويعرِف ما رُبطت به ويحصِي عددها، ثم يعرِّف عليها حولاً كاملاً في مجامِع الناس وفي وسائل الإعلام تعريفًا عن مفقود وعن نقودٍ مفقودة أو حُليّ مفقود، فإن جاء ذلك الإنسان ووصف ذلك المال أو ذلك الحليّ بأوصافٍ تدلّ على صِدقه ومطابقة الواقع فادفعها له، وإن مضى عامٌ ولم يأتِ لها طالب فهو مال الله ملَّكك الله إياه إلى أن يأتيه من يدَّعيه ويبيِّن صفاتِه على الحقيقة. كلُّ هذا من حقِّ المسلم على المسلم.
من حقِّه عليك ـ أخي المسلم ـ أن تبدَأه بالسلام إذا لقيته، فتقول: السلام عليكم، والنبي يقول: ((لا يحلُّ لمسلم أن يهجرُ أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهم الذي يبدأ بالسلام)) [5].
ومن حقِّه إذا سلَّم عليك أن تردَّ عليه تحيّته، وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]. فإذا قال: السلام عليكم، فقل له: وعليكم السلام، وإن زدته: "ورحمة الله وبركاته" فقد أخذت بالحظ الأوفر.
من حقِّه عليك عيادتُه في مرضه وزيارته أثناءَ مرضه تضميدًا لجراحه ومواساةً له وإكرامًا له ولأهله، فعسى أن ينتفعَ من زيارتك بنصيحةٍ تُسديها إليه، وتذكيرًا له بحقوقٍ للناس غائبة عنه، وتذكيره بالتَّوبة إلى الله والإقلاع والاستغفار، وتذكيره بالوصيَّة العادلةِ التي لا جَور ولا ظلم فيها.
إن هذه الحقوقَ يفرضها عليك إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ونبينا يقول: ((لا يؤمنُ أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبه لنفسه)) [6].
فأحبَّ الخيرَ لأخيك المسلم، واسعَ له في الخير جهدَك، واكره له ما تكرهُ لنفسك، قِف معه في المواقف العصيبة، فمن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن فرَّج عن مؤمنٍ كربةً من كُرَب الدنيا فرّج الله عنه كربةً من كُرَب يوم القيامة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (45) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في المظالم (2448)، ومسلم في الإيمان (19) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[3] أخرجه الطبراني في الكبير (10/138)، وأبو نعيم في الحلية (4/189)، والقضاعي في مسند الشهاب (354) عن ابن مسعود رضي الله عنه، صححه ابن حبان (567، 5559)، وجود إسناده المنذري في الترغيب (2/359)، وقال الهيثمي في المجمع (4/79): "رجاله ثقات، وفي عاصم بن بهدلة كلام لسوء حفظه"، وهو في صحيح الترغيب (1768). وجزؤه الأول أخرجه مسلم في (101) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في اللقطة (2427، 2428، 2430)، ومسلم في اللقطة (1722) عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه بنحوه.
[5] أخرجه البخاري في الأدب (6077)، ومسلم في البر (2560) عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
[6] تقدم تخريجه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، كلّ ابن آدم خطّاء، وخير الخطَّائين التَّوابون.
أيها المسلم، من حقِّ أخيك المسلم عليك، إذا رأيتَه على أمر خالفٍ للشرع واطلعتَ على أمر يخالف الشرع يمارسه فليكن منك السترُ عليه قبل كلِّ شيء، ولا تحاول فضيحتَه وإشاعة الفاحشة عليه.
اعلم أن الإنسان خطَّاء، وأن الشيطانَ يجري من ابن آدم مجرى الدم، وأن الإنسان ضعيفٌ أمام شهواته إلاَّ من لطف الله ورحِم وعصم، إذًا فليكن موقفك أمور، أولاً: السّتر عليه وعدمُ نشر تلك الفاحشة، وليحذر من قول الله: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:19]. فلا تفرح باطِّلاعك على أخطائه، ولا تفرَح بهلاكِه، بل اعلَم أن هذه من مكائد الشيطان، فليكُن موقفُك مع أخيك الستر عليه أولاً، ثم توجيهُه وتحذيره من تِلكم الجريمةِ التي يمارسها، وبيِّن له كتابَ الله وسنةَ رسوله، فعسى الله أن يجعلَ في سترك ورفقك سببًا يستحيي [منه] ويخجل، ثم يتوب إلى الله من خطئه.
من حقِّ المسلم عليك، عندما تعلم أنَّ شخصًا من المسلمين حجَر على بناته ومنعهنّ الزواج، وأراد بمنعهنّ من الزواج استغلالَ حقوقهنّ وأموالهن ومرتَّباتهن أو أراد أن يجعلهنّ سِلعةً يساوِم بها لأغراضه الخاصة، يردُّ الأكفاءَ طلبًا في صاحب مال ونحوه، فليكن موقفك منه موقفَ الناصح الموجِّه، المحذِّر له من تلك الخطيئة، المبيِّن له أن البناتِ أمانة في أعناق الأب، إذا تقدَّم إليه من يرضى خلقَه وأمانته فليتَّق الله وليزوِّج البنات، ولا يجعلهنّ للمصالح المادية أو نحو ذلك، فإن هذه أمانة لا ينجو منها إلا إذا سلَّمها للكفء الذي يغلب على ظنه أهليته لذلك.
أيها المسلم، عندما ترى المعاملاتِ السيئة عند أخيك، معاملاتٍ ربوية، ومعاملاتٍ فيها كذب وخداع وعدم مبالاة، فليكن موقفك منه النصيحة وتحذيره من الأموال المحرّمة، وأنه لا خيرَ فيها، وعواقبُها سيئة، وعواقبها فشل البركة والعذاب يوم القيامة.
وأخيرًا يا أخي، المؤمنُ مرآةٌ لأخيه، فالمرآة تعكس حالَ أخيك، فليكن حرصُك على هدايته واستقامته وبُعده عن المخالفات لتؤدِّي حقَّ الأخوة الإسلامية الصادقة.
أسأل الله لي ولكم العونَ والتسديد، إنه على كل شيء قدير.
يقول : ((المسلمُ أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يكذبه ولا يحقره ولا يخذله)) [1].
أخي المسلم، قد يضمُّك مجلسٌ ما ترى بعضَ مَن لا حياءَ عنده ينتهك أعراضَ المسلمين، ينتقِص من حُرمتهم، ويهتك أعراضهم، ويقولُ فيهم من الأكاذيب والأباطيل ما هم برآء منه، فإياك وإيّاك أن تسكتَ بلا إنكار، وإياك أن يمرَّ المجلسُ عليك وأنت ساكت، انهض وانصح الجالسين، وحذِّرهم من انتقاص حرمة المسلمين، فإنّ من نصر أخاه المسلمَ في موقفٍ يُنتقص من عِرضه، ويُنتهك من حرمته نصره الله في موضعٍ يحبّ نصرتَه فيه، ومن خذل أخاه المؤمنَ في موضعٍ يُنتقص من عِرضه ويُنتهك حرمته خذله الله في موضع يحبّ نصرتَه فيه، فانصر أخاك، ودافِع عن عِرضه، ولا تدع للسفهاء والأراذل أن يمتدّوا في أعراض الأمة، ويقولوا الأكاذيبَ، ويفتروا الأباطيل، ويقولوا ما ليس لهم به علم، فإنّ المسلمَ إذا أخذَ على يد السفهاء ولم يترك لهم المجال، يقولوا بلا علم، أخذ على أيديهم، وحذَّرهم من عذاب الله، وبيَّن لهم أن نجوى المسلمين خيرها ما كان معِينًا على البر والتقوى، لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114].
فكن ـ يا أخي المسلم ـ يقظًا عندما تُنتهَك أعراض المسلمين، دافِع عنها بقدرِ الاستطاعة، وقِف الموقفَ المحمود الذي تبتغي به وجهَ الله وترجو به ما عند الله.
وفَّق الله الجميع لكل خير، وجنّبنا وإياكم أسباب الشر والبلاء، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمد كما أمركم بذلك ربكم حيث يقول: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهمَّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في البر (2564) عن أبي هريرة رضي الله عنه وليس فيه: ((ولا يكذبه)) ، وهي زيادة عند الترمذي في البر (1927).
(1/3125)
بين المجازر والسياسة الاستيطانية
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
19/2/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عداوة الكفار للمسلمين. 2- المجازر الصهيونية في فلسطين. 3- حرب الإبادة. 4- ثبات الفلسطينيين واستبسالهم. 5- الهجمات الاستيطانية العدوانية. 6- أخلاق الإسلام الحربية. 7- خطر المخدرات والمسكرات على شباب فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة البقرة: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]، ويقول سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، أيها المرابطون في أرض الإسراء والمعراج، يصادف اليوم الجمعة ذكرى مجزرة دير ياسين التي وقعت يوم الجمعة في التاسع من شهر نيسان أبريل عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين، على يد عصابات الهاجانا الإرهابية، والتي ذهب ضحيتها العشرات من الرجال والنساء والأطفال، والأمر لم يقتصر على مجزرة دير ياسين فحسب، بل أعقبتها عشرات المجازر منذ عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين، بدءًا بمجازر الدوايمة والناقورة وقبية ونحالين وحسان وقلقيلية، مرورًا بمجازر صبرا وشاتيلا.
أما اليوم فإن أبطال هذه المجازر يعملون ما يعملون بالشعب الفلسطيني المرابط، الذي يتعرض لحرب إبادة عنصرية مبرمجة، بدعم مباشر من أمريكا راعية السلام كما تزعم وبتأييد دولي وصمت عربي، ومن هذه المجازر ما حصل في جنين القسام ونابلس جبل النار والشجاعية في غزة ورفح الباسلة، ثم استشهاد الشيخ المناضل المجاهد الشهيد أحمد ياسين رحمهم الله جميعًا.
وإن هذه الحرب تهدف إلى تثبيت الاحتلال وإضفاء الصفة الشرعية عليه ولقمع الشعب الفلسطيني المجاهد وإلصاق تهمة الإرهاب به، ثم يتحدثون عن إنهاء ما يسمى بدائرة العنف، لقد انقلبت المعايير والموازين، والويل للضعيف، فالضعيف في نظرهم هو إرهابي، والمعتدي ليس إرهابيًا، ولكنه يدافع عن نفسه حسب ادعائهم وزعمهم.
أيها المسلمون، أيها المرابطون في أرض الإسراء والمعراج، إن المجازر والحصارات الخانقة ضد أهل فلسطين لن تزيدهم إلا تصميمًا وإرادة، وذلك للوصول إلى حقهم السليب وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وإن أهل فلسطين لن يستسلموا، ولن يرفعوا الراية البيضاء، إنه شعب أبيّ لن تنكسر إرادته الإيمانية، وسيبقى رافعًا الراية الخضراء، هذا هو واجبهم الشرعي الديني، وما يمارس ضد الشعب الفلسطيني في فلسطين هو الذي يمارس ضد الشعب العراقي في العراق.
أيها المسلمون، لم يكتفِ المحتلون بارتكاب المجازر ضد شعبنا، بل استهدف الأرض والبيوت كما استهدف الإنسان، فبلادنا المباركة تعرضت ولا تزال تتعرض إلى هجمة استيطانية شرسة، فلا يخلو يوم إلا ونقرأ أو نسمع عن استيلاء على الأراضي وتجريف للمزروعات أو قطع للأشجار، بهدف إقامة المستعمرات على الأراضي المغتصبة، وبهدف شق الطرق الالتفافية وإقامة الجدار الفاصل العنصري، وما كانت المستعمرات أي: المستوطنات لتخرج إلى حيز التنفيذ لولا التعاون المستمر والوثيق بين إدارات وزارات الدفاع والمالية والإسكان الإسرائيلية، هذا ما ذكرته الصحف العبرية، وما يقام على الأرض المغتصبة يكون غير مشروع، وما بني على باطل فهو باطل.
أيها المسلمون، لقد أشرت في الخطبة السابقة قبل ثلاثة أسابيع إلى ما يقوم به سماسرة السوق من تسريب للبيوت وبخاصة في سلون، وقد حصل ما حذرنا منه حيث نشرت الصحف المحلية عن استيلاء المستوطنين قبل أيام على بيت مكون من ستة طوابق يقع في سلوان، وبالرغم من أن المحكمة الإسرائيلية قد قررت إعادة الساكنين العرب إلى هذا البيت، إلا أن الشرطة قد رفضت تنفيذ القرار وتحرس المستوطنين بالسلاح، وهكذا تقام البؤر الاستيطانية في مدينة القدس، وهناك بيوت أخرى معرضة للتسريب في سلوان وفي البلدة القديمة من مدينة القدس، وذلك بالتواطؤ مع السماسرة المجرمين، ومن بعض أصحاب البيوت ذوي الضمائر الفاسدة الرخيصة المنحرفة الخائنة، والجميع يعرف الفتاوى الشرعية التي صدرت عن علماء فلسطين في الثلاثينيات من القرن الماضي، والتي تنص على خروج هؤلاء الساقطين عن جماعة المسلمين، ولا تزال هذه الفتاوى قائمة ومؤيدة من جميع علماء فلسطين منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، والسعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه.
أيها المسلمون، إن المستعمرات كلها غير شرعية، فلا نعترف بمستوطنات شرعية ومستوطنات غير شرعية، لأن جميعها مقام على أراض مغتصبة سليبة، وهذه المستعمرات قد زاد عددها عن مائتي مستعمرة، مع الاستيلاء عن مساحات شاسعة زادت نسبتها عن 74 من أراضي الضفة الغربية، وعن 40 من أراضي قطاع غزة، بالإضافة إلى المساحات التي ابتلعها الحائط العنصري، فيكون مجموع نسبة ما صودر من الأراضي حوالي 90 من أراضي الضفة الغربية.
ولا يخفى أن البؤر الاستيطانية المنتشرة هنا وهناك تهدف إلى تمزيق الأراضي وعزل المدن والقرى والمخيمات والأرياف عن بعضها البعض، وتهدف محاصرة مدينة القدس من جميع الجهات، كل ذلك تحت غطاء السلام، فأين السلام المزعوم؟! وأين التعايش الوهمي بين الشعبين؟! وأين العدالة في التعامل؟! أين هذه الاعتداءات ـ يا مسلمون ـ من تعاليم ديننا الإسلامي العظيم ومن أخلاق رسولنا الأكرم الذي نهى عن قتل النساء والأطفال والمسنين، ونهى عن قطع الأشجار وهدم البيوت، كما أن الخليفة الأول أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: (لا تقتلن امرأة ولا صبيًا ولا كبيرًا هرِمًا، ولا تقطعن شجرة، ولا تخربن عامرًا)، ويقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدًا). فديننا الإسلامي العظيم لا يجيز نسف البيوت ولا حرق المزروعات ولا قطع الأشجار، لأنه دين العدالة والرحمة، دين الحضارة الإنسانية، لذا فقد انتشر هذا الدين العظيم في أرجاء المعمورة، وتقبلته الشعوب بالترحاب، ودخلت في دين الله أفواجًا.
أيها المسلمون، إن سياسة مصادرة الأراضي وسياسة القتل والبطش والاغتيال لا تكسب المحتلين حقًا لهم، وإن حقنا لن يضيع بالممارسات الاحتلالية الظالمة، فحقنا الشرعي في أرضنا ومقدساتنا واضح وضوح الشمس في رابعة النهار.
وإن هذه الديار المباركة المقدسة لا يسري عليها مرور الزمان مهما طال، فهي أرض وقفية، والسؤال: هل الذي يعترض على الظلم الذي يقع عليه يكون محرضًا ومتطرفًا؟! فأي شريعة يتهم فيها المعتدى عليه بالتحريض والتطرف؟! إنها شريعة الغاب، إنها قوانين قراقوشية غير حضارية، ما أنزل الله بها من سلطان، فلن نقبل بها، ولن نستسلم لها.
أيها المسلمون، تمسكوا بأراضيكم، حافظوا عليها، ازرعوها واستثمروها.
وتحية احترام وتقدير نوجهها من على منبر المسجد الأقصى المبارك لإخواننا المواطنين المرابطين في قرى فلسطين في بدو بيت دقو بيت سوريك والقبية وبيت لقيا بدرس ودير قديس، وفي سائر القرى والريف الفلسطيني، الذين يقفون في وجه الحائط الفاصل العنصري، مدافعين عن أراضيهم، ورحم الله شهداءكم وشفى جرحاكم.
كما يتوجب على أهالي مدينة القدس إشغال جميع البيوت الخالية من السكان، وإن أصابع الاتهام تتوجه للشخص الذي يترك بيته خاليًا، وكونوا على حذر من سماسرة السوق، وكونوا ـ أيها الإخوة ـ أوفياء للقدس والأقصى، لتنالوا ثواب المرابطة في هذه الديار المباركة المقدسة، جاء في الحديث النبوي الشريف: ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)) ، صدق رسول الله.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاة وسلام دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المصلون، يا أبناء بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، إن الحصار الذي أقامته سلطات الاحتلال حول مدينة القدس وحول الأقصى بخاصة، إنه حصار حرم مئات الآلاف من المسلمين من الصلاة اليوم في المسجد الأقصى المبارك، وإن عدد الشرطة وحرس الحدود الإسرائيليين يزيد على عدد المصلين الذين تمكنوا من الوصول إلى المسجد الأقصى، ونحن إذ نعلن استنكارنا ورفضنا لمثل هذه الإجراءات غير المبررة، وعلى كلٍّ فمثل هذه الإجراءات يؤكد بأن مدينة القدس هي مدينة محتلة.
يا أبناء بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، من رواسب الاحتلال في مدينة القدس انتشار المخدرات ورواجها بين الشباب والشابات، وبخاصة في سن المراهقة، ومن المؤسف والمؤلم أننا قد غفلنا عن متابعة موضوع المخدرات، وذلك بسبب الأحداث المتوالية على الساحة الفلسطينية وما يواجه المقدسات والأقصى من الأخطار، لا بد من الاهتمام بأبنائنا وبناتنا لنحميهم من غول المخدرات، فلا يجوز شرعًا السكوت عن تعاطي المخدرات، فالمخدرات عواقبها وخيمة لما يترتب عليها من جرائم لا أخلاقية، كالسرقة والزنا واللواط، ثم التجسس والجاسوسية وتسريب البيوت والإسقاط بقصد تقويض بنية المجتمع وضرب القيم الإسلامية، وهذا يؤثر تأثيرًا سلبيًا مباشرًا على نهضة المجتمع وإصلاحه، والمخفي أعظم وأعظم.
ألم تعلموا ـ يا مسلمون ـ بأن نسبة المتعاطين للمخدرات قد زادت في هذه الأيام عن 10 ؟! وإنها قد بدأت تنتشر في القرى أيضًا، لا أقول ذلك من قبيل التيئيس، وإنما للتنبيه من خطورة هذه المخدرات.
أيها المسلمون، لقد سبق ديننا الإسلامي العظيم غيره من القوانين الوضعية، وانفرد عن الديانات الأخرى في تحريم المخدرات زراعة أو تصنيعًا أو تجارة أو تعاطيا لها، وكل ما يتعلق بها، فقد نهى عنها رسولنا الأكرم ، فقد ثبت أن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها قالت: نهى رسول الله عن كل مسكر ومسَكر.
وأجمع الفقهاء وعلماء الأمة الإسلامية على تحريم الحشيشة تحريمًا قاطعًا، واعتبروها أشد من الخمر في التحريم، وذلك بسبب أضرارها وآثارها ونتائجها السلبية والمدمرة للإنسان وللمجتمع، وفي مقدمة العلماء الأجلاء الذين أفتوا بتحريم الحشيشة العالم المجاهد ابن تيمية وسلطان العلماء العز بن عبد السلام وابن قيم الجوزية وابن حجر العسقلاني وغيرهم، وكانت فتاواهم موضع إجماع لدى العلماء جميعهم دون مخالف، واستمر إجماع العلماء على تحريم الحشيشة ومشتقاتها حتى يومنا هذا.
أيها المسلمون، أيها الآباء، أيتها الأمهات، في هذه الأيام العصيبة المريرة عليكم واجبات ثقيلة وصعبة، وحتى تنجحوا في تربية أبنائكم وبناتكم، وحتى تحموهم من المخدرات والموبقات يتوجب عليكم إصلاح أنفسكم أولاً بالتربية الإسلامية والتمكن من الإيمان القويم، وذلك لتتمكنوا من تربية أولادكم تربية إيمانية، ولتحموهم من المسكرات والمخدرات، والله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]. وهل يعلم الآباء والأمهات أن الله عز وجل سائل كل منهم عن رعيته؟! يقول رسولنا الأكرم : ((كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)).
ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(1/3126)
خطبة استسقاء 11/2/1425هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, التوبة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
11/2/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الدعاء وشرط الاستجابة. 2- الافتقار إلى الله تعالى. 3- ضرورة التوبة. 4- سعة رحمة الله تعالى. 5- حاجة الناس إلى المطر. 6- سنة كونية شرعية. 7- دعاء وابتهال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيّها الناس، إنّكم قد شكوتُم إلى الله تعالى جدْبَ دياركم واستئخارَ المطرِ عن إبَّان زمانه عنكم، وقد أمرَكَم الله عزّ وجلّ بالدعاء، ووعدكم على ذلك الإجابة، فقال تبارك وتعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]. فاصدُقوا الله تعالى في إخلاص الدعاءِ وإظهار الفاقةِ والتضرُّع إلى الله عزّ وجل، ينجزْ لكم ربكم ما وعدكم، فإنه يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. شرَط الله عز وجلّ إجابةَ الدعاء من عباده إذا دَعوه بأن يكونوا مستجيبين لأمره، طائعين له تبارك وتعالى، ممتثلين أمرَه، مجتنبين نهيَه، فإنه تبارك وتعالى من استجاب له بطاعته استجاب الله له في دعائه.
أيّها الناس، إنَّ ربَّكم تبارك وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17].
إنَّكم مفتقرون إلى الله في كلِّ شيء، بحاجةٍ شديدة إلى ربّكم، فتضرّعوا إليه عزّ وجل، وتوبوا إليه تبارك وتعالى من كلِّ ذنب، فإنَّ التوبةَ أوجبها الله على كلِّ مسلم، ووعد على ذلك الفلاح، فقال تبارك وتعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
التوبة إلى الله في كلِّ وقت، وفي كل حال، التوبة إلى الله أن يداومَ على التوبة، وأن يخلصَ فيها، وأن يتوبَ إلى الله من كلِّ ذنب صغيرًا كان أو كبيرًا، فإنَّ التوبةَ مِن أحبِّ الأعمال إلى الله عز وجل.
عبادَ الله، إنّ اللهَ تبارك وتعالى ما أنزل بلاءً ولا أنزل شِدّة ولا ابتلى عبادَه ببليّة إلاَّ بذنوبٍ عملوها وبآثام اقترفوها، وما يعفو الله تبارك وتعالى عنه ويتجاوز أكثَر، قال تبارك وتعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]. فنسأل الله تبارك وتعالى الذي عفا عن الكثير أن يعفوَ عن القليل منّا ومن المسلمين، وأن يتوب علينا أجمعين.
عبادَ الله، إنَّ ربَّكم تبارك وتعالى يقول في كتابه: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما علِمت ذلك غيرَ المطر) [1].
وإن هذا المطرَ جعل الله عزّ وجلّ الحياةَ متوقّفةً عليه، من جميع مَن خلق الله على وجه هذه الأرض، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يغيثَنا، وأن يتوبَ علينا، والله عز وجل يقول: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، ويقول تبارك وتعالى في سنّة الله التي أجراها في عباده عن نوح عليه الصلاة والسلام: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12]، وقال عن هود عليه الصلاة والسلام: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ [هود:52].
إن ثوابَ الطاعة يعجِّله الله عزّ وجلّ في الدنيا مع ما يدَّخره من عظيمِ الثواب في الآخرة، وإنَّ مِن عقوبة المعصية أن تعجَّل في الدنيا ما يُدَّخر لصاحبها في الآخرة.
وإنّه ما وقع بلاءٌ إلاَّ بذنب، وما رُفع إلا بتوبة، فتوبوا إلى الله أيها الناس. وإنّ الذنبَ قد يصيب صاحبَه، وقد يصيب الناسَ جميعًا، وقد يصيب شرُّه البهائمَ ومَن على وجه الأرض، قال الله تبارك وتعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر:45]، ويقول تبارك وتعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
وإنَّ من سنّةِ الله تبارك وحكمته أنَّ هذا الإنسانَ إذا صلح عمله فيما بينه وبين الله وقام بحقِّ الله وحقوق العباد أصلحَ الله شأنه كلَّه، قال تبارك وتعالى: وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [الجن:16، 17].
فأصلِحوا ما بينكم وبين ربّكم يا عباد الله، وأدّوا المظالم إلى أهلها، وإيّاكم والظلمَ لأنفسكم أو الظلمَ لغيركم، فإنّ الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، وما كان بينَك وبينَ ربِّك ـ أيّها الإنسان ـ فإنّ الله عفوّ كريم إذا كنت على توحيد صادقٍ وإخلاص، فإنّ الله يعفو ويتكرَّم، وما بينك وبين الخلق فإنّه لا يتجاوز الله عنه حتى تؤدَّى المظالم إلى أهلها.
عبادَ الله، إنّه جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال: قال رسول الله : ((يا معشرَ المهاجرين، خمسٌ بخمس، وأعوذ بالله أن تدركوهن، ما ظهرتِ الفاحشةُ في قومٍ حتى يُعلنوا بها إلاَّ ظهر فيهم الطاعون والأوجاع والأمراضُ التي لم تكن في أسلافهم، وما نقصُوا المكيالَ والميزان إلاَّ أُخذوا بالسنين وشدّة المؤنة وجَور السلطان، وما منعوا زكاةَ أموالهم إلاَّ حُبس عنهم القطر من السماء، وما لم تحكُم أئمتهم بكتاب الله إلاَّ جعل الله بأسَهم بينهم، وما نقضوا عهدَ الله وعهد رسوله إلاّ سلَّط الله عليهم عدوًّا من سِوى أنفسهم فأخذ بعضَ ما في أيديهم)) [2].
عباد الله، توبُوا إلى الله جميعًا، وتوجَّهوا إليه واستغفِروه، وأديموا الدعاءَ لأنفسِكم والدعاءَ للمسلمين، فإنّ الله تبارك وتعالى ذمَّ قومًا ابتلاهم وذمّ قومًا أنزل عليهم الشدائدَ فلم يتضرَّعوا إلى الله ولم يرجِعوا إليه، فقال تبارك وتعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76].
إنّ ربَّنا يريد منا طاعةً لا تَنفعه، وإنما تنفعنا، ويحبّ الله تبارك وتعالى أن نظهرَ إليه الافتقارَ والتضرع فإننا بأشدِّ الاضطرار إلى ربِّنا، لا نستغني عن الله طرفةَ عين ولا أقلَّ من ذلك، ومن استغنى عن الله طرفةَ عين فقد كفر.
أيها الناس، نسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبَّل منا ومنكم.
اللهمّ إنا نتوجَّه إليك يا ربَّنا في عليائك وفوقَ سمائك لا إله إلاَّ أنت، اللهمّ إنا نتوجه إليك أنت الذي استويتَ على العرش لا إله إلا أنت، نسألك اللهمّ أن تغيثنا.
اللهمّ أغثنا، اللهمّ أغثنا، اللهمّ أغثنا، اللهمّ أغثنا، اللهمّ أغثنا غيثًا عاجلاً هنيئًا مريئًا غدَقًا سحًّا عامَّا مطبقا مجلِّلا نافعًا غير ضارّ، اللهمّ سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق، اللهمَّ أسقنا غيثًا عاجلاً غير رائث يا ربَّ العالمين، اللهمّ تحيي به البلاد، وتغيث به العباد يا رب العالمين.
اللهمّ أسقِ بلادك وبهائمَك، اللهمّ أسقِ بلادك وبهائمك، وأسقِ عبادك يا رب العالمين، وأسقِ كل دابة إنك يا رب العالمين أرحم الراحمين، ربّ المستضعفين لا إله إلا أنت.
اللهمّ بارك لنا في هذا الغيثِ يا ربّ العالمين، اللهمّ اجعله بركةً وغيثًا نافعًا وبلاغًا لنا للحاضر والباد، وبلاغًا إلى حين يا رب العالمين، اللهم غيثًا مغيثًا.
اللهمّ هذا دعاؤنا، اللهمّ وعليك الإجابة، أنت الله لا إله إلا أنت، وعدتنا بذلك.
توجَّهوا إلى الله ـ أيها المسلمون ـ بإخلاص، وأطيلوا الدعاءَ لله ربّ العالمين، وأقلبُوا لباسكم تأسِّيًا بسنة رسول الله [3].
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، والحمد لله رب العالمين.
[1] انظر : تفسير البغوي (7/375).
[2] أخرجه ابن ماجه في الفتن (4019)، والبيهقي في الشعب (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[3] سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الجمعة (6069)، ومسلم في الاستسقاء (1011) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3127)
وقفة محاسبة
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, التوبة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
29/12/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغاية من خلق الثقلين. 2- الموت حق. 3- قيام الحجة ببعثة النبي. 4- إحصاء أعمال بني آدم. 5- أسئلة لا بد منها. 6- سرعة انقضاء العمار. 7- ضرورة المحاسبة. 8- كلمة للشباب المسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، اتقوا ربَّكم ـ يا عباد الله ـ تقوًى تكون سببًا لامتثال أوامر ربِّكم واجتناب نواهيه، اتقوا ربَّكم تقوًى تنالون بها السعادةَ في الدنيا والآخرة.
أيّها المسلم، إنَّ الله جل جلاله خلق الجنَّ والإنس لغايةٍ عظيمة وحِكمةٍ جليلة ألا وهي عبادتُه جل وعلا، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. ما خَلَقَنا عبثًا ولا باطلاً ولعِبًا، ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ [ص:27]، وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الدخان:38، 39].
أيّها المسلم، إنَّ الله جل وعلا لمّا أهبط أبانا آدم إلى الأرض قال له: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [البقرة:36]، فأخبره ربُّه أن بقاءه في الدنيا ليس إلى الأبد، ولكن لوقتٍ محدَّد قدّره ربّنا جل وعلا.
كتب جلّ وعلا الفناءَ على كلِّ الخلق، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26، 27]، وقال لنبيه : وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34]، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].
أيها المسلم، أنت في هذه الدنيا لم تُخلَق عبثًا ولم تُترك سُدىً، أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36]، أُرسل إلينا رسول ليقيمَ علينا حجةَ الله، وليهديَنا إلى طريق الله المستقيم، ويحذِّرنا من طريق المغضوب عليهم والضّالين، إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً [المزمل:15].
بلَّغ هذا الرسولُ رسالةَ ربِّه، وأدَّى الأمانةَ التي ائتمنه الله عليها بأمر الله له: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67].
هذا النبيّ الكريم أرسله الله رحمةً للعالمين، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. لا طريق يقرِّبنا إلى الله إلا بينه لنا وأمرنا بسلوكه، ولا طريقَ يباعدنا عن الله إلاَّ بينه لنا وحذَّرنا من سلوكه، يقول : ((ما بَعث الله من نبيٍّ إلاَّ كان حقًّا عليه أن يدلَّ أمّتَه على ما يعلمه لهم من خير، ويحذِّرهم عمّا يعلمه لهم من الشرّ)) [1]. وحقًّا إنّ محمّدًا دلَّنا على الخير كلِّه، وحذَّرنا من الشرّ كلِّه، تركنا على المحجّة البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك.
أيها المسلم، نحن في هذه الدنيا مُحصًى علينا أقوالنا وأعمالُنا، فأعمالنا مكتوبة وأقوالنا مسجَّلة، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الإنفطار:10-12]، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]. أعمالنا في هذه الدنيا محصاةٌ علينا وسنقف عليها يوم القيامة، يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6]. أعمالٌ نعملها، وبطول الزمان ننساها وتغيب عنَّا، ولكنَّ الله عالم بها ومحصيها علينا، وسنقف جميعًا يوم القيامة على كلِّ أعمالنا، وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13، 14]، كتابٌ مسجَّلٌ فيه كلُّ الأعمال قليلِها وجليلها.
أيّها المسلم، إنه كتابٌ لا تستطيع إنكارَه ولا جحودَ ما فيه، ولو حاولتَ أنطقَ الله الجوارحَ فشهدت عليك بكلِّ الأعمال، الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65]، يعودُ الإنسان إلى أعضائه ليعاتبها: لِم شهِدتم علينا؟ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [فصلت:21].
أيها المسلم، سنُسأل عن شبابنا: فيم أبليناه؟ عن هذه القوّة قوّة الشباب: أين مضت؟ هل مضت في خير أم دونه؟ وسنسأل عن الأعمار عمومًا: كيف أفنيناها؟ وسنسأَل عن أموالنا التي بأيدينا: أين جمعناها؟ وكيف أنفقناها؟ وسنسأل عن عِلمنا: ماذا عملنا فيه؟
أيها المسلم، سؤالٌ من العليم الخبير، يسألك عن شبابك: فيم أمضيت هذا الشباب؟ هل مضى في خير وعمل صالح، أم مضى في سفَه وباطل ولغوٍ وانحراف عن الهدى؟ وعن هذا العُمُر كلّه: ماذا قضيته فيه؟ عن المال طرُق اكتسابِه ووسائل إنفاقه، وعن العلم: ماذا عملتَ فيه؟ إنَّها أسئلة لا بدَّ من جوابها، فأعدَّ لهذا السؤال جوابًا.
أيّها المسلم، إنَّ اغتنامَ الشباب قبل الهرم واغتنامَ الحياة قبل الموت واغتنامَ الفراغ قبل الشُّغل أمرٌ مطلوب من العبد، ليتزوَّد من حياته أعمالاً صالحة تكونُ زادًا له يومَ قدومه على الله، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]. إنّ الإفلاسَ حقًّا من خسِر نفسه يوم القيامة، إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].
أيها المسلم، تمرُّ بك الأعوامُ عامًا بعد عام، والشهور شهرًا بعد شهر، والأيامُ يومًا بعد يوم، وكلُّ هذه تقترض من عُمُرك، وتبعدك من الدنيا مرحلة، وتقرِّبك إلى الآخرة مرحلة، فالسعيدُ من اغتنمَ مرورَ الأعوام والشهور والأيام في الطاعة، ونافسَ في صالح العمل، وحاسَب نفسه في الدنيا حسابًا دقيقًا، ليهونَ الحساب عليه يوم القيامة، في الأثر: (حاسِبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهَّبوا ليوم العرض الأكبر على الله) [2] ، ((الكيس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجزُ من أعطى نفسَه مُناها وتمنّى على الله الأماني)) [3].
أيّها المسلم، فاحرص على إنقاذ نفسك، وحاسِبها في الدنيا حسابًا عظيمًا؛ لتنجوَ يوم القيامة، ولا تكون نادمًا في ذلك اليوم حين ترى فوزَ الفائزين وسعادة السعداء ونجاةَ الناجين، وتذكر قول الله: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:56-58]. هكذا حال المفرِّط؛ إذا رأى حقيقةَ الأمر يومَ القيامة قال: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ ، لم يكن موقنًا بذلك اليوم حقَّ اليقين، كما قال جل وعلا: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:53]، والمؤمنون إذا رأوا وعدَ الله لهم وتحقُّقَ ذلك قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:74].
أيّها المسلم، هذه دار الدنيا دار العمل، وغدًا دار الجزاء، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31]. هي دار العمل، فاعمَل فيها صالحًا لغدِك، وتزوَّد فيها من صالح العمل قبل أن تندمَ على ذلك التفريط وذلك الإهمال.
أيها المسلم، بلَّغك الله رشدَك، وأبقاك لأعوام عديدة، حقّ لك أن تديمَ التفكر والاعتبار، ((أعذَر الله لعبدٍ بلَّغه الستين)) [4] ، أي: ما جعل له بعد بلوغها من غُدر، فقد مضى الشباب ومضت القوّة، ودخل عهد الكبر، فليتَّق الله وليحسِن العملَ قبل أن يلقى الله.
أيّها المسلم، إنّ محاسبةَ النفس أمرٌ مطلوب منَّا، كلٌّ يحاسب نفسَه، فإنّه لن ينضَرَّ سواك ولن ينفعَك غيرك، فحاسب نفسك في الدنيا حسابَ من يوقن بلقاء الله، حاسِب نفسَك في أحوالك كلِّها: ماذا قدّمت لدين الإسلام؟ هل قدَّمت للأمّة خيرًا؟ وهل كنت داعيًا إلى الخير؟ وهل فيك غَيرة على دين الله؟ وهل فيك تعظيم لمحارم الله وتعظيم لأوامر الله وقيامٌ بالواجب؟ حاسِب نفسَك عن هذه الفرائض الخمس؛ الصلوات الخمس ما حالك وشأنك معها؟ هل كنتَ من المحافظين لها المؤدِّين لها في أوقاتها الحريصين على إكمالها وإتمامها بإتمام وضوئها وإقامة أركانها وواجباتها وتكميل ذلك بالإتيان بمستحبّاتها؟ فالصلاةُ مكيالٌ، فمَن وفّى وُفِّي له، ومن طفَّف فقد علِمتم ما قال الله في المطفِّفين. حاسب نفسك على هذه الصلوات: هل كنت محافظًا عليها حقًّا أو كنت مضيِّعًا ومفرِّطًا؟ فتدارك النفسَ قبل يوم القيامة. حاسب نفسَك عن زكاةِ مالك: هل أديتَ الزكاة حقَّ الأداء، أم كنت مفرِّطًا ومهمِلاً ومتكاسلاً؟ حاسب نفسك عن صيامك وحجِّك.
حاسب نفسك وقِف مع نفسك: هل أنت بارٌّ بالوالدين؟ هل الوالدان راضيان عنك؟ هل قمتَ بحقِّهما خيرَ قيام؟ هل أحسنتَ صحبتهما؟ وهل قمت بخدمتهما؟ وهل رعيتَ حقَّهما عند كبرهما، أم كنت من المضيِّعين والمهملين؟
حاسب نفسك في بيعك وشرائك: هل أنت من الصادقين في ذلك، أم أنت من الغاشّين الخائنين؟ حاسب نفسَك عن مسؤوليّتك التي أنيطت بك: هل أدّيتها على الوجه المرضيّ، أم كنت من الخائنين لأمانتك؟ حاسِب نفسك في الأموال التي أودِعت عندك والأموال التي لك التصرُّف فيها: ما موقفك؟ هل كان حسابك نزيهًا، أو كان حسابك غِشًّا وخيانة؟ هل أديتَ إلى الناس حقوقهم المطلوبةَ وضبطتَها وقمتَ بها أم كنت من المهملين؟
شباب الإسلام، إننا يجب أن نتفكَّر ونعتبر، وهذا اليوم آخرُ عام أربع وعشرين وأربع مائة وألف، وغدًا أول العام الهجري الخامس والعشرين بعد الأربع مائة وألف.
شبابَ الإسلام، هل فكَّرنا وتدبَّرنا في هذا العام المنصرِم، وكم حمل في طيَّاته من أحداثٍ وأمور، وكيفَ جرى في هذه المدّة من أحداثٍ وأمور وتحدِّيات للإسلام وأهله؟ هل فكَّرنا سويًّا في واقع أمرنا؟ وهل عُدنا إلى رشدنا؟ وهل تبصَّرنا في واقع أمرنا، وعلمنا أن الأمور التي انخدع بها من انخَدع بها من بعض شباب الأمة أنها أمور مخالفة للشرع؟ فهل استيقظ أبناؤنا؟ وهل عاد الجميع إلى رشدهم، وسلكوا الطريقَ المستقيم، ورأوا ماذا سبَّبت الفتنة والاضطرابات والقلاقل في الأمم حتى ضاعت مصالح الأمم وضاعت مصالحُ الأفراد، وأصبحت البلاد نهبًا لكلّ قويّ؟ هل فكَّر الشبابُ المسلم وهو يغترّ وينخدع بما يخدع به بعض ضعفاء البصائر وضعفاء العِلم والبصيرة ومن لُبِّس الأمر عليهم فسَعوا إلى إضلال بعض شبابِ الأمة، وزيّنوا لهم الباطل وحسَّنوا لهم الشر، حتى ظنوا أن انطلاقهم إسلاميّ، والله يعلم أن ذلك خلافٌ للحق والهدى.
فيا شباب المسلمين، تبصَّروا في واقعكم، وعودوا إلى رُشدكم، وخذوا عبرةً وعِظة عن واقع كثير من عالمنا الإسلاميّ، كيف أحدثت لهم تلك الفتنُ مصائبَ في أنفسهم واضطرابًا في أحوالهم ونقصًا في مواردهم وحصول البلاء والفتن، وتدخُّل الأيدي الخبيثة لتدمِّر الأمة وتقضي على كيانها.
إنّ الواجبَ على كلِّ مسلم أن يحاسبَ نفسَه، ويعودَ إلى عقله، ويفكِّر قليلاً ليعلم أن هذه التصرُّفات السيئة لا تخدم الإسلامَ ومصلحة الأمة، ولكنها تخدم أعداءَ الإسلام وأهدافَهم القريبة والبعيدة.
فليعُد شبابنا إلى رشدهم، وليفكِّروا في واقع أمرهم، وليحاسبوا أنفسَهم، وعلى كلّ إنسان أن لا ينخَدع ويغترّ، وعلى كلِّ من يحاول الشرَّ أن يعودَ إلى عقله ورشده، وينظر: هل سبيلُه الذي هو يسعى فيه سبيلُ خير أم سبيل شر؟ كم ينخدع الإنسان، وكم يغرَّر به، وكم يغيبُ عنه فكره حتى يظنَّ السبيلَ السيّئ سبيلَ خير، وتلك عقوبة من الله لمن خرج عن الطريق المستقيم، سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146]. هكذا حال من ضلَّ عن الهدى، يرى سبيلَ الخير والهدى سبيلَ غواية، ويرى سبيلَ الضلال والبعد عن الهدى يراه سبيلَ رُشد، هذا عملٌ سيّئ، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر:8].
لنأخذ عبرةً وعِظة، ولنستقبل عامَنا الجديدَ إن شاء الله بعملٍ صالح وتَوبة صادقة وتعاوُن وتكاتُف واتحاد على الخير ونبذ أسباب الفرقة والاختلاف وعدم الانصياع إلى دعاة الفتنة والتضليل، الذين لا غَرضَ لهم سِوى أن يُحدثوا في الأمة زعازِعَ وقلاقل، وإلى أن يحدِثوا بين صفوفها بلبلةً واضطرابًا، وإلى أن يحدثوا في الأمة خوفًا ورعبًا.
فالأمة إذا عادت إلى رُشدها وتفكَّرت في واقعها وأن هذا المجتمعَ المسلم إذ يعيش في أمن ورغدٍ واستقرار ونعمة إنما أسبابه التمسُّك بهذه الشريعة والعملُ بها والثباتُ عليها، فلنستقِم على طاعةِ ربنا، ولننبذ كلَّ الآراء المضلِّلة، وليكن موقفُنا وموقفَ التعاون وشدِّ الأزر والارتباط الوثيق، حتى يسلَم مجتمعُنا المسلم من هذه البلابل وهذه الفتن والأضرار.
إن هذه الفتنَ لا تحقِّق هدفًا، ولا تخدم الأمةَ في الحاضر والمستقبل، لكنها شرّ وبلاء لمن تدبَّر وتعقَّل.
فلنتَّقِ الله في عامنا الجديد، ولنستقبله بتوبةٍ نصوح وجدٍّ في الطاعة وإقبال على الخير، ونسيان كلِّ الأمور السيئة والإعراض عنها، والأخذ بما يُسبِّب أمنَ الأمة واطمئنانها، ولنأخذ عبرةً من الآخرين، ولا نكن شماتةً لأعدائنا، فالأمة مطلوبٌ منها أن تكونَ يدًا واحدة وقلبًا واحدًا في التعاون على الخير، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المجادلة:9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإمارة (1844) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بنحوه.
[2] روي هذا الأثر عن عمر رضي الله عنه من طرق لا تثبت: فأخرجه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (ص29–30)، وأحمد في الزهد (ص120)، وأبو نعيم في الحلية (1/52) من طريق جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، عنه رضي الله عنه، وثابت لم يدرك عمر. وعند ابن أبي شيبة في المصنف (13/270): عن جعفر بن برقان، عن رجل لم يسم، عن عمر. وأخرجه ابن المبارك في الزهد (ص103) عن مالك بن مغول بلاغا عن عمر. وأخرجه مالك في الموطأ (2/111 ـ رواية أبي مصعب ـ) بسند منقطع بين يحيى بن سعيد وعمر. وعلقه الترمذي في صفة القيامة (2459) بصيغة التمريض. وقد ضعف الأثر الألباني في السلسلة الضعيفة (1201).
[3] أخرجه أحمد (4/124)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2459)، وابن ماجه في الزهد، باب: ذكر الموت والاستعداد له (4260)، والبزار (3489)، والطبراني في الكبير (7/281، 284)، وأبو نعيم في الحلية (1/267، 8/174)، والبيهقي في الكبرى (3/369) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه نحوه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه الحاكم (191، 7639)، وتعقبه الذهبي في الموضع الأول بأن فيه أبا بكر بن أبي مريم وهو ضعيف، ولذا ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (5319).
[4] أخرجه البخاري في الرقاق (6419) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه: ((أعذر الله إلى امرئ أخّر أجله حتى بلغه ستين سنة)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، يقول نبيُّكم : ((كلُّ الناس يغدو، فبائع نفسَه فمعتقها أو موبقها)) [1].
كلٌّ يسعى، ولكن أحد يسعى في خلاصِ نفسه وفكاكها من عذاب الله والصعودِ بها إلى أعلى الدرجات، وآخر يسعَى في إذلال نفسِه وإيباقها في عذاب الله، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9، 10].
فيا أخي، كن ممَّن يسعى في فكاك نفسه؛ بطاعة ربِّك والاستقامة على هذا الدين والثبات عليه، وتنفيذ الأوامر واجتناب النواهي والقيام بذلك خيرَ قيام، بالتناصُح والتعاون على الخير والقيام بالواجب ونصيحةِ المسلمين وتوجيههم والأخذ على أيدي سفهائهم وتبصيرهم بالحقّ وتحذيرهم من سُبُل الردى، فإن هذا أمرٌ مطلوب من المسلمين، فإنّ المسلمين جميعًا مطالبون بأن يكونوا دعاةً إلى الخير، يحذِّرون من الشرّ وينهون عنه، ويأخذون على أيدي سفهائهم، ويحذِّرونهم من دعاةِ الضلال وممّن يحاولون تفتيتَ شمل الأمة وتفريقَ كلمتها، ويبيّنوا أن هذه أخطار عظيمة وجرائم كبيرة، نسأل الله أن يجمعَ القلوب على طاعته، وأن يعيذنا جميعًا من نزغات الشيطان.
واعملوا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبّي الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمِك وجودك وإحسانك يا أرحمَ الراحمين.
اللهمّ أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحِّدين، واجعل اللهمّ هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهمّ آمنا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاةَ أمرنا، اللهم وفقهم لما فيه صلاحُ الإسلام والمسلمين، اللهم وفّق ولاةَ أمر المسلمين لما يرضيك إنك على كلّ شيء قدير.
اللهمّ وفِّق إمامنا لما يرضيك، اللهمّ انصر به دينك وأعلِ به كلمتك، وأره الحق حقًّا وارزقه اتباعه، وأره الباطل باطلاً وارزقه اجتنابه، اللهمّ دُلَّه على كلّ عمل تحبه وترضاه، اللهم بارك له في عمره وعمله، وألبسه لباسَ الصحة والسلامة والعافية، اللهمّ وفق وليَّ عهده لما يرضيك، وسدّده في أقواله وأعماله، ووفّق النائب الثاني، واجعلهم جميعًا أعوانًا على البر والتقوى، إنك على كل شيء قدير.
اللهم أهلّ علينا هذا العامَ بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، وأعذنا فيه من مضلاّت الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهمّ وفقنا فيه لصالح الأعمال، اللهمّ وفقنا للتوبة النصوح والاستقامة على الخير وتبديل السيئات بالحسنات، إنك على كل شيء قدير.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، فاذكروا الله العظيمَ الجليل يذكركم، واشكروه على عموم نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
[1] أخرجه مسلم في الطهارة (223) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
(1/3128)
الإسلام وموقف أعدائه منه
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, قضايا دعوية
عبد الله بن عبيد الله بن عطاء
المدينة المنورة
19/2/1425
جامع الكويتي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الإسلام. 2- حال الناس قبل الإسلام. 3- إشراق نور الإسلام على البشرية. 4- اغتياظ الأعداء من انتشار الإسلام في الأرض. 5- كيد الكفار بالإسلام والمسلمين. 6- العاقبة للإسلام والمسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على نعمه الظاهرة والباطنة، فنعمه سبحانه وتعالى كثيرة لا تحصى، يقول جل ذكره: وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].
ومن أجلّ هذه النعم وأكبرها نعمة الإسلام، كما أن من نعمه جل وعلا علينا أن جعلنا من أمة خير الأنام، نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، الذي بعثه ربه بعد أن عم الفساد وانتشر الظلم بين العباد، وأضاع الناس الطريق، وغيروا دين إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، واتخذوا آلهة من دون الله جل وعلا، فعبدوها وقدسوها وهي لا تملك لهم ضرا ونفعا، وانتظم عقد الأصنام حول بيت الله الحرام بمكة المكرمة، وانعدم الأمن بينهم، وفي وسط هذا الظلام الدامس أشرق النور الرباني، وانبثق الفجر الإلهي ببعثة سيد البشر وأفضل من وطئ الثرى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، بعثه الله لينير للأمة طريقها، ويقودها لربها، يحمل لها كل خير، ويزيح عنها كل شر، فأدى الرسالة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، واختار الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أعوانا صدّقوه وناصروه، أبرّ الناس قلوبا، وأعلمهم بهذا الدين، جاهدوا في الله حق جهاده، وحملوا أعباء نشر الإسلام فشرّقوا وغرّبوا، مبتغين بذلك وجه الله جل وعلا، حتى أظهره الله على كل الأديان، فكان منهم القادة والفاتحون الذين فتحوا البلاد والأمصار، وأرسَوا قواعد العدل بين الناس، وحكموا فيهم بما أنزل الله جل وعلا، فدانت لهم القياصرة، وذلت لهم الأكاسرة، وملؤوا الدنيا نورا وضياءً.
هذا هو دين الإسلام الذي أكمله ربّ العزة والجلال حيث قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
أحبتي في الله، لقد اغتاظ أعداء الإسلام قديما من انتشار المد الإسلامي، وساءهم أن يندفع الناس زرافات وفرادى للدخول تحت مظلة هذا الدين العظيم، فتحالفوا مع الشيطان للنيل منه، مرة بالقدح والذمّ بنبي الله محمد ، ومرة بالتشكيك في شرائعه، ومرة بالطعن في أحكامه، فلما فشل مخططهم وظهرت سوءاتهم واتضحت أهدافهم حاولوا تفريق المسلمين وبثّ العداوات بينهم وتمزيقهم فرقا وشيعا وأحزابا كل حزب بما لديهم فرحون، فظهر المنافقون الذين أظهروا للمسلمين الإسلام وأبطنوا الكفر، وظهر الخوارج الذين نقضوا كثيرا من عرى الإسلام، وظهرت فرق أخرى كالجهمية والمعتزلة، لكن كل محاولات هذه الفرق باءت بالفشل، ولم ينل أصحابها إلا التعب والكلل، وبقيت راية الإسلام عالية خفاقة لا يصل إليها الأقزام، ولا زالت بعض هذه الفرق وغيرها حتى يومنا هذا تحاول أن تنفث سمومها، ولكنها بإذن الله مدحورة، ودعوة الإسلام منصورة، وقد أخبرنا رسول الله أن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهذه الفرقة هي الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، ولا تزال بحمد الله موجودة وستستمر بإذن الله إلى قيام الساعة، كما أخبر بذلك من لا ينطق عن الهوى حيث قال: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)).
إنّ أعداء الإسلام لا زالوا يكيدون للإسلام وأهله، ولن يتوقفوا عن خططهم هذه ما دامت الحياة، فالصراع بين الحق والباطل ماض إلى قيام الساعة، وأنتم تتابعون هذه الأيام الحملة التي تقودها الصهيونية الحاقدة ومن وراءها على إخوة لنا في الدين والعقيدة في فلسطين، ساموهم سوء العذاب، لم يرحموا طفلا صغيرا، ولم يوقروا شيخا كبيرا، تساندهم في عدوانهم دول كبرى، وتزوّدهم بالسلاح والعتاد الذي يوجّه لصدور النساء والأطفال والرجال العزّل، ثم يطالبونهم بضبط النفس، ويبررون تصرفات القردة والخنازير بأنها دفاع عن النفس. وحق لهم أن يفعلوا ذلك بعد أن انشغل المسلمون اليوم بأمور أخرى أكثر من انشغالهم بدينهم وعقيدتهم.
أيها المسلمون، إن أعداء الإسلام لا يفترون ولا يكلّون ولا يملّون، فإذا سنحت لهم فرصة استغلوها، وبدؤوا النيل من المسلمين، وهذا ليس بغريب عليهم أبدا، وها هم إخواننا المسلمون يحاصرون حصارا محكما، وتصبّ عليهم القنابل صبّا، تدمّر مساجدهم، ويقتل الأبرياء، وما زال أعداء الله يتشدّقون بحرب الإرهاب!
إن هذا الوضع الذي يمر به الإسلام والمسلمون هذه الأيام قد أخبر عنه رسولنا حين قال: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كلّ أفق كما تداعى الآكلة على قصعتها)) ، قال: قلنا: يا رسول الله، أمِن قلة بنا يومئذ؟! قال: ((أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن)) ، قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: ((حب الحياة وكراهية الموت)).
فها هو الإسلام اليوم يحارب من كل مكان، وها هم المسلمون يقتلون ويشرّدون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:32، 33].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على خير البرية أجمعين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن من الواجب علينا أن نؤمن أولا أن النصر للإسلام عاجلا أو آجلا، وأن هذه الفترة ما هي إلا سحابة صيف ستمر وتنتهي، والغلبة للإسلام، أخبر بذلك نبينا محمد بقوله: ((إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يبقى على الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل)).
وهذا يتطلب منا أن نقيم الإسلام في أنفسنا، ونطبقه في حياتنا. لننتصر على أنفسنا أولا، ثم ننشد النصر على الأعداء ثانيا. كما أن علينا أن نحفظ ألسنتنا من القيل والقال وكثرة الكلام فيما لا فائدة منه، وأن نحرص على اجتماع المسلمين لا افتراقهم، وأن لا نعير الشائعات أذنا صاغية، فالغرض منها تفريق الصفوف وإيغار الصدور وإصابة الأمة في مقتل.
أيها المسلمون، إن استحال عونكم لإخوانكم المسلمين في كل مكان فلا تعجزوا عن الدعاء لهم، ادعوا الله أن يحفظهم وينصرهم، وأن يخذل عوهم. الجؤوا إليه سبحانه طلبا للنصر، ألحوا على الله في الدعاء بصدق ويقين فالله قريب مجيب، وأمره سبحانه بين الكاف والنون.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحمي بلاد المسلمين أجمعين، وأن يرد كيد الحاقدين إلى نحورهم، إنه سميع مجيب.
ثم صلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية أجمعين...
(1/3129)
جهاد واستشهاد
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
القتال والجهاد, جرائم وحوادث
عبد الله بن عبيد الله بن عطاء
المدينة المنورة
12/2/1425
المالحة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظماء الإسلام. 2- سيد العظماء. 3- جهاد الصحابة رضي الله عنهم. 4- فاجعة مقتل الشيخ أحمد ياسين. 5- سبب طغيان اليهود. 6- طريق النصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فتقواه دافع للمداومة على خير الأعمال، وصارف عن التسويف والإهمال، وبها يحصل المسلم على خير منال.
أيها المسلمون، عظماء الأمة نجومُها الساطعة ومناراتها السامقة، يعرفهم الجميع ولو لم يحصل بينهم لقاء، ويُرهبون بمواقفهم الأعداء، ثابتون على المبدأ. إن كثر مناصروهم زادوا ثباتا، وإن قلّوا دفعهم ذلك للمضي في طريقهم بإصرار، هؤلاء هم مصابيح الدجى، وأهل الرأي السديد والحِجا.
وتاريخنا الإسلامي يحفل بكثير من العظماء، فأعظم العظماء الذي تترجم سيرته ثباتا على الحقّ لا يعرف الخور وإباءً وشموخا لا يؤمن بالذلة والمسكنة سيد الشرفاء نبينا محمد.
لقد اجتمعت قريش يوما بعمه أبي طالب لتطلب منه كفّ ابن أخيه عن نشر دين الإسلام والتوقف عن النيل من آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، فعرض الموضوع على رسول الله قائلا: يا ابن أخي، إنّ قومك قد جاؤوني فقالوا كذا وكذا، فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول الله أن عمه خاذله، وأنه ضعف عن نصرته، فقال: ((يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه)). يقول هذا وليس معه جيش ينصره، ولا قوات تحرسه، لكنها الثقة بالله جل وعلا.
ولما قدم المدينة المنورة ووضع اللبنة الأولى لدولة الإسلام جاوره اليهود فيها، وهم سفلة أنذال وسفهاء ضلال، أهل غدر ومكيدة، وأحفاد للقردة والخنازير، يرون في الإسلام غولا مخيفا يرعبهم بزحفه على الأرض، فكادوا لنبينا المؤامرات المتعددة، لكن الله حفظه وحماه، وفضح صنيعهم، وكشف مخططاتهم.
فمرة ألجؤوه إلى جدار ليلقوا عليه صخرة كبيرة، لكن الله أخبره بأمرهم، فقام في الوقت المناسب. ومرة أخرى سحره ساحر منهم، لكن الله عافاه وسلمه. وقدمت إحدى نسائهم لحما مسموما لكن اللحم أخبره ـ بقدرة الله ـ أنه مسموم، فلفظه عليه الصلاة والسلام من فمه، لكن أثره بقي في جسده الشريف، حتى عانى منه بأبي هو وأمي سكرات الموت. ومرة واجهوه مباشرة فقالوا: يا محمد، لا يغرنك من قومكَ ما لقيت، فإن قريشا قوم ليسوا بأهل حرب ـ يعنون قريشا في بدر حينما هزمهم النبي ـ، ولو لقيتنا لعلمت أننا نحن الناس.
كل هذه المواقف لم تزده عليه الصلاة والسلام إلا ثباتا على الحق، واعتزازا بدين الله، وسعيا لإبلاغه للناس كافة.
ومن بعده حرص الصحابة رضوان الله عليهم على التمسك بهديه، وحملوا لواء الرسالة للناس، لا يضرهم من خذلهم، ولا يخيفهم من جمع لهم، فمنهم من لقي وجه ربه راضيا مرضيا، ومنهم من أكرمه الله بفتح مبين ونصر عظيم.
وسيبقى قطار العظماء الشرفاء والدعاة النبلاء يعج بهم حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
إذا مات فينا سيد قام سيد قؤول لما قال الكرام فعول
أحبتي في الله، مع مطلع شهر صفر الحالي لطِمت أمة الإسلام على جبينها لطمة قوية، تضاف لتلك اللطمات المتكررة من أعداء الإسلام، لطمت ـ وما أكثر ما لطمت ـ لكنها بكل أسف لم تع الدرس حتى الآن، وكأنها قد اعتادت على هذه الأمور فأصبحت باردة الدم. خطب جلل، ومأساة مُرّة مرَّ الحنظل، حدثت في أول هذا الشهر، حين قام أبناء القردة والخنازير بشن حملة شرسة ضد رجل مقعد مشلول الأطراف، لا يملك أن يغطي نفسه، ليقتلوه بدم بارد برود الثلج. لقد اغتالوا الشيخ أحمد ياسين رحمه الله، الرجل الذي ولد مهاجرا، وعاش طريدا، ومات شهيدا بإذن الله. شيخ يجلس على كرسي متحرك، لكنه يحرّك الرجال، ويغيض الصهاينة وأعوانهم. قتلوه بعد أن أدى صلاة الفجر في جماعة المسلمين.
هؤلاء الأوغاد الذين أساؤوا يوم علموا أن الأمة في سباتها غارقة، وعلى بياناتها الاستنكارية عاكفة، واجهوا شيخا جاوز الستين، على كرسي متحرك، بطائرات الأباتشي، التي يصنعها لهم أصدقاؤهم.
وبعد أن تأكد الطيار اللعين ورؤساؤه الخنازير وأنصارهم الوقحين شربوا نخب الفرح والانتصار، ورقصوا على رائحة الدماء الزكية، وهم يعلمون علم اليقين أن أمة الإسلام مشغولة حتى الثمالة بدعارة ستار وأكاديميات الفسق والعار. ولزيادة النكال بنا وليضحكوا علينا أكثر فقد صرحوا جهارا نهارا أن مسلسل القتل هذا لن ينتهي، وأن كل من يريدون قتله سيقتلوه. أما كبيرهم الذي علمهم السحر فقد أعلن للملأ بكل صفاقة وقلة حياء أن قتل الشيخ ياسين من ضمن الحملة على الإرهاب!! آه ما أحر الألم!! آه ما أقسى القهر!! اللهم نشكو إليك ضعفنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس، إنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
يا أحمدُ الياسين إن ودعتنا فلقد تركت الصدق والإيمانا
أنا إن بكيت فإنما أبكي على مليارنا لما غدوا قطعانا
أبكي على هذا الشتات لأمتي أبكي الخلاف المرَّ والأضغانا
أبكي ولي أملٌ كبير أن أرى في أمتي من يكسر الأوثانا
كرسيك المتحرك اختصر المدى وطوى بك الآفاق والأزمانا
علمته معنى الإباء فلم يكن مثل الكراسي الراجفات هوانا
معك استلذ الموتَ صار وفاؤه مثلا وصار إباؤه عنوانا
قتلوا الشيخ، وهم يظنون أن أرحام الأمهات قد عقمت أن تنجب مثله. قتلوه وهم يظنون أن قتله سيقضي على الجهاد في فلسطين. قتلوه وما دروا أن الأمة ستصبح كلها أحمد ياسين. ما علم هؤلاء السفلة من يهود ونصارى أن قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار.
رحم الله الشيخ ومن معه، ونسأل الله تعالى أن يرزقه منازل الشهداء، وأن يكرمه بصحبة خير الأنبياء، نبينا محمد في جنات الفردوس.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على قضائه، والشكر له على نعمائه، وأصلي وأسلم على خير أنبيائه وسيد أوليائه، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فيا عباد الله، فما كان لليهود أن يفعلوا ما فعلوا ـ وهم أهل تاريخ في الغدر والخيانة ـ لو وجدوا الأمة موحّدة أمامهم، ما كان لهم أن يعيثوا في أرض الإسراء والمعراج فسادا لو تمسكت الأمة الإسلامية بدينها.
إن كنا نريد النصر ـ عباد الله ـ على الأعداء فلنعد إلى ربنا جل وعلا، ولنكن متبعين لسنة سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد.
إن النصر لا يكون بالكلام، ولا يتحقق بالأحلام، لكنه نصر لله أولا في النفوس، وإيمان بالله في القلوب، فالله غالب على أمره ولو كره الكافرون.
إن هذه الشرذمة القذرة ومناصريهم السفلة لن يخرجهم من أولى القبلتين إلا الجهاد في سبيل الله الذي ما تركته أمة إلا ذلت. إن هؤلاء اليهود قد طغوا وبغوا وتجبروا وتكبروا، لكن الله قادر على قطع شرهم، وسوف يؤول أمرهم إلى زوال، وستصير دولتهم للاضمحلال، لكن ذلك لن يتحقق إلا إن غيرنا ما بأنفسنا وعدنا إلى الله عودة صادقة، عندها سيتحقق وعد الله عز وجل.
فاتقوا الله عباد الله، وانصروا الله في أنفسكم، وناصروا إخوانكم المسلمين بكل ما تستطيعون، ومن لم يجد شيئا فلا يتأخر عن الدعاء لهم بالنصر والتمكين، فالدعاء سلاح مضاء وسيف بتار.
ثم صلوا ـ رحمني الله وإياكم ـ على سيد الشهداء وإمام البشرية جمعاء نبينا محمد...
(1/3130)
قتل النفس المؤمنة وحرمان النساء من الميراث
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الفرائض والوصايا, الكبائر والمعاصي, قضايا الأسرة
زهير بن حسن حميدات
الخليل
23/7/1424
عبد الرحمن بن عوف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الإساءة إلى المؤمنين. 2- كثرة الاعتداءات في هذا العصر. 3- وعيد الاعتداء على المؤمنين. 4- ذم لعن المسلم وهجره وتفسيقه ورميه بالكفر بغير حق. 5- ديوان الظلم. 6- تحريم الأنفس المعصومة. 7- جريمة حرمان النساء من الميراث.
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الإسلام، اتقوا الله، واحذروا الإساءة إلى المؤمنين، إلا بحقّ ظاهر قام عليه الدليل البيِّن من الكتاب والسنة والمأثور عن السلف الصالح من هذه الأمة؛ ليكون لكم برهانًا قاطعًا وحجة دافعة حين تختصمون عند ربكم، فتؤدّى الحقوق إلى أهلها، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، وتؤخذ المظالم من الظالمين فترد إلى أهلها في يوم لا درهم فيه ولا دينار، بل إن كان للظالم عمل صالح أُخذ من حسناته بقدر مظلمته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار.
أيها المسلمون، لقد كثر اعتداء الناس على بعضهم، وانتشرت بينهم الفتن، فكثرت الخصومات، وعمّ الظلم، فهذا يسبُّ جاره، وذاك يضرب أخاه، وأولئك يلعنون بعضهم، دون أن يلتفت أحدهم إلى عظم معصيته، بل أصبحوا لا يكترثون إذا ما قتل أحدُهم الآخر، فانتشر القتل بين المسلمين، ومنه ما حدث في بعض القرى المجاورة قبل أيام، وما حدث في مدينة الخليل قبل أسابيع، وما حدث في هذا البلد في السنين الماضية، وكأن قتل النفس المؤمنة عندهم أصبح عبادة يتقربون بها إلى الله عز وجل.
عباد الله، إن أذية المؤمنين بغير حق من أشد المظالم وأعظم المآثم التي توعد الله أهلها بالوعيد الأكيد، وتهددهم بالعذاب الشديد، في مثل قولِه سبحانه وتعالى: وَ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بِغَيْرِ مَا ?كْتَسَبُواْ فَقَدِ ?حْتَمَلُواْ بُهْتَـ?نًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب:58]، وقولِه سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ)) رواه البخاري، وقال رسول الله : ((مَنْ صَلَّى صَلاةَ الصُّبْحِ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ، فَلا يَطْلُبَنَّكُمُ اللَّهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ يُدْرِكْهُ ثُمَّ يَكُبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)) رواه مسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: ((اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ)) متفق عليه.
أيها المسلمون، يا أحباب محمد ، وإن لعن المسلم وهجره وتفسيقه ورميه بالكفر بغير حق ظلم وعدوان، وهو كقتله، قال النبي : ((وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ)) متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَعَنَ شَيْئًا صَعِدَتِ اللَّعْنَةُ إِلَى السَّمَاءِ، فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا، ثُمَّ تَهْبِطُ إِلَى الأَرْضِ، فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا، ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالاً، فَإِذَا لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا رَجَعَتْ إِلَى الَّذِي لُعِنَ، فَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلاً وَإِلا رَجَعَتْ إِلَى قَائِلِهَا)) رواه أبو داود، وقال النبي : ((سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)) متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالْفُسُوقِ وَلا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إِلا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ)) رواه البخاري، وقال : ((الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالا فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ)) رواه مسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ)) رواه أحمد وأبو داود، وقال أيضا: ((لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ)) رواه أبو داود.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا الظلم؛ فإنه حسرة وندامة، وإن الظلم ظلمات يوم القيامة، ومن ذلك التعدي عليهم بالضرب والشتم واللعن والهجر وغيرها من المحرمات، فكل هذه من الظلمات التي لا تكفرها الصلاة ولا الصدقة ولا الصوم، بل لا يُغفر للظالم حتى يَغفر له المظلوم، فإن ديوان الظلم من الدواوين التي لا يترك الله منها شيئا، بل يؤاخذ بها، إلا إذا تنازل عنها أصحابها. فكم من شخص يظن أنه كثير الحسنات، ثم يأتي يوم القيامة مفلسا بسبب ما تحمل من الظلمات، قال النبي : ((لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ)) رواه مسلم.
أمة الإسلام، يا أمة محمد ، من المعلوم أن شريعة الإسلام جاءت بحفظ الضرورات الخمس، وحرمت الاعتداء عليها، وهي الدين والنفس والمال والعرض والعقل. ولا يختلف المسلمون في تحريم الاعتداء على الأنفس المعصومة، والأنفس المعصومة في دين الإسلام لا يجوز الاعتداء عليها وقتلها بغير حق، ومن فعل ذلك فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب العظام، يقول الله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وقال تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، وقال سبحانه وتعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ عُدْو?نًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30].
وصح عن النبي أنه قال: ((لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)) رواه البخاري، وقال عليه الصلاة والسلام في خطبة الوداع: ((فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلا فَلا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلالاً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلا لِيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ)) رواه البخاري، وقال النبي : (( إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ)) ، فقيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟! قَالَ: ((إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ)) رواه البخاري، وقال عليه الصلاة والسلام: (( مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)) رواه ابن ماجة.
ويقول النبي : (( لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ)) متفق عليه، ويقول : (( أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّ الإِسْلامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ)) رواه الشيخان، وقال عليه الصلاة والسلام: (( لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ )) رواه الترمذي والنسائي. ونظر ابن عمر رضي الله عنهما يوما إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك).
عباد الله، يا أحباب محمد ، كلّ هذه الأدلة وغيرها تدلّ على عِظم حُرمة دم المرء المسلم، وتحريم قتله لأي سبب من الأسباب، إلا ما دلت عليه النصوص الشرعية. فلا يحل لأحد أن يعتدي على مسلم بغير حق، يقول أُسَامَةُ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَضِي اللَّه عَنْهما: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ، فَقَالَ لِي: ((يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟!)) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا ـ أي: قالها ليتقي سيوفنا ـ، فقَالَ النَّبِيُّ : ((أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟!)) قال أُسامة بن زيد: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. متفق عليه.
وإن هذا ـ يا عباد الله ـ ليدل أعظم الدلالة على حرمة الدماء، فهذا رجل مشرك، وهم مجاهدون في ساحة القتال، لما ظفروا به وتمكنوا منه نطق بالتوحيد، فتأول أسامة قتله، على أنه ما قالها إلا ليكفوا عن قتله، ولم يقبل النبي عذر أسامة وتأويله، فكيف سيقبل بعذر من قتل نفسا مؤمنة لأنها طالبت بحقها في الميراث، أو لعذر دنيوي تافه، لا يقبله البشر؟! فكيف سيقبله رب البشر؟!
وإذا كان هذا ما قاله الرسول لمن قتل مشركا اتقى السيف بلا إله إلا الله، فماذا يقول لمن يَقتل مسلما مؤمنا مصليا مزكيا ذاكرا عابدا لله منقادا لأمره؟! بل قل: ماذا يقول الرسول لمن قتل نفسا مؤمنة لا ذنب لها إلا أنها طالبت بحقها الذي شرعه الله لها؟! فأين الرحمة أيها المسلمون؟! أين الخوف من الله يا عباد الله؟!
لماذا ينسى هؤلاء القتلة ذلك اليوم العظيم الذي قال فيه رب العالمين واصفا حال المجرم: يَوَدُّ ?لْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَـ?حِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ ?لَّتِى تُؤوِيهِ وَمَن فِى ?لأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ [المعارج:11-14]؟!
عباد الله، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلاّ على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، أرسله إلى جميع الثقلين بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واستن بسنته، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
وبعد: أيها المسلمون، وإذا ما عدنا إلى آخر جريمة قتلٍ حدثت، وبحثنا في أسبابها، وجدنا سبب المشكلة ـ كما سمعنا ـ مطالبة المرأة لأخيها بحقها في الميراث، مثلها مثل أكثر النساء في مجتمعنا، محرومة من حقها في تركة أبيها، فما كان من أخيها إلا أن ضربها وقتل ابنها، فأُخرِج من بلده، وحُرق بيته، ثم هُدم، وسيدفع دية هي أضعاف نصيب أخته من الميراث، ولن يهنأ في حياته على شيء لخوفه من الانتقام. وكم ألفا في مجتمعنا من مثل هذا.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ ?لْو?لِد?نِ وَ?لأقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ ?لْو?لِد?نِ وَ?لأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا [النساء:7]، وقال تعالى: لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا ?كْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا ? كْتَسَبْنَ [النساء:32] ، وقال تعالى: وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِ يمٌ [النساء:176]، وقال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ [النساء:11].
عباد الله، إننا بعد الذي سمعناه ندرك أن الله الذي يأمر بالعدل أعطى كل ذي حق حقه، سواء كان رجلاً أم امرأة، وإن الواجب علينا أن نعطي الحقوق لأهلها، وأن ندرك أن الله محاسبنا يوم القيامة، رجالاً ونساءً، وأنه لا يرضى أن يعتدي أحد على أحد، بل لا يرضى أن يعتدي إنسان على حيوان، بل لا يرضى أن يعتدي حيوان على حيوان، فقد جاء في الحديث الصحيح أن الله يقتص يوم القيامة للشاة الجلحاء من الشاة القرناء.
وبعد هذا ـ أيها الإخوة ـ نقول لكل رجل يظلم أخته باحتقارها وازدرائها وحرمانها من حقها: إنه إنسان ضحل الفكر، بعيد عن الحق، يأخذه الشيطان إلى طريق الجاهلية ومفاهيم الجاهلية، وعليه أن يعلم أنه بظلمه لأخته أو ابنته، عليه أن يعلم أنه ربما قد يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وحج فيجعلها الله هباء منثورًا، بسبب ظلمه وطغيانه، والله عز وجل يقول: وَ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤ ْمِنَـ?تِ بِغَيْرِ مَا ?كْتَسَبُواْ فَقَدِ ?حْتَمَلُواْ بُهْتَـ? نًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب:58].
إن الإساءة إلى المرأة إساءة عظيمة، لماذا؟ لأنها ضعيفة، ولأنها لا تستطيع أن تردّ كيد الرجل أو تتظلم أو تجهر بالشكوى، ولا أن تخرج فتسيح في الأرض، لأنها عِرض، إنها امرأة، لذلك كان ظلمها أشد الظلم، وكان إلحاق الضرر بها مصيبة أكبر من كل المصائب، فلتتقوا الله أيها الرجال، فإن كانت تلك المرأة أمًا فالجنة تحت قدميها، وإن كانت أختًا فدخول الجنة موقوف على الإحسان إليها، وإن كانت بنتًا فهذا حقها، فليؤدِّ إليها حقها، وإلا فقد ظلمها وأساء إليها، والويل له من ربه.
ونقول لهؤلاء الذين يحرمون النساء من حقهن في الميراث: تفكروا فيمن كان قبلكم، كم عمروا على هذه الدنيا، وأين هم الآن؟! اعتبروا بمن كان قبلكم، بماذا سينفعك الولد إذا تواريت التراب؟! ماذا ستفعل بتلك الدونومات التي تركتها ولأختك حق فيها، وستطوق بها يوم القيامة إن شاء الله تعالى؟! ماذا ستقول لرب العالمين إذا سألك: لماذا حرمت أختك من حقها؟! تذكر ذلك اليوم الذي تقول فيه الرحم لربها: يا رب، فلان ظلمني، فلان قطعني، فيقول رب العالمين: أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَذَاكِ لَكِ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((اقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:22-24] )).
من منكم سيخلد في الدنيا؟! من منكم يأمن عذاب الله؟! لماذا ينسى هؤلاء الظلمة ذلك اليوم العظيم، ذلك اليوم الذي يَفِرُّ فيه ?لْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ، لِكُلّ ?مْرِئ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ؟!
ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ وَ?خْشَوْاْ يَوْمًا لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [لقمان:33] ، وقال تعالى : حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100]، وقال تعالى : وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـ?لِحًا غَيْرَ ?لَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ ?لنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:37].
(1/3131)