حكم إهباط آدم إلى الأرض
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
12/3/1412
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سجود الملائكة للمخلوق العالم (آدم) وتكبر إبليس. 2- إبليس يشن الحرب على بني آدم. 3- حكم إهباط آدم إلى الأرض. 4- عبر من قصة آدم مع إبليس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الإخوة المسلمون، إن الله جلت قدرته بعد ما أخبر الملائكة قائلاً لهم: إِنّي جَاعِلٌ فِى ?لارْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ?لدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، ولكي يثبت لهم بأن آدم يتميز بميزة عنهم وَعَلَّمَ ءادَمَ ?لاسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ?لْمَلَـ?ئِكَةِ [البقرة:31]، فقال لهم وهو العليم بهم وبضعفهم وبخصائصهم: أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [البقرة:31]، ووقفوا أمام هذا السؤال مبهوتين فعرفوا ضعفهم وأنهم ليسوا بقادرين على الذي يقدر عليه هذا المخلوق الجديد، فاعترفوا وقالوا: سُبْحَـ?نَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ ?لْعَلِيمُ ?لْحَكِيمُ وبعدها: قَالَ يَاءادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ ?لسَّمَـ?وَاتِ وَ?لأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:33]، وتكريماً لهذا المخلوق الجديد، نادى الله بالملائكة وكان الأمر شاملاً للشيطان اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين، ويسأل الله جل جلاله الشيطان عن امتناعه عن السجود قال له: مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف:12]، فانبجست عيون الحقد والكبر من أغوار نفسه فرد على الله خالقه بكل جرأة ووقاحة: أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [الأعراف:12]، وهل يرضى الله عز وجل أن ينازعه أحد في كبريائه وهو القائل على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: ((العز إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني في واحد منهما فقد عذبته)) فقال له: فَ?هْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَ?خْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ?لصَّـ?غِرِينَ [الأعراف:13]، ولكن هل يصمت عدو الله أمام هذا ويقف مكتوف الأيدي وآدم يتمتع هو وزوجته بالجنة، لا فلا بد من الانتقام من ذلك المخلوق الذي كان سبباً في طرده وراح يوسوس لهما لكي يزحزحهما مما كانا فيه، وقام يدليهما رويداً رويداً بغرور، حتى وصل الدلو إلى القاع الذي يريد، النتيجة أن عصيا أمر ربهما، فناداهما ربهما: أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ?لشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ [الأعراف:22]، ولكن ماذا يفعلان بعد أن عصيا ربهما، وما المصير الذي ينتظرهما؟ ولم يكن أنسب من أن يعترفا بذنبهما ويطلبا من مولاهما العفو فقالا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الأعراف:23]، وقبل أن يأمرهم الله بالهبوط إلى الأرض قال عدو الله طالباً من الله أن يؤجله فَأَنظِرْنِى إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر:36]، ويطلب منه الله النظرة إلى يوم البعث كي يمكن أكبر وقت يستطيع فيه أن يجذب بني آدم بتزيينه، ويرمي بهم في جهنم، فهو لا يرضى بوقت قصير يجذب به القليل، إنما يدعوه حقده إلى أن يطلب من الله النظرة إلى يوم البعث، فهو لا يرضى أن يكون لوحده بجهنم كما أنه لا يرضى بأن يكون مع عدد قليل، بل لا بد من أمم تكون معه من سلالة عدوه الذي كان سبباً في طرده، ولكن الله يرد عليه قائلا: فَإِنَّكَ مِنَ ?لْمُنظَرِينَ إِلَى? يَوْمِ ?لْوَقْتِ ?لْمَعْلُومِ [الحجر:37، 38]، وما أن إذن له بالبقاء حتى قام يسرد على الله بكل وقاحة وحقد، دون استحياء من الله ولا خوف، خطته لإضلال البشرية قائلاً: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِر?طَكَ ?لْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـ?نِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـ?كِرِينَ [الأعراف:16، 17]، إنه سيدخل على ابن آدم من كل مكان ومن كل اتجاه، ليصهره في بوتقة الضلال، ويشاء الله أن يهبطوا فيها جميعاً ويبدأ الصراع بين عدو الله وآدم ويعلنها عدو الله حرباً لا هوادة فيها، ويضع عدة الحرب ويلبس لباس المعركة ولا ينزعه حتى اليوم المعلوم، حرب شاملة تسير على خطة متشعبة ويقوم بتنفيذها جيوش الباطل في كل مكان بقيادة إبليس، حرب الهدف منها إطفاء نور الله وإلقاء بني آدم في جهنم، وها هم الآلاف المؤلفة يتساقطون أمام إغواء الشيطان ويخرون في وحل الضلال، وها هي جيوش الشيطان تسير وكل يوم ينضم إليها الكثير من بني آدم بسبب إحكام إبليس تنفيذ مخططه بالإغواء هذا ملخص سريع لقصة آدم مع الشيطان واهباطه إلى الأرض.
أيها المسلمون، استطاع الشيطان أن يخدع أبينا آدم، فأكل من الشجرة المحرمة عليه، وكان ذلك سبباً في إهباطه إلى الأرض، ولا شك أن المسلم يتمنى أن لو بقي آدم عليه السلام في الجنة، لتكون ذريته من بعده هناك، لكن لحكم أرادها الله عز وجل، شاء وقضى أن يحصل هذا الأمر، وله سبحانه الحكمة البالغة، ولله الأمر من قبل ومن بعد، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
فنقول أيها الإخوة، إن من وراء إهباط آدم من الجنة حكم كثيرة، منها، أن الله عز وجل أراد أن يذيقه وولده من نصب الدنيا، وغمومها وهمومها وأوصالها، ما يعظم به عندهم مقدار دخولهم إليها في الدار الآخرة، فإن الشيء أحياناً لا يعرف إلا بضده، ولو تربوا في دار النعيم لم يعرفوا قدرها.
نعم أيها الإخوة، فإن بني آدم، لو تربوا في الجنة، ما عرفوا قدرها، وهذا حال كثير من أبناءنا في هذا الزمان، فإن الغالب أنهم تربوا في ترف ونعيم، لذا تجدهم لا يعرفون قدر هذه النعمة، ولا يشكرونها حق شكرها، نجد الشاب يبلغ من العمر العشرين أو فوق العشرين، ولا يستطيع والده الاعتماد عليه، لماذا، لأنه تربى في نعمة زائدة، ورفاهية مفرطة، فلنحذر هذا؟ ولنحاول أن نعود أبناءنا على خشونة الحياة شيئاً ما، لا كل ما طلبوا وجدوا. فربما يأتي اليوم الذي يطلبون فيه الضروريات فلا يجدون، فكيف يقاومون، وكيف يتحملون وقتئذ.
حكمة أخرى من إهباط آدم من الجنة، هو أنه سبحانه وتعالى، له الأسماء الحسنى، فمن أسمائه الغفور الرحيم العفو الحليم الخافض الرافع المعز المذل المحيي المميت الوارث الصبور، ولابد من ظهور آثار هذه الأسماء، ما اقتضت حكمته سبحانه أن ينزل آدم وذريته داراً يظهر عليهم فيها أثر أسمائه الحسنى، فيغفر فيها لمن يشاء ويرحم من يشاء ويخفض من يشاء ويرفع من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء وينتقم ممن يشاء ويعطي ويمنع إلى غير ذلك من ظهور أثر أسمائه وصفاته، ولم يكن لأثر هذه الأسماء أن تظهرهم في الجنة.
ومن الحكم أيضاً، أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، والأرض فيها الطيب والخبيث، والسهل والحزن، والكريم واللئيم، والعادل والظالم، فعلم سبحانه أن في ظهره من لا يصلح لمساكنته في داره، فأنزله إلى دار استخرج فيها الطيب والخبيث من صلبه، ثم ميزهم سبحانه بدارين، فجعل الطيبين أهل جواره ومساكنته في داره، وجعل الخبيث أهل دار الشقاء دار الخبثاء قال تعالى: لِيَمِيزَ ?للَّهُ ?لْخَبِيثَ مِنَ ?لطَّيّبِ وَيَجْعَلَ ?لْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى? بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأنفال:37]، فلما علم سبحانه أن في ذريته من ليس بأهل لمجاورته أنزلهم داراً استخرج منها أولئك وألحقهم بالدار التي هم لها أهل. حكمة بالغة، ومشيئة نافذة، ذلك تقدير العزيز العليم، فاحرص أخي المسلم، أن تكون من الطيبين الكرماء، العادلين في أقوالهم وأفعالهم المؤدين لحقوق الله، وحقوق عباد الله لتعود إلى دار الكرامة، وابتعد، واحذر أن تكون من الخبثاء، الذين اللؤم طبعهم، وظلم الناس هوايتهم، وأكل حقوق عباد الله مهنتهم، والشر وظيفتهم. فمن كان من هذا الصنف فلا يلومن إلا نفسه وَيَجْعَلَ ?لْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى? بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْخَـ?سِرُونَ.
أيها المسلمون، ومن الحكم أيضاً، أن الله سبحانه جعل الجنة دار جزاء وثواب، وقسم منازلها بين أهلها على قدر أعمالهم، وعلى هذا خلقها سبحانه لما له في ذلك من الحكمة التى اقتضتها أسماؤه وصفاته، فإن الجنة درجات، بعضها فوق بعض، وبين الدرجتين كما بين السماء والأرض، وحكمة الرب سبحانه مقتضية لعمارة هذه الدرجات كلها، وإنها تعمر ويقع التفاوت فيها بحسب الأعمال. كما قال غير واحد من السلف، ينجون من النار بعفو الله ومغفرته، ويدخلون الجنة بفضله ونعمته، ويتقاسمون المنازل بحسب أعمالهم.
لذا كان من الحكمة أن ينزل بنو آدم إلى الأرض، إلى دار يتنافسون فيها بالأعمال الصالحة، ثم يوم القيامة، إذا دخلوا الجنة بفضل الله عليهم، نزل كل منزلته، ووضع كل في مكانته ودرجته حسب أعماله التي عملها في الدنيا. وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ?لْمُتَنَـ?فِسُونَ [المطففين:26]. فاجتهد أخي المسلم بالإكثار من الأعمال الصالحة، يرفع درجتك في الجنة.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإنه من المهم جداً عند الإنسان أن يعرف تاريخه، والذي لا يهتم بتاريخ ما مضى ويحاول أن يستفيد منه، فإنه يتعب ويواجه المشاكل والمصاعب في مواجهة مستقبله.
وإن من تاريخ الإنسان الماضي، الذي لابد أن يفهمه ويعرفه جيداً، قصة آدم مع الشيطان فإن تاريخ البشرية تبدأ من ذلك الزمان، إن قصة آدم مع الشيطان يحدد للبشر مبدأهم ومنتهاهم ودورهم في الأرض وخطة سيرهم فيها، والعقبات التي تقابلهم في أثناء رحلتهم وطريقة تجنب هذه العقبات وتخطيها.
أيها المسلمون، تعرضنا لبعض الحكم التي تجلت في إهباط آدم عليه السلام إلى الأرض، وقصته مع إبليس وهناك من القضايا الأخرى المهمة، التي لابد أن لا نغفلها ونحن نسترجع هذه القصة.
منها:
خطورة المعصية وما يترتب عليها من نتائج، آدم عليه السلام أيها الإخوة، لم يخالف أمر ربه إلا في قضية واحدة، وآدم لم يعص الله إلا في مسألة واحدة لو عرضت علينا، لرأينا أنها أمر يسير وتافه. لكن القضية ليست كذلك. القضية أنها معصية، ومخالفة لأمر المولى جل وعلا. وهي الأكل من الشجرة.
ثم تأملوا رحمكم الله ما ترتب على هذه المخالفة، ترتب عليها إنزاله وإهباطه إلى الأرض، بعد أن كان في الجنة، وهذه شملته وذريته من بعده.
فلنحذر من المعاصي أيها الإخوة، فإن شأنها عظيم، وخطورتها ليست سهلة، لا تهاونوا في مخالفة أمر الله عز وجل. إذا كان مخالفة واحدة من آدم عليه السلام ترتب عليه ما ترتب، ماذا نقول نحن، الله المستعان نرتكب الكبائر تلو الكبائر، ونعب من الصغائر عباً، فنسأل الله عز وجل أن يرحمنا برحمته.
قضية أخرى يا عباد الله، لا تقل خطورة عن سابقتها، ألا وهي التكبر على طاعة الله إبليس عندما أمر بالسجود لآدم، عصى أمر ربه خالف تكبراً وأبدى وجهة نظر تخالف ما أمر به الله، أو بعبارة أخرى الحكم في أمر من الأمور بغير ما أنزل الله به من تعاليم، الله أمره بالسجود، لكن إبليس لم يحكم ولم يطبق ما أمر الله به، وأبدى وجهة نظر مخالفة لحكم الله، وهذه هي التي سماها الله كفراً بالنسبة لإبليس. وكفراً كذلك بالنسبة للإنسان الذي يقع في ذات ما وقع به إبليس، فلا يحكم بما أنزل الله عليه. ولا يحكم بما أمره الله به، فيخالف الله تكبراً على طاعته أو يبدي وجهة نظر له تخالف ما أمر به الله أو يحكم في أمر من الأمور بغير ما أنزل الله، لأنه لا يعتبر أن ما أنزل الله واجب التنفيذ. قال الله تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [المائدة:44]، وقال سبحانه: أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
إضافة إلى أن التكبر في ذاته كبيرة من الكبائر، وقد صح عن رسولنا صلى الله عليه وسلم قوله: ((بأنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من الكبر)).
(1/2953)
حمى الوادي المتصدع
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
2/7/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الكوارث قد تكون ابتلاءً وقد تكون عقوبة. 2- أسباب معاقبة الأمم بالكوارث الكونية. 3-
صور من الكوارث التي أصابت المسلمين في تاريخهم. 4- الابتلاء بالأمراض والأسقام وما فيه
من الكفارات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، حمى الوادي المتصدع، حديث المجالس والمنتديات وسائر وسائل الإعلام هذه الأيام، وكيف لا يكون حديث المجالس، وقد مات عدد غير قليل من المسلمين بسبب هذا المرض، تذكر بعض المصادر أنها بالمئات ووصل إلى أماكن غير منطقة جازان، وسجلت حالات في بعض مناطق المملكة وبالمناسبة فإن هذه التسمية نسبة إلى منطقة تسمى الوادي المتصدع في كينيا وهي المنطقة التي اكتشف فيها الفيروس أول مرة عام 1930م. وهو مرض قاتل، عافانا الله وإياكم منه.
عباد الله، إن حصول مثل هذه الكوارث، إما أن تكون عقوبة من الله، ونحن لا نجزم بذلك، بل نقول قد تكون عقوبة بسبب أفعال العباد، وقد تكون ابتلاءً من الله لمن حل بهم هذه المرض تكفيراً لسيئاتهم ورفعةً في درجاتهم، نسأل الله تعالى أن تكون كذلك.
فإن كانت الأولى وهي أنها عقوبة من الله ونسأل الله تعالى أن لا تكون: فإن الله تعالى يغار على دينه، ومن غيرته على دينه أنه يعاقب المخالفين والعاصين والمتمردين، يعاقبهم بأنواع من العقوبات ويسلط عليهم بعض جنوده، ومن جنود الله البعوض الناقل لهذا المرض وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى? لِلْبَشَرِ [المدثر:31].
لكنك قد تسأل وتقول ولماذا يعاقب الله بعض المجتمعات بمثل هذه الأمراض؟ فالجواب أن للعقوباتِ أسباباً كثيرة، ورد ذكرُ بعضهِا في الكتاب والسنَّة، وجامعُها المعاصي والذنوب، والتكذيب والإعراض.
فمن أسبابِ العقوباتِ المدمرة، والفواجعِ المهلكة، والأمراض المخوفة: إقصاءُ الشريعة عن الحكمِ والتشريع، أو تطبيقُها على أضيقِ نطاق، مع المنةِ والأذى، والله يتوعدُ الأمة، إن هي فعلتْ ذلك بالخزيِ والنكالِ في الحياةِ الدنيا، ولعذابُ الآخرةِ أشدُ وأبقى قال الله تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ?لْكِتَـ?بِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذ?لِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يُرَدُّونَ إِلَى? أَشَدّ ?لّعَذَابِ وَمَا ?للَّهُ بِغَـ?فِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].
ومن أسبابِ العقوبات في الدنيا قبلَ الآخرة: إشاعةُ الفاحشة في الذين آمنوا، وفي ذلك يقولُ ربنا جل جلاله: إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النور:19]، ومن إشاعةِ الفاحشة، الدعوةُ للاختلاط ونزعِ الحجاب، وعرضُ الفساد والفنِ الرخيص، وبثُ السمومِ والأفكارِ المستوردة، مما لا يتسعُ المقام لسرده، وفي الأثر: ((وما أعلن قومٌ الفاحشة، إلا عمتهم الأوجاعُ والأسقامُ التي لم تكن في أسلافهم)). ومن أسبابِ العقوبات: منعُ الزكاة، تلك التي لو قامَ أثرياءُ المسلمين بأدائها، لما وجدتَ بين المسلمين فقيراً ولا محتاجاً، واسمع إلى عقوبةِ الأمة، حين تبخل بزكاةِ أموالِها، قال عليه الصلاة والسلام: ((وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمْ لم يمطروا)) ، وقد يستخفُ أقوامٌ، بهذه العقوبة لأنهم اعتادوا تدفقَ المياهِ ووفرتَها في بيوتِهم، لكنهم لو قلبوا النظر يمنةً ويسرة، في البلادِ التي أصابَها القحطُ والجفاف، لعلموا أنهم كانوا واهمين، وعن الصراط لناكبين.
ومن أسبابِ العقوبات كذلك: موالاةُ الكفارِ والتقربُ إليهم بالمودةِ والمحبة، وقد وضح القرآنُ الكريم أنه لا يتولى الكفار، ويتقرب إليهم إلا منافق ظاهر النفاق قال تعالى: بَشّرِ ?لْمُنَـ?فِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ?لَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ?لْكَـ?فِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ?لْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ?لْعِزَّةَ فَإِنَّ ?لعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً [النساء:138، 139]، وقد حدثنا التاريخ عن عقوباتٍ حصلتْ لبعض الأمم التي والتِ الكافرين، كما حصل في بلادِ الأندلس عندما والى أمراءُ الطوائفِ النصارى، فنفض الصليبيون البساطَ من تحتِ أقدامهِم، وألقوا بهم في مزبلةِ التاريخ، وأصبحتْ هذه البلاد حسرةً في نفسِ كلِ مسلم، حين يذكرُ ما فيها من حضارةٍ وآثارٍ للمسلمين، ثم يذكرُ أولئكَ الأوباش، الذين أضاعوا ذلك الفردوس المفقود، بسبب ولائهم لأعداء الله وأعداء الإسلام والمسلمين.
ومن أسبابِ العقوبات كذلك: تركُ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، والذي بتركهِ تستفحلُ الفاحشة، وتعمُ الرذيلة، ويستطيلُ الشر، وتخربُ البلادُ والعباد، واسمع لعقوبةِ الأمة، حين تتخلى عن فريضةِ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، ففي المسندِ وغيرهِ من حديثِ حذيفةَ رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليبعثنّ الله عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) ألا فَضّ الله أفواهاً، وأخرس ألسناً، تريدُ لهذهِ الفريضةِ أن تموت.
ومن أسبابِ العقوباتِ كذلك: انتشارُ الظلمِ في المجتمع، وغيابُ العدلِ فيه، فيأكلُ القويُ الضعيف، وينهبُ الغنيُ الفقير، ويتسلطُ صاحبُ الجاهِ والمكانة على المسالِم المسكين، وحين تسودُ هذه الأخلاقُ الذميمة، والخصالُ المنكرة، ولا تجدُ من يقولُ للظالِم: أنتَ ظالم، فقد آن أوانُ العقوبة، واقتربَ أجلُها لو كانوا يفقهون. فعند الترمذي وأبي داود قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الناسَ إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقابٍ منه)).
ومن أسبابِ العقوبات: انتشار مؤسسات الربا وارتفاع مبانيها، حيث تعاطاه الكثيرون، وأَلِفه الأكثرون، وقلَّ له الناكرون، واللهُ يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278، 279]، ويقول سبحانه: يَمْحَقُ ?للَّهُ ?لْرّبَو?اْ وَيُرْبِى ?لصَّدَقَـ?تِ وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276]، وذهابُ بركةِ المال، ومحقُ عائدهِ ونتاجهِ ملموسٌ مشاهد، يعترفُ به المرابون، ضمناً وتصريحاً، والعالمُ الإسلامي اليوم، يعاني الأزماتِ الاقتصاديةَ الخانقة لتورطهِ بتعاطي الربا، وإعراضِه عن الشرعِ المطهر، واستخفافِه بالوعيدِ الإلهي لأكلةِ الربا، ومدمنيه.
ومن أسبابِ العقوباتِ كذلك: ظهور المعازف وانتشار الغناء بين الناس تحت مسمى السياحة حتى عُدَّ أمراً معروفاً، واستمع يا رعاك الله إلى العقوبة المتوعدة لأهله، قال عليه الصلاة والسلام: ((في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف)) فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله! ومتى ذلك؟ قال: ((إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور)).
ومن أسباب العقوبات كذلك: الكفر بنعم الله وعد القيام بواجب شكرها. قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَ?شْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ?لْعَرِمِ وَبَدَّلْنَـ?هُمْ بِجَنَّـ?تِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَـ?هُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ ?لْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ?لْقُرَى ?لَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَـ?هِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا ?لسَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّاماً ءامِنِينَ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَـ?عِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَـ?هُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَـ?هُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَـ?تٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ:15-19]. وقال تعالى: وَضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ?للَّهِ فَأَذَاقَهَا ?للَّهُ لِبَاسَ ?لْجُوعِ وَ?لْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل:111].
ومن أسباب العقوبات كذلك: انتشار الفساد بجميع أشكاله وكثرة وجود الخبث في المجتمع: قال الله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ?لْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].
أيها المسلمون، إن أسبابُ العقوباتِ أكثر مما ذكر وليس المجال مجال استقصاء، لكنْ في الإشارةِ ما يُغني عن العبارة، والتلميح يغني عن التصريح.
أيها المسلمون، والقرآنُ الكريم، حين يعرضُ بوضوحٍ وجلاء، مآلَ تلكَ القريةِ، الظالمِ أهلُها، ويقررُ أنَّ ما أصابهَم، هو بسببِ ما اقترفتُه أيديهِم، من التمردِ والجحود، ونكران الجميل، حين يعرضُ القرآنُ ذلكَ كلَّه، فهو إنما يخاطبُنا نحن الحاضرين، ويخاطبُ غيَرنا، حتى يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها، يحذرُنا أن نقعَ في ذاتِ الخطأ، الذي وقعوا فيه، فنؤولُ لذاتِ المآلِ الذي آلوا إليه.
ولقد ذاقت هذه الأمة، ألوناً من العقوباتِ المدمرةِ، التي يشيبُ من هولهِا الوالدان، ولولا أنَّ الذي سطَّرها في كتبهِم ونَقلَ لنا أخبارَها في مصنفاتِهم، هم أئمةُ الإسلامِ المحققون، كابن كثير والذهبي وابن الجوزي وغيرهِم، لظننا ذلك ضرباً من الخيالِ والتهويل. فإليكم طرفاً، مما حدثَ لهذه الأمة، حينَ كفرتْ بأنعمِ الله، واستجابتْ لداعي الهوى والشيطان، لعلنا نتعظ ونعتبر، ونلجأ إلى ربنا، إذ لا ملجأ من الله إلا إليه.
ذكر ابن الجوزي رحمه الله خبرَ الطاعون، الذي أصاب، مدينةَ البصرةَ في العراق قال: فمات في اليومِ الأول سبعون ألفاً، وفي اليوم الثاني، واحد وسبعون ألفاً، وفي الثالث ثلاثةٌ وسبعون ألفاً، وأصبح الناسُ في اليوم الرابع موتى إلا قليل من آحاد الناس، قال أبو النُفيد، وكان قد أدركَ هذا الطاعون، قال: كنَّا نطوفُ بالقبائلِ وندفنُ الموتى، فلما كثروا لم نقو على الدفن، فكنَّا ندخلُ الدار، وقد مات أهلُها، فنسدُ بابهَا عليهم.
وفي أحداثِ سنةِ تسعٍ وأربعين وأربعمائة، من الهجرة، ذكر ابنُ كثيرٍ رحمه الله خبرَ الغلاءِ والجوعِ الذي أصابَ بغداد، حيث خلتْ أكثرُ الدور، وسُدَّت على أهلِها الأبواب، لموتِهم وفنائهم، وأكلَ الناسُ الجِيفَ والميتة، من قلةِ الطعام، ووجد مع امرأةٍ فخذُ كلبٍ قد أخضَّر، وشَوَى رجلٌ صبيةً فأكلَها، وسقطَ طائرٌ ميت، فاحتوشته خمسةُ أنفس، فاقتسموه وأكلوه.
ووردَ كتابٌ من بخارى، أنَّه ماتَ في يومٍ واحد، ثمانيةَ عشرَ ألفَ إنسان، والناسُ يمرون في هذه البلاد، فلا يرون إلا أسواقاً فارغة، وطرقاتٍ خالية، وأبواباً مغلقة، وجاء الخبرُ من أذربيجان، أنَّه لم يسلمْ من تلك البلاد، إلا العددُ اليسير جداً، ووقع وباءٌ بالأهوازِ وما حولها، حتى أطبق على البلاد، وكان أكثرُ سببِ ذلك الجوع، فكان الناسُ يشوونَ الكلاب، ويَنبشونَ القبور، ويشوونَ الموتى ويأكلونهم، وليس للناسِ شغلٌ في الليل والنهار، إلا غسلُ الأمواتِ ودفنُهم، وكان يدفنُ في القبرِ الواحد، العشرونَ والثلاثون.
وذكرَ ابنُ كثيرٍ رحمه الله في أحداثِ سنةِ اثنتين وستين وأربعمائةٍ من الهجرة، ما أصابَ بلادَ مصر، من الغلاءِ الشديد، والجوعِ العظيم، حتى أكلوا الجيفَ والميتةَ والكلاب، فكان الكلبُ يباع بخمسةِ دنانير، وماتت الفيلة، فأكلتْ ميتاتُها، وظُهِرَ على رجلٍ يقتلُ الصبيانَ والنساء، ويدفنُ رؤوسَهم وأطرافَهم، ويبيعُ لحومَهم، فقُتلَ وأُكلَ لحمُه، وكانت الأعراب، يقَدَمون بالطعام، يبيعونَه في ظاهرِ البلد، لا يتجاسرون على الدخول، لئلا يُخطفَ ويُنهبَ منهم، وكان لا يجسُر أحدٌ أن يدفنَ ميتَه نهاراً، وإنما يدفنُه ليلاً خُفيةً، لئلا يُنبشَ قبُره فيؤكل.
وفي طاعون عمواس المشهور عام 18هـ قام أبو عبيدة خطيباً فقال: (أيها الناس إن هذا الوجع رحمة بكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لأبي عبيدة حظه) فأصابه الطاعون، فمات، واستخلف على الناس معاذ بن جب:ل (فصنع كصاحبه وقال قوله) فأصابه الطاعون فمات واستخلف على الناس عمرو بن العاص فقام فيهم خطيباً فقال: (أيها الناس إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار فتحصنوا منه في الجبال). ثم خرج الناس فتفرقوا ودفعه الله عنهم. قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأي عمرو بن العاص فوالله ما كرهه.
قال ابن كثير: "فني خلق كثير من الناس حتى طمع العدو وتخوفت قلوب المسلمين لذلك. وذكروا أن الحارث بن هشام خرج إلى الشام في سبعين من أهله فلم يرجع منهم إلا أربعة".
وفي أحداث سنة 324هـ يقول ابن كثير: "وفيها وقع ببغداد غلاء عظيم وفناء كثير بحيث عدم الخبز فيها خمسة أيام، ومات من أهلها خلق كثير، وأكثر ذلك كان في الضعفاء، وكان الموتى يلقون في الطريق ليس لهم من يقومون بهم، ويُحمل على الجنازة الواحدة الرجلان من الموتى، وربما يوضع بينهم صبي، وربما حفرت الحفرة الواحدة فتوسع حتى يوضع فيها جماعة، ومات من أهل أصبهان نحو من مائتي ألف إنسان".
وفي أحداث سنة 423هـ يقول ابن كثير: "وفيها وقع موتان عظيمان ببلاد الهند وخراسان وجرجان والري وأصبهان، خرج منها في أدنى مدة أربعون ألف جنازة".
وفي أحداث سنة 597هـ يقول ابن كثير: "فيها اشتد الغلاء بأرض مصر فهلك خلق كثير جداً من الفقراء والأغنياء، حتى حكى الشيخ أبو شامة في الذيل أن العادل كفن من ماله في مدة شهر من هذه السنة نحواً من مائتي ألف وعشرين ألف ميت، وأُكلت الكلاب والميتات فيها بمصر، وأُكل من الصغار والأطفال خلق كثير،.. وكثر هذا في الناس جداً حتى صار لا ينكر بينهم، فلما فرغت الأطفال والميتات غلب القوي الضعيف فذبحه وأكله".
"وفيها وقع وباء شديد ببلاد عنزة بين الحجاز واليمن، وكانوا عشرين قرية فبادت منها ثماني عشرة لم يبق فيها ديّار ولا نافخ نار، وبقيت أنعامهم وأموالهم لا قاني لها، ولا يستطيع أحد أن يسكن تلك القرى ولا يدخلها، بل كل من اقترب إلى شيء من هذه القرى هلك من ساعته".
وفي أحداث سنة 749هـ يقول ابن كثير: "تواترت الأخبار بوقوع البلاء في أطراف البلاد، فذكر عن بلاد القرم أمر هائل ومات فيهم خلق كثير، ثم ذكر أنه انتقل إلى بلاد الإفرنج حتى قيل إن أهل قبرص مات أكثرهم أو يقارب ذلك، وكذلك وقع بغزة أمر عظيم.. كثر الموت في الناس بأمراض الطواعين، وزاد الأموات كل يوم على المائة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإذا وقع في أهل بيت لا يكاد يخرج منه حتى يموت أكثرهم.. وزادوا على المائتين في كل يوم.. وكان يصلي في أكثر الأيام في الجامع على أزيد من مائة ميت، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وبعض الموتى لا يؤتى بهم إلى الجامع، وأما حول البلد وأرجائها فلا يعلم عدد من يموت بها إلا الله عز وجل.. وبلغ المصلى عليهم في الجامع الأموي إلى نحو المائة وخمسين وأكثر من ذلك..".
أيها المسلمون، ووالله الذي لا إله إلا هو لولا نقلة هذه الأخبار من علماء الأمة الموثوقين والمحققين كابن كثير وغيره، لكان يصعب تصديقها.
عباد الله، إن هذه العقوباتِ المهلكة والكوارثَ المفجعة، ليست ضرباً من الخيال، وليس فيها شيء من التهويلِ والمبالغة، فالله يقول: وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، لكن الذي نشأ من أمثالنا، منذُ نعومةِ أظفاره، في بحبوحةٍ من العيش، لم يذقْ مرارةَ الجوع، طرفةَ عين، حريٌ به أن يعجبَ مما سمعَ كلَّ العجب، لكنْ سلوا الآباء والأجداد، الذين اصطلوا بشيء من نارِ الجوع، ولهيبِ الظمأ، دهراً طويلاً، وارتعدتْ فرائصهُم وقلوبُهم من قطاعِ الطرق، وعصاباتِ السطو، في وضحِ النهار، يتضحُ أنَّه ليسَ في الأمرِ غرابةٌ من قريبٍ أو بعيد، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
أيها الأحبة، إن ما سمعتم من قصص قد حصلت لمسلمين، إنها ليست أخبار مجتمعات كافرة، بل وكانوا في تمسكهم بدينهم أحسن منّا حالاً، ومجتمعاتهم كانت أنظف من مجتمعاتنا بكثير، ومع ذلك عاقب الله هذه الأمة بمثل ما سمعتم، وليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، والسنة ماضية على الجميع وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62].
قال الله تعالى: ذ?لِكَ يُخَوّفُ ?للَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ي?عِبَادِ فَ?تَّقُونِ [الزمر:16]، والله عز وجل يقول: فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ [الأنعام:43]، فلا بد من الضراعة إلى الله بالدعاء والعمل، أمَّا الدعاء فالجميع يبادر إليه خوفاً وهلعاً، وأما العمل، فلا يقدر عليه إلا الصادقون المخلصون، العمل على ترك ما أوجب العقوبة، من فواحش ومنكرات ومبارزة للجبار بالمعاصي والموبقات مع إهمال شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
نفعني الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، وأما إن كان حمى الوادي المتصدع ابتلاءً من الله لأهل جازان، فإننا نذكرهم بأن الابتلاء بالأمراض والأسقام، قد يكون هبة من الله ورحمة، ليكفر بها الخطايا ويرفع بها الدرجات، قال : ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها)) رواه البخاري ومسلم. وقال رجل لرسول الله : أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا مالنا بها؟ قال: ((كفارات)) ، قال أبي بن كعب، وإن قلّت قال: ((وإن شوكة فما فوقها)) رواه أحمد.
ولقد عاد رسول الله مريضاً من وعك ـ والوعك: هو الحمى ـ كان به فقال : ((أبشر، فإن الله عز وجل يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن في الدنيا، لتكون حظه من النار من الآخرة)) رواه أحمد وابن ماجه. فمن هنا عباد الله، نعلم النتائج الإيجابية التي يثمرها المرض، ونعلم أن مذاقه كالصبر، ولكن عواقبه أحلى من الشهد المصفى.
عباد الله، إن الله سبحانه لا يقضي شيئاً كوناً ولا شرعاً إلا وفيه الخير والرحمة لعباده، وللأمراض والأسقام فوائد عظيمة وحكم بالغة لو تأملها المسلم حق التأمل لأدرك بيقين أن المرض نعمة ومنحة من الله ساقه إليه، فمن ثمرات المرض وحكمه أن الله يستخرج من المريض عبودية الضراء وهي الصبر، وهذا لا يتم إلا بأن يقلب الله الأحوال على العبد حتى يتبين صدق عبوديته لله تعالى، قال : ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) رواه مسلم، والمصائب والآلام ملازمة للبشر ولا بد لهم منها لتحقيق العبودية لله قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لاْمَوَالِ [البقرة:155]، قال بعضهم: لولا حوادث الأيام لم يعرف صبر الكرام ولا جزع اللئام، قال شيخ الإسلام: "فمن ابتلاه الله بالمر، بالبأساء والضراء فليس ذلك إهانة له بل هو ابتلاء وإمتحان، فإن أطاع الله في ذلك كان سعيداً، وإن عصاه في ذلك كان شقياً".
ومن فوائد المرض تكفير الخطايا والسيئات التي يقترفها العبد بقلبه ولسانه وسمعه وبصره وسائر جوارحه، فإن المرض قد يكون عقوبة على ذنب وقع من العبد لقوله تعالى: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، وتعجيل العقوبة للمؤمن في الدنيا خير له من عقوبة الآخرة حتى تكفر عنه ذنوبه، عن أنس قال: قال رسول الله : ((إذا أردا الله بعبد الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة)) رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
والمرض يا عباد الله سبب في دخول الجنة، لأن الجنة لا تنال إلا بما تكرهه النفس لقول النبي : ((حفّت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)) رواه البخاري ومسلم. ومن حكمة المرض أنه يرد العبد الشارد عن ربه إليه، ويذكره بمولاه بعد الغفلة، ويكفه عن معصيته بعد الانهماك فيها فإن الصحة والملذات والمال والشهوات قد تطغى العبد وتغره فينهمك في المعاصي والغفلة، فإذا ابتلاه الله بمرض أو غيره واستشعر ضعفه وذله وفقره إلى خالقه ومولاه وتذكر تقصيره في حقه عاد إلى ربه نادماً ذليلاً متضرعاً.
اللهم ادفع عنا الغلا والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن..
(1/2954)
خطبة الحاجة
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
11/2/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة ضماد ووفوده على النبي. 2- من فوائد القصة. 3- سنة البدء بخطبة الحاجة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، هذه المقدمة التي عادة ما نبتدأ بها خطبتنا هي من السنن التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ عليها ويسميها العلماء خطبة الحاجة هي: ((إن الحمد لله نحمده ونستعينه)) إلى قولنا: ((وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)) ، وقد روى هذه الخطبة مسلم في صحيحه، ولهذه الخطبة قصةٌ كثيرة الفوائد سيتبين من خلال القصة حرصُ النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الخطبة أكثر من غيرها.
ملخص القصة أنه قدم رجل من أزد شنوءة، وهي قبيلة من قبائل العرب، ويسمى هذا الرجل ضماد بن ثعلبة الأزدي، وكان مشهوراً عند العرب أنه يرقي من الريح، والريح عند العرب في الجاهلية هي مس الجن.
فعندما قدم ضماد مكة سمع بعض سفهاء أهل مكة يبثون إشاعة أن محمداً صلى الله عليه وسلم مجنون، وهذا غيض من فيض مما كان يؤذي به كفار قريش نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، وكان ضمادٌ رضي الله عنه معروفاً برجاحة عقله، فقال في نفسه: لو أني أتيت هذا الرجل، لعل الله أن يشفيه على يديّ. فيأتي ضمادٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له: يا محمد إني أرقي من هذه الريح (أي الجنون) وإن الله يشفي علي يديّ من شاء، فهل لك رغبة في رقيتي؟ بماذا رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم؟
رد عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد)).
فيقول ضماد وقد ظهرت عليه علامات التأثر: أعد علي يا محمد كلماتك هؤلاء؟ فيعيد النبي صلى الله عليه وسلم خطبته ثلاث مرات.
فيقول له ضماد: لقد سمعت الكهنة، وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس البحر ـ أي وسطه ولجته ـ ثم قال له ضماد: هات يدك أبايعك على الإسلام. فيبايع ضماد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطلب منه النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون المبايعة على أن يدعو قومه إلى الإسلام أيضاً فيقول: ضماد أبايعك على قولي.
ثم بعد ذلك يذهب ضماد إلى قومه داعية إلى الإسلام وبعد فترة يبعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية من المقاتلين فيمرون في طريقهم على قوم ضماد. فيقول صاحب السرية أي قائدها يقول لجيشه: هل أصبتم من هؤلاء شيئاً؟ فيقول رجل من القوم: أصبت منهم مطهرة ـ أي وعاء للوضوء ـ فيقول صاحب السرية: ردوها فإن هؤلاء قوم ضماد.
أصل هذه القصة في صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
أيها المسلمون، في هذه القصة عبرٌ وفوائد، منها:
أن العرب قبل الإسلام كانت تعتقد بمس الجن ويسمونه الريح، وجاء الإسلام فأقر هذا الاعتقاد، قال الله تعالى: ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ ?لرّبَو?اْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ?لَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ?لشَّيْطَـ?نُ مِنَ ?لْمَسّ [البقرة:275]، وقد أنكر بعض الناس في وقتنا هذا بل وبعض المنتسبين للعلم مس الجن للإنس بسبب جهلهم بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة الدالة على هذا الأمر، كما أن الواقع يصدق هذا ويؤكده.
ومس الجن للإنس له أسباب كثيرة فقد يكون بسبب هجر المرء للقرآن والذكر وتلطخه بالمعاصي، وقد يكون بسبب عدم محافظته على الأذكار الشرعية التي تحفظ بإذن الله. وقد يكون ابتلاءً من الله عز وجل ليرى صبر عبده وصدق توكله.
وعلاج المس إنما يكون بالرقى الشرعية من الكتاب والسنة وأهم من ذلك صدق التوكل على الله وإخلاص الدعاء له مع الحذر من الطرق البدعية في العلاج أو الذهاب إلى الكهنة والسحرة أو حتى الجهلة ممن تصدوا للعلاج، والواقع أنهم هم يحتاجون إلى علاج.
ومن فوائد القصة، أن من العرب من كان يرقي من مس الجن قبل الإسلام، وربما استعانوا بالجن، فأبطل الإسلام كل أنواع الاستعانات بالجن، وقد قال الله تعالى عنهم: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ ?لإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ ?لْجِنّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً [الجن:6]، أي زاد الكفار خوفاً وإثماً وطغياناً.
ومن الفوائد أيضاً: أن من العرب في الجاهلية من يعتقد أن الشافي هو الله وحده، ومع الأسف الشديد فإن بعض المسلمين يعتقد أن بعض المخلوقين يشفي من دون الله باعتقاد بعضهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره يشفي من دون الله، وهذا ضماد رغم أنه جاهلي فإنه يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: إن الله يشفي على يدي من شاء. وبعض من لا علم عنده ينطلق في هذه المسألة من حبه للرسول صلى الله عليه وسلم فيقول مثلاً: إن محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة يخرج الناس من الظلمات إلى النور ويشفي القلوب والأبصار والأبدان من الأسقام الحسية والمعنوية، وهذا كلام طيب إلا قوله: إنه يشفي الأبصار والقلوب من الأسقام الحسية، فما الدليل على هذا؟ وإن أراد سنته فلا حرج وإلا فإن الله يقول: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]، وكان صلى الله عليه وسلم يدعو يقول: ((اللهم رب الناس اذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً)) متفق عليه.
أيها المسلمون، هذا ضماد رضي الله عنه يسمع خطبة الحاجة فيتأثر بها ويطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم إعادتها ويسلم بسببها بل يصير داعية إلى الإسلام بعد سماعها ونحن كم من المرات قد سمعناها وكم مرة قد قرأناها.
ولم يحصل لنا شيء ولو يسير مما حصل لضماد رضي الله عنه وهي قد اشتملت على حمد الله والاستعانة به وأنه هو المعبود وحده لا شريك له، وهذه خلاصة الدين وتاج الإسلام، فهلا إذا سمعناها بعد اليوم وقفنا عند معانيها واستشعرنا أثرها.
خذوا مثلاً قوله: ((ونعوذ بالله من شرور أنفسنا)). فإن نفوسنا لا تخلو من الشر ولكنه يذهب بمراقبة الله والخوف منه، فكم من المصائب والبلايا إنما هي نتاج الشر الكامن في النفس، فإذا قلت يا عبد الله خطبة الحاجة أو سمعتها مؤمناً بها أعاذك الله من شر نفسك التي ربما كانت من ألد أعدائك.
وخذ مثلاً قوله: ((من يهده الله فلا مضل له)). الهداية بيد من؟ بيد الله، فهو الهادي، ((من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له)). ولو أراد الله هداية شخص فمن الذي سيقف دون ذلك، لا أحد، ولو اجتمعت قوى الأرض كلها، ولذا فإن ما يبذله أعداء الملة وخصوم الشريعة من محاولات وجهود وأموال واجتماعات وقرارات في نشر الفساد في أوساط المسلمين فإنه لن ينفع في شخص قد كتب الله له الهداية، فإنه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. ولا يعني هذا أن يقف الدعاة والمصلحون يتفرجون بحجة أن من يهده الله فلا مضل له، بل إنهم يجب عليهم وجوباً أن يأخذوا بسنة التدافع حتى يحكم الله في خلقه ما يشاء. ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز.
نسأل الله أن يزيدنا وإياكم علماً وهدى وتوفيقاً..
نفعني الله وإياكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: هذه الخطبة وردت من حديث جابر رضي الله عنه وقال فيه: (إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إذا خطب) كما روى ذلك مسلم والنسائي وغيرهما، وقوله: (إذا خطب) يشمل الخطب كلها بما فيها خطبة الجمعة والعيدين والاستسقاء وقد جاء التخصيص على خطبة الجمعة كما في رواية لمسلم كما أنها تقال عند عقد النكاح أيضاً. فعلى الخطباء أن يحيوا هذه السنة فتكون أكثر خطبهم مبدوءة بخطبة الحاجة لا كما هو منتشر في بعض الأوساط عندنا أنهم قلّ ما يخطبون بها.
ومما يستفاد من هذه الخطبة أنه لا يستعاذ عند قراءة الآيات أثناء الخطبة أو الكلام أو المحاضرات أو غيرها لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستعذ عند قراءة آيات آل عمران والنساء والأحزاب.
ومن فوائد القصة الماضية أنه يجوز الاقتصار على جزء من هذه الخطبة كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في قصة ضماد رضي الله عنه.
أيها المسلمون: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين.
اللهم أصلح لنا ديننا.. وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا.
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة..
(1/2955)
عيد الفطر 1416هـ
الإيمان
الجن والشياطين
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
1/10/1416
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الوصاة بالصلاة. 2- الوصاة بالزكاة. 3- الحذر من كيد الشيطان بعد رمضان. 4- التحذير من الوقوع في الشرك. 5- الأمر بصلة الأرحام والتحذير من قطعها. 6- التحذير من الذنوب والمعاصي عموماً والموبقات السبع خصوصاً. 7- تذكر قضايا المسلمين في العيد. 8- تذكرة في عرصات يوم القيامة. 9- وصايا خاصة للنساء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الله أكبر كلما ذكر الله ذاكر وكبر، الله أكبر كلما صام صائم وافطر، الله أكبر كلما لاح الصباح وأسفر، الله أكبر كلما تراكم السحاب وأمطر.
الله أكبر عدد ما هل هلال وأنور الله أكبر عدد ما تأمل متأمل في الكون وفكر الله أكبر عدد خلقه، الله أكبر رضا نفسه، الله أكبر زنة عرشه، الله أكبر مداد كلماته، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، اعلموا أن يومكم هذا، يوم عظيم وعيد كريم، في هذا اليوم الذي توج الله به شهر الصيام، في هذا اليوم افتتح الله به أشهر الحج إلى بيته الحرام، في هذا اليوم تعلن النتائج وتوزع الجوائز، في هذا اليوم يفرح الذين جدوا واجتهدوا في رمضان، سبق قوم ففازوا، وتأخر آخرون فخابوا، في هذا اليوم يفرح المصلون المستمرون ويندم الكسالى النائمون والعابثون اللاعبون:
اليوم توفى النفوس ما كسبت ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا، فقد أحسنوا لأنفسهم وإن أساءوا فبئس ما صنعوا
إنه يوم عظيم من أيام المسلمين، يوم كله بر وإحسان، خرج المسلمون إلى مصليات الأعياد، متطهرين مكبرين، مكبرين له تعالى على ما أولاهم من الفضل والإنعام، مكبرين شكراًً الله على عونه على الصيام والقيام، حضر المسلمون، وقصدوا مصلاهم، وقد أدوا زكاة فطرهم للفقراء والمساكين، فرحين مكبرين مهللين، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله، أوصيكم ونفسي المقصرة بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ جعل يقول وهو يجود بنفسه: ((الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)) ، إنه لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، من تركها فعليه لعنة الله، من تركها خرج من دين الله، من تركها انقطع عنه حبل الله، من تركها خرج من ذمة الله، من تركها أحل دمه وماله وعرضه، تارك الصلاة عدو لله، عدو لرسول الله، عدو لأولياء الله، تارك الصلاة مغضوب عليه في السماء، ومغضوب عليه في الأرض، تارك الصلاة لا يؤاكل ولا يشارب ولا يجالس ولا يرافق، ولا يؤتمن. تارك الصلاة خرج من الملة، وتبرأ من عهد الله، ونقض ميثاق الله، لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
وعليكم بصلاة الجماعة والمحافظة عليها في المساجد، فمن صلاها بلا عذر في بيته فإنها لا تقبل منه فان من موجبات قبولها صلاتها في جماعة يقول عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار)) ، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وأدوا زكاة أموالكم لأحد الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله بقوله: إِنَّمَا ?لصَّدَقَـ?تُ لِلْفُقَرَاء وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْعَـ?مِلِينَ عَلَيْهَا وَ?لْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى ?لرّقَابِ وَ?لْغَـ?رِمِينَ وَفِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60]، ثم فتشوا عمن تزكو به صدقاتكم وهم خصوص من عموم الأصناف الثمانية كالمتقين المتجهين إلى الله وأهل العلم الذين يعملون على تقوية الدين ونشره والساترين لفقرهم وفاقتهم، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، لا يسألون الناس إلحافاً، وكذا الأرامل والأيتام وأصحاب العاهات والمحبوسون بمرض أو دين وأصحاب العوائل الكثيرة الذين لا يجدون من الدخل ما يكفيهم وإن كانت الزكاة في قريب ضوعف أجرها لأنها عليه صدقة وصلة، قال الله تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180]، وحجوا فرضكم الذي كتبه الله عليكم بقوله جل وتعالى: وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ?لله غَنِىٌّ عَنِ ?لْعَـ?لَمِينَ [آل عمران:97].
عباد الله، إن لكم عدواً، أخرجه الله عز وجل من رحمته وطرده من جنته كان مأسوراً في شهر رمضان المعظم، واليوم قد أطلق أسره، وفك قيده، وسيهجم اليوم عليكم بخيله ورجله، هجوماً عنيفاً، وسيحمل عليكم حملة شعواء، عله يفسد ما صلح من أعمالكم، وما اكتسبتموه من التقوى، وما حصل لكم من الثواب في شهر رمضان، فلنأخذ يا عباد الله حذرنا منه، ولنأخذ أهبتنا لمجاهدته، ولنحاول أن نسد عليه وعلى أعوانه كل الطرق التي يتسللون منها، بل لنهجم نحن عليهم من عقر دارهم، وننقذ من شرهم من نستطيع إنقاذه.
وستسألون: كيف نهجم على إبليس وجنوده وأعوانه؟ ونباغتهم في أماكنهم، الجواب يكون ذلك بالدعوة إلى الله جل وتعالى، ووعظ الناس وإرشادهم، وأن يكون كل فرد منا رجل حسبة، آمرا بالمعروف وناهياً عن المنكر، وأن ينتشر الصالحون في أوساط المجتمع ويكون كل واحد منا معلم هداية، في الموقع الذي يعيش فيه، بين أهله وأقاربه، في عمله ومسجده، في حيه وحارته وكلنا ولله الحمد لديه القدرة بأن يقدم شيئاً لدينه، وها قد خرجتم ولله الحمد والمنة من رمضان وأنتم أتقياء أنقياء، فما بقي إلا أن نحمل هذا الخير لغيرنا.
الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
عباد الله، احذروا من الشرك بالله فإنه محبط للأعمال، والجنة حرام على صاحبه، قال الله تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، والشرك نوعان، أكبر وأصغر، فالأكبر أن تشرك مع الله في عبادته غيره، ويدخل فيه الذبح والنذر لغير الله والاستعاذة بغير الله والتبرك بشجر أو حجر، ومنه صرف الدعاء لغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ ?للَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [يونس:106].
وأما الأصغر: فالحلف بغير الله والرياء وإرادة الإنسان بعمله الدنيا قال الله تعالى: وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الزمر:65].
وإياكم وعقوق الوالدين فإنه من كبائر الذنوب قال تعالى: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً [الإسراء:23]، وفي الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله وعقوق الوالدين...)) الحديث.
وإياكم وقطيعة الأرحام فإن الله تبارك وتعالى لعن قاطعي الأرحام فقال عز من قائل: وَ?لَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ?للَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـ?قِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى ?لأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?للَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ?لدَّارِ [الرعد:25]، وقال جل ذكره: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:22، 23].
واجتنبوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة: وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ غَـ?فِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ?لظَّـ?لِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ?لابْصَـ?رُ [إبراهيم:42]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((اتقوا دعوة المظلوم فانه ليس بينها وبين الله حجاب)).
وغضوا أبصاركم عن محارم الله، فإن النظرة سهم من سهام إبليس، ولا تقربوا الزنا فإن فيه خصالاً قبيحة ماحقة ومهلكة في الدنيا والآخرة، وقد نهى الله تعالى من الاقتراب منه فكيف بالوقوع فيه: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32].
واحذروا اللواط فإنه يغضب الرب، وعار ونار وشنار على صاحبه في الدنيا والآخرة قال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله من عمل عمل قوم لوط)) ، قالها ثلاثاً صلوات ربي وسلامه عليه.
وحذار حذار من جماع الإثم ومفتاح الشر، الخمر، فإنها تذهب العقل والغيرة على الدين والمحارم، وتورث الخزي والندم والفضيحة، ولو لم يكن من رذائلها إلا أنها لا تجتمع هي وخمر الجنة في جوف عبد لكفت، ((من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة)) قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وإياكم ثم إياكم والربا أكلاً وتعاملاً فإنه حرام، حرام بنص كلام ربنا: وَأَحَلَّ ?للَّهُ ?لْبَيْعَ وَحَرَّمَ ?لرّبَو?اْ [البقرة:275]، وانتبهوا من هذه البنوك التي تحارب الله جهاراً نهاراً، فإنها عين الربا ومبانيها مشيدة وبعضها أرفع من منارات المساجد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
واجتنبوا الغيبة والنميمة وقول الزور والعمل به، وإياكم والوقوع في أعراض الناس، فإن القصاص سيكون يوم القيامة من الحسنات.
وأوفوا الكيل إذا كلتم، وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم.
واحذروا المعاصي بجميع أشكالها وألوانها ومن ذلك المجلات الخليعة التي أظهرت المرأة معبوداً وصنماً فافتتن بها شباب الإسلام، زَنَتْ أبصارهم قبل فروجهم إلا من رحم الله، ومن المعاصي التي أحذركم منها الغناء والموسيقى الذي ملأ البيوت إلا بيوت من رحم الله، من أصوات المغنين والمغنيات والماجنين والماجنات الأحياء منهم والأموات.
وقوموا بحق الجوار لمن جاوركم، قال صلى الله عليه وسلم: ((مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) وأحسنوا إلى من أساء إليكم ذلكم خير لكم وأزكى واطهر: وَلاَ تَسْتَوِى ?لْحَسَنَةُ وَلاَ ?لسَّيّئَةُ ?دْفَعْ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ?لَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ [فصلت:34، 35].
وأقيموا أولادكم على طاعة الله، ألزموهم بأداء الصلوات المفروضة في المساجد، واستروا نساءكم ومحارمكم واقسروهن على التستر: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6].
طهروا منازلكم من الصور المجسمة وغير المجسمة إلا ما لا بد منه، وحسابه على من سنه قال رسول الله صلى الله صلى عليه وسلم: ((لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة)) ، عظموا شعائر الله وتعاليم دينه، ومن يعظم شعائر الله فأنها من تقوى القلوب.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله كبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، العيد بكل أفراحه وأنسُه، واجتماع كل واحد منا بأهله وأولاده، يجب أن لا ينسينا، إخواناً لنا، حلت بهم ظروف، ووقعت بهم نكبات، ودالت عليهم الأيام.
كم في الناس هنا وهناك من فقراء ليسوا بأقل ذكاء مني ومنك، وبؤساء ليسوا بأقل علماً بأمور الحياة مني ومنك غير أن ظروفاً أحاطت بهم فعاشوا تحت وطأة البؤس وهموم الحاجة وعوامل التشريد وأعمدة الحديد.
إن جلوسنا مع أحبابنا وذوينا في فرحة العيد يجب أن لا ينسينا، فقراء لا مورد لهم، ونسوة لا عائل لهم، وأيتام لا آباء لهم، ومشردون لا أوطان لهم، وما فرقهم إلا السياسات الظالمة، وما ضاعت حقوقهم إلا بالخيانات السافرة في فلسطين والبوسنة والشيشان وفي أماكن أخرى من بلاد الله.
ثم هناك مسلمون أحبة لنا تتقطع قلوبنا على أن يشاركوا المسلمين في عيدهم، فما لك أخي المسلم لا تردد مع الشاعر بعد أن ترضى بقضاء الله وقدره.
أقبلت يا عيد والأحزان أحزان وفي ضمير القوافي ثار وبركان
أقبلت يا عيد والرمضاء تلفحني وقد شكت من غبار الدرب أجفان
أقبلت يا عيد هذي أرض حسرتنا تموج موجا وأرض الأنس قيعان
من أين نفرح يا عيد الجراح وفي قلوبنا من صنوف الهم ألوان؟
من أين نفرح والأحداث عاصفة وللدمى مقل ترنو وآذان
من أين نفرح والمسجد الأقصى محطمة آماله وفؤاد القدس ولهان
من أين نفرح والأمة الغراء نائمة على سرير الهوى والليل نشوان
من أين نفرح والأحباب ما اقتربوا منا، ولا أصبحوا فينا كما كانوا
يا من تسرب منهم في الفؤاد هوى قامت له في زوايا النفس أركان
أين الأحبة لا غيم ولا مطر ولا رياض ولا ظل وأغصان
أين الأحبة لا بدر يلوح لنا ولا نجوم بها الظلماء تزدان
أين الأحبة لا بحر ولا جزر تبدو ولا سفن تجرى وشطآن
أين الأحبة وارتد السؤال إلى صدري سهاما لها في الطعن إمعان
أصبحت في يوم عيدي والسؤال على ثغري يئن وفي الأحشاء نيران
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله، تذكروا بجمعكم هذا، يوم الجمع الأكبر حين تقومون من قبوركم، حافية أقدامكم عارية أجسامكم شاخصة أبصاركم: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]، يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ h وَأُمّهِ وَأَبِيهِ i وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ j لِكُلّ ?مْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37] يوم تفرق الصحف ذات اليمين وذات الشمال: فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى? أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى? سَعِيراً [الانشقاق:7-12].
فنسأل الله جل وتعالى أن يرحمنا برحمته، وأن يتجاوز عنا، كما نسأله جل وتعالى أن يجعلنا من الذين قبلهم في رمضان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
نفعني الله وإياكم بهدى كتابه وإتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معيد الجمع والأعياد، ومبيد الأمم والأجناد، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا مضاد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المفضل على جميع العباد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وعلى أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وسلم تسليماً كثيراً.
الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً، الله أكبر كلما لمع نجم ولاح، الله أكبر كلما تضوع مسك وفاح، الله أكبر كلما غرد طير وناح، الله أكبر كلما رجع مذنب وتاب، الله أكبر كلما رجع عبد وأناب، الله أكبر كلما وسّد الأموات التراب.
أما بعد: فيا أيتها الأخوات الحاضرات معنا في هذا المشهد العظيم، الممتثلات أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهود الخير ودعوة المسلمين في هذا اليوم العظيم، أسال الله جل شأنه بكل اسم هو له أن يجعلنا وإياكن ممن قال فيهم سبحانه: إِنَّ ?لْمُسْلِمِينَ وَ?لْمُسْلِمَـ?تِ وَ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَ?لْقَـ?نِتِينَ وَ?لْقَـ?نِتَـ?تِ وَ?لصَّـ?دِقِينَ وَ?لصَّـ?دِقَـ?تِ وَ?لصَّـ?بِرِينَ وَ?لصَّـ?بِر?تِ وَ?لْخَـ?شِعِينَ وَ?لْخَـ?شِعَـ?تِ وَ?لْمُتَصَدّقِينَ وَ?لْمُتَصَدّقَـ?تِ و?لصَّـ?ئِمِينَ و?لصَّـ?ئِمَـ?تِ وَ?لْحَـ?فِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ?لْحَـ?فِظَـ?تِ وَ?لذ?كِرِينَ ?للَّهَ كَثِيراً وَ?لذ?كِر?تِ أَعَدَّ ?للَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35].
أذكركن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن خطب الرجال، في مثل هذا اليوم الأغر، مشى متوكئاً على بلال رضي الله عنه، وخطب النساء، وكان من خطبته أنه تلا عليهن آية مبايعة النساء في سورة الممتحنة: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ ?لْمُؤْمِنَـ?تُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى? أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِ?للَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْـ?دَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـ?نٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَ?سْتَغْفِرْ لَهُنَّ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الممتحنة:12]، فلما فرغ من الآية قال: ((أنتن على ذلك؟)) فقالت امرأة واحدة، ولم يجبه غيرها: نعم يا رسول الله. رواه البخاري.
ثم أمرهن بالصدقة، وقال لهن: ((تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم)) ، فقالت امرأة من وسط النساء: لماذا يا رسول الله؟ فقال: ((لأنكن تكثرن الشكاية وتكفرن العشير)) فجعلن رضي الله عنهن يلقين من قروطهن وخواتيمهن وقلائدهن في ثوب بلال رضي الله عنه صدقة لله.
فيا أيتها الأخوات والأمهات، اتقين الله تعالى وكن خير خلف لخير سلف من نساء المؤمنين.
أيتها النساء، إن عليكن أن تتقين الله في أنفسكن وأن تحفظن حدوده، وترعين حقوق الأزواج والأولاد، فَ?لصَّـ?لِحَـ?تُ قَـ?نِتَـ?تٌ حَفِظَـ?تٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ?للَّهُ [النساء:34].
أيتها النساء، لا يغرنكن ما يوجه للمرأة في هذا الزمان من شتى أبواب المغريات لإفسادهن باسم الموضة وباسم الأزياء ثم المحاولات المتتابعة في إخراج المرأة من مكان صونها وكرامتها ،ولا يغرنكن ما يفعله بعض النساء ممن تأثرن بهذا التيار من الخروج إلى الأسواق بالتبرج والطيب وربما كشف الوجه واليدين أو وضع ساتر رقيق لا يستر، فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صنفان من أهل النار لم أرهما بعد، وذكر نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)) وإذا مشيتن في الأسواق فعليكن بالسكينة في أطراف الطريق ولا تزاحمن الرجال ولا ترفعن أصواتكن ولا تلبسن أولادكن ألبسة محرمة أو مكروهة. ولا تتشبهن بالرجال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهات من النساء بالرجال.
أيتها النساء، إياكن ثم إياكن والركوب مع السائق لوحده، أو الخلوة به بحجة أن هذا سائق، وصار يعامل معاملة أهل البيت، فإن في هذا شراً عظيماً، لا يعلم به إلا الله، ((وما اختلى رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما)).
اللهم إن عبادك خرجوا إلى هذا المكان، يرجون ثوابك وفضلك، ويخافون عذابك وسخطك، اللهم حقق لنا ما نرجو، وأمنّا مما نخاف.
(1/2956)
خطبة العيد لعام 1418هـ
الإيمان
الجن والشياطين
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
1/10/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الوصية بالصلاة جماعة. 2- حال الناس بعد رمضان. 3- بعض المعاصي التي تحصل في العيد. 4- وصايا للنساء خاصة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن يومكم هذا يوم عظيم، وعيد كريم، فأقول لكم: كل عام وأنتم بخير، تقبل الله مني ومنكم.
أسأل الله جل وتعالى أن يجعلني وإياكم وجميع إخواننا المسلمين من المقبولين، ممن تقبل الله صيامهم وقيامهم وكانوا من عتقائه من النار.
أيها المسلمون، إن هذا اليوم يوم عظيم من أيام المسلمين، يوم كله بر وإحسان، خرج المسلمون إلى مصليات الأعياد متطهرين مكبرين شكراً لله تعالى على إتمام شهر الصيام، وعونه على القيام.
لقد حضر المسلمون وقصدوا مصلاهم وقد أدوا زكاة فطرهم للفقراء والمساكين فرحين مكبرين مهللين، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر والله الحمد.
عباد الله، أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله تعالى في السرّ والعلن ثم أوصيكم بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ جعل يقول وهو يجود بنفسه: ((الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم)).
إنه لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، من تركها فعليه لعنة الله، من تركها خرج من دين الله، من تركها انقطع عنه حبل الله، من تركها خرج من ذمة الله، من تركها أحل دمه وماله وعرضه، تارك الصلاة عدو لله، تارك الصلاة عدو لرسول الله، تارك الصلاة عدو لأولياء الله، تارك الصلاة مغضوب عليه في السماء، ومغضوب عليه في الأرض، تارك الصلاة لا يؤاكل ولا يشارب ولا يجالس ولا يرافق، ولا يؤتمن، تارك الصلاة خرج من الملة، وتبرأ من عهد الله، ونقض ميثاق الله، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
ثم عليكم بصلاة الجماعة والمحافظة عليها في المساجد، فمن صلاها بلا عذر في بيته فإنها لا تقبل منه، فإن من موجبات قبولها صلاتها في جماعة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا فأحرق عليهم بيوتهم بالنار)).
الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، سبحان الله بكرةً وأصيلاً.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، لقد رحل عنّا رمضان، وطويت سجلاته ودفاتره، وكل منا أدرى بنفسه ما قدم، لكن هل يدركنا رمضان القادم؟ هل يمنّ المولى علينا وندرك رمضان القادم؟ أم نكون من الذين يترحّم عليهم؟
فيا شهر الصيام فدتك نفسي تمهّل بالرحيل والانتقال
فما أدري إذا ما الحول ولىّ وعدت بقابل في خير حال
أتلقاني مع الأحياء حياً أو أنك تلقني في اللحد بالي
يا خسارة من لم يغفر له في رمضان، يا خسارة من لم يعتق من النار في رمضان، يا خسارة من حرم من فيض الرحيم الرحمن.
ترحّل الشهر والهفاه وانصرما واختصّ بالفوز في الجنات من خدما
وأصبح الغافل المسكين منكسراً مثلي فيا ويحه يا عظم ما حُرِما
من فاته الزرع في وقت البذار فما تراه يحصد إلا الهمّ والندما
طوبى لمن كانت التقوى بضاعته في شهره وبحبل الله معتصما
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد
لقد رحل رمضان، لكن هل سيعود الناس لحالهم قبل رمضان؟
فيعود آكل الحرام لأكله، ويعود سامع الغناء لسماعه، ويعود مشاهد الفحش في التلفاز لفحشه، ويعود شارب الدخان لشربه، ويعود ظالم الناس لظلمه، وبذئ اللسان لسبّه، وكل صاحب معصية لمعصيته؟
أم رحل رمضان ورحل معه قراءة القرآن، ورحل رمضان ورحل معه صلاة الجماعة، ورحل رمضان ورحل معه نسبة كبيرة من إيمان القلب، وهذه هي المصيبة.
يا حسرتى على دموع سكبت في المساجد، ويا حسرتى على دعوات رفعت من أجلها الأيدي إلى السماء، ويا حسرتى على حضور مع الجماعة وتلاوة للقرآن طوال الشهر، فأعقب ذلك كله عودة إلى المعاصي، وتفريط بالصلوات، وهجر للقرآن واستهانة بالمحرمات، وإهمال للمسئوليات.
الّلهمّ إنا نعوذ بك من الحور بعد الكور.
ونعوذ بك الّلهمّ أن نبدل نعمتك كفراً ونحن نستقبل أيام العيد.
إياكم ثم إياكم أيها المسلمون من العودة للمعصية.
لعلك تسألني: ما هي المعاصي التي تتحدث عنها؟ فأقول لك: إن من المعصية أن يسمع الغناء وأصوات الموسيقى من صبيحة يوم العيد، تسمعها في الإذاعات والأسواق والشوارع والبيوت.
ومن المعصية ما يحصل من الاختلاط بين النساء والرجال في أماكن الترفيه والحدائق العامة وعلى شاطئ البحر في أيام العيد بشكل مزعج بحجة أنه عيد، والنساء والفتيات في قمّة الزينة.
ومن المعصية ما يحصل من الميوعة عند بعض الرجال بأن يدع بناته ونسائه يقدن الدرجات النارية على شاطئ البحر وسيارات الألعاب في أماكن الترفيه، ويتعذر بأنها صغيرة، في وسط زخم من الضحك والأصوات، ناهيك ما يصاحب ذلك من التبرج والسفور وإظهار الزينة أمام الرجال وأمام شباب مراهقين يأتون لهذه الأماكن ليصطادوا في الماء العكر، وأوضاع يفتتن بها المؤمنون فضلاً عن الفسقة والضائعين كل هذا يحصل تحت مسمى الفرح بالعيد.
ومن المعصية أن نقيم حفلات الزواج دون نظر إلى ما يحل ويحرم، من إسراف فاحش، حتى يصير صاحبه أخاً للشيطان، ومن اختلاط بين الرجال والنساء، ومن دخول الزوج على النساء وهنّ في قمة زينتهنّ، ومن إقامة الغناء المحرّم الذي سمّاه الله في كتابه (لهو الحديث)، ومن تصوير للنساء حتى تصير صورهنّ بضاعة لأصحاب العيون الزائغة.
ومن المعصية أن تهجر المساجد حتى لا يكتمل صف واحد في صلاة الفجر بعد رمضان ومن المعصية أن نستمر أمام شاشات التلفاز فننظر إلى كل ما يعرض، ناسين أو متناسين ما قدمنا من صلاة التراويح ودعاء القنوت وإيمانيات رمضان.
بل ومن أكبر المعاصي في هذا الوقت، أن يدخل الأب وولي الأمر الدش إلى بيته ويتسبب في إفساد أخلاق أولاده وبناته. عجيب أمر بعض الآباء، يكون من المصلين والمحافظين عليها في المساجد، ثم يرضى وباختياره وطواعيته أن يعرض الفحش والزنا في بيته وأمام أولاده، نعم الزنا الصريح يعرض الآن عبر هذه القنوات لابارك الله فيها، ويرضى بأن يتفرج أولاده وبناته على الخنا والفجور منذ نعومة أظفارهم، ويرضى بأن يتعود أولاده مشاهدة شرب الخمور، بل الكفر بالله عز وجل والسحر يعرض عبر هذه القنوات الخبيثة، وأين يعرض؟ في بيت المسلم المصلي!! أي تناقض هذا الذي نعيشه أيها الأحبة؟
وليس بعجيب أن ينشط شياطين إنس الإعلام أيام الأعياد فيقدمون للناس برامج جذابة ليفسدوا عليهم ما جمعوا في رمضان.
ومن المعصية ما يحصل من التجمع العجيب في كل سنة على الكورنيش ويجتمع له خلق كثير ويقومون باللعب بما يسمونه الألعاب النارية ـ وبالمناسبة أيها المسلمون فإن اللعب بالنار من أعمال المجوس ـ وسمعنا بأنه يحضره شباب وشابات من دول قريبة ويحصل فيه من المنكرات ما الله به عليم.
أيها الإخوة، إن حسن الظن بأنفسنا يجعلنا نتفاءل برجعة إلى الله صادقة، ووقفة مع الناس حاسمة. أسألكم أيها الأحبة، من منّا جاءه علم من ربه أنه قبل صيامه وقيامه؟ من جاءه علم من ربه أنه كتب من المعتقين من النار؟
إن الله تعالى يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، فهل من صفات المتّقين أن نرجع إلى الوراء ونحرق الحسنات بلهيب السيئات؟
لقد أثبت الواقع العملي لدى بعض المسلمين، أنهم ليسوا حريصين على قبول طاعاتهم ذلك أن علامة قبول الطاعة أن يوفق العبد لطاعة بعدها، ومن أعظم الطاعات فعل الواجبات، والكف عن المعاصي التي لا مرية فيها، فانظر أين موقفك يا عبد الله؟
شهر كامل وأنت تجاهد النفس وتصّبرها، وتجمع الحسنات وتحسبها، فهل بعد هذا تراك تنقضها، إن الله تعالى يقول: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـ?ثًا [النحل:92].
الله أكبر..
أيها المسلمون، إن لكم عدواً أخرجه الله عز وجل من رحمته، وطرده من جنته، كان مأسوراً في شهر رمضان، واليوم قد أطلق أسره، وفك قيده، وسيهجم اليوم عليكم بخيله ورجله هجوماً عنيفاً، وسيحمل عليكم حملة شعواء، عله يفسد ما صلح من أعمالكم وأحوالكم فخذوا حذركم.
ثم أيها المسلمون، العيد أيامه أيام فرح، وهذا يدركه الجميع، لكن قَلَّ من يتنبه إلى أن أيامه أيام حزن أيضاً، فهو يوم فرح وحزن معاً، فرح بإتمام شهر الصوم وتوفيق الله على ذلك، ويوم حزن على فراق رمضان، حزن على أيامه الغرّ ولياليه الزاهرة، لكن من الذي منا يتقن فن الحزن والفرح معاً.
دع البكاء على الأطلال والدار واذكر لمن بان من خل ومن جار
ذر الدموع نحيباً وابك من أسف على فراق ليال ذات أنوار
على ليال لشهر الصوم ما جعلت إلا لتمحيص آثام وأوزار
يا لائمي في البكا زدني به كلفا واسمع غريب أحاديث وأخبار
ما كان أحسننا والشمل مجتمع منا المصلى ومنا القانت القاري
ثم أيها الأحبة في الله، هل تعلمون أن العيد نفسه يحزن؟ نعم العيد يحزن، نكون نحن في فرح وهو في حزن، خاصة إذا جاء العيد وواقع الأمة مرير، كما هي في أيامنا هذه، أعداء الأمة يسومونها سوء العذاب، اليهود من جهة، والنصارى من جهة، والملاحدة والباطنيون من جهة، وكلهم من الخارج، ومنافقون من داخلها من بني جلدتها ويتكلمون بلسانها، لكن قلوبهم معلقة ومتجهة نحو الغرب أو الشرق.
إن واقع الأمة اليوم، لا يخفى على عاقل، أراضيها من أوسع بلاد الله، خيراتها من أغنى بلاد الله، شعوبها من أكثر الشعوب عدداً، وفي المقابل، أراضيها مسلوبة، خيراتها منهوبة، شعوبها مظلومة، الفقر يقتلها، والجهل ينهكها، وفوضى لا أول لها ولا آخر، عقولها محجّمة، طاقاتها معطّلة، أموالها مبدّدة، تهدر الملايين في سفاسف الأمور.
تسأل وإلى متى سيبقى المسلمون هكذا؟ وإلى متى وواقع الأمة مظلم أسود، لقد تاقت نفوس المخلصين إلى منقذ للأمة من واقعها، أسأل الله جل وعز أن يكون عاجلاً غير آجل.
وكلّنا أمل أن يبارك الله في هذه الصحوة المباركة، وفي هذا الشباب المقبل على دينه بأن يكون فاتحة الخير على يديه، أمّا عن واقع الأمة الحالي وفي أثناء أيام العيد، فقد أحسن ذلك الشاعر حين وصْفِه حالها فقال:
قتل وتعذيب وتشريد فمتى سيغمر كوننا العيد
ومتى متى يا أمتي فرحي ومتى متى ستزغرد الغيد
في كل أرض صرخة لفم دوّت فدوّت بالصدى البيد
لكننا نلهو فلا غضب نبدي ولا الإيثار موجود
وكأن وقراً قد تغلغل في آذاننا فالسمع مسدود
صرب وصهيون تمزقنا وسلاحنا في الصدر تنديد
والمجلس المأمول في شغل عنا يماطل فوقه الهود
والنخوة القسعاء صادرها متفرد في الرأي نمرود
وإذا العروبة تنبري شيعاً عادت إليها الأزمن السود
يا أمة شاخ الزمان بها وعلت محياها التجاعيد
عاث الخلاف بها وفرقها بعد عن الإسلام مشهود
الهدى فيها وهي ضائعة يقتادها القيثار والعود
قد خدرت بفم منغمة شغلت بها والسيف مغمود
في كل يوم يستباح بها دم يقامر فيه عربيد
يا أمتي ما ضاع يرجعه سيف به الإيمان معقود
يا أمتي هذا الكتاب لنا ولنا به عز وتسويد
فإذا به سرنا سيغمرنا نصر من الرحمن موعود
[البيان 110/41].
فنسأل الله جل وتعالى أن يفرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم فرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فرجاً عاجلاً غير آجل.
نفعني الله واياكم بهي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معيد الجمع والأعياد، ومبيد الأمم والأجناد، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا مضاد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المفضّل على جميع العباد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وعلى أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وسلم تسليما كثيراً.
الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أما بعد: فيا أيتها الأخوات الحاضرات معنا في هذا المشهد العظيم، الممتثلات أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهود الخير ودعوة المسلمين، أسال الله جل شأنه بكل اسم هو له، أن يجعلنا وإياكنّ ممن قال فيهم سبحانه: إِنَّ ?لْمُسْلِمِينَ وَ?لْمُسْلِمَـ?تِ وَ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَ?لْقَـ?نِتِينَ وَ?لْقَـ?نِتَـ?تِ وَ?لصَّـ?دِقِينَ وَ?لصَّـ?دِقَـ?تِ وَ?لصَّـ?بِرِينَ وَ?لصَّـ?بِر?تِ وَ?لْخَـ?شِعِينَ وَ?لْخَـ?شِعَـ?تِ وَ?لْمُتَصَدّقِينَ وَ?لْمُتَصَدّقَـ?تِ و?لصَّـ?ئِمِينَ و?لصَّـ?ئِمَـ?تِ وَ?لْحَـ?فِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ?لْحَـ?فِظَـ?تِ وَ?لذ?كِرِينَ ?للَّهَ كَثِيراً وَ?لذ?كِر?تِ أَعَدَّ ?للَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35].
أذكركنّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن خطب الرجال، في مثل هذا اليوم الأغرّ، مشى متوكئاً على بلال رضي الله عنه، وخطب النساء، وكان من خطبته أنه تلا عليهنّ آية مبايعة النساء في سورة الممتحنة: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ ?لْمُؤْمِنَـ?تُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى? أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِ?للَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْـ?دَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـ?نٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَ?سْتَغْفِرْ لَهُنَّ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الممتحنة:12]، فلما فرغ من الآية قال: ((أنتنّ على ذلك؟)) فقالت امرأة واحدة، ولم تجبه غيرها: نعم يا رسول الله، رواه البخاري.
ثم أمرهنّ بالصدقة، وقال لهنّ: ((تصدّقن فإن أكثركنّ حطب جهنم)) ، فقالت امرأة من وسط النساء: لماذا يا رسول الله؟ فقال: ((لأنكنّ تكثرن الشكاية وتكفرن العشير)) ، فجعلن رضي الله عنهنّ يلقين من قروطهنّ وخواتيمهنّ وقلائدهنّ في ثوب بلال رضي الله عنه، صدقةً لله.
فيا أيتها الأخوات والأمهات، اتقين الله تعالى وكنّ خير خلف لخير سلف.
أيتها النساء، إن عليكنّ أن تتقين الله في أنفسكنّ وأن تحفظن حدوده، وترعين حقوق الأزواج والأولاد، فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله.
أيتها النساء، لا يغرنكنّ ما يوجّه للمرأة في هذا الزمان من شتّى أبواب المغريات لإفسادهنّ باسم الموضة وباسم الأزياء ثم المحاولات المتتابعة في إخراج المرأة من مكان صونها وكرامتها ولا يغرنكنّ ما يفعله بعض النساء ممن تأثرن بهذا التيار من الخروج إلى الأسواق بالتبرج والطيب وربما كشف الوجه واليدين أو وضع ساتر رقيق لا يستر، فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صنفان من أهل النار لم أرهما بعد)) ، وذكر: ((نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهنّ كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنّة ولا يجدن ريحها)).
أيتها النساء، إياكنّ ثم إياكنّ من لبس البنطلون، فإنه حرام، ولا يجوز للمرأة لبسه، وإن كان أمام النساء، ومع الأسف انتشرت هذه الظاهرة عندنا، ولم تكن معروفة من قبل، ثم إياكنّ من وضع العباءة على الكتف وإن غطت المرأة وجهها، فإنه حرام ولا يجوز، وفيه تشبه بالرجال، وقد لعن الرسول صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال.
أيتها النساء، إذا مشيتنّ في الأسواق فعليكنّ بأطراف الطريق ولا تزاحمن الرجال ولا ترفعن أصواتكنّ ولا تلبسن أولادكنّ ألبسة محرمة أو مكروهة، ولا تعودوا بناتكن على لبس القصير وإن كانت صغيرة.
أيتها النساء، إياكنّ ثم إياكنّ والركوب مع السائق لوحده، أو الخلوة به بحجة أن هذا سائق، وصار يعامل معاملة أهل البيت فإن في هذا شر عظيم، لا يعلم به إلا الله، وما اختلى رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما.
(1/2957)
خطبة العيد لعام 1419هـ
الإيمان
الجن والشياطين
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
1/10/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل يوم العيد. 2- شكر الله تعالى على نعمه. 3- فتنة الفضائيات. 4- الخشية من عدم القبول. 5- واقع الأمة المزري. 6- كلمات للأخوات المسلمات. 7- الحث على المحافظة على الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن يومكم هذا يوم عظيم، وعيد كريم، فأقول لكم: كل عام وأنتم بخير، تقبل اللهم مني ومنكم، أسأل الله جل وتعالى أن يجعلني وإياكم وجميع إخواننا المسلمين من المقبولين، ممن تقبل الله صيامهم وقيامهم وكانوا من عتقائه من النار.
أيها المسلمون، إن هذا اليوم يوم عظيم من أيام المسلمين، يوم كله برٌ وإحسان، خرج المسلمون إلى مصليات الأعياد متطهرين مكبرين شكراً لله تعالى على إتمام شهر الصيام، وعونه على القيام.
لقد حضر المسلمون وقصدوا مصلاهم وقد أدوا زكاة فطرهم للفقراء والمساكين فرحين مكبرين مهللين، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر والله الحمد.
أيها المسلمون، يقول الله جل وتعالى: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185]، أما العدة أيها الأحبة فأكملناها، والتكبير كبّرنا، أو قُل كبّر بعضنا لكن بقي علينا جميعاً وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
عباد الله، بم نبدأ شكر الله؟ أنبدأ بالشكر على نعمة الإسلام، أم نبدأ بالشكر على نعمة إتمام رمضان.
ما أعظمك يا ربنا وما أرحمك يا ربنا، أبقيتنا أحياء حتى أدركنا رمضان، وأبقيتنا حتى أتممنا صيامه، وغيرنا في بطن الأرض يتمنى أن يسجد لك سجدة، ما أرحمك يا ربنا، فتحت أبواب الجنان، وأغلقت أبواب النيران وكتبت من كتبت في سجل العتق من النار، فلك الحمد على الصيام ولك الحمد على القيام ولك الحمد على الدعاء ولك الحمد على تلاوة القرآن.
إذا كان شكري نعمة الله نعمة عليّ له في مثلها يجب الشكر
فكيف وقوع الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر
إذا مس بالسراء عم سرورها وإن مس بالضراء أعقبها الأجر
وما منها إلا له فيه منّة تضيق بها الأوهام والبر والبحر
الله أكبر الله أكبر لا اله إلا الله الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
إن شكر الله تعالى أيها المسلمون درجات، تبدأ بالاعتراف بفضله والحياء من معصيته وتنتهي بتجريد الشكر له جل وعلا، وذلك بأن نترجم الشكر إلى أقوال وأعمال، فتكون أعمالنا كلها دالة على شكره، قال الله تعالى: ?عْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ?لشَّكُورُ [سبأ:13].
أيها المسلمون، قال ربكم جل جلاله: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، فإن كنا حقاً نحرص على شكر الله فلنري الله من أنفسنا خيراً بعد شهر الصيام والقيام.
يا حسرتى على دموع سكبت في المساجد ويا حسرتى على دعوات رفعت من أجلها الأيدي إلى السماء ويا حسرتى على حضور مع الجماعة وتلاوة للقرآن طوال الشهر فأعقب ذلك كله عودة إلى المعاصي، وتفريط بالصلوات وهجر للقرآن واستهانة بالمحرمات وإهمال للمسئوليات، اللهم إنا نعوذ بك من الحور بعد الكور ونعوذ بك من أن نبدل نعمتك كفراً ونحن نستقبل أيام العيد.
وقد قيل: من أراد أن يعرف أخلاق الأمة فليراقبها في أعيادها، إذ تنطلق فيه السجايا على فطرتها، وتبرز العواطف والميول والعادات على حقيقتها، والمجتمع السعيد الصالح هو الذي تسمو أخلاقه في العيد إلى أرفع ذروة.
ولقد رأى أحد السلف قوماً يعبثون في يوم العيد بما لايرضي الله فقال: إن كان هؤلاء تُقُبِّل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كانوا لم يُتقَبّل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين.
أيها المسلمون، إننا نعيش زمن فتن، والسالم من سلّمه الله، وإن من أعظم فتن هذا الزمان التي فتنت الصغير والكبير والرجل والمرأة، والتي ما تركت بيتاً إلا دخلته، إلا من رحم الله وهم قليل، ألا وهي فتنة الفضائيات والتي حقيقتها فضائحيات، قَلّ من لم يدخل من المسلمين في بيته صحن الدش الذي من خلاله تستقبل هذه المحطات، وقد تحدثت مراراً وتحدث غيري حول هذا الموضوع الخطير ومع الأسف قل من يستجيب، فلعلي أستغل جمعكم هذا وقد خرجتم لتوّكم من شهر الصيام، شهر التوبة والرجوع إلى الله، فأقول لك يا أخي ياصاحب الدش: انج بنفسك من النار، خلّص رقبتك من نار جهنم، مما أدخلته على أولادك وأهل بيتك، وأنت تعلم جيداً ما تبثه هذه القنوات من مواد، لم تعد حجة متابعة أخبار العالم مقبولة ولا مستساغة حتى عند من يحتجون بها، لأن ما فيها من الشر والدمار والهلاك لدين المرء وخلقه مئات أضعاف ما فيها من أخبار.
لقد تعوّد أولادكم أيها المصلون أن يشاهدوا الدعارة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، أليس ظلماً منك لولدك أن تعوده على رؤية المرأة والرجل في وضع الزوجين، وتعوده على مشاهدة القُبَل المحرمة بل وفي ليالي رمضان، ألا تظن أنك ستوقف بين يدي الله وتُسأل عن تعليمك لولدك وبنتك طرق المعاكسات وأساليب ارتكاب الفاحشة، بالطبع ستقول: لم أفعل هذا، لكنك قد فعلت شئت أم أبيت عن طريق إدخال الدش في بيتك.
كنت أُقلب أحد الأعداد من مجلة أصداف وهي أحد المجلات السيئة التي تباع عندنا فتعجبت مما تنشره المجلة بكل جرأة وصراحة وإن كان هذا أمراً معلوماً من قبل وليس سراً، لكن الغريب كما قلت لكم هو الجرأة والصراحة والنشر. فبالخط العريض: مدير محطة "إل بي سي" يعترف علناً بأن المحطة تركز على الجنس وأن هذا هو الذي يجذب المشاهد العربي. وفي نفس العدد وفي أحد الحوارات التي أجريت مع مالك إحدى المحطات الفضائية المعروفة في الوطن العربي إعترف علانية وبصراحة بأن محطته تستخدم المذيعات الجميلات اللواتي يجدن الإثارة والإغراء والبرامج ذات الطابع الجنسي لاستقطاب المشاهدين وخاصة من دول الخليج.
فيا أولياء أمور البنين والبنات، لا أظن بأن خطر القنوات الفضائية لم يعد واضحاً لكل عاقل، فإني أخاطب الإيمان الذي في قلوبكم، وأخاطب الإسلام الذي تعتنقون، وأنتم أعلم مني بأن ما يعرض في بيوتكم عبر هذه الدشوش أنه يخالف إسلامكم الذي تعتنقون، ويضاد إيمانكم الذي تحملون.
فاتقوا الله أيها المسلمون، نصيحة مشفقٍ عليكم أقولها لكم مرة أخرى، انجوا بأنفسكم من النار، انجوا بأنفسكم من النار. فوالله إنها نارٌ محرقة، سوداء مظلمة، أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، وأوقد عليها ألف عام حتى احمرت، وأوقد عليها ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة.
وياليت خطورة الفضائيات كانت مقتصرة على النواحي الأخلاقية، إنها تهدد أيضاً أمن البلاد من خلال بث الأفكار المنحرفة الدخيلة على مجتمعنا، ومن خلال تعليم الناشئة طرق ارتكاب الجريمة، وطرق الاغتصاب، وإتقان عمليات السطو والسرقة والقتل بل وحتى كيفية صنع المتفجرات من بعض المواد المتاحة، وغيرها من الأشياء التي تعرض على أنها أفلام، وهي في حقيقتها بث لهذه السموم ومحاولةٌ لزرعها في المجتمعات الآمنة والمحافظة، فمن المستفيد من ترويج هذه الأفلام؟ ومن المغبون؟ وليت المسألة وقفت عند فلم أو مسلسل وانتهى الأمر، لكن الواقع الذي نشاهد أن الأمر لا ينتهي، بل هناك من يحاول أن يطبق في النهار ما تعلّمه في الليل من هذه القنوات، ويكفينا بعض الجهات المسئولة التي تشتكي من زيادة نسبة الجرائم الأخلاقية والجنائية، من هيئة الأمر بالمعروف والشرطة والمحاكم وغيرها.
لماذا تأخر عنّا المطر أيها الأحبة، كم مرّة صلينا الاستسقاء ومع ذلك لم نُجب، هل لكثرة أعمالنا الخيرية؟ أم لزيادة في نوافل الخير والطاعات؟ إنه لا تفسير لهذه الظاهرة كما نعلم جميعاً من ديننا إلا المعاصي، بسبب ما نرتكب من معاصي بأيدينا وأرجلنا ليل نهار، وهل هناك معصية أعظم من معصية الفضائيات.
أسألكم أيها الأحبة، من منّا جاءه علم من ربه أنه قبل صيامه وقيامه؟ من جاءه علم من ربه أنه كتب من العتقاء من النار؟ إن الله تعالى يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، فهل من صفات المتّقين أن نرجع إلى الوراء ونحرق الحسنات بلهيب السيئات. لقد أثبت الواقع العملي لدى بعض المسلمين، أنهم ليسوا حريصين على قبول طاعاتهم ذلك أن علامة قبول الطاعة أن يوفق العبد لطاعة بعدها، ومن أعظم الطاعات فعل الواجبات والكف عن المعاصي التي لا مرية فيها، فانظر أين موقفك يا عبد الله، شهر كامل وأنت تجاهد النفس وتصّبرها، وتجمع الحسنات وتحسبها، فهل بعد هذا تراك تنقضها، إن الله تعالى يقول: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـ?ثًا [النحل:92].
أيها المسلمون، لقد جاءنا العيد وواقع الأمة مؤلم والله المستعان، أعداء الأمة يسومونها سوء العذاب، اليهود من جهة، والنصارى من جهة، والملاحدة والباطنيون من جهة، وكلهم من الخارج، ومنافقون من داخلها، من بني جلدتها ويتكلمون بلسانها، لكن قلوبهم معلقة ومتجهة نحو الغرب أو الشرق. إن واقع الأمة اليوم، لا يخفى على عاقل، أراضيها من أوسع بلاد الله، خيراتها من أغنى بلاد الله، شعوبها من أكثر الشعوب عدداً، وفي المقابل، أراضيها مسلوبة، خيراتها منهوبة، شعوبها مظلومة، الفقر يقتلها، والجهل ينهكها، وفوضى لا أول لها ولا آخر، عقولها محجّمة، طاقاتها معطّلة، أموالها مبددة. واليوم هناك حروب ضروس، موجه خنجرها في صدر العالم الاسلامي والعربي وهي الحرب الاقتصادية والتي من خلالها يلعب الغرب وفي مقدمتها دولة عاد الكبرى ومن ورائها عملائها من اليهود يلعبون في ميزانيات كثير من الدول، فأغرقوا معظم دول العالم إلا من رحم الله في ديون خارجية تصب فوائدها في جيوبهم وتدفعها الدول المديونة بل وأجيال متعاقبة تكتوي بنار هذه الفوائد الربوية. ومن خلال هذه الحرب الباردة سيطر الغرب على معظم الدول بل ووجهت سيساتها الخارجية والداخلية.
تسأل وإلى متى سيبقى المسلمون هكذا، وإلى متى وواقع الأمة مظلم أسود، لقد تاقت نفوس المخلصين إلى منقذ للأمة من واقعها، أسأل الله جل وعز أن يكون عاجلاً غير آجل. وكلّنا أمل أن يبارك الله في هذه الصحوة المباركة، وفي هذا الشباب المقبل على دينه بأن يكون فاتحة الخير على يديه.
أمّا عن واقع الأمة الحالي وفي أثناء أيام العيد، فقد أحسن ذلك الشاعر حين وصف حالها فقال:
قتل وتعذيب وتشريد فمتى سيغمر كوننا العيد
ومتى متى يا أمتي فرحي ومتى متى ستزغرد الغيد
في كل أرض صرخةٌ لفم دوّت فدوّت بالصدى البيد
لكننا نلهو فلا غضب نبدي ولا الإيثار موجود
وكأن وقراً قد تغلغل في آذاننا فالسمع مسدود
صرب وصهيون تمزقنا وسلاحنا في الصدر تنديد
والمجلس المأمول في شغل عنا يماطل فوقه الهود
والنخوة القسعاء صادرها متفرد في الرأي نمرود
وإذا العروبة تنبري شيعاً عادت إليها الأزمن السود
يا أمة شاخ الزمان بها وعلت محياها التجاعيد
عاث الخلاف بها وفرقها بعدٌ عن الإسلام مشهود
الهدي فيها وهي ضائعة يقتادها القيثار والعود
قد خدّرت بفم منغمة شغلت بها والسيف مغمود
في كل يوم يستباح بها دم يقامر فيه عربيد
يا أمتي ما ضاع يُرجعه سيف به الإيمان معقود
يا أمتي هذا الكتاب لنا ولنا به عز وتسويد
فإذا به سرنا سيغمرنا نصر من الرحمن موعود
[البيان: 110/41].
فنسأل الله جل وتعالى أن يفرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم فرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فرجاً عاجلاً غير آجل.
نفعني الله واياكم بهي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول هذا القول وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معيد الجمع والأعياد، ومبيد الأمم والأجناد، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه أن الله لا يخلف الميعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا مضاد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المفضّل على جميع العباد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وعلى أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وسلم تسليماً كثيراً.
الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
الله أكبر الله أكبر لاإله إلا الله ،والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أما بعد: فيا أيتها الأخوات الحاضرات معنا في هذا المشهد العظيم، الممتثلات أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهود الخير ودعوة المسلمين أسأل الله جل شأنه بكل اسم هو له، أن يجعلنا وإياكنّ ممن قال فيهم سبحانه: إِنَّ ?لْمُسْلِمِينَ وَ?لْمُسْلِمَـ?تِ وَ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَ?لْقَـ?نِتِينَ وَ?لْقَـ?نِتَـ?تِ وَ?لصَّـ?دِقِينَ وَ?لصَّـ?دِقَـ?تِ وَ?لصَّـ?بِرِينَ وَ?لصَّـ?بِر?تِ وَ?لْخَـ?شِعِينَ وَ?لْخَـ?شِعَـ?تِ وَ?لْمُتَصَدّقِينَ وَ?لْمُتَصَدّقَـ?تِ و?لصَّـ?ئِمِينَ و?لصَّـ?ئِمَـ?تِ وَ?لْحَـ?فِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ?لْحَـ?فِظَـ?تِ وَ?لذ?كِرِينَ ?للَّهَ كَثِيراً وَ?لذ?كِر?تِ أَعَدَّ ?للَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35].
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن خطب الرجال، في مثل هذا اليوم الأغرّ، مشى متوكئاً على بلال رضي الله عنه، وخطب النساء، وكان من خطبته أنه تلا عليهنّ آية مبايعة النساء في سورة الممتحنة، ثم أمرهنّ بالصدقة وقال لهنّ: ((تصدّقن فإن أكثركنّ حطب جهنم)) ، فقالت امرأة من وسط النساء: لماذا يا رسول الله؟ فقال: ((لأنكنّ تكثرن الشكاية وتكفرن العشير)) فجعلن رضي الله عنهنّ يلقين من قروطهنّ وخواتيمهنّ وقلائدهنّ في ثوب بلال رضي الله عنه، صدقةً لله.
فيا أيتها الأخوات ويا أيتها الأمهات، اتقين الله تعالى وكنّ خير خلف لخير سلف.
أيتها النساء، إن عليكنّ أن تتقين الله في أنفسكنّ وأن تحفظن حدوده وترعين حقوق الأزواج والأولاد، فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله.
أيتها النساء، إن المرأة في هذا الزمان وفي هذا العصر بالذات تعاني أكثر مما كانت تعاني منه المرأة من قبل، ولا يخفاكنّ الهجوم الشرس الذي يوجه في هذا الوقت، في كل بلاد العالم بشكل عام وفي بلدان المسلمين بشكل خاص من قبل أعداء الشريعة وخصوم الملة من الخارج والداخل ممن تربوا على فكر الغرب العفن، وتشربوا زبالة إنتاجه، فهناك محاولات كثيرة في إخراج المرأة من بيتها بأية حجة، وقد نجحوا في كثير من الجوانب لتحقيق ما يريدون، وهناك نداءات مباشرة تارة، وغير مباشرة تارات، حول قيادة المرأة للسيارة وهناك وهناك، أشياء وأشياء يُكاد فيها للمرأة، والمتتبع للصحف والمجلات يدرك ذلك، لكن أملنا كبير بعد الله تعالى بكنّ أيتها النساء أن تكنّ على مستوى هذا التحدّي، وأن لا تُفتنّ مع من انزلق في هذا التيار.
أيتها النساء، إياكنّ والخروج إلى الأسواق بالتبرج والطيب وربما كشف الوجه واليدين أو وضع ساتر رقيق لا يستر، فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صنفان من أهل النار لم أرهما بعد، وذكر نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهنّ كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنّة ولا يجدن ريحها)).
أيتها النساء، إياكنّ ثم إياكنّ من لبس البنطلون فإنه حرام ولا يجوز للمرأة لبسه، وإن كان أمام النساء، ومع الأسف انتشرت هذه الظاهرة عندنا، ولم تكن معروفة من قبل، وهذا أحد الأمثلة فيما نجح المفسدون في إدخاله على مجتمعنا وإلباسه لنسائنا.
أيتها النساء، لا تدخلن المطاعم بحجة أنها من قسم العوائل، فإن هذه عادة قبيحة، وهو مما أدخله المفسدون علينا أيضاً، فكم تحزن عندما ترى بعض الأسر المحافظة والمعروفة، يرتادون هذه المطاعم دون أية غضاضة أو حرج.
أيها المسلمون والمسلمات، إن كان من وصية جامعة خاتمة أوصي بها نفسي أولاً ثم أوصيكم جميعاً ذكوراً وإناثاً ونحن في هذا اليوم العظيم من أيام الله تعالى، خصوصاً بعد انقضاء شهر رمضان، فإنها تقوى الله تعالى في السرّ والعلن، ثم أوصيكم بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ جعل يقول وهو يجود بنفسه: ((الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)) ، إنه لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، من تركها فعليه لعنة الله، من تركها خرج من دين الله، من تركها انقطع عنه حبل الله، من تركها خرج من ذمة الله، من تركها أحل دمه وماله وعرضه، تارك الصلاة عدو لله، تارك الصلاة عدو لرسول الله، تارك الصلاة عدو لأولياء الله، تارك الصلاة مغضوب عليه في السماء، ومغضوب عليه في الأرض، تارك الصلاة لا يؤاكل ولا يشارب ولا يجالس ولا يرافق، ولا يؤتمن. تارك الصلاة خرج من الملة، وتبرأ من عهد الله، ونقض ميثاق الله، إنه لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
(1/2958)
خطبة عيد الفطر1421هـ
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
المرأة, المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
1/10/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اختلاف المطالع وأثره في ثبوت دخول الشهر. 2- فرح المؤمن بتمام نعمة رمضان. 3- وصاة الأنبياء أقوامهم بالمحافظة على الصلاة. 4- مظاهر الفرح في العيد تضبطها الشريعة. 5- تذكر قضايا المسلمين في العيد. 6- وقفة مع قضية فلسطين ومعركة فلسطين. 7- نصيحة خاصة للنساء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن يومكم هذا يوم عظيم، وعيد كريم، فأقول لكم: كل عام وأنتم بخير، تقبل اللهم مني ومنكم، أسأل الله جل وتعالى أن يجعلني وإياكم وجميع إخواننا المسلمين من المقبولين، ممن تقبل الله صيامهم وقيامهم وكانوا من عتقائه من النار.
اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أنه قد ثبت دخول شهر شوال هذا اليوم ثبوتاً شرعياً، وأن اختلاف البلدان في دخول الشهر لا يضر، وذلك لأن مطالع القمر تختلف بحسب البلدان، بإجماع أهل المعرفة في ذلك.
الله أكبر..
أيها المسلمون، إن هذا يوم توّج الله به الصيام، وأجزل فيه للصائمين والقائمين جوائز البر والإكرام. قال ربنا سبحانه: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185]، وها أنتم قد أكملتم بفضل الله صيام شهركم، وجئتم إلى مصلاكم تكبرون الله ربكم، على ما هداكم إليه من دين قويم، وصراط مستقيم، وصيام وقيام، وشريعة ونظام، وقد خرجتم إلى صلاة العيد وقلوبكم قد امتلأت به فرحاً وسروراً، وألسنتكم تلهج بالذكر والدعاء، تسألون ربكم أن يتقبل عملكم، وأن يتجاوز عنكم، وأن يعيد عليكم مثل هذا اليوم، وأنتم في خير وإحسان، وأمن وإيمان، واجتماع على الحق وابتعاد عن الباطل.
الله أكبر كبيراً والحمد...
معاشر المسلمين، لقد خاطب الله المكلفين بقوله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. لقد استطعت ـ أخي المسلم ـ أن تُضرب عن المباحات والطيبات، تركت الماء الزلال الحلال، وتركت الطعام الطيب اللذيذ، تركت شهواتك طاعة لأمر ربك، فهل يليق بمن منع نفسه من الحلال طاعة لله، أن يقرب بعد رمضان السُّحت الحرام، من الشراب والطعام، لذلك قال ربنا: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. حُقَّ للمؤمن الذي شرح الله صدره للعمل الصالح أن يفرح بما أنعم الله عليه به من توفيق قُلْ بِفَضْلِ ?للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
الله أكبر...
اعلموا معاشر المسلمين، أن الله تعالى لم يأمركم بالعبادة لاحتياجه إليكم، فهو سبحانه غني عن العالمين وإنما أمركم بما أمركم به لاحتياجكم إليه، وقيام مصالحكم الدينية والدنيوية عليه، فاعبدوه واشكروه، وحافظوا على الصلاة، فلا دين بلا صلاة، قال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: رَبّ ?جْعَلْنِى مُقِيمَ ?لصَّلو?ةِ وَمِن ذُرّيَتِى [إبراهيم:40]، وقال عن إسماعيل عليه السلام: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِ?لصَّلَو?ةِ وَ?لزَّكَو?ةِ [مريم:55]، وقال عن عيسى عليه السلام: وَأَوْصَانِى بِ?لصَّلَو?ةِ وَ?لزَّكَو?ةِ مَا دُمْتُ حَيّاً [مريم:31]، وقال الله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ طَرَفَىِ ?لنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ?لَّيْلِ [هود:114].
واجتنبوا المحرمات فإنه لو كان فيها خير لكم ما حرمها الله عليكم، فهو الجواد الكريم، وإنما حرّم عليكم ما فيه ضرركم ديناً ودنيا، رحمة بكم، فاتقوا الله وتمتعوا بما أباح لكم من الطيبات، واشكروه عليها، فإن الشكر سبب لدوام النعم، وعدم شكرها سبب لزوالها.
عباد الله، إن شهر رمضان تولى وانسلخ بما فيه شاهداً مصدقاً على المحسن بإحسانه، وعلى المسيئ بإساءته، فعلى من منَّ الله عليه بالتوفيق فيه، وتاب إلى الله وأناب، وصام وقام، أن يحافظ على هذه الدرجة الطيبة ويزداد في الخيرات، فطوبى له هذا العيد السعيد الذي يباهي الله به ملائكته، ويشهدهم أنه غفر لعبده في هذا اليوم الجوائزي، وعلى المسيئ الذي فرّط في موسم خصبٍ لا يُعوّض، أن يتوب إلى الله، ويبادر فإن الله يقبل توبة عبده ما لم يُغَرغر.
الله أكبر...
أيها المسلمون، إن الله جل وتعالى شرع لنا في هذا اليوم شرائع كثيرة، ومن ذلك، الفرحة بيوم العيد، ولكنه الفرح الشرعي الذي لا يدعو إلى أَشَر، ولا يجر إلى خيلاء وكِبْر وبَطَر، فرح لا إسراف فيه ولا تبذير: وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ ?لْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْو?نَ ?لشَّيَـ?طِينِ وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء:26، 27]، فرح لا تَهتُّك فيه ولا تبرج، ولا تزين ولا تعطر للمرأة أمام الرجال الأجانب: وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لاْولَى? [الأحزاب:33].
فرح لا اختلاط فيه، ولا استماع للغناء المشجع على الزنا وعلى الحب والخنا، ولا آلة زمر أو لهو أو طرب يقول الرسول فيما يرويه البخاري في صحيحه: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف)) فرح لا غفلة فيه، ولا إضاعة للصلوات، ولا نظر فيه إلى المحرمات: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ [النور:30]، فرح لا إقبال فيه على العصيان ونسيان ما كان في رمضان.
الله أكبر...
إن المؤمن إذا فرح في عيده، فإنه يفرح وفي قلبه حرقةٌ، وفي نفسه حسرةٌ، وألم لما آل إليه حال المسلمين اليوم من تفرق فيما بينهم، ونسيان لدينهم، وتداعي الأمم عليهم، يحزن وهو يتذكر حال كثير من المسلمين اليوم من موالاة وتحالف مع اليهود: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ ?لآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ ?لْكُفَّـ?رُ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لْقُبُورِ [الممتحنة:13]، إن المسلم الحق لا ينسى في فرحة العيد إخوانه المجاهدين في الشيشان، وما يعانون أمام عدو كاسر حاقد، فهو مع فرحه بالعيد يخصهم ببعض دعائه، وربما خصهم ببعض صدقاته. ولا ينسى وهو يفرح بعيده إخوانه المسلمين المستضعفين المرابطين على أرض الإسراء والمعراج، بل كيف يفرح المسلم بالعيد والمسجد الأقصى ما يزال يئنّ تحت وطأة يهود. إن المسلم إذا سمع التكبير يوم العيد يطأطئ رأسه لوقوع أولى القبلتين، وثالث المسجدين، ومسرى الرسول صلى الله عليه وسلم، تحت اليهود الأنجاس المناكيد، الذين كتب الله عليهم الذلة إلى يوم القيامة.
إن القضية المعاصرة ـ أيها الأحبة ـ للقدس تشهد مأساة إنسانية، لم تسمع الدنيا بمثلها أو قريبة منها، حيث لم يرَ العالم شعباً كاملاً يعاني التهجير والنفي والاغتصاب للأملاك والأعراض، مع القتل والأسر وسائر صنوف الأذى، ثم يظل قسم من هذا الشعب مع ذلك في وضع معيشة إجبارية خارج وطنه، وقسم يعاني حياة ذليلة داخل وطنه، بحيث يَفرض الواقع الدولي والعربي عليه أن تكون لقمة عيشه رهينة الإرادة اليهودية، التي تغلق الحواجز والمدن وقتما تشاء، في وجه عمال يضطرون يومياً إلى ما هو أسوأ من أكل الميتة، ألا وهو العمل في بناء المستوطنات، وتعمير القرى والبلدان التي يستولي عليها اليهود، لقاء لقمة عيش ممزوجة بمرارة الاضطرار، وحرارة العوز والافتقار.
ثم إن إرادة تحدي هذا الواقع المرير تصطدم كل مرة بواقع أمرّ، حيث يُفرض على هذا الشعب أن يحيا أعزلَ من كل سلاح يمكن أن يدافع به عن نفسه، إلا سلاح الحجارة!! فأي عصر حجري هذا الذي نعيشه، بحيث يُحرم شعب كامل من الدفاع عن دمه وعرضه، فضلاً عن ماله وأرضه إلا من سلاح الحجارة. لكن لأننا بعدنا عن ديننا أصبحنا أضعف منهم، وأصبح منا من يسارع في ابتغاء رضاهم. ويئن المسجد الأقصى جريحاً، يقول ويصرخ وينادي: أين المجاهدون في سبيل الله؟! أين الذين لا يرضون بالذل والهوان؟! أين الذين يفضّلون موت الشرفاء على عيش الدَّهْماء؟! أين الذين يحبون الله؟! أماتت الهمم؟! أم ذهبت المروءات والشيم؟! أفي القوم أحياء؟! أم أدركهم الفوات؟! أما في القوم مثل عمر بن الخطاب؟! أعجزت النساء أن تلد صلاح الدين من جديد؟! أين موسى بن نصير وطارق بن زياد؟! وأين محمد بن القاسم؟! بل أين خالد بن الوليد وأسامة بن زيد. لا، لا يا أيها المسجد الأقصى، ولكنها نبوءة تحققت، فقد قال رسول الله : ((يوشك الأمم أن تَدَاعَى عليكم كما تداعى الأَكَلَة إلى قَصْعَتِها)) فقال قائل: أومن قلة نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غُثَاء كغُثَاء السَّيْل، ولينْزِعَنَّ الله من صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذِفَنَّ الله في قلوبكم الوَهْن)). فقال قائل: يا رسول الله وما الوَهْن؟ قال: ((حُب الدنيا وكراهية الموت)).
أيها المسلمون، ومع كل هذا، فإننا على موعد بخبر الصادق المصدوق، فإنه لا بد لهذا الليل أن يرى الفجر، ولا بد لهذه الغُمّة أن تنقشع، فإن من جملة ما نعتقد أن بيت المقدس سيشهد آخر خلافة على منهاج النبوة، وسيشهد تجمع الطائفة المنصورة في الأمة، وسيشهد نزول عيسى عليه السلام، وقيام مملكته الحاكمة بالإسلام، وسيشهد القتال الأخير مع اليهود، وسيشهد الملاحم الكبرى مع النصارى، وسيشهد بيت المقدس أيضاً التجمع الأخير للبشر في أرض المحشر، حيث يتفرق الناس بعده إلى منازل وأحداث القيامة الكبرى.
أيها المسلمون، وينبغي أن يُعلم بأن الذي مكّن لليهود الآن بعد قدر الله، هو أن اليهود يخططون ويعملون كثيراً، ويتكلمون ويخطبون قليلاً، وهم كثيراً ما يسكتون عمّا يفعلون، وغالباً ما يفعلون ما لا يقولون، بل يعملون في تكتم وتستر، ولا يملؤون الدنيا ضجيجاً بنجاح أنجزوه، وإنما ينتقلون منه إلى غيره.
إنه لا حل لقضية القدس إلا بالجهاد، أن ترفع الأمة بأسرها راية الجهاد في سبيل الله، قال سماحة الشيخ الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله رحمةً واسعة: يا معشر المسلمين من العرب وغيرهم في كل مكان، بادروا إلى قتال أعداء الله من اليهود، وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، بادروا إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين والمجاهدين الصابرين، وأخلصوا النية لله، واصبروا واتقوا الله عز وجل تفوزوا بالنصر المؤَزَّر، أو شرف الشهادة في سبيل الحق ودحر الباطل. انتهى..
نفعني الله وإياكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله مُعيد الجمع والأعياد، ومبيد الأمم والأجناد، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا مضاد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المفضَّل على جميع العباد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وعلى أصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وسلم تسليماً كثيراً.
الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أما بعد: فيا أيتها الأخوات الحاضرات معنا في هذا المشهد العظيم، الممتثلات أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهود الخير ودعوة المسلمين، أسال الله جل شأنه أن يجزيكنّ خيراً، وأن نكون وإياكنّ من عتقائه في هذا الشهر الكريم.
فيا أيتها الأخوات والأمهات، اتقين الله تعالى وكنّ خير خلف لخير سلف. أيتها النساء، إن عليكنّ أن تتقين الله في أنفسكنّ وأن تحفظن حدوده، وترعين حقوق الأزواج والأولاد، فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله.
أيتها الأخوات والأمهات، إصغين جيداً لهذه الأحاديث من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي رواها البخاري في صحيحه فإنكنّ المعنيات: الحديث الأول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صنفان من أهل النار لم أرهما)) ، وذكر: ((نساء كاسيات عاريات مُمِيلات مائلات رؤوسهنَّ كأَسْنِمَة البُخْتِ المائلة، لا يَدخُلن الجنّة ولا يَجِدْن ريحها)). الحديث الثاني: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ)) قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: ((يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ)).
الحديث الثالث: عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْفَجْرَ، فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ مُتَلَفِّعَاتٍ فِي مُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَرْجِعْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ.
الحديث الرابع: عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ)).
الحديث الخامس: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَِ)).
الحديث السادس: عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ)).
الحديث السابع: عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ)) فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: ((الْحَمْوُ الْمَوْت)). الحديث الثامن: عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَرَجِّلَاتِ مِنْ النِّسَاءِ.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى، أن تجعلنا من الذين قبلت منهم رمضان، وأعتقتهم من النيران. الله اجعلنا ممن صام رمضان إيماناً واحتساباً، فغفرت له ما تقدم من ذنبه، اللهم اجعلنا ممن قام رمضان إيماناً واحتساباً فغفرت له ما تقدم من ذنبه، اللهم اجعلنا ممن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، فغفرت له ما تقدم من ذنبه. اللهم إنا نسألك أن تفرِّج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم فرجاً عاجلاً غير آجل، اللهم فَرِّجْ هم المهمومين، ونَفِّسْ كرب المكروبين، اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاَ ومن كل ضيق مخرجاَ. اللهم أعد علينا رمضان أعواماَ عديدة وأزمنة مديدة، ونحن في أمن وإيمان وبر وإحسان وعلى طاعة واستقامة يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في الشيشان، اللهم انصرهم على الروس الكفرة يا رب العالمين، اللهم والعن كل من ساعد الروس من اليهود والنصارى وغيرهم، اللهم وانصر المسلمين المستضعفين في فلسطين، اللهم اجبر كسرهم وقوِّ شوكتهم، وارحم ضعيفهم، اللهم واجمع كلمة المجاهدين على الحق، اللهم وسدد رميهم، اللهم عطفك ورحمتك باللاجئين المستضعفين يا قوي يا عزيز. اللهم والعن اليهود والنصارى ومن عاونهم، اللهم وأحصهم عدداً، وأهلكهم بدداً، ولا تغادر يا ربي منهم أحداً.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد سُبْحَـ?نَ رَبّكَ رَبّ ?لْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَـ?مٌ عَلَى? ?لْمُرْسَلِينَ وَ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الصافات:180-182]. وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(1/2959)
خطورة القدوة السيئة
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال من يسن في الناس سنة سيئة. 2- وجوب التنزه عن القبائح لمن هو في محل القدوة. 3- الحذر من أئمة الضلال. 4- ذم حال الذين يأمرون بالبر وينسون أنفسهم. 5- مصير هؤلاء يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن من أقبح المنكرات، وأرذل الأخلاق، أن يكون الشخص إماماً في الشر، متبوعاً وداعياً وهادياً إلى غير ما يرضي الله عز وجل.
أما إذا كان هو الشرارة الأولى، وهو الذي بدأ بسن هذه الرذيلة أو السيئة، في وسطه، أو أهله، أو مكتبه، أو مجلسه.فهذه ظلمات مركبة، وسنة سيئة، بل ويتحمل وزر من تبعه ويحمل مثل عمله. يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري: ((ليس من نفس تُقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل)).
ويقول : ((ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)) وعن البخاري ومسلم قوله عليه الصلاة والسلام: ((رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، لأنه أول من سيب السوائب وغير دين إبراهيم)) وكتب لهرقل عظيم الروم: ((أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين)) رواه البخاري ومسلم.
هذا وغيره من النصوص، تبين هذه القضية وخطورة هذا المسلك، وتنبه المسلم ليحرص أن لا يتعلم الناس منه أمراً سيئاً.
وكلما عظم مكانة الإنسان وشرفت، كان موقفه أصعب، وفضيحته أكبر، كأن يكون أباً في أسرة، أو رئيساً في دائرة، أو مديراً في مدرسة، أو أميراً في قبيلة، أو إماماً في مسجد، أو ما أشبه هذه التصورات، التي تجعل من الرجل يحاسب أكثر من غيره، ويتفقد نفسه أكثر من غيره، لأن خطأه ليس كغيره، وزلته وهفوته ليست كغيره.
كم هو عار وفضيحة، وإسقاط لهيبة الشخص وزوال لمكانته من قلوب متبوعيه، لو عُرف عنه، أنه سيء، أو مجرم، أو خائن، أو غاش أو كذاب، أو مزور، أو أية صفة ذميمة لا يرضاها الله ولا عباد الله في عامة الناس ناهيك عن شخص، يتصور مكانة، بين الناس ماذا يكون موقف الأب بين أولاده، لو عُرف عنه، وكشفت أوراقه، بأن له علاقات محرمة مع غير أمهم. مثلاً.
ماذا يكون موقف إمام الحي، لو علم المصلون خلفه أنه يتعاطى الربا، أو يُدخن، أو غيرها من سيء الأخلاق، ومنكرات الأفعال.
ماذا يكون موقف رئيس دائرة أو مصلحة، لو علم موظفوه، أنه يأكل حقوقهم، أو أنه يأخذ أضعاف راتبه الأصلي بطرق غير رسمية. ثم يؤخر رواتبهم بحجة أن المصلحة وضعها المادي ضعيف. هل يُتوقع أن هؤلاء الموظفين سيعملون بإخلاص، ويهمهم أمر هذه المصلحة أو الشركة؟ لا أظن ذلك.
ماذا يكون موقف مدير مدرسة، لو اكتشف الطلاب أن مديرهم، يعطي أسئلة الامتحانات لبعض أقربائه، أو جيرانه.
لا شك أن كل هذه مواقف محرجة، كان الشخص في غنىً عنها، لو حاسب نفسه وراقبها، وأخذها بخطام الشرع.
لكنه الهوى وضعف الدين، وضعف الخوف من رب العالمين. وهذه أمثلة فردية تعد بسيطة لتقريب الصورة ناهيك عن الخيانات التي تكون على مستوى وزارات أو مجتمعات أو دول.
أيها المسلمون، إن الله جل وتعالى اصطفى واجتبى هذه الأمة، للإمامة في الدين، والشهادة على الناس، والأمة من، عندما نقول: الأمة؟الأمة أنا وأنت وأولادي وأولادك وأقربائي وأقرباؤك، لا نريد عندما نقول الأمة، أن ينصرف الذهن إلى أناس غيرنا، فنحن أبناء وأفراد هذه الأمة، ونحن المحاسبون والمسؤولون غداً أمام الله.
فالله جل وعز، اصطفانا وأكرمنا، قد نهانا وحذرنا في المقابل أن نتعاطى ما يجعلنا قادة للشر، أو للسيئة، أو للمخالفة أو حتى المشاركة بأية مشاركة.
يقول الله تعالى في إمام الشر وتلاميذه: إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لسَّعِيرِ [فاطر:6]. وقال عز وجل: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ?لنَّارَ وَبِئْسَ ?لْوِرْدُ ?لْمَوْرُودُ [هود:98]، وقال سبحانه: وَجَعَلْنَـ?هُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ?لنَّارِ [القصص:41]. وقال تبارك وتعالى فيما يؤول إليه أمر الاتباع في الشر والمتبوعين فيه: إِذْ تَبَرَّأَ ?لَّذِينَ ?تُّبِعُواْ مِنَ ?لَّذِينَ ?تَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ?لْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ?لاْسْبَابُ [البقرة:166].
ويزداد الأمر سوءاً بانقلاب ذلك الموقف، حسرة ولعنة من التابعين في الشر والمعاونين فيه، للمتبوعين فيه حين لا ينفع متبوعاً في الشر أو تابعاً فيه نافع: وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا ?لسَّبِيلاْ رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ?لْعَذَابِ وَ?لْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب:67، 68].
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى لا يكن أحدنا قدوة سيئة، في خلق أو فعل أو تصرف، وإذا كان مثل هذا الكلام يوجه لكل الناس، ولكل أفراد المجتمع، أياً كان موقع الشخص، وأياً كان وضعه.
فإنه يوجه وعلى الخصوص للدعاة إلى الله للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، لشباب الإسلام الذين يهمهم أمر الإسلام أكثر من غيرهم، والذين سخروا كل طاقاتهم، خدمة لهذا الدين، نقول لهم، يا دعاة الإسلام، يا من وُجدتم لتكونوا قادة في الخير، وهداة إليه، تتقدمون الناس وتتصدرونهم به في الدنيا، بكلمة أو موعظة أو نصيحة، وتشهدون به عليهم يوم يقوم الأشهاد.
اتقوا الله تعالى، وخافوه في أنفسكم، وفي متبوعيكم، فيما يؤول إليه الأمر في المحيا والممات.
إن الخطأ منكم ليس كغيركم، وإن الهفوة من أمثالكم، ليست كالهفوة من غيركم، إن أنظار الناس ليست مسلطة على غيركم، إن أنظار الناس مسلطة على المستقيم أكثر من غيره. وتتبعهم لسقطاته، أشد من غيره، فاتقوا الله تعالى يا شباب الصحوة، فيما أُلبستم إياه من لباس التقوى، وحليتم به من حلة الدعوة، لا ترخصوه فترخصوا، لا تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فتضلوا وتُضلوا، لا تشتروا العاجل بالآجل، كونوا دعاة خير وهدى، أعواناً على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان.
يا من هو على ثغرة من ثغور الإسلام، أياً كانت هذه الثغرة.سواء كان جهداً في مدرسة، أو نشاطاً في مسجد أو حتى جهد الرجل في بيته وبين أهله وأولاده، فالله الله، أن يؤتى الإسلام من هذه الثغرة، والسبب هو أنت، بخلق رديء، أو تصرف غير سديد، فتأثم عند الله عز وجل، وتأخذ إثم من تبعك في ذلك: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [العنكبوت:13]، وقال تعالى: لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ?لَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآء مَا يَزِرُونَ [النحل:25].
فنسأل الله جل وتعالى، أن يعصمنا من الفتن، وأن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلماً لأوليائه، حرباً على أعدائه.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
اللهم إن أردت فتنة بعبادك، فاقبضنا إليك غير مفتونين.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: يا دعاة الخير والصلاح، إن مما له علاقة بما سبق من الكلام، وهي قضية خطورة أن يكون المرء قدوة سيئة في الوسط الذي يعيش فيه. أقول إن مما له علاقة بهذا الموضوع مسألة مخالفة الفعل للقول.
إن دين الإسلام ـ أيها الأخوة ـ، اعتنى عناية شديدة بتربية شخصية المسلم، وإعدادها إعداداً يليق بمن هو أمين على تطبيق منهج الله في الأرض، وحقيق بجنة الفردوس الأعلى بجوار الله يوم القيامة.
إن دين الإسلام يدعو لإلتقاء مظهر الإنسان بمخبره، ومن هنا كان هناك نهياً شديداً من مخالفة فعل المسلم لقوله.
فمهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وكما قلنا في القدوة السيئة، بأنها لا تقبل من عامة الناس بشكل عام، ومِن من هم في الصدارة بشكل خاص، وخصوصاً المتصدرين لهداية الناس والدعوة إلى دين الله. فكذلك مخالفة الفعل للقول.
إنها صفة ذميمة لا تقبل من عامة الناس لأنها من خلق المنافقين، الذين يقولون ما لا يفعلون ويبطنون خلاف ما يظهرون، فكيف إذا صدرت من خواص الناس
يقول تعالى عاتباً على علماء بني إسرائيل ومن شابههم في هذه الصفة من علماء هذه الأمة وقادتها: أَتَأْمُرُونَ ?لنَّاسَ بِ?لْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ ?لْكِتَـ?بَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [البقرة:44]. ويقول عن منافقي هذه الأمة: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ غَيْرَ ?لَّذِى تَقُولُ [النساء:81].
وقد حدث في تاريخ الإسلام إبان نزول القرآن أن تمنى رجال من المؤمنين فريضة الجهاد قبل أن تفرض، فلما نزل القرآن يأمر بالجهاد تقاعس بعض المتمنين فأنزل الله توبيخاً لمن تقاعس، وهدياً وتشريعاً لمن زاد الجهاد إلى يوم القيامة: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ?للَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ [الصف:2، 3]. إذا كان هذا العتاب وهذا الاستنكار لمن تمنى طاعة الله، فلما أمر بها نكل، فما بالكم بمن يقول للناس: هذا منكر وهذا خطأ، وهذا لا يجوز، وهو يفعل ما ينهي الناس عنه:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإن انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدي بالقول منك وينفع التعليم
فيا أيها المسلمون، إن جرم هذا الفعل العظيم وإن خطره لكبير لا سيما على الموجهين، والمربين، ومن هم في مراكز الصدارة والتوجيه، إذا كان مخالفة الفعل للقول، لا يقبل ولا يستساغ من أدنى الناس، فكيف بمن يريد أن يتأثر الناس بكلامه، فكيف بمن حمل مشعل النور والهداية، ويلاحظ متبوعه مخالفات في أقواله لأفعاله.
فاتقوا الله يا دعاة الإسلام إنها لفتنة عمياء، ولَفَتحُ نار تلظى، فقد ورد أن أشد الناس عذاباً يوم القيامة، عالم لم ينفعه علمه، روى الشيخان رحمها الله عن أسامة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه فيجتمع عليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما شأنك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه)).
وحدّث رسول الله عن بعض ما رأى ليلة أسري به فقال: ((مررت ليلة أسري بي على رجال تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت: يا جبريل من هؤلاء ؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون)).
فاتقوا الله يا حملة رسالة الإسلام، اتقوا الله تعالى، وانهجوا في أمركم ونهيكم ودعوتكم وجميع شأنكم نهج رسل الله وأتباعهم بإحسان الذين كانوا يعلنون لأقوامهم بمثل قول الله تعالى: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى? مَا أَنْهَـ?كُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ?لإِصْلَـ?حَ مَا ?سْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِ?للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد..
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا واجمع به شملنا..
(1/2960)
دعوة المظلوم مستجابة
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر, الكبائر والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله وعد بإجابة الدعاء. 2- استجابة الله دعاء الأنبياء. 3- من صور الظلم ظلم العمّال. 4- قصص في الاستجابة لدعاء المظلوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن العبد المؤمن إذا توجه إلى ربه بالدعاء، وكان مخلصاً صادقاً في دعائه، وقد أتى بشروط استجابة الدعاء، وكان هذا الدعاء خالياً من الموانع، فإن الله جل وتعالى لا يرد هذا الدعاء، قال الله تعالى: ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وقد تحقق هذا الوعد الإلهي منذ آدم عليه السلام إلى يوم الناس هذا، فما من عبد ولا أمة دعا الله عز وجل، بصدق وبإخلاص وكان هذا الدعاء سالماً من الموانع، إلا وأجابه الله تعالى.
فهذان موسى وهارون يدعوان على فرعون وقومه: رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ?طْمِسْ عَلَى? أَمْو?لِهِمْ وَ?شْدُدْ عَلَى? قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى? يَرَوُاْ ?لْعَذَابَ ?لاْلِيمَ [يونس:88]. قال الله عز وجل: قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا [يونس:89].
وهذا موسى مرة أخرى يسأل الله جل وعلا أن يجعل له وزيراً من أهله، فقال: وَ?جْعَل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى هَـ?رُونَ أَخِى ?شْدُدْ بِهِ أَزْرِى وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى كَىْ نُسَبّحَكَ كَثِيراً [طه:29-33]، قال الله تعالى في آخر هذه الدعوات المباركات: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ي?مُوسَى? [طه:36].
وهذا يونس عليه السلام، يخرج من البلد الذي أُرسل إليهم غاضباً، حيث لم يستجيبوا دعوته، فيشاء الله جل وتعالى أن تقع عليه القُرعة عندما ركب في السفينة، وصارت تميل بهم يُمنة ويُسرة، فألقوه في البحر فيلتقطه الحوت، يقول الله عز وجل: فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ?لْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143، 144]. فَنَادَى? فِى ?لظُّلُمَـ?تِ أَن لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـ?هُ مِنَ ?لْغَمّ وَكَذ?لِكَ نُنجِى ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87، 88].
ثم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما دعا على أعدائه الذين آذَوه، وحاربوا هذه الشريعة، وصاروا أعداءً لهذه الملة، كان ذات يوم ساجداً عند الكعبة، وكان بقربه جماعة من كفار قريش فيقول بعضهم لبعض: أيكم يقوم إلى سلا جَزور بني فلان ن فيلقيه على ظهر محمد، فيقوم عُقْبة بن أبي مُعَيط ويأخذ السَّلى ويلقيه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، فيبقى النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً، حتى تأتي ابنته وتأخذ السَّلى من على ظهره، وهي تبكي، ثم تُقبل على المشركين تَسبُّهم رضي الله عنها وأرضاها فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم قرب الكعبة ويرفع يديه ويقول: ((اللهم عليك الملأ من قريش، أبا جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وعقبة بن أبي مُعَيط)) ، ويعد سبعة من صناديد المشركين، كما عند مسلم.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى قَلِيب بدر فألقوا فيها بعدما انتفخت جثثهم، وأتبع أصحاب القليب لعنة، ويدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم على غيرهم ويستجيب الله دعاءه صلوات ربي وسلامه عليه.
أيها الأحبة في الله، إن العبد المؤمن إذا توجه إلى الله بالدعاء، وكان مخلصاً صادقاً، فإن الله ـ جل وعلا ـ غالباً لا يرد هذا العبد، فكيف لو كان هذا العبد مظلوماً فإن الإجابة حينئذٍ لهذا العبد تكون أقرب، ودعوة المظلوم كما تعلمون، أنها مستجابة، ليس بينها وبين الله حجاب.
أيها الأحبة، ما مناسبة هذا الكلام؟ مناسبته، أنه جاءني رجل قبل فترة، وكان من خارج هذه البلاد، فكان يشكو إليّ حاله وموضوعه، أنه يعمل عاملاً بسيطاً لدى أحد التجار في البلد في مؤسسة صغيرة، وقضايا ومشاكل العمال لا تخفى عليكم، والظلم الذي يوقع عليهم من قبل أصحاب الأعمال، من هضم حقوقهم، وتخفيض مرتباتهم الذي سبق أن اتفق معهم عليها في بلده، والحالة السَّكَنية السيئة التي يعيشون فيها، وتأخير رواتبهم لعدة أشهر، وقد لا يعطيهم، ويكون قد وعده بمميزات وأشياء هناك، فإذا جاء إلى هنا صارت كل تلك الوعود هباءً منثورا.
والأقبح من هذا، أولئك الذين يلزمون العامل أن يدفع هو لهم قدراً معيناً من المال، ويتركونهم يسيحون في الشوارع، يبحثون هم لأنفسهم عن أعمال، وهو ملزم بدفع مبلغ شهري للكفيل.
وهو بذلك يأكلها ظلماً، يأكل عرق هذا المسكين، وسيُجَرجرَهُ في بطنه ناراً يوم القيامة، إِنَّ ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْو?لَ ?لْيَتَـ?مَى? ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء:10].
ومنهم من يجعل العَشرة في غرفة واحدة، ودورة مياه واحدة، وكأنهم بهائم، ومنهم من يمنعهم من السفر وتمتعهم بالإجازة الرسمية لهم، ويؤخرونهم إلى عدة سنوات، ويكون هذا المسكين متزوجاً وله أولاد، ويُهدَّد إذا طلب إجازة بالفصل والطرد من العمل. إلى غير هذه القضايا التي بعضكم يعرف تفاصيلها أكثر مني.
وفي المقابل، يكون هذا العامل المسكين، قد دفع مبالغ طائلة ليأتي إلى هنا، بل ربما تَسَلَّف أموالاً كثيرة، ودفعها إلى جهات معينة في بلده ليتمكن من المجيء، ثم يفاجأ بالوضع السيء عند صاحب العمل هنا، وبالظلم، وبإخلاف الوعود، فيرجع بعضهم إلى بلده، وقد تحمل ديوناً، ربما بقية عمره كله لا يكفي لسدادها.
أعود إلى صاحبنا، فقصته لا تخرج عن شيء مما ذكرت لكم، فقد جاء من بلده، بعد الاستدانة، ووُعد بأشياء هنا ولم يجدها، ثم أصبح راتبه يَقِلُّ شيئاً فشيئاً، إلى أن وصل إلى نصف العقد المبرم معه، وأخيراً فُصل المسكين من عمله. وقد وقفت على حقيقة أمره بنفسي، وذهبت معه، وحاولنا مع بعض الطيبين في هذا المسجد تدارك شيء لكن لا جدوى. فما كان منه إلا أن رجع إلى بلده، بعد أن كتب خطاباً قوياً لصاحب العمل، وقرأت خطابه بنفسي قبل إرساله لكفيله، ذكَّره بالله سبحانه وتعالى، وأن هذا الظلم سوف يجده عند الله يوم القيامة.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، يا من تحت ولايتكم ضعفاء، ومحتاجون، إن ظلم هؤلاء عظيم عند الله. كيف بكم لو توجه هؤلاء إلى ربهم وخالقهم، ودعَوا عليكم، ما الذي يمنع من استجابة دعوة هؤلاء عليكم؟
إياك من ظلم الكريم فإنه مر مذاقته كطعم العلقم
إن الكريم إذا رآك ظلمته ذكر الظلامة بعد نوم النوَّم
فجفا الفراش وبات يطلب ثأره أنِفَاً وإن أغضى ولم يتكلم
أيها المسلمون، سأذكر لكم ثلاث قصص، ظلم فيها أصحابها ثم توجه المظلومون إلى ربهم، فاستجاب الله دعوتهم، لعل في ذكر هذه القصص رادعاً لكل ظالم، لكل من يتعرض للناس في أرزاقهم، تكون رادعاً لكل من يفصل إنساناً من عمله بدون ذنب، ويؤذيه في مصدر رزقه ورزق أولاده.
ولْيكن له عبرة في هؤلاء الذين رفعوا أيديَهم إلى الله، فاستجاب الله دعاء هؤلاء المظلومين ورأى الناس قدرة الله سبحانه وتعالى تتحقق في هؤلاء.
ومازال الله يستجيب للمظلومين.
القصة الأولى: قصة ذلك الرجل الذي ظلم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فدعا سعد عليه فأجاب الله دعاء سعد، وقد كان مستجاب الدعوة، وتفصيل القصة أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان أميراً على أهل الكوفة فشكوه إلى عمر، وقالوا: إن هذا الأمير فيه كذا وكذا وكذا، حتى قالوا: إن هذا الأمير لا يحسن الصلاة، فدعاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأمير العادل المنصف، فقال له يا سعد إن أهل الكوفة شكوك في كل شيء، حتى قالوا: إنك لا تحسن أن تصلي، فقال سعد: أما إني أصلي بهم كما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، أطيل في الأُولَيَينِ وأُخِفُّ في الأُخريين، فقال له عمر: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق.
ثم أرسل عمر رضي الله عنه لجنة إلى الكوفة، للتأكد من الأمر، وتقصِّي الحقائق، فذهبت هذه اللجنة إلى الكوفة وصارت تقف في أسواق الناس وفي مساجدهم وتسألهم، ماذا تقولون في أميركم؟ فيقولون: لا نعلم إلا خيراً، حتى دخلوا على مسجد لبني عبس فسألوهم: ما تقولون في سعد بن أبي وقاص أميركم؟ قالوا: لا نعلم إلا خيراً، فقام رجل مراءٍ، فقال: أما أن سألتنا عن أميرنا فإن سعداً لا يقسم بالسوية ولا يسير بالسَّرية، ولا يعدل بالقضية، بمعنى أنه رجل فيه ظلم وجبن وخوف ولا يساهم في المعارك.
فقام سعد بن أبي وقاص، وقال: اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً قام رياءً وسُمعة فأطلْ عمره، وأطلْ فقره وعرضْه للفتن، والقصة في صحيح البخاري.
فاستجاب الله دعوة سعد، وقد كان مظلوماً من قِبَلِ ذلك الرجل، فطال عمره حتى سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وطال فقره، حتى إنه كان يمد يده يتكفف الناس، وتعرض للفتن حتى إنه كان على رغم فقره وشيخوخته وكبر سنه، كان يقف بالأسواق يتعرض للجواري يغمزهن، فإذا قيل له في ذلك، قال: شيخ كبير مفتون أصابته دعوة سعد.
القصة الثانية: قصة "سعيد بن زيد" رضي الله تبارك وتعالى عنه. كانت هناك امرأة يقال لها "أروى بنت أويس"، شكته إلى مروان بن عبد الحكم أمير المدينة، وقالت: إنه أخذ شيئاً من أرضها، فقال سعيد بن زيد: أنا آخذ شيئاً من أرضها، بعدما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ذلك، فقال له الأمير مروان، وماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أخذ شبراً من الأرض ظلماً طُوِّقَه إلى سبع أرضين)). فقال مروان بن الحكم: لا أسألك بعد هذا بينة، يكفيني قولك هذا.
ثم قام سعيد بن زيد يدعو على هذه المرأة التي شوهت سمعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونسبت إليهم ما هم منه أبرياء، من الظلم والحَيْف والطمع في الدنيا، فقال: اللهم إن كانت كاذبة فأَعْمِ بصرها، واجعل ميتتها في هذه الأرض. قال راوي الحديث عروة بن الزبير والحديث في الصحيحين، قال: فوالله لقد عمي بَصَرُها حتى رأيتها امرأة مسنةً تلتمسُ الجدران بيديها، وكانت في هذه الأرض بئر، وكانت تمشي في أحد الأيام فسقطت في البئر، وكان ذلك البئر قبرها، وأجاب الله دعاء سعيد بن زيد وكان مظلوماً رضي الله عنه.
وما زال الله عز وجل يتقبل دعوات الداعين ويستجيب استغاثة المظلومين.
اللهم إنا نسألك رحمتك في السر والعلن.
ونسألك اللهم بِرَّكَ وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: القصة الثالثة: هذه القصة فيها عجب وعبرة، ذكرها بعض المؤرخين، وقد حصلت في بلاد الأندلس، ذكروا بأن حاكماً من حكام الأندلس يقال له الوليد بن جهور وكان أميراً على قرطبة أحد كبار المدن الأندلسية.
حاول بعض جيرانه أن يعتدي عليه، وهو يحيى بن ذي النون، حاول أن يعتدى عليه ويأخذ ملكه، فاستنجد أبو الوليد بن جهور بأحد حكام الأندلس، يقال له المُعْتَمِد بن عَبَّاد، وكان ملكاً قوياً شاعراً أديباً مشهوراً. فجاء "المعتمد بن عباد" وساعده وأنجده وقضى على عدوه، ولكن المعتمد بن عباد لما رأى قرطبة وما فيها من المياه، وما فيها من البساتين والخضرة والأموال والترف، طمع فيها وبدأ يخطط للسيطرة عليها، فأدرك ذلك أمير قرطبة ابن جهور، فَذَكَّّرَ المعتمد بن عَبَّاد بالعهود والمواثيق التي بينهم وذكره بالله، لكن المعتمِد بن عباد كان مُصِرّاً على احتلال قرطبة وفعلاً، تحقق للمعتمد بن عباد الاستيلاء على قرطبة بعد طول كيد وتدبير وتخطيط، فاستولى عليها، وأخذ أمراءها وطردهم منها، وصادر أموالهم وقتل منهم من قتل، وسجن منهم من سجن، وخرج أمراء بني جهور من قرطبة بلا مال ولا جاه ولا سلطان، أذلاء خائفين مذعورين.
وبعدما خرجوا منها، التفت الأمير إلى قرطبة، هذه المدينة التي طالما تمتع بحكمها، وعرف أنه ما أُخرج منها إلا بسبب دعوات المظلومين، وبسبب الدماء التي سالت ظلماً وعدواناً، وبسبب الأموال التي أُخذت بغير حق، وبسبب ظلمه للناس وحَيفه ومعاملته لهم، عرف ابن جهور هذا فالتفت إلى قرطبة، ورفع يديه إلى السماء، وقال: يا رب اللهم كما أجبْتَ الدعاءَ علينا فأجِبْ الدعاءَ لنا، فإننا اليوم مسلمون مظلومون، فدعا الله عز وجل على المعتمد بن عباد.
وخرج بنو جهور، وظل المعتمد بن عباد، يحكم قرطبة ردحاً من الزمن، يتمتع بما فيها من الترف، وبلغ الترف بالمعتمد بن عباد أنه كان عنده جارية جميلة، وفي يوم من الأيام أطلت هذه الجارية من أحد نوافذ القصر، فشاهدت بعض النساء البدويات، يحملن على ظهورهن القِرب وفيها السمن وغيره، يذهبن لِيَبِعْنَهُ في الأسواق، وقد هطل المطر من السماء، وأصبحت الأرض فيها من الوحل والطين، فكانت هؤلاء النسوة البدويات يطأن في الوحل والطين وعلى ظهورهن القِرب فأعجب هذا المنظر هذه الجارية فقالت الجارية اعتماد للمعتمد بن عباد: أريد أن أفعل مع الجواري والبنات مثل ما يفعل هؤلاء النساء، فقال الأمير: الأمر هين، فأمر بالكافور والمسك وماء الورد فخلط بعضه ببعض، حتى صار في أرض القصر طيناً، ليس من الماء والوحل والتراب، لكن طين من المسك والكافور وماء الورد.
إلى هذا الحد بلغ الترف بالمعتمد بن عباد، ثم جاء بقِرَب وحزمها بالإِبْريسَم، وهو نوع من الحرير، ثم حملتها هذه الجارية ومن معها، وبدأن يطأن في هذا الطين، أو بالأصح في هذا الورد والكافور والمسك، وتم لهن ما أردن، إلى هذا بلغ الحد في ترف المعتمد بن عباد.
لكن تلك الدعوات التي خرجت من المظلوم ابن جهور ما تزال محفوظة، فما هي إلاّ فترة من الزمن، وإذا بملك النصارى يهدد المعتمد بن عباد، وطلب منه مع دفع الجزية التخلي عن بعض القصور والدور فرفض، ووجد نفسه مضطراً أن يستعين بأحد حكام المرابطين، وهو "يوسُف بن تاشْفِين" فأرسل إليه يستنجد به، فجاء يوسف بن تاشفين ودخل قرطبة، وخاض معركة ضد النصارى، وانتصر على النصارى في موقعة الزّلّاقَة وطردهم.
وبعدما انتصر على النصارى، وجد يوسف بن تاشفين نفسه مضطراً إلى السيطرة على قرطبة، وقبض على المعتمد بن عباد وأولاده، فقتل بعضهم على مرأى من أبيهم، وأودع المعتمد بن عباد السجن في مدينة في المغرب تسمى (أغْمات)، حتى جلس فيها عشرَ سنوات مسجوناً.
ثم انتهت هذه السنوات العشر بموته، وكان فترة سجنه مجرداً من كل شيء، والقيود في يديه ورجليه، ويرى بناتِه اللاتي كُنَّ بالأمس يطأن في المسك والكافور، يطأن في الطين والوحل اليوم. وهن يغزلن للناس من أجل كسب العيش، ولا يملكْنَ شيئاً، فبكى بكاءً مراً، ثم قال يخاطب نفسه في إحدى المناسبات وقد فرح الناس واستبشروا بالعيد:
فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً فساءك العيد في أغماتَ مأسورا
ترى بناتِك في الأطمار جائعةً يغزلْنَ للناس ما يملكْنَ قِطميرا
برزْنَ نحوك للتسليم خاشعَةً أبصارُهن حسيراتٍ مكاسيرا
يطأْنَ في الطينِ والأوحالِ حافية أقدا مهن كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
من بات بعدك في مُلكٍ يُسَرُّ به فإنما بات بالأحلام معرورا
اللهم: إنا نسألُك رحمة تهدي بها قلوبنا، وتلمُّ بها شعثَنَا وتَردُّ بها الفتن عنَّا.
(1/2961)
رمضان شهر التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
التوبة, الصوم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
26/8/1410
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حلم الله على عباده. 2- كيف يؤذي العبد الضعيف ربه. 3- الحض على التوبة النصوح وبيان صفتها. 4- دعوة لاستغلال شهر رمضان. 5- التوبة المقبولة والمردودة. 6- بعض عبادات رمضان. 7- سوء استقبال رمضان عند بعض الناس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: روى البخاري في صحيحه قال حدثنا عَبْدان، عن أبي حمزة عن الأَعْمش، عن سعيد بن جُبير، عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أحدٌ أصبر على أذى سمعه من الله، يدَّعون له الولد، ثم يعافيهم ويرزقهم)).
هذا حديث عظيم أيها الإخوة، يدل على صبر الله عز وجل، الصبر الذي لا يبلغه صبر. وأي صبر من أن يؤذي المخلوق الضعيف الحقير، يؤذي ربه وخالقه، ومع هذا الأذى يصبر الله عز وجل عليه، ولا ينتقم منه، بل يعافيه في بدنه، ويرزقه من الطيبات. هل تعلمون صبراً أعظم من هذا.
لو أن أحدكم لحقه ضرر أو أذى من أي شخص، تجده لابد أن ينتقم منه، ولو صار طيباً فإنه يتجاوز عنه، لكن أن يصل الأمر أن يحسن إليه، فهذا لا يحصل إلا من عظماء النفوس. يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد، ثم يعافيهم ويرزقهم)).
لكن السؤال الآن: كيف يكون أذى الإنسان لربه؟ أو ما هي الصور والمجالات التي يؤذي فيها الإنسان، رب العزة. إن صور الإيذاء كثيرة، وكثيرة جداً، منها، ما ذكر في الحديث، وهو نسبة الولد إلى الله عز وجل.
ومن الإيذاء، ارتكاب المنهيات، والإصرار عليها، فكل معصية يفعلها العبد، تعتبر أذية لله عز وجل. وكل مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تعتبر أذية لله عز وجل. فتأملوا كل هذه المعاصي التي يفعلها العباد، وكلها أذية لله عز وجل، وفي المقابل صبر الله علينا. فاتقوا الله أيها المسلمون. أما تخشون من قوله سبحانه: إِنَّ ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً [الأحزاب:57]، قال ابن جرير رحمه الله تعالى: "أي الذين يؤذون ربهم بمعصيتهم إياه، وركوبهم ما حرم عليهم".
أيها المسلمون، مع ما نفعل من المعاصي، ومع مخالفتنا الكثيرة لأوامر الله عز وجل، فإنه سبحانه وتعالى يحسن إلينا بالصحة في أبداننا، والشفاء من أسقامنا، وكِلاءتنا بالليل والنهار مما يعرض لنا، ويرزقنا بتسخير ما في السماوات والأرض لنا. ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد، ثم يعافيهم ويرزقهم. إنه ليس أمامنا ـ يا عباد الله ـ إلا التوبة. التوبة الناصحة الصادقة.
وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى? مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ وَجَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ ?لْعَـ?مِلِينَ [آل عمران:135، 136]. وقال تعالى: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وأخبر سبحانه وتعالى أنه يحب التوابين.
وقال عليه الصلاة والسلام: ((يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)) رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)).
فاتقوا الله عباد الله، توبوا إلى ربكم، توبة نصوحاً، فإن الله عز وجل قد أمهلنا كثيراً، وصبر علينا كثيراً، لا نمتثل بأمره، ولا ننتهي عن نهيه، وهو عز وجل مع ذلك، يرزقنا بالليل والنهار. ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ [التحريم:8].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: والنصح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء:
الأول: تعميم جميع الذنوب واستغراقها بها، بحيث لا يدع ذنباً إلا تناولته.
الثاني: إجماع العزم والصدق بكليته عليها بحيث لا يبقى تردد ولا تلوم ولا انتظار، بل يجمع كل إرادته وعزيمته مبادراً بها.
الثالث: تخليصها من الشوائب والعلل القادحة، في إخلاصها ووقوعها، لمحض الخوف من خشية الله. والرغبة فيما لديه، والرهبة مما عنده، لا كمن يتوب لحفظ جاهه وحرمته ومنصبه ورياسته، أو لحفظ حاله، أو لحفظ قوته وماله، أو استدعاء حمد الناس، أو لهربٍ من ذمهم، أو لئلا يتسلط عليه السفهاء، أو لقضاء نهمته من الدنيا، أو لإفلاسه وعجزه ونحو ذلك.
أيها المسلمون، شهر رمضان على الأبواب، لم يبقَ على قدوم الضيف إلا أيام قلائل، وإنها والله فرصة ـ يا عباد الله ـ، فرصة لا تعوض، من فاته شهر رمضان فقد فاته خيرٌ كثيرٌ.
جددوا توبتكم ـ يا عباد الله ـ، عسى أن يكتبنا المولى من عتقائه في هذا الشهر.
وأي فرصة، في شهر، تصفد فيه الشياطين، وتفتح فيه أبواب الجنان، إذا لم نتب من ذنوبنا في رمضان، فمتى نتوب، إذا لم نتخلص من شوائبنا ومعاصينا، في شهر الرحمة، وفي شهر القرآن، فمتى يكون؟
دعوني على نفسي أنوح وأندب بدمع غزير واكفٍ يتصبب
دعوني على نفسي أنوح فإنني أخاف على نفسي الضعيفة تعطب
وإني حقيق بالتضرع والبكا إذا ما هدا النَّوام والليل غيهب
وجالت دواعي الحزن من كل جانب وغارت نجوم الليل وانقضى كوكب
كفى أن عيني بالدموع بخيلةٌ وإني بآفات الذنوب معذّب
فمن لي إذا نادى المنادى بمن عصى إلى أين التجائي إلى أين أهرب
وقد ظهرت تلك الفضائح كلها وقد قرب الميزان والنار تلهب
فيا طول حزني ثم يا طول حسرتي لئن كنت في قعر الجحيم أعذب
فقد فاز بالملك العظيم عصابةٌ تبيت قياماً في دجى الليل ترهب
إذا أشرف الجبار من فوق عرشه وقد زينت حور الجنان الكواعب
فناداهمُ أهلاً وسهلاً ومرحباً أبحب لكم داري وما شئتم أطلبوا
اعلموا رحمكم الله، أن التوبة إذا صحت، بأن اجتمعت شروطها، وانتفت موانعها قبلت بلا شك، إذا وقعت قبل نزول الموت، ولو كانت عن أي ذنب، وكانت قبل طلوع الشمس من مغربها، كما قال تعالى: يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايَـ?تِ رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَـ?نِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]. روى الإمام أحمد والترمذي، من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)).
قلت لكم أيها الأخوة، بأن التوبة تقبل، إذا صحت شروطها وانتفت موانعها، فلا يكفي في قبول التوبة أن يأتي الإنسان بشروطها، لكن لابد من انتفاء الموانع والعقبات. فمن المعوقات الضارة، التسويف بالتوبة. بعض عباد الله، يعلم بأنه مذنب، ويعلم بأنه على معصية، ولكنه يؤخر التوبة، فلا أعلم، من أين علم هذا المسكين أنه يبقى إلى أن يتوب، فتارك المبادرة بالتوبة بين خطرين عظيمين:
أحدهما: أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي، حتى تصير طبعاً له.
ثانيهما: أن يعاجله المرض، فلا يجد مهلة للاشتغال بمحو ما وقع من الظلمة في قلبه، فيأتي ربه بقلب غير سليم، أو يدرك الموت.
إن مثل من يؤجل التوبة، كمثل من احتاج إلى قلع شجرة، فرآها قوية لا تنقلع إلا بمشقة شديدة، فقال: أؤخرها سنة ثم أعود أليها، وهو يعلم أن الشجرة كلما بقيت ازدادت قوة لرسوخها، وكلما طال عمره ازداد ضعفه.
يقول العلامة، الإمام ابن القيم رحمه الله: إذا أراد الله بعبده خيراً، فتح له أبواب التوبة والندم والذل والانكسار والافتقار، والاستعانة به، ودوام التضرع والدعاء، والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات، ما تكون تلك السيئة سبب رحمته، حتى يقول عدو الله ـ إبليس ـ يا ليتني تركته ولم أوقعه.
وهذا معنى قول بعض السلف، إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة، ويعمل الحسنة يدخل بها النار. قالوا كيف؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينه، خائفاً منه، مشفقاً وجلاً باكياً نادماً، مستحيياً من ربه، ناكس الرأس بين يديه، منكسر القلب له، فيكون ذلك الذنب، أنفع له من طاعات كثيرة، بما ترتب عليه من هذه الأمور، التي بها سعادة العبد وفلاحه، حتى يكون ذلك الذنب سبب دخول الجنة، ويفعل الحسنة، فلا يزال يمن بها على ربه، ويتكبر بها، ويرى نفسه شيئاً، ويعجب بها، ويستطيل بها، ويقول فعلت وفعلت، فيورثه من العُجب والكبر والفخر والاستطالة ما يكون سبب هلاكه.
نسأل الله عز وجل، أن يوفقنا إلى ما فيه خيري الدنيا والآخرة.
إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، هذه آخر جمعة لنا في هذا الشهر، وبعد أيام قلائل يهلُّ علينا رمضان، ضيفاً كريماً عزيزاً، شهر كله خير وبركات، شهر المنح والهبات، شهر محفوف بالرحمة، والمغفرة، والعتق من النار، شهر التائبين من معاصيهم، شهر العائدين إلى ربهم، هل يجد التائب فرصة أفضل من شهر تستغفر له الملائكة حتى يفطر. هل هناك فرصة أعظم أيها الإخوة، من شهر يغفر الله عز وجل فيه، لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في آخر ليلة فيه، إذا قاموا بما ينبغي أن يقوموا به من الصيام والقيام.
إن رمضان سبب لمغفرة الذنوب، وتكفير السيئات، ففي الصحيحين، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه)).
كان معنا في العام الماضي، أناس انتقلوا إلى ربهم، وهم اليوم من الموتى، لم يدركوا رمضان هذه السنة، فهل نستشعر هذه الحقيقة، هل نستشعر هذا الفضل من رب العالمين علينا، بأن جعلنا ندرك هذا الشهر، وأعطانا فرصة أخرى لكي نعود إليه، ونترك معاصينا وراءنا، ولا نعود إليها بعد رمضان، كما يفعل غالب الناس هداهم الله.
ياذا الذي ما كفاه الذنب في رجب حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيره أيضاً شهر عصيان
واتل القرآن وسبح فيه مجتهداً فإنه شهر تسبيح وقرآن
كم كنت تعرف ممن صام في سلف من بين أهل وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهمو حياً فما أقرب القاصي من الداني
عباد الله، لازموا صلاة التراويح، ولا تفرطوا فيها فإن ثوابها عظيم، روى الإمام أحمد والترمذي وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتِبَ له قيام ليلة)).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه.
والتراويح يا عباد الله، سنة مؤكدة، وفعل الصحابة لها مشهور، وتلقته الأمة بالقبول، خلفاً بعد سلف.
ليس هناك تلفظ بنية الصوم، كما يفعله بعض العامة، وذلك بقوله بعد سحور كل يوم. نويت أن أصوم هذا اليوم لله تعالى. فإن هذا بدعة، والنية محلها القلب.
ثم عليكم تلاوة القرآن: اقتداءً بنبيكم صلى الله عليه وسلم، فقد كان يلقاه جبريل ويدارسه القرآن في شهر رمضان، وكان السلف الصالح، يكثرون من تلاوة القرآن في رمضان، لما لهذا الشهر من خاصِيَّة بالقرآن، على غيره من الشهور. قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ [البقرة:185].
ولتكن قراءتكم بتدبر وخشوع، وحضور قلب، وترتيل لآياته، ولا يكن همُ أحدكم الختمة فقط، كما يفعله بعض الناس هداهم الله، وهو أنهم يتباهون بعدد الختمات. اقرؤوه في المساجد والبيوت، وأكثروا من تلاوته وترديده، ألزِموا أولادَكم بتلاوته أيضا، وتفقدوهم في ذلك، ولا تتركوهم يهيمون في الشوارع طوال ليالي رمضان كما هو حال الأغلب والله المستعان.
اقتصدوا في شراء الأطعمة والأشربة في رمضان، لا داعي لما عليه الحال اليوم، من تنويع في المآكل والمشارب إلى حد الإسراف والتبذير، فإن هذا لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله السلف قبلنا، بل هو من الأمور التي فرضناها نحن على أنفسنا لغير حاجة، ـ فاتقوا الله أيها المسلمون ـ، وليكن صوم رمضان، تذكيراً لكم بما يمر به غيركم من الحاجة والجوع، ونحن على العكس، نستهلك في رمضان من الأكل ما يعادل شهرين أو ثلاثة من غيره من الأشهر، وهذا لا يليق بعاقل أيها الإخوة.
النوم: وما أدراك ما النوم، هناك صنف من الناس، لا يعرف رمضان، إلا أنه شهر النوم، فتجده معظم نهاره نائماً، لا يقوم إلا لأداء المفروضات ثم يعود ويواصل المسيرة، والذي شر منه، من لا يقوم حتى للصلوات، إنا لله وإنا إليه راجعون.
كيف فهم معنى الصيام، هذا الصنف من البشر، لا أدري، غالب الناس تجده في رمضان أقل نشاطاً من غيره، الغالب عليه الكسل والخمول، وإذا سألته، قال الناس صيام. سبحان الله. وكأن الله عز وجل، لم يفرض الصيام إلا ليقل النشاط والحركة والإنتاج، وهذا فهم لا شك في انحرافه.
ولا أريد أن أفصل في أن كبرى انتصارات ومعارك المسلمين كانت في رمضان.
التقاويم: الذي أقصده، ما رسخ في أذهان كثير من الناس، صحة التقاويم، وأن التقويم الموضوع قبل زمن، بأن رمضان يكون يوم كذا لابد أن يكون. وهذا غير صحيح. فالاعتماد على التقاويم في تحديد بداية أو نهاية رمضان، من الأمور غير المشروعة، والتي تعد من البدع، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)). أي رؤية الهلال. فإن وافقت التقاويم رؤية الهلال فبها، وإذا خالفت، فإن الذي أُمِرْنا به هو الاعتماد على الرؤية، وليس على التقويم. ومن جعل التقويم هو الأساس، فإنه قد أحدث في الدين ما ليس منه، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما عند البخاري وغيره: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
وصلوا وسلموا...
(1/2962)
رمضان شهر القرآن
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
4/9/1410
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خيرية تعلم القرآن الكريم وتعليمه وتلاوته ومدارسته. 2- انشغال الناس عن القرآن الكريم وهجرهم له. 3- الدعوة للإكثار من تلاوته وتدبره وفضل ذلك. 4- الصحابة يقرؤون القرآن. 5- حاجتنا إلى هدي القرآن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى واهتموا بكتاب الله، قال الله عز وجل: إِنَّ ?لَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـ?بَ ?للَّهِ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَـ?رَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29، 30].
وروى البخاري في صحيحه، عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله : ((وخيركم من تعلم القران وعلمه)) ، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها قالت: قال رسول الله : ((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق، له أجران)) رواه البخاري ومسلم، وروى مسلم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((اقرؤوا القران فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)) وعن أبى هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي قال: ((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده)) رواه مسلم.
عباد الله، هذه نصوص سمعتموها من كتاب ربكم وسنة نبيكم ، تحثكم على تعلم كتاب الله وقراءته والعمل به، لأنه مناط سعادتكم وهو المخرج من الفتن، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم، فأقبلوا على تعلمه وتعليمه وتلاوته والتفكر فيه، وعلموه أولادكم ونشئوهم على تلاوته وحبه حتى يألفوه ويتحلَّوا به، فيطهر أخلاقهم، ويزكي نفوسهم ويكونوا من حملة القران وأهله.
عباد الله، إن أكثر الناس اليوم انشغلوا عن تعلم القرآن، فالكبار انشغلوا بالدنيا، والصغار انشغلوا بالدراسة النظامية في المدارس، التي لا تعطي لتعليم القرآن وقتاً كافياً ولا عناية لائقة، ولا مدرسين يقومون بالواجب نحوه، وبقية وقت الأولاد ضائع في اللعب في الشوارع، مما أدى إلى جهلهم بالقرآن وابتعادهم عنه، حتى تجد أحدهم يحمل أكبر الشهادات الدراسية وهو لا يحسن أن يقرأ آية من كتاب الله على الوجه الصحيح، وحتى آل الأمر إلى خلو كثير من المساجد من الأئمة، لثقل تلاوة القران على أغلب الناس، والسبب في كل ذلك بالدرجة الأولى إهمال الآباء لأبنائهم وعدم اهتماهم بهذه الناحية، فلا يدري أحدهم ما حالة ولده مع القرآن، وحتى صار القرآن مهجوراً بين غالب المسلمين.
وإن هذا ما شكا أو يشكو منه الرسول بقوله: ي?رَبّ إِنَّ قَوْمِى ?تَّخَذُواْ هَـ?ذَا ?لْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: "وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدل عنه إلى غيره، من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه".
قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى رحمة واسعة: "هجر القرآن أنواع، أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه، والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وان قرأه وآمن به، الثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، الرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه، الخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله: وَقَالَ ?لرَّسُولُ ي?رَبّ إِنَّ قَوْمِى ?تَّخَذُواْ هَـ?ذَا ?لْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً وإن كان بعض الهجر أهون من بعض".
عباد الله، لو تيسر لكم تعلم القران عند معلمين يجيدون قراءته فهو أولى وأحسن ولا يكفى أن يتهجاه الإنسان من المصحف، فإنّ تَلَقِّي القرآن من فم الملَقِّن أحسن وأضبط، ومن فاتته الفرصة فلا يضيعها على أولاده، خصوصاً الصغار منهم، ونحمد الله عز وجل في هذه الأيام أن يسر لنا حلقات تحفيظ القرآن في المساجد، فهي والله فرصة يا عباد الله لا تضيعوها على أولادكم، فإن الاهتمام بكتاب الله من أهم المهمات.
عباد الله، من تعلم كتاب الله، فلْيحافظ عليه ولْيكثر من تلاوته بتدبر وتفهم وخشوع وحضور قلب، قال : ((من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله به حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) رواه الترمذي.
أكثروا من تلاوته في هذا الشهر الكريم، فإن تلاوته في هذا الشهر لها مزية وفضيلة على تلاوته في غيره من الأوقات، لأنه أنزل فيه، ولأن الحسنات في هذا الشهر تضاعف أكثر من مضاعفتها في غيره، ولأن القلب يقبل على تدبر القران في هذا الشهر أكثر من غيره.
ولذلك كان جبريل عليه السلام يدارس نبينا محمد القرآن في هذا الشهر كل ليلة، وكان السلف يُقبلون على تلاوة القرآن فيه، ويتوقف طلب العلم والحديث ليقبلوا على تلاوته.
فلا يضيع عليكم شهركم يا عباد الله، إذا لم نقرأ كتاب ربنا في رمضان، فمتى نقرؤه؟ استغلوا أوقاتكم، اقرؤوه على كل حال، وأكثروا من قراءته.
ففي صحيح مسلم أن جبريل قال للنبي : ((أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي مثلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ الحرف منهما إلا أعطيته)) ، وقال : ((البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان)) رواه مسلم. وكان أسيد بن حضير رضي الله عنه يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده، وله ابن قريب منها، فجالت الفرس فسكت فسكنت، فقرأ فجالت الفرس مرة ثانية فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس مرة ثالثة، فخاف أن تصيب ابنه فانصرف، ثم رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فلما أصبح أخبر النبي بذلك، فقال: ((أتدرى ما ذاك؟)) ، قال: لا، قال في رواية مسلم: ((تلك الملائكة كانت تستمع لك، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم)).
وأخبر النبي أن سورة البقرة وآل عمران تظللان صاحبهما يوم القيامة، وتحاجَّان عنه.
ونزلت سورة الأنعام على النبي بمكة، ومعها من الملائكة نحو سبعين ألف ملك، ما بين الخافقين لهم زجْل بالتسبيح، والأرض تَرتَجّ بهم ورسول الله يقول سبحان الله العظيم.
وثبت أنه قال: ((قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن)) رواه مسلم وقال له رجل: إني أحبها، فقال: ((حبك إياها أدخلك الجنة)) رواه البخاري وقال رجل آخر أنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقراها، فقال النبي : ((أخبروه أن الله يحبه)) رواه مسلم، وقال لرجل من أصحابه: ((ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس، قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس)) رواه النسائي وأحمد.
فاقرؤوا القران يا عباد الله بتدبر وتفهم، وإذا مررتم بآية رحمة فاسألوا الله من فضله، وإذا مررتم بآية وعيد فتعوذوا بالله من عقابه، وإذا مررتم بآية سجدة فاسجدوا في أي وقت كان، فالسجود للتلاوة في أي وقت. لأنه تابع للتلاوة، وإذا سجدتم فكبروا وقولوا سبحان ربي الأعلى في السجود، وإذا رفعتم من السجود فلا تكبروا، ولا تسلموا، لأن ذلك لم يرد عن النبي إلا إذا سجد القارئ وهو يصلي فإنه يُكبر للسجود وللرفع منه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ ?لَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـ?بَ ?للَّهِ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَـ?رَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29، 30].
بارك الله لي ولكم في...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى جنته ورضوانه، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: عباد الله، القرآن هو كلام رب العالمين، الذي يؤنس المؤمن في رحلته الشاقة في هذه الأرض، والقرآن هو النور الذي يضيء له جوانب كثيرة، والقرآن هو الهادي، الذي يبين لنا معالم الطريق.
ومن أجل ذلك يوصي الرسول المؤمنين، بمداومة التلاوة والذكر، ويحذر من الجفوة والقطيعة، (بين المسلم وكتاب الله)، لكي لا تنقطع تلك الصلة الحية، ولا ينقطع الرباط الذي يربط القلب المؤمن بالله.
?للَّهُ نُورُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ?لْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ ?لزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَـ?رَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى? نُورٍ يَهْدِى ?للَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ ?للَّهُ ?لاْمْثَالَ لِلنَّاسِ وَ?للَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلَيِمٌ [النور:35].
فَبَشّرْ عِبَادِ ?لَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ?لْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ هَدَاهُمُ ?للَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [الزمر:17، 18].
?للَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ?لْحَدِيثِ كِتَـ?باً مُّتَشَـ?بِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ?لَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ ذَلِكَ هُدَى ?للَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء [الزمر:23].
إن القرآن أيها الإخوة هو دليل الإنسان في رحلة الحياة، أرأيتم المسافر كيف يستصحب معه دليل الرحلة، ليعرف منه من أين يبدأ؟ وأين ينتهي؟ كذلك ينبغي للمسلم في رحلته على هذه الأرض، أن يستصحب معه قرآنه، ليعرف من أين يبدأ ومن أين ينتهي. وإلا فهو ضارب في التيه والضياع بلا شك.
وكتاب الله عز وجل يبين للمسلم أشياء كثيرة يحتاجها في حياته، فمن الأشياء المهمة، والتي لابد للمسلم أن يعطيها قدراً من اهتمامه الحرب على الإسلام والمسلمين، ولقد ذكر القرآن الكريم، وحدثنا عن العداوات المرصودة للمسلمين من قبل أعدائهم، إن قسماً كبيراً من السور المدنية، تحدثت عن أعداء هذا الدين، وعن كيدهم ومخططاتهم لحرب الإسلام.
قال الله تعالى: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وقال سبحانه: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217].
كذلك نجد جانب التربية، من الجوانب الأساسية التي يجب أن لا يغفل عنها المسلم وهو يقرأ القرآن، فالقرآن هو كتاب خير أمة أخرجت للناس، هو منهج التربية الذي تربى عليه الرسول ، وربى عليه أمته من بعد، فينبغي أن نقرأ القرآن على هذا الأساس، كي نتربى ونحن نقرأ كتاب ربنا.
القرآن أيها الإخوة كما قال الله تعالى عنه: لَوْ أَنزَلْنَا هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ عَلَى? جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـ?شِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ ?للَّهِ [الحشر:21]، ما أعظم هذا القرآن، وما أشد تأثيره وما أروع هذا المثل الإلهي، وهو يفيد بأن لهذا القرآن ثقلاً وسلطاناً وأثراً مُزلزلاً لا يثبت له شيء، فالجبل مع صلابته وتحجره لو نزل عليه هذا الكتاب المقدس، لخشع وتصدع، خوفاً ورعباً، بسبب ما فيه من روائع وأحكام، وقوارع وآيات، ونذر ودلائل على وحدانية الله وقدرته وعظمته وأسمائه وصفاته، وتفرده بالألوهية المطلقة دون شريك، وإنه لمثل خليق بأن يوقظ القلوب الغافلة، بالتفكر في آيات الله، والتأمل في كلامه، والتدبر لمعانيه وَتِلْكَ ?لأَمْثَـ?لُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21].
أخي المسلم، إنك لابد ميت، ولا بقاء إلا لله الواحد الأحد، والقبر أول منزل من منازل الآخرة، وهو كما تعلم ضيق موحش، مظلم، ويوم القيامة شره مستطير، والقرآن نعم المؤنس في القبر، ونعم الشافع والمشفع، يوم الحشر والنشر، فاستمسك أخي المسلم بهذا القرآن واعضض عليه بنواجذك، واجعله يمتزج بلحمك ودمك، علماً وعملاً واعتقاداً، فهو القاعدة الكبرى لدين الإسلام، والوسيلة العظمى لمعرفة شرائعه، والدعوة إليه، والآية الربانية المصاحبة لذلك، والمعجزة الكبرى.
وها هو يا أخي المسلم، القرآن بين يديك، غضاً سليماً محفوظاً، فطيِّبْ بقراءته وحفظه نفسَك، ورطِّب بكلماتهِ لسانَك، ونوِّرْ بتدبره قلبَك، وأصلِحْ بالعمل به أمرَك، واشرحْ بنور حكمته صدرَك، قبل أن يحال بينك وبينه...
(1/2963)
زلزال العقبة
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
آثار الذنوب والمعاصي, جرائم وحوادث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
2/7/1416
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأرض التي نعيش عليها إحدى نعم الله علينا. 2- ما يحدث من الزلازل إنما هو تخويف وتأديب للعباد. 3- دعوة للاعتبار بما يحدث من أحداث وكوارث ومصائب. 4- وعيد الله للعصاة الذين لا يرعون ولا يتعظون بأحوال غيرهم. 5- كثرة الزلازل قبيل الساعة. 6- الماديون يغفلون عن الأسباب القدرية المسببة للزلازل والكوارث. 7- الذنوب والكبائر هي السبب الحقيقي لهذه ا لكوارث.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس نسأل الله عز وجل، بأسمائه الحسنى وصفاته العلى. أن يحفظ هذه البلاد، وجميع بلاد المسلمين من الزلازل والمحن، وسوء الفتنة ما ظهر منها وما بطن. كما نسأله عز وجل، أن يجعل، ما نرى وما نسمع، عبره لنا.ولغيرنا، ولا يرينا أو يسمعنا أي مكروه في أي بلاد المسلمين.
عباد الله، إن هذه الأرض، التي نعيش عليها. من نعم الله الكبرى علينا، فإن الله سبحانه وتعالى قد مكننا من هذه الأرض، نعيش على ظهرها، وندفن موتانا في باطنها، قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ ?لأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاء وَأَمْو?تاً [المرسلات:25، 26]، وقال تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَـ?كُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى? [طه:55]، وقال تعالى: فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف:25]، وقال تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّـ?كُمْ فِى ?لأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـ?يِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ [الأعراف:10]، وقال: هُوَ ?لَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ?لأَرْضَ ذَلُولاً فَ?مْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ?لنُّشُورُ [الملك:15]، والآيات في هذا كثيرة.
ومن رحمته جل وعزّ أن أودع فى هذه الأرض كل ما يحتاجه الخلق الذين يعيشون على ظهرها، فبارك فيها وقدر فيها أقواتها.
ثم سبحانه وتعالى جعلها ثابتة مستقرة لا تتحرك وأرساها بالجبال، حتى نتمكن من البناء عليها والعيش على ظهرها، وفي بعض الأحيان، يجعل الله عز وجل هذه الأرض، جنداً من جنوده، فتتحرك وتميد ويحصل الزلازل المدمرة، تخويفاً للعباد، وتأديباً للبعض الآخر، وما يعلم جنود ربك إلا هو، وما هي إلا ذكرى للبشر.
إننا معاشر الأحبة فى نعمة من الله تامة، أمن في أوطاننا، وصحة في أبداننا ووفرة فى أموالنا، وبصيرة في ديننا فماذا أديتم من شكر الله الواجب عليكم، فإن الله وعد من شكره بالمزيد، وتوعد من كفر بنعمته بالعذاب الشديد وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، إن الله سبحانه وتعالى يري عباده من آياته ليعتبروا ويتوبوا، فالسعيد من تنبه وتاب، والشقي من غفل واستمر على المعاصي ولم ينتفع بالآيات، كم نسمع من الحوادث ونشاهد من العبر، حروب في البلاد المجاورة أتلفت أمماً كثيرة وشردت البقية عن ديارهم، أيتمت أطفالاً وأرملت نساءً، وأفقرت أغنياء وأذلت أعزاء، ولا تزال تتوقد نارها، ويتطاير شرارها على من حولهم، وغير الحروب هناك كوارث ينزلها الله بالناس كالعواصف والأعاصير التى تجتاح الأقاليم والمراكب في البحار، كالفيضانات التي تغرق القرى والزروع، وهناك حوادث السير في البر والبحر والجو والتي ينجم عنها موت الجماعات من الناس فى لحظة واحدة، وهناك الأمراض الفتاكة المستعصية التي تهدد البشر وهناك الزلازل، كل ذلك يخوف الله به عباده، ويريهم بعض قوته وقدرته عليهم، ويعرفهم بضعفهم ويذكرهم بذنوبهم، فهل اعتبرنا؟ هل تذكرنا؟ هل غيرنا من أحوالنا؟ هل تاب المتكاسل العاصى عن الصلاة فحافظ على الجمع والجماعات؟، هل تاب المرابي والمرتشي والذي يغش في المعاملات؟، هل أصلحنا أنفسنا وطهرنا بيوتنا من المفاسد؟ إن شيئاً من هذه الأحوال لم يتغير ـ إلا من شاء الله بل إن الشر يزيد ـ وإننا نخشى من العقوبة المهلكة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإن الله تعالى يقول: كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَـ?تِ ?للَّهِ فَأَخَذَهُمُ ?للَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ ?للَّهَ قَوِىٌّ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:52، 53].
إن الله سبحانه توعد الذين لا يتعظون بالمصائب ولا تؤثر فيهم النوازل فيتوبون من ذنوبهم، توعدهم بأن يستدرجهم بالنعم ثم يأخذها على غرة ويقطع دابرهم، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى? أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـ?كِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء حَتَّى? إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَـ?هُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ ?لْقَوْمِ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ وَ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأنعام:42-45]، عن عقبة بن عامر عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج)) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء حَتَّى? إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَـ?هُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ [الأنعام:44]، رواه الإمام أحمد.
أيها المسلمون، إنه والله يخشى علينا اليوم الوقوع فى مثل هذا، معاصينا تزيد، ونعم الله تتكاثر علينا، فاتقوا الله عباد الله واحذروا نقمة الله التي حلت بمن قبلكم ومن حولكم أن تحل بكم، الدنيا لدينا معمورة، والمساجد مهجورة، ليس لدينا تقصير في الدنيا، لكن التقصير في الدين.
عباد الله، وقبل ثلاث سنوات حصل زلزال في مصر وها نحن نسمع الآن عن زلزال فى تبوك وما حولها، لقد كثر وقوع الزلازل المروعة التى تدمر العمران وتهلك الإنسان، وقد تتابع ذلك.
في سنين متقاربة، حدث زلزال عظيم فى الجزائر، ثم أعقبه زلزال عظيم فى إيطاليا، ثم أعقبه زلزال عظيم فى اليمن، ثم أعقبه زلزال عظيم فى المكسيك وها نحن اليوم نسمع عن زلزال مصر وقد دُمر فى هذه الزلازل مدن بأكملها وهلك فيها ألوف من البشر وشرد فيها مئات الألوف من مساكنهم. مما تسمعون أخباره المروعة ويشاهد الكثير منكم صوره المفزعة تعرض على شاشة التلفاز، وهذه الزلازل لا شك أنها عقوبات على ما يرتكبه العباد من الكفر والمعاصي والمخالفات. كما قال بعض السلف لما زلزلت الأرض، إن ربكم يستعتبكم.
ولما وقع زلزال بالمدينة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قام فيهم خطيباً ووعظهم وقال: (لئن عادت لا أساكنكم فيها).
لعلم عمر بأن ما حصل هذا إلا بسبب ذنوب الناس، وأن هذا تهديد وعقوبة من الله عز وجل، إن في الزلازل عبراً وعظات لأولي الألباب، ودلالة على قدرة الله الباهرة، حيث يأذن لهذه الأرض أن تتحرك بضع ثوان أو دقائق فينتج عن ذلك هذا الدمار وهذا الهلاك وهذا الرعب، لعل الناس يتوبون إلى ربهم ويستغفرون من ذنوبهم. لأن هذا ما حدث إلا بسبب كفرهم ومعاصيهم. ويكثر هذا في آخر الزمان، كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم ويتقارب الزمان وتكثر الزلازل وتظهر الفتن ويكثر الهرج)). قيل الهرج؟ أي ما هو يا رسول الله؟ قال: ((القتل القتل)) وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اتخذ الفيء دولاً، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، وتعلم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته وعقّ أمه وأدنى صديقه وأقصى أباه وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء وزلزلة وخسفاً ومسخاً وقذفاً وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع)) بيّن صلى الله عليه وسلم فى هذا الحديث أنه عندما تحدث هذه الجرائم فى آخر الزمان فإنها ستقع عليهم العقوبات المتتابعة ومنها الزلازل؟ وقد رأيتم مصداق ذلك بما تكرر من حدوث هذه الزلازل المروعة، وقد يقول بعض المتحذلقين من الجغرافيين والعلمانيين: هذه الزلازل ظواهر طبيعية. لها أسباب معروفة. لا علاقة بها بأفعال الناس ومعاصيهم كما يجرى ذلك على ألسنة بعض الصحفيين والإعلاميين. حتى صار الناس لا يخافون عند حدوثها، ولا يعتبرون بها. كما يقول أشباههم من قبل عندما تصيبهم الكوارث والنكبات: قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا ?لضَّرَّاء وَ?لسَّرَّاء [الأعراف:95]، فيعتبرون ذلك حالة طبيعية وليست عقوبات لهم فيستمرون على غيهم وبغيهم، ولا يتوبون من ذنوبهم، والذي نقوله لهؤلاء المتحذلقين إن الكتاب والسنة يدلان على أن هذه الزلازل كغيرها من الكوارث إنما تصيب العباد بسبب ذنوبهم، وكونها تقع لأسباب معروفة لا يخرجها عن كونها مقدرة من الله سبحانه على العباد لذنوبهم، فهو مسبب الأسباب وخالق السبب والمسبب ?للَّهُ خَـ?لِقُ كُلّ شَىْء وَهُوَ عَلَى? كُلّ شَىْء وَكِيلٌ لَّهُ مَقَالِيدُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ [الزمر:62، 63].
فإذا أراد الله شيئاً أوجد سببه ورتب عليه نتيجته.كما قال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ?لْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]، فاتقوا الله عباد الله واعتبروا بما يجري حولكم وبينكم وتوبوا إلى ربكم وتذكروا قول الله تعالى: قُلْ هُوَ ?لْقَادِرُ عَلَى? أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ?نْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ ?لاْيَـ?تِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ ?لْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام:65-67].
بارك الله لي ولكم فى القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله وتوبوا إليه من ذنوبكم قبل أن يحل بكم ما حل بغيركم من العقوبات.نعم إن ما يحدث فى الأرض اليوم من الزلازل المدمرة، والأعاصير القاصفة والحروب الطاحنة، والمجاعات المهلكة، والأمراض الفتاكة وحوادث المراكب البرية والبحرية والجوية التي يذهب فيها الأعداد الكبيرة من البشر، وتسلط قطاع الطرق ومختطفي الطائرات، وسطو اللصوص، كل ذلك يحدث بسبب الذنوب والمعاصي كما قال تعالى: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقال تعالى: وَكَذ?لِكَ نُوَلّى بَعْضَ ?لظَّـ?لِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأنعام:129]، وإنه يحدث منا من الذنوب والمعاصي مالا يحصى، ومنه ما هو كفر كترك الصلوات المفروضة، وما هو من الكبائر الموبقة كأكل الربا، والرشوة، وتبرج النساء وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفعل الفواحش وغير ذلك مما نتخوف منه نزول العقوبة صباحاً ومساءً، كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ ?لَّذِينَ مَكَرُواْ ?لسَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ?للَّهُ بِهِمُ ?لأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ?لْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ [النحل:45، 46].
تركت الصلوات، وأهملت الواجبات، ضعف الخوف من الله فى قلوب الناس، تغيرت أخلاقنا، سلوكنا، بيوتنا أصبحت شبهه. هل اعتبرنا يا عباد الله بما يحدث، هل غيرنا من حالنا من سيئ إلى حسن، إننا على كثرة ما نسمع ونقرأ أو نرى بأعيننا من الحوادث المروعة والعقوبات الشديدة لا يزال الكثير منا مصراً على معاصيه من أكل الحرام وترك الصلاة وهجر المساجد وفعل المنكرات حتى أصبح كثير من البيوت أوكاراً للفسقة والعصاة والتاركين للصلاة. ولا ينكر عليهم صاحب البيت ولا جيرانه ولا من يعلم بحالهم. وفي الحديث: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)).
ترون الشوارع والبيوت ملأى بالرجال. وترون المساجد وقت الصلاة فارغة منهم، لا يؤمها إلا القليل وفى فتور وكسل.والذي يصلي منهم لا ينكر على من لا يصلي من أهل بيته وجيرانه ومن يمر بهم فى طريقه إلى المسجد، ما الذي أمات الغيرة في قلوب الناس إنه ضعف الإيمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)).
عباد الله، تخيلوا الفجيعة التي حصلت بما سمعنا من زلزال العقبة وكم من الناس قد تأثر. كل هذا بسبب زلزال بسيط، في بقعة محددة من الأرض.
فماذا يحصل لو وقع الزلازل فى الأرض كلها تخيلوا أن زلزالاً بالأرض وسيحصل هذا، هل عملتم. وأخذتم حسابكم واحتياطاتكم للزلزال الأكبر الذى سيضرب الأرض كلها، لا العقبة وحدها ولا الجزيرة وحدها، ولا قارة آسيا أو إفريقيا، لكنه زلزال عظيم، سيصيب جميع الأرض.
إِذَا زُلْزِلَتِ ?لاْرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ ?لارْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ ?لإِنسَـ?نُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى? لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ?لنَّاسُ أَشْتَاتاً لّيُرَوْاْ أَعْمَـ?لَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [سورة الزلزلة].
ماذا عملنا، أو ماذا سنعمل لذلك الزلزال. الزلزال الأكبر، الذي يكشف بعده كل شيء، والذي سينفضح بعده كل مجرم، عملت كذا في يوم كذا، وعملت كذا، وعملت كذا فى يوم كذا، فنسأل الله عز وجل أن يرحمنا برحمته.
ثم اعلموا رحمكم الله، وتذكروا ما يحل بالناس من العقوبات فى الدنيا، وإذا كان شديداً فهو أخف من عذاب الآخرة، قال تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ ?لْعَذَابِ ?لاْدْنَى? دُونَ ?لْعَذَابِ ?لاْكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة:21]، فاتقوا الله عباد الله فى أنفسكم وتوبوا من ذنوبكم وقوموا على أولادكم وأهليكم، وأنقذوا أنفسكم وأنقذوهم من عذاب الله، كما قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله...
(1/2964)
سجود الشكر
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأعمال
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
14/3/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة نعم الله على العباد. 2- مشروعية سجود الشكر. 3- شكر النعم المستمرة بالطاعة والمتجددة بسجود الشكر. 4- صفة سجود الشكر وعدم اشتراط الوضوء لها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لقد شرع الله تعالى لنا عند تجدد نعمة، أو اندفاع نقمة، أن نسجد له تعالى، وهذا يسمى بسجود الشكر. هذه العبادة التي نغفل عنها والبعض قد يجهل الحكمة منها، وقد يجهل كيفية أدائها. فهذا السجود عباد الله يُشرع في حالين: أولاً: تجدد النعم. وثانياً: اندفاع النقم.
أما تجدد النعم فالمراد تجددها لا حصولها، لأن نعم الله على عباده كثيرة لا عد لها ولا حصر، كما قال سبحانه: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]. فلو أراد العبد أن يسجد لله عند كل نعمة تحصل له لبقي طول عمره ساجداً لربه، لكن المقصود عند تجدد النعم مثل: إنسان نجح في الاختبار وهو مشفق أن لا ينجح، فهذا تجدد نعمة فيسجد لها. أو سمع بانتصار للمسلمين في أي مكان، فهذا تجدد نعمة فيسجد لله شكراً. أو بُشر بولد، فهذا أيضاً تجدد نعمة فيسجد لله شكراً.
أما اندفاع النقم: كرجل حصل له حادث سيارة، وتهشمت السيارة وخرج سالماً، فهنا يسجد لأن هذه النقمة وجد سببها، وهو الحادث، لكنه سلم. أو إنسان اشتعل في بيته حريق، فيسَّر الله القضاء عليه وأطفأه، فهذا اندفاع نقمة فيسجد لله تعالى شكراً. أو سمع بخبر يفرحه ويكون هذا الخبر اندفاع بلاء عن المسلمين، كموت ظالم، أو هلاك فاجر، أو زوال رأسٍ من رؤوس الشر والفساد، فيشرع له أن يسجد لربه شكراً لله تعالى على زوال هذه المصيبة وهلاك هذا الظالم وراحة الناس من شره.
ففي حديث لأبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان إذا جاءه أمر يُسرّ به خر ساجداً شكراً لله تعالى)) ، وأتاه بشير يبشره بظفر جندٍ له على عدوهم وكان رأسه في حجر عائشة فقام وخر ساجداً.
وسجد أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين جاءه قتل مسيلمة الكذاب.
وسجد علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين وجد ذا الثُّدية في الخوارج الذين قتلهم.
وتوارى الحسن البصري رحمه الله تعالى عن الحجاج سبع سنين، فلما بلغه موته قال: اللهم قد أمتّه فأمت سنته، وسجد شكراً لله وقرأ: إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَـ?تٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان:31].
أما عند حصول النعم فقد ثبت في حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج نحو أحد فخرّ ساجداً فأطال السجود، ثم قال: ((إن جبريل قال لي: ألا أبشرك إن الله تعالى يقول: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه، فسجدت لله تعالى شاكراً)).
ومثله حديث سعد بن أبي وقاص في سجوده صلى الله عليه وسلم شاكراً لربه لما أعطاه ثلث أمته، ثم سجد ثانية فأعطاه الثلث الآخر، ثم سجد ثالثة فأعطاه الثلث الباقي.
وذكر البيهقي بإسناد على شرط البخاري، أن علياً رضي الله عنه لما كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام همدان، خر ساجداً ثم رفع رأسه فقال: ((السلام على همدان، السلام على همدان)).
وسجد كعب بن مالك لما جاءته البشرى بتوبة الله عليه.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن النعم نوعان: مستمرة ومتجددة، فالمستمرة شكرها بالعبادات والطاعات، والمتجددة شرع لها سجود الشكر، شكراً لله عليها وخضوعاً له وذلاً، في مقابلة فرحة النعم وانبساط النفس لها، وذلك من أكبر أدوائها، فإن الله لا يحب الفرحين ولا الأشرين، فكان دواء هذا الداء الخضوع والذل والانكسار لرب العالمين، وكان في سجود الشكر من تحصيل هذا المقصود ما ليس في غيره.
ونظير هذا السجودُ عند الآيات التي يخوف الله بها عباده، كما في الحديث: ((إذا رأيتم آية فاسجدوا)) رواه أبو داود والترمذي وقد فزع النبي صلى الله عليه وسلم عند رؤية انكساف الشمس إلى الصلاة، وأمر بالفزع إلى ذكره، ومعلوم أن آياته تعالى لم تزل مشاهدة معلومة بالحس والعقل، ولكن تجددها يحدث للنفس من الرهبة والفزع إلى الله ما لا تحدثه الآيات المستمرة.
فتجدد هذه النعم في اقتضائها لسجود الشكر، كتجدد تلك الآيات في اقتضائها للفزع إلى السجود والصلوات، ولهذا لما بلغ فقيه الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس موت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم خر ساجداً، فقيل له: أتسجد لذلك؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم آية فاسجدوا)) وأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى. رواه أبو داود والترمذي.
أيها المسلمون، وصفة سجود الشكر أن يكبر ويسجد، ولا يكبر إذا رفع ولا يسلم. وذهب جمع من أهل العلم على أنه لا يشترط لها الطهارة أيضاً.
أيها المسلمون، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ: ((مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: ((الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ)).
قال النووي رحمه الله: "قوله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة فقال: ((مستريح ومستراح منه)) ثم فسره بأن المؤمن يستريح من نصب الدنيا والفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب. معنى الحديث أن الموتى قسمان: مستريح ومستراح منه، ونصب الدنيا: تعبها.
وأما استراحة العباد من الفاجر معناه: اندفاع أذاه عنهم، وأذاه يكون من وجوه منها: ظلمه لهم، ومنها ارتكابه للمنكرات، فإن أنكروها قاسوا مشقة من ذلك، وربما نالهم ضرره وإن سكتوا عنه أثموا. واستراحة الدواب منه كذلك، لأنه كان يؤذيها ويضر بها ويحمِّلها ما لا تطيقه، ويجيعها في بعض الأوقات وغير ذلك. واستراحة البلاد والشجر فقيل: لأنها تُمنع القطر بمصيبته".
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ويحتمل أن يكون المراد براحة العباد منه لما يقع لهم من ظلمه، وراحة الأرض منه لما يقع عليها من غصبها ومنعها من حقها، وصرفه في غير وجهه".
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2965)
سليمان عليه السلام
سيرة وتاريخ
القصص
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
19/2/1409
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة سليمان مع النملة والعبرة منها. 2- قصة سليمان مع الهدهد. 3- قصة سليمان مع مملكة سبأ. 4- قصة موت سليمان عليه السلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: ومن قصص القرآن أيضاً، قصتنا لهذه الجمعة، مع نبي الله، سليمان عليه السلام.
ولقد كان سليمان عليه السلام، نبياً من أنبياء الله، ومع ذلك كان ملكاً من ملوك الأرض في زمانه، وفوق كل هذا فقد منّ الله عليه، وعلمه لغة الحيوان والطير، وكان يفهم عليه الصلاة والسلام، ما تتخاطب به هذه الحيوانات والطيور.
عباد الله، جاء في سورة النمل، ثلاث قصص عن سليمان عليه السلام.مع النملة، ثم مع الهدهد، ثم مع ملكة سبأ.
أما عن موقف سليمان عليه السلام مع النملة فيقول الله عز وجل: وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَـ?نَ عِلْماً وَقَالاَ ?لْحَمْدُ لِلَّهِ ?لَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى? كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ ?لْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَـ?نُ دَاوُودَ وَقَالَ ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ ?لطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْء إِنَّ هَـ?ذَا لَهُوَ ?لْفَضْلُ ?لْمُبِينُ وَحُشِرَ لِسْلَيْمَـ?نَ جُنُودُهُ مِنَ ?لْجِنّ وَ?لإِنْس وَ?لطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى? إِذَا أَتَوْا عَلَى? وَادِى ?لنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ ي?أَيُّهَا ?لنَّمْلُ ?دْخُلُواْ مَسَـ?كِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـ?نُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَـ?حِكاً مّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ?لَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى? وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـ?لِحاً تَرْضَـ?هُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ ?لصَّـ?لِحِينَ [النمل:15-19].
عباد الله، إن الله سبحانه وتعالى آتى سليمان خير ما يؤتى الإنسان من فضل وإحسان، وهو العلم الذي من ملكه، ملك أقوى ما على هذه الأرض من قوة، ومع هذا فقد أعطى عليه الصلاة والسلام، ملكاً عظيماً وسلطاناً واسعاً، ومع هذا العلم الذي أعطى سليمان، ومع هذا الملك أيضاً، لم يمنعه كل هذا، أن يأخذ درساً من أصغر مخلوقات الله، وهي النملة، ويستفيد منها، ولم يغتر بملكه ولا بعلمه عليه الصلاة والسلام، كما هو شأن بعض حاملي الشهادات في زماننا هذا، والله المستعان.
يقف سليمان عليه السلام، وينظر من خلال ملكها إلى ملكه العريض، فيرى أن لها سلطاناً كسلطانه، وملكاً كملكه، وسياسة رفيقة رحيمة، أروع وأعظم من سياسته، فلا يملك إلا أن يخشع لسلطان الله، بين يديها، ويسبح بحمده وجلاله، فيقول في محراب ملكها، الذي يسبح فيه بحمد الله: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ?لَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى? وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـ?لِحاً تَرْضَـ?هُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ ?لصَّـ?لِحِينَ [النمل:19].
لقد أراد الله سبحانه وتعالى، أن يصغر في عيني سليمان هذا الملك العريض، الذي بين يديه، وأن يكسر من حدة هذا السلطان المندفع، كالشهاب الذي لا يمسكه شيء، ولا يعترض سبيله معترض، وذلك كي لا يدخل على نفسه شيء، من العجب والزهو، فتقف له النملة، هذا الموقف، الذي يرى منه عجباً، فيرى سليمان عليه السلام من النملة، ما لم ير أحد من جنده، ويسمع منها، ما لم يسمع أحد غير النمل، الذي يعيش معها: ي?أَيُّهَا ?لنَّمْلُ ?دْخُلُواْ مَسَـ?كِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـ?نُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [النمل:18].
والدرس الذي نود أن نأخذه من موقف سليمان عليه السلام مع النملة، هو صوت النذير، الذي أنذرت به النملة جماعتها. إن الهلاك مقبل على جماعة النمل، من هذه الحشود الحاشدة، التي تسير في ركب سليمان، فلتأخذ جماعة النمل حذرها، ولتدخل مساكنها، ولتنجحر في مساربها، وإلا فالهلاك المحقق، ومن أين هذا الهلاك؟
من جماعة غالباً، لا تنظر إلى ما تحتها، ولا تلتفت إلى مواطن أقدامها، ولا تشعر بما تصيب أو تقتل، من تلك الكائنات الضعيفة، فهل يشعر من يسكن البيوت الفارهة، بما يعاني عباد الله من ساكني العشش والخيام، وكم في دنيا الناس، من المستضعفين ممن تطؤهم أقدام الأقوياء، دون أن يشعروا بهم، وهم في طريقهم إلى التمكين لسلطانهم، والاستزادة من جاههم وقوتهم.
وكم من مجتمعات بشرية، جرفها تيار عاتٍ من تيارات الظلم والاستبداد، وكم من مدن عامرة دمرتها رحى الحروب، التي يوقد نارها من يملكون الحطب والوقود، وكم وكم، إنها والله لحكمة بالغة، ودرس عظيم، تلقيه النملة، حيوان ضئيل من مخلوقات الله، وأقلها شأناً تلقيه على الإنسانية كلها، في أحسن أحوالها، وأعدل أزمانها، وأقوى سلطانها.
ولكن أين من يتعظ ويعتبر؟ ولقد أخذ سليمان العبرة والعظة، فحاد بركبه عن وادي النمل، وهو يضع ابتسامة على فمه، ويرسل ضحكة رقيقة واعية من صدره، ويحرك لسانه بكلمات شاكرة، ذاكرة فضل الله ونعمته، فيقول: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ?لَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى? وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـ?لِحاً تَرْضَـ?هُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ ?لصَّـ?لِحِينَ [النمل:19].
إن للنملة سلطاناً كسلطان سليمان، ودولة كدولته، وجنداً كجنده، ثم إنها تقوم على هذه الدولة، وترعاها رعاية الأم لأبنائها، وإنها لتضع عينها دائماً على مواقع الخير، ترتاده لرعايتها، وإلى مواطن الشر، فتدفعها عنها، فهل تجد رعايا سليمان في ظله، مثل هذه الرعاية التي تجدها جماعة النمل في ظل السلطان الحكيم، وهل تنال رعيته مثل هذا العطف والحنو، الذي تناله جماعة النمل من ملكتها؟
عباد الله، وما يكاد سليمان يخرج من هذا الموقف الذي وقفه مع النملة، حتى يلقاه موقف آخر، مع طائر وديع لطيف، أقرب إلى النملة في لطفها، وحسن مدخلها للأمور التي تعالجها، وهو الهدهد. قال تعالى: وَتَفَقَّدَ ?لطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى ?لْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ?لْغَائِبِينَ لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَـ?نٍ مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنّى وَجَدتُّ ?مْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ?للَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَعْمَـ?لَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ?لسَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ?لَّذِى يُخْرِجُ ?لْخَبْء فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ?للَّهُ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ?لْعَرْشِ ?لْعَظِيمِ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ?لْكَـ?ذِبِينَ [النمل:20-27].
حشد سليمان عليه السلام جموعه ورعيته، فنظر فلم ير الهدهد قد حضر هذا الحفل، فتوعده سليمان عليه السلام بأشد العذاب والنقمة، لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَـ?نٍ مُّبِينٍ [النمل:21].
أما كان للهدهد عذر يمكن أن يقدمه لتخلفه هذا، ويدفع عنه هذا العذاب، ألا يجوز أن يكون مريضاً، ألا يصح أن يكون قد وقع في شباك صائد؟ وماذا يغني الهدهد في هذا الجمع العظيم، وماذا يجدي أو يضير إذا هو حضر أو تخلف، لكنه الانضباط التام، والملاحظة العجيبة عند سليمان الملك، وكيف أنه يتفقد رعيته كاملاً، ويهمه حضورهم ووجودهم حتى لو كان مخلوقاً ضعيفاً كالهدهد.
أيها المسلمون، وفي قول سليمان عليه السلام: مَالِيَ لاَ أَرَى ?لْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ?لْغَائِبِينَ درس عظيم، لابد من الوقوف عنده، فسليمان عليه السلام حين نظر ولم ير الهدهد، اتهم نفسه أولاً، فقال: مَالِيَ لاَ أَرَى ?لْهُدْهُدَ ، ولم يقل أين الهدهد، ولم يقل: إن الهدهد غائب.لأنه يحتمل أن يكون موجوداً، لكنه هو عليه السلام ما رآه، وهذا هو شأن أصحاب العلم، إذا هم التمسوا حقيقة من الحقائق، فلم يجدوها في أيديهم، تشككوا واتهموا أولاً أسلوب تفكيرهم، الذي لم يصل بهم إلى الحقيقة، ثم أعادوا البحث والنظر مرةً بعد مرة، حتى يجدوا ما يطلبون، أما إذا التمس المرء الحقيقة، ثم لم يجدها، ثم كان ذلك مدعاة إلى إنكارها، فذلك ليس من أسلوب العلماء، ولا من طرق تحصيل العلم. فلينبه لهذه القضية.
درس آخر، يعلمنا هذا الهدهد، وهو أنه في تأخره الحضور، مع سليمان، بماذا كان منشغلاً، وما الذي أخره عن الحضور، لقد كان منشغلاً بالدعوة إلى الله عز وجل، والإنكار على المشركين شركهم، وتسفيه أحلامهم، وتحقير آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ?للَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَعْمَـ?لَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ?لسَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ [النمل:24].
أيها المسلمون، لقد فاق هذا الهدهد، كثيراً من الدعاة إلى الله في هذا الزمان، حيث إنهم محسوبين على الدعوة، يشاهدون المنكرات في مجتمعهم، ويشاهدون المخالفات الشرعية الواضحة، ومع هذا لا ينكرون على أقوامهم ذلك، ولا يمنعهم ذلك أن يؤاكلوهم، أو يجالسوهم، أو يشاربوهم، فهل لنا في هذا الهدهد أسوة حسنة، حيث إنه أنكر على ملكة دولة في زمانها وهي ملكة سبأ.
نسأل الله عز وجل، أن يبصرنا في ديننا، وأن يرزقنا نية صادقة، وعملاً صالحاً متقبلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، وأما عن القصة الثالثة، لنبي الله سليمان عليه السلام، فكانت مع ملكة سبأ، وتسمى بلقيس، وأرض سبأ باليمن، وسميت كذلك نسبة إلى سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحان، وسمي هو سبأ، لأنه أول من سبي السبي من ملوك العرب، وأدخل السبايا إلى اليمن.
فبعد ما رجع الهدهد، وأخبر سليمان عليه السلام بما رآه وشاهده في أرض اليمن، من وجود امرأة تحكمهم، وأن لها دولة، أرسل سليمان عليه السلام الهدهد، إلى أرض سبأ وأعطاه رسالة إلى ملكة سبأ، طار الهدهد برسالة سليمان إلى بلقيس، وألقاها بين يديها، تناولت بلقيس الرسالة، وقرأت ما فيها، ثم جمعت أشراف قومها، وقواد مملكتها، وأخبرتهم بالرسالة، وقرأت نصها عليهم، ثم طلبت المشورة، فأجابها الحاضرون بأنهم على استعداد للقتال، مع جند سليمان, وأنهم أصحاب قوة، لكنهم أرجعوا الأمر لها، وإلى هذا تشير الآيات القرآنية: ?ذْهَب بّكِتَابِى هَـ?ذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَ?نْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ ي?أَيُّهَا ?لْمَلا إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ?للَّهِ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَتْ ي?أَيُّهَا ?لْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَـ?طِعَةً أَمْراً حَتَّى? تَشْهَدُونِ قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَ?لأمْرُ إِلَيْكِ فَ?نظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ [النمل:28-33].
أيها المسلمون، ولنا وقفة مع قول بلقيس، في قول الله عز وجل: قَالَتْ ي?أَيُّهَا ?لْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَـ?طِعَةً أَمْراً حَتَّى? تَشْهَدُونِ [النمل:32]، إن هذه المرأة تكلمت بصراحة، وإنها الفطرة، ومتى كانت النساء يفتون في الأمور ويقطعونها خصوصاً ما يتعلق بأمور الدولة، فهذه المرأة مع أنها كانت ملكة سبأ، لكن عند حدوث بعض المواقف، يتبين ضعف المرأة، وأنها لا تستطيع أن تسوس الأمور، فاستشارت الملأ، ي?أَيُّهَا ?لْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَـ?طِعَةً أَمْراً حَتَّى? تَشْهَدُونِ [النمل:32]، فهل يعقل أولئك الذين ينادون بدخول المرأة في البرلمان، وأولئك الذين يريدون أن يضعوا المرأة في غير الموضع الذي وضعها الله سبحانه وتعالى خالقها وخالق الكون كله، وأعطوني دولة من الدول، من عمر هذه الأرض، حتى وقتنا هذا، ساستها امرأة من النساء، وكتب لها السداد، إنها مخالفة واضحة لفطرة الله سبحانه وتعالى، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً.
عباد الله، عند ذلك عزمت بلقيس على إرسال هدية عظيمة لسليمان عليه السلام، فإن من عادة الملوك أن الهدايا تقع في نفوسهم موقعاً حسناً، فقالت إن قبلها سليمان عرفت أنه ملك يرضيه ما يرضي الملوك، وإن كان نبياً أبى إلا أن نتبع دينه.
ذهب وفد بلقيس إلى فلسطين، يحملون الهدايا لسليمان عليه السلام، فلما رأى ذلك عليه السلام، أنكر عليهم، ورفض الهدية، وقال: إن بقوا على كفرهم، فلنأتينهم بجنود لا طاقة لهم بمقاومتها، ولنخرجنهم من مدينة سبأ أسرى أذلاء مستعبدين، قال تعالى: قَالَتْ إِنَّ ?لْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذ?لِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ ?لْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا ءاتَـ?نِى ?للَّهُ خَيْرٌ مّمَّا ءاتَـ?كُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ?رْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَـ?غِرُونَ [النمل:34-37].
رجع الوفد أدراجه، وأخبر ملكته بما رأى من قوة سليمان، أدركت بلقيس أن سليمان نبي مرسل، وأنها لا طاقة لها بمخالفة أمره، فتجهزت للسير إليه مع أشراف قومها.
عرف سليمان بمسيرة بلقيس إليه، فأراد أن يريها بعض ما خصه الله به من معجزات، ليكون دليلاً على نبوته، فقال لمن حوله من الجن، أيكم يأتيني بعرش بلقيس، قبل أن تصل إليّ مع قومها، ليروا قدرة الله عز وجل، فقال أحد العفاريت من الجن، أنا آتيك به قبل أن تقوم من مجلسك الذي تقضي وتحكم فيه، وكان سليمان يجلس من الصباح إلى الظهر في كل يوم للحكم بين الناس، وما هي إلا لحظات إلا وعرش بلقيس مستقراً في مجلسه، قال تعالى: قَالَ ي?أَيُّهَا ?لْمَلاَ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مّن ?لْجِنّ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ قَالَ ?لَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ ?لْكِتَـ?بِ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَـ?ذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ [النمل:38-40]. أمر سليمان عليه السلام رجاله، أن يغيروا هيئة العرش، ليعرف ما إذا كانت بلقيس تتعرف على عرشها وكرسي ملكها، قال سبحانه: قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ ?لَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا ?لْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ ?للَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَـ?فِرِينَ [النمل:41-43].
ثم لما رأت بلقيس من إكرام سليمان الشديد لها، ورأت الحقيقة الساطعة، التي كانت محجوبة عنها، توجهت إلى ربها: قَالَتْ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَـ?نَ لِلَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [النمل:44].
عباد الله، وأما عن موت سليمان عليه السلام، فقصته عجيبة، فبينما كان يصلي عليه السلام في محرابه، مات وهو متكئٌ على عصاه، وكما نعلم بأن الشياطين والجن كانوا مسخرين له عليه السلام، فبقي كل منهم يؤدي المهمة التي كلف بها، وينظرون إليه، ولا يعلمون أنه قد مات، فصارت دودة الأرض، تأكل من عصاه، فأكلت بعضه، فإنهار الجزء الذي أكلته فاختل توازنه، فسقط عليه السلام، عندها علم الناس والجن أنه قد مات، وذلك قول الله عز وجل: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ?لْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى? مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ?لْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ?لْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى ?لْعَذَابِ ?لْمُهِينِ [سبأ:14].
اللهم علمنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً متقبلاً، ونسألك اللهم قلباً خالصاً، ولساناً ذاكراً صادقاً..
(1/2966)
سورة ق
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, الموت والحشر
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
5/6/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية سورة ق. 2- موضوع السورة العام البعث والنشور. 3- استعراض آيات السورة وما فيها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أخرج مسلم في صحيحه من حديث أم هشام بنت حارثة قالت: ما أخذت ق وَ?لْقُرْءانِ ?لْمَجِيدِ [ق:1]، إلا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس.
أيها المسلمون، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليقرأ هذه السورة كل جمعة على المنبر كما قالت أم هشام رضي الله عنها، ما كان ليقرأ هذه السورة لولا أنها سورة عظيمة في حقائقها، ظاهرة في حجمها، تأخذ بمجامع النفوس، وتقرع القلوب المؤمنة بالله فتبرهن على عقيدة البعث والنشور، من المولد والوفاة، والمحشر والحساب، والثواب والعقاب، بإيضاح عجيب، وبسط دقيق.
أيها المسلمون، مشاهد يوم القيامة من البعث والنشور والجزاء والحساب، أمر جاءت به جميع رسل الله، ولقد كان أعداء الرسل كلهم يقابلون هذا الأمر بالتكذيب والاستغراب، وسجل القرآن على هؤلاء المجرمين جريمتهم في قوله تعالى: وَأَقْسَمُواْ بِ?للَّهِ جَهْدَ أَيْمَـ?نِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ?للَّهُ مَن يَمُوتُ [النحل:38]، وقوله تعالى: وَيَقُولُ ?لإِنْسَـ?نُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً [مريم:66]، وقوله تعالى: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظـ?ماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ?لدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [المؤمنون:35-37]، وغيرها كثير من الآيات، ولا زال هذا الأمر موضع تكذيب واستغراب من شرذمة منحلة من بني آدم حجبها عن معرفة الحق سلطان الهوى وحب الشهوات.
أيها الإخوة، بين يدينا سورة عظيمة خُصصت لمعالجة هذه القضية تخاطب العقول وتعالج مرض الشك لا بالجدل العقيم، ولكن بالطريقة القرآنية الفريدة التي يكفينا أنها من عند الله، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها على المنبر ليسمع الناس كيف بدأ الله الخلق وكيف يبعثهم، وليتصوروا مشاهد يوم القيامة، فيمروا على الحساب والجنة والنار، وليسمعوا الثواب والعقاب، والترغيب والترهيب.
تبتدئ السورة الكريمة بتعجب الكفار واستبعادهم للمعاد، وهكذا دائماً حال الكفار والمعاندين، سذاجة في التفكير وقصور في النظر منهم، ينكرون إعادة الخلق وقد خلقوا أول مرة، فيأتي الرد القرآني سهلاً سريعاً ليقيم عليهم الحجة وليبين لهم المحجة: بسم الله الرحمن الرحيم ق وَ?لْقُرْءانِ ?لْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ ?لْكَـ?فِرُونَ هَـ?ذَا شَىْء عَجِيبٌ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ?لأَرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَـ?بٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُواْ بِ?لْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ [ق:1-5].
إن كل مكذب بالحق فهو في أمر مريج، سائر في غير درب الحق. فهو في أمر مختلط تتقاذفه الأهواء وتتخطفه الهواجس، وتقلقه الشكوك، فسيره في الحياة مضطرب ومواقفه متأرجحة وقلبه في وحشة، هذا هو حال الكثيرين من الفلاسفة المتقدمين، والماديين المتأخرين والشيوعيين والعلمانيين.
ويجب أن يعلم هؤلاء كلهم أنه لا يوجد لهم علاج إلا في كتاب الله الذي يعرض عليهم الرجوع ويعطيهم الفرصة إلى آخر لحظة من حياتهم كي يعودوا إلى رشدهم ويستدركوا ما فاتهم.
ثم يدعو الله سبحانه وتعالى هؤلاء وغيرهم إلى التفكير في مخلوقات الله، ذلك التفكر الذي ينبه القلب المنتكس ويزيد القلب المؤمن إيماناً أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى ?لسَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَـ?هَا وَزَيَّنَّـ?هَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَ?لأَرْضَ مَدَدْنَـ?هَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَو?سِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى? لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ ?لسَّمَاء مَاء مُّبَـ?رَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّـ?تٍ وَحَبَّ ?لْحَصِيدِ وَ?لنَّخْلَ بَـ?سِقَـ?تٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رّزْقاً لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذ?لِكَ ?لْخُرُوجُ [ق:6-11].
ثم يبين الله جل وعلا مسلياً رسوله صلى الله عليه وسلم أن التكذيب حصل لمن قبله من الرسل فقال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَـ?بُ ?لرَّسّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْو?نُ لُوطٍ وَأَصْحَـ?بُ ?لأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ ?لرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أَفَعَيِينَا بِ?لْخَلْقِ ?لأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:12-15].
وبعد ذلك تنتقل الآيات إلى طريق في البرهان آخر، فهو مشهد مألوف ولا ينكره أحد، ولكن كثيراً ما تغفل عنه النفوس، بل إن كثيراً من النفوس لا ترغب حتى في تذكره، لأنه يفسد عليها شهواتها ويقطع عليها لذاتها، إنها لحظة الموت وسكراته، يكتنف ذلك رقابة إلهية وإحاطة ربانية، فهو في قبضة مولاه، أنفاسه معدودة، وهواجسه معلومة، وألفاظه مكتوبة، ولحظاته محسوبة، إنها رقابة رهيبة لا يمكن لإنسان أن يصفها مثل ما وصفها ربنا جل وعلا، تُذكر هذه الرقابة مصحوبة بحال الموت والسكرات التي تمر على كل إنسان براً كان أو فاجراً، مؤمناً كان أو كافراً.
ها هي سكرات الموت قد جاءت بالحق الذي ينكره المنكرون ويستبطئه المستبطئون، ولكن لن ينفع الاعتراف بعد فوات الأوان. وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ?لْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى ?لْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:16-19].
وبعد الموت وسكراته تأتي صورة المحشر ورهبة الحساب وَنُفِخَ فِى ?لصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ ?لْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَـ?ذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ ?لْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:20-22]، لقد أثر هذا المشهد في رسولنا صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي وغيره: قال صلى الله عليه وسلم: ((كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته، وانتظر أن يؤذن له)) قالوا يا رسول الله كيف نقول؟ قال: ((قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل)) فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل.
إنها أعلى درجات الشفقة والخوف على الأمة، وإلا فإن رسولنا صلى الله عليه وسلم قد جعل الله له من المنزلة ما يجعله في أمن وأمان بعد موته صلى الله عليه وسلم حتى ينال منزلته في الجنة. ولكنه صلى الله عليه وسلم كما وصفه ربه لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]، فعلى من أراد أن يقتفي أثر رسوله خاصة ممن أراد أن يتشرف بمقام الدعاة إلى الله، على هؤلاء أن يعيشوا هذه الحالة من الحرص على نجاة الأمة فيكون همهم هو الدعوة إلى الله وتغيير حال الأمة، فلا يقدموا أي شيء من حطام الدنيا على هذا الهدف السامي والوظيفة النبوية، ثم يبين الله كيف يجيء الشهداء وتنشر السجلات ويُفصل بين الفريقين، ويبدأ الخاسرون بالمحاجة ويرجعون إلى أنفسهم بالتلاوم. وَقَالَ قَرِينُهُ هَـ?ذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّـ?عٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ ?لَّذِى جَعَلَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هاً ءاخَرَ فَأَلْقِيَـ?هُ فِى ?لْعَذَابِ ?لشَّدِيدِ قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَـ?كِن كَانَ فِى ضَلَـ?لٍ بَعِيدٍ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِ?لْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ ?لْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ?مْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ [ق:23-30].
بارك الله لي ولكم في القرآن ونفعني وإياكم بما فيه من المواعظ والبيان، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: معاشر المسلمين: تأتي خواتيم هذه السورة العظيمة لتوجز لنا ما سبق لتقيم الحجة مرة أخرى للقلب الذي يعي ما يقال له: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِى ?لْبِلَـ?دِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِى ذ?لِكَ لَذِكْرَى? لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ?لسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فَ?صْبِرْ عَلَى? مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ?لشَّمْسِ وَقَبْلَ ?لْغُرُوبِ وَمِنَ ?لَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَـ?رَ ?لسُّجُودِ وَ?سْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ?لْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ ?لصَّيْحَةَ بِ?لْحَقّ ذَلِكَ يَوْمُ ?لْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ?لْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ ?لأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكّرْ بِ?لْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق:36-45].
أيها الإخوة، في هذه الآيات الأخيرة يقول الله لنبيه: فَ?صْبِرْ عَلَى? مَا يَقُولُونَ [ق:39]، وهذا توجيه للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن يقوم بمثل مهمته من التصدي للدعوة إلى الله ونشر الخير ومحاربة الباطل، يأتيهم هذا التوجيه، لأن طبيعة عملهم تحتاج إلى صبر، صبر على ما يقول المبطلون، صبر على أذى المنافقين، وصبر على تمدد مساحة حجم المفسدين، وصبر على التهم الملفقة، والألفاظ المعلبة المستوردة من بلاد الكفار، صبر على تفسير الأعمال والجهود بتفسيرات سيئة، وصبر على اتهام النوايا والتصنيف الغاشم، فإن يصبر هؤلاء فإن لهم قدوة وهم أنبياء الله ورسله: وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى? مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى? أَتَـ?هُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَـ?تِ ?للَّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ ?لْمُرْسَلِينَ [الأنعام:34].
أيها المسلمون، خلاصة هذه الخطبة الذي أريد أن أصل إليه: إن الذي لا يؤثر فيه القرآن لحري أن لا تؤثر فيه أي موعظة، وحق للجبال أن تصنف في منزلة تفوق منزلة هذا الآدمي لأن الله جل جلاله قال: لَوْ أَنزَلْنَا هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ عَلَى? جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـ?شِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ ?للَّهِ [الحشر:21]، وأنت قد قرأ عليك سورة ق كاملة من فوق المنبر، فهل اتعظنا.
نسأل الله أن يفقهنا في القرآن وأن يجعله حجة لنا لا علينا.
(1/2967)
شؤم المعصية
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الذنوب سبب ما أصاب البشرية من شقاء وكوارث. 2- قصة في فتح قبرص. 3- أثر الذنوب والمعاصي على الفرد المسلم. 4- المجاهرة بالمعاصي. 5- التحذير من فشو المنكرات وكثرة المعاصي. 6- أثر الطاعة في وجه المؤمن حال الكبر والوفاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، اتقوا الله تعالى، واحذروا شؤم المعاصي، فإنه ما من شر ولا بلاء ينزل بالناس أفراداً كانوا أو جماعات، إلا وسببه الذنوب والمعاصي.
فما الذي سبب إخراج الأبوين عليهما الصلاة والسلام من الجنة، دار اللذة والنعيم إلى هذه الدنيا دار الآلام والأحزان، وما الذي سبب إخراج إبليس من ملكوت السماء، وصيره طريداً لعيناً مصدراً لكل بلاء في الإنسانية، إنه المعصية، لماذا عم الغرق قوم نوح حتى علا الماء رؤوس الجبال، ولماذا سُلط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم كأنهم أعجاز نخل خاوية، وما السبب في إرسال الصيحة على ثمود حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم، ولماذا قلبت قرى قوم لوط بهم فجُعل عاليها سافلها وأتبعوا بحجارة من سجيل.
وما الذي أغرق فرعون وقومه، وخسف بقارون الأرض، وما الذي هد عروشاً في ماضي هذه الأمة وحاضرها طالما حُميت. إنه الذنوب والمعاصي. فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ?لصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ?لأرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـ?كِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، واحذروا الذنوب والمخالفات، فإن ضررها على الأفراد والمجتمعات لأشد وأنكى من ضرر السموم على الأجسام، إنها لتخلق في نفوس أهلها التباغض والعداء، وتنزل في قلوبهم وحشة وتلفاً، لا يجتمع معهما أنس أو راحة. قال الله تعالى: فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ ?للَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5].
ما ظهرت المعاصي في ديار إلا أهلكتها، ولا تمكنت من قلوب إلا أعمتها، ولا فشت في أمة إلا أذلتها.
إن للمعاصي شؤمها ولها عواقبها في النفس والأهل في البر والبحر: ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ?لَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]. المعاصي، تهون العبد على ربه، فيرفع مهابته من قلوب خلقه وَمَن يُهِنِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ [الحج:18]. روى الإمام أحمد رحمه الله بسنده، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: لما فتحت قبرص فُرق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله، فقال: ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى.
إنه مخالفة أمر الله، إنها مخالفة شريعة الله، إنها الذنوب والمعاصي، التي أذلت أعناقاً طالما ارتفعت، وأخرست ألسناً طالما نطقت وأصمت آذاناً طالما استمعت، وفرقت أسراً وفرقت جموعاً طالما اجتمعت.
بسبب الذنوب والآثام، والمنكرات والإجرام يكون الهم والحزن، إنها مصدر العجز والكسل وفشو البطالة، ومن ثم يكون الجبن والبخل وغلبة الدين وقهر الرجال.
بها تزول النعم وتحلُ النقم وتتحول العافية ويُستجلب سخط الله.
إذا ابتلى العبد بالمعاصي، استوحش قلبه، وضعفت همته وعزمه، وضعفت بأهل الخير والصلاح صلته، وقسا قلبه، ووهن بدنه، وضعف حفظه واستيعابه، وذهب حياؤه وغيرته، وضعف في قلبه تعظيم ووقار الرب.
وربما تنكس القلب، وزاغ عن الحق، وأدى إلى حرمان العلم النافع، وأورث ضيق الصدر، هل تعلم يا عبد الله بأن المعاصي، تعد خيانة للجوارح التي خلقها الله، لتستعمل في طاعته. وأخص بهذا الكلام، الدعاة إلى الله عز وجل، أولئك الذين حملوا على أنفسهم هداية الناس، والتأثير في الخلق. كيف يريد الداعية أن يؤثر في الناس، وقلوب الناس تبغضه.وكيف يريد أن يتقبل الناس كلامه وقلوبهم تنكره، بسبب المعاصي.
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
فترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
فياليت الدعاة، وذو الصدارة، والوجاهة والولاية يدركون بأن للمعاصي خطراً كبيراً على قلوبهم وعلى علمهم، وعلى طلاقة لسانهم، وأنها من أقوى الأسباب في نفرة الناس من صاحبها، بل وانتزاع حبه من نفوسهم، وصدق الله العظيم: وَمَن يُهِنِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ [الحج:18]، وقال جل وعز: وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ?للَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ [النور:40]. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إن للحسنة ضياء في الوجه ونوراً في القلب وسعة في الرزق وقوة في البدن ومحبة في قلوب الناس. وإن للسيئة سواداً في الوجه وظلمة في القلب ووهناً في البدن ونقصاً في الرزق وبغضاً في قلوب الناس).
أيها المسلمون، من قارف المعاصي ولازمها تولد في قلبه الاستئناس بها وقبولها، ولا يزال كذلك حتى يذهب عنه استقباحها، ثم يبدأ بالمجاهرة بها وإعلانها وغالب هؤلاء لا يعافون، كما جاء في الحديث: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من المجاهرة أن يعمل العبد بالليل عملاً ثم يصبح قد ستره ربه، فيقول: يا فلان، قد عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، فيصبح يكشف ستر الله عليه)) رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
وهذه المجاهرة موجودة بيننا ولها صور وأشكال. فمن المجاهرة، أن يتحدث التاجر إلى رفاقه بغشه في السلع ويعد ذلك مهارة وكياسة.
ومن المجاهرة، أن يتحدث المقاول عن أساليبه في حيله بالنسبة للمواد وغيرها، ومن المجاهرة أن يذكر الماجن مجونه وينشر الفاسق فسوقه. ومن المجاهرة، تلك الصور الفاضحة وتلك الكلمات الخادشة للشرف والفضيلة، وهذا باب من البلاء عريض ولكثير من وسائل الإعلام فيه نصيب كبير. فإن غالب وسائل الإعلام تمارس المجاهرة، بمفهومها الواسع العريض.
أيها المسلمون، لقد فشا الربا، وكثر الزنا، وشربت الخمور والمسكرات وأدمنت المخدرات، وكثر أكل الحرام، وتنوعت فيه الحيل، شهادات باطلة، وأيمان فاجرة، وخصومات ظالمة، ارتفعت أصوات المعازف والمزامير، ودخل الغناء أغلب البيوت، وتربى الصغار والكبار على ما تبثه وسائل الإعلام، وتساهل الناس في شأن صحون استقبال القنوات الفضائية، وفشت رذائل الأخلاق، ومستقبح العادات في البنين والبنات، وتسكعت النساء في الشوارع والأسواق وكثرت المغازلات والمعاكسات، وتساهل البعض حتى في شأن الصلوات حتى في الجمع، إلى غير ذلك من المنكرات والمخالفات، التي لا عد لها ولا حصر. فإلى متى الغفلة عن سنن الله، ونعوذ بالله من الأمن من مكر الله، ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].
إن المجتمع حين يغفل عن سنن الله، فتغرق في شهواتها، وتضل طريقها، وتتنكب شريعة ربها، إنها لا تلوم بعد ذلك إلا نفسها، إنها سنة الله، حين تفشو المنكرات وتقوم الحياة على الذنوب والآثام، إن الانحلال الخلقي وفشو الدعارة، وسلوك مسالك اللهو والترف، طريق إلى عواقب السوء، إذ تترهل النفوس، وترتع في الفسق والمجون، وتستهتر بالقيم، وتهين الكرامات. فتنتشر الفواحش، وترخص القيم العالية فتتحلل الأمة، وتسترخي وتفقد قوتها وعناصر بقائها، فتهلك وتطوى صفحتها.
نعم، إن الاستمرار في محادة أمر الله وشرعه، والاستمرار على الذنوب والخطايا وعدم الإقلاع، ليهدم الأركان، ويقوض الأساس ويزيل النعم، وينقص المال، ويرتفع الأسعار وتحل الهزائم الحربية، وقبلها الهزائم المعنوية.
ولقد أصابنا ـ أيها الأحبة ـ من ذلك الشيء الكثير فاتقوا الله تعالى، اتقوا الله، أفراداً وجماعات بيوتاً ومؤسسات، صغاراً وكباراً، حكاماً ومحكومين، فإن الحق أبلج، والدين واضح، وسنن الله لن تتغير ولن تتبدل. قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ?لسَّيّئَةِ ?لْحَسَنَةَ حَتَّى? عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا ?لضَّرَّاء وَ?لسَّرَّاء فَأَخَذْنَـ?هُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـ?تاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ?للَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأعراف:94-99].
بارك الله لي...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، واحذروا السيئات واستكثروا من الحسنات، فإن عاقبة المعاصي كما سمعتم وخيمة، في الدنيا وفي الآخرة.
ثم إن الأعمال الصالحة، وهذا من غرائب الأمور، وقد يستغربه بعضكم، أقول: أن الأعمال الصالحة، يسري قوتها فيظهر ذلك في الوجه، وكذلك المعاصي، يسري قوتها ويظهر ذلك في الوجه أيضاً، حسناً وقبحاً. وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الاستقامة عن هذه القضية فقال رحمه الله: "فكلما كثر البر والتقوى، قوي الحسن والجمال، وكلما قوي الإثم والعدوان، قوي القبح والشين، حتى ينسخ ذلك ما كان للصورة من حسن وقبح".
ثم قال رحمه الله: "فكم ممن لم تكن صورته حسنة، ولكن من الأعمال الصالحة ما عظم به جماله وبهاؤه، حتى ظهر ذلك في صورته".
ثم قال: "ولهذا يظهر ذلك ظهوراً بيناً عند الإصرار على القبائح في آخر العمر عند قرب الموت، فنرى وجوه أهل السنة والطاعة كلما كبروا ازداد حسنها وبهاؤها، حتى يكون أحدهم في كبره أحسن وأجمل منه في صغره، ونجد وجوه أهل البدعة والمعصية، كلما كبروا عظم قبحها وشينها حتى لا يستطيع النظر إليها من كان منبهراً بها في حال الصغر لجمال صورتها.وهذا ظاهر لكل أحد فيمن يعظم بدعته وفجوره".
ثم ضرب رحمه الله مثالاً واقعياً على قاعدته هذه التي ذكرها، ووالله لقد صدق شيخ الإسلام، فإن مثاله نراه بأعيننا في وقتنا هذا.
قال رحمه الله: "وهذا ظاهر لكل أحد فيمن يعظم بدعته وفجوره، مثل:الرافضة وأهل المظالم والفواحش فإن هؤلاء كلما كبر قبح وجهه وعظم شينه حتى يقوى شبهه بالخنزير".
ثم قال شيخ الإسلام: "بأنه قد تواتر عن هؤلاء أنهم ربما مسخوا قردة وخنازير فسبحان الله، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً".
أيها الأحبة، نخلص من هذا الكلام بأن التقوى والإيمان والورع والصدق، يؤثر ذلك في الظاهر، فيحسن الوجه، ويزداد البهاء والجمال. وأن أولئك الذين يتظاهرون بالصلاح، ويتظاهرون بالاستقامة، وبالتقوى، وربما أطلقوا لحاهم، ثم يندسون في صفوف المسلمين، فيحضرون جمعة أو جماعة. نقول لهؤلاء وننصحهم، ونحن مشفقون عليهم، بأن أمركم واضح لغيركم، فإن الناس يميزون، وإن المعصية لها آثارها، كما أن للصدق القلبي أثره.
فالوجه وإن كان به لحية، لكن ذلك النور لا تجده، وذلك البهاء تفقده، ثم نحن مشفقون عليهم من جهة أخرى، وهو أنه قد يقع أحدهم في الشرك، وذلك بأن يدخل المسجد، ويصف مع المسلمين، ويكبر ويركع ويسجد معهم، وما أدخلته الصلاة.
لكن لأمر كان يطلبه فلما قضي الأمر لا صلى ولا صاما
صن الحسن بالتقوى وإلا فيذهب فنور التقى يكسو جمالاً ويكسبُ
وما ينفع الوجه الجميل جماله وليس له فعلٌ جميلٌ مهذبُ
فيا حسن الوجه اتق الله إن تُرد دوام جمال ليس يفنى ويذهب
يزيد التقى ذا الحسن حسناً وبهجة وأما المعاصي فهي للحسن تسلب
وتكسف نور الوجه بعد بهائه وتكسوه قبحاً ثم للقلب تقلب
فسارع إلى التقوى هنا تجد الهنا غداً في صفا عيش يدوم ويعذب
فما بعد ذي الدنيا سوى جنةٍ بها نعيم مقيمٌ أو لظىً تتلهب
اللهم اغفر لنا ما قدمنا...
اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها صغيرها.. دقها.. باطنها..
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا...
(1/2968)
شهود يوم القيامة
الإيمان
اليوم الآخر
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عدالة الشهود يوم القيامة. 2- الأرض تشهد يوم القيامة بما عمل على ظهرها. 3- الأنبياء يشهدون على العصاة والمكذبين يوم القيامة. 4- شهادة الملائكة والرسل والعلماء (الأشهاد). 5- شهادة الملكين. 6- شهادة أعضاء الإنسان وجوارحه. 7- دعوة للتوبة قبل أن تشهد علينا الشهود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لو أنك عملت عملاً ما، ثم سُئلت عنه، فأنكرت، وقلت: إني لم أعمل هذا العمل، ثم جيء بشهود عدول شهدوا عليك بما فعلت، وأحضرت الأوراق التي تثبت ما عملت، ماذا يكون موقفك، من نفسك أمام هؤلاء الشهود؟ لاشك أنه موقف صعب، لا تُحسد عليه، إذا كان الموقف كذلك، فليفكر أصحاب المعاصي، وأصحاب المخالفات، والذين لا يأتمرون بأوامر الله عز وجل، بمن يشهد عليهم أمام الله عز وجل يوم القيامة، في ذلك اليوم الذي يظهر كل شيء، ويكشف كل شيء، والشهود في ذلك اليوم، من أصدق الناس، ومن أعدل الناس في إعطاء شهاداتهم.
أيها المسلمون، إن شهود الدنيا، في قضية ما، قد يكذبون وقد يكونون شهود زور، وقد يبالغون في الحقيقة، وقد يمتنعون عن الإدلاء بالشهادة خوفاً من مهدد أو طمعاً في مرغب، وقد تكون شهادتهم غامضة تحتاج إلى توضيح وتفصيل، وقد يحضرون للشهادة وقد يمتنعون عن الحضور لشغل شاغل، أو عائق معوق، لكن شهود يوم القيامة صنف آخر من المخلوقات، يختلفون تماماً عن شهود الدنيا، لا تنفع معهم الرشاوي، ولا يعرفون المجاملات، يؤمرون من خالقهم فينطقون، لا يزيدون ولا ينقصون، لا يكذبون ولا يمتنعون، شهادتهم واضحة، لا تحتاج إلى إيضاح، عباراتهم مفهومة، لا تحتاج إلى تفصيل، كلهم يرفع راية: أَنطَقَنَا ?للَّهُ ?لَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء [فصلت:21].
عباد الله، فلننتقل معكم في رحلة سريعة، نمر بها معكم على شهداء يوم القيامة.لعل هذه الرحلة، ترقق قلوبنا، وتذكرنا بمواقف سوف نمر عليها جميعاً وسوف تكون مواقف صعبة، للعصاة منا، والمخالفين منا لأوامر الله، والتاركين منا لبعض ما أوجبه الله علينا، فكل منا أدرى بنفسه وتقصيره من غيره.
فلنحاسب أنفسنا يا عباد الله، ونحن هنا في الدنيا، وفي الوقت متسع، وباب التوبة مفتوح، قبل أن يؤتى بالشهود، في يوم عسير، على الكافرين والفاسقين والمنافقين غير يسير.
فلنبادر أيها الإخوة، بترك المنكرات، وترك ما نهى الله عنه، قبل أن يؤتى بشهود يوم القيامة، الذين لا تنفع معهم واسطة ولا محاباة لأحد.
أسأل الله عز وجل، أن يرحمني وإياكم في ذلك اليوم، وأن يعاملنا بلطفه ومنّه وكرمه، وأن يتجاوز عنا، وأن يسترنا، ولا يفضحنا بين الناس.
الشاهد الأول من شهود يوم القيامة الأرض، نعم، الأرض، يقول الله تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ ?لاْرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ ?لارْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ ?لإِنسَـ?نُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى? لَهَا [الزلزلة:1-5]، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا قال: ((أتدرون ما أخبارها؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة، بما عمل على ظهرها، أن تقول: عملت كذا وكذا، يوم كذا وكذا، قال :فهو أخبارها)) رواه الإمام أحمد في مسنده.
ياله من موقف صعب، وياله من منظر مهول، الأرض، هذا المخلوق، الذي كان الإنسان يطؤه بقدمه في الدنيا، ويعمل عليه المعصية، دون أن يعلم بأن هذا الجماد الصامت سوف ينطقه الله يوم القيامة، ليكون شاهداً له أو عليه، يشهد بكل ما رأى من زنا وتبرج وربا وقتل، وظلم وابتعاد عن الحكم بكتاب الله، والكذب والسرقة والغيبة والنميمة والقذف، وغيره مما يغضب الله، وكذلك تشهد بما حدث عليها من خير في جميع صوره، إنه منظر مرعب بعد أن يقوم الإنسان من قبره، فيرى تساقط النجوم، وتشقق الأرض وهي تخرج أثقالها، فيتناول مرعوباً مالها، مالها؟وإذا بالأصوات تنبعث من كل مكان من أرجائها، تتحدث بما فعل عليها من الخير أو الجريمة، فهل يتعظ الإنسان وهو يمشي على هذه الأرض، فهل يتقي الله المسلم وهو يطأ الأرض، فلا يفعل عليها إلا ما يرضي الله لكي تكون شاهدة على ذلك. إِذَا زُلْزِلَتِ ?لاْرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ ?لارْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ ?لإِنسَـ?نُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى? لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ?لنَّاسُ أَشْتَاتاً لّيُرَوْاْ أَعْمَـ?لَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [سورة الزلزلة].
الشاهد الثاني، من شهود يوم القيامة الرسول صلى الله عليه وسلم. في ذلك اليوم الذي تتبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات، وتتحطم كل موازين الدنيا، ويبقى ميزان الآخرة، هو وحده الذي يحكم ذلك الموقف، يشرف الرسول صلى الله عليه وسلم بالشهادة على المكذبين والعصاة من أمته، يقول تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى? هَؤُلاء شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ?لرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى? بِهِمُ ?لاْرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ ?للَّهَ حَدِيثاً [النساء:41، 42].
يحشر الناس في ساحة العرض الواسعة، وكل أمة تكون حاضرة، وعلى كل أمة شهيد بأعمالها، وعندما يكون هؤلاء العصاة واقفون في الساحة ينتدب الرسول صلى الله عليه وسلم للشهادة، عندها تتمنى طوابير العصاة والمخالفين من كل أمة، يتمنى المرابون، والديوثون، والظالمون، والمتكبرون، والقائمون على إشاعة الفواحش بين الناس، والنمامون، والمغتابون، والمتهاونون في الصلوات، وغيرهم من أصحاب المعاصي، يتمنون أن تبتلعهم الأرض، ويهال عليهم التراب، حتى تسوى بهم الأرض، يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض، بل يتمنون أن يكونوا تراباً لا قيمة لهم تطؤهم الأقدام، كما كانوا هم يطؤون رقاب عباد الله، ويلقون أوامر الله بالمخالفة، يتمنون كل ذلك، ولا يقفون ذلك الموقف المهين أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يشهد على معاصيهم.
الشاهد الثالث: من شهود يوم القيامة، الأنبياء، فكما أن الرسول صلى الله عليه وسلم يشهد على أمته، كذلك كل رسول يشهد على أمته، بما فعلوا وأساؤوا يقول الله عز وجل: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [النحل:84]، فلا مجال للاستعتاب ولا مجال للاعتذار، فاليوم يوم حساب وما هو بيوم استعتاب.
الشاهد الرابع من شهود يوم القيامة، الأشهاد. وهم الملائكة والرسل والعلماء، إذ يقول تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ?فْتَرَى? عَلَى ?للَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى? رَبّهِمْ وَيَقُولُ ?لاْشْهَادُ هَؤُلاء ?لَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى? رَبّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ?للَّهِ عَلَى ?لظَّـ?لِمِينَ [هود:18]، هذه الشهادة الجماعية، من الملائكة الذين كانوا يعبدون من دون الله، والرسل الذين كانوا يكذبون بما جاءوا به من الحق، والدعاة إلى الله الذين كانوا يكذبون، ويستهزئ بهم، يكونون هم يوم القيامة، أصحاب الموقف، وهم الأشهاد الذين يشهدون ويفضحون الكفرة، والمنافقين والعلمانيين، والمجاهرين من العصاة على رؤوس الخلائق، كما جاء في رواية البخاري: ((وأما الآخرون ـ أو الكفار ـ فينادى على رؤوس الأشهاد، هؤلاء الذين كذبوا على ربهم)).
الشاهد الخامس من شهود يوم القيامة، الملكان قال الله تعالى: وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَـ?ذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ ?لْيَوْمَ حَدِيدٌ وَقَالَ قَرِينُهُ هَـ?ذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ [ق:21-23]. يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "أي ملك يسوقه إلى المحشر، وملك تشهد عليه بأعماله" لم يكن يتوقع أن يحدث له هذا بل كان غافلاً عن هذا الموقف، وعندها يبدأ الشاهد، وهو القرين الذي لازمه طيلة حياته، يكتب عليه ما يلفظ وما يعمل وهو غافل عنه، وعن دقة كتابته، يبدأ بالشهادة أمام الله تعالى: هَـ?ذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ [ق:23]، قال مجاهد رحمه الله: "هذا كلام الملك السائق يقول: هذا ابن آدم الذي وكلتني به، قد أحضرته".
إنها مواقف تستحق أن يفكر الإنسان فيها كثيراً، وإنها لشهادات، لابد للعاقل، أن يحسب لها ألف حساب، قبل أن يأتي، وإذا بالأوراق قد كشفت وبالأعمال قد أرصدت، وبالأشهاد وقد نطقت، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. وجعلنا من الذين يستمعون القول، فيتعظون، ثم يتوبون، ثم يعملون صالحاً، ثم يقبضون على شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
أقول قولي هذا..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، ومع كثرة الشهود يوم القيامة، إلا أن هناك صنفاً من الناس، الضالين، المتنكبين عن الصراط، لا يعترفون بشهادة أحد، ولا يقبلون شهادة الآخرين عليهم.
وإننا لنشاهد نماذج من هذا الصنف بيننا، لا يعترفون بأحد، وكل الناس في نظرهم أقل منهم، فهذا الصنف من البشر، لهم ما يصلح بحالهم وسلوكهم، هؤلاء يأتيهم الشاهد السادس من شهود يوم القيامة. وهي جوارحهم، سمعهم وأبصارهم وجلودهم، لتكون شاهداً عليهم، وهناك تكون المفاجأة لهم. يقول الله تعالى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء ?للَّهِ إِلَى ?لنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى? إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـ?رُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا ?للَّهُ ?لَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَـ?رُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـ?كِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ?للَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْمَلُونَ [فصلت:19-22]، فكل من خالف ما أمر الله به، في أي أمر من الأمور، فهو داخل تحت مسمى أعداء الله، وهكذا يجتمع الملايين من الإنس والجن تحت هذا المسمى وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء ?للَّهِ إِلَى ?لنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [فصلت:19]. يسوقهم الله تعالى بسلطانه، الذي لا سلطان لأحد في ذلك اليوم إلا هو، يسوقهم إلى أرض المحشر، لكي يقدموا بعد ذلك على النار التي طالما اشتاقت لأجسادهم التي لم تطمئن بذكر الله، ولكنها أُترعت بذكر الشيطان، اشتاقت لإذابة قلوبهم التي لم تلين بآيات القرآن، فلا تذيبها إلا النار. يساقون ويدفعون يُدَعُّونَ إِلَى? نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور:13]، بإهانة وذلة واحتقار، لأنهم استهانوا بأوامر الله عز وجل في الدنيا، حتى إذا ما جاؤوها ووصلوا إلى النار، واستعدوا للحساب قبل الاقتحام يسألهم الجليل عن نعمه عليهم، في الدنيا وماذا فعلوا بها، كما جاء في صحيح مسلم مساءلة الرب جل وعلا لأحد هؤلاء العصاة، قبل أن يقذف في النار، يقول له الرب تبارك وتعالى: ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع، فيقول: أي رب، آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت، وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول:ها هنا إذن، ثم يقول الآن نبعث شاهداً عليك، فيستنكر في نفسه، من ذا الذي يشهد عليه.
إنه يحسب أنه استطاع خداع الله بمثل هذا الجواب، وظن أنه مازال ذلك الإنسان الذي كان يشتري شهادة الآخرين، ويرغبهم بالمال، ليكتموا جرائمه وفساده إنه يتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد عليه، وإذا به يفاجأ بختم فمه، واستنطاق جوارحه، فيقال لفخذه: انطقي، كما في صحيح مسلم، فتنطق، فخذه ولحمه وعظامه بعمله، ?لْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى? أَفْو?هِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يس:65]. يقول الله تعالى: حَتَّى? إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـ?رُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [فصل:20]. فعندما تنبعث الأصوات من كل مكان في جسد ذلك العاصي، وهو يرى بعينه، ويسمع بأذنه ما لم يكن يتوقعه، وما لا عهد له به ولا يستطيع الكلام، فقد ختم على فمه، فيداه تشهد، وسمعه يشهد، وبصره يشهد، وفخذه تشهد، وعظامه تشهد، وجلده يشهد، وهو مضطرب لا يستطيع الكلام لهول المنظر، الذي يراه ولا يكاد يصدقه، حتى إذا خُلّي بينه وبين الكلام قال مخاطباً جلده لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا [فصلت:21]، وإذا بالجلود ترد عليهم أَنطَقَنَا ?للَّهُ ?لَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء [فصلت:21]، ثم يزيد الموقف سوءاً عندما يسمعون التوبيخ من جلودهم وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَـ?رُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـ?كِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ?للَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْمَلُونَ [فصلت:22]، وعندها لا يستطيع إجابة جوارحه إلا بالعتاب الذي لا ينفع في ذلك اليوم العصيب.
أيها المسلمون، إن هذه الجوارح التي هي بإمرتنا، وتحت تصرفنا في هذه الدنيا، سنفقد السيطرة عليها في الآخرة، فإما أن تكون شاهدة علينا بخير، وإما أن تكون شاهدة علينا بشر.
فاتقوا الله أيها المسلمون في جوارحكم وأعضائكم إنها ستنطق غداً أمام الله عز وجل، وتكون الفضيحة هناك، كم من نظرة محرمة أطلقتها في شاشة ملونة، ستنطق عينك بها، كم من خطوة مشيتها في معصية الله ستنطق رجلك بها، كم أشياء أخذتها وقبضتها بيدك، وأنت تعلم أنها ليست لك، سينطق بها يدك. كم من اتفاقيات ومعاهدات، وقعتها أيدي وهي تعلم أنها تخالف مراد الله عز وجل، ستشهد على أصحابها هناك.
كم من ريالات دخلت بطون أناس، ظلماً وعدواناً، جوراً واحتيالاً، سينطق أعضائهم بها. وكم وكم وكم، أمور وأمور، وأشياء وأشياء نُعمل هذه الجوارح بها، وننسى أنها ستشهد علينا.
أيها المسلمون، وبعد هذه السلسلة من الشهود، التي لا مفر للعبد منها، لا يملك العصاة أمام هذه الشهادات المتوالية، إلا أن يشهدوا هم على أنفسهم.
وهذا هو الشاهد السابع من شهود يوم القيامة وهو شهادة الإنسان على نفسه.
قال الله تعالى: يَـ?مَعْشَرَ ?لْجِنّ وَ?لإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَـ?تِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـ?ذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَـ?فِرِينَ [الأنعام:130]، ويقول عز وجل في آية أخرى: حَتَّى? إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَـ?فِرِينَ [الأعراف:37].
هل هناك ذلة وخزي بعد هذا، شهادة الإنسان على نفسه، لماذا يوصل الإنسان نفسه إلى هذا الحد، وهو بإمكانه، إلا يحرج نفسه، لكنها شهوة المعاصي، والتساهل بالمعاصي نتيجتها هي هذه.
إذاً فليتحمل الإنسان شهادة كل هؤلاء الشهود عليه.إذا لم يفكر في نفسه الآن.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ نَسُواْ ?للَّهَ فَأَنسَـ?هُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ لاَ يَسْتَوِى أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ وَأَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ هُمُ ?لْفَائِزُونَ [الحشر:18-20].
اللهم إنا نسألك رحمة...
(1/2969)
صراع الإسلام والنصرانية
أديان وفرق ومذاهب
أديان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
4/7/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مؤتة هي بداية الصراع المسلح بين المسلمين والنصارى. 2- ديمومة الصراع بين الحق والباطل. 3- الصراع قائم على المداولة بين الحق والباطل. 4- أحاديث تتحدث عن مستقبل الصراع مع الكفر. 5- دروس من هذه الأحاديث.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: قال الله تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم: الم غُلِبَتِ ?لرُّومُ فِى أَدْنَى ?لأرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ ?لأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ?لْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ ?للَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لرَّحِيمُ وَعْدَ ?للَّهِ لاَ يُخْلِفُ ?للَّهُ وَعْدَهُ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ?لآخِرَةِ هُمْ غَـ?فِلُونَ [الروم:1-7].
أيها المسلمون، إن صراع الإسلام مع النصرانية صراع قديم بدأ مع (غزوة مؤتة) إن أول لقاء للمسلمين مع النصارى كان في (مؤتة) في (جمادى الأولى) سنة (ثمان من الهجرة)، كان سببها هو مقتل مبعوث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل (الحارث بن عمرو الأَزْدى) رضي الله عنه، عندما ذهب بكتاب إلى ملك الروم بالشام، والذي تم قتله من قِبل حليف الروم "شرحبيل بن عمرو الغساني"، الملك على أطراف الشام.
لقد كان لقتل رسولِ رسولِ الله، أكبر الأثر في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان منه صلوات ربي وسلامه عليه إلا أن بَعَث بَعث مؤتة بقيادة ثلاثة من كبار الصحابة، وهم: (زيد بن حارثة) و(جعفر بن أبي طالب) و(عبد الله بن رواحة)، كان عدد المسلمين (ثلاثة آلاف) رجل، فجمع النصارى جيشاً عدده "مائة ألف" رجل، وانضم إليهم من قبائل العرب "لَخم وجُذام" وغيرهم، التقى الفريقان في قرية من قرى البلقاء في الشام، وانتهت المعركة بانسحاب الجيش المسلم بدون هزيمة، وقذف الله الرعب في قلوب النصارى والخوف من هذه القوة الجديدة التي ظهرت في جزيرة العرب، حتى إن بعض حلفاء النصارى من العرب أفزعهم نبأ هذه الغزوة، فسارعوا إلى عقد الصلح مع الرسول صلى الله عليه وسلم ودفع الجزية.
وقبل هذه الغزوة بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسائل إلى ملوك عصره يدعوهم للإسلام، فكان من جملة ما كتب، رسالته إلى قيصر ملك الروم، قال فيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هِرَقْل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تَسْلَم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأَرِيسِيِّين، وي?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ تَعَالَوْاْ إِلَى? كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ?للَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ ?للَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ?شْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64])) رواه البخاري.
إن هذا الكتاب الذي بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم يمثلُ الإعلانَ الدائم والمستمر على أن الصراع بين الإسلام والنصرانية سيبقى، لأن الشرط الذي في هذا الكتاب هو قبول الإسلام والخروج من النصرانية بل والتخلي عن الزعامة، وهل سيقبل النصارى بهذا وزعامة العالم اليوم بأيديهم؟ أما نحن المسلمون، فواجب علينا تحقيق هذا الكتاب، والسعي لتنفيذه، وبذل كل غالٍ ورخيص في سبيل الوصول إليه.
أيها المسلمون، ينبغي أن نعلم بأن من سنن الله الثابتة في هذا الكون، هو ديمومة صراعنا -نحن المسلمين- مع النصارى، وأنه سيستمر إلى نهاية العالم، وقد ورد ما يشير إلى بقاء هذا الصراع في الكتاب الذي بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هِرَقْل، بطريق غير مباشر، حيث قال: فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين. والأصرح منه قول الله تعالى: وَمِنَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَـ?رَى? أَخَذْنَا مِيثَـ?قَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ?لْعَدَاوَةَ وَ?لْبَغْضَاء إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ ?للَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة:14].
إذاً صراع الإسلام والنصرانية سيستمر إلى قيام الساعة، وهو فتنة ابتلى الله بها المسلمين، وهذا قَدَرُهم وما عليهم إلا الصبر والمواجهة.
وإليكم أيها الأحبة بعضاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها الإشارة إلى استمرار هذا الصراع، وأنه يأخذ منحنى المداولة: فتارة تكون الغلبة لهم وتارة تكون الغلبة عليهم، وأن هذا الصراع ينتهي بانتهاء الروم وانعدام النصرانية، وانتصار الحق في نهاية مسيرة الحياة الإنسانية والتي تعقبها نهاية العالم. وقبل استعراض بعض هذه الأحاديث ينبغي أن نعلم بأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو إلا إرشاد للأمة من جانبين:
الجانب الأول: تنمية وتقوية الإحساس بالخطر النصراني حتى لا يستكين المسلمون لهم.
الجانب الثاني: تثبيت الإيمان لدى المسلم، وألا يفقد الثقة بنفسه حتى في فترات زهو النصرانية وتصدرها الزعامة، وليَعلم بأنها مرحلة وتكون النهاية للإسلام وأهله، وللدين وأتباعه، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
إن هذه الأحاديث ـ عباد الله ـ، تمثل المَصْلَ الواقي، وتمثل التِّرْياق الذي يحفظ على الأمة كيانها في فترات الضعف والذل والهوان، كما هو في عصرنا الحاضر.
الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ ـ ودابق قرية قرب حلب ـ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتْ الرُّومُ خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لَا وَاللَّهِ لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا، فَيُقَاتِلُونَهُمْ فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لَا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لَا يُفْتَنُونَ أَبَدًا، فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ، إِذْ صَاحَ فِيهِمْ الشَّيْطَانُ إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ...)).
في هذا الحديث إشارة إلى أنه يسبق المعركة معارك يغنم فيها المسلمون غنائم من بينها أسرى، وهؤلاء الأسرى يُسلمون ويكونون في صفوف المسلمين، لهذا يرغب النصارى في قتال أبناء جنسهم، لكن المسلمين يمتنعون عن ذلك ثم تنتهي المعركة بفتح القسطنطينية، وهذا الفتح ليس هو الفتح الأول الذي كان على يد محمد الفاتح.
الحديث الثاني: روى الحاكم بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسُئل أي المدينتين تفتح أولاً ؟ يعني القسطنطينية والرومية، فقال: ((مدينة هرقل أولاً يعني القسطنطينية)).
يشير هذا الحديث إلى أنه سيكون هناك فتح لكلتا المدينتين، فالأولى فتحت على يد محمد الفاتح العثماني، وبقيت تحت سيطرة المسلمين فترة من الزمن ثم سُلبت، وهناك ما يشير إلى أنه سيعاد فتحها ثانية، وترجع في حوزة الدولة الإسلامية، وستُفتح روما أيضاً بإذن الله تعالى، وإن كانت هي اليوم تعتبر معقل "الفاتيكان" وقبلة النصارى.
الحديث الثالث: في مسند الإمام أحمد عَنْ نَافِعِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ، فَأَتَاهُ قَوْمٌ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الصُّوفِ، فَوَافَقُوهُ عِنْدَ أَكَمَةٍ وَهُمْ قِيَامٌ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَأَتَيْتُهُ فَقُمْتُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَحَفِظْتُ مِنْهُ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ أَعُدُّهُنَّ فِي يَدِي، قَالَ: ((تَغْزُونَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ فَارِسَ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الدَّجَّالَ فَيَفْتَحُهُ اللَّهُ)) قَالَ نَافِعٌ: يَا جَابِرُ أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّجَّالَ لَا يَخْرُجُ حَتَّى تُفْتَحَ الرُّومُ. وقد روى هذا الحديث الإمام مسلم بلفظ قريب من هذا.
في هذا الحديث إشارة إلى تدرج الفتح، وقد تحقق فتح جزيرة العرب وفارس، فلم يبق من بلاد فارس جزء لم يكن تحت الولاية الإسلامية، أما الروم فلا زال الصراع معهم، ولا زال جزء من بلاد الروم لم يفتح، وخاصة معقل النصرانية الديني وهو "روما"، فالصراع معهم مستمر، فتارة يُدال للمسلمين عليهم، وأخرى يدال للنصارى على المسلمين، ولا زال مركز القيادة الروحية للنصارى لم يفتح وستفتح بإذن الله تعالى وبخبر الصادق المصدوق.
كما إن الحديث يشير إلى أن الصراع مع النصارى وخضوعهم للدولة الإسلامية سوف لن يتحقق إلا قرب خروج الدجال، وقد يكون السر في ذلك والله أعلم هو أن البعد الروحي للنصارى مقترن بالدجال، لأن العقيدة النصرانية قائمة على الاعتقاد بعيسى وبعودته إلى الأرض. وعودته عليه السلام مقترنة بخروج الدجال، ولهذا فإن الصراع معهم مستمر، وإن هزيمتهم ستكون الحلقة الأخيرة التي تسبق الدجال، فنسأل الله جل وتعالى أن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، كما نسأله جل وتعالى أن يعز دينه ويعلي كلمته، وينصر أولياءه وأن يعجِّل بفرج هذه الأمة إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العزيز الوهاب، القاهر القابض الغلاب, يمهل للظالم ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر, أحمده تعالى وأشكره على سوابغ نعمه, وأسأله أن يدفع عنا أسباب سخطه ونقمه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
الحديث الرابع: في سلسلة الصراع بين الإسلام والنصرانية، الذي سيكون بين مد وجزر ينتهي بالمعركة الفاصلة، التي يحشد لها النصارى قرابة مليون شخص، تنتهي بالهزيمة النهائية حيث لا يقف الجيش الإسلامي إلا بعد أن يفتح "روما" العاصمة الروحية للنصرانية، وعند هذا الفتح سوف تنتهي معركة الروم، فيتحقق ما أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يتم فتح الروم، ويتبع ذلك مباشرة المعارك مع الدجال، الذي ينتهي الأمر بقتله وعندئذٍ تضع الحرب أوزارها، ويقرب العالم من نهايته، ويتحقق وعد الله بتبديل الأرض غير الأرض، ويعود الخلق جميعهم إلى مُوجدهم، لتبدأ بعد ذلك الحياة السرمدية الأُخروية.
روى الحاكم في المستدرك والإمام أحمد في مسنده، واللفظ للحاكم عن خالد بن مَعْدان أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تصالحون الروم صلحاً آمناً، حتى تغزون أنتم وهم عدواً من ورائهم، فتُنصرون وتغنمون وتنصرفون، حتى تنزلوا بمرج ذي تلول فيقول قائل من الروم غلب الصليب، ويقول قائل من المسلمين بل: اللهُ غَلَب، فيتداولانِها بينهم فيثور المسلم إلى صليبيهم وهم منهم غير بعيد، فيدقه ويثور الروم إلى كاسر صليبهم فيقتلونه، ويثور المسلمون إلى أسلحتهم فيكرم الله عز وجل تلك العصابة من المسلمين بالشهادة، فيقول الروم لصاحب الروم: كفيناك جد العرب، فيغدُرون فيجتمعون للملحمة فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً)). وفي رواية أخرى للحاكم: ((ستصالحكم الروم صلحاً آمناً، ثم تغزون أنتم وهم عدواً فتُنصرون وتَسلَمون وتَفتَحون، ثم تنصرفون بمرج فيرفع لهم رجل من النصرانية الصليب، فيغضب رجل من المسلمين فيقوم إليهم فيدق الصليب، فعند ذلك تغضب الروم فيجتمعون للملحمة)). في هذا الحديث العظيم يتضح بعض الحقائق التي تبين مستقبل الصراع مع النصارى نلخصها في النقاط التالية.
أولاً: أن هذه الهيمنة من قبل النصارى اليوم على العالم ستزول، وأن هذه القوة المادية وهذه التقنية لن تستمر حتى نهاية العالم، قال الله تعالى: حَتَّى? إِذَا أَخَذَتِ ?لاْرْضُ زُخْرُفَهَا وَ?زَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِ?لاْمْسِ كَذ?لِكَ نُفَصّلُ ?لآيَـ?تِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس:24].
إذاً فهذه العقلية التي يعيشها الغرب اليوم، أنهم قادرون على فعل كل شيء، وهذا التباهي بالقوة المادية والعسكرية والتقنية، ستزول بقوة الواحد الأحد.
ثانياً: يشير الحديث إلى خفض الهيمنة العالمية المعاصرة للنصارى، وفك ارتباط بعض الحكومات المعاصرة مع العدو الصليبي اليهودي، وابتعاد النفوذ الصليبي عن المنطقة، مما يتيح للمسلمين تسلم زمام الأمور، وتكوين دولة إسلامية تمثل قوة جديدة في العالم، يلتجئ إليها النصارى، ويطلبون الصلح للحصول على مساندة لمحاربة عدوها الذي سيُنزِل بها الدمار.
ثالثاً: إن هذا الصلح الذي سيتم مع النصارى آخر الزمان، يتم بناء على رغبة من النصارى، فهم الذين يطلبون الصلح بقصد الاستعانة بالمسلمين، وهذا يؤكد أنه سيكون للمسلمين دولة قوية، وهو مؤشر إلى أنه قبل الملحمة ستقوم للمسلمين دولة قوية، يخشاها النصارى، ولمعرفتهم بقوة المسلمين يحشدون لهم ما يقارب مليون شخص، ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً.
رابعاً: يفهم من هذا الحديث أن الفكر العلماني المعاصر التي تتبناه الدول النصرانية، سوف يحل محله الفكر الديني الصليببي، وأن الدول النصرانية ستعود إلى دينها، بعد أن قضت ردحاً من الزمن وهي غارقة في شهواتها وعلمنتها، وأن الدين سيكون هو المحرك لهذه الدول، وهذا يؤخذ من الحديث من قيام رجل منهم برفع الصليب بقصد إظهار القوة النصرانية، فيغضبُ المسلمون لذلك فيعمدون إلى الصليب فيكسرونه، مما يثير غضب النصارى فيقومون بقتل الجيش الذي كان معهم، وبهذا ينقضون الصلح مع الدولة الإسلامية وتكون نهايتهم.
خامساً: أن هذا الحديث وما سبق وأمثاله من علم الغيب الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن أمة تؤمن بالغيب، قال الله تعالى: الم ذ?لِكَ ?لْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِ?لْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلو?ةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:1-3]، فانطلاقاً من إيماننا بالغيب، وثقة بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فنحن على موعد مع النصارى، وسيتحقق كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وسترفرف رايات المجاهدين فوق دول النصارى وسيطأ المسلمون بأقدامهم عاصمة "الفاتيكان" الحالية "روما"، وستلتحم هذه الأمة مع أعدائها ويكون الغلبة لها، وستقع المعركة الفاصلة مع النصارى، وسيُكسر الصليب فوق رؤوس أصحابه، وستكون معركة شديدة قوية، وسيكون قتلاها عدد كبير من الطرفين. قل عسى أن يكون قريباً..
إلى كم يُهان الدين والعِلج يطربُ وحتى متى يا قوم ننعى ونشجُب
وحتى متى يستأسد الفأر في الربى ويزرع فينا الخوفَ والحقَّ يَسلب
أفي كل يوم يشتكي الظلم إخوتي وفي كل صقعٍ من بلادي معذّب
وفي كل يوم تستباح حقوقنا وما عاد فينا من يذود ويغضب
أللخائن العربيد ألفُ تحية وللعالِم المغوار سيفٌ مذرّب
أننعم والإسلام يشكو مصابهُ ونضحك والرحمن للحق يغضب
فمن يا ترى للحق يأسو جراحه ومن في سبيل الله للنفس يُتعب
أهذا أوان النوم يا ابن عشيرتي ودمع ذوي القربى على الخد يُسكب
أهذا أوان النوم يا شبل خالدٍ وأنفاسنا في اللوح تحصى وتكتب
فقم يا حفيد الصحب واثأر لأمةٍ يسوم لها الباغي وفي المجد يلعب
وقل لبني الإسلام واصرخ بجمعهم سأنصر دين الله والحقَّ أطلب
سأثأر للحق الذي بات يشتكي فلا القيد يثنيني ولا السوط يُرهب
سأنصر هذا الدين مهما تكالبت عليه الأعادي أو العود أُصلب
سأثأر على أن أموت مجاهداً شهيداً إلى الجنات أسعى وأذهب
فمن يا ترى للذل يحني جبينه ومن ذا عن الهيجاء يرضى ويرغب
لئن كان للشر المبجّل صولةٌ فإن هدى الرحمن أعلى وأغلب
(1/2970)
صلاة الجماعة
فقه
الصلاة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
2/4/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شيء من فضائل الصلاة. 2- فضل صلاة ركعتين. 3- الأمر بالصلاة جماعة. 4- أهمية عبادة الصلاة في جماعة. 5- حرص السلف على صلاة الجماعة. 6- فضل صلاة الجماعة. 7- فضل إدراك تكبيرة الإحرام.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن دين الإسلام الذي أكرم الله به هذه الأمة وأتمه لها ورضيه لها دينا، ورتب عليه من حسن الجزاء وعظيم المثوبة ما تتمناه الأنفس وتلذ به الأعين، هذا الدين قد بني على أسس وقواعد متينة لا ينجو من بلغته من أليم العقاب وشدة العذاب، ويحظى بما يترتب على الإتيان بها من عزة واحترام في الدنيا، ولذة وسيادة في الآخرة، لا ينال المسلم هذه الأمور حتى يأتي بهذه الأسس والقواعد موفورة كاملة.
ومن بين هذه الأسس التي بني عليها الإسلام، الصلاة، الصلاة التي هي عمود هذا الدين وأهم أركانه بعد الشهادتين.. الصلاة التي ملأت فضائلها أسماع العالمين بما أعد للمحافظين عليها. قال صلى الله عليه وسلم: ((صلاة في إثر صلاة لا لغو بينهما، كتاب في عليين)) أبو داود بإسناد حسن، وقال عليه الصلاة والسلام: ((الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر)) الطبراني في الأوسط حسن. وقال مرة عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه: ((أكثر من السجود، فإنه ليس من مسلم يسجد لله تعالى سجدة إلا رفعه الله بها درجة في الجنة، وحط عنه بها خطيئة)) أحمد بإسناد صحيح، بكل سجدة ترفع درجة في الجنة ويحط عنك بها خطيئة، وما بين الدرجة والدرجة في الجنة كما بين السماء والأرض، بل وإن من فضائل هذه الصلاة ما قاله عليه الصلاة والسلام: ((لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)) رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح، صلاة الفجر والعصر.
أيها الإخوة المؤمنون، وكثير من الناس لا يلقون لفضل الصلاة بالاً ولو لركعتين، مرّ عليه الصلاة والسلام على قبر دفن صاحبه حديثاً، فقال لأصحابه: ((ركعتان خفيفتان، مما تحقرون وتنفلون، يزيدهما هذا في عمله ـ وأشار عليه الصلاة والسلام إلى صاحب القبر ـ احب إليه من بقية دنياكم)) رواه الطبراني في الأوسط والسند صحيح.
نعم، أيها الإخوة المؤمنون، إن بعض الموتى يودون لو يخرجوا من قبورهم فيصلوا ركعتين، فإنهم يرون أنها خير من الدنيا وما فيها. فهل يتعظ بهذا متعظ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا قام يصلي أتى بذنوبه كلها، فوضعت على رأسه وعاتقيه، فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه)) رواه الطبراني بإسناد صحيح. بكل ركوع وسجود تتهاوى وتتساقط آثامك وجرائرك العظيمة أمام معاول: وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـ?نِتِينَ [البقرة:238].
وقد ورد الأمر بالمحافظة على صلاة الجماعة وأداء هذه الصلاة المكتوبة في المساجد. قال تعالى: حَـ?فِظُواْ عَلَى ?لصَّلَو?تِ و?لصَّلَو?ةِ ?لْوُسْطَى? وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـ?نِتِينَ ، وقال: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَذَلِكَ دِينُ ?لقَيّمَةِ [البينة:5]، وتمام المحافظة التي أمر الله بها وكمال الإقامة التي يريدها الله لا يحصلان إلا بأداء الصلوات في جماعة، لقوله تعالى: وَ?رْكَعُواْ مَعَ ?لرَّاكِعِينَ [البقرة:43].
أيها الإخوة المؤمنون، إن الأحاديث والآيات التي فيها إيجاب صلاة الجماعة على المؤمن كثيرة وتلك التي فيها الترهيب من ترك الجماعة كذلك، كقوله عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم)) رواه البخاري ومسلم، وعند أحمد بلفظ: ((لولا ما في البيوت من النساء والصبيان لأحرقتها عليهم)) لو كان عليه الصلاة والسلام حياً لهمّ بإحراق مدن ومجتمعات كثيرة لا يعرف أهلها المحافظة على صلاة الجماعة ولا يشهدونها مع المسلمين...
فجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلال
منابركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خالي
أيها الإخوة المؤمنون، وإذا كانت الصلاة بهذه المنزلة من أهمية الحفاظ عليها في جماعة والترهيب من تركها وعدم شهودها، حتى قال شيخ الإسلام: ((اتفق العلماء على أن صلاة الجماعة من أوكد العبادات وأجلّ الطاعات وأعظم شعائر الإسلام)) وإذا كانت هكذا، فلماذا تكون أحوال الكثير من المسلمين عدم الاكتراث بها وعدم رؤية أهميتها والمحافظة عليها؟؟
إن الإجابة عن مثل هذا التساؤل تكمن في عدة أمور: الأمر الأول: تعظيم الشعيرة وتعظيم أمر الله سبحانه وتعالى. والثاني: معرفة فضائل صلاة الجماعة وماذا يجني العبد من حضوره للمسجد؟ والأمر الثالث: معرفة الوعيد الشديد المترتب على التهاون بها والتكاسل عنها، وقد تعود الكثيرون على إسماع التهديد والترهيب من تركها.. ونحو ذلك.. إلا أن هناك أموراً يغفل عنها المسلم فلا يعطيها حقها، ولما كان هذا الخلل حاصلاً في الصلاة والنظرة إليها فإن البعض لا يحافظ عليها.
إن نظرة التعظيم والتسليم والانقياد لأوامر الله عز وجل خافتة بعض الشيء في نفوس المسلمين، ولو تغيرت هذه النظرة لتغير كثير من أحوالهم فهذه الصلاة مثلاً لأهميتها وعظمها فإنها تعد من أركان الدين الخمسة.
ثم إن كل العبادات قد نزل الوحي بها على رسول رب العالمين على وجه الأرض هنا في مكة والمدينة وما حولهما، أما الصلاة فقد شرعت في السماء عندما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، وسمع هنالك صرير الأقلام التي تكتب مقادير الخلائق... ثم تأمل أنها فيصل وبرزخ بين الكفر والإيمان، فمن أداها وحافظ عليها كان هو المؤمن. ومن تركها وتهاون بها كان هو الكافر: ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر)). وإذا تم تعظيم الصلاة في قلب المؤمن وأنزلها منزلتها التي تستحقها فإنه لا يمكن أن يفرط فيها ويتهاون بها، بل تحصل له تقوى القلب وطمأنينته التي ينشدها المؤمن، وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32].
قال الإمام ابن القيم: والله تعالى قد ذمّ من لا يعظمه ولا يعظم أمره ونهيه، (ومن جملة ذلك، صلاة الجماعة) قال تعالى: مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً [نوح:13]، قالوا في تفسيرها: مالكم لا ترجون لله عظمة.
ومن علامة التعظيم للصلاة: أن يراعى وقتها وحدودها وأركانها، والحرص على تحسين أدائها، والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة والأسف عند فوت حق من حقوقها، فكيف إذا فاتت بالكلية، كمن يحزن على فوت صلاة الجماعة ويعلم أنه لو تقبلت منه صلاته منفردا إلا أنه قد فاته سبع وعشرون ضعفاً. لو أن رجلاً يعاني البيع والشراء يفوته في صفقة واحدة في بلده من غير سفر ولا مشقة سبعة وعشرون ديناراً، لأكل يديه ندماً وأسفاً، فكيف وكل ضعف مما تضاعف به صلاة الجماعة خير من ألف، وألف ألف، وما شاء الله تعالى.
أيها الإخوة المؤمنون، لما وقر تعظيم الصلاة وأمر الله في قلوب الصحابة هانت أمامهم كل الصعاب في سبيل المحافظة على صلاة الجماعة، مَنْ بعيدة بيوتهم عن المسجد النبوي فيأتون يسعون إليه.. يمرضون فيؤتي بهم، يهادى الرجل منهم بين الرجلين حتى يقام في الصف، الأعمى منهم يسابق البصير على الصف الأول، وليس فيهم أعمى رضوان الله عليهم. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن ـ يعنى في المسجد ـ فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم، كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفع بها درجة ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف)، وفي رواية: (لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض، إن كان الرجل ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة) رواه مسلم. ولم يرخص عليه الصلاة والسلام للأعمى عدم حضورها. والدليل ما روى مسلم عن أبي هريرة قال: أتى ابن أم مكتوم فقال يا رسول الله: إني رجل ضرير البصر، شابع الدار، ولي قائد لا يوافقني، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي قال: هل تسمع النداء، قال: نعم، قال: لا أجد لك رخصة)، وفي رواية: (أتسمع: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فحي هلا).
وبوب العلماء على هذا الحديث بقولهم: " باب إقرار العميان بشهود صلاة الجماعة، وقد اجتمع في ابن مكتوم ستة أعذار:
1) كونه ضرير البصر.
2) عدم وجود قائد يوافقه.
3) بعد داره عن المسجد.
4) وجود نخل وشجر بينه وبين المسجد.
5) وجود الهوام والسباع الكثيرة بالمدينة.
6) كبر سنه ورقّ عظمه.
مع هذا كله إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص له، ولهذا بوب عليه ابن المنذر بقوله: "ذكر إيجاب صلاة الجماعة على العميان وإن بعدت منازلهم عن المسجد".
وهذا أبي بن كعب رضي الله عنه يقول: كان رجل من الأنصار لا أعلم أحداً أبعد من المسجد منه، كانت لا تخطئه صلاة، فقيل له: لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، فقال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال صلى الله عليه وسلم لما سمع ذلك منه: ((قد جمع الله لك ذلك كله)) ، وفي رواية أن أُبياً رضي الله عنه لما رأى هذا الأنصاري يكابد المشاق حتى يأتي إلى صلاة الجماعة، قال أُبي: "فتوجعت له، فقلت: يافلان! لو أنك اشتريت حماراً يقيك الرمضاء وهوام الأرض؟ قال: أما والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت محمد صلى الله عليه وسلم! قال أبي لما سمع ذلك منه، فحملت به حملا ـ يعني أنه استفظع هذه الكلمة من هذا الأنصاري وعظمت في سمع أبي ـ فأتى أبي رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فدعى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الأنصاري، فقال الأنصاري: رجوت أجر الأثر والممشى، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن لك ما احتسبت)) رواه مسلم.
بيته بعيد عن المسجد، وآفات في الطريق تعترضه في كل صلاة، ومع هذا يحافظ عليها ويدأب في العمل لها، عظم أمر الله في قلبه فأحب الصلاة فلما أحبها هان في سبيلها كل شيء فماذا يقول المسلم اليوم الذي يحتج ببعد بيته عن المسجد.
والمتأمل في أحوال الصحابة يجد عجباً في تعظيمهم للصلاة.
كان تميم الداري إذا دخل وقت الصلاة قام إليها بالأشواق. قال رضي الله عنه: ما دخل علي وقت صلاة من الصلوات إلا وأنا لها بالأشواق، يشتاق إلى الصلاة وينتظر دخول وقتها..
ونقلوا هذه السمات الإيمانية إلى التابعين: فكان الربيع بن خثيم يقاد به إلى الصلاة وبه مرض الفالج، فقيل له: قد رخص لك قال: إني أسمع: حي على الصلاة، فإن استطعتم أن تأتوها ولو حبوا.
أيها الإخوة المؤمنون، والعلاقة بين الاهتمام بصلاة الجماعة والمحافظة عليها وبين الخشوع فيها وإحسانها فيها كبيرة جداً، فمن كان محافظاً على صلاة الجماعة مبكراً إليها، مسابقاً إلى الصفوف الأولى منها كان على جانب كبير من الإقبال على الله وانشراح الصدر فيها والتنعم والتلذذ بها، ومن كان متأخراً عنها، يقدم رجلاً ويؤخر الأخرى كلما غدا أو راح إلى المسجد فإنه على جانب كبير من الوسوسة فيها وعدم التنعم بها.. وهذا أمر مجرب معروف وسير الصالحين والطالحين تدل عليه.
صلى أبو زرعة الرازي عشرين سنة وفي محرابه كتابة، فسئل عن الكتابة في المحراب، فقال: قد كرهه قوم ممن مضى. فقال السائلون له: هو ذا في محرابك، محرابك فيه كتابة؟؟ ما علمت بها؟؟ قال: سبحان الله، رجل يدخل على الله ويدري ما بين يديه؟؟ بقي أن تعرف أن أبا زرعة الرازي لم تفته صلاة الجماعة عشرين سنة.
وقال أبو عبد الرحمن الأسدي: قلت لسعيد بن عبد العزيز: ما هذا البكاء الذي يعرض لك في الصلاة؟ فقال: يا ابن أخي وما سؤالك عن هذا؟ قلت: لعل الله أن ينفعني به.. فقال: ما قمت إلى الصلاة إلا مثلت لي جهنم.
وكان سعيد بن عبد العزيز إذا فاتته صلاة الجماعة بكى..
وسعيد بن المسيب لم تفته التكبيرة الأولى مدة خمسين سنة، وما نظر إلى قفا رجل منذ خمسين سنة، يعنى لمحافظته على الصف الأول.
وهذا كله لأنهم عظموا الصلاة وأدركوا منزلتها... بينما الكثيرون اليوم لم يدركوا منزلتها ولم يتلقوا أمر الله بها بالتعظيم والتوقير.
وكان العلامة ابن خفيف به مرض الخاصرة، فكان إذا أصابه أقعده عن الحركة، فكان إذا نودي بالصلاة يحمل على ظهر رجل ويحضر به إلى المسجد فقيل له: لو خففت على نفسك؟! ـ فاستعظم هذا الكلام منهم ـ الله يقول: يُرِيدُ ?للَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ?لإِنسَـ?نُ ضَعِيفاً [النساء:28]، أَوَ في حضور صلاة الجماعة مشقة لا يمكن أداؤها، ثم التفت إليهم وهو يعاني من مرضه، فقال: إذا سمعتم: "حي على الصلاة، ولم تروني في الصف، فاطلبوني في المقبرة.." [النزهة: (1181/3)].
وأهل المحافظة على صلاة الجماعة هم أقرب الناس في يوم المزيد إلى ربهم سبحانه وتعالى. قال ابن القيم:
أو ما سمعت بشأنهم يوم المزيد وإنه شأن عظيم الشان
هو يوم جمعتنا ويوم زيارة الرحمن وقت صلاتنا وأذان
والسابقون إلى الصلاة هم الألى فازوا بذاك السبق بالإحسان
سبق بسبق والمؤخر ههنا متأخر في ذلك الميدان
من سبق إلى صلاة الجماعة كان سابقاً في ذلك اليوم يوم المزيد لمقابلة ربه ورؤيته، ومن تأخر عن الجماعة تأخر في ذلك الميدان، والجزاء من جنس العمل.
والأقربون إلى الأمام فهم أولو الزلفى هناك فهنا هنا قربان
قرب بقرب والمباعد مثله بعدٌ ببعد حكمة الديان
ولهم منابر لؤلؤ وزبرجد ومنابر الياقوت والعقيان
هذا وأدناهم وما فيهم دني من فوق ذاك المسك كالكثبان
وقد وردت بعض الآثار الدالة على أن قرب المؤمنين من ربهم يوم القيامة على حسب استباقهم إلى الصلاة وشهودهم للجماعة. الجزاء من جنس العمل، فمن تقرب إلى ربه ومولاه وسارع في تنفيذ أوامره كان محظياً عنده في يوم تطايرالصحف ووضع الموزاين.. أين أنت من هؤلاء؟! سبقوا وتأخرت.. ونافسوا ولهوت.. وتقدموا فأجّلت.
نزلوا بمكة من قبائل نوفل ونزلت بالبيداء أبعد منزل
وتقلبوا فرحين تحت ظلالهم وطرحت بالصحراء غير مظلل
وسقوا من الصافي المعتق ربهم وسقيت دمعة واله متململ
يا قسمة قسمت ولم يعلم بها وقضية ثبتت لأمر الأول
هل فيك للملك المهمين نظرة فتزيل من داء البعاد المعضل
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
والحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأجمعين.
وبعد: أيها الإخوة المؤمنون، إن فضائل صلاة الجماعة كثيرة وعديدة، وهي تبدأ من حين أن يهمّ الإنسان بالوضوء، عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيما رجل قام إلى وضوئه يريد الصلاة، ثم غسل كفيه نزلت كل خطيئة من كفيه مع أول قطرة، فإذا مضمض واستنشق واستنثر، نزلت خطيئة من لسانه وشفتيه مع أول قطرة، فإذا غسل وجهه نزلت كل خطيئة من سمعه وبصره مع أول قطرة، فإذا غسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين، سلم من كل ذنب كهيئته يوم ولدته أمه، قال: فإذا قام إلى الصلاة رفع الله درجته وإن قعد قعد سالماً)) رواه أحمد بسند صحيح.
ثم إذا مشى إلى الجماعة كانت له كل خطوة حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا تطهر الرجل ثم أتى المسجد يرعى الصلاة، كتب له كاتباه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات)) ، وفي حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج عامداً إلى الصلاة، فإنه في صلاة ماكان يعمد إلى الصلاة، وإن يكتب له بإحدى خطوتيه حسنة، ويمحى عنه بالأخرى سيئة، فإذا سمع أحدكم الإقامة فلا يسعَ، فإن أعظمكم أجراً أبعدكم داراً)). قالوا: لم يا أبا هريرة؟! قال: من أجل كثرة الخطا.
لو استحضر المؤمن هذا الأجر وإن له بكل خطوة عشر حسنات وإنه لا يفرط في صلاة الجماعة.. وهذا الأجر ليس فقط في الذهاب إلى المسجد بل وحتى في العودة إلى البيت. قال صلى الله عليه وسلم: ((من حين يخرج أحدكم من منزله إلى مسجدي، فرِجل تكتب له حسنة، ورِجل تحط عنه سيئة حتى يرجع )) وعن جابر قال: خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سليمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: ((بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد)) قالوا: نعم يا رسول الله قال: ((يا بني سلمة دياركم، تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم)) وفي رواية أنه قال لهم: ((إن لكم بكل خطوة درجة)) بكل خطوة إلى صلاة الجماعة درجة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((ألا بعد فالأبعد من المسجد أعظم أجراً)) لأنه يمشي خطوات كثيرة... فتكفر عنه السيئات وتورثه الحسنات، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح )) أحمد، صحيح، هذه ليست إلا للمحافظين على الجماعة.
وللخارج لصلاة الجماعة أجر الحاج المحرم. قال صلى الله عليه وسلم: ((من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم)) أبو داود، حسن. وفي حديث سلمان: ((ثم أتى المسجد فهو زائر لله، وحق على المزور أن يكرم الزائر)).
والمحافظ على الجماعة ضامن على الله، في حفظه ورعايته. قال عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة كلهم ضامنين على الله، إن عاش رُزِق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة: من دخل بيته فسلم، فهو ضامن على الله، ومن خرج إلى المسجد فهو ضامن على الله، ومن خرج في سبيل الله فهو ضامن على الله)) أبو داود، صحيح.
والفضائل في مجرد الحضور إلى المسجد كثيرة، تغفر لها ذنوب المرء.. فكيف إذا دخل في الصلاة مع إمامه.. فههنا أبواب أخرى من الفضائل تفتح له، إن لم تكفر تلك عنه، كفرت هذه عنه.. قال صلى الله عليه وسلم: ((من توضأ فأسبغ الوضوء ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة، فصلاها مع الإمام غفر له ذنبه)) أحمد، صحيح.
وقد كان بعض السلف شديد المحافظة على صلاة الجماعة، ولا تكاد أن تفوته صلاة فيها، فنزل به بعض الضيوف ذات يوم، فانشغل عن صلاة الجماعة، ثم تنبه لصلاة الجماعة، فخرج يطلب الصلاة في مساجد البصرة، فإذا بالناس قد صلوا، فلما وجد الحال هكذا عاد إلى منزله فصلى صلاة العشاء لوحده.. ثم رقد فرأى في منامه أنه مع قوم راكبي أفراس، يقول: وأنا راكب على فرس ونحن نتجارى ونتسابق، وأفراسهم تسبق فرسي، فجعلت أضربه لألحقهم، فالتفت إلي آخرهم، فقال: لا تجهد فرسك. (لا تتعب نفسك) فلست بلاحقنا. قال: فقلت: ولم؟! قال: لأنا صلينا العشاء في جماعة. (النزهة 2/847) فاتته صلاة الجماعة مرة في عمره، فحصل له هذا فكيف بمن تفوته صلوات وصلوات.
أيها المعرض عنا إن إعراضك منا
لو أردناك جعلنا كل ما فيك يردنا
عباد أعرضوا عنا بلا جرم ولا معنى
أساؤوا ظنهم فينا فهلا أحسنوا الظنا
فإن خانوا فما خنّا وإن عادوا فقد عدنا
وإن كانوا قد استغنوا فإنا عنهم أغنى
ومن الأمور التي ينبغي التفطن إليها في موضوع صلاة الجماعة: هو ما إذا فاتت المسلم الصلاة في الجماعة وصلى الصلاة منفرداً في بيته فإن كثيراً من العلماء يقولون: لا صلاة له وهو بارد القلب، فارغ من هذه المصيبة، غير مرتاع لها، وكذلك يقال فيما إذا فاته أول الوقت أو الصف الأول.. وكذلك فوت الخشوع فيها وحضور القلب، فإن هذا من المصائب العظيمة، ومن الأمور التي ينبغي علينا أن نتنبه وذكر بعض أهل العلم من أن واجب صلاة الجماعة يبدأ بتكبيرة الإمام تكبيرة الإحرام، فمنذ ينقطع صوته يقول: ((الله اكبر)) يبدأ وجوب المتابعة له ويبدأ احتساب الفضل والأخذ في إدراك الجماعة إدراكاً كاملاً، ويبدأ احتساب الإثم في حق القادر المتخلف عن جزء منها عمدا. والدليل: قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه)) والمقصود بقوله: ((لا تختلفوا عليه)) أي في الأمور الظاهرة من قيام وقعود ومتابعة، ومن ذلك ضرورة التكبير ومباشرته بعده.
ومن ظواهر التقصير في أداء هذا الواجب ما يرى من تخلف كثير من المصلين عن الحضور إلى مكان الجماعة لحين ما بعد الإقامة، ولا ريب في أن فعل هذا عمداً تقصير يفوت أجراً ويرتب وزراً، يفوت أجر الجزء الذي تركه عمداً، ويرتب وزر تفويته عمداً، ولو كانت المسافة بين بيت المرء وبين المسجد لا تقطع إلا في خمس دقائق فإنه يجب على هذا الإنسان أن يخرج من بيته قبل الإقامة بخمس دقائق، حتى لا تفوته تكبيرة الإحرام.
اللهم اغفر لنا تفريطنا وتقصيرنا...
(1/2971)
صور من أكل الحرام
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
4/7/1414
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الآثار السيئة لأكل الحرام. 2- صور من أكل الحرام يرتكبها الناس. 3- ظلم الخدم والعمال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، واعلموا بأن أكل الحرام، أمر عظيم عند الله عز وجل، وله آثار عظيمة، وقد تساهل الناس كثيراً هذه الأيام، في الأكل والأخذ والجمع، ولا يهمهم حلال أم حرام إلا من رحم الله.
كيف يتجرأ المؤمن على أكل الحرام، وقد أغناه الله بحلاله عن حرامه، وبفضله عمن سواه، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـ?كُمْ وَ?شْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]، ويقول عز وجل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُمْ بِ?لْبَـ?طِلِ [النساء:29]، وقال سبحانه: قُل لاَّ يَسْتَوِى ?لْخَبِيثُ وَ?لطَّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ?لْخَبِيثِ [المائدة:100]، فالحرام خبيث وإن كان كثيراً، وإن بدا لك أنه حسن وطيب، فهو سيء خبيث.
عباد الله، إن أكل الحرام له من الآثار السيئة على آكله ما الله به عليم، فعلى سبيل المثال:
إن الذي يأكل الحرام لا يستجاب له دعاء، وهل يستغني العبد عن ربه طرفة عين، أبداً، روى الحافظ ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تُليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيبا)) فقام سعد بن أبي وقاص، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال: ((يا سعد: أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)). وذكر عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم في صحيحه: ((أن الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام وغذيّ بالحرام فأنى يستجاب لذلك)).
كيف يكون حال رجل لا يرفع له دعاء، ولا يستجاب له طلب، بسبب أكله للحرام، وما ندري لعل ما أصاب كثيراً من الناس اليوم، من الوقوع في المحرمات وإضاعة الصلوات، والتكاسل عن الطاعات، سببه المآكل المحرمة، ولعل ما أصيب به الناس في هذه الأزمات من الأمراض، وما ينزل بهم من كوارث، كل هذا من أسبابه أكل الحرام والعياذ بالله.
ومما يصاب به أكل الحرام، أنه يقع تحت الوعيد بنار جهنم، روى البخاري في صحيحه، عن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة)).
وأيضاً فإن آكل الحرام، منزوع البركة، لا بركة له فيما جمع، وفيما أخذ، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا المال خَضِر حلو، من أصابه بحقه بورك له فيه، ورُب متخوض فيما شاءت نفسه من مال الله ورسوله، ليس له يوم القيامة إلا النار)).
أيها المسلمون، إن أكل الحرام شر وفتنة، تعب في الدنيا، ونار محرقة وعذاب في الآخرة، وقد صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن العبد يُسأل يوم القيامة، عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه.
إن أكل الحرام قد كثرت به البلوى في هذا الزمان وصار كثير من الناس بدافع حب المال لا يبالي من أي طريق دخل عليه، لا يفكر في العاقبة ولا يخاف من المسؤولية. نسأل الله العافية.
أيها الإخوة في الله، وإليكم بعض صور أكل الحرام، والذي يفعله ويقع به كثير من الناس، إلا من رحم الله، أعظم صورة من صور أكل الحرام: الربا، سواءً كان تعاملاً أو عملاً في البنوك الربوية، أو البيع والشراء بالذهب أو العملات على غير الطريق المشروع، أو أية صورة أخرى من صور الربا، كأن يضع الشخص ماله في بنكٍ ويأخذ عليه أرباح، فإن كل هذا وغيره يعد من أكل الحرام. يَمْحَقُ ?للَّهُ ?لْرّبَو?اْ [البقرة:276]، وقال تعالى: وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً لّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ ?لنَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ ?للَّهِ [الروم:39]، وتكون النتيجة النهائية فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279].
ومن صور أكل الحرام: الغش والخيانة، وهذا له صور لا حصر لها، ولكن على سبيل المثال: الموظف الذي يخون في وظيفته، أو يتساهل في أداء عمله، أو يتهرب من أوقات الدوام الرسمي أو يأخذ الرشوة يعد آكلاً للحرام.وكذا ذلك الموظف الذي يأخذ فوق الراتب الذي حدد له بأية صورة أخذها، عن بريدة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من استعملناه على عمل، فرزقناه رزقاً، فما أخذ بعد ذلك فهو غُلول)) رواه أبو داود بسند صحيح.
ومن صور الغش والخيانة: المقاول الذي يخون في مقاولته، أو لا يتمم المواصفات التي قد اتُفق عليها، أو لا يتقن العمل على الوجه المطلوب. فإنه يُعد أكلاً للحرام.
والتاجر الذي يزيد في السعر من غير مبرر أو يكتم ما في السلعة من عيوب، أو يبخس في الكيل والوزن، يعد آكلاً للحرام.
ومن صور أكل الحرام: التجارة بالمواد المحرمة، أيضاً له صور لا حصر له ولكن على سبيل المثال أيضاً: البقالات ومراكز التسويق التي تبيع الدخان أو تبيع المجلات التي عليها صور النساء الخليعة، وتكون بداخلها كتابات سيئة، تحث على العشق والغرام، أو تبيع بعض المجلات الطبية، والتي تستغل هذا لتعلم الشباب والشابات أموراً وأشياء قد يكونون هم في غفلة عنها.
وكذا المكتبات التي تبيع الجرائد التي فيها مقالات خبيثة، وكتابات ضد الإسلام، وتحارب الدين، وتنشر الأفكار السيئة والأخلاق الرديئة، فإنه لا يجوز للمسلم الذي يخاف الله أن يبيع هذه الأشياء، ولا عذر له عندما يحتج بأنه لو كانت محرمة، لما دخلت البلاد، فإن الحلال والحرام لا نأخذه من تواجد الشيء ودخوله من عدمه، وإنما الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه.
ومن صور التجارة المحرمة، التجارة بآلات اللهو، والمعازف والمزامير، وبيع أشرطة الغناء، وفتح محلات الفيديو لبيع الأفلام الخليعة، فإن كل هذا من أكل الحرام، وليعلم كل من له تجارة ببعض ما ذكرت، أنه يُدخل في بطنه من الحرام، وأنه يغذي أولاده بأكل الحرام والعياذ بالله. قال الله تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [لقمان:6].
قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: "لما ذكر تعالى حال السعداء وهم الذين يهتدون بكتاب الله، وينتفعون بسماعه، عطف بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان والآت الطرب، إلى أن قال: وقيل أراد بقوله: ((يشتري لهو الحديث)) اشتراء المغنيات من الجواري، ثم نقل عن ابن أبي حاتم أنه روى بسنده عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن، وأكل أثمانهن حرام، وفيهن أنزل الله عز وجل: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ )) " انتهى كلامه رحمه الله.
فإذا كان بيع المملوكة المغنية لا يجوز، وثمنها حرام، مع أنها ينتفع بها في غير الغناء كالعمل والخدمة، فكيف ببيع المواد الخاصة بالغناء، كالمعازف والمزامير والأشرطة المملوءة بالأغاني التي غالبها دعوة للعشق والغرام. أو الأفلام التي تعلم الإجرام. كيف تطيب نفس المسلم أن يبيع هذه الأوبئة الخبيثة، ويأكل ثمنها، ويتسبب في نشرها في المجتمع، ويبوء بإثم كل من انحرف بسببها، وكيف تطيب نفس المسلم الذي أعطاه الله مالاً حلالاً أن يشتري هذه الأوبئة الخبيثة، والسموم القاتلة المدمرة للأخلاق، ويدخلها في بيته ويمكن أولاده ونساءه من استماعها ورؤيتها؟ ولو مات غداً أو بعد غدٍ، وصار في قبره، تأتيه آثام وأوزار الذين تركهم وراءه ومكنّ لهم الحرام والعياذ بالله. هذا لو ترك هذه الأمور فكيف بمن يترك لهم الشيطان الأكبر في هذا الوقت، كبيرهم الذي علمهم السحر "الدش".
بل كيف تطيب أنفس المسلمين أن يتركوا هذه المواد الخبيثة، والأمراض القاتلة، تروج في أسواقهم وشوارعهم، وتفُتح معارضها بين بيوتهم، ولا يتحرك فيهم دعوة إلى معروف أو نهي عن منكر، أو كلمة طيبة هادئة لصاحب هذا المحل، لِمَ لا يُذّكر بالله، ويذكر بأن ماله حرام، وأنه يتغذى من هذا المال وينفقه على أولاده، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((كل لحم نبت من السحت فالنار أولى به)) نسأل الله عز وجل أن يهدي ضال المسلمين.
ومن صور التجارة المحرمة، الاتجار بملابس النساء التي لا تستر أجسامهن، والتي تغرس الفتنة بين الناس، وبيع الملابس القصيرة والملابس الضيقة، والملابس التي فيها تشبه بالكافرات، وكل لباس يخالف اللباس الشرعي، فإنه لا يجوز بيعه، ولا يجوز تفصيله وخياطته، وهذا لأصحاب المشاغل النسائية، الذين يعتذرون بأن المرأة تريد كذا، ونحن نفصل على حسب طلبها، اعلم يا أخي أنك تساعد في نشر الرذيلة بهذه الصورة، فهذا كله لا يجوز أكل ثمنه، وهو من أكل الحرام، وهذا هو الذي عليه الفتوى من قبل علماء هذه البلاد حفظهم الله، لأن في ترويجها شراً وفتنة، وإعانة على المعصية، وما أدى إلى الحرام فهو حرام والله تعالى يقول: وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ [المائدة:2].
ومن صور التجارة المحرمة: فتح محلات التصوير، أو محلات الرسم، إذا كان الرسم لذوات الأرواح، فإن هذا يعتبر من أكل المال الحرام.لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المصورين، وأخبر بأن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون، وأمر بطمس الصور وإهانتها وانتهاكها، وعلى هذا فيحرم بيعها وشراؤها وأكل ثمنها والاتجار بها، فالذين يفتحون محلات التصوير أو يصورون الناس بالأجرة، والذين يبيعون الصور ذوات الأرواح، كلهم عاصون لله ورسوله، متوعدون بأشد الوعيد، وما يأخذون من المال في مقابل ذلك حرام وسُحت ومكسب خبيث، والذين يشترون هذه الصور ويعلقونها في بيوتهم ودكاكينهم أو يحتفظون بها للذكريات كما يقال، كل هؤلاء آثمون، ومتعرضون للوعيد الشديد، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، يعني ـ والله أعلم ـ ملائكة الرحمة، فالذي يمنع دخول الملائكة في بيته بسبب اقتنائه الصور ذوات الأرواح، هذا إنسان لا خير فيه لنفسه ولا لأهل بيته، وهو مستبدل للخبث بالطيب، بئس للظالمين بدلاً.
فالصور لا يحل منها إلا ما كان لضرورة، والضرورة تقدر بقدرها.
اللهم أرنا الحق حقاً...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، ومن صور أكل الحرام:ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الإماء) قال الإمام الخطابي رحمه الله تعالى: "ووجه حديث أبي هريرة: أنه كان لأهل مكة والمدينة إماءً عليهن ضرائب، يخدمن الناس، ويأخذن أجرهن ويعطين مواليهن ما عليهن من الضرائب".
أيها المسلمون، أليست هذه الصور هو ما يفعله بعض أولئك الذين لا يخافون الله، قلوبهم أقسى من الحجارة، يحصل الواحد منهم على عدد من التأشيرات، ثم يستقدم بها عدداً من العمال المساكين، من دول شرق آسيا أو غيرها، ثم يلزمهم بقدر معين من المال ثابت كل شهر، يدفعونه له، ثم يتركهم يبحثون هم لأنفسهم عن أعمال، ويتكسب المسكين لوحده، بدون سكن، ولا مأوى ولا طعام، بل ربما جلس أشهراً لا يجد عملاً، وهو ملزم لأن يدفع لكفيله مبلغاً من المال شهرياً، وإلا فهو مهدد بالتسفير ويتحمل قيمة التذاكر للعودة، وربما استدان هو في بلده لكي يتمكن من القدوم، أو دفع رشاوي باهظة لمكاتب الاستقدام هناك، لكي يتمكن من المجيء. وهذا المجرم، يأكل عرق ثلاثين أو أربعين عامل شهرياً وبدون مقابل نثرهم في الشوارع، تجدهم يتكسبون بغسيل السيارات، أو حمل الأمتعة في سوق الخضار ونحوها.
وإذا لم يتمكن من جمع الضريبة التي فرضت على رقبته ماذا يفعل، يضطر للسرقة، لكي لا يسّفر أو يضطر إلى جمع المال بطرق محرمة غير مشروعة لأن أرباحها أكثر، فيُدفع دفعاً للتجارة بالمخدرات، أو عمل مصنع للخمر في أحد الشقق الخربة، أو نحو هذه الأعمال، من الذي دفعه إلى هذا، ومن الذي تسبب في نشر السرقات والرذيلة في المجتمع، من الذي تسبب في نشر الفوضى في البلد، ذلك المجرم الأول، الذي تكون صحيفته بيضاء لدى السلطات، لو قبض على أحد هؤلاء وهو يبيع الخمر أو المخدرات.
حتى إنه بلغني أن بعضهم يلزمه عند أول استقدامه أن يوقع على ورقة بأنه قد استلم رواتب سنتين مقدماً مع قيمة التذاكر للعودة، وفوق هذا لا يجدد له الإقامة كلما انتهت، وتكون المصيبة لهذا الفقير، ولو قبض عليه بإقامة منتهية، أو وجد في غير موقعه الأصلي، وتأخذه السلطات الرسمية، وربما آذوه أيضاً بالضرب من قبل بعض العساكر أو بالسجن، ولو رُجع إلى كفيله أخرج لهم تلك الورقة التي أُلزم بها هذا أن يوقع عليها، ولا شيء عليه، ثم يبقى هذا في السجن أو التوقيف مدة الله أعلم بها، ولو طلبوا من كفيله أن يرجعه، قال: قد أخذ واستلم قيمة التذاكر، والكل يعلم باللعبة، السائل والمسئول والمسجون والسجان، كلهم يعلمون الحقيقة، لكن لا حول ولا قوة إلا بالله، لا نقول إلا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
بل إن بعضهم من شدة مكره وخبثه، يتعاقد معه براتب تسع مئة ريال في بلده، وإذا أتى هنا، وقع معه عقد آخر بثلاث مئة ريال، وهو يعطي العامل صورة من العقد الأول وتكون باللغة الإنجليزية، ويوقع معه العقد الثاني باللغة العربية هنا إذا أتى، ولا يعطيه صورة منها، وربما وقع العامل وهو لا يدري ما هذه الورقة، ثم إذا اشتكى العامل في مكتب العمل، وحضر السيد الكفيل، أخرج لهم العقد الآخر، وهو لا ينكر العقد الأول، لكن يعلم بأن هناك مادة في نظام العمل والعمال، تقول: إن العقد المتأخر ناسخ لما قبله. حسبنا الله ونعم الوكيل.
أما يخاف هؤلاء من الله، الظلم يصل إلى هذا الحد، أما وجدت أن تأكل إلا أموال الفقراء والمساكين، أما تخشى أن يسلط الله عليك عذاباً في الدنيا قبل الآخرة، فيموت أحد أولادك، أو يحترق بيتك على أهلك، أو تبتلى بالأمراض المزمنة بسبب دعوة يطلقها أحد هؤلاء الذين تأكل عرقهم ليل نهار، فتنتقل من مستشفى إلى آخر، لا تهنأ بطعام ولا تهنأ بشراب، لا ترتاح في منام.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله، واعلموا بأن أكل الحرام كله شر، وكله عذاب، وأشد أنواعه أكل أموال اليتامى والفقراء والمحاويج، قال الله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْو?لَ ?لْيَتَـ?مَى? ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء:10].
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك.. وبفضلك عمن سواك..
(1/2972)
طاش ما طاش
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
12/9/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء بخصوص هذا المسلسل. 2- كلمة حول هذا المسلسل. 3- دعوة للحذر من كيد وسائل الإعلام ودور التلفاز في تدمير الأخلاق والأسر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فهذا بيان صدر من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
نص البيان: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فنظراً لكثرة التشكيات والاستفتاءات على مدى ست سنوات متواليات من عام 1416هـ إلى عام 1421هـ بشأن مسلسلات (طاش ما طاش)، لما فيه من مخالفات للشرع المطهر، والآداب والقيم، ويمكن إجمال ما لاحظه الناصحون والمستفتون على المسلسلات المذكورة على النحو الآتي:
1- السخرية بأهل الخير والصلاح وإلصاق المعايب بهم.
2- خروج المرأة مع الرجال الأجانب وما يتبع ذلك من اختلاط وتبرج وسفور وخضوع بالقول وغير ذلك.
3- العمل على توهين الأخذ بأحكام الشرع المطهر، والترغيب فيما نهي عنه، كترك الحجاب، وإبداء الزينة للأجانب، وقيادة المرأة للسيارة، والسفر إلى بلاد الكفر، وإلى البلاد التي تشتهر بالرذيلة وتحارب الفضيلة.
4- لَمْزُه المتصفين بالغيرة على محارمهم ونسائهم.
5- إثارة الشهوات في مشاهد بشعة، تقتل الحياء وتقضي على العفة.
6- القيام بأفعال فيها رعونة وسخرية وخرم مروءة، كالتزيي باللّحى المصطنعة ونحوها.
7- تناول عادات بعض البلدان والمناطق، ومحاكاة لهجاتهم على وجه التحقير لأهلها وإظهار معايبهم.
وإنه بعد دراسة اللجنة لتلك الاستفتاءات، وإطلاعها على رصد موثق لهذا المسلسل، فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء تبين لعموم المسلمين ما يلي:
أولاً: يحرم إنتاج هذه المسلسلات وبيعها وترويجها وعرضها على المسلمين لأمور منها:
1- اشتماله على الاستهزاء ببعض أمور الدين والسخرية ممن يعمل بها. وهذا أمر في غاية الخطورة على من ينتهجها، ويخشى عليهم من سوء عاقبتها الوخيمة.
2- اشتماله على ما يعارض الشرع المطهر، وحمل الناس على الخروج على أحكام دينهم وشريعة ربهم، وذلك من خلال: ترسيخ العلاقات غير المشروعة بين النساء والرجال الأجانب، وعيب الغيرة على المحارم، والتهاون بالحجاب وغير ذلك.
3- اشتماله على الدعاية للبلاد التي تظهر فيها شعائر الكفر، والبلاد التي اشتهرت بالفساد الأخلاقي.
4- اشتماله على ما يثير النعرات والعصبيات الجاهلية، عن طريق السخرية بالعادات واللهجات، وهذا ينافي مقاصد الشرع المطهر، من الحث على المحبة والألفة والإخاء والصفاء بين المسلمين، والبعد عن أسباب الشحناء والبغضاء، قال الله تعالى: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَى? أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء عَسَى? أَن يَكُنَّ خَيْراً مّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِ?لأَلْقَـ?بِ بِئْسَ ?لاسْمُ ?لْفُسُوقُ بَعْدَ ?لإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [الحجرات:10، 11].
5- إفضاؤه إلى نشر الرذيلة، وطمس معالم الفضيلة، وإشاعة الفساد، ومحبة المنكرات والاستئناس بها.
ثانياً: تحرم مشاهدة هذه المسلسلات، والجلوس عندها، لما فيها من المنكرات وتعدي حدود الله، قال الله تعالى في وصف عباده المتقين: وَ?لَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان:72]، أي: لا يحضرون القول والفعل المحرم وأعياد الكفار، وقال سبحانه: وَإِذَا رَأَيْتَ ?لَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَـ?تِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى? يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ?لشَّيْطَـ?نُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ ?لذِّكْرَى? مَعَ ?لْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنعام:68].
قال أهل العلم: المراد بالخوض في آيات الله: التكلم بما يخالف الحق، من تحسين المقالات الباطلة والدعوة إليها، ومدح أهلها، والإعراض عن الحق، والقدح في أهله. وفي الآية دليل على أن مجالسة أهل المنكر لا تحل. وقال الله جل وعلا: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى ?لْكِتَـ?بِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَـ?تِ ?للَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى? يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ [النساء:140]، قال أهل العلم: ويدخل في عموم الآية حضور مجالس المعاصي والفسوق، التي يستهان فيها بأوامر الله ونواهيه.
ثالثاً: تحرم الدعاية لهذه المسلسلات وتشجيعها والإعلان عنها بأية وسيلة، لأن ذلك من التعاون على الإثم والعدوان، وقد نهى الله سبحانه عن ذلك، فقال جل وعلا: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ [المائدة:2]، والواجب هو الإنكار على هؤلاء، وبغضهم في الله، حتى يتوبوا إلى الله ويقلعوا عن معصيته.
رابعاً: إن تخصيص الكلام في هذا المسلسل (طاش ما طاش) لا يعني سلامة غيره من المسلسلات، بل الحكم يتعدى إلى كل مسلسل يشتمل على مخالفة للشرع المطهر، وانتهاك لحرمات الله، وإفساد للأخلاق، وقتل للغيرة الدينية، وتحطيم للمروءة الإنسانية، ودعوة إلى الانحراف بشتى أنواعه.
خامساً: يجب على أهل الإسلام أن تكون حياتهم جداً لا هزلاً، وأن يشتغلوا بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وأن يجتنبوا كل ما فيه إضعاف لدينهم، وتوهين لقوتهم، وإهدار لأوقاتهم، وحط لأقدارهم، وتمكين لعدوهم منهم.. وإن الحياةَ لَثمينةٌ، فلْيربَأْ أهل الإسلام عن عمارتها بالباطل وسفاسف الأمور، وليقوموا بحق الله عليهم من التمسك بهذا الدين، وحماية حرماته، وتربية شبابه على الحق والفضيلة، وإبعادهم عن العبث والفساد والرذيلة، والواجب على القائمين بإعداد هذه المسلسلات التوبة إلى الله، نسأل الله جل وعلا أن يصلح أحوال الجميع، وأن يهدينا جميعاً سواء السبيل، إنه سميع مجيب وبالله التوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء [1].
أيها المسلمون، وبعد قراءة وسماع هذه الفتوى المباركة من اللجنة الدائمة، حول هذا المسلسل الذي شغل الكبار والصغار والرجال والنساء، فإن هناك تعليقين:
الأول: حول المسلسل ذاته.
الثاني: كلمة عن وسائل الإعلام عموماً وجهاز التلفاز خصوصاً.
أما التعليق الأول: فكما ألمحت الفتوى إلى خطورة ما يعرض في هذا المسلسل، فإن ظاهره هو النقد لبعض الأخطاء والمخالفات الموجودة في المجتمع، سواء لدى بعض الدوائر الحكومية، أو المؤسسات، أو عادات بعض المناطق ونحوها. فيقال: بأن النقد البنّاء لا أحد ينكره، النقد الذي يبني، لكن النقد الذي يهدم، فهذا ليس بنقد. وأيّ هدم أكثر من عرض بعض الحلقات التي فيها السخرية بدين الله، والاستهزاء بطلبة العلم والمشايخ، وهذا قد يؤدي إلى الكفر والعياذ بالله. أيّ: هدم أكثر من الاستهزاء بعادات ولهجات بعض المناطق، كالاستهزاء بأهالي منطقة الجنوب وغيرهم، وهذا مما يثير أشياء وأشياء لا تخفى على العاقل. وأيّ هدم أكثر من إدخال العنصر النسائي في التمثيل، وقد بدأت الحلقات بدون ذلك، ثم تطور الأمر إلى عرض مشاهد يستحيي الواحد من ذكرها، مناظر غريبة على مجتمعنا، وبعيدة عن عاداتنا فضلاً عن ديننا.
أيها المسلمون، لقد أَثْبَتُّم ولله الحمد في الأيام الماضية أنكم قادرون على فعل الكثير، وأعني به المقاطعة للبضائع الأمريكية، لقد استغنيتم عن أشياء لم يحرم عليكم استخدامها، ولكنكم تركتموها غيرة دينية وحمية إسلامية، حتى إن أطفال المسلمين تفاعلوا معها فضلاً عن الرجال والشباب. ولا أظن أنكم تعجزون عن مقاطعة مسلسل أفتت اللجنة الدائمة بحرمة مشاهدته.
هوّن على القلب من دوامة الألم واستقبل الفضل في شهر من الكرم
أكلما هاج في الوجدان عاصفة تضري.. فزعت إلى القرطاس والقلم
يا طاش طيشت أعمال العباد فهل يَلقَون منك سوى الغفلات واللم
كل الشياطين قد باتت مصفدةً وطيشك اليوم وثّابٌ على قدم
سخرت بالحق واستحللت في صخبٍ قتل الفضيلة وسط الأشهر الحرم
أتضحكون وصوت القدس منخنقٌ والقرد مستبسلٌ في ساحة الحرم
وأما التعليق الثاني: فلا أحد ينكر ما للإعلام من تأثير في صياغة عقول وأفكار المجتمعات، فإن الذي يوجه الرأي العام هو الإعلام. بل إن دولاً عجزت عن غزو غيرها عسكرياً وثقافياً واقتصادياً، وتمكنت منها عبر وسائل الإعلام، فأثرت في ثقافتها واقتصادها بل وعقول عسكرها.
هل الناس اليوم في غفلة عما يعرض في الإعلام بشكل عام، وما يعرض في التلفاز بشكل خاص؟ وهل يجهلون ما يبث لهم ليلاً ونهاراً عبر البث المباشر؟ ألم يشاهدوا الآثار التي طفحت على المجتمعات، وانعكست على شبابنا وفتياتنا؟! كلا؛ إنهم على علم، وربما سمعوا القصص المخجلة، وذاقوا الآثار المدمرة لأجهزة التلفاز؛ لكنهم مبهورون، أسكرتهم الرغبة، وأعمتهم الشهوة؛ فلم يحركوا ساكناً! وقديماً كان يقال الناس على دين ملوكهم، ولم يذهب بعيداً من قال اليوم بأن الناس على دين إعلامهم وتلفازهم.
لقد استولى التلفاز على زمام التربية والتوجيه، حسبما خطط له وما يبث فيه، وهجم الفيديو ليهدد الثروات، ويقتل الساعات، ويعرض المحرمات، وأطلت فتنة البث المباشر لتضييع أوقاتنا، وتعبيدنا لغير ربنا، واستذلالنا لننضم إلى القطيع الهائم، الذي تردى في هاوية الرذيلة، وغرق في مستنقع الشهوات.
لقد صدرت عشرات الدراسات العلمية الجادة، التي تكشف مخاطر التلفاز وآثار البث المباشر الخطيرة، وحذرت من مسخ هويتنا التي يميعها الغزو الفكري والثقافي من خلال برامجها، والذوق الاجتماعي الذي يشوهه، والروح الاستهلاكية التي يشجعها، وقليلة هي الدراسات التي تتناول مشكلة التلفاز من منظور شرعي، على أساس الحلال والحرام، والولاء والبراء، والصلاح والفساد.
نحن لا نعجب أن فُتن بنو إسرائيل "بالعجل الذهبي" وأُشربوا في قلوبهم حبه كما قال تعالى: وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ?لْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:93]. لكن نعجب من مسلمين موحدين حنفاء أشربت قلوبهم حب "العجل الفضي"، فقطعوا الساعات الطوال أمام الشاشة الفضية، عاكفين في محرابه في صمت ومتابعة مستمرة، فلا يبالون بالصلوات المضيَّعة، وقد شُغِلت عيونهم بمتابعة مشاهد الفسوق والعصيان، استدبروا قبلة الحنفاء واستقبلوا قبلة العجل الفضي. أحسب أنه ما دخل بيتاً إلا أذن بخرابه، وإذا اقتناه متدين بدأ العد التنازلي في التزامه، وإذا اقتناه فاسق مفرط بدأ العد التصاعدي في فسوقه وعصيانه، وبقدر التصاقه وعكوفه عليه بقدر ما يزيغ عن صراط الله المستقيم، ويذوب في صراط المغضوب عليهم والضالين. ولو أنك تأملت أحوال المنتكسين والمتنكبين، فغالباً ما تجد أن التعلق بالتلفاز قاسم مشترك بين أولئك الناكصين على أعقابهم.
أيها المسلمون، إن التلفاز له دوره في تحطيم الاستقرار الأسري، والتفريق بين المرء وزوجه، فهو يدفع الزوجة إلى المقارنة بين حياتها ومستواها المعيشي، وبين ما تراه على الشاشة من الكذب والمَشَاهِد، فتنقم على حياتها، وتزدري نعمة الله عليها، وتجحد فضل زوجها عليها، وتنسى المسكينة أن ما تراه ما هو إلا "تمثيل". إضافة إلى إشاعة الأفكار الهدامة المعادية للإسلام من خلال التمثيليات والأفلام، التي يكتبها من لا خلاق لهم، فيسوغون الخيانة، وتبرير الفاحشة، ونفث سموم ما يسمى بالحرية الشخصية بمفهومها الإباحي، وتحريض المرأة على التمرد على أبيها وزوجها، والتنفير من أحكام الشريعة المطهرة في قضايا: الحجاب، والطلاق وتعدد الزوجات، ونحوها.
إن الإسلام دين الستر، ندبنا إلى ستر العورات الحسية والمعنوية على المستوى الفردي والجماعي، وحرم الإسلام إشاعة الفاحشة في البلاد والعباد، قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النور:19]، وأحاط الخلوة بين الزوجين بالسرية والاحتشام والستر، فجاء "هاتك الأسرار" ليمزق الحجب، ويقتحم الأعين البريئة فيغتال براءتها، ويفسد فطرتها، فيتولى الإلحاح في عرض صور النساء في أبهى زينة وأكمل فتنة.
وبينما يحرّم الإسلام هتك أسرار الزوجية المغيَّبة، إذا بـ "هاتك الأستار" يحول الغيب شهادة، والخبر معاينة. إن من أسوأ آثار التلفاز وأضرار توابعه هو خدش الحياء، وتحطيم القيم، ونشر الرذيلة، وقتل الغيرة على حرمات الله التي هي مادة حياة القلب. ولا ريب أن توالي هذه المشاهد المسموعة وتكرارها يجعلها مع الوقت شيئاً عادياً، فيروِّض المشاهِد على غض الطرف عن الفضائل وقبول الخيانة الزوجية، إلى غير ذلك من الأحوال، ألا ترى أن السذج صاروا يقبلون أن يحتضن رجل بنتاً شابة؛ لأنه يمثل دور أبيها! فلم يعودوا يستنكرونه. وتعجب أن ترى الزوج المسلم يجلس مع زوجه وبناته وأبنائه في محراب العجل الفضي، وهم يرون ما يعرضه من مشاهد إباحية، ويسكر أهله تلك المشاهد، ويلذ لزوجته وبناته وأبنائه، هذه المناظر وهو قرير العين، ثم هو يضحك بملء فيه، وينام ملء جفنه! وهكذا تتعود القلوب رؤية مناظر احتساء الخمور والتدخين، وإتيان الفواحش،والتبرج والاختلاط، وتألف النفوس هذه الأحوال ويكون "التطبيع" مع المعاصي والكبائر والدياثة؟! فما بالكم إذا كان كل هذا في رمضان.
وحينما يُدخِل الأب التلفاز إلى بيته، فإنه يكون قد أحضر لأبنائه وبناته مدرساً خصوصياً مقيماً في البيت، وهو بارع في تلقينهم فنون العشق والغرام، وأصول الفسق والفجور، فينشأ الفتيان على الاستهانة بالخُلق، والفضيلة، والشرف، والعفة، وصيانة العرض، فيصور هذه القيم على أنها تافهة لا يتمسك بها إلا السذج والرجعيون، فهل آن لهذا الكابوس أن يرحل عن بيوتنا؟ ألا فليتذكر أولو الألباب، فإنه من يُعْط ِمن نفسه أسباب الفتنة أولاً، لم ينجُ آخراً وإن كان جاهداً.
نفعني الله وإياكم...
[1] فتوى رقم (21685) التاريخ: 7/9/1421هـ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: لقد كتب الكثيرون محذرين من إدمان المخدرات والسموم البيضاء، وما أقل الذين انتبهوا لمخاطر إدمان مشاهدة والتلفاز، وها هي وسائل الإعلام تنشر سموم هذا المخدر العجيب، إنه يعتبر أمضى وسائل تخدير الشعوب.
إن هذا المخدر الكهربائي يسرق سمعك وبصرك وفؤادك، ويجوب بك المراقص والمسابح، والحانات والمسارح، ويطوف بك في المسلسلات والأفلام التي تدور حول قطب واحد، هو قيم الحب والغرام، والعشق والهيام وكأن هذه هي المشكلة اليتيمة التي تمزق من الأمة الأوصال، وتتفتت في سبيلها أكباد الرجال، فضلاً عن ربات الحِجال! هكذا يجري قتل الإنسان اليوم: بالمهرجانات، بالرقص الخليع، بالأفلام، باللهو الماجن، وهكذا يجري مسخ الإنسان.
إن أمة هذه حالها تحتاج بالضرورة إلى تحليل نفسي، وعلاج قلبي، وتحويل جذري إلى وجهة أخرى، نحو معالي الأمور، إنها بحاجة إلى من ينقذها من هذا "الإدمان" لتقوم من رقدتها، وتفيق من غفلتها، إنها بحاجة إلى أن تعرف أعداءها الرابضين خلف الشاشة، الذين يُهرِّبون من خلالها هذا العقار الخبيث، في غير كتمان وخفاء، بل في وضوح وجلاء، ليصدوهم عن ذكر الله وعن الصلاة، وليشغلوهم بهذا اللهو عن حقوقهم وواجباتهم.
فيا أحفاد أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي وصلاح الدين. ويا أصحاب بدر، والقادسية، وحطين، والقسطنطينية! القدس تستصرخكم، والأقصى يناديكم، وإخوانكم في العقيدة مشردون في الأرض، وحرمات الله تنتهك، والفقر والجهل والمرض يخيم في أكثر بقاع العالم الإسلامي، ونحن نطيش هنا وهناك مع من طاش.
فيا قوم، إن هذه الأجهزة ليست عفوية؛ بل هي أجهزة تربوية وتعليمية بالغة الخطورة، تعمل على نسف الأسس الصحيحة للتربية السليمة، إنها والله معاول هدم وتدمير للتحصينات الأخلاقية.
يا قوم، إن من أعطى أسباب الفتنة من نفسه أولاً لم ينج آخراً وإن كان جاهداً، فعلى المسلم الحقيقي أن يحتاط لدينه، وعرضه، وتربية أسرته وأولاده، ولا يتأتى ذلك إلا بإبعاد هذا الخطر الداهم، وهذا الكابوس الجاثم على أنفاس البيت والأسرة.
وأي خطر على العرض والشرف والأخلاق أكبر وأعظم من البرامج والسموم التي تنفثها هذه الأجهزة، لمسخ هويتنا والقضاء على قيمنا.
نحن لا نرفض التقنية، ولكننا نرفض المحتوى الإعلامي الهدام، وإننا لندعو الله أن يأتي اليوم الذي تستطيع فيه البشرية أن تفيد من هذه المخترعات الفذة، كالفيديو والتلفاز والكمبيوتر، وأن تقف مع البشرية لا مع أعدائها، ولن يتأتى ذلك إلا حين تصبح المؤسسات الإعلامية في أيد أمينة شديدة الإحساس بما ينفع ويضر.
(1/2973)
طول الأمل
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
13/5/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسباب طول الأمل (الجهل – حب الدنيا). 2- علاج حب الدنيا بمعرفة حقيقتها. 3- عظة من دهمة الموت. 4- تذكر الموت والاستعداد له. 5- التزهيد في الدنيا ومتاعها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: اتقوا الله تعالى، واعلموا معاشر الإخوة، وفقني الله وإياكم، وأيقظ قلبي وقلوبكم من الغفلة، ورزقني وإياكم الاستعداد للنقلة، من الدار الفانية إلى الدار الباقية.
إن من أضر الأشياء على الإنسان، طول الأمل، وذلك بأن يستشعر الإنسان طول البقاء في الدنيا، حتى يغلب ذلك على قلبه، وينسى أنه مهدد بالموت في كل لحظة، فكل ما هو آت يا عباد الله، فهو قريب، فتأهبوا لساعة الوداع من الدنيا، والخروج منها.
أؤمل أن أحيا وفي كل ساعة تمر بي الموتى تهز نعوشها
وهل أنا إلا مثلهم غير أن لي بقايا ليال في الزمان أعيشها
قال بعض السلف: من طال أمله، ساء عمله، وذلك أن طول الأمل، يحمل الإنسان على الحرص على الدنيا، والتشمير لها، لعمارتها، وطلبها حتى يقطع وقته، ليله ونهاره، في التفكير في جمعها وإصلاحها، والسعي لها مرة بقلبه، ومرة بالعمل، فيصير قلبه وجسمه، مستغرقين في طلبها. وحينئذ ينسى نفسه والسعي لها، بما يعود عليها بالصلاح، وكان ينبغي له المبادرة والاجتهاد، والتشمير في طلب الآخرة، التي هي دار الإقامة والبقاء، وأما الدنيا فهي دار الزوال والانتقال.
أتبني بناء الخالدين وإنما مقامك فيها لو عرفت قليل
لقد كان في ظل الأراك كفاية لمن كان يوماً يقتفيه رحيل
عباد الله، ذكر العلماء أن طول الأمل له سببان: أحدهما الجهل، والآخر حب الدنيا. أما حب الدنيا، فهو أنه إذا أنس بها، وبشهواتها وعلائقها، ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من التفكير في الموت، وصار مشغولاً بالأماني الباطلة، التي توافق مراده، وإذا جاء خاطر الموت في بعض الأحوال واستعد وتهيأ، سوّف ووعد نفسه وقال: ما مضى إلاّ القليل، إلى أن تكبر، ثم تتوب، وتقبل على الطاعة، فلا يزال يمنّي ويسوّف من الشباب إلى الكهولة، إلى الشيخوخة، أو إلى رجوع من سفر، أو إلى فراغ من تدبير بعض شئونه، فلا يزال يمنّي نفسه بما يوافق هواها، ولا يزال يغالط نفسه في الحقائق، ويتوهم البقاء في الدنيا، إلى أن يتقرر ذلك عنده، ويظن أن الحياة قد صفت له، وينسى قول الله عز وجل: حَتَّى? إِذَا أَخَذَتِ ?لاْرْضُ زُخْرُفَهَا وَ?زَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِ?لاْمْسِ [يونس:24].
تصفو الحياة لجاهل أو غافل عما مضى منها وما يتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسه ويسوقها طلب المحال فتطمع
وأما السبب الثاني: فهو الجهل، حيث يستبعد الموت مع الصحة والشباب، فالإنسان قد أَلِف موت غيره، ولم يرَ موت نفسه أصلاً فلذلك يستبعد، إلا أن العاقل يعرف أن الأجل محدود، فقد فُرغ منه، والإنسان يسير إليه كل لحظة كما قيل:
نسير إلى الآجال في كل لحظة وأيامنا تطوى وهُنَّ مراحل
ولهذا، فإن من المداخل للشيطان، إلى قلب ابن آدم، والتي إذا لم ينتبه لها الإنسان أهلكته، طول الأمل، فإن الشيطان لا يزال بالإنسان، في اتباع الهوى، والنفس الأمارة بالسوء، حتى يوقعه في سوء الخاتمة، نسأل الله السلامة والعافية، وبذلك يكون الشيطان قد حقق مراده.
ألا أيها اللاهي وقد شاب رأسه ألماّ يَزَعْكَ الشيب والشيب وازع
أتصبو وقد ناهزت خمسين حجة كأنك غرّ أو كأنك يافع
حذار من الأيام لا تأمننّها فتخدعك الأيام وهي خوادع
أتأمن خيلا لا تزال مغيرة لها في كل يوم في أناس وقائع
وتأمل طول العمر عند نفاده وبالرأس وسم للمنية لامع
ترحّل من الدنيا بزاد من التقى فإنك مجزي بما أنت صانع
فاتقوا الله أيها المسلمون، فإنه لا علاج لحب الدنيا، وطول البقاء فيها إلا بالإيمان بالله واليوم الآخر، ووالله أيها الإخوة، لو نظر الإنسان إلى الدنيا بعين البصيرة، لرأى حقارتها ورأى أن الدنيا ليست بأهل أن يلتفت إليها، عن الحارث بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: ((كيف أصبحت يا حارث؟)) قال: أصبحتُ مؤمناً حقاً، قال: ((انظر ما تقول، فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك)) ، فقال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة، يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار، يتضاغون فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا حارث عرفت فالزم)). وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما الدنيا في الآخرة، إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع)) رواه مسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)). وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) رواه البخاري. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما حق امرئ مسلم له شيء، يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)) متفق عليه. وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرا منها شربة ماء)) رواه الترمذي. وفي الترمذي من حديث المستورد بن شداد، قال: كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، على السخلة الميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها؟)) قالوا: ومن هوانها ألقوها يا رسول الله، قال: ((فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها)). وفي جامع الترمذي أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً ومتعلماً)).
أيها المسلمون، ليس من العجب انهماك الكفار في حب الدنيا، وطول البقاء فيها، لأن الدنيا هي جنتهم، وإنما العجب، من المسلمين وأن يكون حب الدنيا، وطول البقاء فيها، هي شغلهم الشاغل، ليلاً ونهاراً، وهم يعرفون قدر الدنيا من كتاب ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، أليس كتاب الله هو الذي فيه: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ?لآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ?لدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [الشورى:20]. أليس في كتاب الله عز وجل: مَّن كَانَ يُرِيدُ ?لْعَـ?جِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَـ?هَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ ?لاْخِرَةَ وَسَعَى? لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا [الإسراء:18، 19].
أيها المسلمون، ليلتان اثنتان يجعلهما كل مسلم في ذاكرته، ليلة في بيته، مع أهله وأطفاله، منعماً سعيداً، في عيش رغيد، وفي صحة وعافية، ويضاحك أولاده ويضاحكونه، يلاعبهم ويلاعبونه والليلة التي تليها، وبينما الإنسان يجري في ثياب صحته منتفعاً بنعمة العافية، فرحاً بقوته وشبابه، لا يخطر له الضعف على قلب، ولا الموت على بال، إذ هجم عليه المرض، وجاءه الضعف بعد القوة، وحل الهمُّ من نفسه محل الفرح، والكدر مكان الصفاء، ولم يعد يؤنسه جليس، ولا يريحه حديث، وقد سئم ما كان يرغبه في أيام صحته، على بقاء في لبه، وصحة في عقله، يفكر في عمر أفناه، وشباب أضاعه، ويتذكر أموالاً جمعها، ودوراً بناها، وقصوراً شيدها، وضياعاً جدّ وكدّ في حيازتها، ويتألم لدنيا يفارقها، ويترك ذرية ضعافاً يخشى عليهم الضياع من بعده، مع اشتغال نفسه بمرضه وآلامه، وتعلق قلبه بما يعجل شفاءه، ولكن ما الحيلة إذا استفحل الداء، ولم يجدِ الدواء، وحار الطبيب، ويئس الحبيب. وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]. عند ذلك تغير لونه، وغارت عيناه ومال عنقه وأنفه، وذهب حسنه وجماله، وخرس لسانه، وصار بين أهله وأصدقائه ينظر ولا يفعل، ويسمع ولا ينطق، يقلب بصره فيمن حوله، من أهله وأولاده، وأحبابه وجيرانه، ينظرون ما يقاسيه من كرب وشدة، ولكنهم عن إنقاذه عاجزون، وعلى منعه لا يقدرون، فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ?لْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـ?كِن لاَّ تُبْصِرُونَ [المعارج:83-85]. ثم لا يزال يعالج سكرات الموت، ويشتد به النزع، وقد تتابع نفسه، واختل نبضه وتعطل سمعه وبصره، حتى إذا جاء الأجل، وفاضت روحه إلى السماء، صار جثة هامدة وجيفة بين أهله وعشيرته، قد استوحشوا من جانبه، وتباعدوا من قربه، ومات اسمه الذي كانوا يعرفون، كما مات شخصه الذي كانوا به يأنسون، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المسلمون، إن أكبر واعظ هو الموت، الذي قدّره الله على من شاء من مخلوق مهما امتد أجله وطال عمره، إلا وهو نازل به، وخاضع لسلطانه كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:57]. ولو جعل الله الخلود لأحد من خلقه لكان ذلك لأنبيائه المطهرين، ورسله المقربين، وكان أولاهم بذلك صفوة أصفيائه كيف لا، وقد نعاه إلى نفسه بقوله: إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ [الزمر:30].
أيها المسلمون، ((أكثروا من ذكر هادم اللذات)) ، بهذا أوصى نبيكم محمد. كلام مختصر وجيز، قد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة؛ فمن ذكر الموت حق ذكره حاسب نفسه في عمله وأمانيه، ولكن النفوس الراكدة والقلوب الغافلة كما يقول القرطبي رحمه الله تحتاج إلى تطويل الوعاظ وتزويق الألفاظ.
وأيم الله ليوشكن الباقي منا أن يبلى، والحي منا أن يموت، وأن تدال الأرض منا كما أدلنا منها، فتأكل لحومنا وتشرب دماءنا، كما مشينا على ظهرها وأكلنا من ثمرها وشربنا من مائها ثم تكون كما قال الله: وَنُفِخَ فِى ?لصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَن فِى ?لأرْضِ إِلاَّ مَن شَاء ?للَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى? فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ [الزمر:68].
لقد وقف نبيكم محمد على شفير قبر فبكى حتى بلّ الثرى ثم قال: ((يا إخواني لمثل هذا فأعدوا)) ، وسأله عليه الصلاة والسلام رجلٌ فقال: من أكيس الناس يا رسول الله؟ فقال: ((أكثرهم ذكراً للموت وأشدهم استعداداً له، أولئك هم الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة)). ((الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت)). يقول الحسن رحمه الله: "إن الموت قد فضح الدنيا فلم يدع لذي لبٍّ بها فرحاً". ويقول يونس بن عبيد: "ما ترك ذكر الموت لنا قرة عين في أهل ولا مال".
من أكثر ذكر الموت أكرمه الله بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة. ومن نسي الموت ابتلي بثلاث: تسويف التوبة، وترك الرضى بالكفاف، والتكاسل في العبادة.
استبدَل الأمواتُ بظهر الأرض بطناً، وبالسعة ضيقاً، وبالأهل غربة، وبالنور ظلمة، جاؤوها حفاة عراة فرادى. اللحود مساكنهم، والتراب أكفانهم، والرفات جيرانهم، لا يجيبون داعياً، ولا يسمعون منادياً. كانوا أطول أعماراً وأكثر آثاراً، فما أغناهم ذلك من شيء لما جاء أمر ربك، فأصبحت بيوتهم قبوراً، وما جمعوا بوراً، وصارت أموالهم للوارثين، وأزواجهم لقوم آخرين. حلَّ بهم ريب المنون، وجاءهم ما كانوا يوعدون: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـ?كُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].
ألا فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ واحفظوا الله ما استحفظكم وكونوا أمناء على ما استودعكم، فإنكم عند ربكم موقوفون، وعلى أعمالكم مجزيون وعلى تفريطكم نادمون. قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
فاتقوا الله عباد الله، أخلصوا في أعمالكم، وليكن شعار أحدكم دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا)).
بارك الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الدنيا، دار بلاء وابتلاء ،وامتحان واختبار، لذلك قدر الله فيها الموت والحياة، وهي مشحونة بالمتاعب، مملوءة بالمصائب، طافحة بالأحزان والأكدار، يزول نعيمها، ويذل عزيزها، ويشقى سعيدها، ويموت حيها. مزجت أفراحها بأتراح، وحلاوتها بالمرارة، وراحتها بالتعب، فلا يدوم لها حال، ولا يطمئن لها بال. فكم من ملوك وجبابرة فتحوا البلاد، وسادوا العباد، وأظهروا السطوة والنفوذ، حتى ذعرت منهم النفوس، ووجلت منهم القلوب، ثم طوتهم الأرض بعد حين، فافترشوا التراب والتحفوا الثرى، فأصبحوا خبراً بعد عين، وأثراً بعد ذات. وكل إنسان سيسلك الطريق الذي سلكوه، وسيدرك الحال الذي أدركوه، ولكنه مأخوذ بغمرة من الدنيا عابرة، ستليها ويلات، مستغرق في سبات عميق، ستكشفه سكرات أَلْهَـ?كُمُ ?لتَّكَّاثُرُ حَتَّى? زُرْتُمُ ?لْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر:1-4]. قال علي : (ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل).
عباد الله، من خاف الوعيد قَصُرَ عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آت قريب، تمر الجنائز بالناس يجهزونها ويصلون عليها ويسيرون خلفها، يشيعونها محمولة إلى مثواها. فتراهم يلقون عليها نظرات عابرة، وربما طاف بهم طائف من الحزن يسير. أو أظلهم ظلال من الكآبة خفيف. ثم سرعان ما يغلب على الناس نشوة الحياة وغفلة المعاش.
هذه الدنيا كم من واثق فيها فجعته؟ وكم من مطمئن إليها صرعته؟ وكم من محتال فيها خدعته؟ وكم من مختال أصبح حقيراً؟ وذي نخوة أردته ذليلاً؟ سلطانها دول، وحلوها مر، وعذبها أجاج، وعزيزها مغلوب، العمر فيها قصير، والعظيم فيها يسير، وجودها إلى عدم، وسرورها إلى حَزَن، وكثرتها إلى قلة، وعافيتها إلى سقم، وغناها إلى فقر. دار مكاره، وأيامها غرارة، ولأصحابها بالسوء أمارة. الأحوال فيها إما نعم زائلة وإما بلايا نازلة وإما منايا قاضية. عمارتها خراب، واجتماعها فراق، وكل ما فوق التراب تراب.
قال الله تعالى في شأن الدنيا: إِنَّمَا مَثَلُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ ?لسَّمَاء فَ?خْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ?لأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ ?لنَّاسُ وَ?لاْنْعَـ?مُ حَتَّى? إِذَا أَخَذَتِ ?لاْرْضُ زُخْرُفَهَا وَ?زَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِ?لاْمْسِ كَذ?لِكَ نُفَصّلُ ?لآيَـ?تِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَ?للَّهُ يَدْعُو إِلَى? دَارِ ?لسَّلاَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى? صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [يونس:24، 25].
وأخبر سبحانه عن خِسّة الدنيا، وزهّد فيها، فقال تعالى: وَ?ضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَـ?هُ مِنَ ?لسَّمَاء فَ?خْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ?لأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ ?لرّياحُ وَكَانَ ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا ?لْمَالُ وَ?لْبَنُونَ زِينَةُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?لْبَـ?قِيَاتُ ?لصَّـ?لِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:45، 46]. وقال تعالى: ?عْلَمُواْ أَنَّمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ?لأَمْو?لِ وَ?لأَوْلْـ?دِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ?لْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ?للَّهِ وَرِضْو?نٌ وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [الحديد:20].
وقال سبحانه: زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ?لشَّهَو?تِ مِنَ ?لنّسَاء وَ?لْبَنِينَ وَ?لْقَنَـ?طِيرِ ?لْمُقَنطَرَةِ مِنَ ?لذَّهَبِ وَ?لْفِضَّةِ وَ?لْخَيْلِ ?لْمُسَوَّمَةِ وَ?لانْعَـ?مِ وَ?لْحَرْثِ ذ?لِكَ مَتَـ?عُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?للَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ?لْمَأَبِ قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذ?لِكُمْ لِلَّذِينَ ?تَّقَوْاْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لاْنْهَارُ خَـ?الِدِينَ فِيهَا وَأَزْو?جٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْو?نٌ مّنَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ بَصِيرٌ بِ?لْعِبَادِ [آل عمران:14، 15]. وقال سبحانه وتعالى: وَفَرِحُواْ بِ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا فِى ?لآخِرَةِ إِلاَّ مَتَـ?عٌ [الرعد:26].
وقد توعد الله عز وجل، أعظم الوعيد، لمن رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها، وغفل عن آياته، ولم يرج لقاءه، فقال سبحانه وتعالى: إَنَّ ?لَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِ?لْحَيو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?طْمَأَنُّواْ بِهَا وَ?لَّذِينَ هُمْ عَنْ ءايَـ?تِنَا غَـ?فِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ ?لنَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يونس:7، 8].
ويكفي في الزهد في الدنيا، قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـ?هُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى? عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-507]. وقوله تعالى: يَوْمَ يُنفَخُ فِى ?لصُّورِ وَنَحْشُرُ ?لْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً يَتَخَـ?فَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً [طه:102-104]. وقوله سبحانه وتعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ ?لسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـ?هَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى? رَبّكَ مُنتَهَـ?هَا إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـ?هَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَـ?هَا [النازعات:42-46].
هذا وصلوا رحمكم الله، على خير البرية، وأفضل البشرية، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، اللهم صلِ وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(1/2974)
عثمان بن عفان وصفة الحياء
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
تراجم, مكارم الأخلاق
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
15/11/1410
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سخاء عثمان وإنفاقه في سبيل الله. 2- هجرة عثمان وزواجه من ابنتي النبي. 3- خلافة عثمان وفتوحات المسلمين في عهده. 4- بعض أعمال عثمان رضي الله عنه حين خلافته. 5- حياء عثمان، وحديث عن صفة الحياء عند الإنسان. 6- الحياء المطلوب من المسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: نقف معكم أيها الإخوة، في جمعتنا هذه بعد توفيق الله عز وجل، مع الخليفة الثالث من الخلفاء الراشدين، ذو النورين، أبو عبد الله، عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
أسلم عثمان بن عفان، على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكان بذلك من السابقين إلى الإسلام. وشخصية عثمان أيها الإخوة، من الشخصيات العجيبة في تاريخنا الإسلامي. ضرب أروع الأمثلة في السخاء، وأروع الأمثلة في الحياء، وأروع الأمثلة في التضحية. ويكفي بأنه كان من أهل الجنة وهو يمشي على الأرض. قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه البخاري في صحيحه: ((من يحفر بئر رومة فله الجنة، فحفرها عثمان)). وقال: ((من جهز جيش العسرة فله الجنة، فجهزه عثمان)) والمراد بجيش العسرة، تبوك، فقد أعان فيها بثلاثمائة بعير، وعشرة آلاف دينار.
هاجر عثمان بن عفان الهجرتين، الأولى إلى الحبشة والثانية إلى المدينة. تزوج عثمان رُقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، وماتت عنده في ليالي غزوة بدر، فتأخر عن الغزوة لتمريضها بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضرب له بسهم، فهو معدود من البدريين. وجاء البشير بنصر المسلمين ببدر يوم دفنوها بالمدينة، فزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أختها أم كلثوم، وتوفيت عنده سنة تسع من الهجرة.
قال العلماء: ولا يعرف أحد تزوج بنتي نبي غيرُه، ولذلك سمي ذا النورين.
فهو من السابقين الأولين، وأول المهاجرين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.وأحد الصحاية الذين جمعوا القرآن، وكان قد استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة في غزوته إلى ذات الرقاع وإلى غطفان، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة وستة وأربعين حديثا.
أيها المسلمون، بويع عثمان بالخلافة، بعد دفن عمر بثلاث ليال فبايعه كبار الصحابة على ذلك.
توسعت الفتوحات الإسلامية في زمن عثمان رضي الله عنه.ففي السنة التي تولى فيها الخلافة، فتحت الريّ، وفتح من الروم حصون كثيرة، وغزا معاوية رضي الله تعالى عنه في عهد عثمان قبرص، فركب البحر بالجيوش وفتحت قبرص، وتم غزو أفريقيا، وفتحت سهلاً وجبلاً، وأصاب كل من كان في جيش أفريقيا قرابة ثلاثة آلاف دينار.
ومن أعظم الفتوحات، الأندلس، فتحت عام سبع وعشرين، وفتحت اصطخر عنوة، عام تسع وعشرين.وفتحت جور وبلاد كثيرة من أرض خراسان، ثم فتحت نيسابور صلحاً وفتحت بعد ذلك طوس، وسرخس، ومرو، وبيهق، ولما فتحت هذه البلاد الواسعة، كثر الخراج على عثمان، وأتاه المال من كل وجه، حتى اتخذ له الخزائن. وأدَرّ الأرزاق رضي الله عنه على الناس، وكان يأمر للرجل أحياناً بمائة ألف بدرة، في كل بدرة أربعة آلاف أوقية. فرضي الله عنه تعالى وأرضاه.
ومن أعماله العظيمة أيضاً، توسعة المسجد الحرام، عام ست وعشرين من الهجرة. فاشترى لذلك ما حولها من الأماكن. وفي سنة تسع وعشرين قام بتوسعة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبناه بالحجارة المنقوشة، وجعل أعمدته من الحجارة.
أيها المسلمون، هذه بعض الأعمال التي قدمها عثمان رضي الله عنه، وكل هذه مواضع قدوة، يمكن التأسي والاستفادة فيه منه.
وأيضاً هناك كثيراً من الجوانب الأخلاقية الكريمة، التي اشتهر بها عثمان، ولعل من أبرز هذه الأخلاق خلق الحياء. أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها، أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع ثيابه حين دخل عثمان وقال: ((ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)).
عباد الله، أحب أن أقف معكم وقفة قصيرة، مع خلق الحياء التي اشتهر به عثمان بن عفان رضي الله عنه، ونحاول أن نستفيد منه.
في البداية فإن كثيراً من الناس لا يفرقون بين الحياء وبين الخجل، ويعتبرونها شيئاً واحداً. والفرق بينهما كبير، فإن الخجل مرض، يجب على المسلم أن لا يتخلق به، والمسلم حيي غير خجول فإن الحياء صفة طيبة، وخلق كريم من أخلاقيات الإسلام. يقول الشاعر:
إذا قل ماء الوجه قل حياؤه فلا خير في وجه إذا قل ماؤه
حياؤك فاحفظه عليك فإنما يدل على وجه الكريم حياؤه
فالحياء ـ أيها الإخوة ـ خلق سني، يبعث على ترك الأمور القبيحة، فيحول بين الإنسان وارتكاب المعاصي، أو يمنعه من التقصير في حق من له حق عليه. فالرجل ذو الحياء لا يمكن أن ينتهك حرمات الله. يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)). ولله در القائل:
ورب قبيحة ما حال بيني وبين ركوبها إلا الحياء
فكان هو الدواء لها ولكن إذا ذهب الحياء فلا دواء
فمن لزم الحياء صان عرضه، ودفن مساوئه، ونشر محاسنه، ومن ذهب حياؤه هان على الله وعلى الناس وعلى نفسه.
اعلم ـ يا عبد الله ـ أن الحياء من خصائص الإنسان حباه الله به، ليرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهي، فلا يكون كالبهيمة. ولذلك لما أكل آدم وزوجه من الشجرة المحظورة في الجنة، وبدت لهما سوآتهما، راحا يجمعان من ورق الجنة، ويشبكانه بعضه في بعض، ويضعانه على سوأتهما، مما يوحي أن الإنسان يستحي من التعري فطرة. ولا يمكن للإنسان أن يتعرى ويتكشف إلا بفساد فطرته. وذهاب حيائه. قال تعالى: فَدَلَّـ?هُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا ?لشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ?لْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ?لشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ [الأعراف:22].
أيها المسلمون، لقد كانت العرب في جاهليتها الأولى تستحي فهذا أبو سفيان قبل إسلامه، عندما وقف أمام هرقل ليسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر عن نفسه قائلاً: (لولا الحياء من أن يأثروا عليّ كذباً لكذبت عليه).
وهذا عنترة يقول:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يُوارى جارتي مأواها
فقد كان الحياء من ديدنهم، فكل هذه الشواهد وغيرها كثير، توحي بأهمية الحياء، وعمقه في الفطرة البشرية السليمة، التي تنفر من القبح والسوء.
فبعد أن علمنا أيها الإخوة، بأن الحياء وعدم التعري من خصائص الفطرة السوية في البشر كلهم، فلا أدري ما أقول لأولئك الذين يحاولون تعرية الجسم من اللباس.وتعرية النفس من التقوى أولاً.ومن الحياء من الله ومن الناس.
هؤلاء الذين يطلقون العنان لألسنتهم وأقلامهم من خلال أجهزة التوجيه والإعلام كلها، لتأصيل هذه المحاولة في شتى الصور والأشكال الإبليسية الخبيثة.
هؤلاء هم الذين يريدون سلب الإنسان خصائص فطرته وإنسانيته، التي بها صار إنساناً. وهم الذين يريدون أن يسلموا الإنسان لعدوه الشيطان، لينزع عنه لباسه، ويكشف سوأته فهم أعوان الشيطان. وهم الذين يخططون لتدمير الإنسانية، بإشاعة الانحلال والتعري، لتخضع لجند إبليس.
إن التعري يا عباد الله، صفة بهيمية، لا يميل الإنسان إليه، إلا وهو ينزل إلى حمأة الحيوانية، وإن رؤية التعري جمالاً، هو فساد في الذوق الإنساني قطعاً.
إن المتخلفين في غابات وأدغال افريقيا عراة، والمتقدمين ـ كما يقال ـ في مدن أوربا عراة. فهل التعري صورة من صور الحضارة.
إن الإسلام أيها الإخوة، حين يدخل بحضارته إليهم، يقدم مظاهر الحضارة. كسوة العراة، وستر السوآت، وموارات العورات.
ولكن أبواق الشيطان التي عاشت في ديار المسلمين وتسمت بأسماء المسلمين، إذا رأت المسلمة في زينتها التي أنعم الله بها عليها، جلباباً وخماراً ودرعاً، لإرادته بها الكرامة والستر. ولتنمو فيها خصائص الفطرة الإنسانية على سلامتها وجمالها الفطري، ولتتميز عن العرى الحيواني، إذا رأتها في بيت أو شارع، أو مدرسة أو جامعة، سلقتها بألسنة حداد، فغيَّرتها لأن زينة الله وفق فطرة الله تدمي قلب الشيطان، الذي يريد نزع لباس الحشمة والتقوى عن بنى الإنسان.
وهكذا تصنع الجاهلية بالناس، فتمسخ فطرتهم، وأذواقهم، وتصوراتهم، وقيمهم، وموازينهم، وتعريهم من اللباس، ومن التقوى، ومن الحياء، ثم تسمى هذا التعري، رقياً وتقدماً وتجديداً، ثم تعيّر الكاسيات المحصنات العفيفات، المسلمات المؤمنات القانتات، بأنهن رجعيات وتقليديات.
وماذا تفعل بيوت الأزياء ومصمموها، ودكاكين التجميل وأساتذتها بنساء اليوم ورجاله، إن هذه الشياطين الإنسية وراء هذا الخبل، الذي لا يفيق فيه الناس، رجالاً ونساء، وهي تنفيذ المكيدة الشيطانية وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ ?للَّهِ [النساء:119]، بصور وأشكال شتى، فتطيعها القطعان العارية في أرجاء الأرض، طاعة فردية، وتقلدها تقليداً مضحكاً مبكياً. وسواء أكان الزي الجديد لهذا العام، أو هذا الموسم، يناسب أية امرأة أو لا يناسبها، وسواء أكانت مواسم التجميل تصلح لها أو لا تصلح، فهي مطيعة صاغرة.وإلا عيّرتها البهائم المغلوبة على أمرها، والمخدرة بوسوسة وإغراء شياطين الإنس.
فاتقوا الله أيها المسلمون، تنبهوا لما يخطط لكم ولنسائكم، واعلموا أنه لو فقد الإنسان الحياء، فعل كل شيء.
جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
بارك الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: لعلنا استطردنا بعيداً الكلام حول الحياء وإن كانت الخطبة أساساً عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه. لكن لبروز هذه الصفة في عثمان، ولأهمية هذا الخلق عند المسلم، طال الكلام حوله.
أيها المسلمون، المطلوب من المسلم أن يستحي من الله، وأن يستحي من الناس وأن يستحي من نفسه، أما حياؤه من الله، فيكون عن طريق الإقامة على طاعته، واجتناب معصيته، وإلا كيف يقول العبد بأنه يستحي من الله، وهو غارق في مخالفة أوامره، يقول عليه الصلاة والسلام، "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" وقال عليه الصلاة والسلام: ((استحيوا من الله حق الحياء، من استحى من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليذكر الموت والبِلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)). والحياء من الناس: يدخل في جملة استحياء الناس بعضهم من بعض كحياء الولد من والديه، والمرأة من زوجها، والجاهل من العالم، والصغير من الكبير.
وأما حياء المرء من نفسه، فهذا تحس به النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة، فلا تقنع بالنقص والدون، فيجد المرء نفسه مستحيياً من نفسه. كأن له نفسين يستحي بأحدهما من الأخرى. وهذا القسم من كمال الحياء، فإن العبد إذا استحى من نفسه، فهو أولى بأن يستحي من غيره.
أيها المسلمون، هناك أمور يجب على المسلم فيها أن لا يستحي، والحياء فيها يكون خطأ: فمن ذلك: عدم قول الحق. فلا ينبغي للمسلم أن يستحي من قول الحق. قال الله تعالى: وَ?للَّهُ لاَ يَسْتَحْىِ مِنَ ?لْحَقّ [الأحزاب:53]، فيجب على المسلم أن لا يكون الحياء مانعاً له من قول الحق والجهر به، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أمر آخر، وهو طلب العلم. فلا حياء في طلب العلم. فالذي يستحي لا يمكن أن يتعلم، والذي لا يسأل معلمه ولا يناقش لا يمكن أن يتعلم.
تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: (نعم نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين).
أسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقني وإياكم الحياء.
فإن الحياء ذروة سنام الأخلاق الإسلامية، وصدق من قال:
إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تستحِ فاصنع ما تشاءُ
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحى بخير ويبقى العود ما بقي اللحاءُ
اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم ادفع عنا...
(1/2975)
عذاب القبر ونعيمه
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
14/2/1415
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة تفكر الإنسان في قاله. 2- ظلمة القبر. 3- ضمة القبر. 4- سؤال القبر. 5- موعظة في الموت والاحتضار. 6- حديث عن النزع والقبض والقبر. 7- احتضار بعض السلف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: هناك الكثير من الحقائق الإيمانية، والتي يعتقد بها المسلم، ويعلم علماً يقيناً أنه سيمر بها، لكنه مع زحمة الحياة، والتناسي والانشغالات يغفل عن هذه الحقائق. وإن كان يعتقد بها.
وهذه الغفلة يا عباد الله، يجب أن لا تطول بل لابد بين كل آونة وأخرى، أن يقف مع نفسه، ويتذكر ويتأمل، تلك اللحظات التي سوف يمر بها، ويفكر بعد ذلك بحاله ومآله، هل سيكون من الذين يقال في حقهم، يُثَبّتُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?لْقَوْلِ ?لثَّابِتِ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ [إبراهيم:27]. أم يكون من الذين قال الله تعالى فيهم: وَلَوْ تَرَى إِذِ ?لظَّـ?لِمُونَ فِى غَمَرَاتِ ?لْمَوْتِ وَ?لْمَلَئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ?لْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ?لْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ?للَّهِ غَيْرَ ?لْحَقّ وَكُنتُمْ عَنْ ءايَـ?تِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93].
أيها المسلمون، إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، القبر ذلك المكان المظلم الضيق، الذي لابد لكل منا أن يلِجَه، ويسكن فيه ما شاء الله له أن يسكن ثم يذهب بعد ذلك إلى مستقره، فإما إلى جنة وإما إلى نار.
فكر يا أخي في القبر، هل وقفنا مع أنفسنا يا عباد الله، وحاولنا أن نتذكر القبر وضمته، وضيقه وظلمته، أم أننا مشغولون بدنيانا، حتى لم نجد لحظة واحدة، نتذكر فيه هذا الموقف العظيم. في كل يوم نفقد أحد الأحباب، وندفن بعض الأصحاب.وكأن هذه المواقف تمر بغيرنا، ونحن بعيدون عنها.
الموت في كل يوم ينشر الكفنا ونحن في غفلة عما يراد بنا
لا تطمئن إلى الدنيا وبهجتها وإن توشحت من أثوابها الحسنا
أين الأحبة والجيران ما فعلوا أين الذين همُ كانوا لنا سكنا
سقاهم الموت كأساً غير صافية فصيرتهم لأطباق الثرى رهنا
أيها المسلمون، والله إن القبر له هول عظيم، وإن فظاعته لشديدة، قال عليه الصلاة والسلام: ((ما رأيت منظراً قط إلا القبر أفظع منه)).
إن القبر له ظلمة شديدة، قال عليه الصلاة والسلام ذلك، عندما ماتت المرأة التي كانت تَقُمّ المسجد في عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففقدها الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبروه أنها ماتت من الليل، ودفنوها، وكرهوا إيقاظه، فطلب من أصحابه أن يدلوه على قبرها فجاء إلى قبرها، فصلى عليها ثم قال: ((إن هذه القبور مليئة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل منورها لهم بصلاتي عليهم)) متفق عليه.
إن للقبر لضمة، لا ينجو منها أحدا، كبيراً كان أو صغيراً، صالحاً كان أو ظالماً، ولو نجى منها أحد، لنجى منها سعد بن معاذ، كما قال عليه الصلاة والسلام، ذلك الذي تحرك لموته عرش الرحمن، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة رضي الله عنه.
أيها المسلمون، يا من تقدمون على قبوركم، وليس بينكم وبين ذلك، إلا مفارقة الروح للبدن، اعلموا أيها الإخوة، أن للقبر فتنة، وإن هذه الأمة تفتن في قبورها، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق، صلى الله عليه وسلم، ثبت فيما صح عنه: ((أنه إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، وللآخر النكير، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول ما كان يقول، هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله وإن كان منافقاً قال: سمعت الناس يقولون قولاً، فقلت مثله، لا أدري)). وفي رواية البراء بن عازب رضي الله عنه: ((فيأتيه ملكان شديدا الانتهار، فينتهرانه ويجلسانه، فيقولان له:من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن، فذلك حين يقول الله عز وجل: يُثَبّتُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?لْقَوْلِ ?لثَّابِتِ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فينادى منادٍ من السماء أن صدق عبدي)) وقال في العبد الكافر أو الفاجر: ((ويأتيه ملكان شديدا الانتهار، فينتهرانه ويجلسانه فيقولان له: من ربك؟فيقول: هاه هاه، لا أدري، فيقولان له ما دينك فيقول: هاه هاه، لا أدري، فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا يُهتدى لاسمه، فيقال محمد، فيقول: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون ذاك، قال: فيقولان: لا دريت ولا تليت، فينادي منادى أن كذب عبدي)).
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، أن تجعلنا من الذين تثبتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. اللهم اجعل قبورنا، وقبور آبائنا وأمهاتنا، وقبور من له حق علينا، وجميع المسلمين، روضة من رياض الجنة، ولا تجعلها حفرة من حفر النيران، يا أرحم الراحمين.
أيها الأحبة في الله، تفكروا في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعد ما أصدقه، ومن حاكم ما أعدله، كفى بالموت مفزعاً للقلوب، ومبكياً للعيون، ومفرقاً للجماعات، وهادماً للذات، وقاطعاً للأمنيات.
هل فكرت يا عبد الله، في يوم مصرعك، وانتقالك من موضعك إلى قبرك، إذا نُقلت من سعة إلى ضيق، وخانك الصاحب والرفيق، وهجرك الأخ والصديق، وأُخذت من فراشك وغطائك إلى غرر، وغطوك من بعد لين لحافها بتراب ومدر، فيا جامع المال، والمجتهد في البنيان، ليس لك من مالك إلا الأكفان، بل هي للخراب والذهاب، وجسمك للترائب والمتاب. فأين الذي جمعته من المال، فهل أنقذك من الأهوال، كلا بل تركته لمن لا يحمدُك، وقدِمت بأوزارك على من لا يعذرُك.
أيها المسلمون، ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم، من كان القبر طالبه، والقبر بيته، والتراب فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر، فكيف يكون حاله؟.
مثِّل لنفسك يا عبد الله وقد حلت بك السكرات ونزل بك الأنين والغمرات، فمن قائل يقول، إن فلاناً قد أوصى، وماله قد أحصى، ومن قائل يقول: إن فلاناً ثقل لسانه، فلا يعرف جيرانه، ولا يكلم إخوانه، فكأني أنظر إليك تسمع الخطاب، ولا تقدر على رد الجواب، فتخيل نفسك يا عبد الله، إذا أُخذت لفراشك، إلى لوح مُغسّلك، وغسلك الغاسل، وألبست الأكفان، وأوحش منك الأهل والجيران، وبكت عليك الأصحاب والإخوان، وقال الغاسل: أين زوجة فلان تحلله، وأين اليتامى، ترككم أبوكم، فما ترونه بعد هذا اليوم أبداً.
ألا أيها المغرور مالك تلعب تؤمل آمالاً وموتك أقرب
وتعلم أن الحرص بحر مُبعدٌ سفينة الدنيا فإياك تعطب
وتعلم أن الموت ينقضّ مسرعاً عليك يقيناً طعمُه ليس يُعْذَب
كأنك توصي واليتامى تراهم وأمهم الثكلى تنوح وتندب
تغص بحزن ثم تلطم وجهها يراها رجال بعدما هي تحجب
وأقبل بالأكفان نحوك قاصدٌ ويحثى عليك التراب، والعين تسكب
يا غافلاً عن هذه الأحوال، يا غافلاً عن قبرك والمآل، إلى كم هذه الغفلة أتحسب أن الأمر بسيط، وتزعم أنه يسير، وتظن أن سينفعك حالك، إذا آن ارتحالك أو ينتقذك مالك، حين تُوبِقُك أعمالك، أو يفنى عنك ندمك، إذا زلت بك قدمك، أو يعطف عليك عشيرتك، حين يضحك محشرك.
كلا والله ساء ما تتوهم، ولابد أن ستعلم. لا بالكفاف تقنع، ولا من الحرام تشبع، ولا للعظات تسمع، ولا بالوعيد ترتدع، دأبك أن تتقلب مع الأهواء، وتخبط خبط عشواء، يعجبك التكاثر بما لديك، ولا تذكر ما بين يديك، أتزعم أن ستترك سدى، وأن لا تحاسب غداً، أم تحسب أن الموت يقبل الرِشا؟
كلا، لن يُدفع عنك الموت بمال ولا بنون، ولا ينفع أهل القبول إلا العمل المبرور، فطوبى لمن سمع ووعى، وحقق ما ادعى، ونهى النفس عن الهوى، وعلم أن الفائز من ارعوى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى وأن إلى ربك المنتهى، فانتبه من هذه الرقدة، واجعل العمل الصالح لك عدة، ولا تتمن منازل الأبرار، وأنت مقيم على الأوزار، عاملٌ بعمل الفجار.
راقب الله يا عبد الله في الخلوات، ولا يغرنك الأمل، فتزهد عن العمل.
تزود من معاشك للمعاد وقم لله واعمل خير زاد
ولا تجمع من الدنيا كثيرا فإن المال يجمع للنفاد
أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زاد وأنت بغير زاد
اللهم ارحمنا برحمتك فإنك الغافر ولا تعذبنا فإنك علينا قادر.
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، قال صلى الله عليه وسلم: ((القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه)).
أيها الأحبة في الله، في بعض الكلام تكرار، وغالبه معروف وليس بجديد، لكن نحن بحاجة إليه، بحاجة أن يذكر بعضنا بعضاً بين فترة وأخرى بمثل هذا الكلام.
وهذا من أجل أن يتنبه الإنسان ويحاسب نفسه، نحاسب غيرنا وننسى محاسبة أنفسنا. فقفوا الوقفة الصادقة مع النفس محاسبةً ومساءلة. فوالله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتجزون بما كنتم تعملون.فجنة للمطيعين، ونار جهنم للعاصين أَفَمَن يُلْقَى? فِى ?لنَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِى ءامِناً يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ ?عْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40].
إخوتي في الله، من غفل عن نفسه تصرمت أوقاته ثم اشتدت عليه حسراته. وأي حسرة على العبد أعظم من أن يكون عمره عليه حجة.وتقوده أيامه إلى المزيد في الردى والشقوة. إن الزمان وتقلباته أنصح المؤدبين، وإن الدهر بقوارعه أفصح المتكلمين.. فانتبهوا بإيقاظه، واعتبروا بألفاظه. ورد في الأثر: "أربعة من الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرص عن الدنيا".
معاشر الإخوة، من حاسب نفسه في الدنيا خف في القيامة حسابه، وحسن في الآخرة منقلبه، ومن أهمل المحاسبة دامت حسرته وساء مصيره. وما كان شقاء الأشقياء إلا لأنهم كانوا لا يرجون حساباً. وقعوا ضحايا خداع أنفسهم، وأحابيل شياطينهم، وافتهم المنايا وهم في غمرة ساهون.
في الشباب من غره شبابه فنسى فقدان الأقران، وغفل عن سرعة المفاجآت، وتعلق بالآمال والأماني، وما هي والله إلا أوهام الكسالى، وأفكار اللاهين، وما الاعتماد عليها إلا بضائع الحمقى، ورؤوس أموال المفاليس، والتمني والتسويف إضاعة للحاضر والمستقبل.
وفي أهل العلم من جدّ في التحصيل وغفل عن العمل، أعطوا علوماً فصرفوها في الرياء والمجادلات، والعلو على الأقران، يمزق دينه من أجل ترقيع دنياه، لا يتحاشى غيبة ولا يسلم من حسد.
وفي أهل الدنيا من صرف أمواله في الشهوات والمحرمات. وأشد هؤلاء من كسب مالاً، فأدخله النار وورثه من بعده قوم صالحون عملوا فيه بطاعة الله، فأدخلهم الجنة. ليس أعظم حمقاً ممن ضيع ماله وأصلح ماله غيره، وقد علم أن ماله ما قدم، ومال غيره ما خلّف.
ألا ينظر هؤلاء وهؤلاء: لقد وهن العظم، وابيض الشعر، ورحل الأقران، ولم يبق إلا الرحيل. عجيب حال هذا الغافل: يوقن بالموت ثم ينساه ويتحقق من الضرر ثم يغشاه، يخشى الناس، والله أحق أن يخشاه، يغتر بالصحة وينسى السقم، ويفرح بالعافية ولا يتذكر الألم، يزهو بالشباب ويغفل عن الهرم، يهتم بالعلم ولا يكترث بالعمل، يحرص على العاجل ولا يفكر في خسران الآجل، يطول عمره ويزداد ذنبه، يبيض شعره ويسود قلبه، قلوب مريضة عز شفاؤها، وعيون تكحلت بالحرام فقل بكاؤها. وجوارح غرقت في الشهوات فحق عزاؤها.
سبحان الله ـ عباد الله ـ ألم يأنِ لأهل الغفلة أن يدركوا حقيقة هذه الدار. أما علموا أن حياتها عناء، ونعيمها ابتلاء، جديدها يبلى، وملكها يفنى، وُدّها ينقطع، وخيرها ينتزع، المتعلقون بها على وجل، إما في نعم زائلة، أو بلايا نازلة، أو منايا قاضية. ي?قَوْمِ إِنَّمَا هَـ?ذِهِ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا مَتَـ?عٌ وَإِنَّ ?لاْخِرَةَ هِىَ دَارُ ?لْقَرَارِ [غافر:39]، العمر قصير، والخطر المحدق كبير. والمرء بين حالين: حال قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه.
إذا كان الأمر كذلك أيها الأحبة، فعلى صاحب البصر النافذ أن يتزود من نفسه لنفسه، ومن حياته لموته، ومن شبابه لهرمه، ومن صحته لمرضه، فما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا سوى الجنة أو النار.
ومن أصلح ما بينه وبين ربه كفاه ما بينه وبين الناس، من صدق في سريرته حسنت علانيته، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه.
والمحاسبة الصادقة ما أورثت عملاً، فعليك ـ يا عبد الله ـ أن تستدرك ما فات بما بقي فتعيش ساعتك ويومك، ولا تشتغل بالندم والتحسر من غير عمل. واعلم أن من أصلح ما بقي غُفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي أُخذ بما مضى وبما بقي. والموت يأتيك بغتة، فأعط كل لحظة حقها، وكل نَفَس قيمته، فالأيام مطايا، والأنفاس خطوات والصالحات هي رؤوس الأموال، والربح جنات عدن، الخسارة نار تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى. وأنت حسيب نفسك.
روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح، حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمّا يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبلاً القبلة، وجلسنا حوله، وكأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض، فجعل ينظر إلى السماء، وينظر إلى الأرض، وجعل يرفع بصره ويخفضه ثلاثاً، فقال: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر ـ مرتين أو ثلاثاً ـ)) ، ثم قال: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ثلاثاً، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة. نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، فذلك قوله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ [الأنعام:61]، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها، فلا يمرون، يعني بها، على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب، فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها، إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وما أدراك ما عليون، كتاب مرقوم، يشهده المقربون، فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فيرد إلى الأرض وتعاد روحه في جسده، قال: فإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه مدبرين، فيأتيه ملكان شديدا الانتهار، فينتهرانه ويجلسانه، فيقولان له: من ربك ؟فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك ؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له، ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟، فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولان له: وما يحملك، فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقت، فينتهره فيقول: من ربك، ما دينك، من نبيك، وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن، فذلك حين يقول الله عز وجل: يُثَبّتُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?لْقَوْلِ ?لثَّابِتِ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم فينادى مناد في السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً من الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت، فوجهك الوجه يجيء بالخير فيقول: أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في إطاعة الله بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً، ثم يفتح له باب من الجنة، وباب من النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة قال: رب عجل قيام الساعة كيما أرجع إلى أهلي ومالي، فيقال له: اسكن)).
قال: ((وإن العبد الكافر وفي روايةٍ الفاجر، إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة غلاظ شداد، سود الوجوه، معهم المسوح من النار، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده فينزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فتقطع معها العروق والعصب، فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وتغلق أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ألا تعرج روحه من قبلهم، فيأخذها، فإذا أخذها، لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك السموح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأٍ من الملائكة، إلا قالوا:ما هذا الروح الخبيث فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح له)) ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْو?بُ ?لسَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ ?لْجَنَّةَ حَتَّى? يَلِجَ ?لْجَمَلُ فِى سَمّ ?لْخِيَاطِ [الأعراف:40]، ((فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، ثم يقال، أعيدوا عبدي إلى الأرض، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فيطرح روحه من السماء طرحاً، حتى تقع في جسده)) ، ثم قرأ: وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ?لسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ?لطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ?لرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
((فتعاد روحه في جسده، قال: فإنه ليسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه، ويأتيه ملكان شديدا الانتهار، فينتهرانه، ويجلسانه، فيقولان له، من ربك، فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟فيقول: ها هاه لا أدري، فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟فلا يهتدي لاسمه، فيقال محمد، فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون ذاك، قال: فيقال: لا دريت ولا تلوت، فينادى مناد من السماء، أن كذب، فأفرشوا له من النار وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف منه أضلاعه. ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فو الله ما علمتك إلا كنت بطيئاً عن طاعة الله، سريعاً إلى معصية الله، فجزاك الله شراً، ثم يقيض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة، لو ضرب بها جبل كان تراباً، فيضربه ضربة حتى يصير بها تراباً، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه به ضربة أخرى، فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ثم يفتح له باب من النار، ويمهد من فرش النار، فيقول: رب لا تقم الساعة)).
فاتقوا الله عباد الله، كفى بالموت واعظاً، فإنه لا يقرع باباً، ولا يهاب حجاباً لا يقبل بديلاً، لا يأخذ كفيلاً، ولا يرحم صغيراً، ولا يوقر كبيراً.
أكثروا من ذكر هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ولا تغتروا يا عباد الله، بهذه الأعمال البسيطة التي تقدمونها.
يروى أنه لما احتضر أبو بكر الصديق رضي الله عنه، قالت عائشة:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فقال: ليس كذلك، ولكن قولي: وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19].
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند موته، ويلي وويل أمي، إن لم يرحمني ربي.
ولما احتضر أبو هريرة رضي الله عنه بكى، فقيل له: وما يبكيك؟فقال: بُعد المفازة وقلة الزاد، وعقبةٌ كئود، المهبط منها إلى الجنة أو إلى النار.
ولما احتضر عمر بن عبد العزيز، قال: إلهي أمرتني فلم ائتمر، وزجرتني فلم أنزجر، غير أني أقول: لا إله إلا الله.
وقال المزني، دخلت على الشافعي في علته التي مات فيها، فقلت له: أبا عبد الله، كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً، وبكأس المنية شارباً، وعلى الله واراداً، ولا أدري نفسي تصير إلى الجنة فأهنئها أم إلى النار فأعزيها. ثم بكى وقال:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت رجائي نحو عفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وما زلت ذا عفو عن الذنب سيدي تجود وتعفو منّة وتكرما
ولولاك لم يغوِ بإبليس عابد فكيف وقد أغوى صفيك آدما
وصلوا وسلموا على خير خلق الله محمد بن عبد الله كما أمركم.
اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال.
اللهم اجعل قبورنا روضة...
(1/2976)
علاقة المسلم مع نفسه
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, الطهارة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نظرة في أحوال الناس وتفاوتها. 2- صحة الجسم وعدم الإسراف في الطعام والشراب. 3- نظافة جسد المسلم وملابسه. 4- شمائل النبي في ذلك. 5- الاهتمام بتربية العقل وطلب العلم. 6- تهذيب الروح والقلب بطاعة الله وذكره.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: تكلمنا في الجمعة الماضية عن علاقة المسلم مع ربه وسوف نخصص بإذن الله عز وجل هذه الخطبة عن علاقة المسلم مع نفسه.
أيها الأخوة في الله، لا بد أن نعلم بادئ ذي بدء أن وجهات النظر تختلف حول علاقة المسلم مع نفسه، فبحسب ما يحمله المرء من فكر، وبحسب ما لديه من تصورات عن الله والكون والحياة والإنسان، يصوغ الشخص علاقته مع نفسه، على حسبها.
ولهذا لا نستغرب ما نشاهده من هذا التفاوت وهذا الاختلاف الحاصل في تصرفات الناس، والتباين الذي نراه في حياة كل فرد، وطريقة العلاقة التي يقيمها مع نفسه.
فهذا شخص غارق في الشهوات والملذات ويرى أنه يناسبه هذه الحياة. وهو مرتاح من وضعه كما يزعم.
وشخص آخر، منطوٍ على نفسه، لا يكلم أحداً إلا بحدود، أغلب وقته جالس وحده، ويرى أن علاقته مع نفسه بهذه الصورة جيدة ومناسبة، وثالث يرى ويتصور أن أفضل علاقة يقيمها مع نفسه هي الاهتمام بجسمه ولياقتها، فتراه منشغلاً بالرياضة طوال نهاره وليله، يلعب ويتمرن، ولا يعرف من هذه الحياة إلا الرياضة، وهكذا فإنك تجد أن الناس مشارب مختلفة في علاقاتهم مع أنفسهم، بحسب التصورات والأفكار التي يحملونها.
ولذا، لابد لنا من البداية أن نتفق معكم على أسس وضوابط نحدد من خلالها، العلاقة السليمة والصحيحة، في علاقة المسلم مع نفسه لأن القضية لو تركت لعقول الناس، وأهوائهم لما استقرت على شيء، لأن الذي أفكر فيه أنا، يختلف عن الذي تفكر فيه أنت والذي أميل إليه أنا وأحبه، ربما تبغضه أنت وتكرهه.لذا كان لابد من الاتفاق على قواعد نحتكم إليها، في تقرير علاقة المسلم بنفسه.
والقاعدة العظيمة الذي نرجع إليها، والأساس الذي نحتكم إليه، هو الإسلام.يقول الله تعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ?للَّهِ وَ?لرَّسُولِ [النساء:59].
فالذي لا يقبل بالإسلام حكماً، ولا يرضى بالدين شريعة، ينظم له علاقته مع نفسه، هذا عليه أن يراجع إسلامه، فإن لنا معه حديث آخر في غير هذه الخطبة.
أيها المسلمون، يقول الله تعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]. فالله عز وجل قد أكمل لنا الدين، ومن كمال الدين وتمامه، أنه عز وجل بين لنا كيفية علاقة المسلم بنفسه.على أي طريقة تكون وعلى أي هيئة تسير.
فلنرجع أيها الأخوة إلى أسس الإسلام وضوابطه في هذا المجال لنكون على بينة من أمرنا، في علاقاتنا مع أنفسنا.
أيها الأخوة، إن الإسلام لم يترك جانباً من جوانب البدن إلا وقد اهتم به وحرص عليه، وأعطاه حقه من التوجيه، وبدن الإنسان ينقسم إلى أقسام ثلاثة: جسم وعقل وروح.
فإذا ما أردت يا عبد الله أن تكون علاقتك مع نفسك على الكمال، فعليك أن تحرص على جسمك وعلى عقلك وعلى روحك، وتعطي كل قسم منها ما أوجبه الشرع عليك وأن تحافظ عليها ضمن ضوابط الشريعة وحدود الدين.
فأولاً: جسمك، أيها المسلم، احرص أيها المسلم أن يكون جسمك صحيحاً قوي البنية، وذلك بالاعتدال في الطعام والشراب، لا تقبل على الطعام إقبال الشره النهم، وإنما أصب من الطعام ما تقيم به صلبك ويحفظ عليك صحتك وقوتك ونشاطك، مستهدياً بقول الله تعالى: وكُلُواْ وَ?شْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطنه، فإذا كان لا محالة فاعلاً فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)).
وأيضاً من جوانب عناية الإسلام بالجسم النظافة، احرص ـ يا عبد الله ـ على نظافة جسمك وثيابك. استحم كلما دعت الحاجة إليه. واحرص على الاغتسال الكامل والتطيب يوم الجمعة قال عليه الصلاة والسلام: ((اغتسلوا يوم الجمعة واغسلوا رؤوسكم وإن لم تكونوا جنباً وأصيبوا من الطيب)) رواه البخاري حتى أن بعض العلماء ذهب إلى وجوب الغسل لصلاة الجمعة، مستدلين في ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم المتفق عليه: ((حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً، يغسل فيه رأسه وجسده)).
تفقد فمك كذلك بالنظافة، فلا يُشم منك رائحة مؤذية، تروي عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان لا يرقد ليلاً ولا نهاراً، فيستيقظ إلا تسوك قبل أن يتوضأ)) وتبلغ عناية الشريعة بالفم أن يقول عليه الصلاة والسلام: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)) إنه لمما يؤسف له أن نرى بعض المسلمين يهملون هذه الجوانب. فلا يعتنون بنظافة أفواههم وأبدانهم وملابسهم، فتراهم يغشون المساجد وغيرها، وروائحهم تؤذي إخوانهم الحاضرين، وتنفّر الملائكة، ومن عجب أن البعض يزيد الطين بلة، فيضيف على ما سبق أكله للثوم والبصل، يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم في صحيحه: ((من أكل البصل والثوم والكراث، فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)).
وأما ما يتعلق بالثياب، فقد روى الإمام أحمد والنسائي عن جابر رضي الله عنه، أنه قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم زائراً، فرأى رجلاً عليه ثياب وسخة، فقال: ((ما كان يجد هذا ما يغسل به ثوبه)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما على أحدكم إن وجد أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته)) رواه أبو داود.
وإنه لمما يؤسف له أيضاً عدم اكتراث بعض المسلمين بهذا الجانب أيضاً وهي مسألة الاهتمام بنظافة الثياب، والمشكلة أن الأمر يتعدى إلى عدم الحرص حتى لحضور الصلوات في المساجد، فأحياناً نشاهد بعض المصلين هداهم الله، يدخلون المسجد، بثياب وسخة غير نظيفة، وربما تكون ثياب العمل، فتجده خارجاً من ورشته أو دكانه، وأحياناً تكون ثيابه متسخة بالزيوت وغيرها، ناهيك عن الرائحة المزعجة من ثيابه، فلو صلى بجواره إنسان نظيف الثياب، توسخت ثيابه بسببه.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى لا تهملوا هذه الجوانب، فإنها جداً مهمة، وإن ديننا ليهتم ويحث على مراعاة شعور الآخرين، بل هو باب من أبواب كسب الناس ودعوتهم إلى الله عز وجل.
ثم إليكم هذه الآثار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بعناية الدين بهذه الناحية، وهو الاهتمام بالجسم، من شتى جوانبه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((ما شممت عنبراً قط ولا مسكاً ولا شيئاً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم)) رواه مسلم وقال صلى الله عليه وسلم: ((من كان له شعر فليكرمه)) ويكون إكرامه بتنظيفه وتمشيطه وتطييبه وتحسين شكله وهيئته.وفي طبقات بن سعد عن جندب بن مكيث رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم الوفد لبس أحسن ثيابه وأمر عِلية أصحابه بذلك، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قدم وفدُ كِندة وعليه حلة يمانية وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مثل ذلك) وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) ، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة؟يعني أيُعدّ هذا من الكبر؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)) وروى مسلم أيضاً: ((خمس من الفطرة: الختان، وحلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وقص الشارب)).
أيها المسلمون، نختتم كلامنا فيما يتعلق بعلاقة المسلم بجسمه، فنذكر أنه يجب أن يحفظه مما يضره، سواءً كان مادياً أو معنوياً، فالضرر المادي كالمسكرات والمخدرات والتدخين والسهر الغير ضروري وغيرها، كذلك احفظ جسمك يا مسلم من المعاصي والذنوب والآثام، فكما أن ذاك يضر فإن هذا يضر أيضاً.
داء عضال ووهن في القوى ولها ريح كريه مخل بالمروآت
سألتهم: أحلالٌ هذا الشراب لكم من طيبات أحلت بالدلالات
أجابني القوم: ما حلت ولا حرمت فقلت لابد من إحدى العبارات
أنافع أم مضر بينوه لنا قالوا: مضر يقيناً لا ممارات
قلنا فلا شكّ أن الأصل مطرد بأنه الخطر في كل المضرات
أليس في آية الأعراف مزدجر لطالب الحق عن كل الخبيثات
إن تنكروا كون ذا منها فليس لكم إلا ببرهان حق واضح ياتي
أني لكم ذا وأنتم شاهدون بتحذير يليه وتفتير لآلات
والنهي جاء عن التبذير متضحاً وعند إضافة مالٍ في البطالات
جاءت بذلك آيات مبينة مع الأحاديث من أقوى الدلالات
ثانياً: عقلك أيها المسلم. هذا هو الجانب الثاني من جوانب عناية وعلاقة المسلم بنفسه. اهتم بعقلك يا عبد الله، وخير ما يتعهد المسلم عقله به العلم. إن أوجب وأولى وأول ما يغذي المسلم عقله به العلم.
قال صلى الله عليه وسلم: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)) وحسب المسلم تشجيعاً على طلب العلم أن الله تبارك وتعالى رفع من شأن من يطلبه وخصهم بخشيته وتقواه، قال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى ?للَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ?لْعُلَمَاء [فاطر:28]، وقال سبحانه: هَلْ يَسْتَوِى ?لَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [الزمر:9].
أيها المسلمون، إن آفاق العلم اليوم واسعة، وميدانها فسيح فمن أين يبدأ المسلم وبماذا يهتم أولاً: إن أول ما يطلب من المسلم تعلمه. هو كيف يمكنه أن يعبد الله عز وجل العبادة الصحيحة، فهذا هو الذي سيحاسب عليه، وستسأل عنه لا عذر لكل أحد أن يتعلم الحد الأدنى الذي بواسطته يعبد ربه.
أحكام الطهارة، الصلاة، الزكاة، الحج، الصيام، تتعلم مسائل البيع والشراء لو كنت تاجراً.
تتعلم كيفية إخراج زكاة الحبوب والثمار والزروع لو كنت مزارعاً. وهكذا كل في مجاله وتخصصه، لكن الحد الأدنى من أحكام الشرع وكيفية عبادة الله، هذه مطلوبة من الجميع، لا عذر لأحد لأنه لا يحسن الصلاة أو لا يعرف أحكام الطهارة.
ثم بعد ذلك فإن الأمة بحاجة إلى أبنائها وهم متقنون كل المجالات. الأمة بحاجة إلى علم الطب وعلم الهندسة، وعلم الفك، وعلم الفيزياء وعلم الرياضيات وعلوم وفنون الصناعة والتجارة وغيرها.
نحن بحاجة إلى من يهب كل طاقاته، ويمنح جل اهتمامه لدينه ويتعلم هذه العلوم ويقبل عليها إقبال الفريضة. لينقذ الأمة مما تعانيه من ذلها واستضعافها لغيرها.
أيها المسلمون، إن التقدم الذي وصل إليه الغرب، لم يصل إليه إلا بكد يمينه وعرقه، وجده في طلب العلم. فحبذا لو اهتم أصحاب العقول عندنا بعقولهم وسخروها في خدمة دينهم وأمتهم.
فهل من مجيب.
اللهم علمنا ما ينفعنا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فثالث ما يجب على المسلم: العناية به الروح. روحك أيها المسلم، أيضاً لا بد أن تكون علاقتك به، علاقة مبنية على توجيهات الشرع. إن المسلم يملك قلباً يخفق وروحاً تهفو، ونفساً تحس، وأشواقاً عليا تدفعه إلى السمو في عالم العبادة، والتطلع إلى ما عند الله من نعيم، والخشية مما لديه من أنكال وجحيم. فخير ما يتعهد المسلم به روحه. أن يصقلها بالعبادة، والمراقبة لله عز وجل آناء الليل وأطراف النهار، بحيث يبقى يقظاً متنبهاً متقياً أحابيل الشيطان الماكرة ووساوسه المروية، فإذا مسه طائف من الشيطان في لحظة من لحظات الضعف البشري هزته الذكرى، فارتد بصيراً متيقظاً، تائباً مستغفراً: إِنَّ ?لَّذِينَ ?تَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ ?لشَّيْطَـ?نِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201].
المسلم الذي يريد أن يقوي روحه، فإنه يستعين في إصلاحها بضروب من العبادة يقوم بها لله طائعاً مخبتاً قانتاً. كتلاوة القرآن في أناة وتدبر وخشوع، والذكر في إخبات وحضور قلب، والصلاة القويمة المستكملة شروط الصحة والخشوع وحضور الذهن. مدرباً نفسه على الطاعات بشتى أنواعها. بحيث تصبح ديدنه وعاداته وسجاياه التي لا فكاك له عنها ولا انفصام.
وبذلك ترهف نفسه ويرق شعوره، وتتيقظ حواسه، فإذا هو في غالب الأحيان يقظ متنبه، مراقب لله في السر والعلانية، مستحضر خشية الله ومراقبته إياه في تعامله مع الناس. لا يحيد عن الحق، ولا ينحرف عن جادة السبيل.
أيها المسلم، ومن أهم الجوانب التي تتعهد بها روحك، ومن أهم الزاد لها، أن تلزمها برفيق صالح ومجالس إيمان.
يقول الله تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـ?هَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـ?هَا [الشمس:7-10]، ومن هنا كان المسلم مطالباً بأن يحسن اختيار الأخلاء والبيئات التي لا تزيده إلا إيماناً وصلاحاً وتقوى وتبصرة، وأن يعرض عن رفاق السوء من شياطين الإنس وعن مجالس الفحش والمعصية، التي تظلم فيها النفس، ويصدأ القلب. قال الله تعالى: وَ?صْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِ?لْغَدَاةِ وَ?لْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
أيها المسلمون، ومما ينبغي أن يحافظ عليه المسلم، ويتعاهده لأنها خير زاد لروحه. المداومة على الأذكار والأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل عمل من الأعمال. فلقد كان له صلى الله عليه وسلم في الخروج من البيت دعاء، وللدخول فيه دعاء، ولوداع المسافر دعاء، ولاستقباله دعاء، وللبس الثوب الجديد دعاء، وللاضطجاع في الفراش دعاء، وللاستيقاظ من النوم دعاء، وهكذا لم يكد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم بعمل إلا وكان له فيه ذكر، يتوجه به لله تعالى، أن يلهمه القصد ويجنبه العثار، ويلطف به، ويكتب له الخير، مما هو مبسوط في كتب الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلو اقتنيت أحد هذه الكتيبات الصغيرة، المحتوية على أذكار اليوم والليلة، وحفظت شيئاً منها مما تمارسه دائماً في حياتك، لكان ذلك نافعاً لك.
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها...
(1/2977)
علاقة المسلم مع ربه
الإيمان, التوحيد
الألوهية, الله عز وجل
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
24/1/1413
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- علاقات الإنسان المختلفة والتقصير الحاصل فيها أو في بعضها. 2- التوحيد أول حقوق الله على عباده. 3- الإيمان بالقضاء والقدر وكيفية التعامل مع المصائب. 4- الصلوات الخمس تقوي علاقة المسلم بربه. 5- أحاديث في فضل الصلاة وأهميتها. 6- الزكاة باب آخر من أبواب عبوديتنا لله. 7- النوافل سبيل محبة الله ورضاه. 8- تحقيق العبودية الكاملة لله عز وجل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن هناك أزمة واضحة للمتأمل في واقع المسلمين بشكل عام وفي واقعنا بشكل خاص. هناك أزمة كبيرة في إقامة المسلم جسور علاقة مع غيره، لا يكون فيها تقصيراً، ولا خللاً، الإنسان مدني بطبعه، لا يعيش وحده، لابد له من علاقات يقيمها مع غيره.حتى رأينا وسمعنا عن بعض الناس في دول الكفر، يقيمون علاقاتٍ مع بعض الحيوانات، بسبب أن أهله قد نبذوه أو لأي سبب آخر، فالشاهد أنه يقيم علاقة مع حيوان، تجده طول وقته معه، يأكل معه وينام معه ويكلمه ويتحدث إليه، وهكذا.
إذاً فلابد للإنسان من علاقات يقيمها مع الآخرين، وفي الإسلام ولله الحمد.وضعت ضوابط وأسس محدده ومحكمة في كيفية وشرعية علاقة المسلم بغيره.
أيها الإخوة، أعود لكلمتي الأولى، وهو أننا نعيش في أزمة علاقات، أزمة علاقات صحيحة نظيفة قائمة على العدل والإنصاف.
فكل منا له علاقات بغيره، لكن هل أدى الحقوق التي عليه، تجاه من يحب أحياناً أن يقيم معهم علاقات.
أيها المسلمون، الذي حملني على الكلام في هذا الموضوع، التقصير الذي نشاهده عند كثير من المسلمين في أحد العلاقات والحقوق وإن كان مؤدياً لحقوق أُخر.
فمثلاً، بعض الناس تجده حريصاً على صَلاته وغالباً تجده في الصف الأول، لكنه مقصر في صلة رحمه، فهذا قد أتى ببعض الواجب عليه في علاقته مع ربه، لكنه قصر في علاقته مع أقربائه، وآخر تجده منصرفاً إلى العبادة والعلم، ولكنه مقصر في تربية أولاده، لا يدري ماذا يقرؤون ومن يرافقون.
وثالث تجده مهتماً بأولاده، لكنه عاق لوالديه قاسٍ في معاملتهما، ورابع تجده بَراً بوالديه لكنه يظلم زوجته ويسيء معاشرتها.
وخامس تجده حسن العشرة لزوجته وأولاده، ولكنه يسيء معاملة جاره، وسادس تجده منصرفاً إلى شؤونه الخاصة مهتماً بما يعود عليه بالنفع، ولكنه مقصر في علاقاته الاجتماعية، واهتمامه بأمر المسلمين وهكذا. إلى آخر ما نعانيه من أزمات وتقصير في جوانب أخرى، يجب علينا وجوباً إكمالها، ونُعَد آثمين في تفريطنا بها.
أيها المسلمون، ولنبدأ معكم في جمعتنا هذه بأول وأهم وأوجب هذه العلاقات، وهي علاقة المسلم مع ربه.
أول نقطة وأول قضية، وأول ما يتطلبه الإسلام من المسلم في علاقته مع ربه أن يكون مؤمناً بالله حق الإيمان، أن يحقق التوحيد كما أمره الله، يثبت لربه ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، دون تحريف أو تعطيل أو تمثيل أو تشبيه، على حد قول الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ [الشورى:11].
ثم يكون وثيق الصلة بالله، دائم الذكر له والتوكل عليه، يحس في أعماقه أنه بحاجة إلى قوة الله وعونه وتأييده، يصرف جميع أعمال القلوب لربه.
كذلك من مقتضيات علاقة المسلم بربه، إيمانه بالقضاء والقدر، يعتقد بقلبه أن ما أصابه في هذه الحياة لم يكن ليخطئه، لا قِبَل له بدفعه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه.
كم سيرتاح المسلم في حياته، لو استقرت هذه العقيدة في قلبه، حق الاستقرار وتشرب فؤاده بها، لا يضجر ولا يتسخط مهما عصفت به رياح هذه الحياة. لكن الذين ضعف إيمانهم في هذا الأصل العظيم، تجدهم يتذمرون حتى من أقل الأشياء، لو أصيب بمرض صار يشتكي لفلان وفلان، لو حصلت له مشكلة بسيطة، أقام الدنيا وأقعدها. لو توفي أحد أقاربه، توقف عن العمل والذهاب والإياب، وتعطلت حياته، أين الإيمان بالقضاء والقدر، لماذا تشتكي الخالق للمخلوق يقول عليه الصلاة والسلام: ((عجباً لأمر المسلم إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) رواه البخاري.
أيها المسلمون، ومن أهم وأوجب ما يقوي علاقة المسلم بربه أداؤه للفرائض والأركان، وإكمال ما ينقص منها بالنوافل، وفي مقدمة هذه الأركان بعد تحقيق التوحيد والشهادتين، الصلوات الخمس، فالمسلم الذي يريد أن يقوي علاقته بربه، عليه أن يقيم الصلوات الخمس بأوقاتها في مساجد المسلمين، إذ الصلاة عماد الدين، فمن أقامها فقد أقام الدين، ومن تركها فقد هدم الدين، وهي أجلُّ الأعمال وأفضلها كما في الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) متفق عليه.
فلا شك أن الصلاة أجلُّ الأعمال وأفضلها، لأنها المورد الثّر الذي يتزود منه المسلم تقواه، ولأنها المنهل العذب النقي، الذي يغسل بنميره خطاياه.
فلا خير في مسلم لا يحافظ عليها، وكيف يريد العبد أن تكون علاقته بربه قوية متصلة وهو قد قطعها بإهماله صلاته.
إليكم أيها المسلمون، هذه الأحاديث النبوية في شأن الصلاة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه ـ أي وسخه ـ شيء؟)) قالوا: لا يبقى من درنه شيء؟ قال: ((فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)) متفق عليه.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل الصلوات الخمس كمثل نهر غمر جارٍ على باب أحدكم، يغتسل منه كل يوم خمس مرات)) رواه مسلم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله تعالى: وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ طَرَفَىِ ?لنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ?لَّيْلِ إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ [هود:114]، فقال الرجل: ألي هذا؟ قال: ((لجميع أمتي كلهم)) متفق عليه.
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله)) رواه مسلم.
إلى غير ذلك من الأحاديث والآثار والأخبار في بيان فضل الصلاة وأهميتها، في تقوية علاقة المسلم بربه.
تصلي بلا قلب صلاة بمثلها يكون الفتى مستوجباً للعقوبة
تظل وقد أتممتها غير عالم تزيد احتياطاً ركعة بعد ركعة
فويلك تدري من تناجيه معرضاً وبين يدي من تنحني غير مُخبت
تخاطبه إياك نعبد مقبلاً على غيره فيها لغير ضرورة
كذلك أيها الإخوة، لابد للمسلم أن يؤدي الزكاة، لا يقطع علاقته بربه بمنعه دفع الزكاة أو جزء منها.المطلوب منك يا عبد الله أن تحصي ما يتوجب عليك دفعه، من هذه الفريضة بكل دقة وأمانة وتقوى، ثم تنفقه في مصارفه المشروعة، ولو بلغ مقدار الزكاة المتوجبة عليه آلافاً كثيرة، أو ملايين، ولا يدور في خلد المؤمن أن يتهرب من بعض ما يتوجب عليه دفعه ذلك أن الزكاة فريضة مالية تعبدية محددة.لا يسع المسلم الصادق أن يتهاون في إخراجها كاملة كما بينتها الشريعة، وما يتلكأ في إخراجها مسلم إلا في تدينه غبش، وفي نفسه كزازة، وفي خُلُقِه إلتواء، ويكفينا أن نعلم أن حابسها يقاتل، ويهدر دمه لو أنكر وجوبها، حتى يؤديها كاملة كما بينتها أحكام الدين، وما تزال قولة الصديق رضي الله عنه في أهل الردة، تتردد في سمع الزمان، معلنة عظمة هذا الدين في ربطه بين الدين والدنيا: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) وإنه لقسم من أبي بكر يوحي بعمق فهمه لطبيعة هذا الدين الكامل المتكامل، وللعلاقة الوثقى بين الصلاة والزكاة في إقامة صرحه، إذ رأى آيات القرآن تترى، متضافرة متآزرة متعاقبة تقرن بين الصلاة والزكاة على هذا النحو المتلازم ?لَّذِينَ يُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ [النمل:3]، وقوله: وَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتُواْ ?لزَّكَو?ةَ [المزمل:20].
إذا اكتسب المال الفتى من وجوهه وأحسن تدبيراً له حين يجمع
وميز في إنفاقه بين مُصلح معيشته فيما يضر وينفع
وأرضى به أهل الحقوق ولم يُضع به الذخر زاداً للتي هي أنفع
فذاك الفتى لا جامع المال ذاخراً لأولاد سوءٍ حيث حلوا وأوضعوا
أيها المسلمون، فإذا ما أدى المسلم أركانه الخمس، فصلى صلواته، وصام شهره، وزكى ماله، وحج بيت ربه إن استطاع إليه سبيلاً، فبعد أن يؤدي هذه الواجبات. عليه أن لا يغفل جانب النوافل فيها كلها، فإن المسلم وهو يحاسب يوم القيامة، فإذا وجد خلل ونقص وتقصير في عبادته، ومن منا لا يسلم من الخلل والنقص والتقصير، فإنه يُنظَر في تطوعه إن كان له تطوع، فيكمل بها نقصه وخلله وتقصيره، وهذا من رحمة الله عز وجل بنا.
فاحرص ـ يا عبد الله ـ على السنن الرواتب، وكذلك احرص أن يكون لك حظ من قيام الليل. فنعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل، كذلك احرص على صيام التطوع كست أيام من شوال وصيام يوم عاشوراء، ويوم عرفة وأيام البيض وغيرها، كذلك ليكن لك إنفاق في سبيل الله غير الزكاة، صدقات تدفعها للفقراء والمحتاجين، فإنها تطفئ غضب الرب عليك، وإن الرجل ليتصدق بالصدقة فيتقبلها الله منه بيمينه، فيربيها عنده كما يربي أحدكم فُلوَّه، حتى يأتي يوم القيامة وتصير كالجبل، كلها حسنات في ميزان المسلم، كذلك الحج والعمرة، تابعوا بينهما، فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد.فهذه النوافل وغيرها من أهم ما يقرب العبد من ربه، يقول الله تعالى في الحديث القدسي الذي رواه البخاري في صحيحه: ((ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن إستعاذني لأعيذنه)).
اللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأقوال والأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: وإن من أهم ما يزيد علاقة المسلم بربه اعتقاده الجازم بأنه ما وجد في هذه الحياة إلا لعبادة ربه، أن يتمثل العبودية الكاملة لله قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
وعبادة الله تتمثل في كل حركة من حركات الإنسان الإيمانية البناءة لإعمار الكون، وتحقيق كلمة الله في الأرض وتطبيق منهجه في الحياة، كما تتمثل في شعور العبودية لله الواحد القهار، يستقر في ضمير المسلم، ويكون منطلقه في أعماله كلها، بحيث يبتغي بها وجه الله، وبذلك تكون أعمال المسلم عبادة كأداء الشعائر، ما دامت نيته في حركته كلها أنه يعمل في سبيل الله.
أيها المسلمون، إن أجلّ الأعمال التعبدية التي يقوم بها المسلم الحق في زماننا هذا، والذي هو من أهم ما يقوي علاقة المسلم بربه، العمل على تحكيم شريعة الله في الأرض، وتطبيق منهجه في الحياة، بحيث يحكم حياة الفرد والأسرة والمجتمع والدولة.
ذلك لأن الحكم بشريعة الله الآن، غائب عن الأرض، إلا في حياة أفراد وقليل ما هم. وهناك قرب من تحكيم كتاب الله في بعض المجتمعات، التي تسعى جادة مخلصة لتحقيق ذلك.
وإن المسلم الصادق في وقتنا هذا، ليشعر أن علاقته بربه تبقى ناقصة، إذا هو لم يبذل جهده لتحقيق الهدف الكبير الذي خلق الله الجن والإنس من أجله، ألا وهو إعلاء كلمة الله في الأرض، الذي به وحده تتحقق عبادة البشر لله: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ وبه وحده يتحقق معنى لا إله إلا الله، محمد رسول الله، في واقع الحياة.
أيها الإخوة في الله، من هذه الرؤية الراشدة، والتصور الواعي لحقيقة العبادة في الإسلام، لا يستطيع المسلم إلا أن يكون صاحب رسالة في هذه الحياة. هي أن يكون الحكم لله وحده في شتى شؤون الحياة، لا يكمل إسلامه إلا بحملها، ولا تتحقق عبادته لربه إلا بالعمل الجاد الدائب المخلص على تحقيقها، ولا يذوق طعم حلاوة العلاقة التي بينه وبين ربه إلا بها.
وهذه الرسالة هي التي تعطي للمسلم هوية الانتساب الصحيح للإسلام، وهي وحدها التي تدخله في زمرة المسلمين المجاهدين الصادقين، وهي التي تجعل الحياة في نظره ذات معنى، وتفضيل الله إياه على كثير ممن خلق.
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـ?هُمْ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَرَزَقْنَـ?هُمْ مّنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَفَضَّلْنَـ?هُمْ عَلَى? كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
فلابد للمسلم الصادق، الذي يزعجه حال أمته، ويضايقه حال مجتمعه وهو يرى المخالفات الكثيرة في كل ناحية لحكم الله عز وجل، ويرى بعينه أن أفكار العلمانيين تدخل كل مجال، دخلت في معاملات الناس، ودخلت في اقتصاد البلد وصار يحكم أخلاق الناس، بل صار للعلمانيين دور في توجيه عبادات الناس.
أقول والحالة هذه: فإنه لابد للمسلم أن يقبل على دين الله ويقبل على دعوة الإسلام وأن يسعى إلى إعادة شرع الله في واقع الناس، يقبل عليها، إقبال الربيع، فيهبها كل خيره، ويمنحها كل كنوزه، ويضع في سبيل نصرتها كل وقته وجهده وماله، ذلك أنها سمة حياته المتميزة ومعنى وجوده السامي وعنوان قربه من الله، لا طعم لحياته إلا بها، ولا معنى لوجوده بدونها ولا اطمئنان إلى رضوان الله إلا بالعمل المتواصل الدؤوب على تحقيقها.
أيها المسلمون، كيف يرضى المسلمون، بأن يقال عنهم، أن علاقتهم بربهم قوية متماسكة، وهذه الحقيقة الأساسية غائبة عن حياتهم. تحكيم شريعة الله.
إن أمتنا أيها الإخوة، صار لها زمن طويل لم تعرف العز والفخر بين أمم الأرض.
إن هذه الأمة صار لها زمن طويل وهي تمجد أصناماً، تظن أنهم سيقدمون الخير لها، إن شعوب هذه الأمة لم تذق طعم الإسلام الحقيقي منذ زمن بعيد.
تظن أن ما يطبق عليها وما تراه وتشاهده هو الدين الذي أمر الله به، وما علمت أنها العلمانية الحاقدة على شريعة الله.
وما علمت أن هؤلاء الذي يسوسونها هم في مقدمة مجرميها.
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي مطرقٌ خجلاً من أمسكِ المنصرم
ويكاد الدمع يهمى عابثاً ببقايا كبرياء الألم
أين دنياك التي أوحت إلى وتري كل يتيم نغم
أو ما كنت إذا البغي اعتدى موجة من لهب أو من دم
فيم أقدمت وأحجمتِ ولم يشتف الثأر ولم تنتقم
أمتي كم صنمٍ مجدت لم يكن يحمل طهر الصنم
فاحبس الشكوى فلولاك لما كان في الحكم عبيد الدرهم
اسمعي نوح الحزانى واطربي وانظري دمع اليتامى وابسمى
واتركي الجرحى تداوي جرحها وامنعي عنها كريم البلسم
ودعي القادة في أهوائها تتفانى في خسيس المغنم
(1/2978)
علاقة المسلم بوالديه
الأسرة والمجتمع
الوالدان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
14/3/1413
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قرن الله الإحسان إلى الوالدين بتوحيده وشكرهما بشكره. 2- الإحسان إلى الوالدين من أبواب الوفاء والجزاء بالمثل. 3- بر الأم مقدم على بر الأب لزيادة الفضل منها والمشقة. 4- بر الوالدين بعد موتهما. 5- آثار بر الوالدين في الدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: سبق أن تحدثنا معكم في مناسبات سالفة عن علاقة المسلم بربه، ثم عن علاقة المسلم بنفسه، وهذا هو الجزء الثالث، عن علاقة المسلم بوالديه. وذلك لأهمية هذا الموضوع، مما نشاهده ونسمعه في واقعنا، من جفوة كثير من الأبناء مع والديهم، فأحببت أن يكون هذا الموضوع تذكيراً لنفسي أولاً ثم لكم، عسى أن تحرك قلوبنا وتهز مشاعرنا وتوقظ غفلتنا لما يجب علينا من حقوق تجاه والدينا.
قضى الله أن لا تعبدوا غيره حتما فيا ويح شخص غير خالقه أمّا
وأوصاكموا بالوالدين فبالغوا ببرهما فالأجر في ذاك والرَّحما
فكم بذلا من رأفةٍ ولطافةٍ وكم منحا وقت احتياجك من نُعما
وأمك كم باتت بثقلك تشتكي تواصلُ مما شقها البؤس والغما
وفي الوضع كم قاست وعند ولادها مُشقّا يذيب الجلد واللحم والعظما
وكم سهرت وَجداً عليك جفونها وأكبادها لهفاً بجمر الأسى تَحمى
وكم غسلت عنك الأذى بيمينها حُنُوّاً واشفاقاً وأكثرت الضمّا
فضيعتها لما أسنت جهالة وضقت بها ذرعاً وذوقتها سمّا
وبت قرير العين ريّان ناعماً مكباً على اللذات لا تسمع اللوما
وأمك في جوع شديد وغربةٍ تلين لها مما بها الصخرة الصّما
أهذا جَزاها بعد طول عنائها لأنت لذو جهلٍ وأنت إذاً أعمى
أيها المسلمون، يقول الله سبحانه وتعالى: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً [النساء:36].
أيها المسلمون، لقد خلق الله الثقلين لعبادته وحده، وأمرهم سبحانه بتحقيق ما خُلقوا له وما أُمروا به، ليحقق لهم تعالى ما وعدوا به، وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبعد أن أمرهم تعالى بعبادته أمرهم أمر إيجاب وإلزام بالإحسان إلى الوالدين بقوله: وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً وقوله عز وجل: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]، يروى عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لا تقبل منها واحدة، بغير قرينتها. إحداها: قوله تعالى: وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ [التغابن:12]، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه، والثانية: قوله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه، والثالثة: قوله تعالى: أَنِ ?شْكُرْ لِى وَلِو?لِدَيْكَ [لقمان:14]، فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه).
أيها المسلمون، إن من تمام الوفاء وكرم الأخلاق التي جاء بها الإسلام أن تحسن محتسباً إلى من أحسن إليك، وفي هذا قول الله جل وعز: هَلْ جَزَاء ?لإِحْسَـ?نِ إِلاَّ ?لإِحْسَـ?نُ [الرحمن:60]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه)) وليس في الوجود أحد بعد الله سبحانه أسدى إليك أيها الإنسان معروفاً أكثر مما أسدى إليك أبوك وأمك، فقد ربياك صغيراً، وآثراك على أنفسهما كبيراً، وكانا قبل ذلك السبب في وجودك وبروزك في الحياة شخصاً سوياً، فقد بذلا مهجهما وراحتهما وما لهما لإنعاشك وإشعارك. إن مرضت مرضا معك، وإن سهرت سهرا معك، إن حضرت خافا عليك، وإن غبت بكيا عليك.
فمن أجل هذا، ومن أجل هذا، ومن أجل أن توفق لما أُمرت به من طاعة الله وبر الوالدين، فتسعد في دنياك وتنعم في أخراك. أمرك الله جل جلاله ببرهما والإحسان إليهما والعطف عليهما، وخفض الجناح لهما، والترحم عليهما ومخاطبتهما باللين والرفق واليسر والحسنى، ووصاك بهما تعالى، توصية تستجيش المشاعر، وتهز القلوب: وَوَصَّيْنَا ?لإِنسَـ?نَ بِو?لِدَيْهِ إِحْسَـ?ناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَـ?لُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً [الأحقاف:15]، وقوله: وَوَصَّيْنَا ?لإِنْسَـ?نَ بِو?لِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى? وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ ?شْكُرْ لِى وَلِو?لِدَيْكَ إِلَىَّ ?لْمَصِيرُ [لقمان:14].
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وأطيعوه فيما أمركم من بر الوالدين وطاعتهما، فإن برهما وطاعتهما من أكبر القربات المقربة إلى الله، وعقوقهما وعصيانهما من أكبر السيئات المبعدة عن الله. روى البخاري ومسلم رحمهما الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين)) قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) وعن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ـ ثلاثاً ـ)). قلنا: بلى. قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور)) فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت رواه البخاري ومسلم.
فاتقوا الله عباد الله، بِروا، تبّروا، وأحسنوا يحسن الله إليكم، وأطيعوا الله في والديكم، يطع الله فيكم أولادكم.
واعلموا كذلك رحمكم الله، إن بر الأم مقدم على بر الأب، وذلك لأنها تنفرد عن الأب بأشياء، منها مشقة الحمل وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاع، وكثرة الشفقة وقلة النوم وعظيم الخدمة والحنو.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك)). قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)).
وروى البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت، قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: قدمت على أمي وهي راغبة، أفأصل أمي، قال: ((نعم صِلي أُمَّكِ)).
لئن كان بر الوالدين مقدّماً فما يستوي في بِرَّه الأبُ والأمُّ
وهل يستوي الوضعان وضع مشقة ووضع التذاذ ذاك بُرءٌ وذا سُقْمُ
إذا التفتت نحو السماء بطرفها فكن حذراً من أن يصب قلبك السّهم
وفي آية التأفيف للحر مقنعٌ ولكنه ما كل عبدٍ له فَهْم
أيها المسلمون، وليس بر الوالدين مقصوراً على الحياة فقط، فإن من تمام البر وكماله، أن يبر الولد والديه حتى بعد موتهما.
فعن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبُرَّهما به بعد موتهما؟ قال: ((نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما)). وروى مسلم في صحيحه، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة فسلم عليه عبد الله بن عمر، وحمله على حمارٍ كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير فقال عبد الله بن عمر: "إن أبا هذا كان وداً لعمر، وإن في البر أن يبر الرجل وُدَّ أبيه" وقيل لعلي بن الحسين: إنك من أبر الناس ولا تأكل مع أمك في صفحةٍ فقال: أخاف أن تسبق يدي يدها إلى ما تسبق إليه عيناها فأكون قد عققتها.
فأين نحن أيها الأخوة، في هذا الزمان من هذه النصوص، التي تحثنا أن نبرَّ بأصدقاء آبائنا، ونحن والعياذ بالله مقصرون حتى في حقهما الشرعي الواجب علينا.
ويا للأسف إننا في زمن أكثر أهله لا يرى للوالدين حقاً، بل يستهين بهما، وينتقصهما، وربما شتمهما أو ما هو أعظم من ذلك، فلهذا ومع الأسف إنك تشاهد في هذا الزمان أن الوالدين هم الذين يخدمون، والولد هو المخدوم.
والأم، حالها يدمي القلب ويقطع الفؤاد إلا من رحم الله عز وجل.
فاتقوا الله عباد الله وأحسنوا إلى الوالدين ما أمكن لكم الإحسان. وإن حسبتم أنكم كافأتموهم، أخطأتم في ذلك الحسبان، وكونوا معهما في غاية الأدب والاحترام، واحذروا سوء الأدب عندهما، وإلا هويتم في هوة شقاء مالها من قرار خصوصاً الأم، فإن حقها أعظم، وما بذلته لك أكثر وأكثر.
لأمك حق لو علمت كبير كثيرك يا هذا لديه يسيرُ
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي لها من جَواها أنّةٌ وزفير
وفي الوضع لو تدري عليك مشقةٌ فكم غُصصٍ منها الفؤاد يطير
وكم غلت عنك الأذى بيمينها ومن ثديها شُرب لديك نَمِير
وكم مرةٍ جاعت وأعطتك قوتها حُنُواً وإشفاقاً وأنت صغير
فضيعتها لمّا أسنَت جهالة وطال عليك الأمر وهو قصير
فآهاً لِذي عقلٍ ويتّبع الهوى وواهاً لأعمى القلب وهو بصير
فدونك فارغب في عميم دُعائها فأنت لما تدعو إليه فقير
اللهم فاغفر لنا ولوالدينا..
اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم وأوسع مدخلهم، اللهم لا تفتنا بعدهم.
اللهم اجعلنا وإياهم ممن قلت فيهم: وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَ?تَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَـ?نٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَـ?هُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء [الطور:21].
اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، فإن منزلة بر الوالدين في الإسلام عظيمة ومرتبتها عالية، وآثارها كثيرة، ففيها الثواب الجزيل في الآخرة، أما في الدنيا فالجزاء بمثله من الأبناء.
وكذلك من آثار بر الوالدين، تفريج الكربات. فمن كان في كربة يا عباد الله فليبر والديه، ولعل حديث ابن عمر في الصحيحين معروفة في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله تعالى بصالح أعمالهم أن يفرج عنهم. فقال أحدهم: ((اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، أي لا أشرب ما أحلبه في المساء ولا أُشرب أهلي قبلهم، فجئت مرة وقد ناما، فلبثت والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت قليلاً)) وتوسل صاحباه بصالح أعمالهما فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون.
وكذلك يا عباد الله، فإن من آثار بر الوالدين سعة الرزق، وطول العمر، وحسن الخاتمة. وماذا يريد الإنسان، وماذا يتمنى المرء بعد هذا، سعةٌ في الرزق وطول في العمر وحسن الخاتمة. عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من سره أن يُمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه)).
وبر الوالدين يا عباد الله، أعلى صلة الرحم لأنهم أقرب الناس إليك رحماً.
وبعد كل هذا، وغيرها من الآثار الطيبة في الدنيا والآخرة، نجد والعياذ بالله، من يقدم زوجته على أمه، بل ويحب زوجته أكثر من أمه، وإنني والعياذ بالله التقيت مرةً رجلاً، يرضى أن تسب أمه، ولا يرضى أن تسب زوجته، فإنا لله وإنا إليه راجعون، من أنكاس الفطرة وقلة الحياء ورقة الدين.
أيها المسلمون، يا عبد الله:
فلا تطع زوجةً في قطع والدةٍ عليك يا ابن أخي قد أفنت العُمّرا
فكيف تُنكر أمّاً ثقُلكَ احتملت وقد تمرَّغت في أحشائها شُهُرا
وعالجت بك أوجاع النفاس وكم سُرّت لمّا ولدت مولودها ذكَرا
وأرضعتك إلى حولين مُكملةٍ في حجرها تستقي من ثديها الدُّررا
ومنك يُنجسَّها ما أنت راضعه منها ولا تشتكي نتناً ولا قذرا
وقل هو الله بالآلاف تقرؤها خوفاً عليك وترضى دونك السترا
وعاملتك بإحسان وتربية حتى استويت وحتى صرت كيف ترى
فلا تُفضّل عليها زوجةً أبداً ولا تدع قلبها بالقهر منكسرا
والوالد الأصلُ لا تنكر لتربيةٍ واحفظه لا سيما إن أدرك الكبرا
فما تؤدى له حقاً عليك ولو على عيونك صبحّ البيت واعتمرا
فاتق الله يا عبد الله، يا من أبكى والديه، يا من أبكى أبويه، وأحزنهما وأسهر ليلهما، وحمّلهما أعباء الهموم، وجرعهما غصص الفراق ووحشة البعاد، هلا أحسنت إليهما وأرضيتهما واضحكتهما، يبكيان عليك وأنت صغير إشفاقاً وحذراً، ويبكيان منك وأنت كبير، خوفاً وفرقاً، فهما أليفا حزن وحليفا هم وغم، فلما بلغت موضع الأمل، ومحل الرجاء قلتَ: أسيحُ في الأرض أطلب كذا وكذا، ففارقتهما على رغمها باكيين، وتركتهما في وكرهما محزونين، فإن غاب شخصك عن عيونهما لم يغب خيالك عن قلوبهما، ولئن ذهب حديثك عن أسماعهما، لم يسقط ذكرك عن أفواههما، ولطالما بكيا ولم يذوقا غمضاً إن تأخرت عن الرواح في المساء، فكيف إذا أغلقا بابهما دونك، وأبصرا خلواً مكانك ففقدا أُنسك، ولم يجدا رائحتك، فكان ملاذهما سح الدموع، فصار الولد خبراً، وكل غريب ولدهما، وكل ميت هو لهما، وسل عن حديثهما إذا لقيا إخوانك، وأبصرا أقرانك ولم يبصراك معهم، فهنالك تسكب العبرات، وتتضاعف الحسرات.
فنسأل الله عز وجل أن يطيل في أعمارهما بالبر والعمل الصالح، وأن يتوفاهما مسلمين.
اللهم اغفر لأمهاتنا...
(1/2979)
علم الله تعالى
الإيمان, التوحيد
الأسماء والصفات, الولاء والبراء
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
27/11/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة أسماء الله وصفاته. 2- من صفات الله العظيمة صفة العلم. 3- علم الله يليق بجلاله وكماله وعلم العباد يليق بأحوالهم وضعفهم. 4- والله أعلم بأعدائكم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن من إيماننا بالله أهل الإسلام، أن الله سبحانه وتعالى له أسماء حسنى وصفات علا تليق به وبجلاله وكبريائه، له صفات تدل على أنه الخالق، وأنه الإله، وأنه الرب، وأنه مالك الملك وأنه ذو الجلال والإكرام، وله أسماء حسنى، غير محصورة، فهي كثيرة جليلة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل إذا أصابه هم أو غم أو حزن أن يقول: ((اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أَمَتِك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري وجلاء حزني، وذهاب همي)) رواه الإمام أحمد.
هذا الحديث أيها الأحبة فيه دليل على أن أسماء الله وصفاته غير محصورة، بل هي كثيرة وكثيرة جداً ولا يشكل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)) فهذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة، ولا يمنع أن يكون هناك أسماء وصفات أخرى له سبحانه وتعالى كما دل عليه الحديث المتقدم.
أيها الأحبة المؤمنون، من صفات الله العظيمة، صفة العلم، والله عز وجل من أسماءه الحسنى "العليم" يُدعى به، ويتعبد له به، وهو سبحانه علام الغيوب. ولهذا يقول النبيون يوم القيامة عندما يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم؟ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـ?مُ ?لْغُيُوبِ [المائدة:109]، ويقول سبحانه لعيسى ابن مريم: أَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ?تَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَـ?هَيْنِ مِن دُونِ ?للَّهِ قَالَ سُبْحَـ?نَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـ?مُ ?لْغُيُوبِ [المائدة:116]. فالله عز وجل من صفاته العلم، وقد وصف بعض عباده أيضاً بالعلم، لكن ليس العلم كالعلم فهناك فروق بين علم الله وعلم خلقه:
الفرق الأول: أن علم الله سبحانه وتعالى غير مسبوق بجهل، بل عليم منذ الأزل. لم يكن في وقت من الأوقات غير عالم، ثم أصبح بعد ذلك عالماً، لا، بل علمه سبحانه صفة لذاته وأوليته، لم يخفَ عليه شيء قبل أن يخلق خلقه. وعلم سبحانه ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، فهو يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن ،لو كان كيف يكون.
أخبر سبحانه عن علمه بالكفار عندما قال فيهم: وَلَوْ رُدُّواْ لَعَـ?دُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَـ?ذِبُونَ [الأنعام:28]، فهو عليم بخلقه، علمٌ غير مسبوق بجهلٍ أبداً.
بينما المخلوق، تجده يوصف أحياناً بأنه عالم أو عليم، أو حتى علاّمة، لكنه مع ذلك علمه مسبوق بجهل، مرت عليه سنين وهو راتع في الجهل، لا يعلم شيئاً، ثم استفاد بعد ذلك العلم. الله عز وجل بخلاف ذلك، لم يأت عليه وقت لم يكن عالماً بخلقه، بل علمه بك قبل أن يخلقك وأنك ستعمل كذا، وستترك كذا، وسينالك كذا وكذا. والملائكة وهم من خلقه قالوا: سُبْحَـ?نَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ ?لْعَلِيمُ ?لْحَكِيمُ [البقرة:32]، لأنهم يجهلون، ولا علم لهم إلا ما علمهم سبحانه. والله جل شأنه لا يقال عنه، عارف، لأن المعرفة مسبوقة بجهل، بل يقال: "العليم الخبير، العليم الحكيم، السميع العليم " ، والإنسان يوصف بالمعرفة كما قال الأول:
عرفت الشر لا للشر ولكنه لتوقيه ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه
الفرق الثاني: بين علم الخالق والمخلوق، هو أن علم الله وساع، بينما علم المخلوق محدود، ولهذا قال سبحانه: وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَىْء عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ [الأنعام:80]، وقال عز وجل في شأن شعيب عليه السلام لما آذاه قومه وأرادوا منه أن يعود في ملتهم ودينهم قال: قَدِ ?فْتَرَيْنَا عَلَى ?للَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ?للَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء ?للَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا عَلَى ?للَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا ?فْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِ?لْحَقّ وَأَنتَ خَيْرُ ?لْفَـ?تِحِينَ [الأعراف:89]، وقال تعالى: وَأَنَّ ?للَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَا [الطلاق:12]، وقال جل شأنه في آية الكرسي: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء [البقرة:255]، فما شاء الله أن يعلمه الخلق من علمه فإنه يُعلمهم إياه، فالأمر راجع إليه سبحانه، ولهذا ذم الله الكفار على كذبهم وذكر أن المانع لهم من الإيمان أنهم كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، فقال سبحانه مبيناً قلة علم هؤلاء ومحدوديته: بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس:39]، بل قال سبحانه في الملائكة: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110]، فعلم الله واسع، وعلم المخلوق محدود، قال الله تعالى مبيناً ارتباط الألوهية بسعة العلم: إِنَّمَا إِلَـ?هُكُمُ ?للَّهُ ?لَّذِى لا إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَىْء عِلْماً [طه:98].
الفرق الثالث: هو أن الله سبحانه وتعالى لا ينسى قال الله تعالى: لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ [البقرة:255]، وقال جل شأنه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً [مريم:64]، ولما جادل فرعون موسى في القرون الأولى: قَالَ فَمَا بَالُ ?لْقُرُونِ ?لاْولَى? [طه:51]، قال موسى: عِلْمُهَا عِندَ رَبّى فِى كِتَـ?بٍ لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى [طه:52]، فاحتج موسى على فرعون بأن الله لا ينسى شيئاً من أخبار تلك الأمم وما جرى لهم في سالف الزمن.بينما العبد المخلوق، ينسى ما كان يعلمه، أشياء كثيرة يتعلمها ويحفظها، فإذا دخل مرحلة الشيخوخة، نسي معظمها، وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ ?لْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً [الحج:5]، كان هذا الإنسان في يوم من الأيام عالماً يشار إليه بالبنان، وإذا به ينسى كثيراً مما كان يعلمه ويحفظه، فصار لا يعلم ولا يستحضر هذا شأن المخلوق، ضعيف، معرض للنسيان والجهل والقصور، بخلاف الخالق جل جلاله، فإنه لا ينسى أبداً، وعلمه من صفات ذاته قال الله تعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ?لْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـ?تِ ?لأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59]، تأمل في بعض معاني هذه الآية، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها.كل شجرة وكل نبات في الكون كله، لو أسقطت ورقة علمها عز وجل، بل أعظم من هذا، قال إلا في كتاب مبين: أي أنه كتب في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كتب أنه ستسقط ورقة من تلك الشجرة في ظلمة الليل، في تلك البقعة من الأرض، وهو بعد لم يخلق الشجرة، بل لم يخلق الأرض كلها، لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً.
الفرق الرابع: بين علم الخالق وعلم المخلوق: أن علم المخلوقات عن الشيء الواحد يتفاوت، فقد يكون هذا الإنسان نبياً، وهناك أشياء لا يعلمها.
انظر إلى قصة نبي الله سليمان عليه السلام مع الهدهد، وَتَفَقَّدَ ?لطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى ?لْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ?لْغَائِبِينَ لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَـ?نٍ مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنّى وَجَدتُّ ?مْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ?للَّهِ [النمل:20-24]. فماذا قال نبي الله سليمان؟ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ?لْكَـ?ذِبِينَ ?ذْهَب بّكِتَابِى هَـ?ذَا... [النمل:27، 28]، فسليمان نبي من عند الله عز وجل، ومع هذا يجهل أمر سبأ، وما هم فيه، ويأتيه بخبر القوم الهدهد، طائر صغير، مع أن سليمان عليه السلام مسخرةٌ له الجن والريح وكان ملكاً نبياً. فانظر تفاوت علم المخلوقات بأحداث الدنيا وما يجري فيها.
بل قد تعلم الحيوانات والدواب عن يوم القيامة وأنه في يوم الجمعة، وتخاف منه، وكثير من الإنس والجن لا يعلمون هذا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من دابة إلا وهي تفزع ليوم الجمعة إلا هذين الثقلين الإنس والجن)).
وانظر إلى علم الدواب والحيوانات بما يجري في القبور من العذاب على أهلها، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له، ونحن معه، إذ جالت به وكادت تلقيه وإذا أقبر ستة أو خمسة، فقال: ((من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟)) قال رجل: أنا، قال: ((فمتى ماتوا)) ، قال: في الشرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه)) فالبغلة جالت بالنبي صلى الله عليه وسلم وكادت أن تلقيه لسماعها لعذاب هؤلاء المشركين، والصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم لا يشعرون ولا يعلمون.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا...
إنك أنت العليم الحكيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن حسن النظر في معاني العقيدة والتأمل فيها كفيل بأن يريح الإنسان في هذه الدنيا، وأن يجعله مؤمناً حقاً، يعتقد في الله حق الاعتقاد. بأسمائه وصفاته وأفعاله. ومن ذلك أن الله عليم ويعلم.
يعلم ما تسرون وما تعلنون، ويعلم وأنتم لا تعلمون، ويعلم المفسد من المصلح، ويعلم ما في أنفسكم فاحذروه، ويعلم ما في السموات وما في الأرض، ويعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين، ويعلم من يخافه بالغيب، ويعلم ما تبدون وما تكتمون، ويعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون، ويعلم ما في البر والبحر ويعلم ما جرحتم بالنهار، ويعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، ويعلم ما تكسب كل نفس، ويعلم الله الذين يتسللون منكم لِواذاً، ويعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، ويعلم الله المعوقين منكم، ويعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم متقلبكم ومثواكم ويعلم السر وأخفى، ويعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم.
أيها المؤمنون، إذا كان الأمر كذلك وأن علم الله محيط بكل شيء فليطمئن المؤمن وليثق بربه وليتوكل عليه، ومما تكفل الله عز وجل بعلمه فأراحنا من أخذهم قوله جل شأنه في سورة النساء: وَ?للَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى? بِ?للَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى? بِ?للَّهِ نَصِيراً [النساء:45].
تأمّل في هذه الآية يا عبد الله، والله أعلم بأعدائكم، كثيراً ما يشغل الإنسان باله لمعرفة عدوه، وكثيراً ما يبحث الإنسان ويفتش ويبذل ربما كل ما يملك لمعرفة عدوه، والله عز وجل قد حفظ لنا ذلك كله. وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً. فلنفتش في كتاب الله، ولنتعرف على بعض أعدائنا، وهذا جزء يسير مما علمنا ربنا. فأولهم وفي مقدمتهم، الشيطان: إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ لِلإِنْسَـ?نِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [يوسف:5]. قال الله تعالى: وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة:168]، وقال جل شأنه: فَقُلْنَا ي?ـئَادَمُ إِنَّ هَـ?ذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ [طه:117]، ومن الأعداء الكفاء بجميع مللهم ونحلهم وأشكالهم وألوانهم كما قال تعالى: إِنَّ ?لْكَـ?فِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً [النساء:101]، فكل من صح أن يطلق عليه الكفر فهو من الأعداء، ويدخل في هذا اليهود والنصارى والشيوعيون والبعثيون، والملاحدة، والبوذيون، والمنافقون، وغيرهم من جميع ملل الكفر التي على وجه البسيطة دون استثناء. والكفر ملة واحدة، وبعضها أشر من بعض، لكن أهونهم وأخفهم عدوٌ لنا، فيجب علينا أن نتخذه عدواً.
ولما كان بعض ملل الكفر شرها وخطرها أعظم من غيرها، جاء التحذير منها على وجه الخصوص، وفي مقدمتهم، اليهود فإنهم في أعظم الأعداء قال الله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ?لنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ?لْيَهُودَ [المائدة:82].
فاليهود من أشد الجنس البشر عداوة لملة الإسلام وأهله، ولا يمكن الالتقاء معهم بأي حال من الحوال بنص كلام الله عز وجل.
وبعدهم في العداوة، المنافقون، كما قال تعالى: هُمُ ?لْعَدُوُّ فَ?حْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ?للَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4].
المنافقون كانوا ومازالوا، وسيزالون، هم الشرذمة التي تنخر في جسم هذه الأمة، وخطورتهم تكمن في تلبسهم بلباس الإسلام، فهم الأعداء الذين نحن بحاجة مستمرة إلى كشف عوارها، وهتك أستارها، وفضح رجالاتها. وَسَيَعْلَمْ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:237].
ومن الأعداء المجرمين. قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوّاً مّنَ ?لْمُجْرِمِينَ [الفرقان:31]. فكل مجرم قل أو كثر، كبر أو صغر مادام أنه مجرم، فهو عدو ينبغي الحذر منه، ومقاومته، والتخفيف من شره.
ومن الأعداء.الأزواج والأولاد، إذا منعوا الإنسان من طاعة الله، وإذا فعل الرجل الحرام وارتكب المعاصي لأجلهم، صاروا أعداءً له وإن كانوا أهله وأولاده: إِنَّ مِنْ أَزْو?جِكُمْ وَأَوْلـ?دِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَ?حْذَرُوهُمْ [التغابن:14].
ومن الأعداء: بعض الصداقات، التي لا تقوم على أساس التقوى، تجمعها المصالح أو تجمعها مجرد اللهو واللعب، فهذه تجر بأصحابها إلى عواقب وخيمة ونهايات مظلمة، وخاتمة سيئة قال الله تعالى: ?لأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ?لْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، فكل اجتماع، لا ينعقد أساساً على قال الله، قال رسول الله، حدثنا فلان، رواه البخاري أجمع أهل العلم، فهي اجتماعات، تحمل في طياتها عداوات، بانت لأصحابها أم خفيت.
أيها المسلمون، كم هي الخسارة عندما يكون هذا العبد الضعيف عدواً لله، يحارب دينه هؤلاء نهايتهم كما قال هو جل شأنه في حقهم، ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء ?للَّهِ ?لنَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ [فصلت:28]، قال تعالى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء ?للَّهِ إِلَى ?لنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [فصلت:19].
نسأل الله تعالى أن يستعملنا في طاعته وأن لا يستعملنا في معصيته.
(1/2980)
عمر المختار
سيرة وتاريخ
تراجم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن الأمة الإسلامية أيها الأخوة، كما هو معلوم لديكم، مرت بفترات ضعف وذلة لأعدائها. وهذا أمر ليس بغريب. فإن أية حضارة أو أية أمة، لها فترات تكون فيها قوية متينة متمكنة، وفترات ضعف وذلة وخور. ولا شك بأن الأمة الإسلامية الآن تعيش في فترة الضعف والذلة، إذا لم يكن أكبر الضعف والذلة لأعدائها. وقد تكالب أكلة القصعة عليها، ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، قالوا: أمن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: ((لا، إنكم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل)).
عباد الله، إن الحقيقة التي نريد أن نصل إليها في هذه الخطبة، بعد توفيق الله عز وجل ومنه وكرمه أن انتقال الأمة من حال الضعف إلى حال القوة، ومن تمكن الأعداء منها إلى تمكنها هي من أعدائها، وأن يحدث انتعاش ووعي على كافة المستويات، وأن يعي المجتمع أو الشعب الواقع الذي كان يعيش فيه، والواقع الذي لابد أن يصل إليه، إن هذه النقلة والتي نسميها بعبارة أخرى، الحركات الإصلاحية. لابد أن يتقدمها ويحركها ويوجهها العلماء، وبعبارة أخرى أيها الأخوة، إن علماء أية أمة، وعلماء أي مجتمع، لابد أن يكونوا هم في مقدمة الناس، يوجهونهم ويرشدونهم، ويبثون الوعي فيهم، ولا يمكن لأي مجتمع ولا لأي واقع، أن يتخلص من سيطرة أعدائه عليه، وأن يحصل إصلاح عام بين الناس، إذا تخلى العلماء وأصحاب الرأي والفكر عن دورهم. إذاً أيها الأخوة، لابد للحركات الإصلاحية أن يقودها العلماء العاملون.
ولو تأملنا، في تاريخ عالمنا الإسلامي لرأينا أن حركات الإصلاح التي قامت، كان وراءها العلماء الأفاضل المخلصون، خصوصاً الدول الإسلامية، التي وقعت في فترة من فتراتها تحت ظل الاستعمار الغربي، تجد أن الذي قاوم الاستعمار، وأن الذي أيقظ وألهب روح الجهاد وتحرير البلاد هم العلماء العاملون.
أيها المسلمون: لنتعرف في هذه الجمعة، على أحد هؤلاء العلماء، وعلى الجهاد الذي بذله في وجه الاستعمار في بلاده، فإن في معرفة سيرة هؤلاء ودراسة الأوضاع والأحوال التي مرت ببلادهم لعبرة وعظة، وفيها من الدروس والفوائد الشيء الكثير.
شخصية هذه الحركة الإصلاحية هو العالم الشيخ/ عمر المختار. وهذه الحركة قامت في بلاد المغرب على أرض ليبيا، ولنستعرض معكم أيها الأخوة كتب التاريخ، ولنقلب صفحاته لنتعرف على تلك الحركة الإصلاحية، ولنتعرف على ذلك الشيخ الفاضل.
ولد عمر المختار من أبوين مؤمنين صالحين عام 1858م أي قبل (134) سنة في بلدة البطنان ببرقة، ووالده السيد مختار عمر من قبيلة المنفة في بادية برقة، وقد توفي والده في طريقه إلى مكة لأداء فريضة الحج.
وهذه أول بادرة جديرة بالالتفات إلى حياة عمر المختار الذي ذاق مرارة اليتم في صغره، فكان هذا هو أول الخير في قلب البطل، ذلك أنه يتيم منكسر، والقلب المنكسر يشعر بآلام الناس، فإذا صادف مثل هذا القلب الإيمان ودخله حب الله وتغلغل فيه، تحول إلى قلب نوراني رحيم يلجأ إلى الله القوي المتين في كل أمره، ويحنو دائماً على الضعفاء والمساكين. ثم ذهب عمر إلى الجغبوب وهي منطقة عندهم لإتمام دراسته وبقي بها ثمانية أعوام، وأظهر من الصفات الخلقية السامية ما حبّب فيه شيوخ السنوسية.
والسنوسية، دعوة إسلامية أسسها الشيخ العالم المجاهد محمد بن علي السنوسي في تلك البلاد. أحبه شيوخ السنوسية وزعماءها فتمتع بعطفهم ونال ثقتهم حتى إن السيد محمد المهدي السنوسي عند انتقاله من جغبوب إلى الكفرة عام 1895م اصطحب عمر المختار معه.
وفي عام 1897م عيّنه السيد المهدي شيخاً لزواية القصور بالجبل الأخضر قرب المرج. وكان يقطن بهذه الزاوية، وحولها قبيلة العبيد، وهم أناس عرفوا بشدة المراس وقوة الشكيمة، وقد اختاره السيد المهدي لهذه الزاوية حتى يسوس شئونهم باللين تارة وبالعنف تارة أخرى، وحقق المختار ما عقده السيد المهدي على إدارته الحازمة من آمال.
وعندما قرر السيد المهدي الانتقال إلى السودان الغربي سنة 1312هـ كان المختار في طليعة من ذهبوا معه، وذلك حتى يسهم بنصيب في القتال الذي نشب وقتذاك بين السنوسية والفرنسيين في المناطق الجنوبية وحول واداي.
وأقام المختار في "قرو" مدة من الزمن، ثم عينه السيد المهدي شيخاً لزاوية "عين كلك" فاستمر المختار بالسودان الغربي وقتاً طويلاً نائباً عن السيد المهدي، وكان يقوم بتعليم أبناء المسلمين وينشر الإسلام في هذه البقاع النائية، فالمختار داعية كبير، له أثر واضح في الدعوة إلى الإسلام تميز بالمحاورة والإقناع وحسن الإرشاد والتوجيه.. إنه أستاذ في هذا الفن.. أبت نفسه الكبيرة أن يكتم ما يعلم وأن يقعد مع القاعدين، فانطلق يبشر برسالة الإسلام، وينقل الناس من الضلالة إلى الهدى ومن الظلام إلى النور.
وبعد وفاة السيد المهدي عام 1902م استدعي المختار إلى برقة وعُيّن مرة أخرى شيخاً لزاوية القصور، فبذل الهمة في حكم قبيلة العبيد وسياسة شئونها حتى سلس له قيادها، وكانت من أكبر القبائل عناداً حيث عجزت السلطات الرسمية عن إخضاعها. ولهذا فقد شكرت الحكومة العثمانية للمختار هذا النجاح.. وهذه موهبة أخرى للعالم البطل، فقد كان موهوباً بفطرته، حبته الأقدار موهبة الحكم والفصل بين الناس، والقدرة على الإدارة الحازمة.. فها هو يأتي إلى قبيلة عاتية، تحار فيها قوات الدولة، يأتيها الداعية القوي فتنقاد وتطيع وتمضي على نظام مكين، وما ذلك إلا لأن روح المختار روح قوية تؤثر سريعاً في كل من رآها أو خالطها أو عمل معها، وقد ظلت هذه الصفة فيه إلى آخر لحظة من حياته.
أيها المسلمون، لما فاجأت إيطاليا الدولة العثمانية بإعلان الحرب عليها عام 1911م، وقام الأسطول الإيطالي بإطلاق قذائفه على موانئ طرابلس وبرقة.. وقع على السنوسي عبء الدفاع عن البلاد التي نشأت فيها دعوتهم، وكانت مقر إمارتهم. فاحتشدت جموعهم في ميادين القتال خصوصاً في برقة، وبدأ كفاح صارم استمر مدة ثلاثين عاماً تحمّل أثناءه السنوسيون أعظم تضحية قدمتها أمة في العصر الحديث من أجل المحافظة على بقائها.
ومنذ مجيء الطليان إلى برقة وطرابلس حتى وقت خروجهم منها مهزومين مقهورين خطّ السنوسيون قصة كفاحهم بدمائهم وأقاموا الدليل بعد الآخر على أن الشعوب التي تعتز بعقائدها وتاريخها لا يمكن فناؤها مهما تضافرت ضدها القوى المادية التي تعتمد على البندقية والمدفع وإزهاق الأرواح. وانتشر في طول البلاد وعرضها خبر اعتداءات الطليان على برقة وطرابلس، واستنفرالزعماء السنوسيون شيوخ الزوايا للجهاد.. فكان شيخ زاوية المرج أول من خرج بجيش لنجدة العثمانيين، فكان وصول هذه النجدة مثبتاً لأقدام العثمانيين الذين استطاعوا مع السنوسيين مقابلة الطليان ثم إرغامهم على التقهقر إلى بنغازي. وكان في مقدمة الذين خفّوا لنجدة العثمانيين والالتحام مع العدو في برقة السيد عمر المختار، فقد كان رحمه الله يزور شيوخ السنوسية بالكفرة، وفي أثناء رجوعه إلى زاوية القصور بلغه نبأ نزول الطليان في بنغازي، فلم يلبث بمجرد وصوله إلى القصور أن أمر قبيلة العبيد المنتسبة لزاوية القصور الاستعداد للحرب وخرج بنجدة كبيرة، ثم تبعه بقية شيوخ الزوايا، وتتابعت المعارك وطالت الحرب، واستمر السنوسيون يضيقون الخناق على العدو.. بيد أن الصعوبات الشديدة سرعان ما أحاطت بالمجاهدين من كل جانب لانقطاع الموارد عنهم من أسلحة وذخائر ومؤن.. فانسحب عزيز المصري قائد القوة العثمانية بكامل قواته وسلاحه، وبقيت البلاد خالية من وسائل الدفاع.
وفي هذه الظروف الشديدة صمد السنوسيون في وجه الطليان، وتولى عمر المختار قيادة "الجبل الأخضر" ثم أُسندت إليه القيادة العامة للمجاهدين، ولم يتردّد هذا البطل المغوار في قبولها، فشكل جيشاً وطنياً جعل من خطته التزام الدفاع والتربص بالعدو، حتى إذا خرج الطليان من مراكزهم انقض المجاهدون عليهم فأوقعوا بهم شر مقتلة وغنموا منهم أسلاباً كثيرة أمدتهم بأكثر الأسلحة والعتاد مما كانوا في حاجة ملحة إليه. وظل الحال على هذا النوال حتى نشبت الحرب العالمية الأولى عام 1914م. ولما ازدادت الأمور سوءاً بين الأمير السنوسي محمد إدريس المهدي وبين الحكومة الإيطالية الفاشستية، اضطر الأمير إلى مغادرة البلاد عام 1923م إلى مصر. وقبل أن يرتحل عن بلاده نظم خطة الجهاد، وعهد بالأعمال السياسية والعسكرية في برقة إلى السيد عمر المختار نائباً عنه، كما نظم الجهاد في طرابلس وجعل القيادة العامة على الجميع للمختار.. إلا أن الأقدار أرادت أن يتوقف الجهاد بطرابلس. وكان ذلك معناه أن الثورة قد انتهت فعلاً وأن الأمر قد استتب للطليان في طرابلس أخيراً، وأن برقة وحدها هي التي أصبحت تحمل على عاتقها عبء الجهاد منفردة ضد العدو.. فوقع بذلك العبء كله على السيد المختار، وكان البطل أهلاً لذلك.
وأول الصعوبات التي قابلت المختار أن والي برقة الجديد أخذ يحل المعسكرات المختلفة في برقة عنوة، ثم قامت الحكومة باحتلال مقر الإمارة السنوسية، وإلغاء كل الاتفاقات التي أبرمتها إيطاليا مع السنوسية.. فانسحب المجاهدون إلى الجنوب، وشرعوا يوسعون دائرة عملياتهم حتى شملت منطقة الجبل الأخضر بأكملها. ووجد المختار ـ وقد استأنف الجهاد على نطاق واسع ـ أن من واجبه الاتصال بالأمير وإطلاعه على ما وقع من حوادث، وليتلقى منه التعليمات المفصلة بصدد الجهاد.. فسافر إلى مصر وقابل السيد إدريس ولقي كل إعزاز وتكريم.
وعاد المختار من مصر إلى برقة عن طريق السلوم مزوداً بتعليمات الأمير لمواصلة الجهاد. فأعد الطليان كميناً للقبض على المختار وصحبه، ولكن المختار صمد لهم وانقض هو وصحبه على القوة الإيطالية الغادرة وأبادوا أفرادها وتابعوا سيرهم إلى الجبل الأخضر. وبدأ كفاح جديد في عامي 1924م، 1925م، ووقعت معارك عدة، ولمع اسم المختار وسطع نجمه كقائد بارع يتقن أساليب الكرّ والفرّ ويتمتع بنفوذ عظيم، وأخذت القبائل العربية تنضم إلى صفوف المجاهدين. ولم يكن في استطاعة الطليان في هذه المرحلة أن يقوموا بنشاط حربي ملحوظ في منطقة الجبل الأخضر، فقصروا جهودهم على احتلال المركز السنوسي العتيد في الجغبوب، وأعدوا لهذا حملة عسكرية كبيرة من الجنود والسيارات المصفحة والمدافع الرشاشة.. وبسقوط مركز الجغبوب أضيفت متاعب جديدة للمختار الذي حمل على عاتقه العبء كاملاً.
ثم لجأ الطليان إلى محاولة بذر بذور الشقاق بين المجاهدين، وحاولوا استمالة السيد عمر المختار نفسه وعرضوا عليه عروضاً سخية من الأموال الطائلة، ومنّوه بالجاه العريض في ظل حياة رغدة ناعمة، ولكنهم لم يفلحوا. واستطاع الطليان بعد احتلال الجغبوب عام 1927م أن يقطعوا السبل بين المجاهدين في الجبل الأخضر وبرقة وبين مصر من الناحية الشرقية، وبين مراكز السنوسية الباقية في الجنوب فوضعوا المختار والمجاهدين في عزلة تامة في الشمال.
فهل وهن المختار وضعف ووجد اليأس إلى قلبه سبيلاً؟ كلا بل إن الأحداث لم تنل منه شيئاً.. وكان يبتسم ابتسامة الواثق بربه المؤمن برسالته، ويواصل الجهاد مهما تكن الظروف والنتائج.. وفي خلال هذه الظروف السوداء القاتمة ظل يشن الغارة بعد الغارة على درنه وما حولها، حتى أرغم الطليان على الخروج بجيوشهم لمقابلته فاشتبك معهم في معركة شديدة استمرت يومين كان النصر فيها حليفه.
ذلك هو عمر المختار على حقيقته.. أسد هصور وبطل مسلم، بدّد بحفنة من الرجال جيوش الإمبراطورية الإيطالية وجعلها تفر هاربة تاركة عتادها ومؤنها.. ولو لم يكن الرجل من أصل كريم ومعدن نفيس لما كان بهذه القوة النادرة.. كان كل ماحوله ينذر بالهزيمة، ويقيم الدليل على أن المعركة غير متكافئة، وأن النتيجة هي استيلاء إيطاليا في النهاية على ليبيا بأكملها.. فما جدوى القتال والكفاح؟ كان هذا هو منطق الحوادث، وهو منطق العقول والأوهام دائماً.. ولكنه ليس بمنطق الأبطال، الراغبين في الشهادة الذين يقاتلون مهما كانت النتائج، لأنهم يؤمنون بشيء واحد هو أن يموتوا شهداء.. وذلك هو مصدر القوة العجيبة التي تنفجر من قلوب الشهداء.
وسوف نكمل بقية القصة في الخطبة الثانية، بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: وحدثت جملة مفاوضات بين السلطات الإيطالية والسيد المختار لتهدئة الأحوال، وكثرت العروض المغرية لشخص المختار، ولكنه رفض كل العروض.. وبيّت الطليان النيّة على الإيقاع بالمختار وأسره، وتم الاتفاق على عقد هدنة لمدة شهرين تبين للمختار بعدها أنها مجرد مراوغة من إيطاليا لكسب الوقت، وأنها ترمي إلى القضاء على كل حركة تعمل لتحرير ليبيا من الغزاة.
وجاء جرازياني إلى برقة حاكماً عليها، وكان مزوداً بتعليمات صريحة من قبل الحكومة الفاشستية بضرورة القضاء على المقاومة في برقة. فأنشأ المحكمة الطائرة عام 1930م، وكانت هذه المحكمة تنتقل على متن الطائرات من مكان إلى آخر لإصدار الأحكام السريعة ثم تنفيذها في الحال.
ثم أخذ جرازياني يعمل على حل زوايا السنوسيين ومصادرة أملاكها، وفي الوقت نفسه بدأ ينفذ سياسة عزل الأهالي عن المجاهدين، فحشدهم في معتقلات امتدت من العقلية إلى السلوم. واستمر هجوم المجاهدين على مراكز الطليان، ونشبت معارك كثيرة، وفي إحدى المعارك عثر الطليان عقب انتهائها على نظارات السيد المختار، كما عثروا على جواده مجندلاً في ميدان المعركة، وأصد جرازياني منشوراً ضمنه هذا الحادث. وزحف الطليان لاحتلال الكفرة فاشتبكوا مع المجاهدين في معركة استخدموا فيها الطائرات.. وقاتل المجاهدون جميعاً بشجاعة وبسالة نادرة واستشهد منهم مائة في واقعة الهواري، وأسر الطليان ثلاثة عشر، واحتلوا الكفرة.
وكان لسقوط الكفرة أعظم الأثر في موقف المختار في الجبل الأخضر، ذلك أن جرازياني استطاع بذلك إغلاق الحدود المصرية إغلاقاً تاماً بمد الأسلاك الشائكة على طولها.. ومع ذلك فقد ظل المختار في الجبل يقود المعارك ويقاوم الطليان.
يقول جرازياني في بيان له عن الوقائع التي نشبت بين جنوده والسيد عمر المختار: إنها "كانت 263 معركة في خلال عشرين شهراً". هذا عدا ما خاضه المختار من المعارك خلال عشرين سنة قبلها.
ولما أراد الله أن يختم له بالشهادة ذهب كعادته في نفر قليل يقدر بأربعين فارساً، يستكشف مواقع العدو، ويتفقد مراكز إخوانه المجاهدين. ومرّ بواد صعب المسالك كثير الغابات، وعلمت به القوات الإيطالية بواسطة جواسيسها، فأمرت بتطويق الوادي، فما شعر المختار ومن معه إلا وهم وسط العدو، ودارت معركة، وعلى الرغم من كثرة عدد العدو واحتياطاته تمكن المجاهدون من خرق صفوفه ووصلوا إلى غربي سلطنه.. ففاجأتهم قوة طليانية أخرى، وكانت ذخيرتهم على وشك النفاذ، فاشتبكوا في معركة جديدة قتل فيها جميع من بقي مع المختار، وقتل حصانه أيضاً ووقع عليه، فتمكن من التخلص من تحته، وظل يقاوم وحده إلى أن جرح في يده، ثم تكاثر عليه الأعداء وغلب على أمره، وأسروه وهم لا يعرفون من هو. ثم عُرف وأُرسل إلى سوسة، ومنها أُركب الطراد إلى بنغازي حيث أُدوع السجن.
وعزا المختار في حديثه عند قدومه إلى بنغازي سبب وقوعه في الأسر إلى نفاذ ذخيرته، وأكد للمتصرف الإيطالي أن وقوعه في الأسر لا يضعف شيئاً من حدة المقاومة، إذ أنه قد اتخذ من التدابير ما يكفل انتقال القيادة من بعده إلى غيره. وختم المختار قوله بكلمات خالدة لابد أن نلقنها أبناءنا جيلاً بعد جيل لتكون مثلهم الأعلى في التوكل على الله والثبات على الحق، فقال: إن القبض عليه، ووقوعه في قبضة الطليان إنما حدث تنفيذاً لإرادة المولى عز وجل، وإنه وقد أصبح الآن أسيراً بأيدي الحكومة، فالله سبحانه وتعالى وحده يتولى أمره.. ثم أشار إلى الطليان وقال: "وأما أنتم، فلكم الآن وقد أخذتموني أن تفعلوا بي ما تشاؤن، وليكن معلوماً أني ما كنت في يوم من الأيام لأُسلم لكم طوعاً!".
وكان جرازياني وقت القبض على المختار يقضي أجازته في روما، فوصله الخبر يوم 12 سبتمبر 1931م وهو بالقطار الذاهب إلى باريس، فقطع رحلته واستقل طائرة أوصلته إلى بنغازي، ودعا "المحكمة الخاصة" إلى الانعقاد.. وجاء الطليان بالسيد عمر المختار إلى قاعة الجلسة مكبّلاً بالحديد وحوله الحرس من كل جانب.. وكانت محاكمة صورية شكلاً وموضوعاً، وكانوا قبل بدء المحاكمة بيوم واحد قد أعدوا "المشنقة" وانتهوا من ترتيبات الإعدام وتنفيذ الحكم قبل صدوره.. لقد استغرقت المحاكمة من بدئها إلى نهايتها ساعة واحدة وخمس عشرة دقيقة، وصدر الحكم بإعدام المختار.. فقابل ذلك بقوله: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ [البقرة:156].
وجمعوا حشداً عظيماً لمشاهدة التنفيذ وأرغموا أعيان برقة وبنغازي وعدداً كبيراً من الأهالي لا يقل عن عشرين ألفاً على حضور عملية التنفيذ.
وفي صباح يوم الأربعاء 11 سبتمبر 1931م نفذ الطليان في "سلوق" حكم الإعدام شنقاً في الشيخ عمر المختار.. وعندما وجدوا أنه لم يمت أعادوا عملية الشنق مرة ثانية. وكأنما الرعب يملأ قلوبهم من البطل حتى بعد وفاته، فما إن أتموا عملية الشنق حتى نقلوه إلى مقبرة الصابري بناحية بنغازي، ودفنوا جسده الطاهر في قبر عظيم العمق بنوه بالأسمنت المسلح، وأقاموا على القبر جنداً يحرسونه زمناً طويلاً خوفاً من أن ينقل المواطنون جثمانه الطاهر. وكأني به رحمه الله تعالى وهو يُقَّدم للموت يردد قول الشاعر:
أماه لا تجزعي فالحافظ الله إنا سلكنا طريقاً قد خبرناه
على حفافيه يا أماه مرقدنا ومن جماجمنا ترسو زواياه
أماه هذا طريق الحق فابتهجي بسلم باع للرحمن دنياه
هزأت بالأرض والشيطان يعرضها في زيفها ببريق الذل حلاه
عشقت موكب رسْل الله فانطلقت روحي تحوم في آفاق رؤياه
لا راحة دون تحليق بساحتهم ولا هناءَ لقلبي دون مغناه
العبرة من سيرة المختار وجهاده: المختار رجل قد حرّر قلبه من الأوهام والشهوات، ومن الشرك والضلال، ومن كل ظلمة تحجب نور الحق.. فأصبح دائم المراقبة لله، يراه في كل شيء ويحس بآياته.. إنه فريد في سيرته أحيا شيئاً كاد يندثر، أحيا معاني الإيمان التي كان الناس قد بدأوا ينصرفون عنها.
والمختار ليس أوّل من جاهد، ولا أول من استشهد إنما هو أحد أولئك الأبطال القلائل الذين يواصلون القتال رغم اليأس من نتيجة المعركة.. فهو بلغة الجيش رجل فدائي، وبلغة الإسلام من أولئك ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?ناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ [آل عمران:173]. وهذا الصنف هو أقوى ما عرفت البشرية وستعرف من الرجال.
وما أحوجنا في هذه الأيام إلى دراسة سيرته واقتفاء خطاها، وتربية الأجيال على هداها.. فالمختار كان داعية إلى الله، تربى على أيدي دعاة السنوسية، ولما اكتمل وترعرع، أدى الرسالة وبلغ الأمانة.. وكان على فهم صحيح لدينه يأخذه كُلاً لا يتجزأ، ديناً ودولة، عقيدة وعبادة، مصحفاً وسيفاً.. والمختار كان دائم الشباب، يتدفق النور والحرارة من قلبه رغم كبر سنه، وتلك طبيعة المقاتلين في سبيل الله. وإنك لتعجب حين تعلم أنه عُيّن قائداً عاماً وهو فوق الستين واستشهد وهو فوق السبعين.
ومن العبر الهامة في سيرة المختار أن الله لا يضيع جهاد المجاهدين ولا إيمان المؤمنين، إذا علم منهم صدق النية وحسن الطويّة.. فها هم أهل ليبيا جاهدوا طويلاً، ثم انتصرت إيطاليا عليهم، وبقيت صاحبة السلطان المطلق حتى عام 1942م، ثم أراد الله أن يحق الحق ويبطل الباطل، فجاءت الحرب العالمية الثانية، وكانت سبباً في نصر المظلومين، فعادوا إلى أوطانهم بعد أن أُخرجوا منها ظلماً.
والعبرة الأخرى أن الرجل لم يسع إلى الشهرة، لأن المخلصين لا يبحثون عنها، وإنما هي تبحث عنهم، ولكن العبرة من سيرته أن كل من أخلص وجاهد وعمل الصالحات ابتغاء رضوان الله، تكفل الله برفع ذكره في الدنيا فضلاً عن الآخرة.
وعبرة أخرى أن المختار كان ولياً من أولياء الله ـ ولا نزكي على الله أحداً ـ وقد صدقت فيه إشارات الحديث القدسي القائل: ((من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) ، وقد صدق الله وعده، ودمّر إيطاليا الفاشستية، ونكّل بقادتها شر نكال.
(1/2981)
فتح بيت المقدس
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
2/3/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إفساد النصارى لما استولوا على بلاد الشام. 2- التقاء الجيشين في حطين. 3- وقائع المعركة. 4- نتائج المعركة. 5- غيرة السلطان صلاح الدين لدين الله تعالى ورسوله. 6- العزم على فتح بيت المقدس. 7- وقائع معركة فتح البيت المقدس. 8- فتح بيت المقدس وما جرى فيه من أحداث. 9- خطبة محيي الدين زنكي. 10- معاناة المسلمين في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: استولى النصارى على بلاد الشام، وذلك في القرن السادس الهجري، وعاثوا فيها فساداً، وهذا شأن النصارى، كلما حلوا بأرض، فإنهم ينشرون فسادهم، ويبثون سمومهم.
ومن أقبح ما فعله النصارى، قبحهم الله، إضافة إلى مضايقتهم المسلمين أنهم لم يتركوا المسلمين يعيشون في بلادهم بحرية وإن كانوا دائماً يرفعون شعار الحرية، وحقوق الإنسان كذباً وزوراً، إضافة إلى هذا، مُنع الأذان في كثير من بلاد الشام نحو تسعين سنة، بما في ذلك المسجد الأقصى ووضعت الصلبان في كل مكان، حتى قبة الصخرة، رفعوا عليه صليباً كبيراً، وأدخلوا الخنزير في مساجد المسلمين وفعلوا وفعلوا أعظم من هذا.
لكن هذه الغشاوة، انقشعت عن المسلمين ولله الحمد، في معركة حطين وذلك بعدما زادت جرائم النصارى، وبلغ الظلم والقهر حده، عزم السلطان صلاح الدين على غزو النصارى، وتطهير البلاد منهم، وتخليص المسلمين من جرائمهم. فبرز السلطان من دمشق وسار بجيشه، لكنه انتظر قدوم ورجوع الحجاج، لأن النصارى كانوا يتعرضون لقوافل الحجاج أحياناً، وهم راجعون إلى الشام فلما جاز الحجيج سالمين نزل الجيش في منطقة، وانتظروا اكتمال الجيوش الإسلامية، فجاءت العساكر المصرية وتوافت الجيوش المشرقية فاجتمعوا حوالي اثني عشر ألفاً، فرَتب الجيش وسار قاصداً بلاد الساحل حيث تجمع النصارى. فسمع النصارى بتجمع المسلمين، فجهزوا جيوشهم وجاءوا بحدهم وحديدهم، واستصحبوا معهم الصليب، يحمله عباد الطاغوت في خلق لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل، حتى قيل أن عددهم كانوا قرابة الستين ألفاً، فتقدم المسلمون، وأول ما استولوا عليه بحيرة طبرية، واستفاد المسلمون بما فيها من الأطعمة والأمتعة وغير ذلك، وصارت البحيرة في حوزة المسلمين، ومنع الله الكفرة أن يصلوا منها إلى قطرة ماء، حتى صار النصارى في عطش عظيم، فتقدم المسلمون إلى سطح الجبل الغربي من طبرية عند قرية يقال لها: حطين.
وجاء النصارى وقد اجتمع ملوكهم من كل نواحي بلاد الشام، فتواجه الفريقان، وتقابل الجيشان وأسفر وجه الإيمان، وأظلم وجه الكفر والطغيان، ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان، وذلك عشية يوم الجمعة، فبات الناس على مصافهم، وأصبح صباح يوم السبت، الذي كان يوماً عسيراً على الكافرين، فطلعت الشمس على وجوه النصارى واشتد الحر وقوي بهم العطش وكان تحت أقدام خيولهم حشيش قد صار هشيماً من كثرة الدك، فصار ذلك شؤماً عليهم، فأمر قائد المسلمين صلاح الدين الأيوبي، أن يرمي عليهم بشظايا من النار، فتأجج الهشيم تحت سنابك خيول النصارى، فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال، وتبارز الشجعان، ثم أمر السلطان بالتكبير والحملة الصادقة على النصارى، فحملوا عليهم، وكان النصر من الله جل وعلا، فمنحهم الله أكتافهم، فقتل منهم ثلاثون ألفاً في ذلك اليوم، وأسر ثلاثون ألفاً من شجعانهم وفرسانهم وكان في جملة من أسر جميع ملوكهم، سوى ملك طرابلس فإنه انهزم في أول المعركة، وسلب المسلمون صليبهم الأعظم وقد غلفوه بالذهب واللآلئ والجواهر النفيسة، ولم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله ودفع الباطل وأهله، حتى ذكر أن بعض الفلاحين رآه بعضهم يقود نيفاً وثلاثين أسيراً من النصارى قد ربطهم بطنب خيمة، وباع بعضهم أسيراً بنعل ليلبسها في رجله، وجرت أمور لم يُسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين.
أيها المسلمون، فلما تمت هذه المعركة ووضعت الحرب أوزارها أمر السلطان بضرب مخيم عظيم، وجلس فيه على سرير المملكة وعن يمينه ويساره الأسرى، تتهاوى بقيودها فأمر بضرب أعناق جماعة منهم كان يذكر الناس عنهم شراً، ثم جئ بملوكهم فأجلسوا عن يمينه ويساره على مراتبهم، فأجلس ملكهم الكبير عن يمينه وبقيتهم عن شماله ثم جيء السلطان بشراب طيب فشرب منه ثم ناوله الملك فشرب، فتكلم أحد ملوك النصارى، وتعرض للرسول صلى الله عليه وسلم، غضباً منه لقومه الذين هزموا وقتلوا، فغضب السلطان وقام من مكانه وتحول إلى خيمة داخل تلك الخيام واستدعى ذلك الملك، فلما أوقف بين يديه قام إليه بالسيف ودعاه إلى الإسلام فامتنع، فقال له: نعم أنا أنوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانتصار لأمته، ثم قتله وأرسل برأسه إلى الملوك وهم في الخيمة، وقال لهم: إن هذا تعرض لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هكذا كان مواقف سلاطين المسلمين، مع ملوك النصارى، عندما كانوا يتعرضون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو للدين. وهرب كثير من النصارى في ذلك اليوم وهم جرحى فمات أغلبهم ببلادهم، وكان ممن مات ملك طرابلس الذي انهزم جريحاً فمات بها بعد مرجعه ثم أُرسل الصليب الكبير إلى دمشق ليودع في قلعتها فأُدخل الصليب منكوساً. ثم تحرك السلطان، واسترجع كثيراً من بلاد الشام يأخذها بلداً بلداً، إقليم الأردن ثم سار إلى عكا ثم صيدا ثم بيروت ثم رجع نحو غزة وعسقلان ونابلس وبيسان وأراضي الغور، فملك ذلك كله، وغنم الجيش من هذه الأماكن شيئاً كثيراً، ثم إن السلطان أمر جيوشه أن ترتاح في هذه الأماكن عدة شهور، لكي تتجهز لفتح بيت المقدس، فانتشر الخبر على عزم المسلمين فتح بيت المقدس، فطار الناس بهذا الخبر، فجاء العلماء والصالحون تطوعاً، فاجتمع من عباد الله ومن الجيوش شيء كثير جداً، فعند ذلك قصد السلطان صلاح الدين القدس بمن معه، فنزل غربي بيت المقدس فوجد البلد قد حصنت غاية التحصين وكانوا ستين ألف مقاتل والتحق بهم من فر ونجا يوم حطين. فأقام صلاح الدين خمسة أيام وسلم إلى كل طائفة من الجيش ناحية من السور وأبراجه، ثم تحول هو إلى ناحية الشام لأنه رآها أوسع للمجال والجلاد والنزال وقاتل النصارى دون البلد قتالاً هائلاً وبذلوا أنفسهم وأموالهم، ولكن في سبيل الشيطان، واستشهد في الحصار بعض أمراء المسلمين، فحنق عند ذلك كثير من الأمراء والصالحين واجتهدوا في القتال ونصب المجانيق، وغنّت السيوف، والعيون تنظر إلى الصلبان منصوبة فوق الجدران وفوق قبة الصخرة صليب كبير، فزاد ذلك أهل الإيمان شدة في التشمير وكان ذلك اليوم يوماً عسيراً، على الكافرين غير يسير، فبادر صلاح الدين بأصحابه إلى الزاوية الشرقية الشمالية من السور فنقبها وحشاها وأحرقها فسقط ذلك الجانب وخرّ البرج برمته فلما شاهد النصارى ذلك الحادث الفظيع والخطب المؤلم الوجيع، طلبوا الأمان والصلح، فرأى صلاح الدين أن ذلك أصلح وإن كان في البداية امتنع ورأى قتل كل النصارى، فرضي بالصلح على أن يبذل كل رجل منهم عن نفسه عشرة دنانير وعن المرأة خمسة دنانير وعن كل صغير وصغيرة دينارين، ومن عجز عن ذلك كان أسيراً للمسلمين، وأن تكون الغلات والأسلحة والدور للمسلمين، وأنهم يخرجون كلهم من بيت المقدس، فكتب الصلح بذلك. فكان جملة من أسر بهذا الشرط ستة عشر ألف أسير من رجال ونساء وولدان.
ودخل صلاح الدين بيت المقدس يوم الجمعة قبل وقت الصلاة. ولم يتمكن المسلمون من إقامة صلاة الجمعة في تلك الجمعة لضيق الوقت وأقيمت في الجمعة القادمة وكان الخطيب محيي الدين بن الزكي. فدخل المسلمون المسجد الأقصى، ونظفوا المسجد مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير، وأعيد إلى ما كان عليه في الأيام الإسلامية، وغسلت الصخرة بالماء الطاهر، وأعيد غسلها بماء الورد والمسك، وأبرزت للناظرين، وقد كان النصارى قلعوا منها قطعاً فباعوها بوزنها ذهباً، فتعذر استعادة ما قطع منها. ثم قبض من النصارى ما كانوا بذلوه عن أنفسهم من الأموال، وأطلق صلاح الدين خلقاً منهم، بنات الملوك بمن معهن من النساء والصبيان والرجال ووقعت المسامحة في كثير منهم، وشفع في أناس كثير فعفا عنهم، وفرق صلاح الدين جميع ما قَبض منهم من الذهب في العسكر، ولم يأخذ منه شيئاً، وكان رحمه الله حليماً كريماً مقداماً شجاعاً رحيماً.
أيها المسلمون، ولما تطهر بيت المقدس مما كان فيه من الصلبان والنواقيس والرهبان والقسس، ودخل أهله الإيمان ونودي بالأذان، وقرئ القرآن، ووحد الرحمن كان أول جمعة صلاها المسلمين بعد يوم الفتح بثمانية أيام، وذلك بعد توقف الصلاة تسعين سنة والله المستعان، وأُتي بالمنبر، وهذا المنبر له قصة، وهي أن نور الدين وكان هذا قبل صلاح الدين رحمهما الله أجمعين كان قد عزم على فتح بيت المقدس وطرد النصارى وإرجاع الأذان والصلاة والجمعة فيها، فلما عزم على جهاد النصارى، صنع المنبر الذي سوف يوضع هناك، قبل الجهاد، وذلك لقوة يقينه بنصر الله عز وجل، فتوفي رحمه الله قبل أن يتم الله له ما أراده، فأكمل المشوار بعده صلاح الدين، فلما كانت الجمعة أُحضر ذلك المنبر ونصب إلى جانب المحراب ثم بسطت البسط وعلقت القناديل وتلي التنزيل وجاء الحق وبطلت الأباطيل وصفت السجادات وكثرت السجدات وتنوعت العبادات وارتفعت الدعوات ونزلت البركات وانجلت الكربات وأقيمت الصلوات، وأذن المؤذنون وخرس القسيسون، وعُبد الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وكبره الراكع والساجد، والقائم والقاعد، وامتلأ الجامع وسالت لرقة القلوب المدامع، فلما أذن المؤذن للصلاة قبل الزوال، كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال لأن الأذان لم يرفع في ذلك المسجد ثنتين وتسعين سنة.
فنسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحقق آمالنا في القدس مرة أخرى وأن يخلصها من وطأة يهود، كما خلصها من النصارى وأن يهيئ لهذه الأمة، أمثال صلاح الدين ونور الدين، فيقفوا مواقف الحكام الصادقين المخلصين، الحريصين على دينهم وأمتهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
لحى الله اليهود فما أقاموا لعهد الله في المحراب وزنا
بلادي كل أرضٍ ضح فيها نداء الحق صبّاحاً مغنّى
ودوى ثم بالسبع المثاني شباب كان للإسلام حصنا
ترى القدس الحزين لنا ينادي وما من سامع قد هبّ منّا
ينادي المغرب المقدام مصراً ويدعو قُدسُ لبان المعنّى
ويهوى القلب شهباء المعالي وفي بغداد للإسلام معنى
إلى الصومال آذتها جراح ففي صنعاء إخوان المثنى
نفعني الله وإياكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فكم كانت نفوس المسلمين مشتاقة لأن تسمع أول خطبة يقام في بيت المقدس بعد هذا الانقطاع الطويل، ولم يكن قد عين الخطيب الرسمي فأمر صلاح الدين أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي خطيباً، فلبس رحمه الله عباءته وخطب في الناس في ذلك اليوم خطبة سنية فصيحة بليغة، وذكر فيها شرف بيت المقدس وما ورد فيها من الفضائل والترغيبات وما فيه من الدلائل والأمارات، وكان أول ما قال رحمه الله أن قرأ هذه الآية: فَقُطِعَ دَابِرُ ?لْقَوْمِ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ وَ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأنعام:45]، ثم أورد تحميدات القرآن كلها ثم قال: "الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومزيد النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدر الأيام دولاً بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاض على العباد من طله وهطله الذي أظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع، أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه ونصرة أنصاره، ومطهر بيت المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه وأرضى به ربه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رافع الشكر، وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أسرى به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السماوات العلى، إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، مازاع البصر وما طغى، صلى الله عليه وعلى خليفته الصديق السابق إلى الإيمان وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان، ذي النورين جامِع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسر الأصنام وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
ثم ذكر الموعظة وهي مشتملة على تغبيط الحاضرين بما يسّره الله على أيديهم من فتح بيت المقدس، فذكر فضائله ومآثره وأنه أول القبلتين، وثاني المسجدين، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تقعد الخماصر بعد الموطنين إلا عليه، وإليه أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام، وصلى فيه بالأنبياء والرسل الكرام، ومنه كان المعراج إلى السموات ثم عاد إليه ثم سار منه إلى المسجد الحرام على البراق، وهو أرض المحشر والمنشر يوم التلاق وهو مقر الأنبياء ومقصد الأولياء، وقد أسس على التقوى من أول يوم. إلى آخر تلك الخطبة البليغة الجامعة.
فنسأل الله عز وجل، أن يحقق للمسلمين آمالهم وأن يُرجع لهم قدسهم وأن لا ينسوا القدس كما نسوا الأندلس من قبل وذلك في وسط ما يُضلل به المسلمون.
خلت فلسطين من أبنائها النجب واقفرت من بني أبنائها الشهب
طارت على الشاطئ الخالي حمائمه واطلعت سفن الإسلام والعرب
يا أخت أندلسٍ صبراً وتضحية وطول صبر على الأرزاء والنوب
ذهبت في لجة الأيام ضائعةً ضياع أندلس من قبل في الحقب
وطوحت ببنيك السيف نازلة بمثلها أمة الإسلام لم تُصبِ
أيها المسلمون، إن لكم إخواناً على أرض فلسطين، يواجهون هذه الأيام أبشع صور المجازر الوحشية، يقتل منهم كل يوم بالعشرات، وما تشاهدون وتسمعون عبر وسائل الإعلام لا يعد شيئاً لما هو على الحقيقة، وما لا يعرض ولا يذاع أضعاف أضعاف ما يعرض ويذاع، فإلى الله المشتكى، لكن أملنا كبير بالله عز وجل، وكما حصل الفتح الأول وسمعتم بعض أخباره، فإنّا على يقين بالفتح الثاني، وستعود القدس لأهلها إن شاء الله تعالى، هذا الأمل أيها الأحبة لم يأتي من فراغ، بل هو خبر صادق ووعد يقين، أمل منبعه كتاب الله ومشربه سنة رسول الله. وإن الأمة في انتظار هذا الأمل على أحر من الجمر.
أمل يخاطب خلسةً وجداني والطير يثقل كاهل الأغصان
أمل أحس به إذا انهار الظلام وقام صرح الصبح كالبنيان
وأحسه والطفل يبتدأ الخطى يهوي فينهض واهي الأركان
أمل يروادني وإن قيدت بالأغلال أو عذبت بالإحسان
أمل يراودني وإن ألجمت قلة حيلتي فكتمت سحر بياني
ويظل يحدوني على رغم الجراح تفتني وتغوص في وجداني
أمل يحدثني بعودة عزتي وكرامتي وجحافل الإيمان
شمّاء لاتحني الرؤوس لغاصب كلا ولا تخشى سوى الرحمن
تنفَضُّ من غفواتها مشحونةً بالثأر يدفعها إلى الميدان
ترمي العدو بحارقٍ من نارها وتعود تحمل راية السلطان
حلم أراه حقيقة تغزو الوجود وتستخف بسطوة الأحزان
فنسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحقق للأمة آمالها، وأن يرجع إليها قدسها.
(1/2982)
فضل العلم والعلماء
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
ناصر بن محمد الغامدي
مكة المكرمة
جامع سعد الحربي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العلم وأهله. 2- أهمية العلماء لسائر الناس. 3- العمل بالعلم. 4- منهج السلف في التعلم والعمل. 5- من آفات العلم والتعلم طلب الدنيا به. 6- كلمة في استقبال العام الدراسي الجديد. 7- قبض العلماء وذهاب العلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تبارك وتعالى حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واعلموا أنكم ملاقوه وإليه الرجعى، حاسبوا أنفسكم، وزنوا أعمالكم، وتزينوا للعرض الأكبر على الله، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى? مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].
عباد الله، يقول الله عز وجل: وَمَا كَانَ ?لْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ لّيَتَفَقَّهُواْ فِى ?لدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122].
إخوة الإسلام، لقد رفع الله تعالى شأن العلم وأهله، وبين مكانتهم، ورفع منزلتهم، فقال سبحانه وتعالى: يَرْفَعِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ دَرَجَـ?تٍ وَ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11]. ولم يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستزادة من شيء إلا من العلم، فقال له سبحانه وتعالى: وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً [طه:114]، وما ذاك إلا لما للعلم من أثر في حياة البشر، فأهل العلم هم الأحياء، وسائر الناس أموات.
العلم يجلو العمى عن قلب صاحبه كما يجلي سواد الظلمة القمر
فلولا العلم ما سعدت نفوس ولا عرف الحلال ولا الحرام
فبالعلم النجاة من المخازي وبالجهل المذلة والرَّغام
ولقد منع الله سبحانه المساواة بين العالم والجاهل، لما يختص به العالم من فضيلة العلم ونور المعرفة، قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ?لَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [الزمر:9].
فالعلم شرف لا قدر له، ولا يجهل قدر العلم وفضله إلا الجاهلون. قال عبد الملك بن مروان لبنيه: "يا بَنِيَّ! تعلموا العلم، فإن كنتم سادة فُقتم، وإن كنتم وسطاً سدتم، وإن كنتم سوقة عشتم".
فمن لم يذق مر التعلم ساعة تجرع ذل الجهل طول حياته
ومن فاته التعليم حال شبابه فكبر عليه أربعاً لوفاته
عباد الله، إن طلب العلم خير ما ضُيعت فيه الأعمار، وأُنفقت فيه الساعات، فالناس إما عالم أو متعلم، أو هَمَجَ رَعاع مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذ?لِكَ لاَ إِلَى? هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ ?للَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً [النساء:143].
ولقد جاءت نصوص الكتاب والسنة منوهة بفضل العلم وأهله، والحث على تعلمه وكسبه، فقد شرف الله تعالى هذه الأمة، حيث جعلها أمة العلم والعمل معاً، تمييزاً لها عن أمم الظلم والجهل.
وجاءت الصيحة الأولى المدوية التي أطلقها الإسلام في أنحاء المعمورة لتنوه بقيمة العلم والعلماء، وتسمو بقدره، وتجعل أول لبنة في بناء الأفراد والشعوب، وكيان الأمم والمجتمعات، القراءة والكتابة.
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ورَّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) رواه أبو داود.
عباد الله، بالعلم تُبنى الأمجاد، وتشيد الحضارات، وتسود الشعوب، وتبنى الممالك، بل لا يستطيع المسلم أن يحقق العبودية الخالصة لله تعالى على وفق شرعه، فضلاً عن أن يبني نفسه كما أراد الله سبحانه، أو يقدم لمجتمعه خيراً، أو لأمته عزاً ومجداً ونصراً إلا بالعلم. وما فشا الجهل في أمة من الأمم إلا قَوَّض أركانها، وصدَّع بنيانها، وأوقعها في الرذائل والمتاهات المهلكة.
وإن كبير القوم لا علم عنده صغير إذا التفت عليه المحافل
ومن سلك طريقاً يظنه الطريق الموصل إلى الله تعالى بدون علم، فقد سلك عسيراً ورام مستحيلاً، فلا طريق إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، والوصول إلى رضوانه إلا بالعلم النافع الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، فهو الدليل عليه، وبه يهتدى في ظلمات الجهل، وشبهات الفساد والشكوك.
والعلم الشرعي:وهو العلم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، هو القاعدة الكبرى التي تبنى عليها سائر العلوم، وحملة العلم الشرعي هم ورثة الأنبياء والأمناء على ميراث النبوة، ومتى ما جمعوا بين العقيدة الصحيحة والعلم الشرعي، المتوج بالأدلة الشرعية مع الإخلاص لله سبحانه، والتأدب بآداب العلم وأهله فهم الأئمة الثقات، والأعلام الهداة.
مثلهم في الأرض كمثل النجوم يُهتدى بها، قال صلى الله عليه وسلم والحديث في إسناده ضعف: ((إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة)).
قال الحافظ بن رجب عليه رحمة الله: "وهذا مثل في غاية المطابقة، لأن طريق التوحيد والعلم بالله وأحكامه وثوابه وعقابه لا يدرك إلا بالدليل، وقد بين الله ذلك كله في كتابه، وعلى لسان رسوله، فالعلماء بما أنزل الله على رسوله هم الأدلاء الذين يُهتدى بهم في ظلمات الجهل والشبه والضلال، فإذا فُقدوا ضل السالك".
العلماء بالله تعالى وبشرعه هم أهل خشية الله، وشهداء الله في أرضه، وخلفاء الرسول في أمته، فمن كان بالله أعرف كان منه أخوف، لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم الكريم، الموصوف بصفات الكمال، والمنعوت بالأسماء الحسنة، كلما كانت المعرفة به أتم، والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم، وأكثر.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (العالم بالرحمن من عباده:من لم يشرك به شيئاً، وأحل الحلال، وحرم الحرام، وحفظ وصية الله، وأيقن أنه ملاقيه، ومحاسبه بعمله).
فالخشية: هي التي تحول بين العبد وبين معصية الله، وتدعوه إلى طاعته والسعي في مرضاته. قال الحسن البصري رحمه الله: "العالم من خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغب الله فيه، وزهد فيما سخط الله فيه"، ثم تلا قول الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى ?للَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ?لْعُلَمَاء إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:28].
وهذا هو العلم الحقيقي الذي ينفع صاحبه، فإن العلم ليس عن كثرة المعرفة والحفظ، ولكن العلم عن كثرة الخشية، فهو نور يجعله الله في القلب، ولقد أحسن من قال:
لا تحسبن العلم ينفع وحده ما لم يتوَّج ربه بخَلاق
فالعالم بغير ورع ولا طاعة كالسراج يضيء البيت بنوره، ويحرق نفسه، وماذا يفيد العلم جماع القول المُصِرِّين على معاصيهم وأخطائهم، الذين يستمعون القول ولا يتبعون أحسنه.
روى عبد الله بن وهْب عن سفيان: أن الخضر قال لموسى عليهما السلام: يا ابن عمران! تعلم العلم لتعمل به، ولا تتعلمه لتحدث به، فيكون عليك بوره، ولغيرك نوره.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (أخوف ما أخاف إذا وقفت بين يدي الله أن يقول: قد علمت فماذا عملت).
وفي منثور الحكم: لم ينتفع بعلمه من ترك العمل به. فثمرة العلم أن يعمل به، لأن العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل. وخير العلم ما نفع، وخير القول ما ردع، ومن تمام العلم استعماله، ومن تمام العمل استقلاله، فمن استعمل علمه لم يخلُ من رشاد، ومن استقل عمله لم يقصر عن مراد.
وإن القلب ليعتصره الألم اعتصاراً حينما يرى بعض من طرقوا أبواب العلم الشرعي، فلم يرفعوا بذلك رأساً، تعلموا من العلوم والأحكام الكثير، ولكن الأثر مفقود.
وإن المرء ليتساءل! أين العلم الشرعي ممن أضاعوا الصلوات، وتَبِعوا الشهوات، وأين العلم الشرعي ممن أسبلوا الثياب، وحلقوا اللحى، وتعاملوا بالربا، وهجروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووقعوا في المعاصي، مع أنهم يعلمون يقيناً أن هذه كلها محرمة ممنوعة على المسلم. فالله المستعان.
وقد أثر عن الصحابة وجماعة من السلف، أنهم كانوا لا يتجاوزن عشر آيات من كتاب الله تعالى، حتى يتعلموا ما فيها من العلم ويعملوا به. قال بعض السلف: "كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به". فترك العمل بالعلم من أقوى الأسباب في ذهابه ونسيانه.
قال علي رضي الله عنه: (يا حملة العلم اعملوا به، فإن العالم من عمل بما علم، فوافق عمله علمه، وسيكون أقوام يتعلمون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف عملهم علمهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حِلَقاً، فيباهي بعضهم بعضاً، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه إذا جلس إلى غيره وتركه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله عز وجل).
ولقد ضرب المصطفى صلى الله عليه وسلم مثلاً لطلاب العلم، وأحوالهم في الاستفادة مما تعلموا، فقال: ((إن مثل ما بعثني الله عز وجل به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قِيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به)) رواه مسلم.
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن من آفات العلم، وأسباب محق البركة عنه أن تطلب به الرئاسة على الخلق، والتعاظم عليهم، وأن يريد طالبه بعلمه أن ينقاد له الناس، ويخضعوا له، وأن يصرفوا إليه وجوههم، فيظهر للناس زيادة علمه على العلماء ليعلو به عليهم، ونحو ذلك، فهذا موعده النار ـ عياذاً بالله منها ـ فقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، ويصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار)) رواه الترمذي.
وفي رواية لابن ماجه: ((لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء ولا تخيروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار)). قال الحسن البصري رحمه الله: "ولا يكن حظ أحدكم من علمه أن يقول له الناس: عالم".
كما أن عليه أن يخلص في طلب العلم لله تعالى، وأن يصبر فيه وعليه ويصابر، ويحذر من الاستعجال في الحصاد، فإن البداية مزلة، ومن تصدر قبل حينه، فضحه الله في حينه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله واشكروه وأطيعوه وراقبوه، ولا تعصوه، فإن التقوى هي أساس العلم، ومفتاح الفهم، وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَيُعَلّمُكُمُ ?للَّهُ وَ?للَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ [البقرة:282].
عباد الله، يستعد الأبناء في هذه الأيام لاستقبال عام دراسي جديد، يقضونه بين أروقة المدارس والمعاهد والجامعات، لينهلوا من مناهل العلم والمعرفة، على حسب مستوياتهم واتجاهاتهم، ويشجعهم على ذلك ويدفعهم أولياء أمورهم والقائمون على تدريسهم، من مربين ومدرسين، والذين يقع عليهم العبء الأكبر في تربية الناشئة التربية الإسلامية الهادفة، التي تعود عليهم بالنفع في دنياهم وآخرتهم، ولا يتم ذلك إلا بالتعاون الجاد بين البيت والمدرسة، وقيام كل منهما بما له وما عليه تجاه أبناء المسلمين.
فليعلم كل من اشتغل بالتدريس:أن أقل ما يُنتظَر من المعلم أن يكون مظهره إسلامياً، وأن يتقي الله سبحانه وتعالى في قوله وفعله وسلوكه، وأن يكون ذلك كله متفقاً مع شرع الله، في التعامل مع الطلاب، والتخاطب معهم، وأن يروا فيه القدوة الصالحة التي تحتذى.
وما اختلت موازين الأمة، وفسد أبناؤها ـ يا عباد الله ـ إلا حينما ضاع الأبناء بين أب مفرط، لا يعلم عن حال أبنائه، ولا في أي مرحلة يدرسون، ولا مع من يذهبون ويجالسون، ولا عن مستواهم التحصيلي في الدراسة، وبين مدرس خان الأمانة، وتهاون في واجبه، ولم يدرك مسؤوليته.
وهذا الحكم ليس عاماً، فإن بين صفوف المدرسين أتقياء بررة، ومربين أوفياء وهم كثير بحمد الله تعالى، وإن المنصف ليدرك دون شك جهد ذلك الجندي المجهول ـ المعلم المخلص ـ في تعليم الأجيال، وتربيتهم، وتقويم سلوكهم، وإن واجب الأمة نحوه:أن تشكر جهوده، وتؤدي إليه بعضاً من حقه، وأن تعرف له قدره واحترامه وفضله.
إن المعلم والطبيب كليهما لا ينصحان إذا هما لم يكرما
فاصبر لدائك إن أهنت طبيبه واصبر لجهلك إن جفوت معلماً
عباد الله، تعلموا رحمكم الله العلم النافع، وعلموه، فمن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، فإن العلم منه ما هو واجب على كل مسلم ومسلمة، لا يقدر أحد على تركه، إذ تركه مُخِلٌ بحياته ودينه، كأحكام العقيدة، والطهارة، والصلوات، والزكاة، والصوم، والحج، فالواجب على المسلم أن يسأل عن ذلك، ويتعلم أحكام دينه، فإنما شفاء العِيّ السؤال.
وكم هو شديد الوقع على النفوس ـ يا عباد الله ـ: أن يرى الناس مَن شاب رأسُه، ورقَّ عظْمُه، وهو يتعبد الله على غير بصيرة، ولقد يصلي بعض الناس أربعين سنة، أو عشرين سنة، أو أقل أو أكثر وهو لم يُصَلِّ في الحقيقة، لأن صلاته ناقصة الأركان، أو مختلة الشروط والواجبات.ومع ذلك لا يحاول تعلم أحكامها، بينما يُرى حريصاً على دنياه.
ويكفي هذا دليلاً على أن الله سبحانه وتعالى لم يُرِدْ به خيراً، ولو تعلم العلوم الدنيوية، وتبحر فيها، لأنها علوم معاشية فقط، لا تستحق مدحاً ولا ذماً. وقد وصف الله تعالى أصحابها بقوله تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ?لآخِرَةِ هُمْ غَـ?فِلُونَ [الروم:7]، بَلِ ?دَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِى ?لآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ [النمل:66].
قال ابن كثير رحمه الله: "فهؤلاء ليس لهم علم إلا بالدنيا، وأكسابها، وشؤونها، وما فيها، فهم حذاق أذكياء في تحصيلها، ووجوه مكاسبها، وهم غافلون عن أمور الدين، وما ينفعهم في الدار الآخرة، كأن أحدهم مُغَفَّلٌ لا ذِهْنَ له، ولا فكرة".
وقال الحسن البصري: "والله ليبلغ أحدهم بدنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره، فيخبرك بوزنه، وما يحسن أن يصلي".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في الآية: (والمراد بذلك الكفار، يعرفون عمران الدنيا، وهم في الدين جُهال).
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ: أن بقاء العلم الشرعي مرهون ببقاء حملته، فإذا ذهبوا وقع الناس في الضلال، حيث يكثر الجهل بعلوم الشريعة، وهذا من علامات الساعة، فحقيق بكل مسلم أن يحرص على طلب العلم، تعلماً، وتعليماً، وتطبيقاً. قال صلى الله عليه وسلم: ((إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم، ويَثْبُتَ الجهل، ويُشْرَب الخمر، ويظهر الزنا)) رواه مسلم.
وارتفاع العلم إنما يكون بموت العلماء، حيث يموت علمهم معهم.
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) رواه مسلم. والمراد بقبض العلم: هو موت العلماء، وذهاب الفضلاء والفقهاء، فقد جاء في تفسير قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى ?لأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَ?للَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ [الرعد:41]. عن عطاء رحمه الله قال: "هو موت العلماء وذهاب الفضلاء وفقهاء الأرض وخيار أهلها". وقال ابن عباس رضي الله عنه: (لا يزال عالم يموت، وأثر للحق يندرس، حتى يكثر أهل الجهل، ويرفع العلم).
فاتقوا الله أيها المسلمون، واحرصوا على تعلم العلم الشرعي، وتعلموا له السكينة والوقار، وهذبوا به أخلاقكم، وقوِّموا به أفعالكم وأقوالكم. ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه في قوله عز من قائل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه عشراً)) رواه مسلم.
(1/2983)
قاتل المائة نفس
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
أحاديث مشروحة, التوبة, القصص
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة قاتل المائة. 2- كلنا خطاء، وأنواع العصاة. 3- فوائد من القصة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: روى البخاري واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي قال: ((كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل على راهب، فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟ فقال: لا فكمَّل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل على رجل عالمٍ، فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها ناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوءٍ فانطلق، حتى إذا نَصَف الطريق، أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيراً قط. فأتاهم مَلك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى، فهو له.فقاسوه، فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة)).
هذا حديث صحيح مخرج في الصحيحين اللذين هما أصح الكتب بعد كتاب الله، ونحن نذكر هذا حتى يفرق المسلم بين القصص الصحيحة الثابتة عن النبي والقصص الباطلة التي ليس لها إسناد، فمثل هذه القصص الصحيحة يذكرها لنا النبي كي نأخذ منها العبرة والعظة والله تبارك وتعالى يقول: لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى ?لالْبَـ?بِ [يوسف:111].
أيها المسلمون، إن الله تبارك وتعالى قد خلقنا جميعاً مقصرين وإن أحدنا لا يمكنه أن ينفك عن الذنوب والمعاصي، فقد جاء عن النبي قوله: ((كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)).
والمسلمون تجاه معاصيهم ثلاثة أقسام: قسم غلب عليهم جانب اليأس والقنوط من رحمة الله، فهم خائفون وجلون من عذاب الله وعقابه ولا يحفظون إلاّ آيات العذاب والحساب، ولا يلقون بالاً إلى سعة رحمة الله ولا سبق رحمته غضبه، وهؤلاء ليسوا على الصراط المستقيم، وكلامهم كله تخويف، ومصاحبتهم مدعاة إلى اليأس من رحمة الله، ولكن هذا القسم قليل وقليل جداً.
أما القسم الثاني فهم الذين غفلوا من جانب الخوف من الله وتعلقوا بجانب الرجاء والرحمة وهم في الحقيقة لا يجهلون شديد عقاب الله ولا محرماته التي نهى عن انتهاكها ولا واجباته التي أمر بها، ولكنهم لا يحفظون إجابة أسرع من قولهم: إن الله غفور رحيم، يجيبون كل من أمرهم بواجب قصروا فيه أو محرم وقعوا فيه، وذلك لأنهم غرقوا في المعاصي، فصارت جزءً لا يتجزء منهم، فرضوا بواقعهم المرير وصاروا يبحثون عن كل ما يمكنهم جعله مبرراً لانحرافهم، حتى إن بعضهم صار ينفر من الموعظة وذكر الموت لأنه سيكون عقبة أمام حصول ملذاته والاستغراق في شهواته.
وهذا القسم يشتمل كثيراً من المسلمين الذين اغتروا بكثرتهم، فتجد أحدهم لا يريد تغيير واقعه، لأن أكثر الناس يفعلون مثل فعله، وصدق الله إذ يقول: وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ [الرعد:1]، وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الأعراف:187]، وقال تعالى: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ?لأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ [الأنعام:116].
وأما القسم الثالث فهم حزب الله وهم الذي يصدق عليهم قول الرسول : ((ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)) ، ويصدق عليهم قول الله تعالى: وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى? مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
فهم المؤمنون حقاً الذين يرجون رحمة الله، ولكنهم يخافون عذابه فلا يصرون على معصية، ويعلمون أن الله تبارك وتعالى ما خلقهم إلا لعبادته ولكي يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً،
وإن قصة قاتل التسعة والتسعين نفساً لمن القصص التي يجب علينا جميعاً معشر المسلمين أن نستفيد منها، وإن أهم الأمور التي نستفيدها من القصة أنه يجب على المرء لزوم الندم على ما كان منه رجاء مغفرة الله تعالى وتكفيره عن سيئاته.
ومن الفوائد أيضاً أن القتل وهو من أعظم الجرائم والكبائر يرجى العفو عن مرتكبه إذا تاب وأناب إلى الله العفو الكريم، فانظر رحمك الله كيف أن هذا الرجل قد قتل مائة نفس وليست نفساً واحدة، ومع ذلك فقد قبل الله توبته، وقد جاء في الحديث القدسي قول الله تعالى: ((يا ابن آدم لو لقيتني بقراب الأرض خطايا لقيتك بقرابها مغفرة)).
ومن فوائد القصة أيضاً: أن بيئة المرء التي يعيش فيها لها أكبر الأثر على سلوكه وعلاقته بالله جل جلاله، فالإنسان كالشجرة إذا نبتت في أرض سوء أخرجت ثمراً خبيثاً، وإن نبتت في أرض طيبة آتت أكلها طيباً بإذن الله.
وقد ذكر العلماء أن مفارقة التائب للمواضع التي أصاب فيها الذنوب من الأمور المستحبة والمعينة على ثبات التوبة وقوتها، وكذلك مقاطعة الحاثين له على المعصية واستبدالهم بصحبة من أهل الخير والصلاح المقتدى بهم، فمثلاً من كان يشرب الخمر وأقبل على الله ورغب في التوبة فإنه يشرع له بل يجب عليه أن يهجر أصحابه الذين يشربونها والمجالس التي تشرب فيها وأن يستبدل صحبته القديمة لهم ببعض الزيارات لهم أنفسهم، فيذكرهم بخطر ما هم عليه وعظيم نعمة الله عليه بالتوبة والطاعة.
ومن فوائد القصة أيضاً: أن العالم له فضل على العابد لأن الذي أفتاه أولاً بأن لا توبة له غلبت عليه العبادة، فاستعظم وقوع ذلك القتل الكثير، وأما الثاني وهو العالم فغلب عليه العلم فأفتاه بالصواب ودله على طريق النجاة، وفي هذا فضل العلم وطلبه خاصة في هذا الزمان الذي قلّ فيه طلاب العلم وكثر فيه الجهل والتنافس على الدنيا.
ومن الفوائد أيضاً: أن الله عز وجل يجازي عبده حسب نيته وعزمه، وإن لم يعمل بشرط أن يكون صادقاً في نيته وأن لا يترك العمل الصالح متعمداً، فهذا الرجل رحمه الله قبل أن يصل إلى القرية الصالحة وقبل أن يعمل شيئاً من الصالحات.
اللهم ارزقنا حسن النية وحسن العمل وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، ومن فوائد القصة الماضية أيضاً أن الذين يتولون قبض أرواح الناس يختلفون، فالصالح يتولى قبض روحه ملائكة الرحمة، ومن كان على خلاف ذلك، تولى قبض روحه ملائكة العذاب، فهنيئاً لمن كان قبض روحه على يد ملائكة الرحمة.
ومن الفوائد أيضاً أن على المسلم أن يتحرى أهل العلم الناصحين المخلصين عندما يريد السؤال وأن يبحث عمن يدله على الحق، لا كما يفعل بعض المسلمين فإنهم يسألون في أمور الدين أناساً لا خلاق لهم، إما من الجهلة أو من المتعلمين الذي لا يعملون بعلمهم، فإلى الله المشتكى.
أيها المسلمون، إن هذه القصة الصحيحة يجب أن يفرح بها من أكثر التوبة والاستغفار وصدق مع الله في ذلك ولم يصرَّ على معصيته، وهو ويعلم أنها تغضب الله فيستمر في رجوعه إلى الله ويبحث عن مزيد من التوبة والانكسار، أما من أصر على المعاصي واستهان بمحارم الله ورضي بواقعه المنحرف عن الجادة فلا حظّ له في هذه القصة، بل يخشى عليه أن تكون هذه القصة وأمثالها زيادة وبال عليه فيغتر بإمهال الله له فيتوغل في غيه. والله تعالى يقول: وَتِلْكَ ?لاْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ ?لْعَـ?لِمُونَ [العنكبوت:43].
نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في دينه وأن يوفقنا وجميع المسلمين إلى التوبة النصوح وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
(1/2984)
قصة أيوب عليه السلام
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
الفتن, القصص
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
30/12/1408
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ابتلاء أيوب عليه السلام. 2- كشف الضر ورفع البلوى. 3- الدنيا دار ابتلاء واختبار. 4- المؤمن في الدنيا مبتلى. 5- فوائد البلاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن الله عز وجل من حكمته البالغة، أنه قص علينا في كتابه العزيز، قصصاً كثيرة، وهذه القصص يا عباد الله، والتي تعرض علينا من خلال آيات القرآن، سواء كانت قصصاً لأقوام سبقونا، أو كانت قصصاً للأنبياء عليهم السلام، أو غيرها من القصص، كل هذا أيها الإخوة، لا يعرض علينا لنتسلى بها، ولا يعرض علينا لنتمتع ونتفكه بقراءتها.
إن قصص القرآن يا عباد الله، إنما تعرض من أجل العبرة والاتعاظ، وكذلك من أجل الدروس التربوية والأخلاقية، يقول الله عز وجل: لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى ?لالْبَـ?بِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى? وَلَـ?كِن تَصْدِيقَ ?لَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111]. ويقول سبحانه: فَبِهُدَاهُمُ ?قْتَدِهْ [الأنعام:90].
أيها المسلمون، نقف معكم مع قصة من قصص القرآن، ومع قصة نبي من أنبياء الله عز وجل، يضرب به المثل في الصبر، وهو نبي الله أيوب عليه السلام، وإذا ما ذكر الصبر ذكر معه أيوب عليه السلام، لأنه حصل له من أنواع البلاء، التي لا يصبر عليها إلا من ثبته الله عز وجل. قال الله تعالى في شأن أيوب عليه السلام ما جاء في سورة الأنبياء: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى? رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَيْنَـ?هُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى? لِلْعَـ?بِدِينَ [الأنبياء:83، 84]. وقال تعالى أيضاً في سورة ص، فيما يخص أيوب عليه السلام: وَ?ذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى? رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ ?لشَّيْطَـ?نُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ?رْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـ?ذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنَّا وَذِكْرَى? لاِوْلِى ?لاْلْبَـ?بِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَ?ضْرِب بّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَـ?هُ صَابِراً نّعْمَ ?لْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:41-44].
وخلاصة قصة أيوب عليه السلام أنه كان رجلاً كثير المال، أعطاه الله عز وجل من سائر صنوفه وأنواعه، من الأنعام والعبيد والمواشي، والأراضي المتسعة، وكان له فوق هذا من الأولاد والأهل العدد الكثير، فأي نعمة يا عباد الله بعد هذا، وماذا بقى من متاع الدنيا بعد كثرة الأهل والمال والولد، لكن الله عز وجل بحكمته البالغة، أراد أن يختبر عبده ونبيه أيوب عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، أراد أن يختبر صبره.
ولقد نجح عليه السلام في الاختبار، لأن الله عز وجل قال في آخر الآيات: إِنَّا وَجَدْنَـ?هُ صَابِراً نّعْمَ ?لْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ. فابتلاه الله عز وجل أن سلب منه جميع ماله، فعاد لا يملك شيئاً، كيف يكون حال الإنسان إذا عاد فقيراً بعد غنى.
وابتُلي أيضاً عليه الصلاة والسلام، ببلية أخرى أشد من الأولى، ابتُلي في جسده، فأصيب بأنواع من البلايا وأنواع من الأمراض، وقد طال عليه المرض، حتى عافه الجليس، وأوحش منه الأنيس، وانقطع عنه الناس، وأُخرج من بلده عليه الصلاة والسلام. ولم يبقَ أحد يحنو عليه سوى زوجته، فإنها كانت زوجة صالحة، كانت ترعى له حقه، وتعرف قديم إحسانه إليها، وشفقته عليها، فكانت تتردد إليه، فتصلح من شأنه، وتعينه على قضاء حاجته، وتقوم بمصلحته، مع ضعف حالها، وقلة مالها، حتى وصل بها الحال رحمها الله تعالى، أنها كانت تخدم الناس بالأجر لتطعم زوجها، وتقوم بأمره، رضي الله عنها وأرضاها من زوجة، وهي صابرة معه محتسبة، على ما حل بهما من فراق المال والولد، وما يختص بها من المصيبة بالزوج، وضيق ذات اليد، وخدمة الناس، بعد السعادة والنعمة والخدمة والحرمة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ومن شدة ما أصابها من البلاء، أن الناس بعد ما علموا أنها امرأة أيوب عليه السلام، لم يكونوا يستخدمونها، خوفاً أن ينالهم من بلائه، أو أن تُعديهم بمخالطته، فلما لم تجد أحداً يستخدمها، عمدت فباعت لبعض بنات الأشراف، إحدى ضفيرتيها بطعام طيب كثير، فأتت به إلى أيوب عليه السلام، فسألها: من أين لك هذا؟ فقالت: خدمت به أناساً، فلما كان من الغد، لم تجد أحداً، فباعت الضفيرة الأخرى، بطعام فأتته به، فأنكره وحلف لا يأكله، حتى تخبره من أين لها هذا الطعام؟ فكشفت عن رأسها خمارها، فلما رأى رأسها محلوقاً، قال في دعائه: أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83].
فأين نساء هذا الزمان من هذه المرأة، الصديقة البارة الراشدة، رضي الله عنها، فهل يستفيد نساء زماننا، شيئاً من زوجة أيوب عليه السلام، أم أن حالهن كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، هو كفران العشير، أين تلك المرأة التي تعرف حقيقة قدر الزوج، أين تلك المرأة التي تحتسب كل ما يصيبها عند الله عز وجل.
نعود إلى قصة أيوب عليه السلام، فمازال أيوب عليه السلام، في شدة وبلاء، ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه)) رواه الترمذي.
أيها المسلمون، وعندما أراد الله عز وجل أن يكشف هذا البلاء عن عبده، أمره أن يضرب برجله الأرض، كما جاء في قوله تعالى: ?رْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـ?ذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42]، فامتثل أيوب عليه السلام لأمر ربه، فضرب برجله الأرض، فأنبع الله له عيناً باردة الماء، وأمره أن يغتسل فيها، ويشرب منها، فأذهب الله عنه ما كان يجده من الألم والأذى، والسقم والمرض، الذي كان في جسده ظاهراً وباطناً، وأبدله الله بعد ذلك كله صحة ظاهرة وباطنة، وجمالاً تاماً، ومالاً كثيراً، وأخلف الله له أهله، كما قال تعالى: وَءاتَيْنَـ?هُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا [الأنبياء:84]، فقد آجره الله فيمن سلف منهم، وعوضه عنهم في الدنيا والآخرة، ثم قال تعالى: رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا أي رفعنا عنه شدته وكشفنا ما به من ضر، رحمة منا به، ورأفة وإحساناً، ثم عقب بعد ذلك سبحانه بقوله: ذِكْرَى? لِلْعَـ?بِدِينَ [الأنبياء:84]، أي أن ما ذكر من قصة أيوب عليه السلام، إنما هي تذكرة لمن ابتلى في جسده أو ماله أو ولده، فله أسوة بنبي الله أيوب، حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك، فصبر واحتسب، حتى فرج الله عنه.
وهذا الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأطاعه، ولا سيما في حق امرأته الصابرة المحتسبة، رضي الله تعالى عنها. رُوي عن ليث بن مجاهد، أن الله عز وجل يحتج يوم القيامة بسليمان على الأغنياء، ويوسف عليه السلام على الأوفياء، وبأيوب عليه السلام على أهل البلاء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن المتدبر لنصوص الكتاب والسنة، والدارس لأحوال الناس في مراحل حياتهم المختلفة، والجماعات الإنسانية، وكذلك المجتمعات البشرية، يستقر على قرار، وهو أن الله عز وجل، ما خلق الناس إلا ليبتليهم، كما قال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـ?هُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2]. وإن الدين الإسلامي يا عباد الله، وكل دين رباني، يقرر مبدأ واضحاً لا لبس فيه ولا غموض، وهو أن الدنيا من مبتدأها إلى منتهاها، دار ابتلاء، وليست دار جزاء، إنما الدار الآخرة هي دار الجزاء. وعلى هذا فغاية المؤمن في هذه الحياة الدنيا، إرضاء الله تبارك وتعالى، وذلك بالتزام أوامره فيحلل حلاله، ويحرم حرامه، والكف عن معاصيه والإقبال على فعل الخيرات، والإقلاع عن السيئات، فيفوز بعد ذلك كله، بالنجاح الحقيقي، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185]. لمثل هذا فليعمل العاملون، وعلى مثل هذا فليتنافس المتنافسون.
عباد الله، إن سنة الابتلاء واضحة في قصة أيوب عليه السلام، والابتلاء نوعان: ابتلاء عام، وابتلاء خاص.
أما العام: فهو للناس جميعاً، وهو التكليف بالإيمان، فكل إنسان مكلف بهذا، ولهذا جعل الله حرية الاختيار في هذه القصة للإنسان نفسه، ليتحمل هو بنفسه بعد ذلك تبعة اختياره، قال تعالى: فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَ?لْمُهْلِ يَشْوِى ?لْوجُوهَ بِئْسَ ?لشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29].
أما الابتلاء الخاص، فهو ابتلاء الله عز وجل لعباده المؤمنين، فالمؤمن في حياته يتعرض لابتلاءات كثيرة، ومِحَن عديدة، ولقد قرر الله تبارك وتعالى، هذا الابتلاء، لكل من ينسب نفسه للإيمان، قال سبحانه: أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ?لْكَـ?ذِبِينَ [العنكبوت:2، 3]. وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لاْمَوَالِ وَ?لاْنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]. وقال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْو?لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذ?لِكَ مِنْ عَزْمِ ?لاْمُورِ [آل عمران:186].
فقد يبتلي الله سبحانه وتعالى، العبد المؤمن بفقد عزيز عليه، كأبيه أو أمه أو ولده ليرى مدى صبره ورضاه بقضاء الله تبارك وتعالى وقدره، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ، إذا قبضت صَفِيَّه من أهل الدنيا، ثم احتسبه، إلا الجنة)). وقد يُبتلى المؤمن بفقد جزء من جسمه، كذهاب بصره أو سمعه، أو رجله أو يده، فيصبر على ذلك، روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه بإسناده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ـ أي عينيه ـ فصبر، عوضته منهما الجنة)).
وقد يُبتلى المؤمن بمرض عضال، أو فتَّاك، فعن عائشة رضي الله عنها، أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرها أنه ((كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله تعالى رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابراً محتسباً، يعلمُ أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر الشهيد)) رواه البخاري.
وقد يبتلي الله تبارك وتعالى العبد المؤمن، بذهاب أمواله، وكساد تجارته، فيصبح فقيراً يستحقق الصدقة، كما جاء في حديث قَبِيصَة بن مُخارِق الهلالي، الذي رواه مسلم في صحيحه، تحملت حمّالة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا قُبِيصَةُ، إن المسألة لا تحلُ إلا لأحد ثلاثة)) ، وذكر منهم: ((ورجلٌ أصابته جائحة اجتاحت ماله)).
وقد يُبتلى المؤمن بغير ذلك، من مفارقة الوطن، أو الأهل والأقارب.
فهل لنا في كل هذا عبرة وعظة، من قصة أيوب عليه السلام. هل يدرك عقلاء أمتكم، أن كل واحد فيكم معرضٌ لبلية قد تصيبه في دنياه، لينظر الله عز وجل هل يصبر أم يجزع، هل يدرك تجار زماننا، الذين ينقلبون في هذا المال، الذي هو من نعم الله عز وجل عليهم، أنه قد يسلب منهم في يوم من الأيام، كما حدث لأيوب عليه السلام، فيصبحون ممن يستحقون الصدقة، فليتقوا الله في هذا المال وليؤدوا حق الله فيه من كل وجه، قبل أن ينقلب عليهم.
وهل يدرك أصحاب الصحة والعافية، أنهم قد يسلبون هذه الصحة، ببلية تحل بهم أو بمرض، لينظر الله عز وجل هل يصبر على هذا المرض، أم يجزع من قدر الله عز وجل، فليتقوا الله في هذه الصحة، التي منحت لهم، وليستغلوها في طاعة الله عز وجل قبل أن تسلب منهم.
أيها المسلمون المؤمنون، قد يسأل سائل فيقول، ما هي الحكمة وراء ابتلاء الله عز وجل لعباده المؤمنين؟ فيجاب بأن هناك فوائدٌ ستة يحصل عليها المؤمن وهو يخوض غمار هذه الابتلاءات إذا هو صبر عليها:
الأولى: تكفيرُ السيئات.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يصيب المسلم من نصبٍ ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه)) متفق عليه.
الثانية: رفع المنزلة والدرجة عند الله تبارك وتعالى.
الثالثة: المكافأة في الدنيا، وهذا من قبيل ما حدث لأيوب عليه السلام، فقد عوضه الله عز وجل له أهله ومثلهم.
الرابعة: إخلاص النفوس لله، فإن الابتلاء من شأنه أن ينقي النفوس من الشوائب والقلوب من الرياء، والعمل من الشرك.
الخامسة: إظهار الناس على حقيقتهم، فمن الناس من يدعى الصبر وليس بصابر، ويدعى الزهد وليس بزاهد، إن المرض والفقر، والجوع والآلام، وفقدان الأولاد، وذهاب الأصدقاء الأعزاء، وخسارة الأموال، وغير ذلك مما شابهه، هذه الأمور لا تطيقها كل النفوس، فهناك من النفوس الضعيفة ما تتضجر وتتبرم، إذا أصابها شيء من إيمانها، من تتحمل هذه الآلام، وترضى بقضاء الله وقدره، لهذا كان من فائدة الابتلاء إظهار الناس على حقيقتهم.
ومن ادعى بما ليس فيه كذبته شواهد الامتحان
الفائدة السادسة: الاقتداء بالصابرين، فيكون هذا حافزاً للمؤمنين، أن يصبروا ويصابروا، ويحتملوا كما صبر أولئك المؤمنون من قبلهم.
(1/2985)
قصة ذي القرنين
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القرآن والتفسير, القصص
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
13/1/1413
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الآيات التي تحدثت عن قصة ذي القرنين. 2- سبب نزول الآيات. 3- تفسير الآيات. 4- التمكين في الأرض وأسبابه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يقول الله جل وعلا في محكم كتابه العزيز: وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى ?لْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى ?لأرْضِ وَاتَيْنَـ?هُ مِن كُلّ شَىْء سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى? إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ?لشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ي?ذَا ?لْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى? رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً فَلَهُ جَزَاء ?لْحُسْنَى? وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى? إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ?لشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى? قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً [الكهف:83-92].
أيها المسلمون، هذه قصة ذي القرنين كما وردت في كتاب الله عز وجل، في سورة الكهف، وأحب أن أقف هذه الجمعة مع هذه القصة، لأن فيها مواقفَ تستحق الوقوف، وفيها قضايا كلية، لابد من تبيينها وتوضيحها.
أولاً: ما سبب نزول هذه الآيات: يقول علماء التفسير، بأن "النَّضْر بن الحارث" كان من شياطين قريش، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصب له العداوة، وكان قد قدم "الحِيرة" وتعلم بها أحاديث "رستم"، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلساً ذكر فيه الله، وحدّث قومه ما أصاب مَنْ كان قبلهم من الأمم، جاء النضر بن الحارث بعده، وخلفه في مجلسه إذا قام، فقال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه، فهلموا إليّ، فأنا أحدثكم بأحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس. فبعثته قريش مع بعض رجالها إلى المدينة، حيث اليهود هناك وكان هذا قبل الهجرة، وقالوا لهم: اذهبوا إلى أحبار اليهود في المدينة، وسلوهم عن محمد وصفته وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجوا حتى قدموا المدينة، فسألوا أحبار اليهود عن أحوال محمد، فقال أحبار اليهود سلوه عن ثلاث، عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم، فإن حديثهم عجب، وعن رجل طوَّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ماهو؟ فإن أخبركم فهو نبي، وإلا فهو مُتَقَوِّل، فلما قدم النضر ومن معه إلى مكة، قالوا: قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد، وأخبروا بما قاله اليهود، فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخبركم بما سألتم عنه غداً)) ، ولم يستثنِ، فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لم يأتهِ الوحي، ولم يُخبر بخبر هؤلاء، فشق ذلك عليه، وأرجف أهل مكة به، وقالوا: وعدنا محمد غداً واليوم خمس عشرة ليلة.
ثم جاء جبريل عليه السلام من عند الله بسورة أصحاب الكهف، وفيها معاتبة الله إياه على حزنه عليهم، وفيها خبر أولئك الفتية، وخبر الرجل الطواف، وذي القرنين: وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى ?لْقَرْنَيْنِ أي ويسألونك يا محمد عن خبر ذي القرنين، يسألونك عن خبر هذا الرجل. قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً [الكهف:83]، أي سأخبركم بخبره وسأذكر لكم نبأه إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى ?لأرْضِ وَاتَيْنَـ?هُ مِن كُلّ شَىْء سَبَباً [الكهف:84].
هذا هو خبره، فالله عز وجل قد مكن له في الأرض، وأعطاه من القوة والتصرف والتدبير، الشيء الكثير، إضافة إلى كثرة الجنود والهيبة والوقار، وقد قذف الله عز وجل الرعب في قلوب أعدائه.
وَاتَيْنَـ?هُ مِن كُلّ شَىْء سَبَباً فقد أُوتي معرفة منازل الأرض ومعالمها وأُوتي معرفة الألسنة، فكان لا يغزو قوماً إلا كلمهم بلسانهم، فقد أُوتي هذا الرجل الصالح من كل ما يَصلح به أمره، ويقوم عليه سلطانه. قال الله تعالى بعد ذلك: حَتَّى? إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ?لشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً [الكهف:86].
كان ذو القرنين يطوف الدنيا شرقاً وغرباً، وفي هذه المرة وصل مغرب الشمس، وهو المكان الذي يرى الرائي أن الشمس تغرب فيه، فهو قد سار بجنوده، يفتح البلاد حتى وصل إلى ساحل وانتهى به اليابسة، إلى بحر الظلمات، فرأى ذو القرنين، أنها تغرب في عين حمئة، والحمأة هو الطين الأسود.أي رأى الشمس في منظره تغرب في البحر، وهذا شأن كل من وقف على الساحل فإنه يرى الشمس كأنها تغرب فيه:
بلغ المشارق والمغرب يبتغي أسباب أمرٍ من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خُلْبٍ وثَأْطِ حَرْمَد
فقال تعالى بعد ذلك: وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً أي أنه لما بلغ ذلك الموضع، وذلك المكان، وجد عندها قوماً، وجد أمة من الأمم، وقد ذُكر أنها كانت أمة عظيمة، والذي يظهر من سياق الآيات، أن هذه الأمة، كان فيها أناس صالحون، وكان فيها أناس سيؤون، كان فيهم مؤمنون وكافرون.ولهذا جاءت الآيات: قُلْنَا ي?ذَا ?لْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً.
أي إما أن تعذب، والمراد به القتل، لأن هؤلاء القوم كانوا على كفر وباطل، وكانوا مستحقين للقتل، فقالوا له: إما أن تعذب بالقتل من أول الأمر، وإما أن تتخذ فيهم حسناً، أي أمراً حسناً، وذلك بأسرهم ثم دعوتهم إلى الحق، والإرشاد إلى ما فيه الفوز بالدرجات.
يقول إمام الأئمة في التفسير، الإمام الطبري رحمه الله تعالى: المراد في اتخاذ الحُسن: الأسر فيكون قد خُير بين القتل والأسر، والمعنى إما أن تعذب بالقتل وإما أن تحسن إليهم بإبقاء الروح والأسر، واتخاذ الحسن بالأسر، لأنه بالنظر إلى القتل يكون إحساناً. فماذا كان جواب هذا الحاكم الصالح. قال: أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى? رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً [الكهف:87].
أي من ظلم نفسه، ولم يقبل دعوتي، وأصر على ما كان عليه، من الظلم العظيم، والمخالفة لأمر الله، واستمر على كفره وشركه وفسقه وظلمه، فهذا سوف نعذبه بالقتل، ثم يرد إلى ربه في الآخرة، فيعذبه عذاباً نُكراً، أي عذاباً منكراً فظيعاً، وهو العذاب في نار جهنم والعياذ بالله، لكن في المقابل ماذا قال ذو القرنين: وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً فَلَهُ جَزَاء ?لْحُسْنَى? وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً [الكهف:88]. أي وأما من آمن بما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، وعمل صالحاً، حسبما يقتضيه الإيمان، فله جزاءً الحسنى، أي فله المثوبة الحسنى في الدارين، في الدنيا له الفعل الحسن، وفي الآخرة، فجزاؤه الجنة وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً : أي لا نقول له ما يتكلفه مما هو شاق عليه، أي نقول له قولاً ذا يسر وسهولة.
قال الله تعالى بعد ذلك: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً [الكهف:89]، قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: " ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً : أي طريقاً راجعاً من مغرب الشمس موصلاً إلى مشرقها"، وكان كلما مر بأمة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى الله عز وجل، فإن أطاعوه، وإلا أذلهم وأرغم أنوفهم، واستباح أموالهم وأمتعتهم، واستخدم من كل أمة ما يستعين به مع جيوشه على أهل الإقليم المتاخم لهم.
أيها المسلمون، يكمل الله عز وجل قصة ذي القرنين فيقول جل وعلا: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى? إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ?لشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى? قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى? إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قَالُواْ ي?ذَا ?لْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى ?لأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى? أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا قَالَ مَا مَكَّنّى فِيهِ رَبّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ءاتُونِى زُبَرَ ?لْحَدِيدِ حَتَّى? إِذَا سَاوَى? بَيْنَ ?لصَّدَفَيْنِ قَالَ ?نفُخُواْ حَتَّى? إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ اتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فَمَا ?سْطَـ?عُواْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا ?سْتَطَـ?عُواْ لَهُ نَقْبًا قَالَ هَـ?ذَا رَحْمَةٌ مّن رَّبّى فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبّى جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقّاً [الكهف:89-98].
بارك الله لي ولكم في القرآن..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فهنا وقفة عظيمة ودرس كبير، لابد أن نقفه مع قصة ذي القرنين، بل منهج عظيم رسمه ذو القرنين لمن بعده، لمن يأتي بعده وقد أُعطي شيئاً من التمكين، يقول الله تعالى عن ذي القرنين: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى ?لأرْضِ وَاتَيْنَـ?هُ مِن كُلّ شَىْء سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً [الكهف:84، 85]
فقد أعطي هذا الرجل أسباب الحكم، والفتح، وأسباب البناء، والعمران، وأسباب المتاع والسلطان، فهذا الرجل كما يقول ابن كثير: يسر الله له الأسباب، أي الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والرسَاتِيق والبلاد والأراضي، وكسر الأعداء، وكبت ملوك الأرض، وإذلال أهل الشرك، وقد أوتي من كل شيء يحتاج إليه مثله سبباً.
فبعد أن مكن الله لذي القرنين في الأرض، ماذا عمل ذو القرنين؟ استمع إلى قول الله جل وعلا: فَأَتْبَعَ سَبَباً أي: أنه قد أحسن استغلال ما أعطاه الله، فإنه قد أحسن استغلالها وتوظيفها والتعامل معها فأتبع سبباً.
ثم لو نظرنا مرة أخرى، بماذا، وفي ماذا استغل ذو القرنين، هذه القوة التي أعطاه الله، وبماذا استغل ذو القرنين هذا التمكين الذي مكنه الله عز وجل من رقاب الناس.
فهو بعد أن وصل إلى تلك الأرض عند مغرب الشمس ووجد عندها قوماً، ماذا قال له قومه: قُلْنَا ي?ذَا ?لْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى? رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً فَلَهُ جَزَاء ?لْحُسْنَى? وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً [الكهف:86-88].
عندما فتح الله لذي القرنين تلك البلاد، وعندما تمكن من التصرف في أولئك البشر، هل استغل ذو القرنين منصبه لأكل أموال الناس في تلك البلاد؟ عندما تمكن منهم، هل استغل ذو القرنين قومه وتمكنه من التصرف فيهم ظلمهم؟ لا أبداً، لم يفعل ذو القرنين ذلك. فعندما فوض الله له التصرف في البلاد المفتوحة والتعامل مع القوم المغلوبين، لم يظلم ولم يطغَ ولم يتجبر، ولم يعتبرها مناسبة للبطش والبغي والفساد.
لكنه وضع ورسم دستوراً ومنهجاً في التعامل مع أولئك القوم. وضع ذو القرنين منهجاً لكل من أعطاه الله شيئاً من التمكين وشيئاً من التصرف في عباد الله. ما هو هذا المنهج؟ وما هو هذا الدستور؟
أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى? رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً فَلَهُ جَزَاء ?لْحُسْنَى? وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً.
هذا هو (الدستور)، وهذا هو (المنهج)، بل هذا هو (العدل الرباني).
الظالم عند ذي القرنين، الباغي المعتدي، صاحب الكفر، وصاحب المخالفات، هذا لابد أن يأخذ عقابه، فمن العدل أن يعاقب هذا الظالم، ويكون هذا عذاباً دنيوياً له، أما في الآخرة: ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى? رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً.
وأما المؤمن الصالح عند ذي القرنين، فإنه مقرب يجزيه الجزاء الحسن، ويكافئه المكافأة الطيبة، ويخاطبه بيسر وسهولة وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً فَلَهُ جَزَاء ?لْحُسْنَى? وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً [الكهف:88].
فلماذا اختلف هذا الميزان، في زماننا هذا ولماذا تغير هذا الدستور، وتحول هذا المنهج في عالمنا اليوم. أصبح الظالم، أصبح المعتدي، أصبح صاحب المنكرات، وصاحب الخمر والسكر والدعارة، المفسدون المعتدون، هؤلاء صاروا هم المقربون، عند من مكن الله له شيئاً من التصرف والتسلط على عباد الله. صار المفسدون الظالمون، المخمورون، هم الذين ينالون من المتمكن بِرَّه وكرمه.
وصار الذي آمن وعمل صالحاً.صار المؤمنون الصالحون، أصحاب الخير وأصحاب الدعوة، وأصحاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صار هؤلاء هم المحاربون المطرودون، المسجونون.
أين الميزان الذي وضعه الله جل وعز لذي القرنين؟ لماذا يُستبعد هذا الميزان؟ ولماذا يغير ذلك الدستور؟ ولماذا يحال دون تطبيق ذلك المنهج؟ الله عز وجل يقول، وهذا حكمه جل وعلا في كل من ظلم، وفي كل من أساء وخالف يقول سبحانه: أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى? رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً ويقول جل وعلا، وهذا حكمه سبحانه في كل من آمن وعمل صالحاً، يقول تعالى: وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً فَلَهُ جَزَاء ?لْحُسْنَى? وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً. فأصبحنا نعكس هذا الميزان: الذي ظلم، صار عندنا له جزاءً الحسنى، بل ونقول له من أمرنا يسراً.
والمؤمن الصالح، الذي يغار على دين الله، والذي لا يرضى بوجود المنكرات، ويحاول تغييرها هذا نعذبه عذاباً نكراً. فرحماك رحماك ـ يا رب ـ من انتكاس الفطرة، وتبدل الحال، وانتشار الفساد، واختلال الأمن، ورواج الفوضى.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى يا من بيدكم شيء من التمكين، يا من أُعطيتم بعض الأسباب، لا تستعملوا هذا التمكين في ظلم الناس، ولا تستغلوا هذه الأسباب في التستر على الظالم المفسد، فإن لكل شيء نهاية.
يقول صاحب الظلال سيد قطب عليه رحمة الله: وهذا هو دستور الحكم الصالح، فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن عند الحاكم، والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب والإيذاء، وحين يجد المحسن في الجماعة جزاء إحسانه، جزاءً حسناً أو مكاناً كريماً وعونا وتيسيراً، ويجد المعتدي جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة، عندئذٍ يجد الناس ما يحفزهم إلى الصلاح والإنتاج.
أما حين يضطرب ميزان الحكم، فإذا المعتدون المفسدون مقربون إلى الحاكم، مقدمون في الدولة وإذا العاملون الصالحون منبوذون أو محاربون، فعندئذٍ تتحول السلطة في يد الحاكم سوط عذاب وأداة فساد، ويصير نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد. انتهى كلامه رحمه الله.
متى يا فجر تؤذن بانبثاقِ وتحملنا على متن الوفاقِ
وتطوى صفحة الظلماء عنا وتجمع شملنا بعد الفراقِ
متى يا فجر تفتح باب نور وتغلق باب أصحاب الشقاق
تمادى الليل فينا واحتوانا ظلام سد أبواب التلاقي
أنادي والجراح مسومات وهمِّي حول قلبي كالنطاق
أقول لمن بغى بغياً كبيراً وأحدث بيننا أمر انشقاق
أقول لمن رمى بالنار فينا وأسقانا من الكأس الدِّهاق
تعددت الدروب فأين تغدو وكيف تَعد ميدان السباق
وكيف تقيك من برد خيامٌ إذا كانت ممزقة الرواق
إذا لم نجعل الإيمان نهجاً فسوف تضيق بالدمع المآقي
ولو أنا بخالقنا اعتصمنا لما اشتكت الكويت من العراق
ولا مدت إلينا كف باغ ولا عبثت بنا أيدي الرفاق
ولا عبثت بنا أيدي الرفاق كمن حملوا المبادئ باعتناق
(1/2986)
قصة شعيب عليه السلام
سيرة وتاريخ
القصص
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
14/1/1409
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعثة شعيب إلى أهل مدين (معان). 2- دعوة شعيب قومه إلى التوحيد وإصلاحه مخالفاتهم السلوكية. 3- بعض صور الانحراف عند أهل مدين. 4- الداعية أول الملتزمين بما يدعون إليه. 5- هلاك قوم شعيب وخروجه إلى أصحاب الأيكة. 6- هلاك أصحاب الأيكة بالظلة. 7- التطفيف في المكيال والميزان وصوره الحديثة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، قال الله عز وجل في كتابه العزيز، فيما قص علينا من قصة شعيب عليه السلام ما جاء في سورة الأعراف: وَإِلَى? مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَـ?قَوْمِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ فَأَوْفُواْ ?لْكَيْلَ وَ?لْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ ?لنَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا ذ?لِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِر?طٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ مَنْ ءامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَ?ذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَ?نظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لْمُفْسِدِينَ وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بِ?لَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَ?صْبِرُواْ حَتَّى? يَحْكُمَ ?للَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ ?لْحَـ?كِمِينَ قَالَ ?لْمَلاَ ?لَّذِينَ ?سْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يـ?شُعَيْبُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَـ?رِهِينَ قَدِ ?فْتَرَيْنَا عَلَى ?للَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ?للَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء ?للَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا عَلَى ?للَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا ?فْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِ?لْحَقّ وَأَنتَ خَيْرُ ?لْفَـ?تِحِينَ وَقَالَ ?لْمَلاَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ ?تَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَـ?سِرُونَ فَأَخَذَتْهُمُ ?لرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جَـ?ثِمِينَ ?لَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ?لَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ ?لْخَـ?سِرِينَ فَتَوَلَّى? عَنْهُمْ وَقَالَ ي?قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَـ?لَـ?تِ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءاسَى? عَلَى? قَوْمٍ كَـ?فِرِينَ [الأعراف:85-93].
شعيب عليه السلام، كان يسمى خطيب الأنبياء، لفصاحته وبلاغته، وحسن تأديته في دعوة قومه إلى الإيمان برسالته. أرسله الله عز وجل إلى أهل مدين، وهي قرية تقع في أرض معانٍ من أطراف الشام، وأهل مدين عربٌ ينتسبون إلى مدين بن إبراهيم الخليل، وقد كانوا يحترفون التجارة، لأن مدينتهم كانت محطة للقوافل التجارية.
أيها المسلمون، كان أهل مدين، لا يؤمنون بالله، ويعبدون سواه، وكانوا من أسوأ الناس معاملة، ينقصون الكيل والميزان إذا باعوا، فبعث الله فيهم رجلاً منهم، وهو رسوله شعيب عليه السلام، فدعاهم إلى عبادة الله وحده، وأيده بالمعجزات، ونهاهم عن تعاطي هذه الأفعال القبيحة، وأمرهم بالعدل، وحذرهم عاقبة الظلم، مؤكداً لهم أن ما يبقى من المال الحلال، خير لهم من المال الذي يجمعونه من الحرام وَإِلَى? مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ ي?قَوْمِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ ?لْمِكْيَالَ وَ?لْمِيزَانَ إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وَي?قَوْمِ أَوْفُواْ ?لْمِكْيَالَ وَ?لْمِيزَانَ بِ?لْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ?لنَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ?لأرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ ?للَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [هود:84-86].
ومن ضلال أهل مدين أيضاً، أنهم كانوا يتعدون على الطرق، يرصدون الناس الذين يأتون إلى شعيب، ليصدوهم عن سبيل الله، وكانوا يعيبون رسالته، قال تعالى: وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِر?طٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ مَنْ ءامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَ?ذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَ?نظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لْمُفْسِدِينَ [الأعراف:86]. ومن صور انحرافهم أيضاً، الاستهزاء، فقد كان القوم يستهزءون بكلام شعيب عليه السلام، وكانوا يقولون له: هل صلاتك هذه التي تصليها هي التي أثرت في نفسك، فجعلتك مرشداً لنا، تدعونا إلى ترك ما كان يعبد آباؤنا من الأصناف، وتحثنا على الامتناع عن التصرف في أموالنا كما نريد، قال الله تعالى: قَالُواْ ي?شُعَيْبُ أَصَلَو?تُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشَؤُا إِنَّكَ لاَنتَ ?لْحَلِيمُ ?لرَّشِيدُ [هود:87].
عباد الله، إن أثر الصلاة واضحةٌ في شعيب عليه السلام، وقد لاحظ قوم شعيب تأثير الصلاة عليه وعلى أتباعه، كيف أنها غيرت أوضاعهم، وأدت بهم إلى التحرر من عبادة غير الله، وترك الغش في المكاييل والأوزان.
نعم أيها الإخوة، لقد غيرت الصلاة نفسية أتباع شعيب، لأن الصلاة تهدف إلى صنع ضمير نقي في الإنسان، فتحرك فيه مشاعر التقوى والمراقبة، وتذكره على الدوام بيوم القيامة: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا [آل عمران:30].
وقد أثرت الصلاة في شعيب وأتباعه، وجعلتهم ينكرون على مجتمعهم أفعالهم، لأنهم كانوا يصلون الصلاة الحقيقية، كما أرادها الله عز وجل، والذي يجعلنا نحن يا عباد الله، لا ننكر على من حولنا، ما نراه من فساد سلوكهم، ما هو إلا لأن صلاتنا، نسأل الله السلامة والعافية، حركات، أكثر ما تكون خالية من الخشوع والطمأنينة، وكذلك صلاة غالب المسلمين اليوم، صلاة جوفاء، النقص والخلل فيها كثير، ولهذا تجدهم، لا ينتهون عن معاصيهم والله عز وجل يقول: إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]. فكم نحن في حاجة إلى هذه الصلاة، التي بها يتوجه الإنسان إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فيتحرر من كل المعبودات الباطلة، ومن كل فساد استشرى وصعب علاجه، كم نحن في حاجة إلى الصلاة التي تعصمنا من الخطايا، وتنهى عن الفحشاء، وتنقل الإنسان من هذا العالم المائج بالفتن والأوزار، إلى رحاب الله.
ماذا كان جواب نبي الله شعيب عليه السلام، عندما قال له قومه: ي?شُعَيْبُ أَصَلَو?تُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا. فرد عليهم شعيب عليه السلام، قال الله تعالى: قَالَ ي?قَوْمِ أَرَءيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى? بَيّنَةٍ مّن رَّبّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى? مَا أَنْهَـ?كُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ?لإِصْلَـ?حَ مَا ?سْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِ?للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
أيها المسلمون، نقف قليلاً عند قول شعيب، في قول الله عز وجل: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى? مَا أَنْهَـ?كُمْ عَنْهُ [هود:88]، يؤكد شعيب عليه السلام لقومه، في هذا القول أنه لا يفعل ما ينهاهم عنه، فهنا درس عظيم يا عباد الله للمصلحين والآباء، والدعاة والوعاظ، بأن يراعي كل منهم سلوكه أشد المراعاة، كل كلمة وتصرف يصدر منه، فالسلوك يؤثر أكثر من الكلمات، مهما صدر من المصلح من حكم ومواعظ بليغة، تستهوي العقول، لن يكون لها الأثر الفعال، في نفوس مستمعيها، إذا لم يكن قائلها هو أول العاملين بمضمونها، وأول المؤتمرين بأوامرها ونواهيها، ولهذا نجد أن الله عز وجل ذم قوماً أمروا الناس بالبر ولم يلزموا أنفسهم به فقال تعالى: أَتَأْمُرُونَ ?لنَّاسَ بِ?لْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:44]، وقال سبحانه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ?للَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ [الصف:2، 3]، فلننتبه لهذا الأمر يا عباد الله.
سواء كنت أباً في بيتك، أو مصلحاً وداعية في مجتمعك، بألاّ يصدر منك أفعالاً تخالف أقوالك، لأن الناس يتأثرون بالقدوة أكثر من غيرها، خصوصاً الآباء، إذا كنت تريد أيها الأب بأن لا يدخن ولدك، فلا تكن من متعاطي الدخان أمامه، وإذا كنت تريد أن لا يتعود الكذب، فتنبه ألا يصدر منك ذلك، ولو على طريق المزاح، وإذا كنت تريد من ولدك أن يكون محافظاً على وقته، مجداً في دروسه، فلا يرى أباه من الذين يسمرون ويلهون إلى آخر الليل، لأنه من الفطرة أن يقلد الولد والده، ويتخذه قدوة في كل شيء، فما بالكم لو كان هذا الأب من الذين لا يستحقون أن يقتدى بهم، فماذا نتمنى بعد ذلك من أولادنا، فهل لنا من عبرة وعظة من نبي الله شعيب عليه السلام في قول الله عز وجل: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى? مَا أَنْهَـ?كُمْ عَنْهُ [هود:88].
أيها المسلمون، فلنعد إلى القصة: هدد أكابر القوم شعيباً عليه السلام، بإخراجه ومن آمن معه من القرية، أو أن يعودوا في ملة القوم، قال تعالى: قَالَ ?لْمَلاَ ?لَّذِينَ ?سْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يـ?شُعَيْبُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَـ?رِهِينَ [الأعراف:88]. وعاد قومه يهددونه بالرجم، وأنهم لم يمنعهم من ذلك، إلا مجاملة عشيرته قال سبحانه: قَالُواْ ي?شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَـ?كَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ [هود:91]، عند ذلك، جاء الأمر الإلهي، بهلاك أهل مدين، جزاء عصيانهم، فنجى الله شعيباً والذين آمنوا معه رحمة منه سبحانه وتعالى. وأهلك الذين كفروا، فأخذتهم صاعقة شديدة، صاحبتها زلزلة قوية، جعلتهم منكبين على وجوههم صرعى، وانتهى أمرهم، وزالت آثارهم، قال تعالى: وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَأَخَذَتِ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَـ?رِهِمْ جَـ?ثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ [هود:94، 95].
بعد ذلك خرج شعيب عليه السلام من القرية الهالكة، ونجاه الله عز وجل والذين آمنوا معه، بعد ذلك أرسله الله إلى قوم آخرين، وهم أصحاب الأيكة، جماعة من الناس، كانوا يعيشون في بقاع خصبة فيها شجر كثير، وماء متدفق، لكنهم كانوا على طريقة أهل مدين، من اقتراف المعاصي، فجاءهم شعيب عليه السلام، وقال لهم إني رسول الله إليكم من رب العالمين، وجئت لهدايتكم وإرشادكم، فاحذروا عقوبة الله، وأطيعوا أمره، وكان مما وعظهم به، أن يعطوا الكيل وافياً، ويزنوا بين الناس بالميزان الحق، ولا ينقصوا الناس شيئاً من حقوقهم، ولكن لم تؤثر هذه الموعظة في نفوس القوم، واستمروا في تكذيبهم لشعيب عليه السلام، فأرسل الله عليهم العذاب. سلط عليهم الحر الشديد، فضاقت به أنفاسهم، فخرجوا إلى البرية، لعلهم يستروحون هواءً، بدل الذي هم فيه، فأرسل الله عليهم سحابة أظلتهم، وهو الذي سماه الله في كتابه بيوم الظلة، فاستبشروا خيراً من هذه السحابة واجتمعوا تحتها، فأرسل الله عليهم من هذه السحابة، بشهب وصواعق حتى أهلكتهم، وكان يوماً شديد العذاب، شديد الهول.
قال تعالى: كَذَّبَ أَصْحَـ?بُ لْئَيْكَةِ ?لْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى? رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ أَوْفُواْ ?لْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ?لْمُخْسِرِينَ وَزِنُواْ بِ?لْقِسْطَاسِ ?لْمُسْتَقِيمِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ?لنَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ?لاْرْضِ مُفْسِدِينَ وَ?تَّقُواْ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ وَ?لْجِبِلَّةَ ?لاْوَّلِينَ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ ?لْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ ?لْكَـ?ذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ ?لسَّمَاء إِن كُنتَ مِنَ ?لصَّـ?دِقِينَ قَالَ رَبّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ ?لظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لرَّحِيمُ [الشعراء:176-191].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم.. أقول ما سمعتم.. وأستغفر الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، لاحظنا من قصة شعيب عليه السلام، أنه من جملة ما كان يدعو به قومه، ومن الأمور الأساسية التي ركز عليها في دعوته، هو أمرهم أن يوفوا المكيال والميزان، لأن هذا الأمر، يتعلق بحقوق الناس في البيع والشراء، لكنهم لم يرتدعوا، ولم تنفع معهم دعوة نبي الله شعيب عليه السلام، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى، وجعلهم عبرة لمن بعدهم.
أيها المسلمون، إن مسألة المكيال والميزان، والبيع والشراء، مسألة تستحق الوقوف عندها، لأنها قضية لا تتعلق بالبائع والمشتري وحدهم، بل إن آثارها لتعود على المجتمع كله، فإن أي مجتمع أيها الإخوة، لا يُوفّى فيه المكيال والميزان ولا يلتزم كل من البائع والمشتري، بأحكام الله عز وجل، فإن المجتمع كله مهدد بالخطر، وعقوبة الله عز وجل، كما سمعتم ما حصل لقوم شعيب، عندما لم يوفوا المكيال والميزان.
ودعونا أيها الإخوة، نلقي بعض الضوء، على أسواقنا هذا الزمان، وما يحصل فيها من المخالفات الشرعية الواضحة، والغش الصريح، من بعض الباعة، وبعض المشترين، لتدركوا خطورة هذا الأمر، فخذ على سبيل المثال، مندوب المشتروات الذي يأتي لأي محل، من المحلات التجارية، فيقوم صاحب المحل، بإعطائه فاتورة المبايعة، بسعر يختلف عن السعر الحقيقي الذي باعه، والفرق بين السعرين، غالباً ما يذهب إلى جيب مندوب المشتريات، أو أنهما يتقاسمانه، وقد سُئل أحد أصحاب المحلات التجارية في أسواقنا، لماذا يعمل هذا العمل، ألا يخاف الله عز وجل؟ فأجاب بقوله، إذا لم أغير في سعر الفاتورة فإن المندوب يذهب إلى المحلات الأخرى ويتركني.
مثال آخر: من عدم إيفاء الكيل والميزان في أسواقنا. الاتفاقية الضمنية التي تحصل بين موردي بعض البضاعات، وبين أصحاب المصانع إما من الداخل أو من الخارج، فعلى سبيل المثال، تجد علب المناديل الورقية التي كتب عليها مائة منديل مزدوج، إذا قمت بعدها، ففي غالب الأحيان لا تجدها مائة ورقة، تكون أقل من ذلك، وهذا قد يكون معلوماً بين المورد ومن قام بتعبئة تلك العلبة، فيشتريها المورد بسعر أقل، ويبيعها على المشتري المسكين، الذي لا يدرك أغلب هذه الحيل، بسعر المائة منديل مزدوج. أو أن يقوم مورد الأجهزة كالمسجلات ونحوها، باتفاق مع صاحب المصنع، أن يضع له داخل الجهاز، الذي كتب عليه بأنه صناعة أصلية، بعض القطع من صناعة تقليدية، تكون أقل جودة، وأقل في السعر بطبيعة الحال، فهذه توفر على المورد أموالاً ضخمة على مدار السنوات، ويبيعها على المشتري على أنها صناعة أصلية بسعرها المعروف، والذي يضيع بين الطرفين هو المشتري المسكين.
هذه بعض الأمور التي تحصل في أسواقنا يا عباد الله، ذكرتها لكم على سبيل المثال، والذي يحصل أدهى من هذا وأمرّ، والذي خفي أعظم مما ظهر، ومن كان له علاقة مباشرة بالأسواق وبالتعامل مع التجار، لاشك أنه تعرض له قضايا، أعظم من هذا.
أيها المسلمون، لا نقول إلا لهؤلاء أن يتقوا الله فينا، مخافة أن تنزل عقوبة الله عز وجل، كما نزلت بقوم شعيب، عندما غشوا في أسواقهم، وخانوا في تجاراتهم، ولابد أن نتعاون نحن أيضاً جميعاً أيها الإخوة، للقضاء على هذه الظاهرة، لأن المسألة لا تخص البائع وحده، بل كما ذكرت لكم بأن المجتمع كله مهدد بالخطر، فالتاجر الذي يُعرف عنه، أنه يمارس أحد أنواع تلك المعاملات أو غيرها، لابد أن ينصح أولاً، فإن لم يرتدع، فلابد أن يفضح، ولابد أن يقاطع، كي لا يتعامل الناس معه.
وإن هذه يا عباد الله أحد علامات الساعة، أن يفتقد الأمين الذي تتعامل معه، تفتش في أسواق المسلمين، فيمن تثق في دينه وأمانته لكي تتعامل معه، تكاد لا تجد، إلا من رحم ربي وقليل ما هم.
فنسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، ومن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بعظمته أن نغتال من تحتنا.
اللهم اجعل اجتماعنا...
(1/2987)
قصة لوط عليه السلام
سيرة وتاريخ
القصص
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
7/1/1709
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار الفاحشة في قوم لوط. 2- لوط عليه السلام يتصرف لعلاج هذه الفاحشة. 3- الداعية يعالج مشاكل مجتمعه الآنية. 4- الملائكة في ضيافة لوط. 5- هلاك قوم لوط بالحاصب. 6- نجاة لوط والمؤمنين. 7- البحر الميت وقرى لوط. 8- حديث عن انتشار اللواط اليوم. 9- صيام عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: نواصل معكم أيها الأخوة، حديثنا عن قصص القرآن، فقد كان حديثنا في الجمعة الماضية، عن قصة أيوب عليه السلام، واخترنا لكم في هذه الجمعة، قصة نبي آخر من أنبياء الله عز وجل، لنعيش معها، ونأخذ منها العبرة والعظة، كما قال سبحانه: لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى ?لالْبَـ?بِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى? وَلَـ?كِن تَصْدِيقَ ?لَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111]، وقال تعالى: فَ?قْصُصِ ?لْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176]، وقال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ?لْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ?لْغَـ?فِلِينَ [يوسف:3].
عباد الله، قصتنا لهذه الجمعة، هو قصة نبي الله لوط عليه السلام مع قومه، الذين ابتدعوا فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم، ألا وهي اللواط، إتيان الذكران من العالمين، أجارنا الله وإياكم منها، فكم في ممارسة اللواط من وقاحة وانتكاس فطرة، فلما انتشرت هذه العادة الخبيثة بينهم، دعاهم لوط عليه السلام، إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي هذه المحرمات، والفواحش والمنكرات، والأفاعيل المستقبحات، لكنهم لم يرتدعوا ولم ينفع فيهم دعوة نبيهم لوط عليه السلام، فتمادوا في طغيانهم، وبقوا على ضلالهم، واستمروا في فجورهم وكفرانهم، فلما رأى الله عز وجل منهم ذلك وأنه لا فائدة معهم، أحل بهم من البأس، الذي لم يكن في خلدهم وحسبانهم وجعلهم مثلة في العالمين، وعبرة يتعظ بها أولو الألباب من العالمين، قال سبحانه: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ ?لْفَـ?حِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن ?لْعَـ?لَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ?لرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ ?لنّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنجَيْنَـ?هُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ?مْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ?لْغَـ?بِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا فَ?نْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لْمُجْرِمِينَ [الأعراف:80-84].
عباد الله، لقد كانت أهم قضية في دعوة لوط عليه السلام، هي هذه القضية؛ لأن قومه لو استجابوا له في دعوته إلى الإيمان بالله، وعدم الإشراك به، لما كان لاستجابتهم أي معنى، إذا لم يقلعوا عن عاداتهم الخبيثة التي اجتمعوا عليها، ولم يتستروا من فعلها، بل أصبحت جزءاً من نظام حياتهم، ولهذا كانت دعوة لوط عليه السلام منصبة على هذه الظاهرة، وهنا أمر لابد من التنويه إليه، وهو أن كل نبي بعثه الله لهداية قومه، ما بعث إلا لإصلاح ما فسد من أخلاقهم وعاداتهم، وهذا يقتضي أن يتصدى النبي لعلاج ومواجهة أخطر المشكلات، مهما كلفه ذلك من تضحيات، فهل يفقه الدعاة إلى الله عز وجل هذه اللفتة، ويأخذون عبرة ودرساً من نبي الله لوط عليه السلام، إن سلوك بعض المصلحين في عصرنا، سلوك عجيب جداً، تجدهم يعالجون قضايا، عفا عليها الزمن، ويسكتون عن قضايا هي لب فساد مجتمعهم، ونسمع كذلك كثيراً من المتحدثين والوعاظ، إما في الإذاعات، أو على الشاشات المرئية، يتحدثون عن أمور تافهة، ويدندنون حول مواضيع لا تمت إلى واقعهم بحال، ولاشك أن هذا قصور في الفهم، المسلمون يفرون من كل جانب، أراضيهم تسلب من كل ناحية، دخل الاستعمار في عقر دارهم، نهبت خيرات بلادهم ووعاظنا يحدثون الناس عن مسألة الحيض والنفاس، فهل لهؤلاء الوعاظ والدعاة والمصلحين، عبرة بلوط عليه السلام، حيث إنه تعرض لإصلاح أهم قضية كان يعاني منها مجتمعه في زمانه.
أيها المسلمون، نعود إلى قصة لوط عليه السلام، ولما جاء وعد الله عز وجل، وحان الوقت لإهلاك هذه الفئة، التي ما نفع معها الدعوة، أرسل الله عز وجل ملائكته إلى قوم لوط، فأتوا في صور شبان حسان، اختباراً من الله لقوم لوط قال تعالى: وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَـ?ذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ?لسَّيّئَاتِ قَالَ ي?قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ اوِى إِلَى? رُكْنٍ شَدِيدٍ قَالُواْ ي?لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مّنَ ?لَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ?مْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ?لصُّبْحُ أَلَيْسَ ?لصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـ?لِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ وَمَا هِى مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:77-83]. وصل الملائكة إلى لوط عليه السلام، وهو يعمل في أرض له، فقالوا إنا ضيوفك الليلة، وهو لا يعلم أنهم ملائكة، لأنهم جاءوا على صور بشر، لكنه تضايق أشد الضيق، عليه الصلاة والسلام، وذلك لأنهم كانوا حسان الوجوه، وخاف عليهم من اعتداء قومه عليهم، وواجب الضيافة يحتم عليه أن يحميهم من كل أذى، فانطلق بهم عليه الصلاة والسلام، فلما بصرت بهم زوجة لوط عليه السلام، وكانت امرأة سيئة على أخلاق قومها، ذهبت وأخبرت القوم، فانتشر الخبر، على أنه قد نزل رجال حسان ضيوفاً على لوط، فأسرعوا إلى بيته، وتجمهروا حوله، يبتغون الفاحشة في ضيوفه، فراح لوط عليه السلام، يمانع قومه، ويدافعهم والباب مغلق، وهم يريدون فتحه وولوجه، فلما آيس منهم قال عليه السلام: لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ اوِى إِلَى? رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]، أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يرحم الله لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد)) أي أن الملائكة كانوا معه، وهو لا يعلم، عندها قال الملائكة: ي?لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ [هود:81].
عندها علم لوط أنه في حضرة الملائكة وأن ركنه شديد، فاطمأنت نفسه، وذهب عنه القلق، وقام جبريل عليه السلام، فضرب وجوههم خفقة، بطرف جناحه، فطُمست أعينهم، قال تعالى: وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ [القمر:37، 38].
ويبدو أن لوطاً سأل الملائكة، استعجال العذاب، فأجابوه بقوله تعالى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ?لصُّبْحُ أَلَيْسَ ?لصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود:81]. بلى إنه قريب، ووعد الله حق لا ريب فيه، وكل شيء عنده بمقدار، ولن يتأخر موعد هلاكهم أو يتقدم لحظة واحدة، وقد حدده من قبل أن يكون عند شروق الشمس، قال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ ?لصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ [الحجر:73]، وقال تعالى: وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ?لاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ [الحجر:66].
خرج لوط عليه السلام من القرية الظالم أهلها، ومعه أبناؤه، أما زوجته، فكانت من الهالكين، قال تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ ?لْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35، 36].
خرج لوط في جنح الليل، وترك وراءه المال والمتاع، ولم يلتفتوا، أو يندموا على ما حل بقومهم، قال تعالى: وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ?مْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ [هود:81]، وجاء وعد الله: فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـ?لِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ وَمَا هِى مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:82، 83]، وخلال ثوان معدودات، جاءت الصيحة، وسقطت البلدة وجعل الله عاليها سافلها، وأرسل جل وعلا مطراً من حجارة صلبة، فأهلك القوم كلهم جزاءً وفاقاً، وجعل الله مكان تلك البلاد بحيرة منتنة، لا ينتفع بمائها، ولا بما حولها من الأراضي، وهي التي تعرف اليوم بالبحر الميت، ويرى بعض العلماء أن البحر الميت لم يكن موجوداً قبل هذا الحادث، وإنما حدث من الزلزال الذي جعل عالي البلاد سافلها، وصارت أخفض من سطح البحر بنحو أربعمائة متر وفي ذلك يا عباد الله، آية على قدرة الله وعظمته، وعزته وانتقامه، ممن خالف أمره، وكذب رسله، واتبع هواه، قال تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا فَ?نْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لْمُجْرِمِينَ [الأعراف:84]، وقال سبحانه: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ ?لْمُنذَرِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ [الشعراء:173، 174]، وقال عز من قائل: وَمَا هِى مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83].
إن ديار قوم لوط يا عباد الله، ليست ببعيدة: وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِ?لَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الصافات:137، 138]، وستبقى بحيرة قوم لوط، عبرة للظالمين، أينما وجدوا، وحيثما كانوا.
وإن من أبشع أنواع الحماقة أيها الأخوة، أن يغفل الناس عن قدرة الله عز وجل، وشدة بطشه، ويركنوا إلى حولهم وقوتهم، وعلينا يا عباد الله، أن نتذكر أن الله جلت قدرته، الذي أهلك قوم لوط بثوان معدودات، قادر على إهلاك وتمزيق كل مجتمع، لا يهتدي بهديه مهما قويت شوكتهم، وكثر عددهم، وتزايد بطشهم، قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ?لأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ ?للَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَـ?فِرِينَ أَمْثَـ?لُهَا [محمد:10].
أقول ما سمعتم وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، في قصة لوط عليه السلام، التي عرضناها عليكم، باختصار في الخطبة الأولى، فيها استهجان واضح لجريمة اللواط، ووعيد من الله بالعذاب الشديد لمرتكبها في الدنيا والآخرة.
واللواط ـ يا عباد الله ـ من أقبح وأشنع الفواحش، فهو يدل على فساد ومرض في المزاج الإنساني، خطره جسيم على المجتمع الذي ينتشر فيه، إنه انحدار بالإنسان إلى ما دون الحيوانية البهيمية.
وقد ذم الله عز وجل هذه الفعلة، بعدة صفات ذميمة في كتابه، وصف صاحبها بالعدوان في مثل قوله تعالى: أَتَأْتُونَ ?لذُّكْرَانَ مِنَ ?لْعَـ?لَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أَزْو?جِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [الشعراء:165، 166]، أي متعدون على حدود الشريعة الإلهية، ووصفهم كذلك بالجهل، في مثل قوله تعالى: أَءنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ?لرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ ?لنّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل:55]، ووصفهم كذلك بالإسراف، في قوله تعالى: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ?لرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ ?لنّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ [الأعراف:81]، أي مسرفون في الشهوات، ومتجاوزون الحدود التي رسمها الله لعباده.
أيها المسلمون، عندما نجد استنكار القرآن الكريم لهذه الفاحشة، بهذه الصورة، ثم نسمع ونرى أن الإنسان المتمدن، في الثلث الأخير من القرن العشرين، بدأ يزاول هذه الفاحشة علناً، في معظم الدول الأوربية، معللاً ذلك بالتقدم والتحضر، وبالحرية الشخصية، فلا ندري أيها الأخوة، ماذا نقول عن هذا التحضر والتقدم، وقد قرأت وشاهدت بنفسي، في أحد المجلات موافقة البرلمان البريطاني في لندن، وإصدار قرار ملكي رسمي من الدولة في إباحة زواج الرجل من الرجل علانية، وقد نشر موافقة ملكة بريطانيا على هذا القرار، وقامت الكنيسة البريطانية في لندن، بعقد أول زواج من هذا النوع في الكنيسة، وبحضور البابا، ونشرت صور الزوجان في المجلة. والله لا ندري كيف نعلق على مثل هذا الخبر، وإن اللسان ليعجز أن يعبر عن ما في نفسه في بعض الأحيان، عندما يرى أو يسمع مثل هذه الأخبار، فلا نقول إلا رحماك، رحماك يا رب على انتكاس الفطرة. أي تقدم هذا! وأي مدنية هذه! إنها دعوة صريحة واضحة إلى اللواط، وإنه من العجيب أنك ترى كثيراً من المسلمين، من يُعجب ويقتدي بحياة الغرب، وتخدعه وتبهره ما يشاهده من ظاهر واقعهم، لأنه لا يعلم أنها مناظر جذابة، مغلفة بمعتقد وتصور فاسد.
وإن بوادر هذه الظاهرة يا عباد الله بل الظاهرة نفسها، قد تسربت إلى بلادنا، وأخذ اللواط ينتشر بين أبناء المسلمين بشكل يهدد المجتمع. فالله الله أيها الآباء في أولادكم، تفقدوهم، وراقبوهم، ولابد أن تعلم أيها الأب مع من يسير ولدك، ومن يصاحب، وعسى أن يسلم بعد كل هذا، من آثار هذه الفاحشة، لأن عاقبتها وخيمة، إنها الخزي والعار في الدنيا والآخرة، وليس بيننا وبين الله نسب ولا قرابة، وإن لم نتدارك أنفسنا ونمنع الفاحشة من مجتمعنا، سيحل بنا ما حل بقوم لوط من الدمار والهلاك.
ورحم الله من قال:
فيا ناكحي الذكران، تهنكم البشرى فيوم معاد الناس إن لكم أجرا
كلوا واشربوا ولوطوا وأكثروا فإن لكم زفاً إلى ناره الكبرى
فإخوانكم قد مهدوا الدار قبلكم وقالوا إلينا عجلوا، لكم البشرى
وها نحن أسلافٌ لكم في انتظاركم سيجمعنا الجبار في ناره الكبرى
ولا تحسبوا أن الذين نكحتموا يغيبون عنكم، بل ترونهمُ جهرا
ويلعن كلٌ منهمْ خليله ويشقى به المحزون في الكرة الأخرى
يُعَذَّبُ كل منهمُ بشريكه كما اشتركا في لذةٍ توجب الوزر
عباد الله، نذكركم بأن يوم الاثنين القادم، هو العاشر من محرم، ولا يخفى عليكم سنية صيامه. عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه، متفق عليه. روى مسلم في صحيحه، حديث أبي قتادة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: (( يكفر السنة الماضية)) ، فلا تحرموا أنفسكم ـ يا عباد الله ـ هذا الأجر العظيم، وخالفوا اليهود، فصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده، والسنة يوماً قبله، وهو التاسع، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لئن بقيت إلى قابل، لأصومن التاسع)) رواه مسلم.
فنسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجنبنا الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، كما نسأله سبحانه، أن يحفظ علينا أولادنا، وأن يقيهم من منكرات الأخلاق، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الله آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
واغفر اللهم للمسلمين والمسلمات..
ربنا آتنا في الدنيا..
(1/2988)
قصة موسى ويوم عاشوراء
سيرة وتاريخ
القصص
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
5/1/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بنو إسرائيل في مصر. 2- فرعون يظلم بني إسرائيل ويقتل أبناءهم. 3- ولادة موسى ونجاته من كيد فرعون بقدرة الله الغالبة. 4- موسى يقتل المصري ويهرب إلى مدين. 5- نبوة موسى في طريق مدين. 6- موسى يدعو فرعون إلى التوحيد. 7- جدال موسى مع فرعون. 8- إيمان السحرة بموسى ودينه. 9- خروج بني إسرائيل في مصر وهلاك فرعون. 10- دروس من القصة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: دخل يعقوب عليه السلام أرض مصر مع بنيه بطلب من ولده يوسف عليه السلام حين ولي وزارة مصر، وكانوا أفراداً معدودين، فآواهم يوسف عليه السلام وقال لهم: ?دْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء ?للَّهُ ءامِنِينَ [يوسف:99]، ولمكانة يوسف عند الملك أكرم الملك أبويه وإخوانه وأهله، وأحسن مثواهم ومكّن له في الأرض، حتى ولاّهم مناصب عالية فيها. ومضت السنون، وكثر بنو إسرائيل في مصر وزاد عددهم، وبدأ الفراعنة يحسدونهم على ما وصلوا إليه في البلاد من مناصب مع غربتهم، وبدؤوا يقلقون بسبب وجود بني إسرائيل في مصر، فأخذوا يعزلونهم عن المناصب والولايات.
وحدث أن رأى فرعون رؤيا، فُُسرت له بأن هلاكه وذهاب ملكه، سيكون على يد غلام يولد من بني إسرائيل، فاستشاط غضباً، وأصدر أوامره بذبح كل مولودٍ ذكر من بني إسرائيل، وأخذ يستخدم كبار رجالهم ونسائهم في الأعمال الشاقة، وفي ذلك يقول ربنا سبحانه: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى ?لأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ?لْمُفْسِدِينَ [القصص:4].
ولكن الله تعالى يريد غير ما يريد فرعون، ويقدّر غير ما يقدر الطاغية، والطغاة البغاة تخدعهم قوتهم وسطوتهم وحيلتهم فينسون إرادة الله تعالى وتقديره، ويحسبون أنهم يختارون لأنفسهم ما يحبون، ويختارون لأعدائهم ما يشاؤون، ويظنون أنهم على هذا وذاك قادرون. والله يعلن إرادته، ويكشف عن تقديره، ويتحدى فرعون وهامان وجنودهما بأن احتياطهم وحذرهم لن يجديهم فتيلاً: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ?لَّذِينَ ?سْتُضْعِفُواْ فِى ?لأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ?لْوَارِثِينَ وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى ?لأرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَـ?مَـ?نَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ [القصص:5، 6].
ويولد موسى عليه السلام في هذه الظروف، والخطر محدق به، والموت يتلفت عليه، وتحتار أمه، وترجف خشية أن تتناول عنقه سكين جنود فرعون، ويوحي إليها ربها: أَنِ ?قْذِفِيهِ فِى ?لتَّابُوتِ فَ?قْذِفِيهِ فِى ?لْيَمّ فَلْيُلْقِهِ ?لْيَمُّ بِ?لسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ [طه:39]، وهذا منتهى التحدي. لقد أُعلنت الطوارئ، وصدرت الأوامر بذبح المواليد، تخوّفاً من واحد سيكون هلاك فرعون على يده، وإذا بالقدرة الإلهية تحمل هذا الغلام نفسه إلى فرعون، مجرداً من كل قوة ومن كل حيلة، عاجزاً عن أن يدفع عن نفسه أو حتى يستنجد، وكأنها تقول له:
يا فرعون! لا تتعب نفسك في البحث عن هذا الغلام الذي سيكون ذهاب ملكك على يده، فها هو بين يديك، فإن كان لك كيد أو تدبير فاصنع ما تريد. وإذا بفرعون نفسه يبحث لموسى عن المراضع، ويأتيه بهن واحدة بعد الأخرى حتى آل إلى أمه كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص:13].
ويتربى موسى في قصر فرعون تحت رعايته وإشرافه، وفرعون يوفر له كل احتياجاته لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَـ?مَـ?نَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَـ?طِئِينَ [القصص:8]، وتنتهي مدة الرضاع وفترة الصِّبا، ويبلغ موسى أشده، ويستوي عوده، ويكتمل نضجه العضوي والعقلي.
وفي يوم، وبينما موسى يتجول في المدينة، في وقت الظهيرة حين تغفو العيون فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـ?ذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـ?ذَا مِنْ عَدُوّهِ فَ?سْتَغَـ?ثَهُ ?لَّذِى مِن شِيعَتِهِ عَلَى ?لَّذِى مِنْ عَدُوّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى? فَقَضَى? عَلَيْهِ [القصص:15]، فأجمعوا أمرهم ليقتلوه، فنصحه ناصح بالخروج من البلاد فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ [القصص:21]، حتى دخل مدين وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ ?لنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ?مْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى? يُصْدِرَ ?لرّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى? لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى? إِلَى ?لظّلّ فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى ?سْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ?لْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ?لْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ي?أَبَتِ ?سْتَجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ?سْتَجَرْتَ ?لْقَوِىُّ ?لامِينُ قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ?بْنَتَىَّ هَاتَيْنِ عَلَى? أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّـ?لِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا ?لاْجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ وَ?للَّهُ عَلَى? مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القصص:23-28].
وقضى موسى أبر الأجلين وأوفاهما، ثم استأذن صهره في الرجوع إلى مصر! مصر التي قَتل فيها رجلاً بالأمس! مصر التي خرج منها خائفاً يترقب! ترى هل نسي ما كان منه؟ هل نسي أن لهم عنده ثأراً؟ إنها إرادة الله! إنه القدر الذي ذكّر الله عز وجل به موسى حين قال سبحانه له: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى? قَدَرٍ ي?مُوسَى? [طه:40]، وفي الطريق اشتد البرد، وفقد النار، وضل الطريق، وبينما هو في هذه الظروف القاسية إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لاِهْلِهِ ?مْكُثُواْ إِنّى ءانَسْتُ نَاراً لَّعَلّى اتِيكُمْ مّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى ?لنَّارِ هُدًى [طه:10]، فأتى موسى هذه النار فإذا هي نور عظيم، وعندها خير كثير: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ ي?مُوسَى? إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ فَ?خْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِ?لْوَادِ ?لْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا ?خْتَرْتُكَ فَ?سْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِى أَنَا ?للَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلا أَنَاْ فَ?عْبُدْنِى وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِذِكْرِى [طه:11-14].
وبهذا نُبئ موسى عليه السلام، وأرسل حين قال له ربه: ?ذْهَبْ إِلَى? فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى? [طه:24]، وموسى يعرف من هو فرعون فسأل الله العون: قَالَ رَبّ ?شْرَحْ لِى صَدْرِى وَيَسّرْ لِى أَمْرِى وَ?حْلُلْ عُقْدَةً مّن لّسَانِى يَفْقَهُواْ قَوْلِي وَ?جْعَل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى هَـ?رُونَ أَخِى [طه:25-30]، فقال الله له: ?ذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِئَايَـ?تِى وَلاَ تَنِيَا فِى ذِكْرِى ?ذْهَبَا إِلَى? فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى? فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى? [طه:42-44]، فالقول اللين لا يثير العزة بالإثم، ولا يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة، ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان.
وإذا كان موسى هو النبي المعصوم المؤيد بقوى السماء مأموراً بالقول اللين، فما بال غير المعصومين وغير المؤيدين يغلظون القول، ويقسون على المدعوين، أهم خير أم موسى؟ وهل من يدعونهم شر من فرعون؟ فرفقاً بالناس معاشر الدعاة ! فـ ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)) ، رواه مسلم و((من يحرم الرفق يحرم الخير)) رواه مسلم، أما قرأتم وسمعتم قول الله تعالى لنبينا محمد : فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
ويأخذ موسى أخاه هارون ويتوجهان إلى فرعون، ويبدأ موسى الكلام فيقول لفرعون: إِنَّا رَسُولُ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الشعراء:16]، هكذا من أول لحظة، ليُشعِر فرعون أنه ليس رباً ولا إلهاً، وأنه مربوب لرب العالمين الذي يجب أن يتخذه إلها يعبده. ويعجب فرعون وهو يرى موسى يواجهه بهذه الدعوى الضخمة: إِنَّا رَسُولُ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ ويطلب إليه ذلك الطلب الضخم: أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْر?ءيلَ [الشعراء:17]، فإن آخر عهده بموسى أنه كان ربيباً في قصره منذ أن التقطوا تابوته، وأنه هرب بعد قتله للقِبْطِي.
فما أبعد المسافة بين آخر عهد فرعون بموسى، إذن وهذه الدعوى الضخمة التي يواجهه بها بعد عشر سنين، ومن ثم بدأ فرعون متهكماً مستهزئاً مستعجباً: أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ?لَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ ?لْكَـ?فِرِينَ [الشعراء:18، 19]، فهل هذا جزاء التربية والكرامة التي لقيتها عندنا؟ بأن تأتي اليوم لتخالف ديننا ولتخرج على الملك الذي نشأت في بيته، وتدعو إلى إله غيره؟! ولقد قتلت نفساً بالأمس وأنت من الكافرين برب العالمين الذي تقول به اليوم؟! فما الذي حدث؟!
ويرد موسى عليه السلام في ثبات وثقة وطلاقة لسان: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ?لضَّالّينَ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبّى حُكْماً وَجَعَلَنِى مِنَ ?لْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْر?ءيلَ [الشعراء:20-22].
وعندئذ عدل فرعون عن هذه المسألة، وراح يسأله عن صميم دعواه، ولكن في تجاهل وسوء أدب في حق الله. قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ?لْعَـ?لَمِينَ قَالَ رَبُّ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ ?لاْوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ?لَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ ?لْمَشْرِقِ وَ?لْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ ?تَّخَذْتَ إِلَـ?هَاً غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ ?لْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ [الشعراء:23-30].
فسُقط في يد فرعون، ورأى أنه لابد أن يستمع لبرهانه، فطلب منه أن يأتي بالدليل: قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ?لصَّـ?دِقِينَ فَأَلْقَى? عَصَـ?هُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء لِلنَّـ?ظِرِينَ [الشعراء:31-33].
وأحس فرعون بضخامة المعجزة وقوتها، فأسرع يقاومها ويدفعها وهو يحس ضعف موقفه، ويكاد يتملق الملأ من حوله، ويهيج مخاوفهم من موسى وقوله، ليغطي على وقع المعجزة المزلزلة: قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَـ?ذَا لَسَـ?حِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ [الشعراء:34، 35].
فأشاروا عليه أن يأخذ من موسى موعداً يجتمع فيه السحرة من كل مكان، ويقابلون سحر موسى بسحرهم، فمن غلب اتبعوه، والأمر مفصول فيه أن السحرة هم الغالبون.
فخيب الله تعالى سعيهم، وأبطل كيدهم، وجعل نبيه موسى هو الأعلى: فَأُلْقِىَ ?لسَّحَرَةُ سَـ?جِدِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِرَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ رَبّ مُوسَى? وَهَـ?رُونَ [الشعراء:46-48].
فجن جنون فرعون وأخذ يهدد ويتوعد، ولكن بشاشة الإيمان إذا خالطت القلب لم يعبأ بأي تهديد، ولذا قال المؤمنون كلمتهم بكل جرأة وثبات: قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَى? رَبّنَا مُنقَلِبُونَ [الشعراء:50]، لا ضير في تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، لا ضير في التصليب والتعذيب، لا ضير في الموت والاستشهاد، لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون، وليكن في هذه الأرض ما يكون، فالمطمع الذي نتعلق به ونرجوه، أن يغفر لنا ربنا خطايانا جزاء أن كنا أول المؤمنين.
وهنا تدخل الملأ، أهل الأهواء والمصالح والمطامع، تدخلوا ليهيجوا فرعون على موسى ومن معه، ويخوفونه عاقبة التهاون في أمرهم، فطمأنهم فرعون بأنه سيحكم القبضة، ويعيد العمل بقانون الطوارئ، فيقتل الذكران ويستحيي النساء.
وأخذ موسى عليه السلام يعظ قومه وينصحهم بالصبر حتى يأتي أمر الله، فـ قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ?لأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف:129]، ومضى فرعون وملؤه في جبروتهم، ومضى موسى وقومه يتحملون العذاب ويرجون فرج الله، وعندئذ تدخلت القدرة الإلهية، فأخذت آل فرعون بالسنين، ونقص من الثمرات، لعلهم يذكرون، ثم جاءت الإنذارات تترى فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ?لطُّوفَانَ وَ?لْجَرَادَ وَ?لْقُمَّلَ وَ?لضَّفَادِعَ وَ?لدَّمَ ءايَـ?تٍ مّفَصَّلاَتٍ فَ?سْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ [الأعراف:133]، ثم أعلنوها صريحة: وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [الأعراف:132]، وأدرك موسى أن لا فائدة ترجى من القوم، وأنهم مصرون على الكفر والفساد في الأرض فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ [الدخان:22].
فأوحى الله إليه أن فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ [الدخان:23]، فإذا عبرت أنت ومن معك فاترك البحر رهواً، أي ساكنا كما هو، إغراء لفرعون بالعبور، فإنهم قوم مغرقون.
وفي الليلة الموعودة خرج موسى ببني إسرائيل، وعلم فرعون بخروجهم فجمع الجموع وخرج في طلبهم فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءا ?لْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَـ?بُ مُوسَى? إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى? مُوسَى أَنِ ?ضْرِب بّعَصَاكَ ?لْبَحْرَ فَ?نفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَ?لطَّوْدِ ?لْعَظِيمِ [الشعراء:60-63]، أي كالجبل العظيم، وصار البحر اثني عشر طريقاً لكل سبط طريق، وأمر الله الريح فنشفت أرضه، وهذا هو قوله تعالى: فَ?ضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى ?لْبَحْرِ يَبَساً [طه:88]، وتخرّق الماء بين الطريق كهيئة النوافذ ليرى كل قوم غيرهم فيطمئنوا عليهم.
وجاوز بنو إسرائيل، فلما خرج آخرهم كان فرعون قد انتهى إلى شاطئ البحر، فوقف متردداً أيعبر خلفهم؟ أم يرجع وقد كُفيهم؟
فجاء جبريل عليه السلام على فرس فمرَّ إلى جانب حصان فرعون، فحمحم إليها، واقتحم جبريل، فاقتحم فرعون وراءه، وميكائيل في ساقتهم، لا يترك منهم أحداً إلا أقحمه.
حتى إذا ادّاركوا في البحر جميعاً، جاءهم الموج من كل مكان، وجعل يرفعهم ويخفضهم، وتراكمت الأمواج فوق فرعون، وجاءته سكرة الموت فنادى: لا إِلِـ?هَ إِلاَّ ?لَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْر?ءيلَ وَأَنَاْ مِنَ ?لْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، فقيل له: ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ?لْمُفْسِدِينَ فَ?لْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مّنَ ?لنَّاسِ عَنْ ءايَـ?تِنَا لَغَـ?فِلُونَ [يونس:91، 92].
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((قال جبريل: يا محمد لو رأيتني وأنا آخذ من حَال البحر فأدسّه في فيه، مخافة أن تدركه الرحمة)).
وهكذا نجّى الله موسى والمسلمين، وأغرق فرعون والكافرين: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ ?لْحُسْنَى? عَلَى? بَنِى إِسْرءيلَ بِمَا صَبَرُواْ [الأعراف:137]، إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لرَّحِيمُ [الشعراء:8، 9].
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: ولنا مع قصة موسى عليه السلام وفرعون مصر عدد من الدروس والوقفات المهمة:
1- أن نور الله مهما حاول المجرمون طمس معالمه، وأن الطغاة وإن أثّروا في عقول الدهماء فترة من الزمن، واستمالوهم بالمنح والعطايا، فإن القلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء، وتأملوا في حال فرعون وسَحَرتِه، وكم وُعدوا لقاء مواجهتهم موسى، ومع ذلك انقلبوا فجأة عليه، واستهانوا بما وعد به حين أبصروا دلائل الإيمان، ولاذوا بحمى الملك الديان.
وهكذا كانوا أول النهار سحرة، وآخره شهداء بررة: وَجَاء ?لسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ ?لْغَـ?لِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ?لْمُقَرَّبِينَ قَالُواْ ي?مُوسَى? إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ ?لْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّا أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ ?لنَّاسِ وَ?سْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وَأَوْحَيْنَا إِلَى? مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ ?لْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَ?نقَلَبُواْ صَـ?غِرِينَ وَأُلْقِىَ ?لسَّحَرَةُ سَـ?جِدِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ رَبّ مُوسَى? وَهَـ?رُونَ [الأعراف:113-122]، إنه موقف من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية، هذا الموقف بين فرعون وملئه، والمؤمنين من السحرة السابقين.
وإنه موقف حاسم ينتهي بانتصار العقيدة على الحياة، وانتصار العزيمة على الألم، وانتصار الإنسان على الشيطان.
وليس هذا أول خرق في سفينة فرعون فقد كان في بيته مؤمنون، ومع ضعف النساء فقد تحدت آسية امرأة فرعون زوجها، وشمخت بإيمانها، ولم تفتنها الدنيا ومباهجها. وضرب الله بها مثلا للمؤمنين وقالت: رَبّ ?بْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى ?لْجَنَّةِ وَنَجّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجّنِى مِنَ ?لْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ [التحريم:11]، ووجد في آل فرعون مؤمنون ناصحون رغم العنت والأذى: وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـ?نَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ ?للَّهُ وَقَدْ جَاءكُمْ بِ?لْبَيّنَـ?تِ مِن رَّبّكُمْ [غافر:28].
2- قد عاش المسلمون في أيام فرعون ظروفا عصيبة، ملؤها الخوف والأذى، ووصل بهم الأمر أن يسروا بصلاتهم، ويتخذوا المساجد في بيوتهم، قال الله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى? مُوسَى? وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَ?جْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَبَشّرِ ?لْمُؤْمِنِينَ [يونس:87]، قال ابن عباس في تفسير الآية: قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة، وأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم.
وفى ظل هذه الظروف العصيبة أمر المسلمون بالصبر عليها، والاستعانة بالله على تجاوزها، بالوسائل التالية:
منها: الصبر والصلاة، قَالَ مُوسَى? لِقَوْمِهِ ?سْتَعِينُواْ بِ?للَّهِ وَ?صْبِرُواْ [الأعراف:128]، وقال لهم ولغيرهم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة:153].
فالصلاة سمة المسلم حين الرخاء، وحين الشدة والضراء.
ومنها: الإيمان بالله والتوكل عليه، ضروري للمسلم في كل حال، وهما في حال الشدة عدة وَقَالَ مُوسَى? ي?قَوْمِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِ?للَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ [يونس:84].
ومنها: الدعاء وصدق اللجوء إلى الله يصنع سبحانه أملاً من الضيق، وفيه فرج من الكروب، وخلاص من فتنة الظالمين، ونجاة من الكافرين. فَقَالُواْ عَلَى? ?للَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [يونس:85، 86]، وَقَالَ مُوسَى? رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ?طْمِسْ عَلَى? أَمْو?لِهِمْ وَ?شْدُدْ عَلَى? قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى? يَرَوُاْ ?لْعَذَابَ ?لاْلِيمَ [يونس:88].
ومع ذلك فلا بد من الاستقامة على الخير، وعدم الاستعجال في حصول المطلوب، فذلك أمر يقدره الله أنى شاء وكيف شاء قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَ?سْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [يونس:89].
3- أن الصراع مهما امتد أجله، والفتنة مهما استحكمت حلقاتها، فإن العاقبة للمتقين. لكن ذلك يحتاج إلى صبر ومصابرة واستعانة بالله صادقة: قَالَ مُوسَى? لِقَوْمِهِ ?سْتَعِينُواْ بِ?للَّهِ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?لارْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، أجل فلا ينبغى أن يخالج قلوب المؤمنين أدنى شك بوعد الله، ولا ينبغي أن يساورهم القلق وهم يصبرون على الضراء، ولا ينبغي أن يخدعهم أو يغرهم تقلب الذين كفروا في البلاد فيظنوه إلى الأبد، وما هو إلا متاع قليل، ثم يكون الفرج والنصر المبين بإذن الله.
أيها المسلمون، ويحس المسلمون برباط العقيدة مهما كانت فواصل الزمن، وكما تجاوز المؤمنون من قوم موسى عليه السلام المحنة كذلك ينبغي أن يتجاوزها المسلمون في كل عصر ومِلَّة.
وكذلك كما صام موسى يوم عاشوراء من شهر الله المحرم شكراً لله على النصر للمؤمنين، صامه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، ولا يزال المسلمون يتواصَوْن بسنة محمد صلى الله عليه وسلم بصيام هذا اليوم، ويرجون بره وفضله.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجَّى اللهُ بني إسرائيل، من عدوهم فصامه موسى، قال: ((فأنا أحقُّ بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه)) رواه البخاري.
وفي رواية مسلم قال: ((هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرّق فرعون وقومه فصامه موسى شكراً لله تعالى فنحن نصومه)).
وقد قال عليه السلام بشأنه: ((يكفر السنة الماضية)) رواه مسلم وفي لفظ: ((وصيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)). فاقدروا لهذا اليوم قدره، وسارعوا فيه إلى الطاعة واطلبوا المغفرة، وخالفوا اليهود، وصوموا تطوعاً لله يوماً قبله أو يوماً بعده، فذلك أكمل.
أيها المسلمون، وإذا صمنا يوم عاشوراء ـ وكلنا سيصوم إن شاء الله تعالى ـ فينبغي أن نعلم أن الخطايا التي تُكَفَّر إنما هي الصغائر، فليحذر الكثير من الناس الذين يرتكبون الموبقات، ويتركون الفرائض، وينتهكون المحرمات، ويظنون أن ذلك يكفر بصيام هذا اليوم، وأن صومه يكفر ذنوب سنة، وينسَوْن أن أمر الكبائر يحتاج إلى توبة وعزم على عدم الرجوع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وتكفير الطّهارة، والصّلاة، وصيام رمضان، وعرفة، وعاشوراء للصّغائر فقط.
(1/2989)
قوافل الحجيج
فقه
الحج والعمرة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
22/11/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إبراهيم عليه السلام في أرض العراق. 2- هجرة إبراهيم إلى فلسطين ثم مصر. 3- إبراهيم وإسماعيل في جنبات البلد الحرام. 4- قصة بناء البيت. 5- الأذان بالحج وحجة الوداع. 6- نصائح للحجاج. 7- وقفات متفرقة متعلقة بالحج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: جاء إبراهيم عليه السلام بزوجه هاجر وابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما بمكة، في تلك البقعة المقفرة، والأرض الموحشة، وبين الجبال المُصْمَتَة، بوادٍ غير ذي زرع، ثم مضى إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنس ولا شيء، فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت: آالله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، فقالت: إذن لا يضيعنا. رواه البخاري قالت ذلك بكل صدق وتوكل على الله. إذن لا يضيعنا، فَ?للَّهُ خَيْرٌ حَـ?فِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ ?لرحِمِينَ [يوسف:64].
أيها المسلمون، تبدأ رحلة الحج في أعماق الزمن منذ ضاقت الحياة بإبراهيم عليه السلام مع قومه الوثنيين الجاحدين في العراق، فرحل منها إلى فلسطين، ومعه زوجته سارة وابن أخيه لوط عليهم السلام، كما قال تعالى: فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنّى مُهَاجِرٌ إِلَى? رَبّى إِنَّهُ هُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ [العنكبوت:26].
وأقام الخليل عليه السلام في فلسطين، ثم رحل إلى مصر وأقام فيها ما شاء الله له أن يقيم، ووقعت هناك قصة الابتلاء لزوجته سارة من قبل ظالم مصر، الذي حالت قدرة الله دون الاعتداء على المؤمنة العفيفة، وكان ذلك سبباً في إهدائها جارية لخدمتها ألا وهي هاجر، لتبدأ قصة أخرى أكثر صلة بالحج، وبناء البيت العتيق.
حيث رجع إبراهيم عليه السلام مرة أخرى إلى فلسطين، وكانت زوجته سارة عاقراً لا تلد، فأشارت على زوجها إبراهيم بالزواج من جاريتها هاجر، لعل الله أن يهبه منها ولداً، فكان، وولدت هاجر إسماعيل عليه السلام، كما شاء الله أن تلد سارة إسحاق عليه السلام. فغارت سارة من هاجر حسب طبيعية النساء ولم تُطِقْ رؤيتها، وصارحت إبراهيم بما تجد في نفسها، فكان ذلك سبباً في هجرته بهاجر وإسماعيل إلى مكة. وهناك في أرض لا زرع فيها ولا ماء، ولا أنيس ولا جليس ترك إبراهيم المرأة وطفلها، وهمّ بالعودة إلى فلسطين مرة أخرى، فتعلقت به هاجر وهي تقول: إلى من تَكِلُنا ونحن في هذا الوادي المقفر الموحش؟ فقال النبي الخليل عليه السلام: إلى الله، واستوحت المرأة أن ذلك بأمر الله، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا الله. وانصرف الخليل عليه السلام وصوت دعائه يجلجل في السماء: رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ?لْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ فَ?جْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ?لنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَ?رْزُقْهُمْ مّنَ ?لثَّمَر?تِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37].
واستجاب الله دعاء خليله عليه السلام، بعد أن عاشت هاجر وابنها إسماعيل لحظات عصيبة أوشك الرضيع فيها على الهلاك، وكادت الوحشة وقلة الطعام والشراب أن تودي بالمرأة وطفلها لولا فضل الله ورحمته. وهل يخيب من رجاه وهل يضيع من تولاه؟
ومن هذه اللحظات الحرجة تبدأ قصة بناء البيت، وقصة سعي الناس بين الصفا والمروة كلما حجوا أو اعتمروا، وكلما طافوا بالبيت العتيق. ومن هنا كذلك تبدأ قصة زمزم، ذلك الماء العذب الزلال والبلسم الشافي للأسقام بإذن الله.
رجع إبراهيم عليه السلام بعد مدة من الزمن بعد أن سُكنت مكة وشب إسماعيل فقال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك الله، قال وتُعينني قال: نعم، قال: فإن الله أمرني أن أبني بيتاً هنا، وأشار إلى أَكَمَة مرتفعة، ويرفع إبراهيم القواعد من البيت، وجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني. وبعد أن فرغ إبراهيم من البناء أمره الله بأن يؤذن في الناس بالحج وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ [الحج:27، 28].
ونادى إبراهيم في الناس: يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فأجيبوا ربكم. فأجابوا بالتلبية: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)).
وقد أبلغ الله تعالى صوت إبراهيم عليه السلام حين نادى بالحج كل مكان وحفظ الله هذا الأذان فجعله يتردد في الصلوات، ويتلى في المحاريب، وفرض الحج من ذلك اليوم إلى يومنا هذا، وعلى سنن الأنبياء والمرسلين، فإن هذا البيت كان وسيبقى مثابة للناس وأمناً منذ طاف به إبراهيم أبو الحنفاء، الذي دعا ربه أن يحفظ هذه الأرض فدبت الحياة في هذه الأرض القاحلة الجرداء، وأجاب الله دعاء نبيه، فإذا أفئدة من الناس تهوي إليهم، وإذا هذه الأرض الجرداء تصبح أرضاً مباركة، ومَحَطَّ أنظار العالمين بما حباها الله تعالى من الهداية العظمى التي يتطلع إليها كل التائهين.
عباد الله، إن الناظر إلى مكة في موسم الحج يرى عجباً، ويزداد لوعةً وشوقاً، وهو يتأمل مواكب الإيمان، وقوافل عباد الرحمن، جاؤوا عن رغبة وطواعية، ألسنتُهم تلهج داعية، وأعينهم باكية، تسأل الله الرحمة والعافية، هديرهم تكبير، حديثهم تسبيح، نداؤهم تلبية، دعاؤهم تهليل، مشيهم عبادة، زحفهم صلاة، سفرهم إلى الله والدار الآخرة، وغايتهم رضوان الله ومغفرته، تركوا الديار والبلاد، والأهل والأولاد، واجتازوا الصعب والمهاد، ترى مظهراً من مظاهر العبودية الخالصة لله رب العالمين.
وتمر السنون، وتتوالى القرون، ووفود الله يتزايدون في لقاء إيماني واجتماع سنوي يقدمون من أماكن بعيدة، وبلدان سحيقة، ومن كل فج عميق، إلى وادٍ غير ذي زرع، ليس فيه ما يستهوي النفوس، كل ذلك استجابة لله قائلين: ((لبيك اللهم لبيك)). والعبودية لله في الحج من أعظم ما يحصّله العبد من المنافع والفوائد، وكفى به شرفاً وفضلاً.
عباد الله، حج المصطفى صلى الله عليه وسلم حجة واحدة، حجة جموع ودموع، حيث تقاطرت الوفود من كل فج، لتنال شرف الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي يوم عرفة من هذه الحجة العظيمة، نزل قول الله تعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].
وعندما سمعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكى، فقيل له: ما يبكيك فقال: (إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان) وأعظِم به من (فقه عمري)؛ لأنه استشعر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وسميت: (حجة الوداع).
روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، ولا ندري ما حجة الوداع). وكان صلوات ربي وسلامه عليه يقول: ((إني والله لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)) رواه الدارمي.
أيها الإخوة المسلمون، لنتذكر جميعاً أطهر نفس أحرمت، وأزكى روح هتفت، وأفضل قدم طافت وسعت، وأعذب شفة نطقت وكبّرت وهللت، وأشرف يد رمت واستلمت، يَنقل خطاه في المشاعر، ينتقل مع أصحابه ومحبيه مرددين تلك الكلمات الخالدات، ومترنمين بتلك العبارات الناصعات: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)) يتقدم في إحرامه الطاهر وقلبه الخاشع وخلقه المتواضع، يتقدم إلى حيث ذكريات جده أبو الحنيفية، ومُرسِي دعائم هذا البيت العتيق، وجنبات الحرم تدوي بالتهليل والتكبير: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [البقرة:127]، كلمات التلبية وعبارات التوحيد تملأ المكان وتُطرِبُ الزمان، وتتصاعد في إخلاصها إلى الواحد الديان.
ويقترب الرسول من الحجر الأسود ليقبله قبلة ترتسم على جبينه درة مضيئة على مر السنين، لم يتمالك نفسه صاحب النفس الخاشعة والعين الدامعة، فينثر دموعه مدراراً وتتحدر على خده الشريف المشرق.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في كل موطن: ((خذوا عني مناسككم)) رواه مسلم.
((خذوا عني مناسككم)) : وصية النبي صلى الله عليه وسلم لكل حاج أن يتعلم أحكام الحج، قال الله تعالى: فَ?سْأَلُواْ أَهْلَ ?لذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43].
((خذوا عني مناسككم)) : وصية النبي صلى الله عليه وسلم لكل من شرّفهم الله بمباشرة خدمة الحجيج، أن يتقوا الله فيهم، ويسلكوا بهم هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، إحراماً وتفويجاً، إفاضةً ومبيتاً، طوافاً وسعياً، نصحاً وإرشاداً، بيعاً وشراء. أن يحسنوا الاستقبال، ويؤدوا الواجب بلا استغلال، بالكلمة الطيبة، بالطريقة الطيبة، وبالأمر بالمعروف، وبالنهي عن المنكر من غير منكر.
((خذوا عني مناسككم)) : وصية النبي صلى الله عليه وسلم لكل حاج، ليعلم أن الحج نسك وعبادة، وموسم خير وطاعة، (فعرفة) و(منى) و(مزدلفة) و(أم القرى)، يترفّع فيها الحاج وكذا في كل مكان وزمان، يترفّع عن المنازعات والشعارات، أو الدعوى بدعوى الجاهلية وإثارة النعرات، ويحذَر التهم الباطلة وترويج الإشاعات، فهذه أرض المشاعر، وحريّ بالمسلم أن يحقق فيها أطيب الأخلاق والمشاعر. إنها حَجّة الوداع، وما أدراك ما حَجّة الوداع:
أحبتي عاد ذهني إلى زمنٍ معظمٍ في سويدا القلب مستطر
كأنني برسول الله مرتدياً ملابس الطهر بين الناس كالقمر
نور وعن جانبيه من صحابته فيالقٌ وألوف الناس بالأثر
ساروا برفقة أزكى مهجةٍ درجت وخير مشتملٍ ثوباً ومؤتزر
ملبياً رافعاً كفيه في وجل لله في ثوبِ أوّابٍ ومفتقر
مُرنماً بجلال الحق تغلبه دموعه مثل وابل العارض المطر
يمضي ينادي خذو عني مناسككم لعل هذا ختام العهد والعمُر
وقام في عرفات الله ممتطياً قصواءه ياله من موقف نضِر
تأمل الموقف الأسمى فما نظرت عيناه إلا لأمواج من البشر
فينحني شاكراً لله منّتَه وفضله من تمام الدين والظفر
يشدو بخطبته العصماء زاكيةً كالشهد كالسلسبيل العذب كالدرر
مجلياً روعة الإسلام في جملٍ من رائع من بديع القول مختصر
داعٍ إلى العدل والتقوى وأن بها تفاضل الناس لا بالجنس والصور
مبيناً أن للإنسان حرمته ممرغاً سيّء العادات بالمدر
يا ليتني كنت بين القوم إذ حضروا مُمَتَّعُ القلب والأسماع والبصر
وأنبري لرسول الله ألثُمُهُ على جبينٍ نقي طاهر عطر
أقبِّل الكف كف الجود كم بذلت سحّاء بالخير مثل السلسل الهدر
ألوذ بالرّحل أمشي في معيته وأرتوي من رسول الله بالنظر
أُسّر بالمشي وإن طال المسير بنا وما انقضى من لقاء المصطفى وطري
أما الرداء الذي حج الحبيب به يا ليته كفن لي في دجى الحُفر
يا غافلاً من مزاياه وروعتها يَمّم إلى كتُبِ التاريخ والسير
يا رب لا تحرمنا من شفاعته وحوضه العذب يوم الموقف العَسِرِ
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، إن المؤمن بالله في حاجة بعد هذه الصلاة التي يصليها كل يوم، وبعد شهر رمضان الذي يصومه كل عام، وبعد أدائه الزكاة، وبعد استقامته وأدائه لحقوق الله وحقوق العباد، بحاجة إلى أن يشهد موسماً هو ملتقى المؤمنين المحبين المخلصين، من الذين لبّوا النداء، وأتوا من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم، وهم يلبون ويهللون ويكبرون في أرض أرادها الله تعالى أن تكون واحة للأمن والسلام، يجد فيها المؤمن راحة قلبه وطمأنينة نفسه، في جو كله ذكر وتسبيح وبر وإحسان، إنه موسم عبادة، لذلك جاء المنع من أعمال وجاء الوعيد والتهديد على أعمال، وجاء الأمر بأعمال، ولا ينبغي للحاج أن يتوجه إلى تلك الأرض المباركة حتى يعلم كل ذلك.
وإن أول ما ينبغي أن يعلمه الحاج أن يكون في غاية اللطف وحسن المعاملة مع كل من حوله من إنسان وحيوان ونبات، فمع أخيه الإنسان لا جدال ولا خصام، ولو اضطره الأمر إلى التنازل عن حقه، قال عز وجل: فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ?لْحَجّ [البقرة:197]. ومع الحيوان سلم تام، فلا يزعج طيراً ولا يصطاد وحشاً، قال عز وجل: وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ?لْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة:96]. ومع الشجر والنبات لا إفساد ولا اعتداء، قال : ((إن هذا البلد حرمه الله لا يُعضد شوكه ـ أي لا يقطع ـ ولا ينفّر صيده، ولا يُلتقطُ لقطته إلا من عرّفها)) متفق عليه.
عباد الله، قد يعتقد البعض أن كل من حج غفر ذنبه، ورجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، بينما المغفرة تحتاج إلى شروط في مقدمتها أن يكون مال الحج من حلال، وأن يكون الحج مبروراً، والحج المبرور هو الذي لم تقع فيه معصية، وأن لا يكون عليه حق من حقوق الناس، فكلنا نعلم أن منزلة الجهاد أعظم وأكرم، سئل رسول الله : أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)). قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)). ومع ذلك فإن الشهيد الذي قتل في سبيل الله يبقى مطالباً بحقوق الناس، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((يُغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّين)) رواه مسلم.
فما أروعها من رحلة وما أعظمه من منظر يأخذ الألباب، فهل شممت عبيراً أزكى من غبار المُحرمين؟ وهل رأيت لباساً قط أجمل من لباس الحجاج والمعتمرين؟ هل رأيت رؤوساً أعز وأكرم من رؤوس المحلِّقين والمقصِّرين؟ وهل مر بك ركبٌ أشرف من ركب الطائفين؟ وهل سمعت نظماً أروع وأعذب من تلبية الملبين، وأنين التائبين، وتأوه الخاشعين، ومناجاة المنكسرين؟
أيها المسلمون: نتذكر في الحج يوم حج رسول الله مع مائة ألف من الصحابة حجة الوداع، ونظر رسول الله إلى الألوف المؤلفة وهي تلبي وتهرع إلى طاعة الله، فشرح صدره انقيادها للحق واهتداؤها إلى الإسلام.
فعزم صلى الله عليه وسلم على أن يغرس في قلوبهم لباب الدين، وينتهز تجمعهم ليقول كلمات تبدد آخر ما أبقت الجاهلية من مخلفات في النفوس، فيلقي خطبته الجامعة الشاملة يوم عرفة، فيبين فيها: حرمة دم المسلم وماله وعظم الأمانة وخطر الربا، حتى المرأة لم تُنسَ في هذه الخطبة الجامعة فيقول: ((واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان)) رواه ابن ماجة وكان يشهدهم على قوله فيقول: ((ألا هل بلغت؟)) فيقول: الصحابة: نعم، فيقول: ((اللهم فاشهد)) لقد كان عليه الصلاة والسلام.
يعلم أن هذا الركب سينطلق في بيداء الحياة، وهو الذي ظل ثلاثاً وعشرين سنة يصل الأرض بالسماء، ويغسل أدران الجاهلية. لقد أجاب الله دعاء نبيه إبراهيم رَبَّنَا وَ?بْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَـ?تِكَ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ?لعَزِيزُ ?لحَكِيمُ [البقرة:129].
عباد الله، إن مما يَرِدُ على الخاطر في الحج، هو بيان قدرة الله تعالى وفضله بأن جمع أولئك الناس في هذه البقعة الصغيرة، فذهبت أجناسهم ولغتهم بل ولباسهم، وينظر الله إليهم يوم عرفة فيباهى بهم ملائكته ولم ير أكثر عتيقاً من النار يوم عرفة.
أيها الإخوة المؤمنون، إن مما نتذكر هذه الأيام أن هذه الجزيرة ليست فقط بذهبها وخيراتها وبترولها، وإنما قيمتها بما جعل الله تعالى من الهداية التي، يتلقاها الإنسان من الدعاة الصالحين، من أهل هذه البلاد وعلى يدهم. كما أن الإسلام قلب هذه الجزيرة، لا تبتغي عنه بديلاً مهما كاد الكائدون وسعى المنافقون وأرجف المرجفون، فإن الإسلام خِيرة الله لهذه البلاد، ولن تبتغي عنه سبيلا تلك هي دعوة الأنبياء والمرسلين وبشراهم.
وإن تميّز هذه الجزيرة الحقيقي وقيمتها الكبرى التي تتطامن عندها كل الميزات وتتضاءل عنها كل القيم، أنها أرض الإسلام التي اختارها الله لتكون مشرق نور الإسلام ومنطلق الرسالة، كما كانت أرض أنبياء الله من قبل، (هود) و(صالح) و(إسماعيل) و(شعيب) ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم جميعاً الصلاة والسلام.
أول أرض يتطيب ثراها بالسجود لله، وتعطر سماؤها بالأذان، ويُتلى في محرابها القرآن، عليها وُلد محمد ونزل جبريل ومشى، وعاش (أبو بكر) و(عمر) و(عثمان) و(علي)، رضي الله عنهم أجمعين وسارت كتائب الإسلام منها فاتحة للأرض ناشرة للإسلام.
وكما كانت هذه الجزيرة منطلق الإسلام فهي موئله ومأواه إذا ضاقت على الإسلام فجاجُ الأرض كلها، يقول : ((إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين، كما تأرز الحية في جحرها)) رواه مسلم. إن هذه الجزيرة أرض قرت بها عين الإسلام ويئس الشيطان أن يُعبد في أرضها، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب)) رواه مسلم أي يجمعوا على ذلك.
إنها أرض أَخلصت للإسلام فليس لغير الإسلام فيها نصيب، مهما خطط المخططون، وكاد المنافقون، وخصوم الإسلام، فإنهم لن ينالوا وطرهم، مهما سعَوا، وأجلبوا خيلهم ورجْلَهم، وكتاباتهم، ولن يجتمع في جزيرة العرب دينان.
بلاد بها الرحمن ألقى ضياءه على لابتيها والعوالم غُيّبُ
إذا نسبَ الناسُ البلادَ رأيتها إلى جنة الفردوس تُعزى وتنسب
وإن نُصبت أنهارها فَبِحبّها من الدين نهر للهدى ليس ينضب
تفجر من نبع النبوة ماؤها له الحق ورد والسماحة مشرب
(1/2990)
كلا إنها لظى (1)
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
23/3/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من النار في الكتاب والسنة. 2- خوف الصالحين من النار واستعاذتهم بالله منها. 3- بعض أحوال أهل النار. 4- بعض صفة النار وما فيها من العذاب. 5- الشهوات بريد النار. 6- نداءات أهل النار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن الله جل وتعالى خلق الخلق ليعبدوه، ويخشوه ويخافوه، ونصب لهم الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه، ليهابوه ويخافوه خوف الإجلال، ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه، التي أعدها لمن عصاه ليتقوه بصالح الأعمال، ولهذا كرر سبحانه وتعالى في كتابه ذكر النار، وما أعده فيها لأعدائه من العذاب والنكال، وما احتوت عليه من الزقوم والضريع والحميم والسلاسل والأغلال، إلى غير ذلك مما فيها من العظائم والأهوال.
لقد حذرنا الله عز وجل من النار في غير ما آية من كتابه، وأنذرنا منها رسوله صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث.
قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وقال تعالى: فَ?تَّقُواْ ?لنَّارَ ?لَّتِى وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَـ?فِرِينَ [البقرة:24]، وقال تعالى: لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ ?لنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذ?لِكَ يُخَوّفُ ?للَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ي?عِبَادِ فَ?تَّقُونِ [الزمر:16].
وعن عدي بن حاتم قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النار، فأعرض وأشاح، ثم قال: ((اتقوا النار)) ثم أعرض وأشاح، حتى ظننا أنه كأنما ينظر إليها، ثم قال: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة)) أخرجه البخاري ومسلم.
وروى مسلم في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثلي كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حولها جعل الفَراش وهذه الدواب التي في النار يَقَعْن فيها، وجعل يحجُزُهنّ ويغلِبْنَه فيتقحَّمْن فيها قال: فذلكم مثليَ ومثلكم، أنا آخذ بحُجَزِكم عن النار، هَلُمّ عن النار، هَلُمَّ عن النار، فتغلبوني وتقحَّمون فيها)).
ومقصود هذا الحديث كما ذكره النووي أنه صلى الله عليه وسلم شبّه تساقط الجاهلين والمخالفين لأمر الله بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة، وحرصهم على الوقوع في ذلك، من منعه إياهم وقبضه على مواضع المنع منهم، بتساقط الفراش في نار الدنيا لهواه وضعف تمييزه، وكلاهما حريص على هلاك نفسه، ساعٍ في ذلك بجهله، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ?لأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا فعَمَّ وخَصّ، فقال صلى الله عليه وسلم: ((يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مُرَّة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار..)) إلى أن قال عليه الصلاة والسلام: ((يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئاً)).
يحكى عن يوسف بن عطية، عن المعلَّى بن زياد أنه قال: كان هَرم بن حيان يخرج في بعض الليالي وينادي بأعلى صوته: عجبت من الجنة كيف نام طالبها، وعجبت من النار كيف نام هاربها، ثم يقول: أَفَأَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـ?تاً وَهُمْ نَائِمُونَ [الأعراف:97].
أيها المسلمون، لقد امتدح الله عز وجل عباده المؤمنين، أولي الألباب بأنهم يخافون من النار فقال عز وجل: إِنَّ فِى خَلْقِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?خْتِلَـ?فِ ?لَّيْلِ وَ?لنَّهَارِ لاَيَـ?تٍ لاِوْلِى ?لاْلْبَـ?بِ ?لَّذِينَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ قِيَـ?ماً وَقُعُوداً وَعَلَى? جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـ?طِلاً سُبْحَـ?نَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ?لنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنْصَـ?رٍ [آل عمران:190-192].
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يستعيذ من النار كما يقول ذلك أنس رضي الله عنه فيما أخرجه البخاري في صحيحه: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)). ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من حر جهنم)).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لو نادى منادٍ من السماء، أيها الناس إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجل واحد لخفت أن أكون أنا هو).
وأخرج الإمام أحمد من طريق عبد الله بن الرومي قال: بلغني أن عثمان رضي الله عنه قال: لو أني بين الجنة والنار ولا أدري إلى أيتِها يؤمر بي، لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتِها أصير.
فيا عباد الله، إذا كان هذا حال رسولنا صلى الله عليه وسلم، وحال صحابته من بعده، فحري بنا أن يكون خوفنا من النار أشد منهم، لأن أعمالنا وإخلاصنا لا يقاس إلى أعمالهم وإخلاصهم. والخوف وحده لا يُنَجِّي أحداً من النار. فالقدر الواجب من الخوف ما حَمَلَ على أداء الفرائض واجتناب المحارم.
تأمل يا عبد الله إذا جيء بجهنم إلى الموقف، تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، قال تعالى: وَجِىء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ?لإِنسَـ?نُ وَأَنَّى? لَهُ ?لذّكْرَى? يَقُولُ ي?لَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر:23-26].
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)) رواه مسلم.
أيها المسلمون، لقد أعدّ الله لأهل النار طعاماً هو الزقوم، وشراباً هو الحميم فقال سبحانه: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا ?لضَّالُّونَ ?لْمُكَذّبُونَ لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ فَمَالِئَونَ مِنْهَا ?لْبُطُونَ فَشَـ?رِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ ?لْحَمِيمِ فَشَـ?رِبُونَ شُرْبَ ?لْهِيمِ هَـ?ذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ ?لدّينِ [المعارج:51-56]. وقال تعالى: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً [المزمل:12، 13]، وهو الشوك يأخذ بالحلق لا يدخل ولا يخرج. وقال جل وعلا: فَلَيْسَ لَهُ ?لْيَوْمَ هَـ?هُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ ?لْخَـ?طِئُونَ [الحاقة:35-37]. (والغسلين): هو صديد أهل النار وهو شرابهم، وقال عز من قائل: وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ [محمد:15]، وقال جل وعلا: لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً [النبأ:24، 25]، وقال تعالى: هَـ?ذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْو?جٌ [ص:57، 58]، وقال جل وعلا: وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَ?لْمُهْلِ يَشْوِى ?لْوجُوهَ بِئْسَ ?لشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29]، وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن على الله عهداً لمن يشرب المسكر، أن يسقيه من طِينة الخَبَال)) قالوا: يا رسول الله ما طينة الخَبَال؟ قال: ((عَرَق أهل النار أو عُصارة أهل النار)).
وأعد الله لأهل النار ثياباً فقال سبحانه: فَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ [الحج:19]، كيف يقوى الإنسان على لبس ثياب صنعت من النار، وهو لا يطيق ملابسه العادية في حر الصيف. وقال تعالى: سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ [إبراهيم:50].
وفي صحيح مسلم من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تُقام يوم القيامة وعليها سِربال من قَطِران ودِرع من جَرَب)).
ثم إن تحية أهل النار عباد الله هو التلاعن كما قال تعالى: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا [الأعراف:38]. فبدل السلام يتلاعنون، ويتكاذبون، ويكفِّرُ بعضهم بعضاً. فتقول الطائفة الأولى دخولاً للتي بعدها لا مرحباً بكم، وهذا إخبار من الله جل وعلا بانقطاع المودة بينهم، وأن مودتهم في الدنيا تصير عداوة، كما قال في الآية الأخرى: ?لأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ?لْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].
فتأمل حال أولئك التعساء، الذين كان بعضهم يملي لبعض في الضلال، كيف تناكروا، وتلاعنوا في جهنم، وأصبحوا يتقلبون في أنواع العذاب، ويعانون من جهنم ما لا تطيقه الجبال، وما يُفَتِّتْ ذِكْرُه الأكبادَ، يقتحمون إلى جهنم اقتحاماً، فلا تسأل عما يعانونه من ثقل السلاسل والأغلال، قال الله تعالى: إِذِ ?لأَغْلَـ?لُ فِى أَعْنَـ?قِهِمْ و?لسَّلَـ?سِلُ يُسْحَبُونَ فِى ?لْحَمِيمِ ثُمَّ فِى ?لنَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:71، 72]، وقال تعالى: وَجَعَلْنَا ?لاْغْلَـ?لَ فِى أَعْنَاقِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ [سبأ:33]، وقال تعالى: ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ [الحاقة:32].
إن بين أيدينا يوم لا شك فيه ولا مراء، يقع فيه الفراق وتنفصم فيه العرى، فتدبره ـ يا عبد الله ـ أمرك قبل أن تُحضَر، قال الله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا [آل عمران:30]، يا له من يوم يشيب فيه الولدان، وتسير فيه الجبال، وتظهر فيه الخفايا، وتنطق فيه الأعضاء، شاهدةٌ بالأعمال، فانتبه يا من قد وهى شبابه، وامتلأ بالأوزار كتابه.
أما بلغكم أن النار للكفار والعصاة أعدت، وإنها لَتَحْرِقُ كل من يلقى فيها قال الله تعالى: إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ [الملك:7، 8]، وقال تعالى: إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَ?لْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَـ?لَةٌ صُفْرٌ [المرسلات:32، 33].
يا غافلاً عن منايا ساقها القدرُ ماذا الذي بعد شيب الرأس تتنظرُ
عاين بقلبك إن العين غافلةٌ عن الحقيقة واعلم أنها سقرُ
سوداء تزفر من غيظٍ إذا سُعرت للظالمين فما تُبقي ولا تذر
لو لم يكن لك غير الموت موعظةٌ لكان فيه عن اللذات مزدجر
قال الله تعالى: لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41]، المِهاد هو الفراش، والغواشي هي الُّلحف. وقال عز وجل: وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـ?فِرِينَ حَصِيرًا [الإسراء:8]، يروى أن رجلاً من سلف هذه الأمة كان إذا دخل المقابر نادى: يا أهل القبور بعد الرفاهية والنعيم، معالجة الأغلال في النار، وبعد القطن والكتَّان، لباس القَطِران، وبعد تلطف الخدم والحشم، ومعانقة الأزواج، مقارنة الشيطان في نار جهنم مقرنين في الأصفاد. ولما ماتت زوجة الفرزدق ودفنت وقف الفرزدق على قبرها وأنشد بحضور الحسن رحمه الله تعالى:
أخاف وراء القبر إن لم يعافني أشد من القبر التهاباً وأضيقا
إذا جاء في يوم القيامة قائدٌ عنيفٌ وسوّاق يسوق الفرزدقا
لقد خاب من أولاد آدم من مشى إلى النار مغلول القدادة أزرقا
يساق إلى نار الجحيم مسربلاً سرابيل من قطرانٍ لباساً محرّقا
إذا شربوا فيها الصديد رأيتهم يذوبون من حر الصديد تمزقا
فبكى الحسن رحمه الله تعالى.
النار ـ عافانا الله وإياكم ـ منها لها سبعة أبواب، كما أخبر الباري سبحانه وتعالى بذلك في قوله: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ [الحجر:43، 44]. وقال تعالى: وَسِيقَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى? جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءوهَا فُتِحَتْ أَبْو?بُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايَـ?تِ رَبّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـ?ذَا قَالُواْ بَلَى? وَلَـ?كِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ?لْعَذَابِ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ قِيلَ ?دْخُلُواْ أَبْو?بَ جَهَنَّمَ خَـ?لِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى ?لْمُتَكَبّرِينَ [الزمر:71، 72].
وقد وصف الله الأبواب بأنها مُغلقة عليهم فقال تعالى: إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ [الهمزة:8]. يعني مطبقة عليهم.
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن الكفار يحاولون الخروج من النار ولكنهم يرغمون على البقاء فيها قال الله تعالى: يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ?لنَّارِ وَمَا هُم بِخَـ?رِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [المائدة:37]. وقال تعالى: كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا [الحج:22]، فلا يزالون يريدون الخروج مما هم فيه من الشدة وأليم العذاب، ولا سبيل لهم إلى ذلك، كلما رفعهم اللهب فصاروا في أعلا جهنم، ضربتهم الزبانية بمقامعِ الحديد فيردونهم إلى أسفلها. عندها يطلبون من المولى الخروج منها، فقال تعالى مخبراً عما قالوا: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـ?لِمُونَ [المؤمنون:107]، فيأتيهم الجواب: قَالَ ?خْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ [المؤمنون:108]، وقال جل وعز: وَنَادَوْاْ ي?مَـ?لِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّـ?كِثُونَ [الزخرف:77]، وقال عز وجل: لاَ يُقْضَى? عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا [فاطر:36].
روى البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بالموت كهيئة كبش أَمْلَح.. فيذبح ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت)).
وهذا مما يدل على عدم فناء النار، وبقاء أهلها فيها يتقلبون في أنواع العذاب لا راحة ولا نوم، ولا هدوء ولا قرار، بل من عذاب إلى آخر، ولكل واحد منهم حد معلوم، على قدر عصيانه وذنبه، وأن أقلهم لو عرضت عليه الدنيا بحذافيرها لافتدى بها من شدة ما هو فيه، فكيف بمن يُسحبون في النار على وجوههم ويقال لهم: ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ [القمر:48]، وما أدراك ما سقر لا تُبقي ولا تذر، تأكل لحومهم وعروقهم وعصبهم وجلودهم، ثم تبدل غير ذلك. قال الله تعالى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى ?لنَّارِ يَقُولُونَ ي?لَيْتَنَا أَطَعْنَا ?للَّهَ وَأَطَعْنَا ?لرَّسُولاَ [الأحزاب:66]، ينادُون في وقت لا ينفع فيه النداء، ينادُون إلهاً ضيعوا أوامره، وارتكبوا نواهيه، فيا لها من حسرة، ويا لها من ندامة لا تشبهها ندامة، ويا لها من خسارة لا تعادلها خسارة قُلْ إِنَّ ?لْخَـ?سِرِينَ ?لَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ?لْخُسْرَانُ ?لْمُبِينُ [الزمر:15].
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن في النار أودية، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد فيه ضعف قال: ((ويل وادٍ في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره)) رواه الإمام أحمد والترمذي. ثم تأمل بعد ذلك في قعر جهنم وظلماتها وتفاوت دركاتها، فمما رواه مسلم في صحيحه من حديث خالد بن عمير قال خطب عُتْبة بن غزوان رضي الله عنه فقال: إنه ذُكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً ما يدرك لها قعراً والله لتملأنّ.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعنا وَجْبَةً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أتدرون ما هذا)) ، قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: ((هذا حجر رُمي به في النار منذ سبعين خريفاً، فهو يهوي في النار الآن، حين انتهى إلى قعرها)) رواه مسلم.
عباد الله، قال الله تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ [فاطر:37]. وقال تعالى: وَلَوْ تَرَى? إِذِ ?لْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءوسِهِمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَ?رْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـ?لِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12]، وقال سبحانه: وَلَوْ تَرَى? إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ?لنَّارِ فَقَالُواْ ي?لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بِئَايَـ?تِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27].
إن هذه الآيات لم تنزل علينا عبثاً وإنّا ـ والله الذي لا إله إلا هو ـ لمحاسبون، فلا تُضيِّعوا أعماركم، وتَفَكَّروا ـ فو الله ـ لقد ذهب الكثير ولم يبقَ إلا القليل.
فيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى صريع الأماني عن قريب ستندم
أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده سوى جنةٍ أو حرُ نارٍ تضرّم
وبالسنة الغراء كن متمسكاً هي العروة الوثقى التي ليس تفصم
تمسك بها مسك البخيل بماله من الله يوم العرض ماذا أجبتم
وخذ من تقى الرحمن أعظم جنّة ليوم به تبدو عياناً جهنم
وينصبُ ذاك الجسر من فوق متنها فهاوٍ ومخدوش وناجٍ مسلم
وتشهد أعضاء المسيء بما جنى كذاك على فيه المهيمن يختم
فياليت شعري كيف حالك عندما تطاير كتب العالمين وتقسم
أتأخذ باليمين كتابك أم تكن بالأخرى وراء الظهر منك تُسلّم
فبادر إذاً ما دام في العمر فسحة وعدلك مقبول وصرفك قيم
وجد وسارع واغتنم زمن الصبا ففي زمن الإمكان تسعى وتغنم
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((ناركم هذه ـ التي يوقِد ابن آدم ـ، جزء من سبعين جزءاً من حر جهنم)) ، قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله، قال: ((فإنها فضّلت عليها بتسعة وستين جزءاً، كلهنّ مثل حَرِّها)).
إن الطريق الوحيد لتخليص الإنسان نفسه من النار هو الابتعاد عن الشهوات، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة والسلام بقوله: ((حُفَّت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)) وفي رواية للبخاري: ((حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره)) وهذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وبديع بلاغته في ذم الشهوات وإن مالت إليها النفوس، والحض على الطاعات وإن كرهتها النفوس وشق عليها، وقد ورد إيضاح ذلك من وجه آخر.
فقد روى غير واحد من أصحاب السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال عليه الصلاة والسلام: ((لما خلق الله الجنة والنار، أرسل جبريل إلى الجنة فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فجاء فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، قال: فرجع إليه قال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحُفت بالمكاره فقال: ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره، فرجع إليه فقال: وعزتك لقد خفت ألا يدخلها أحد، وقال: اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر إليها فإذا هي يركب بعضها بعضاً، فرجع إليه فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات فقال: ارجع إليها، فرجع إليها فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها)).
لابد أن يكون في تصور كل واحد قرب النار منه كما أخبر بذلك عليه الصلاة والسلام في حديث رواه البخاري بقوله: ((الجنة أقرب إلى أحدكم من شِرَاك نعله، والنار مثل ذلك)).
ومعناه أن الطاعة موصلة إلى الجنة وأن المعصية مقربة إلى النار، وأن الطاعة والمعصية قد تكون من أيسر الأشياء.
فينبغي للمرء أن لا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه، ولا في قليل من الشر أن يجتنبه فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها، ولا السيئة التي يسخط عليه بها. روي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: لأهل النار خمس دعوات، يُكلّمون في أربع منها، ويُسكت عنهم في الخامسة فلا يُكلّمون فيها. يقولون: رَبَّنَا أَمَتَّنَا ?ثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ?ثْنَتَيْنِ فَ?عْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى? خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ [غافر:11]، فيرد عليهم: ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ ?للَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ [غافر:12].
ثم يقولون: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَ?رْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـ?لِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12]، فيرد عليهم: وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـ?كِنْ حَقَّ ?لْقَوْلُ مِنْى لاَمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنَ ?لْجِنَّةِ وَ?لنَّاسِ أَجْمَعِينَ فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـ?ذَا إِنَّا نَسِينَـ?كُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ ?لْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [السجدة:13، 14].
ثم يقولون: رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ?لرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ [إبراهيم:44].
ثم يقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـ?لِحاً غَيْرَ ?لَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37]، فيرد عليهم أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ ?لنَّذِيرُ [فاطر:37].
وأما الخامسة فيقولون: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـ?لِمُونَ [المؤمنون:106، 107]، فيرد عليهم: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَ?غْفِرْ لَنَا وَ?رْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ?لرحِمِينَ فَ?تَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى? أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون:109، 110].
قال: فلا يتكلمون بعد ذلك أبداً.
اللهم رحمة..
(1/2991)
كلا إنها لظى (2)
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, الكبائر والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دخول النار هو الخزي الأكبر. 2- سعة النار للعصاة والكافرين. 3- كلام النار. 4- الذنوب التي أوعد الله أصحابها بالنار. 5- صور العذاب المختلفة في النار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: النار هي الدار التي أعدها الله للكافرين، المتمردين على شرعه، المكذبين لرسله، وهي عذابه الذي يعذب فيه أعداءه، وسجنه الذي يسجن فيه المجرمين، وهي الخزي الأكبر، والخسران العظيم، الذي لا خزي فوقه، ولا خسران أعظم منه رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ?لنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنْصَـ?رٍ [آل عمران:192]. إِنَّ ?لْخَـ?سِرِينَ ?لَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ?لْخُسْرَانُ ?لْمُبِينُ [الزمر:15]. وكيف لا تكون النار كذلك وفيها من العذاب والآلام والأحزان، ما تعجز عن تسطيره الأقلام وعن وصفه اللسان إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً [الفرقان:66]، هَـ?ذَا وَإِنَّ لِلطَّـ?غِينَ لَشَرَّ مَئَابٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ?لْمِهَادُ [ص:55، 56].
النار يا عباد الله، شاسعة واسعة، بعيد قعرها، مترامية أطرافها، الذين يدخلونها أعداد لا تحصى. الذين يدخلونها يكون ضرس الواحد منهم في النار مثل جبل أحد، وما بين منكبيه مسيرة ثلاثة أيام. ومع ذلك فإنها تستوعب هذه الأعداد الهائلة التي وجدت على امتداد الحياة الدنيا، من الكفرة والمجرمين، ويبقى فيها متسع لغيرهم. روى البخاري ومسلم، حديث أنس رضي الله عنه، عن النبي قال: ((لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد، حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قَطْ قَطْ، بعزتك وكرمك)).
عباد الله، هل تعلمون أن نار جهنم تتكلم وتبصر، قال تعالى: إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الفرقان:12]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي قال: ((تخرج عنق من النار، يوم القيامة، لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين)) رواه الترمذي.
أيها المسلمون، هناك ذنوب متوعَّدٌ صاحبها بالنار، وهناك ما هو متحقق دخوله نار جهنم والعياذ بالله، نذكر بعضها:
أولها وفي مقدمتها، الكفر والشرك بالله جلّ وعلا قال تعالى: وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَـ?تِنَا أُولَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [البقرة:39]، وقال جل وعز عن الشرك: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72].
ومما متوعَّد صاحبه بالنار: النفاق إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ فِى ?لدَّرْكِ ?لاْسْفَلِ مِنَ ?لنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً [النساء:145]، وقال سبحانه: وَعَدَ الله الْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْمُنَـ?فِقَاتِ وَ?لْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَـ?لِدِينَ فِيهَا هِىَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ ?للَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [التوبة:68].
ومن الذنوب الكِبْر، قال رسول الله : ((يقول الله تعالى: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما قذفته النار)) رواه أبو داود وابن ماجه.
ومن الذنوب والكبائر التي متوعد صاحبها بالنار، وهي بلية هذا الزمان ومصيبتها العظمى: الربا. قال الله تعالى في الذين يأكلونه بعد أن بلغهم تحريم الله له: وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [البقرة:275]، وقال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ ?لرّبَا أَضْعَـ?فاً مُّضَـ?عَفَةً وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَ?تَّقُواْ ?لنَّارَ ?لَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَـ?فِرِينَ [آل عمران:130، 131].
ومن الذنوب أيضاً: أكل أموال الناس بالباطل، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُمْ بِ?لْبَـ?طِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـ?رَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ عُدْو?ناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيراً [النساء:29، 30].
ومن الذنوب عدم دفع الزكاة وَ?لَّذِينَ يَكْنِزُونَ ?لذَّهَبَ وَ?لْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ?للَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى? عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى? بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـ?ذَا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35].
ومما قد يُدخِل النار، الغفلة عن الآخرة والرضا والاطمئنان بالدنيا إَنَّ ?لَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِ?لْحَيو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?طْمَأَنُّواْ بِهَا وَ?لَّذِينَ هُمْ عَنْ ءايَـ?تِنَا غَـ?فِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ ?لنَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يونس:7، 8]، وقال سبحانه: مَن كَانَ يُرِيدُ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ إِلاَّ ?لنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [هود:15، 16]، ومما توعد صاحبه بالنار الركون والميل إلى الظلمة وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ?لنَّارُ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ ?للَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ [هود:113].
الإجرام بكل صوره وأشكاله من الذنوب متوعد صاحبه بالنار وَتَرَى ?لْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى ?لاْصْفَادِ سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى? وُجُوهَهُمْ ?لنَّارُ [إبراهيم:49، 50]، وقال تعالى: وَرَأَى ?لْمُجْرِمُونَ ?لنَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا [الكهف:53]، وقال سبحانه: إِنَّ ?لْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَـ?لٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى ?لنَّارِ عَلَى? وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ [القمر:47، 48]. فلْيُفكِّرْ كل مجرم في حاله وليتذكر هذه الآيات خصوصاً إذا كان إجرامه في حق غيره.
ومما متوعد صاحبه بالنار، استبدال نعمة الله بالكفر، بل وإلزام الآخرين بذلك قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ?للَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ?لْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ ?لْقَرَارُ وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ?لنَّارِ [إبراهيم:28-30].
ومما قد يوجب النار الفسق، بكل أنواعه ودرجاته: أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ أَمَّا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ فَلَهُمْ جَنَّـ?تُ ?لْمَأْوَى? نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَأَمَّا ?لَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ ?لنَّارُ كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ ?لنَّارِ ?لَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ [السجدة:18-20].
ومما متوعد صاحبه بالنار أيضاً معصية الله ورسوله، قال تعالى: وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَداً [الجن:23]، وقال تعالى: وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَـ?لِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:14].
ومما متوعد صاحبه بالنار ـ والعياذ بالله منها ـ إضاعة الصلوات، وعدم الاهتمام بها، وهذا لا يكون إلا عن طريق اتباع الشهوات، فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً [مريم:59].
ومن الذنوب التي يستحق فاعلها النار، الذي يقطع شجرة السدر التي يستظل بها الناس، عن عبد الله بن حبيش قال: قال رسول الله : ((من قطع سدرة، صَوّب الله رأسه في النار)) رواه أبو داود. هذا الذي يقطع ظل شجرة ينتفع الناس بها فكيف بالذي يقطع ظل الشريعة.
ومن الأمور أيضاً يا عباد الله، المتوعد صاحبها بأن يعذب بسببه في نار جهنم، وهذا خاص بطلاب العلم، وهو عدم الإخلاص في طلب العلم. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) ـ يعني ريحها ـ رواه ابن داود والحاكم. وعن جابر قال: قال رسول الله : ((لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس، من فعل ذلك فالنار النار)) رواه ابن ماجه وابن حبان.
عباد الله، النار موعود بها مدمن الخمر وقاطع الرحم والمصدق بالسحر والمنان والنمام، وما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار، ومن أشد الناس عذاباً طائفتان المصورون الذين يضاهئون خلق الله، والذين يعذبون الناس في الدنيا.
أيها المسلمون، إن أهل النار ليسوا على درجة واحدة من العذاب، فهم يتفاوتون، وكل بحسب ما قدم من الأعمال. يقول عليه الصلاة والسلام، فيما رواه مسلم في صحيحه فقال في أهل النار: ((إن منهم من تأخذه النار إلى كَعْبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى رُكْبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حِقْوَيه، ومنهم من تأخذه النار إلى تَرْقُوَته)).
وكذلك يا عباد الله، فليس كل أحد يعذب كالآخر، وأيضاً فصور العذاب تختلف: فمن المعذبين في جهنم، أجارنا الله وإياكم منها من يُحرق جلده، وكلما احترقت بُدّل بجلد آخر ليحترق من جديد، وهكذا دواليك. إِنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَـ?تِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَـ?هُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ?لْعَذَابَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء:56]، ومن الناس من يصب الحميم فوق رأسه، والحميم هو ذلك الماء الذي انتهى حره، فلشدة حره تذوب أمعاءه فَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءوسِهِمُ ?لْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَ?لْجُلُودُ [الحج:19، 20].
ومن الناس من يأتيه العذاب عن طريق وجهه، وأكرم ما في الإنسان وجهه، ولذلك نهانا الرسول عن ضرب الوجه، ومن إهانة الله لأهل النار أنهم يحشرون يوم القيامة، على وجوههم عمياً وصماً وبكماً وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ عَلَى? وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97]، وقال تعالى: وَمَن جَاء بِ?لسَّيّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى ?لنَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:90]، ثم إن النار تلفح وجوههم، وتغشاها أبداً، لا يجدون حائلاً يحول بينهم وبينها، لَوْ يَعْلَمُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ ?لنَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [الأنبياء:39]، وقال جل وعز: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ?لنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَـ?لِحُونَ [المؤمنون:104]، وقال تعالى: سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى? وُجُوهَهُمْ ?لنَّارُ [إبراهيم:50].
وانظروا ـ يا عباد الله ـ إلى هذا المنظر، الذي تقشعر لهوله الأبدان، وهو قول الله عز وجل: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى ?لنَّارِ يَقُولُونَ ي?لَيْتَنَا أَطَعْنَا ?للَّهَ وَأَطَعْنَا ?لرَّسُولاَ [الأحزاب:66]، أرأيتم كيف يقلب اللحم على النار، كذلك تقلب وجوههم في النار نعوذ بالله من عذاب أهل النار.
ومن الناس من يسحب في النار إِنَّ ?لْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَـ?لٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى ?لنَّارِ عَلَى? وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ [القمر:47، 48]، الذي يزيد في العذاب أنهم حال سحبهم في النار، يكونون مقيدين بالقيود والأغلال والسلاسل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ ?لأَغْلَـ?لُ فِى أَعْنَـ?قِهِمْ و?لسَّلَـ?سِلُ يُسْحَبُونَ فِى ?لْحَمِيمِ ثُمَّ فِى ?لنَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:70-72].
ومن الناس من يسود وجهه في النار، بفعله السيئات في الدنيا وَ?لَّذِينَ كَسَبُواْ ?لسَّيّئَاتِ جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مّنَ ?للَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ ?لَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [يونس:27].
أما سمعت بأهل النار في النار وعن مقاساة ما يَلقُون في النار
أما سمعت بأكباد لهم صَدَعت خوفاً من النار قد ذابت على النار
أما سمعت بأغلال تُناط بهم فيسحبون بها سحباً على النار
أما سمعت بضيقٍ في مجالسهم وفي الفرار ولا فرار في النار
أما سمعت بحياتٍ تدبُ بها إليهم خُلقت من خالص النار
أما سمعت بأجسادٍ لهم نَضجت من العذاب ومن غليٍ على النار
أما سمعت بما يُكلَّفون به من ارتقاء جبال النار في النار
حتى إذا ما علوا على شواهقها صُبوا بعنف إلى أسفل النار
أما سمعت بزقوم يُسوغه ماءٌ صديدٌ ولا تسويغ في النار
يسقون منه كؤوساً مُلئت سقماً ترمي بأمعائهم رمياً على النار
يشوي الوجوه وجوهاً ألبست ظُلماً بئس الشراب شرابُ ساكن النار
ولا ينامون إن طاف المنام بهم ولا منام لأهل النار في النار
إن يستقيلوا فلا تقال عثرتهم أو يستغيثوا فلا غياث في النار
وإن أرادوا خروجاً رُدّ خارجهم بمقمع النار مدحوراً إلى النار
فهم إلى النار مدفوعون بالنار وهم من النار يهرعون للنار
ما أن يخفف عنهم من عذابهمُ ولا تفتـ عنهم سَورَة النار
فيا إلهي ومَن أَحكامه سبقت في الفرقتين من الجنات والنار
رحماك يا رب في ضعفي وفي ضعتي فما وَجودِك لي صبرٌ على النار
ولا على حر شمس إن بَرزتُ لها فكيف أصبر يا مولاي للنار
فإن تغمدني عفوٌ وثقت به منكم وإلا فإني طعمةُ النار
ما ظنك بعذاب دار أهون أهلها عذاباً من كان له نعلان يغلي منهما دماغه، ما يرى أحداً أشد منه عذاباً وإنه لأهونهم، أما حال أهلها فشر حال، وهوانهم أعظم هوان، وعذابهم أشد عذاب، وما ظنك بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف سنة، لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شربة، حتى انقطعت أعناقهم عطشاً، واحترقت أكبادهم جوعاً.
ثم انصرف بهم إلى النار، فيسقون من عين آنية قد آذى حرها واشتد نضجها، فلو رأيتهم وقد أسكنوا داراً ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، قد شدت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي، يسحبون فيها على وجوههم مغلولين، النار من فوقهم، والنار من تحتهم، والنار عن أيمانهم، والنار عن شمائلهم، لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذ?لِكَ نَجْزِى ?لظَّـ?لِمِينَ [الأعراف:41]، فغطاؤهم من نار، وطعامهم من نار، وشرابهم من نار، ولباسهم من نار، ومهادهم من نار، فهم بين طبقات النيران وسرابيل القطران وضرب المقامع، وجر السلاسل يتجلجلون في أوديتها، ويتحطمون في دركاتها، ويضطربون بين غواشيها، ويطوفون بينها وبين حميم آن تغلي بهم كغلي القدر وهم يهتفون بالويل ويدعون بالثبور، يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءوسِهِمُ ?لْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَ?لْجُلُودُ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ ?لْحَرِيقِ [الحج:19-22].
يتفجر الصديد من أفواههم، تتقطع من العطش أكبادهم، وتسيل على الخدود عيونهم وأهدابهم، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَـ?هُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ?لْعَذَابَ [النساء:56]، أمانيهم فيها الهلاك، وما لهم من أسرها فكاك، فما حال دار إذا تمنى أهلها تمنوا أن يموتوا؟ كيف بك لو رأيتهم وقد اسودت وجوههم؟ فهي أشد سواداً من الحميم، وعميت أبصارهم وأبكمت ألسنتهم وقصمت ظهورهم، ومزقت جلودهم وغلّت أيديهم إلى أعناقهم، وجمع بين نواصيهم وأقدامهم، يمشون على النار بوجوههم، ويطؤون حسك الحديد بأحداقهم، ينادون من أكنافها ويصيحون من أقطارها: يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد حق علينا الوعيد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك العدمُ خير من هذا الوجود، فيجيبهم بعد ألف عام، بأشد وأقوى خطاب وأغلظ جواب إِنَّكُمْ مَّـ?كِثُونَ لَقَدْ جِئْنَـ?كُم بِ?لْحَقّ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ كَـ?رِهُونَ [الزخرف:77، 78].
فينادون ربهم وقد اشتد بكاؤهم وعلا صياحهم وارتفع صراخهم: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـ?لِمُونَ [المؤمنون:106، 107]، فلا يجيبهم الجبار جل جلاله إلا بعد سنين، فيجيبهم بتوبيخ أشد من العذاب ?خْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ [المؤمنون:108]، فعند ذلك أطبقت عليهم وغلقت، فيئس القوم بعد تلك الكلمة أيما إياس، فتزداد حسراتهم وتنقطع أصواتهم فلا يسمع لهم إلا الأنين والزفير والشهيق والبكاء، يبكون على تضييع أوقات الشباب ويتأسفون أسف أعظم من المصاب، ولكن هيهات هيهات ذهب العمل وجاء العقاب.
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، النار وما أدراكم ما النار، لله ما أشد عذابها، وما أبأس أهلها، فأنى لهم باحتمال حرها وسمومها، أي جزء من أجسامهم يقوى على آلامها؟!. كم تعلو لهم من صيحات، ويتردد منهم من صراخ، ولكن لا يجاب لهم نداء. يستغيثون من الجوع فيغاثون بشجرة الزقوم فيأكلون منها، فتنسلخ وجوههم، فإذا أكلوا منها ألقي عليهم العطش، فيستغيثون منه، فيغاثون بماء كالمهل، فإذا أدنوه من أفواههم أنضج حره الوجوه، فيصهر به ما في بطونهم والجلود، ويضربون بمقامع من حديد، فيسقط كل عضو على حياله يدعون بالثبور. ويذكرون الرجال الذين كانوا يعدونهم من الأشرار، فينادونهم بطلب الغوث منهم: وَنَادَى? أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ أَصْحَـ?بَ ?لْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ?لْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ?للَّهُ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ ?لَّذِينَ ?تَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا فَ?لْيَوْمَ نَنسَـ?هُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـ?ذَا وَمَا كَانُواْ بِئَايَـ?تِنَا يَجْحَدُونَ [الأعراف:50، 51].
ويزيد في عذابهم تلك الخلقة التي زيدت فيهم. ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((ما بين مَنْكِبيَ الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع)). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال: ((ضرس الكافر ـ أو ناب الكافر ـ مثل أُحُد، وغِلَظ جِلده مَسيرة ثلاث)) وهم في ذلك كله يتنقلون من عذاب إلى عذاب، ومن ألم إلى ألم، لا يفترون عن عويل وصياح: يا ويلنا يا ويلنا.
من يطيق زفرة من زفراتها؟ من يطيق لحظة من أيامها؟ من طيق لفحة من لهيبها؟ من يطيق لقمة من زقومها؟ من يطيق شربة من حميمها؟ من يطيق الحجاب عن ربه عز وجل، وهو أشد عذابها.
إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني
فمالي حيلة إلا رجائي لعفوك إن عفوت وحسن ظني
وكم من زلة لي في الخطايا وأنت عليّ ذو فضل ومنّ
إذا فكرت في ندمي عليها عضضت أناملي وقرعت سنّي
أجن بزهرة الدنيا جنوناً وأقطع طول عمري بالتمنّي
ولو أني صدقت الزهد عنها قلبت لأهلها ظهر المجنّ
يظن الناس بي خيراً وإني لشرّ الخلق إن لم تعف عنّي
النار عباد الله، دار الذل والهوان، والعذاب والخذلان، دار الشهيق والزفرات، والأنين والعبرات، دار أهلها أهل البؤس والشقاء، والندامة والبكاء، والأغلال تجمع بين أيديهم وأعناقهم، والنار تضطرم من تحتهم ومن فوقهم، شرابهم من حميم يصهر به ما في بطونهم والجلود، وأكلهم شجر الزقوم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم، يدعون على أنفسهم بالموت فلا يجابون، ويسألون ربهم الخروج منها فلا يكلمون، كيف لو أبصرتهم وهم يسحبون فيها على وجوههم وهم لا يبصرون، أم كيف لو سمعت صراخهم وعويلهم وهم لا يسمعون: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
جثت الأمم على الركب، وتبين للظالمين سوء المنقلب، انطلق المكذبون إلى ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليلٍ ولا يغني من اللهب، وأحاطت بهم نار ذات لهب، سمعوا الزفير والجرجرة، وعاينوا التغيظ والزمجرة، ونادتهم الزبانية: فَ?دْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَـ?لِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى ?لْمُتَكَبّرِينَ [النحل:29].
الهاوية تجمعهم، والزبانية تقمعهم، في مضايقها يتجلجلون، وفي دركاتها يتحطمون. ترى المجرمين مقرنين في الأصفاد، سرابيلهم من قطران، وتغشى وجوههم النار. الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون، وبالنواصي والأقدام يؤخذون، وفي الحميم ثم في النار يسجرون. يصب من فوق رؤوسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد فوق رؤوسهم. تكوى جباههم وجنوبهم وظهورهم.
ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ طعامهم الزقوم والضَّريع، لا يسمن ولا يغني من جوع. شرابهم الحميم والغَسَّاق والماء الصديد، يشوي الوجوه ويقطع الأمعاء، ويملأ البطون: يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ [إبراهيم:17]، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـ?لِحاً غَيْرَ ?لَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ ?لنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:37].
يتمنون الموت والهلاك، ولكن أين المفر؟ ومتى الفكاك؟ وَنَادَوْاْ ي?مَـ?لِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّـ?كِثُونَ لَقَدْ جِئْنَـ?كُم بِ?لْحَقّ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ كَـ?رِهُونَ [الزخرف:77، 78].
ثم يعلو شهيقُهم، ويزداد زفيرهم، وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون، فيعظم يأسهم، ويرجعون إلى أنفسهم: سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ [إبراهيم:21]، نعوذ بالله ربِّنا من غضبه وأليم عقابه وعذابه.
(1/2992)
لبيك اللهم لبيك
فقه
الحج والعمرة, المساجد
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
4/12/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إبراهيم عليه السلام يترك زوجه وابنه في البلد الحرام. 2- أفئدة الناس تهوي إلى البيت الحرام استجابة لدعاء إبراهيم. 3- حجة الوداع ووصاة النبي بالحج والحجيج. 4- الحج ودرس الاستسلام لله والعبودية له. 5- الحج ودرس الوحدة الإسلامية. 6- اغتنام عشر ذي الحجة بالعمل الصالح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: جاء إبراهيم عليه السلام بزوجه هاجر وابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما بمكة، في تلك البقعة المقفرة، والأرض الموحشة، وبين الجبال المصمتة، بواد غير ذي زرع، ثم مضى إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي لا أنيس ولا شيء؟ فقالت له مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، فقالت: إذاً لا يضيعنا الله، قالت ذلك بكل صدق وتوكل على الله.
إذا لا يضيعنا الله، فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، اذهب واترك المرأة ورضيعها فربها لن يضيعها، فالحفظ عباد الله ليس بكثرة الأموال ولا بعدد الأولاد، بل بصدق التوكل والاعتماد، وسؤال الله التوفيق والسداد، وما أعظمه لو تحقق في قلوبنا وقلوب العباد.
ثم رجعت، فانطلق إبراهيم عليه السلام ثم دعا: رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ?لْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ فَ?جْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ?لنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَ?رْزُقْهُمْ مّنَ ?لثَّمَر?تِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37].
وجعلت أم إسماعيل ترضع ولدها وتشرب من ماءٍ كان معها، حتى إذا نفد ما في السقاء، عطشت وعطش ابنها، فجعل الرضيع يتلوى، يطلب الماء ليتروّى فقامت على الصفا، ثم أتت المروة سبع مرات، إلى أن سمعت صوتاً فقالت: صه، ثم تسمّعت فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، بحث جبريل بعقبه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه بيدها وتحبسه فقال جبريل: دعيه فإنها رواء، أي: كثيرٌ مُروٍ.
ورحم الله أم إسماعيل كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((لو تركت زمزم ـ أو قال ـ لو لم تغرف من الماء لكانت عيناً معينا)) رواه البخاري. وفي رواية: ((لو تركته كان الماء ظاهراً)) ، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ماء زمزم لما شرب له)) رواه ابن ماجه وأحمد. وأخرج الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: ((فإن شربته تستشفي به شفاك الله وإن شربته مستعيذاً أعاذك الله، وإن شربته ليقطع ظمأك قطعه الله)).
ثم قال لها الملك: لا تخافوا الضيعة، فإن ها هنا بيت الله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله.
ويستجيب الله دعاء الخليل: فَ?جْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ?لنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ.
إن الناظر إلى أرض الحرمين في موسم الحج يرى عجباً، ويزداد لوعةً وشوقاً، وهو يتأمل مواكب الإيمان، وقوافل عباد الرحمن، جاؤوا عن رغبة وطواعية، ألسنتهم تلهج داعية، وأعينهم باكية، تسأل الله الرحمة والعافية، هديرهم تكبير، حديثهم تسبيح، نداؤهم تلبية، دعاؤهم تهليل، مشيهم عبادة، زحفهم صلاة، سفرهم إلى الله والدار الآخرة، وغايتهم رضوان الله ومغفرته، تركوا الديار والبلاد، والأهل والأولاد، واجتازوا الصعب والمهاد، ترى مظهراً من مظاهر العبودية الخالصة لله رب العالمين.
تمر السنون، تتوالى القرون، ووفود الله يتزايدون في لقاء إيماني واجتماع سنوي، يقدمون من أماكن بعيدة، وبلدان سحيقة، ومن كل فج عميق، إلى واد غير ذي زرع، ليس فيه ما يستهوي النفوس، كل ذلك استجابة لله قائلين: ((لبيك اللهم لبيك)). والعبودية لله في الحج من أعظم ما يحصّله العبد من المنافع والفوائد، وكفى به شرفاً وفضلاً.
عباد الله، حج المصطفى صلى الله عليه وسلم حجة واحدة، حجة جموع ودموع، حيث تقاطرت الوفود من كل فج، لتنال شرف الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي يوم عرفة من هذه الحجة العظيمة، نزل قول الله تعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]، وعندما سمعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: (إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان) وأعظِم به من فقه عمري لأنه استشعر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وسميت حجة الوداع. روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، ولا ندري ما حجة الوداع. وكان صلوات ربي وسلامه عليه يقول: ((إني والله لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)) رواه الدارمي. وكان صلى الله عليه وسلم يقول في كل موطن: ((لتأخذوا عني مناسككم)) رواه مسلم.
((لتأخذوا عني مناسككم)) : وصية النبي صلى الله عليه وسلم لكل حاج أن يتعلم أحكام الحج قال الله تعالى: فَ?سْأَلُواْ أَهْلَ ?لذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43].
((لتأخذوا عني مناسككم)) : وصية النبي صلى الله عليه وسلم لكل من شرّفهم الله بمباشرة خدمة الحجيج، أن يتقوا الله فيهم ويسلكوا بهم هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، إحراماً وتفويجاً، إفاضةً ومبيتاً، طوفاً وسعياً، نصحاً وإرشاداً، بيعاً وشراء. أن يحسنوا الاستقبال، ويؤدوا الواجب بلا استغلال، بالكلمة الطيبة، بالطريقة الطيبة، وبالأمر بالمعروف بالمعروف، وبالنهي عن المنكر من غير منكر.
((لتأخذوا عني مناسككم)) : وصية النبي صلى الله عليه وسلم لكل حاج، ليعلم أن الحج نسك وعبادة، وموسم خير وطاعة، فعرفة ومنى ومزدلفة وأم القرى، يترفّع فيها الحاج وكذا في كل مكان وزمان، يترفّع عن المنازعات والشعارات، أو الدعوى بدعوى الجاهلية وإثارة النعرات، ويحذَر التهم الباطلة وترويج الإشاعات، فهذه أرض المشاعر، وحريّ بالمسلم أن يحقق فيها أطيب الأخلاق والمشاعر.
أحبتي عاد ذهني إلى زمنٍ معظمٍ في سويدا القلب مستطر
كأنني برسول الله مرتدياً ملابس الطهر بين الناس كالقمر
نور وعن جانبيه من صحابته فيالقٌ وألوف الناس بالأثر
ساروا برفقة أزكى مهجةٍ درجت وخير مشتملٍ ثوباً ومؤتزر
ملبياً رافعاً كفيه في وجل لله في ثوبِ أوّابٍ ومفتقر
مُرنماً بجلال الحق تغلبه دموعه مثل وابل العارض المطر
يمضي ينادي خذو عني مناسككم لعل هذا ختام العهد والعمُر
وقام في عرفات الله ممتطياً قصواءه ياله من موقف نضِر
تأمل الموقف الأسمى فما نظرت عيناه إلا لأمواج من البشر
فينحني شاكراً لله منّتَه وفضله من تمام الدين والظفر
يشدو بخطبته العصماء زاكيةً كالشهد كالسلسبيل العذب كالدرر
مجلياً روعة الإسلام في جملٍ من رائع من بديع القول مختصر
داعٍ إلى العدل والتقوى وأن بها تفاضل الناس لا بالجنس والصور
مبيناً أن للإنسان حرمته ممرغاً سيّء العادات بالمدر
يا ليتني كنت بين القوم إذ حضروا مُمَتَّعُ القلب والأسماع والبصر
وأنبري لرسول الله ألثُمُهُ على جبينٍ نقي طاهر عطر
أقبِّل الكف كف الجود كم بذلت سحّاء بالخير مثل السلسل الهدر
ألوذ بالرّحل أمشي في معيته وأرتوي من رسول الله بالنظر
أُسّر بالمشي وإن طال المسير بنا وما انقضى من لقاء المصطفى وطري
أما الرداء الذي حج الحبيب به يا ليته كفن لي في دجى الحُفر
يا غافلاً من مزاياه وروعتها يَمّم إلى كتُبِ التاريخ والسير
يا رب لا تحرمنا من شفاعته وحوضه العذب يوم الموقف العَسِرِ
عباد الله، إن المتأمل في أعمال الحج يستلهم دروساً خالدة، ومعاني سامقة منها: أن المسلم يتعود في الحج الاستسلام لله رب العالمين، والاستجابة والخضوع له والطاعة. فهاجر تقول لخليل الله عليه السلام: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. فأعلنت استسلامها وأذعنت لأمر ربها وخضعت لخالقها قائلة: إذاً لا يضيعنا الله. وأكرم بها من طاعة، في أرض مقفرة لا أنيس ولا ماء، ولا طعام ولا أخلاء.
ويَأمر الله إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه حين بلغ السن التي يفرح فيها الوالد بولده، ولو أُمر غيره بالذبح لكان أهون فكيف إذا كان الذابح للولد أباه؟ ي?بُنَىَّ إِنّى أَرَى? فِى ?لْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَ?نظُرْ مَاذَا تَرَى? قَالَ ي?أَبَتِ ?فْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء ?للَّهُ مِنَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الصافات:102]. فيعلن الوالد والولد استجابتهما وانقيادهما وخضوعهما.
فتأتي أعمال الحج لتركز هذا المفهوم وتعمق هذا المدلول، ولهذا لا غرابة أن تجد بأن المتمردين هنا مطيعين هناك. فهناك يقف الحاج في عرفة ولو تأخر عنها أو تقدم بطل حجه، ويطوف حول الكعبة وهي أحجار مغطاة بستار، ويقبّل الحجر الأسود الذي لا يضر ولا ينفع، يؤدي ذلك ليتربى على الاستسلام والاستجابة، ويتعود على الخضوع والطاعة، قائلاً في كل نسك وفي كل أمر ونهي: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك)) حتى إذا عاد إلى بلده وبيته، وفي عمله وتعامله، وسمع الأوامر الإلهية والزواجر الشرعية قال: ((لبيك اللهم لبيك)) يعلنها في سائر شؤون حياته، كما كان يصدح بها على صعيد عرفات، إذ كيف يستجيب لله في تقبيل حجر ولا يستجيب فيما يجلب الخير ويدفع الضرر. إذا سمع: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ [البقرة:104]، أرخى لها سمعه واستحضر قلبه مستسلماً لله خاضعاً منقاداً، فهو إما خيراً يؤمر به أو شراً ينهى عنه.
إذا سمع: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ?لْخَمْرُ وَ?لْمَيْسِرُ [المائدة:90]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُمْ بِ?لْبَـ?طِلِ [النساء:29]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?جْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ?لظَّنّ [الحجرات:12]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِ?لْعُقُودِ [المائدة:1]، ?عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة:8]، وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً [الحجرات:12]. وهكذا كلما سمع أمراً ربانياً أو توجيهاً نبوياً قال دون تلكؤ وتردد: ((لبيك اللهم لبيك)) قال دون أن يعرض الأمر على العادات والتقاليد، أو يستجيب لأهواء العبيد: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ?لْمَصِيرُ [البقرة:285].
إنه لا مناص عباد الله من أن تطيعوا، لا أن تعرضوا أوامر الله للتضييع والتمييع قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، ?سْتَجِيبُواْ لِرَبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ?للَّهِ مَا لَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مّن نَّكِيرٍ [الشورى:47].
ومن معاني الحج العظيمة: وحدة المسلمين واجتماع كلمتهم، يجتمعون في مكان واحد، وفي زمن واحد، على تباعد ديارهم، وتباين ألوانهم، واختلاف ألسنتهم، تجردوا من ثياب الزينة، وطهّروا قلوبهم من الضغينة.
ففي صعيد عرفات، الأسود والأبيض، الأحمر والأصفر جميعاً مسلمون، برب بواحد يؤمنون، وببيت واحد يطوفون، ولكتاب واحد يقرؤون، ولرسول واحد يتّبعون، ولأعمال واحدة يؤدّون، فأي وحدة أعمق من هذه، كلهم في مظهر واحد. فما أعظم وأحوج المسلمين أن يحققوا وحدة المظهر والمخبر، والظاهر والباطن. ومهما علت النداءات وتكررت الخطابات لتحقيق الوحدة الإسلامية، فلن تتم دون أن نحقق مقوماتها، ونوجد أركانها، ومنها: تصحيح المنهج والمسار والسير على هدي سيد الأبرار، وحب الصالحين الأخيار.
هذا واقع المسلمين لما تفرّقوا، تأمّل أحوالهم، وقد تبدّد شملهم، تفرّق جمعهم، تباين أمرهم، اختلفت آراؤهم، تنافرت قلوبهم، تمزّقت ألفتهم، خمدت نارهم، وركدت ريحهم، بل أصبحوا غثاء كغثاء السيل، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. وأفظع من هذا وأعظم أن ترى الدماء الجارية من أجساد المسلمين الطاهرة بأيد مسلمة. ونتساءل بكل حيرة وعجب، أيقتل المسلم أخاه المسلم بلا سبب؟ هذا الذي كان يمتنع حال إحرامه عن قتل الصيد في الحرم، بل عن تنفيره وإثارته، وهناك تراه يسعى لقتل أخيه وإبادته، دون وازع من دينه، أو رادع من إيمانه وعبادته.
قلّب بصرك أنّى شئت، تر العجب العجاب، ولن ينفع العويل ولا الصراخ والعتاب. ولقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم حرمة المسلم للأمة، وذلك في خطبة حجة الوداع العظيمة فقال: ( (فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) رواه البخاري. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)) أخرجه الترمذي.
أيها المسلمون، في كل منسك من هذا الركن العظيم مغزىً، وعلى كل بقعة معنىً، ولعل في ما ذكر من إشارات ما تتم به السلوى قال الله تعالى: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? [البقرة:197].
بارك الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: ما زلتم عباد الله في موسم من مواسم الخير العظيمة، والأيام الفاضلة هي للطائعين مغنم، وللصالحين ميدان للتنافس ومتجر. فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما العمل في أيام أفضل منها في هذه)) ، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ((ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء)) أخرجه البخاري.
وأخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهنّ من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهنّ من التهليل والتكبير والتحميد)).
فالسعيد من اغتنم مواسم الأيام والشهور، والساعات والدهور، وتقرب فيها إلى مولاه بالطاعات، فعسى أن يصيبه شيء من تلك النفحات، يسعد به سعادة يأمن بعدها من اللفحات.
والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره.
ويسن التكبير والتحميد والتهليل والتسبيح أيام العشر، وإظهار ذلك في المساجد والمنازل والطرقات، وكل موضع يجوز أن يذكر فيه اسم الله، يجهر به الرجال وتخفيه النساء، إظهاراً للعبادة، وإعلاناً بتعظيم الله، قال الله تعالى: لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لاْنْعَامِ [الحج:28]. والتكبير في أول العشر صار من السنن المهجورة، فقد ثبت أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، والمراد أن الناس يتذكرون التكبير فيكبر كل واحد بمفرده، والتكبير في الأضحى مطلق ومقيد، فالمقيد عقب الصلوات، والمطلق في كل حال، في الأسواق وغيرها.
إن يوم عرفة يوم مغفرة الذنوب، والتجاوز عنها، يوم عيد لأهل الموقف، حيث لا ترى فيه إلا عابداً يتبتل، أو مؤمناً يخشع، ومصلياً يركع، وتائباً ذا عين تدمع، تُغسل فيه الآثام، وتُمسح الخطايا، وتُمحى السيئات.
وخُصّ من بين أيام العشر بمزيد فضل، فرتب الشارع على صيامه لغير الحاج فضلاً عظيماً وأجراً جزيلاً، فقد ورد عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة فقال: ((يكفّر السنة الماضية والباقية)) أخرجه مسلم.
فاغتنموا ـ عباد الله ـ مواسم الخيرات، وانهلوا من معين القربات، لتنالوا رحمة رب الأرض والسموات.
(1/2993)
غزوة مؤتة ومُصاب الشيشان
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
المسلمون في العالم, غزوات
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
28/10/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبب موقعة مؤتة. 2- خروج الصحابة إلى مؤتة. 3- القلة المؤمنة تواجه جيوش الكفر في مؤتة. 4- صور من بطولات الصحابة في مؤتة. 5- نتائج الغزوة. 6- مآسي المسلمين في الشيشان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: وبعد صلح الحديبية تفرّغ النبي صلى الله عليه وسلم لدعوته، فبعث الرسل إلى الملوك والولاة في شمال الجزيرة وغربها، وجنوبها وشرقها، يدعوهم إلى الإسلام لله رب العالمين لا شريك له، وترك العباد الذين تحت أيديهم ليُسلموا لله ويتّبعوا رسوله ويخرجوا من الظلمات إلى النور.
وكان من بين هؤلاء الرسل: الحارث بن عمير الأزدي رضي الله عنه الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم بكتابه إلى هرقل ملك الروم بالشام، وخرج الحارث رضي الله عنه برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما نزل مؤتة في شمال الجزيرة عرض له عامل قيصر على الشمال شُرحبيل بن عمرو الغساني فأوثقه رباطاً ثم قدّمه فضرب عنقه ليموت شهيداً رضي الله عنه وأرضاه.
وبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابه همّ عظيم لقتل رسوله، إذ كان الحارث رضي الله عنه الرسول الوحيد من بين رسله الذي تعرض للقتل والأذى وكانت الرسل لا تقتل. فقام النبي صلى الله عليه وسلم وجمع المسلمين وأخبرهم الخبر، ثم جهز جيشاً قِوامه ثلاثة آلاف مقاتل لغزو مؤتة، انتصاراً لهذا الصحابي الجليل الذي قتل، ولأن دم المسلم في الإسلام نفيس. ولما تجهّز الجيش وعزم على الرحيل قام فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وعقد لهم لواءً أبيضاً ودفعه إلى زيد بن حارثة رضي الله عنه وأمّره على هذا الجيش ثم قال: ((إن أصيب زيدٌ فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس)). وأوصاهم عليه الصلاة والسلام أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير وأن يدعوا من هنالك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا عليهم بالله وقاتلوهم.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اغزوا بسم الله في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغيروا ولا تقتلوا وليداً ولا امرأةً ولا كبيراً ولا فانياً ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرةً ولا تهدموا بناءً)).
وهذه من أبرز تعاليم الحروب في الإسلام فإن القتال في الإسلام إنما شرع لنصرة المستضعفين والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، لا إلى التخريب والاعتداء. ولما تهيأ الجيش للخروج حضر الناس يودّعون القواد الثلاثة أمراء جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسلّمون عليهم، فبكى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، فقالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صبابةٌ بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آيةً من كتاب الله تعالى يذكر فيها النار: وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى? رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً [مريم:71]، فلست أدري والله كيف لي بالصدر بعد الورود. ثم قال:
لكنّني أسأل الله مغفرة وضربةً ذات فرغٍ تقذف الزبدا
أو طعنةً بيدي حرّان مُجهِزةً بحربةٍ تُنفِذُ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مرّوا على جَدثي أرشد الله من غازٍ وقد رَشدا
وخرج الجيش من المدينة، وخرج معهم المصطفى صلى الله عليه وسلم في مجموعةٍ من أصحابه رضي الله عنهم مشيّعاً لهم حتى بلغ ثنيّة الوداع، ثم ودّعهم والدموع تفيض من عينيه صلوات الله وسلامه عليه، ومن عيون أمرائه الثلاثة رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان آخر من ودّعه عبد الله بن رواحة، ودّعه مُجهَشاً بالبكاء وهو يقول:
فثبّت الله ما آتاك من حسنٍ تثبيت موسى ونصراً كالذي نُصروا
إني تفرّست فيك الخير أعرفه والله يعلم أن ما خانني البصر
أنت النبي ومن يُحرم شفاعتَه والوجه منك فقد أزرى به القدر
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأنت فثبّتك الله يا ابن رواحة)). قال هشام بن عروة رحمه الله: فثبّته الله عز وجل أحسن الثبات فقتل شهيداً وفُتحت له الجنة فدخلها.
وتحرك الجيش الإسلامي إلى الشمال حتى نزل مُعان من أرض الشام، فبلغتهم الأخبار بأن هرقل ملك الروم قد نزل أرض مآب من أرض البلقاء في مائة ألفٍ من الروم، وانضم إليهم من نصارى العرب مائة ألفٍ أخرى، يقودهم مالك بن زافلة النصراني. فلما علموا بذلك أصابهم من الغمّ والحزن ما الله به عليم. ولكم أن تتصوروا الموقف! ثلاثة آلاف يقفون مقابل مائتي ألف من الروم وأعوانهم، أكبر قوة على وجه الأرض آنذاك.
اجتمع المسلمون وتشاوروا في أمرهم، وأقاموا ليلتين وهم يفكّرون في الأمر، ثم قالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونخبرُه بعدد عدوّنا وما أعدوا لنا، فإمّا أن يمددنا بمدد من عنده، وإمّا أن يأمرنا بأمره فنمضي له. فقام عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يشجع الناس ثم قال: (أيها الناس! والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون ـ يعني الشهادة ـ، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلاّ بهذا الدين الذي أكرمن الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهورٌ وإما شهادة).
فتشجّع المسلمون، ومضوا لقتال عدوهم حتى نزلوا مؤتة بأرض الشام، وكان الروم قد نزلوا قريباً منهم، واقترب الفريقان، والتقى الجمعان، وكان يوماً مشهوداً في تاريخ المسلمين، وبدأت المعركة واعتصم المسلمون بالله الواحد الأحد، الذي يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، وطلبوا المدد والنصر من القويّ العزيز سبحانه، الذي ينصر عباده المؤمنين في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ?لظَّـ?لِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ ?لْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ?لدَّارِ [غافر:52].
معركةٌ عجيبةٌ غريبةٌ في دنيا الواقع، تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة، حيث يقف ثلاثة آلاف مسلم أمام مائتي ألفٍ من الروم وأحلافهم، تستغربها موازين البشر وتعجز عن إدراكها العقول. ولكن لا عجب فإذا كان الله عز شأنه مالك الملك ورب الأرباب مع المسلمين فمن يهزمهم؟ وممن يخافون والناصرُ هو الله؟ ?لئَـ?نَ خَفَّفَ ?للَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ ?للَّهِ وَ?للَّهُ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:66].
أخذ الراية زيد بن حارثة أولُ الأمراء الثلاثة، مولى رسول الله وحِبّه، فقاتل قتالاً مريراً وقدّم من ضروب البسالة والشجاعة ما يعجز عنه الوصف، وبينما هو كذلك أصابه رمح من رماح الأعداء، فخرّ شهيداً رضي الله عنه. فتقدم جعفر بن أبي طالب واستلم الراية ودافع عنها كدفاع صاحبه وهو يقول:
يا حبّذا الجنة واقترابها طيبةً بارداً شرابها
والروم رومٌ قد دنا عذابها كافرةً بعيدةً أنسابها
عليّ إذ لاقيتها ضِرابها
فلما اشتد القتال نزل جعفر رضي الله عنه عن فرس له شقراء فعقرها ثم تقدم يقاتل فقطعت يده اليمنى فاستلم الراية بيده اليسرى فقطعت فاحتضنها بعضديه لئلا تسقط راية رسول الله صلى الله عليه وسلم فينهزم المسلمون، فلم يزل رافعاً لها حتى ضربه روميّ ضربةً قطعته نصفين. روى البخاري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (فالتمسنا جعفراً فوجدناه في القتلى ووجدنا في جسده بضعاً وتسعين طعنةً ورميةً وكانت كلها فيما أقبل من جسده). وتلك شجاعة فذّة وبطولةٌ نادرة وإقدام لا يتكرر إلا قليلاً. ثم تقدم الأمير الثالث عبد الله بن رواحة فاستلم الراية وكاد أن يرجع وتردد بعض التردد، ثم ارتجز بأبياتٍ جميلةٍ، وتقدم وهو يقول:
أقسمتُ يا نفسُ لتنزِلنّه طائعةً أو لتُكرهِنّه
إن أجلب الناس وشدّوا الرنّة ما لي أراكِ تكرهين الجنة
قد طالما مذ كنت مطمئنة هل أنت إلا نطفةٌ في شنّة
ثم نزل للقتال فأتاه ابن عم له بعظم من لحم، وقال: اشدُد بهذا صُلبك فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت. فأخذه منه وانتهس منه نهسةً ثم ألقاه من يده وأخذ سيفه وقاتل حتى قتل رضي الله عنه. ومات الأمراء الثلاثة، استشهدوا جميعاً وارتبك الناس واختلطوا فتقدم ثابت بن أرقم العجلانيّ وأخذ الراية وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. قالوا: أنت! قال: ما أنا بفاعل. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد رضي الله عنه ولم يمض على إسلامه خمسة أشهر بعد، فقد أسلم بعد الحديبية ولكنّها الرجولة التي قال الله تعالى عنها: مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)) رواه البخاري.
استلم القيادة خالد بن الوليد فنظّم الجيش إلى ميمنة وميسرة ومقدمة ومؤخرة، وهجم على الروم فلما رأوا هذا المشهد في الجيش المسلم قذف الله في قلوبهم الرعب وقالوا: قد جاء للمسلمين مدد من المدينة، فاستطاع خالد رضي الله عنه بهذه الخطة الحربية أن يخلّص الجيش المسلم من عدوه وأن يحقق النصر المعنوي العظيم للقلة المسلمة.
روى البخاري في صحيحه أن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: "لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفيحةٌ يمانية". وانتهت المعركة وعاد المسلمون ينعمون بِنَصْرِ ?للَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لرَّحِيمُ [الروم:5].
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة يشاهد المعركة كرامة من الله عن طريق الوحي، فجمع المسلمين وأمر منادياً أن ينادي فيهم، فاجتمعوا ثم أخبرهم عن إخوانهم المجاهدين فقال: ((أخذ الراية زيدٌ فقاتل حتى قتل شهيداً ثم أخذها جعفر فقاتل حتى قتل شهيداً)) ثم صمت صلى الله عليه وسلم حتى تغيّرت وجوه الأنصار وظنوا أنه كان في عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون فقال: ((ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل شهيداً)). ثم قال: ((لقد رفعوا إليّ في الجنة فيما يرى النائم على سرير من ذهب فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازوراراً عن سريري صاحبيه فقلت: بم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد بعض التردد ثم مضى. ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله يعني خالد بن الوليد، حتى فتح الله عليهم)) رواه أحمد.
وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم وعيناه تذرفان بالدموع يتفقد أسر الشهداء الثلاثة، تقول أسماء بنت عميس زوج جعفر رضي الله عنهما: أتاني رسول الله وقد فرغت من اشتغالي وغسّلت أولاد جعفر ودهنتم فأخذهم وشمهم واحتضنهم ودموعه تسيل من عينيه، فقلت: يا رسول الله! أبلغك عن جعفرٍ شيئٌ؟ قال: ((نعم! لقد أصيب هذا اليوم)). ثم عاد إلى أهله وقال: ((اصنعوا لآل جعفرٍ طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم)) رواه أحمد وغيره.
وعاد الجيش إلى المدينة واستقبله الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم يحيونهم على هذه الفتح العظيم ضد أكبر قوة عرفها العالم آنذاك.
أيها المسلمون، هذه بعض أخبار تلك الغزوة العظمى التي نصر الله عباده فيها نصراً مؤزراً وأرهبت الروم في شمال الجزيرة العربية وقذفت الرعب في قلوب الذين كفروا في جزيرة العرب فصاروا يحسبون للمسلمين ألف حساب، وقدِمت الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها تتحالف معه وزاد عدد الذين صاروا يدخلون في دين الله أفواجاً.
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه..
أما بعد: إن هذه الغزوة لتذكرنا بمآسي المسلمين المتكررة في هذه العصور المتأخرة، فقد قامت غزوة مؤتة انتصاراً لمسلم واحدٍ قتله الأعداء في سبيل الله، لأن دم المسلم في الإسلام غالٍ ونفيس، بل إن زوال الدنيا بأسرها أهون على الله تعالى من قتل امرئٍ مسلم.
وهكذا كانت الغزوات في الإسلام انتصاراً للمسلمين والمستضعفين، وما فتح عمورية عنا ببعيد، والتي قامت من أجل صرخة امرأة مسلمة اعتدى عليها علج كافر فصاحت: وامعتصماه! فلما بلغ الخبر المعتصم الخليفة العباسي أجابها بجيش عظيم أوله في عمورية وآخره عنده في العراق فانتصر لها وردّ لها كرامتها وفتح عمورية فتحاً عظيماً.
وفي زماننا هذا تتتابع صيحات الثكالى ونداءات اليتامى من المسلمين في أرض الشيشان فأين المعتصم؟ لقد أثقلهم المحن والفتن على أيدي الروس الكفرة الملحدين بالعشرات يومياً ولا مجيب، ويبكي اليتامى والمستضعفون من المسلمين هناك ولا نصير ولا معتصم، ومع كل أسف إننا لا نتفاعل مع أية جهة منكوبة إلا إذا صعّد الإعلام قضيتهم، فأين مواساتنا لإخواننا في الشيشان، قال ابن القيم رحمه الله: "المواساة أنواع: فتكون بالمال وبالجاه وبالبدن والخدمة وبالنصيحة والإرشاد وبالدعاء والاستغفار لهم وبالتوجع" قال: "وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة" انتهى كلامه.
فأين أقل درجات المواساة، أين التوجع لأحوالهم، أين الدعاء والاستغفار لهم، لقد طال أيها الأحبة تقصيرنا في حق إخواننا، في كل يوم للجرحى أنين، ولكن أين الدواء؟ في كل يوم أشلاء تتطاير ودماء تسيل ونساء ترمّل، وأطفال تُيتّم. ما ذنب الطفلة الصغيرة تلعب في بيتها ثم تقتل، بأي ذنب قتلت. ما ذنب الشيخ الكبير الذي ربى أسرته سنوات طويلة فيرجع فيرى أن البيت قد دمّر عليهم جميعاً. ما ذنب النساء وقد أصبحن أشلاء ممزقة بعد هتك أعراضهن. في كل يوم للجرحى أنين، ولكن أين الدواء؟ في كل يوم يسكب دمع الحزين على طفل أخذ من بين يدي أمه. أما آن لنا أن نفيق من غفلتنا، ونصحو من نومتنا، إن كنّا آمنين، فإخواننا في شدة وخوف، إن كنّا ننام فإخواننا لا يذوقون للنوم طعماً، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
نُسبى ونطرد يا أبي ونبادُ فإلى متى يتطاول الأوغادُ
وإلى متى تدمي الجراح قلوبنا وإلى متى تتقرّح الأكباد
نصحو على عزف الرصاص كأننا زرعٌ وغارات العدو حصاد
ونبيت يجلدنا الشتاء بصوته جلداً فما يَغشى العيون رُقاد
يتسامر الأعداء في أوطاننا ونصيبنا التشريد والإبعاد
وتفرّق الأمراض في أجسادنا أوّاه مما تحمل الأجساد
كم من مريض ملّ منه فراشه ما زاره آسٍ ولا عُوّاد
أين الأحبة يا أبي أو ما دروا أنّا إلى ساح الفداء نقاد
أو ما لنا في المسلمين أحبةٌ فيهم من العَوز المميت سداد
ما بال إخوتنا استكانوا يا أبي لا شامَنا انتفضت ولا بغداد
قالوا الحيادُ وتلك أكبرُ كِذبةٍ فحيادنا ألاّ يكون حياد
يا ويحنا ماذا أصاب رجالنا أو ما لنا سعدٌ ولا مقداد
سُلّت سيوف المعتدين وعربدت وسيوفنا ضاقت بها الأغماد
(1/2994)
محاسبة النفس بعد نهاية الإجازة
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, اغتنام الأوقات
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
3/6/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انصرمت الإجازة بما فيها من تقصير وتفريط. 2- الاعتبار بتقلب الدنيا بأهلها. 3- كل ما يقوله الإنسان ويصنعه مسجل عليه ومحاسب عنه. 4- حسرات أهل المعاصي على الأوقات الضائعة. 5- حرص السلف على أوقاتهم. 6- الحسرة في الآخرة وساعة الاحتضار وعلى الأوقات الضائعة. 7- ضرورة وأهمية محاسبة النفس. 8- لماذا نحاسب أنفسنا؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: وفي هذه اللحظات نودع إجازة صيفية كانت طويلة هذا العام، ونستعد لاستقبال عام دراسي جديد، نسأل الله تعالى العون والسداد.
أيها المسلمون، وإنه لمن المناسب جداً عند العقلاء وكلكم ذلك الرجل أن يقف لحظة محاسبة مع نفسه، كيف مرت به وبأولاده هذه الإجازة، يحاول أن يستعيد بدايتها ولحظاتها حتى نهايتها، كيف ذهبت وبماذا صرفت أوقاتها، وما هي ثمراتها ونتائجها، وما هي خسائرها وحسراتها، ومثل هذا الكلام لا نقصد به عوام الناس فقط، فيظن بعض الطيبين أنهم ليسوا داخلين في الحديث، بل الكل معني بهذا الحديث. حتى المستقيم والمحافظ بماذا قضى الإجازة وكل محاسب على قدر علمه ودينه.
أيها المسلمون، إنه ولابد وفي ختام هذه الإجازة من وقفة محاسبة وتذكر، وما يتذكر إلا من ينيب، فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، واشتدت عليه حسراته. لا بد من وقفةٍ صادقةٍ مع النفس في محاسبةٍ جادةٍ، ومساءلةٍ دقيقةٍ، في مثل هذه اللحظات، فوالله لتموتن كما تنامون، ولتبعثنَّ كما تستيقظون، ولتجزون بما كنتم تعملون.
هل الأعمار إلا أعوام؟ وهل الأعوام إلا أيام؟ وهل الأيام إلا أنفاس؟ وإن عمراً ينقضي مع الأنفاس لسريع الانصرام. أفلا معتبر بما طوت الأيام من صحائف الماضين؟ وقلَّبت الليالي من سجلات السابقين؟ وما أذهبت المنايا من أماني المسرفين؟ كل نفس من أنفاس العمر معدود. وإضاعة هذا ليس بعده خسارة في الوجود. يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا [آل عمران:30].
إن الدنيا تُبكي ضاحكاً، وتضحك باكياً. وتُخيف آمناً، وتؤمن خائفاً، وتفقر غنياً، وتغني فقيراً. تتقلب بأهلها، لا تُبقي أحداً على حال. العيش فيها مذموم، والسرور فيها لا يدوم، تُغيِّر صفاءها الآفات، وتنوبها الفجيعات، وتفجع فيها الرزايا، وتسوق أهلها المنايا. قد تنكرت معالمها، وانهارت عوالمها.
أيها الإخوة، لا يعرف حقيقة الدنيا بصفوها وأكدارها، وزيادتها ونقصانها إلا المحاسب نفسه. فمن صفَّى صُفِّيَ له، ومن كَدَّر كُدِّر عليه، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله. ومن سرَّه أن تدوم عافيته فليتق الله ربَّه، فالبر لا يبلى، والإثم لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.
وإذا رأيت في عيشك تكديراً وفي شأنك اضطراباً، فتذكر نعمةً ما شكرت، أو زلة قد ارتكبت فجودة الثمار من جود البذار، ومن زرع حصد، وليس للمرء إلا ما اكتسب، وهو في القيامة مع من أحب.
يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: من عرف أنه عبدٌ لله وراجعٌ إليه فليعلم أنه موقوف. ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول فليُعد لكل سؤال جواباً. قيل: يرحمك الله فما الحيلة؟ قال: الأمر يسير. تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى. فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي.
أيها الإخوة، لا بد في هذه الدقائق المتبقية من عمر الإجازة من محاسبةٍ تَفُضُّ مغاليق الغفلة، وتوقظ مشاعر الإقبال على الله في القلب واللسان والجوارح جميعاً.
من لم يظفر بذلك فحياته كلها والله هموم في هموم، وأفكارٌ وغموم، وآلامٌ وحسرات. بل إن الله لم يبعث نبيه محمداً إلا بالمهمتين العظيمتين: علم الكتاب والحكمة وتزكية النفوس. هُوَ ?لَّذِى بَعَثَ فِى ?لأُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ [الجمعة:2]، بل لقد علَّق الله فلاحَ عبده على تزكية نفسه ومحاسبتها وقدم ذلك وقرره بأحد عشر قسماً متوالية؛ اقرؤوا إن شئتم وتأملوا: وَ?لشَّمْسِ وَضُحَـ?هَا وَ?لْقَمَرِ إِذَا تَلـ?هَا وَ?لنَّهَارِ إِذَا جَلَّـ?هَا وَ?لَّيْلِ إِذَا يَغْشَـ?هَا وَ?لسَّمَاء وَمَا بَنَـ?هَا وَ?لأَرْضِ وَمَا طَحَـ?هَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـ?هَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـ?هَا [الشمس:1-10].
أيها المسلمون، إن الله عز وجل قدر لنا عدداً محدداً من الأنفاس فكلما تنفس العبد نفساً سجل عليه، حتى يصل العبد إلى آخر العدد المقدر له، عند ذلك يكون خروج النفس، وفراق الأهل، ودخول القبر، وينتقل العبد من دار العمل ولا حساب إلى دار الحساب ولا عمل، وإنما يدرك العبد أهمية محاسبة النفس وخطر الوقت والعمر إذا فقد هذه النعمة، فعند ذلك يتمنى أن يرجع إلى الدنيا لا من أجل أن يجمع حطامها وشهواتها، بل من أجل أن يجتهد في طاعة الله عز وجل، وتتجدد له هذه الأمنية وهذا الطلب كلما عاين أمراً من أمور الآخرة. قال تعالى: حَتَّى? إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ ?لْمَوْتُ قَالَ رَبّ ?رْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـ?لِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100]، وقال تعالى: وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـ?كُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ?لصَّـ?لِحِينَ وَلَن يُؤَخّرَ ?للَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَ?للَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10، 11]، وقال تعالى: وَلَوْ تَرَى? إِذِ ?لْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءوسِهِمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَ?رْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـ?لِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12]، وقال تعالى: وَلَوْ تَرَى? إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ?لنَّارِ فَقَالُواْ ي?لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بِئَايَـ?تِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، وقال تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـ?لِحاً غَيْرَ ?لَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ ?لنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:37]، وقال تعالى: قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا ?ثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ?ثْنَتَيْنِ فَ?عْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى? خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ [غافر:11]، إنما الإجازات والعمر والوقت نعمة من الله عز وجل، فمن شكرها بطاعة الله عز وجل وأنفقها في سبيل الله تقول له الملائكة يوم القيامة: ?دْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32]، وتقول له في الجنة: كُلُواْ وَ?شْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى ?لأَيَّامِ ?لْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، ومن كفر هذه النعمة وبذلها في معصية الله عز وجل تقول له الزبانية: ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ?دْخُلُواْ أَبْو?بَ جَهَنَّمَ خَـ?لِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى ?لْمُتَكَبّرِينَ [غافر:75، 76]، فينبغي على العبد أن يعرف خطر الأوقات واللحظات والإجازات فأهل الجنة لا يتحسرون على شيء، إلا على ساعة مرت عليهم لم يذكروا الله عز وجل فيها.
قال رجل لعامر بن عبد قيس: قف أكلمك فقال: أوقف الشمس.
كانوا يبخلون بأوقاتهم وأنفاسهم أن تنفق في غير طاعة الله عز وجل، وكانوا أحرص على أوقاتهم من حرصنا على دنانيرنا ودراهمنا. ونحن بماذا قضينا الإجازة؟
مات ابن لأبي يوسف تلميذ أبي حنيفة فوكل أحد جيرانه في غسله ودفنه لئلا يفوته درس من دروس شيخه أبي حنيفة.
ودخلوا على الجنيد عند الموت وهو يصلي قال: الآن تطوى صحيفتي.
وقيل لأبي بكر النهشلي وهو في الموت: اشرب قليلاً من الماء قال: حتى تغرب الشمس.
أين وصفك من هذه الأوصاف، لقد قام القوم وقعدنا، وجدوا في الجدّ ونمنا، ما بيننا وبين القوم إلا كما بين اليقظة والنوم.
لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم ليس السليم إذا مشى كالمقعد
يا من إذا تشبه بالصالحين فهو عنهم متباعد، وإذا تشبه بالمذنبين فحاله وحالهم واحد، يا من يسمع ما يلين الجوامد وطرفه جامد، وقلبه أقسى من الجلامد، إلى متى تدفع التقوى عن قلبك وهل ينفع الطرق في حديد بارد.
وما المرء إلا راكب ظهر عمره على سفر يفنيه باليوم والشهر
يبيت ويضحي كل يوم وليلة بعيدا عن الدنيا قريبا إلى القبر
ومن جهل قيمة الوقت الآن، فسيأتي عليه حين من الدهر يعرف فيه قدره وتعاسته وقيمة العمل فيه، ولكن بعد فوات الأوان. وفي هذا يذكر الله تعالى موقفين للإنسان يندم فيهما على ضياع وقته حيث لا ينفع الندم:
أولهما: ساعة الاحتضار، حين يستدبر الإنسان الدنيا ويستقبل الآخرة ويتمنى لو منح مهلة من الزمن ليصلح ما أفسد ويتدارك ما فات: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْخَـ?سِرُونَ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـ?كُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ?لصَّـ?لِحِينَ [المنافقون:9، 10]. ويكون الجواب عن هذه الأمنية: وَلَن يُؤَخّرَ ?للَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَ?للَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11].
ثانيهما: في الآخرة، حيث توفى كل نفس ما عملت وتجزى بما كسبت، ويدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، هنالك يتمنى أهل النار لو يعودون مرة أخرى على الحياة ليبدؤوا من جديد عملا صالحا. وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى? عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـ?لِحاً غَيْرَ ?لَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ ?لنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:36، 37].
أيها المسلمون، إن الليالي والأيام خزائن للأعمال ومراحل للأعمار، تبلي الجديد وتقرب البعيد، أيام تمر وأعوام تتكرر، وأجيال تتعاقب على درب الآخرة، فهذا مقبل وهذا مدبر، وهذا صحيح، وهذا سقيم، والكل إلى الله يسير.
فانظر ـ أيها الحبيب ـ في صحائف أيام الإجازة التي خلت ماذا ادخرت فيها لآخرتك، واخل بنفسك وخاطبها: ماذا تكلم هذا اللسان، وماذا رأت العين، وماذا سمعت هذه الأذن، أين مشت هذه القدم، وماذا بطشت اليد، وأنت مطلوب منك أن تأخذ بزمام نفسك وتحاسبها يقول ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقياً حتى يكون مع نفسه أشد من الشريك مع شريكه".
فلنحاسب أنفسنا على الفرائض، ولنحاسب أنفسنا على المنهيات ولنحاسب أنفسنا على الغفلات في الإجازات، فنحن نمتطي عربة الليالي والأيام تحث بنا السير إلى الآخرة، سمع أبو الدرداء رجلاً يسأل عن جنازة مرت: من هذا؟ فقال أبو الدرداء: هذا أنت.
ولما سئل أبو حازم: كيف القدوم على الله؟ قال: أما المطيع فكقدوم الغائب على أهله، وأما العاصي فكقدوم العبد الآبق على سيده.
فاجتهدوا أيها الأحبة من هذه اللحظة فإنما الأعمال بالخواتيم ولن ينفع قوله: رَبّ ?رْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـ?لِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100].
إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما كما قال عمر بن عبد العزيز.
إن الليل والنهار مطيتان يباعدانك من الدنيا ويقربانك من الآخرة، فطوبى لعبد انتفع بعمره. يُقَلّبُ ?للَّهُ ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ إِنَّ فِى ذ?لِكَ لَعِبْرَةً لاوْلِى ?لاْبْصَـ?رِ [النور:44]، تتجدد الأعوام فنقول: إن أمامنا عاماً جديداً نراه طويلاً لكن سرعان ما ينقضي قال عبد الله بن عمر: أخذ رسول الله منكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) ، فلا يركن المؤمن إلى الدنيا ولا يطمئن إليها، فهو على جناح سفر يهيئ نفسه للرحيل.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فهاهنا سؤالان:
السؤال الأول: هل تدرون ماذا نقصد بمحاسبة النفس مع نهاية الإجازة؟ نقصد بها أن ينظر كل واحد منا في أعماله وأحواله وأقواله في الإجازة التي مرت، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
السؤال الثاني: وهل تدرون لما نحاسب أنفسنا؟ لأربعة أمور:
الأمر الأول: حتى يخفف عنا حساب الآخرة. يدني الله تعالى المؤمن يوم القيامة فيضع عليه كنفه ـ أي ستره عن أعين الخلق ـ فيقرره بذنوبه: أتعرف ذنب كذا في يوم كذا؟ فيقول: نعم، فيقول الله عز وجل: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك، فيعطى صحيفة حسناته. وأما الكافر والمنافق فينادى عليه على رؤوس الخلائق: هَؤُلاء ?لَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى? رَبّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ?للَّهِ عَلَى ?لظَّـ?لِمِينَ [هود:18].
الأمر الثاني: نحاسب أنفسنا أيضاً لأن الشهود كثير، فإذا كان قضاة الدنيا يمكن الاحتيال عليهم بالرشوة والوساطة والنفوذ وإحضار شهود الزور فشهود الآخرة لا يجرى عليهم ذلك، وأعظم شهادة، شهادة رب العالمين: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى? ثَلَـ?ثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ [المجادلة:7]، وشهادة الملائكة: إِذْ يَتَلَقَّى ?لْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17، 18]، وشهادة الجوارح: ?لْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى? أَفْو?هِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يس:65]، وشهادة الجلود: وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا ?للَّهُ ?لَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء [فصلت:21]، وشهادة الأرض: إِذَا زُلْزِلَتِ ?لاْرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ ?لارْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ ?لإِنسَـ?نُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى? لَهَا [الزلزلة:1-5]، قالوا: يا رسول الله ما أخبارها؟ قال: ((أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول: عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا)).
والأمر الثالث الذي من أجله نحاسب أنفسنا في نهاية هذه الإجازة وبداية عام دراسي جديد لأن ألد عدو للإنسان نفسه، فهي الأمارة بالسوء كما وصفها خالقها إِنَّ ?لنَّفْسَ لامَّارَةٌ بِ?لسُّوء [يوسف:53]، فما تشتهيه نفسك هو السبيل إلى النار وما تكرهه هو السبيل إلى الجنة قال صلى الله عليه وسلم: ((حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)) فكان لابد من الرقي بها بالمعاتبة والمحاسبة.
الأمر الرابع: تأمل يا عبد الله، هذه يد المنون تتخطف الأرواح من أجسادها. تتخطفها وهي راقدة في منامها. تعاجلها وهي تمشي في طرقاتها. تقبضها وهي مكبة على أعمالها. تتخطفها وتعاجلها من غير إنذار أو إشعار. فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، ها هو ابن آدم يصبح سليماً معافى في صحته وحُلَّته، ثم يمسي بين أطباق الثرى قد حيل بينه وبين الأحباب والأصحاب. ويلٌ للأغرار المغترين. يأمنون الدنيا وهي غرارة. ويثقون بها وهي مكارة. ويركنون إليها وهي غدارة. فارقهم ما يحبون، ورأوا ما يكرهون. وحيل بينهم وبين ما يشتهون. ثم جاءهم ما يوعدون. ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون.
اللهم رحمة..
(1/2995)
مرحباً برمضان
فقه
الصوم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
28/8/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كلمة في استقبال رمضان واغتنام أيامه ولياليه. 2- معاني يحققها المسلم بالصيام. 3- الصوم ودرس العبودية الحقة لله عز وجل. 4- الصوم مدرسة التقوى والتهذيب. 5- رمضان شهر التوبة والمغفرة. 6- أبواب الجنة المفتحة في رمضان. 7- التحذير من النار وعذابها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: معاشر المسلمين، كم تُطوى الليالي والأيام، وتنصرم الشهور والأعوام، فمن الناس من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وإذا بلغ الكتاب أجله فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. ومن يَعِشْ منكم يا عباد الله، أسأل الله عز وجل أن يطيل في أعماركم وأن يجعلها في طاعته وأن يتوفانا جميعاً سبحانه وتعالى وهو راضٍ عنا.
أقول أيها الإخوة، فإنه من يعش منكم فسيرى حلواً ومرّاً، فلا الحلو دائم ولا المرّ جاثم، وسيرى أفراحاً وأحزاناً، وسيسمع ما يؤنسه وسيسمع ما يزعجه، وهذه سنة الحياة، والليل والنهار متعاقبان، والآلام تكون من بعد زوالها، أحاديث وذكرى، ولا يبقى للإنسان إلا ما حمله زاداً للحياة الأخرى، وينظر المرء ما قدمت يداه وكل يجري إلى أجل مسمى. كل الناس يغدو في أهدافه وآماله، ورغباته وأمانيه، ولكن أين الجازمون وأين الكَيِّسُون؟ كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
أيها المسلمون، وبعد أيام سنستقبل شهراً عظيماً وضيفاً كريماً، وأنتم كنتم قد وَعدتم أنفسكم قبله أعواماً ومواسمَ، ولعل بعضكم قد سوّف وقصّر، فها هو قد مُدّ له في أجله، وأُنسئ له في عمره، فماذا عساه فاعل؟ إن بلوغ رمضان نعمةٌ كبرى يقدرها حق قدرها الصالحون المشمرون. إن واجب الأحياء استشعار هذه النعمة واغتنام هذه الفرصة، إنها إن فاتت كانت حسرةً ما بعدها حسرة، أي خسارة أعظم من أن يدخل المرء فيمن عناهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بحديثه على منبره في مُساءلةٍ بينه وبين جبريل الأمين: ((من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له، فدخل النار فأبعده الله قل: آمين، فقلت: آمين)) رواه ابن حبان وصححه الحاكم.
فمن حرم المغفرة في شهر المغفرة فماذا يرتجي؟ إن بلوغ الشهر أمنية كان يتمناها نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، ويسألها ربه، حتى كان يقول: ((اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان)).
أيها المسلمون، إن في استقبال شهر الصوم تجديد لطيف الذكريات، وعهود الطهر والصفاء والعفة والنقاء، ترفُّعٌ عن مزالق الإثم والخطيئة، إنه شهر الطاعات بأنواعها صيام وقيام، جود وقرآن، صلوات وإحسان، تهجد وتراويح، أذكار وتسابيح، له في نفوس الصالحين بهجة، وفي قلوب المتعبدين فرحة، وحسبكم في فضائله أن أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار.
كم في نفوسنا يا عباد الله من شهوةٍ وهوى، وفي صدورنا دوافع غضبٍ وانتقام، وفي الحياة تقلب في السراء والضراء، وفي دروب العمر خطوب ومشاق، ولا يُدَافع ذلك كله، إلا بالصبر والمصابرة، ولا يُتَحمّل العناء، إلاّ بصدق المنهج وحسن المراقبة. وما الصوم إلا ترويض للغرائز، وضبط للنوازع. فجديرٌ بشهرٍ هذه بعض أسراره، وتلك بعض خصاله، أن يفرح به المتعبدون ويتنافس في خيراته المتنافسون، فما أكرمَ اللهُ أمة بمثل ما أكرم به أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
فيا أهل الصيام والقيام: اتقوا الله تعالى وأكرِموا هذا الوافد العظيم، جاهدوا النفوس بالطاعات، ابذلوا الفضل من أموالكم في البر والصلات استقبلوه بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله، جددوا العهد مع ربكم وشدّوا العزم على الاستقامة، فكم من مؤمل بلوغه أصبح رهين القبور، قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
أيها المسلمون، في الصيام معانٍ عظيمة، لا يدركها إلا من وفقه الله جل جلاله، ففيه تحقيقٌ للاستسلام والعبودية لله جل وعلا، إذ الصوم يربي المسلم على العبودية الحقة، فإذا جاء الليل أكل وشرب امتثالاً لقول ربه الكريم: وَكُلُواْ وَ?شْرَبُواْ حَتَّى? يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ?لْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ ?لْخَيْطِ ?لاسْوَدِ مِنَ ?لْفَجْرِ [البقرة:187]، وإذا طلع الفجر أمسك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات امتثالا لأمر الله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّواْ ?لصّيَامَ إِلَى ?لَّيْلِ [البقرة:187]، وهكذا يتربى المسلم على كمال العبودية لله، فإذا أمره ربه عز وجل بالأكل في وقت معين أكل، وإذا أمره بضد ذلك في وقت آخر امتثل، فالقضية ليست مجرد أذواق وشهوات وأمزجة، وإنما هي طاعة لله تعالى وتنفيذ لأمره.
فالذي يتربى على هذا في رمضان، يفترض فيه أنه إذا أمره ربه بأي شيء بعد رمضان امتثل، فلو أمره بالجماعة في المساجد حضر، وإذا أمره ربه بترك الربا في معاملاته ترك، فالطاعة والامتثال ليس في رمضان بترك الأكل والشرب، بل هي الطاعة الكاملة المطلقة في كل وقت، وفي كل حين، حتى يأتيك اليقين، وإلا فهو تلاعب وليست طاعة لله. وهكذا يتربى المؤمن على معنى الاستسلام والعبودية لله تعالى بحيث يأمرْ ربه سبحانه بالشيء فيمتثل، ويأمره ربه سبحانه بضده فيمتثل سواء أدرك الحكمة أو لم يدركها.
عباد الله، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، إن الغاية الأولى من الصيام هي إعداد القلوب للتقوى والخشية من الله تعالى. والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، فهي غاية، تتطلع إليها النفوس اليقظة، وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها. فالدين لا يقود الناس بالسلاسل إلى الطاعات، إنما يقودهم بالتقوى، وهذا الدين دين الله لا دين الناس، وإذا حدث أن فسد الناس في جيل من الأجيال فإن صلاحهم لا يتأتَّى من طريق التشدد في الأحكام، ولكن يتأتَّى من طريق إصلاح تربيتهم وقلوبهم، وإحياء شعور التقوى في أرواحهم.
إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه ولم ينهَ قلباً غاوياً حيث يمّما
فيوشك أن تلقى له الدهر سُبَّة إذا ذُكرت أمثالها تملأ الفما
الصوم يصنع الإنسان صناعة جديدة، تخرجه من ذات نفسه وتكسر القالب الأرضي الذي صُبّ فيه، فإذا هو غير هذا الإنسان الضيق المنحصر في جسمه ودواعي جسده، فلا تغره الدنيا ولا يمسكه الزمان ولا تخضعه المادة، ولهذا كان من الطبيعي جداً أن يفرض الصوم على الأمة التي فرض عليها الجهاد في سبيل الله، لتقرير منهجه في الأرض وللقوامة على البشرية.
من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته، ومن تعجل ما حرّم عليه قبل وفاته، عوقب بحرمانه في الآخرة وفواته. شاهد ذلك قول الله تعالى: َذْهَبْتُمْ طَيّبَـ?تِكُمْ فِى حَيَـ?تِكُمُ ?لدُّنْيَا وَ?سْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [الأحقاف:20].
فهلّم يا باغي الخير إلى شهر يضاعف فيه الأجر للأعمال، وهلّم يا باغي الخير إلى شهر العتق من النيران، إلى شهر ليلة القدر، إلى شهر الدعاء، إلى شهر مضاعفة الحسنات.
في كل عام لنا لقيا محببة يهتز كل كياني حين ألقاه
بالعين والقلب بالآذان أرقبه وكيف لا وأنا بالروح أحياه
والليل تحلو به اللقيا وإن قصرت ساعاتها ما أُحيلاه وأحلاه
فنوره يجعل الليل البهيم ضحىً فما أجلّ وما أحلى محياه
ألقاه شهراً ولكن في نهايته يمضي كطيف خيال قد لمحناه
في موسم الطهر في رمضان الخير تجمعنا محبة الله لا مالٌ ولا جاه
صاموه قاموه إيماناً ومحتسباً أحيوه طوعاً وما في الخير إكراه
وكلهم بات بالقرآن مندمجاً كأنه الدم يسري في خلاياه
فالأذن سامعة والعين دامعة والروح خاشعة والقلب أوّاه
فياغيوم الغفلة عن القلوب تَقَشَّعي، ويا شموس التقوى والايمان اطلعي، ويا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي، يا أرض الهوى ابلعي ماءك، ويا سماء النفوس أقلعي، وبعد أيام تمد موائد الإنعام للصُّوام، فما منكم إلا من وسيدعى، فيا قومنا أجيبوا داعي الله. كم ينادى حي على الفلاح وأنت خاسر، وكم تدعى إلى الصلاح وأنت على الفساد مثابر.
يتلذذون بذكره في ليلهم ويكابدون لدى النهار صياما
فسيغنمون عرائساً بعرائس ويبَّوؤن من الجنان خياما
وتقر أعينهم بما أخفي لهم وسيسمعون من الجليل سلاما
إنه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وفي بقيته للعابدين مستمتع، وهذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم ويسمع، ومع هذا فلا القلب يخشع، ولا العين تدمع، ولا صيام يصان عن الحرام فينفع، ولا قيام استقام فيرجى في صاحبه أن يشفع، ونفوس وقلوب تراكمت عليها ظلمة الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع، كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، ونفوس وقلوب تراكمت عليها ظلمة الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع، وكم يتوالى علينا شهر رمضان وحالنا فيه كحال أهل الشقوة، لا الشابّ منا ينتهي عن الصبوة، ولا الشيخ ينزجر عن القبيح فيلتحق بالصفوة، أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة، وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والأبصار، أما لنا فيهم أسوة؟ ما بيننا وبين حال القوم أبعد مما بين الصفا والمروة، كلما حسنت منا الأقوال ساءت منا الأعمال. فالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلاّ به.
أيها المسلمون، إن شهر رمضان له في قلوب المسلمين معانٍ خاصة. فقد ميزه المولى جل وتعالى عن باقي الشهور بعدة خصائص. وميزه بعدة سمات، من ذلك أنه شهر تكفير السيئات: أنعم الكريم سبحانه على الأمة بتمام إحسانه، وعاد عليها بفضله وامتنانه، وجعل شهرها هذا مخصوصاً بعميم غفرانه. فيا أيها الأحبة، أيام رمضان أيام محو ذنوبكم، فاستغيثوا إلى مولاكم من عيوبكم، هي أيام الإنابة، فيها تفتح أبواب الإجابة، فأين اللائذ بالجناب؟ أين المتعرِّض بالباب؟ أين الباكي على ما جنى؟ أين المستغفر لأمر قد دنا. أين المعتذر مما جناه فقد اطّلع عليه مولاه؟ أين الباكي على تقصيره قبل تحسره في مصيره؟
عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل فقال يا محمد: من أدرك شهر رمضان فمات ولم يغفر له فأُدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت آمين)) رواه الطبراني في الكبير. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر)) رواه مسلم.
يا من كان يجول في المعاصي قبل رمضان، ها قد أعطاك الله الفرصة، لا تكن كمن كلما زاد عمره زاد إثمه. فيا أيها الغافل، اعرف نفسك، وانتبه لوقتك، يا متلوثاً بالزلل، اغسل بالتوبة أدرانك، يا مكتوباً عليه كل قبيح، تصفح ديوانك. لو قيل لأهل القبور تمنّوا، لتمنوا يوماً من رمضان. وأنت كلما خرجت من ذنب دخلت في آخر، أنت، نعم أنت، أما تنفعك العبر؟ أَصُمَّ السمع أم غُشَي البصر؟ آن الرحيل وأنت على خطر وعند الممات يأتيك الخبر.
قال بعضهم: "السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، وأنفاس العباد ثمراتها، فشهر رجب أيام توريقها، وشعبان أيام تفريعها، ورمضان أيام قطفها، والمؤمنون قُطّافها".
يا من قد ذهبت عنه هذه الأشهر، وما تغيّر، أقولها لك صريحة: أحسن الله عزاءك.
أنا العبد الذي كسب الذنوبا وصدته الأماني أن يتوبا
أنا العبد الذي أضحى حزينا على زلاته قلقاً كئيبا
أنا العبد المسئ عصيت سراً فمالي الآن لا أبدي النحيبا
أنا العبد المفرط ضاع عمري فلم أرعَ الشبيبة والمشيبا
أنا العبد الغريق بُلجِّ بحر أصيح لربما ألقى مجيبا
أنا العبد السقيم من الخطايا وقد أقبلت ألتمس الطبيبا
أنا الغدّار كم عاهدت عهداً وكنت على الوفاء به كذوبا
فيا أسفي على عمر تقضّى ولم أكسب به إلا الذنوبا
ويا حزناه من حشري ونشري بيوم يجعل الولدان شيبا
ويا خجلاه من قبح اكتسابي إذا ما أبدت الصحف العيوبا
ويا حذراه من نار تلظى إذا زفرت أقلقت القلوبا
فيا من مدّ في كسب الخطايا خطاه أما آن الأوان لأن تتوبا
بارك الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جاء رمضان، فُتِّحَت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وصُفِّدَت الشياطين)) رواه البخاري ومسلم. حديث نحفظه لكن قليل منا من يستشعره، ما هي الجنة التي تفتح أبوابها في رمضان؟ وما هي النار التي تغلق أبوابها في رمضان؟ فهل لنا من وقفة تأمل في ذلك؟
أما الجنة فإن فتح أبوابها في رمضان حقيقة، لا تحتاج إلى تأويل، وهذه نعمة عظيمة ومنة كريمة من الله، يتفضل بها على عباده في هذا الشهر.
إنها الجنة يا عباد الله التي غرس غراسها الرحمن بيده. إنها الجنة التي لا يسأل بوجه الله العظيم غيرها. إنها الجنة دار كرامة الرحمن فهل من مشمر لها. إنها الجنة فاعمل لها بقدر مقامك فيها. إنها الجنة فاعمل لها بقدر شوقك إليها. إنها الجنة التي اشتاق إليها الصاحون من هذه الأمة، فسلوا عنها جعفر الطيار، وعُمير بن الحُمام، وحرام بن مِلْحان، وأنس بن النَّضْر، وعامر بن أبي فُهَيرة، وعمرو بن الجَموح وعبدالله بن رواحة.
نعم إنها الجنة التي ستفتح أبوابها بعد أيام، ولكن يا عجباً لها كيف نام طالبها، وكيف لم يدفع لمهرها في رمضان خاطبها، وكيف يطيب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها. إنها الجنة، دار الموقنين بوعد الله، المتهجدين في ليالي رمضان، الصائمين نهاره، المطعمين لعباد الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها)) قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: ((لمن أطعم الطعام وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام)) رواه الإمام أحمد.
إنها الجنة ما حُليت لأمة من الأمم، مثلما حُلّيت لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. إن نبي الله موسى عليه السلام خدم العبد الصالح عشر سنوات، مهراً لزواجه من ابنته. فكم تخدم أنت مولاك لأجل بنات الجنان الحور الحسان.
إن مفاتيح الجنة مع أصحاب قُوّام الليل، وهم حُرّاسها، فيا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجه الله في الدار الآخرة، ويا ذلة الراجعين بالصفقة الخاسرة، قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى? رَبّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ [القيامة:22-25].
فحيَّ على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبى العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
فلله أبصار ترى الله جهرة فلا الحزن يغشاها ولا هي تسأم
فيا نظرة أهدت إلى الوجه نضرةً أمن بعدها يسلو المحب المتيم
أجئتنا عطفاً علينا فإننا بنا ظمأً والمورد العذب أنتم
وأما النار التي ستغلق أبوابها في رمضان فقد قال الله تعالى عنها: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لّلطَّـ?غِينَ مَئَاباً [النبأ:21، 22]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفس محمد بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)) قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: ((رأيت الجنة والنار)) رواه مسلم من حديث أنس.
النار التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم يحطم بعضها بعضاً، والتي قال عنها صلى الله عليه وسلم لما رآها: ((ورأيت النار لم أر منظراً كاليوم قط أفظع)).
هذه النار هي مخلوقة الآن، موجودة الآن، إنها مُعَدَّة، فإياك ثم إياك أن تكون من وقودها.
لقد أُخبرتُ بأن النار مورد الجميع، وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى? رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجّى ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّنَذَرُ ?لظَّـ?لِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71، 72]. فأنت من الورود على يقين، لكنك من النجاة في شك.
استشعر يا أخي في قلبك هول ذلك المورد، فعساك أن تستعد للنجاة منه، تأمل في حال الخلائق وقد قاسَوا، من دواهي القيامة ما قاسوا فبينما هم في كربها وأهوالها، ينتظرون حقيقة أنبائها، وتشفيع شفعائها، إذ أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات شعب، وأظلت عليهم نار ذات لهب، وسمعوا لها زفيراً وجرجرة، تفصح عن شدة الغيظ والغضب، فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب، وجثت الأمم على الرُّكب، حتى أشفق البريء من سوء المنقلب، وخرج المنادي من الزبانية قائلاً: أين فلان بن فلان؟ المسوِّف نفسه في الدنيا بطول الأمل، المضيع عمره في سوء العمل، فيبادرونه بمقامعَ من حديد، ويستقبلونه بعظائمِ التهديد، ويسوقونه إلى العذاب الشديد، ثم ينكسونه في قعر الجحيم، ويقولون له: ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ?لْعَزِيزُ ?لْكَرِيمُ [الدخان:49].
فَأُسكنوا داراً ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، يخلد فيها الأسير، ويوقد فيها السعير، طعام أهلها الزقوم، وشرابهم الحميم، ومستقرهم الجحيم، الزبانية تقمعهم، والهاوية تجمعهم، أمانيُّهم فيها الهلاك، وما لهم منها فكاك، قد شُدّت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي، ينادون من أكنافها، ويصيحون في نواحيها وأطرافها: يا مالك قد حق علينا الوعيد، يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود، فتقول الزبانية: هيهات لات حين أمان، ولا خروج لكم من دار الهوان.
يا عبد الله، إن القضية جد، إنه لقول فصل، وما هو بالهزل، نار، غمٌّ قرارها، مظلمةٌ أقطارها، حاميةٌ قدورها، فظيعةٌ أمورها، عقابها عميم، عذابها أليم، بلاؤها شديد، وقعرها بعيد، سلاسل وأغلال، مقامع وأنكال زمانهم ليل حالك، وضجيجهم ضجيج هالك، يصطرخون فيها فلا يجيبهم مالك، ومقامع الحديد تهشم جباههم، ويتفجر الصديد من أفواههم، وينقطع من العطش أكبادهم، وتسيل على الخدود أحداقهم، لهيب النار سار في بواطن أعضائهم، وحيات الهاوية وعقاربها تأخذ بأشفارهم.
نعوذ بالله أن نكون من قوم لباسهم نار، ومهادهم نار، لُحُفٌ من نار، ومساكن من نار، وهم ـ والعياذ بالله منها ـ في شر دار.
فيها غلاظ شداد من ملائكة قلوبهم شدة أقسى من الحجر
لهم مقامع للتعذيب مرصدة وكل كسر لديهم غير منجبر
سوداء مظلمة شعثاء موحشة دهماء محرقة لواحة البشر
يا ويلهم تحرق النيران أعظمهم فالموت شهوتهم من شدة الضجر
ضجوا وصاحوا زمانا ليس ينفعهم دعاء داع ولا تسليم مصطبر
وكل يوم لهم في طول مدتهم نزع شديد من التعذيب في سقر
فيا أخي الكريم، إذا كانت النار بهذه المثابة بل أشد، فإني أسألك أيها العاقل، أليست فرصة أن تغلق أبوابها في الأيام القادمة ـ إن كنا أحياءً ـ فإن لم تنتهز الفرصة الآن، فمتى يكون؟
فيا عجباً ندري بنار وجنة وليس لذي نشتاق أو تلك نحذر
إذا لم يكن خوف وشوق ولا حيا فماذا بقى فينا من الخير يذكر
وليس لحر صابرين ولا بلى فكيف على النيران يا قوم نصبر
وفوق جنان الخلد أعظم حسرة على تلك فليستحسر المتحسر
(1/2996)
مفاتيح الرزق
الإيمان
الجن والشياطين
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
11/5/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله هو الرزاق، وقد تكفل برزق الجميع. 2- الرزق أمر مقدر قبل ولادة الإنسان. 3- تقسيم الأرزاق وتفاوت الناس إنما هو قسمة الرزاق الكريم. 4- الإنفاق وسيلة لزيادة الرزق. 5- الرزق لا يطلب إلا من الله. 6- لا تلازم بين محبة الله وسعة الرزق. 7- أسباب شرعية تستجلب الرزق والبركة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن الله جل جلاله، خلق الخلق، وتكفل برزقهم وقوتهم، فآواهم وأعطاهم وأمدهم، فهذه تسعة من جوانب عقيدة المسلم في باب الرزق.
أولاً: إن الله سبحانه وحده هو الرزاق ذو القوة المتين، قال الله تعالى: ?للَّهُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الروم:40]، وقال تعالى: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ ?لسَّمْعَ و?لاْبْصَـ?رَ [يونس:31]، وقال جل ذكره: وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْو?جِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مّنَ ?لطَّيّبَاتِ أَفَبِ?لْبَـ?طِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ ?للَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل:72]. إذاً كل ما بيد المسلم في هذه الدنيا فهو من رزق الله له، أموال وبنين، بيوت ودور، مزارع وقصور صحة وعافية، كلها وغيرها من تمام رزق الله لعبده في الدنيا.
ثانياً: رزق الخلق في الدنيا من صفات الله الدالة على كمال ربوبيته وقيوميته، انظر إلى ما خلق الله في هذا الكون، تجده كله مرزوقاً متقلباً في رزق الله.
ثالثاً: إن من لوزام مقتضيات الإيمان بالقضاء والقدر، في عقيدة المسلم، في باب الرزق، أن كل خير وكل رزق يقدره الله للعبد، لا يمكن أن يخطئه ويستحيل أن يصيب غيره، قال الله تعالى: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ?لأرْضِ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6]. لقد تكفل الله برزق الخلق عندما خلقهم، فلم يتركهم سبحانه هَمَلاً، ولم يتركهم جياعاً عطاشاً، بل قدر لهم مقاديرهم، وكتب لكل نفس رزقها ولن تموت يا عبد الله، اعلم أنك لن تموت حتى تستكمل الرزق الذي كتبه الله لك.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((إن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)) [السلسلة (2866)].
إن رزقك يا عبد الله كتب لك بالدقة، حتى القرش حتى اللقمة، وأنت في بطن أمك، أَرْعِني سمعك وافهم هذا الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً، ويؤمر بأربع كلمات، ويقال له، اكتب عمله ورزقه وأجله، وشقي أو سعيد ثمُ ينفخ فيه الروح)) رواه البخاري ومسلم.
فوالله الذي لا إله إلا هو، لو اجتمعت الدنيا كلها، بقضِّها وقضيضها، وجيوشها ودولها، وعسكرها وملوكها وأرادوا أن يمنعوا رزقاً قدره الله لك، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ولو أرادوا أن يسقوك شربة ماء، لم يكتبْه الله لك، فإنك ستموت قبل هذه الشربة.
رابعاً: وأيضاً من جوانب الاعتقاد في الرزق، أن تقسيم الأرزاق بين الناس، لا علاقة له، بالحسب ولا بالنسب، ولا بالعقل والذكاء، ولا بالوجاهة والمكانة ولا بالطاعة والعصيان، وإنما يوزع جل جلاله رزقه على عباده، لحكمة هو يعلمها، فقد يعطي المجنون، ويحرم العاقل، وقد يعطي الوضيع، ويمنع الحسيب.
ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا هلكن إذاً من جهلهن البهائم
ولم يجتمع شرق وغربٌ لقاصد ولا المجد في كف امرئ والدراهمُ
فإذا أُعطيتَ يا عبد الله، فلا تظن بأن هذا الرزق قد سيق إليك لأنك من قبيلة كذا، أو لأنك تحمل الجنسية الفلانية، أو لأنك أذكى من غيرك، لا، وإنما هذه أرزاق يقسمها مالك السماوات والأرض، لِحِكَمٍ هو يعلمها.
خامساً: إن الرزق يُجرىَ للعبد، ليستعين به على طاعة ربه، قال شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله: "إنما خلق الله الخلق، ليعبدوه، وإنما خلق الزرق لهم، ليستعينوا به على عبادته".
إذن يعطيك الله سبحانه ما أعطاك لتلهوَ وتلعب به، وتنسى الدار الآخرة، الذي من أجله خلقت ولأجله أُعطيت، لا يا عبد الله، إن الله أعطاك ما أعطاك، لتستعين به على عبادته، لا لتستخدمه في محرماته. إن أولئك الذين يستخدمون مال الله، فيما حرم الله، وينهكون الصحة والبدن والعافية، التي هي من أَجَلِّ زرق الله، ينهكونه ويسخرونه في شهوات حرمها الله عليهم، هؤلاء بماذا وكيف يجيبون إذا سئلوا يوم القيامة؟
بماذا يجيب الذي يستخدم رزق الله، في سفرات محرمة، وجلسات مشبوهة؟
بماذا يجيب من يستخدم رزق الله، في إدخال آلات ووسائل محرمة إلى بيته، تستقبل العهر والفاحشة من شرق الدنيا وغربها.بل قبل وبعد هذا؟
بماذا يجيب من يستخدم رزق الله في محاربة دين الله؟
بماذا يستجيب من يستخدم رزق الله في محاربة أولياء الله؟
بماذا يستجيب من يستخدم رزق الله في التمكين لأعداء الله؟
إذاً فلْيُعِدَّ كلٌ لسؤال ذلك اليوم جوابا.
سادساً: كثيراً ما يُربط في القرآن بين رزق الله للعباد، وبين مطالبة العباد للإنفاق في سبيل الله، من ذلك الرزق، الذي تفضل هو به عليهم، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْخَـ?سِرُونَ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـ?كُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ?لصَّـ?لِحِينَ وَلَن يُؤَخّرَ ?للَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَ?للَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].
وكثيراً ما يصف الله سبحانه المؤمنين بأنهم مما رزقناهم ينفقون، قال الله تعالى: قُل لّعِبَادِىَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ يُقِيمُواْ ?لصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلانِيَةً [إبراهيم:31]، وقال تعالى: وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّا وَجَهْرًا [النحل:75]، وقال سبحانه: ?لَّذِينَ يُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:3]، ما دلالة هذه الآيات؟
إن هذه الآيات وأمثالها تدل على أن من المقاصد الأساسية لرزق الله للعبد، هو أن يُتعَبَّدَ اللهُ بهذا الرزق، ولهذا تجد أن الفقهاء يذكرون في كتب الفقه، أنّ على العباد، عبادات مالية، ويضربون لذلك مثلاً الزكاة، وعبادات بدنية كالصلاة، ونوع ثالث تجتمع في العبادات البدنية والمالية، ويضربون لذلك مثلاً بالحج. فأنت تنفق من رزق الله وتصرف في الحج تتعبد بذلك لله.
إذاً من المقاصد الأساسية لرزق الله، هو التعبد لله به، بالنفقة والزكاة والصدقة والوقف وبإطعام الطعام، والهدية، والهبة، فهذه كلها وغيرها ينفقها المسلم من رزق الله، تعبداً لله.
كل هذا ليس بغريب، لكن الغريب هو العكس أن لا يتَعَبَّدَ العبدُ الله من رزقٍ لله، والعجيب أن يمسك العبد عن العطاء لله، من رزق الله.هذا هو الغريب.
سابعاً: ومن عقيدة المسلم في الرزق، أن الله جل وعز، فضل بعض الناس على بعض في الرزق، فأعطى هذا وبسط له الكثير، وأعطى ذاك أقل منه، وحرم الثالث فلم يعطهِ شيئاً. قال الله تعالى: وَ?للَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى? بَعْضٍ فِى ?لْرّزْقِ [النحل:71]، وهذا ليس بغريب وليس بسر، لكن من لطيف أسرار الرزق، أنك تجد الأول الذي بُسط له في الرزق، ويملك الكثير، لا يشعر بذلك، بل يشعر أنه محروم يملك، لكن حياته جحيم، يملك، ويعيش حياة من لا يملك.
والآخر، الذي أعطِيَ القليل وفي كثير من الأحيان لا يكفيه، ولا يكفي عياله، ومع ذلك يرى أنه قد أوتي خيراً كثيراً، وأنه رُزق رزقاً عظيماً.ما السر في ذلك أيها الأحبة؟
السر، أن الرزقَ الحقيقي رزقُ القلب بالإيمان والقناعة، فمن رزقه الله القناعة، فقد أوتي خيراً كثيراً، وأحسَّ بالسعادة في دنياه قبل آخرته. كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يقول له، "واقنعْ برزقك من الدنيا فإن الرحمن فضل بعض عباده على بعض في الرزق.
ثامناً: ومن العقائد المهمة في باب الرزق، أنه لا يُطلب إلا من الله، ولا يُسأل إلا وجهه الكريم، إذا سألت فاسألِ الله، وإذا استعنت فاستعِنْ بالله، ولذا ذمَّ الله تعالى أولئك الذين يدعون غيره في طلب الرزق، فقال سبحانه: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ [النحل:73]، وأمر جل وتعالى عباده المؤمنين بطلب الرزق عنده فقال: فَ?بْتَغُواْ عِندَ ?للَّهِ ?لرّزْقَ وَ?عْبُدُوهُ وَ?شْكُرُواْ لَهُ [العنكبوت:17]. من طلب الله وسأله وبذل الأسباب وتوكل عليه، أعطاه الله، وسخر له ما لا يتوقع، ورزقه من حيث لا يحتسب.وأتته الدنيا وهي راغمة.
وأما من التفت إلى غير الله، وتعلق قلبه بما في يد فلان وفلان، ظن أنهم سيعطوه، وترك سؤال الله، أذله الله، وحرمه ما تمنى ولم يأتِهِ من الدنيا إلا ما قُدِّرَ له. أَمَّنْ هَـ?ذَا ?لَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ [الملك:21].
أما علم ذلك أولئك الذين باعوا ذممهم لعرض من الدنيا قليل، وباعوا دينهم مقابل قطعة أرض، أو حفنة مال. إن أولئك الذين يلوون أعناق النصوص. ويستظهرون فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان طمعاً في الدنيا، هؤلاء سيمحق الله بركة علمهم إذا كان عندهم علم، وسيمحق بركة العَرَض الذي نالوه، بل وسيمحق بركة حياتهم كلها، أَمَّنْ هَـ?ذَا ?لَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ.
تاسعاً: إن عطاء الله، وإغداقه سبحانه في الرزق على العبد، لا يدل على محبة الله لهذا العبد، ورضاه عنه وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى? عَذَابِ ?لنَّارِ [البقرة:126]، فلو وُسِّعَ عليك في رزقك، وأصبحت تربح الألوف بدل المئات، والملايين بدل الألوف، فلا تظن بأن هذا بسبب محبة الله لك، فالله قد يعطي الفجار أكثر من الأبرار، وقد يرزق الكافرين أضعاف أضعاف المسلمين، قال الله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى? عَلَيْهِمْ ءايَـ?تُنَا بِيّنَـ?تٍ قَالَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَىُّ ?لْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءياً قُلْ مَن كَانَ فِى ?لضَّلَـ?لَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ?لرَّحْمَـ?نُ مَدّاً حَتَّى? إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا ?لعَذَابَ وَإِمَّا ?لسَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً وَيَزِيدُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ?هْتَدَواْ هُدًى وَ?لْبَِّقِيَـ?تُ ?لصَّـ?لِحَـ?تُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً [مريم:73-76].
وأَرْعِني سمعك ـ يا أخي ـ لحديث عقبة بن عامر في المسند، وهو حديث صحيح، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا، وهو قائم على معاصيه فليحذرْ فإنما هو استدراج)) ثم تلا قوله تعالى: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء حَتَّى? إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَـ?هُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ [الأنعام:44]. قال الله تعالى: فَأَمَّا ?لإِنسَـ?نُ إِذَا مَا ?بْتَلـ?هُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ?بْتَلَـ?هُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ [الفجر:15، 16].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: يشغل بالَ كثيرٍ من الناس، طلبُ الرزق، وكيف يكون؟ويلجأ بعضهم إلى طرق ملتوية ومحرمة للحصول على الأرزاق وما علم أولئك أن الحرام يمحق البركة، وجهلوا الأسباب الشرعية التي بها يُستجلب الرزق، وبها تفتح بركات السماء، فإليك ـ يا عبد الله ـ ثمانية أسباب شرعية، بها يُستجلب الرزق، هل تستطيع حفظها والأهم العمل بها؟
أولاً: الاستغفار والتوبة، نعم، التوبة والاستغفار، قال الله تعالى: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12]، قال القرطبي رحمه الله: "هذه الآية دليل على أن الاستغفار يُستنزل به الرزق والأمطار"، وقال ابن كثير رحمه الله: "أي إذا تبتم واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم".
جاء رجل إلى الحسن فشكا إليه الجَدْب، فقال: استغفر الله، وجاء آخر فشكا الفقر، فقال له: استغفر الله، وجاء آخر فقال: ادع الله أن يرزقني ولداً، فقال: استغفر الله، فقال أصحاب الحسن: سألوك مسائل شتى وأجبتهم بجواب واحد وهو الاستغفار، فقال رحمه الله: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله يقول: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً.
ثانياً: ومن أسباب الرزق ومفاتحه، التوكل على الله، الأحد الفرد الصمد، روى الإمام أحمد والترمذي وغيره، بسند صحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)) قال الله تعالى: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ?للَّهَ بَـ?لِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ?للَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً [الطلاق:3].
ثالثاً: من أسباب استجداب الرزق، عبادة الله، والتفرغ لها، والاعتناء بها، أخرج الترمذي وابن ماجه وابن حبان بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقول: يا ابن آدم تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأَسُد فقرك، وإن لا تفعل ملأت يديك شغلاً، ولم أَسُد فقرك)).
رابعاً: من أسباب الرزق، المتابعة بين الحج والعمرة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد)) رواه النسائي وغيره بسند صحيح. قال أهل العلم: إزالة المتابعة بين الحج والعمرة للفقر، كزيادة الصدقة للمال.
خامساً: مما يُستجلب به الرزق، صلة الرحم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب أن يبسط له في رزقه ويُنْسَأ له في أثره، فليصل رحمه)) رواه البخاري. وفي رواية: ((من سره أن يُعظم الله رزقه وأن يمد في أجله فليصل رحمه)) رواه أحمد.
أين أنت ـ يا عبد الله ـ من صلة الرحم، إن كنت تريد بسط الرزق بدون صلة الرحم، فهيهات هيهات، فاتَّقِ الله وصِلْ رحمك يبسط لك في رزقك ولعلك تعجب من أن الفَجَرَة إذا تواصلوا بسط الله لهم في الرزق، اسمع لهذا الحديث الصحيح، الذي رواه الطبراني من حديث أبي بكرة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أعجلَ الطاعة ثواباً لَصِلَةُ الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فَجَرة، فتنموَ أموالهم، ويكثر عددهم، إذا تواصلوا)).
سادساً: من أسباب الرزق أيضاً، الإنفاق في سبيل الله، قال الله تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ?لرَّازِقِينَ [سبأ:39]. ((أنفقْ يا بلال ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً)) صححه الألباني. روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: ((يا ابن آدم أنفِقْ أُنفِقُ عليك)) الله أكبر ما أعظمه من ضمان بالرزق، أنفقْ أُنفقُ عليك.
سابعاً: من أسباب الرزق ومفاتيحه، الإحسان إلى الضعفاء والفقراء. وبذل العون لهم، فهذا سبب في زيادة الرزق وهو أحد مفاتيحه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)) رواه البخاري.
فمن رغب في رزق الله له، وبسطه عليه، فلا ينسَ الضعفاء والمساكين، فإنما بهم ترزق ويُعطى لك، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يقول: ((أبغوني في ضعفائكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)) رواه النسائي وأبو داود والترمذي.
ثامناً: من مستجلبات الرزق، المهاجرة في سبيل الله، والسعي في أرض الله الواسعة، فما أغلق دونك هنا، قد يفتح لك هناك، وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى ?لأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً [النساء:100]، كم من الناس تركوا بلاداً، هي أحب البلاد لقلوبهم ولو خيروا لاختاروها على غيرها ـ لكنه الرزق ـ فتح الله عليهم في غير أرضهم، وفي غير بلادهم. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
(1/2997)
من أحكام الجنائز
فقه
الجنائز
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
22/2/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذكر الموت والاستعداد له. 2- تلقين المحتضر. 3- تجهيز الميت وتكفينه وما يتعلق بذلك من أحكام وتفصيل. 4- كيفية الصلاة على الميت. 5- تشييع الجنازة وما فيه من بدع. 6- صورة القبر ومحظورات المقابر. 7- زيارة القبور ومحظوراته. 8- قضاء دين الميت. 9- البكاء على الميت والإحداد عليه والتعزية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله تعالى، فإنه بتقوى الله تعالى تزكو النفوس وتصلح الأحوال، وإن مما يعين على ذلك تذكر الموت وسكراته، وقرب حلوله ومقدماته، فاستعدوا له ـ عباد الله ـ بالأعمال الصالحة والتوبة من الذنوب والسيئات، فإن نسيان الموت يقسّي القلوب ويبعد عن ذكر علام الغيوب، وبذكره جاءت الوصية النبوية في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا من ذكر هاذم اللذات: يعني الموت)) رواه ابن ماجه والترمذي، وحسنه.
أيها المسلمون، ذكر الموت يزهّد في الدنيا، ويحفّز على العمل الصالح والتوبة النصوح من الذنوب، والتخلص من مظالم العباد، وإعطاء الناس حقوقهم.
مَن تذكّر أن الموت مصيره، وأن القبر مقرّه، وأن الجنة أو النار مورده، هل يكون إلا مؤمناً حقاً؟ من تذكّر قصر الحياة، وقلة الزاد، ومشقة الطريق، وبُعْد السفر، هل يكون عمله إلا في طاعة الله عز وجل؟ لا والله! فإن من ذكر الموت هانت عليه الدنيا وما فيها، ومن علم سكراتِه وشدائدهَ وكربه، عظمت في عينه الطاعة، وهجَرَ المعصية. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكبي ثم قال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) رواه البخاري في صحيحه. وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك)) رواه البخاري.
هو الموت ما منه ملاذٌ ومهرب متى حُطّ ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمّلُ آمالاً ونرجو نتاجها وعلّ الردى مما نرجّيه أقرب
قال الشاعر:
فكم من صغارٍ يُرتجى طول عمرهم وقد أُدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم عروس زينوها لزوجها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري
تزوّد من الدنيا فإنك لا تدري إذا جنّ ليلٌ هل تعيش إلى الفجر
عباد الله، وإذا كان الموت هو مصيرنا، والقبر هو مضجعنا فإنه لا بد من الوقوف على بعض أحكام الجنائز، والتعرف على صحيحها من بدعها المحدثة، فإنه ما من بيتٍ إلا والموت داخله، قصر الزمان أو بَعُدَ. وقد جاء الإسلام بأحكام عظيمة وسنن وواجباتٍ تتعلق بخروج المسلم من هذه الحياة لا بد من معرفتها والوقوف عندها, فقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الجنائز أكمل الهدي، مخالفاً لهدي سائر الأمم، مشتملاً على الإحسان للميت ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده، وعلى الإحسان إلى أهله وأقاربه، وأول هذه الأحكام زيارة المريض حال مرضه، وتذكيره بالآخرة، وأمره بالوصية والتوبة، وتلقينه الشهادة ليكون آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله.
قال أنس رضي الله عنه: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: ((أسلم)) فنظر إليه أبوه، وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم، فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((الحمد لله الذي أنقذه من النار)) رواه البخاري. وزاد الإمام أحمد في روايته: فلما مات قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صلوا على صاحبكم)).
أيها المسلمون، وجاءت الوصية النبوية الحكيمة بتلقين المحتضر لا إله إلا الله كما روى ذلك مسلم في صحيحه، وذلك لتكون هذه الكلمة الطيبة آخر كلام العبد من هذه الدنيا، ويختمَ له بها، روى الإمام أحمد وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)) فإذا مات العبد سُنّ تغميضه وتسوية أطرافه وتغطيته، ثم الإسراع بتجهيزه، من تغسيلٍ وتكفينٍ وصلاةٍ عليه ودفنه، لما روى أبو داود في سننه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله)). فلا يجوز تأخير دفن الميت إلا لعذر، وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم الإسراع في دفن الميت، وذلك بتطهيره وتطييبه وتكفينه في ثياب بيض، ثلاثٌ للرجل وخمسٌ للمرأة.
وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بغسل الميت ثلاثاً أو خمساً أو أكثر حسب ما يراه الغاسل، ويأمر بالكافور والأشنان ونحوه في الغسلة الأخيرة، وكان يأمر من وَلِيَ الميت أن يحسن كَفنه ويكفّنه في البياض، وينهى عن المغالاة في الكفن والرجل يتولى تغسيله الرجال، والمرأة تغسلها النساء، ومن تعذّر غسلُه لعدم الماء أو لمرض بجسده كالحروق ونحوها فإنه ييمم بالتراب، وإن تعذر غسلُ بعضه غُسلَ ما أمكن منه وييمم عن الباقي، ويجوز للرجل أن يغسّل زوجته، وللزوجة أن تُغسّل زوجها.
والجنين الساقط من بطن أمه إذا تم له أربعة أشهر غسّلَ وصُلي عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((والسقط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة)) رواه أحمد وأبو داود.
فإذا غُسّل الميت وكُفّن، فإنه يصلى عليه جماعة، لفعله عليه الصلاة والسلام وفعل أصحابه، وكلما زاد العدد كان أفضل، ومقصود الصلاة عليه الدعاء له، لما روى مسلم في صحيحه: ((ما من ميتٍ يصلي عليه أمة من المسلمين، يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلاّ شُفّعوا فيه)). وله من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((ما من مسلم يموت فيقوم على قبره أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شُفّعوا فيه)).
والصلاة على موتى المسلمين ـ عباد الله ـ من أفضل الطاعات وأعظم القربات، وقد رتب الله تعالى عليهما الجزاء العظيم، ومن فاتته الصلاة على الميت قبل دفنه صلى على قبره صلاة الجنازة، لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر امرأةٍ سوداء كانت تَقُمُّ المسجد، ففقدها فسأل عنها، فقالوا: ماتت، فقال: ((أفلا كنتم آذنتموني)) ، قال: فكأنهم صغّروا أمرها، فقال: ((دلوني على قبرها)) فدلّوه، فصلى عليها.
والصلاة على الميت ـ عباد الله ـ يكون بأربع تكبيرات، يقرأ في الأولى بعد التعوذ بالفاتحة، من غير استفتاح، لأن هذه الصلاة مبنية على التخفيف، ولهذا ليس فيها ركوع ولا سجود ولا قراءة زائدة على الفاتحة. ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية كالتشهد. ويدعو بعد التكبيرة الثالثة للميت بالدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم إن كان يحفظه، فإن لم يكن فبأي دعاء دعا جاز، إلاّ أنه يخلص الدعاء للميت. ثم يكبر التكبيرة الرابعة ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه. ولو سلّم تسليمة ثانية فلا بأس لورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ثلاث خلال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلهن تركهن الناس، إحداهن التسليم على الجنازة مثل التسليم على الصلاة. أخرجه البيهقي ورواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن.
ويرفع يديه مع كل تكبيرة. وله الزيادة على أربع تكبيرات، فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر على جنازة خمس تكبيرات، ولهذا ينبغي للأئمة أحياناً أن يكبروا على الجنازة خمس تكبيرات إحياءً للسنة، فماذا يقول بعد التكبيرة الثالثة والرابعة، يمكنه أن يجعل ما بعد التكبيرة الثالثة دعاءً عاماً لجميع موتى المسلمين، وبعد الرابعة يخصص الدعاء للميت، ثم يكبر الخامسة ويسلم.
ولا بأس بالزيادة على خمس تكبيرات إلى ست وإلى سبع وإلى ثمان وإلى تسع تكبيرات، فكل هذا ثبت بالآثار الصحيحة من فعل الصحابة رضي الله عنهم.
قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: "وهذه آثار صحيحة فلا موجب للمنع منها، والنبي صلى الله عليه وسلم زاد على الأربع بل فعله هو، وأصحابه من بعده" انتهى.
فمن ذلك ما رواه عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم أحد بحمزة فسُجي ببردة ثم صلى عليه فكبر تسعاً. أخرجه الطحاوي في معاني الآثار بسند حسن.
وكم ـ عباد الله ـ في الصلاة على الأموات من أجور لو أخلصنا فيها النيات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراطٌ، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان، والقيراطان: مثل الجبلين العظيمين)) متفق عليه.
أيها المسلمون، وبعد الصلاة يبَادر بحمله إلى قبره، ولا يجوز نقله إلى بلدٍ آخر، بل يدفن حيث مات إلا أن يوصي بذلك.
والسنة تشييع جنازة الميت حتى توضع في قبرها بسكينة وأدب وعدم رفع صوت، لا بقراءةٍ ولا بذكرٍ ولا بغير ذلك، ويسّنُ توسيع القبر وتعميقه ولحده، ويوضع الميت فيه موجهاً إلى القبلة على جنبه الأيمن، ويسدّ عليه اللحد سدّاً محكماً، ثم يهال عليه التراب، ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر، ويكون مسنّماً أي محدباً فلا يمتهن، ولا بأس أن يجعل عليه علامةٌ، ليعرفه قريبه الذي يريد زيارته للسلام عليه والدعاء له.
ويحرم البناء على القبور واتخاذها مساجد وأضرحة ومزارات يصلى عندها ويتقرب إلى الله عندها، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتد غضب الله على قومٍ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) رواه مالك في الموطأ.
ولا تجوز الكتابة على القبر، لا كتابة اسم الميت ولا غيرها، ولا يجوز تجصيصه ولا إضاءته لحديث جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله أن يُجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه) رواه مسلم، وفي لفظ: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ) رواه الترمذي. وقد بعث علياً رضي الله عنه إلى اليمن وأمره أن لا يدع تمثالاً إلا طمسه ولا قبراً مشرفاً إلا سواه. رواه مسلم.
ونهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها واشتد نهيه في ذلك حتى لعن فاعله. ونهى عن الصلاة عندها أو اتخاذها أعياداً، ولعن زوارات القبور من النساء، وكان هديه صلى الله عليه وسلم أن لا تهان القبور ولا توطأ وأن لا يجلس عليها ولا يتكأ عليها، ولا تعظم بحيث تتخذ مساجد فيصلى عندها وإليها أو تتخذ أعياداً أو أوثاناً. روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) ، يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا زار قبور أصحابه أن يزورها للدعاء لهم والترحم عليهم والاستغفار لهم، وهذه هي الزيارة التي سنّها لأمته وشرع لهم أن يقولوا إذا زاروها: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية)) رواه مسلم.
والإسلام بريء من فعل بعض الفرق الباطنية من الصوفية والرافضة من دعاء الأموات والاستغاثة والاستعانة بهم أو عندهم، فإنه من الشرك الأكبر المخرج من الملة. نعوذ بالله من الخذلان.
ومن البدع المحدثة هذه الأيام، القراءة عند الجنائز أو عند القبور قراءة الفاتحة أو شيء من القرآن بزعم أن ذلك ينفع الميت، وهو بدعة حادثة، لم تكن من سنته صلى الله عليه وسلم ولا فعلته القرون المفضلة.
ومن البدع المحدثة كذلك والتي عمّت بها البلوى في العصور المتأخرة إعلان الإحداد على الأموات ولبس السواد وتنكيس الأعلام وتعطيل الأعمال الرسمية من أجل ذلك، فكل ذلك من الجهل والهوى والتقليد للكفرة وأشياعهم، والله المستعان.
نسأل الله بمنه وكرمه أن يجنبنا البدع والفتن، وأن يرزقنا الاتباع وحسن العلم والعمل.
أقول هذا القول..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: اعلموا رحمني الله وإياكم أن من الأمور التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم المبادرة إلى قضاء ديون المسلم الميت، لأنه مرتهن بدينه حتى يقضى عنه، وتنفيذ وصاياه الشرعية، والدعاء له، والتصدق عنه، والحج والعمرة عنه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) رواه مسلم.
ومما يجب أن يعلم ـ يا عباد الله ـ أنه يكره للنساء اتباع الجنائز لحديث أم عطية رضي الله عنها قالت: (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتباع الجنائز ولم يُعزم علينا) متفق عليه.
ويحرم عليهنّ زيارة القبور لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن زوارات القبور)) رواه الخمسة.
وقد شرع الله سبحانه لأهل الميت الصبر عند مُصابهم ووعدهم على ذلك بجزيل الأجر والثواب، ونهى عن التسخط والجزع، وتوعد على ذلك بأليم العقاب، بل لقد جعل النياحة على الميت من الكفر الذي يجب الحذر منه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت)) رواه مسلم.
واعتبر صلى الله عليه وسلم ـ كما عند البخاري ومسلم ـ لطم الخدود وشق الجيوب من دعوى الجاهلية.
أما البكاء الذي لا صوت معه، وحُزن القلب بلا تسخط، فلا بأس بهما، وقد قال صلى الله عليه وسلم عند وفاة ابنه إبراهيم: ((تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب)) رواه البخاري.
ولا ينافي الصبر أن تمتنع المرأة من الزينة كلها إحداداً على وفاة ولدها أو قريبها إذا لم تزد على ثلاثة أيام، إلا على زوجها فأربعة أشهر وعشرة أيام، لحديث زينب بنت أبي سلمة قالت: دخلتُ على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج، أربعة أشهر وعشراً)) رواه البخاري.
عباد الله، وتستحب تعزية أهل الميت وحثهم على الصبر على مصابهم والاحتساب عند الله تعالى. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن أهل الميت لا يكلّفون صَنعةُ الطعام للناس، بل أمر أن يَصنعَ الناس لهم طعاماً يرسلونه إليهم، وهذا من أعظم مكارم الأخلاق والشيم، لأن أهل الميت في شغلٍ بمصابهم عن إطعام الناس ((اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد أتاهم ما يشغلهم)).
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واحذروا مخالفة الشريعة، فإن الخير كله فيما أمر الله ورسوله، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم صلوا وسلموا رحمكم الله على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام..
(1/2998)
من معاني النصر
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
10/8/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة الله الماضية في التاريخ هي نصر أوليائه وجنده. 2- لهذا النصر صور متغايرة
متنوعة. 3- الشهادة نوع من انتصار العقيدة والإيمان. 4- ثقة المؤمن بنصر الله. 5- أسباب
تأخر النصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يقسم العلماء التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات.
ومن معتقد أهل السنة والجماعة في معاني أسماء الله وصفاته أن الله لا يَخذل من توجّه إليه بصدق وتوكل واعتمد عليه. فإنه لم يحصل في تاريخ البشرية منذ أن خلق الله هذه الأرض أن نبياً من الأنبياء أو عالماً أو داعيةً أو مجاهداً أو مجتمعاً أو دولةً أو غيرهم توكلوا على الله وصدقوا الله واعتمدوا على الله وتركوا جميع الناس من أجل الله ثم خذلهم الله، هذا لا يعرف في التاريخ أبداً، بل من فهمنا لمعاني أسماء الله وصفاته أن كل من توكل على الله واعتمد عليه وترك من سواه من الخلق، فإن الله لا يخذله، بل سينصره كما قال سبحانه: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47].
فإن هذا من معاني أسمائه وصفاته. فالله عز وجل بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا كتب النصر والغلبة لأهل الحق من أوليائه الصالحين والمصلحين، وكتب المهانة والذلة على أعدائه من الكافرين والمنافقين، وهذه سنة لا تتخلف إلاّ إذا تخلفت أسبابها فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].
أيها المسلمون، لكن لهذا النصر صور عديدة، وليس النصر محصوراً في انتصار المعارك فحسب، بل قد يقتل النبيّ أو يطرد العالم أو يسجن الداعية أو يموت المجاهد أو تسقط الدولة، والمؤمنون منهم من يسام العذاب، ومنهم من يلقى في الأخدود، ومنهم من يَستشهد، ومنهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد، ومع ذلك يكون كل هؤلاء قد انتصروا بل وحققوا نصراً مؤزراً، وتحقق فيهم قول الله تعالى: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ.
ومن قَصَرَ معنى النصر على صورة واحدة وهي الانتصار في المعارك فحسب، لم يدرك معنى النصر في الإسلام.
فمن أنواع النصر الذي وعد الله به عباده المؤمنين: نصر العزة والتمكين في الأرض وجعل الدولة للإسلام والجولة للإسلام، كما نصر الله عز وجل داود وسليمان عليهما السلام كما قال سبحانه: وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَـ?هُ ?للَّهُ ?لْمُلْكَ وَ?لْحِكْمَةَ [البقرة:251]، وقال عز وجل: فَفَهَّمْنَـ?هَا سُلَيْمَـ?نَ وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء:79]، فجمع الله عز وجل لهذين النبيين الكريمين بين النبوة والحكم والملك العظيم.
وكذلك موسى عليه السلام نصره الله على فرعونَ وقومه وأظهر الدين في حياته، كما قال سبحانه: وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ [الأعراف:137].
أما نبينا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فقد نصره الله نصراً مؤزراً، فما فارق النبي الدنيا حتى أقرّ الله عز وجل عينه بالنصر المبين، والعز والتمكين، بل جعل الله عز وجل النصر ودخول الناس في دين الله أفواجاً علامة قربِ أجل النبي فقال تعالى: إِذَا جَاء نَصْرُ ?للَّهِ وَ?لْفَتْحُ وَرَأَيْتَ ?لنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ ?للَّهِ أَفْو?جاً فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَ?سْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوبَا [سورة النصر]، فما فارق النبي الدنيا حتى حكم الإسلام جزيرة العرب، ثم فتح تلامذته من بعده البلاد شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، حتى استنارَ أكثرُ الأرض بدعوة الإسلام، وسالت دماء الصحابة في الأقطار والأمصار، يرفعون راية الإسلام، وينشرون دين الله عز وجل، حتى وقف عقبة بن عامر على شاطئ المحيط الأطلنطي وقال: "والله يا بحر لو أعلم أن وراءك أرضاً تفتح في سبيل الله لخضتك بفرسي هذا".
وما كان يعلم رضي الله عنه أن وراء ذلكم البحر الأمريكتان، ولو كتب الله وخاض البحر ودخل المسلمون تلك البلاد لكان التاريخ شيئاً آخر، فشاء الله تعالى أن تقف خيول عقبة بن عامر على شاطئ الأطلنطي لحكمة يعلمها سبحانه، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. وهذا الخليفة المسلم هارون الرشيد نظر إلى السحابة في السماء وقال لها: "أمطري حيث تشائين فسوف يأتيني خراجك".
لقد انتصر الإسلام عباد الله لما وجد الرجال الذين يقومون به ويضحون من أجله والله عز وجل يقول: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:171-173].
ومن أنواع النصر ـ كذلك عباد الله ـ: أن يهلك الله عز وجل الكافرين والمكذبين وينجي رسله وعباده المؤمنين، قال عز وجل حاكياً عن نوح عليه السلام: فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ فَ?نتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْو?بَ ?لسَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا ?لأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى ?لمَاء عَلَى? أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى? ذَاتِ أَلْو?حٍ وَدُسُرٍ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ [القمر:10-14]، ولما نصر الله عز وجل هوداً وصالحاً ولوطاًً وشعيباً عليهم الصلاة والسلام، أهلك الله عز وجل الكافرين والمكذبين وأنجى رسله وعباده المؤمنين.
النوع الثالث من النصر: وهو انتصار العقيدة والإيمان، وهو أن يَثْبُت المؤمنون على إيمانهم وأن يضحوا بأبدانهم حماية لأديانهم وأن يؤثروا أن تخرج أرواحهم ولا يخرج الإيمان من قلوبهم، فهذا نصر للعقيدة ونصر للإيمان.
فنبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها، أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟
ما من شك في منطق العقيدة أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار، مع أن الذين ألقوه في النار يرون أنفسهم قد هزموه، كما أنه انتصر مرة أخرى، وهو ينجو من النار. هذه صورة وتلك صورة، وهما في الظاهر بعيد من بعيد، فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب!
وهذا خبر الغلام في قصة أصحاب الأخدود حين عجز الملك عن قتله فقال له: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، وانظر إلى عزة الإسلام وهو يقول للملك: ما آمرك به، قال: ما هو؟ قال: تجمعُ الناس في صعيد واحد وتصلُبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: باسم اللهِ ربِّ الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني.
فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله ربِّ الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صُدغه، فوضع يده في صُدغه في موضع السهم فمات.
فقال الناس: آمنا بربِّ الغلام، آمنا بربِّ الغلام، فأُتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك، قد آمن الناس.
فانظروا كيف ضحى هذا الغلام بحياته من أجل الدعوة، وهذا ما يجب على الدعاة إلى الله عز وجل، أن لا يبخلوا بشيء في سبيل نشر دعوتهم، ولو أنفقوا حياتهم ثمناً لإيمان الناس، فقد مضى الغلام إلى ربه، إلى رحمته وجنته وآمن الناس بدعوته، عند ذلك أمر الملك بحفر الأخاديد في أفواه السكك وأضرم فيها النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، ففعلوا حتى جاءت امرأة، ومعها صبي، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أماه اصبري فإنك على الحق.
وسجل الله عز وجل لنا في كتابه الخالد خاتمة القصة، وعاقبة الفريقين في الآخرة فقال عز وجل: قُتِلَ أَصْحَـ?بُ ?لأُخْدُودِ ?لنَّارِ ذَاتِ ?لْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى? مَا يَفْعَلُونَ بِ?لْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ ?لَّذِى لَهُ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ وَ?للَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ إِنَّ ?لَّذِينَ فَتَنُواْ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ?لْحَرِيقِ إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ لَهُمْ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ ذَلِكَ ?لْفَوْزُ ?لْكَبِيرُ [البروج:4-11].
أيها المسلمون، وقافلة الإيمان تسير يتقدمها الأنبياء الكرام والصديقون والشهداء.
مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب:23]، ما جفت الأرض من دماء الشهداء في عصر من العصور، ولا خلت الأرض من مخلص يقدم للأمة نموذجاً، فيموت هو، وينتشر الخير بعده بسببه.
فهذا صاحب الظلال رحمه الله كان قتله انتصاراً لمنهجه الذي عاش من أجله ومات في سبيله، بذل حياته كلها من أجل أن يبين أن الحكم من أمور العقيدة والتحاكم إلى غير شرع الله، والحكم بغير حكمه كفر بالله عز وجل: إِنِ ?لْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [يوسف:40]، وقال تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [المائدة:44]، وبعد أن حكم عليه بالإعدام وقبل أن ينفذ فيه الحكم الظالم كتب هذه الأبيات وكتب الله عز وجل لها الحياة وخرجت من وراء القضبان تقول للعالم.
أخي أنت حر وراء السدود أخي أنت حر بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصما فماذا يضيرك كيد العبيد
أخي ستبيد جيوش الظلام ويشرق في الكون فجر جديد
أخي إن نمت نلق أحبابنا فروضات ربي أعدت لنا
وأطيارها رفرفت حولنا فطوبى لنا في ديار الخلود
أخي إن ذرفت عليّ الدموع وبللت قبري بها في خشوع
فأوقد لهم من رفاتي الشموع وسيروا بها نحو مجد تليد
فرحمة الله على صاحب الظلال ورحماته. قال عنه أحد الشيوعيين وهو في سجنه: إنني أتمنى أن أقتل كما قتل وينشر مبدئي وكتبي كما انتشرت كتبه.
نعم، لقد وجدنا مطابع النصارى في لبنان تسارع إلى طباعة ونشر كتبه بعدما قتل من أجلها، وهذا ما قصده رحمه الله عندما قال: إن كلماتَنا وأقوالَنا تظل جثثاً هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها وغذيناها بدمائنا عاشت وانتفضت بين الأحياء.
إنه نصر وأيّ نصر، إنه أعظم وأجلّ من انتصارات كثير من المعارك والتي سرعان ما تنتهي بانتهائها، أما هذا النصر فإنه يبقى ما شاء الله أن يبقى.
وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته، ولو عاش ألف عام، كما نصرها باستشهاده، ويظن أعداؤه أنهم قد انتصروا عليه، وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي كتبها بدمه، فتبقى حافزاً ومحركاً للأبناء والأحفاد، وربما كانت حافزاً ومحركاً لخطى التاريخ كله مدى أجيال.
نوع رابع من أنواع انتصار المؤمنين: وهو أن يحمي الله عز وجل عباده المؤمنين من كيد الكافرين كما قال تعالى: وَلَن يَجْعَلَ ?للَّهُ لِلْكَـ?فِرِينَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141]، وكما قال عز وجل لنبيه : وَ?للَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ?لنَّاسِ [المائدة:67].
وجاء في السيرة المباركة كيف عصمه الله عز وجل من الرجل الذي رفع عليه السيف وقال: من يعصمك مني؟ فقال: ((الله)) ، فارتجف الرجل وسقط السيف من يده. وقصة الشاه المسمومة التي أنطقها الله عز وجل، وأخبرت النبي بأنها مسمومة. وقصة إجلاء بني النضير، ونزول جبريل وميكائيل يوم أحد يدافعان عن شخص النبي.
وهل سمعتم أيها الأحبة عن يوم الرجيع؟ هل تعرفون عاصم بن ثابت ؟ بعث النبي سرية عيناً، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذُكروا لحيّ من هذيل يقال لهم: بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ، فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتُهي إلى عاصم وأصحابه لجؤوا إلى مكان مرتفع، وجاء القوم فأحاطوا بهم، فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا لا نقتل منكم رجلاً. فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنّا نبيك، فقاتَلوهم حتى قَتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل، وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قد قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظُّلة من الدبر، فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء.
وكان عاصم بن ثابت قد عاهد الله أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركاً أبداً، فكان عمر يقول: لما بلغه خبره، يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته.
فكان عاصم مدافعاً أول النهار عن دين الله، ودافع الله عز وجل عن جسده آخر النهار، فلم يمسه مشرك.
فإن قال قائل: لماذا لم يمنعهم الله عز وجل من قتله كما منعهم من الوصول إلى جسده بعد قتله؟ فالجواب: أن الله عز وجل يحب أن يرى صدق الصادقين، ويحب أن يرى عباده المؤمنين، وهم يبذلون أنفسهم لله عز وجل فيبوئهم منازل الكرامة، ويزيدُهم من فضله، فالله عز وجل أراد أن يشرّفه بدرجة الشهادة، فلم يمنعهم من قتله ثم حمى الله عز وجل جسده من أن يمسه مشرك. فهذه صورة من صور النصر ولو انتهت بموت وقتل صاحبه.
نوع خامس من النصر الذي ينصر الله عز وجل به عباده المؤمنين: وهو نصر الحجة كما قال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَـ?هَا إِبْر?هِيمَ عَلَى? قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَـ?تٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83]، والرفع هو الانتصار، وكما قال النبي : ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)). فهذا الظهور أدناه أنه ظهور حجة وبيان، وقد يكون معه ظهور دولة وسلطان.
أيها المسلمون، هذه أنواع من النصر كلها تدخل في وعد الله سبحانه وتعالى: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]، ولكن النصر الذي بشرنا الله عز وجل به، وبشرنا به رسوله هو النصر الأول، وهو نصر التمكين والظهور، قال الله تعالى: هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [الصف:9]، وقال النبي : ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر)) وقال : ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكُها ما زُوي لي منها)). وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)).
ونقرأ هذه الأحاديث تحقيقاً لوعد الله ووعد نبينا صلى الله عليه وسلم. ونحن بانتظار الشمس أن تشرق، وهذا الليل أن ينجلي، وذلكم الصبح أن يتنفس.
صبح تنفس بالضياء وأشرقا وهذه الصحوة الكبرى تهز البيرقا
وشبيبة الإسلام هذا فيلق فى ساحة الأمجاد يتبع فيلقا
وقوافل الإيمان تتخذ المدى ضرباً وتصنع للمحيط الزورقا
وما أمر هذي الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا
هي نخلة طاب الثرى فنما لها جذع طويل في التراب وأعذقا
هي في رياض قلوبنا زيتونة فى جذعها غصن الكرامة أورقا
فجر تدفق من سيحبِس نوره؟! أرني يداً سدت علينا المشرقا
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد أيها المسلمون، إن الثقة بنصر الله، وعونه ووعده الحق لمن جاهد في سبيله، هي زاد الطريق، ومفتاح الأمل، ونور الأجيال الإسلامية التي تبصر بها آفاق الرحلة، وتبقى لحظة النصر وبشارة التمكين حية شاخصة في رؤى المجاهدين ومشاعرهم، وإن من فقد هذه الثقة بالله ونصره، فقد خسر خسراناً مبيناً، ومن تشكك فيها لحظة، فقد تأخر عليه النصر على قدرها مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ?للَّهُ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ?لسَّمَاء ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ وَكَذ?لِكَ أَنزَلْنَـ?هُ ءايَـ?تٍ بَيّنَـ?تٍ وَأَنَّ ?للَّهَ يَهْدِى مَن يُرِيدُ [الحج:15، 16].
أيها المسلمون، من كان يشك في نصر الله لأوليائه فليقرأ قول الله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?دُ [غافر:51]، وقوله سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى? قَوْمِهِمْ فَجَاءوهُم بِ?لْبَيّنَاتِ فَ?نتَقَمْنَا مِنَ ?لَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]، وقوله عز وجل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى? تِجَـ?رَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ بِأَمْو?لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ وَمَسَـ?كِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّـ?تِ عَدْنٍ ذَلِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ وَأُخْرَى? تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن ?للَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشّرِ ?لْمُؤْمِنِينَ [الصف:10-13]، وقوله سبحانه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، وقوله تعالى: ذ?لِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ ?للَّهُ إِنَّ ?للَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [الحج:60].
أيها المسلمون، إن نصر الله جل وعز متحقق لمن يستحقونه، وهم المؤمنون الذين يثبتون حتى النهاية، الذين يثبتون على البأساء والضراء، الذين يصمدون للزلزلة الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة، الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله، وعندما يشاء الله، وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها فهم يتطلعون فحسب إلى نصر الله لا إلى أي حل آخر، ولا إلى نصر لا يجيء من عند الله، ولا نصر إلا من عند الله. ومع ذلك نقول: إن من سنن الله تعالى أن النصر قد يتأخر، ولو كان أهله مسلمون وأعداؤهم كفار وذلك لأسباب:
منها: أن البنية للأمة لم تنضج بعد ولم يتم بعد تمامها، ولم تُحشد بعد طاقاتها ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات، فلو نالت النصر حينئذٍ لفقدته وشيكاً لعدم قدرتها على حمايته طويلاً. لأن النصر السريع الهين اللين، سهل فقدانه وضياعه، لأنه رخيص الثمن لم تُبذل فيه تضحيات عزيزة.
ومن الأسباب أيضاً: أنه قد يتأخر النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتتأذى وتبذل ولا تجد لها سنداً إلا الله ولا ملجأً إلا إليه، وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على المنهج الصحيح بعد النصر عندما يتأذن به الله، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها الله به.
وقد يتأخر النصر أيضاً: لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحققه أو تقاتل حمية لذاتها أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده، وفي سبيله بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فأيها في سبيل الله؟ فقال ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) متفق عليه.
وقد يتأخر النصر أيضاً: لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً، فلو غلبه المؤمنون حينئذٍ فقد يجد الباطل له أنصاراً من المخدوعين فيه لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله أن يبقى الباطل مدة من الزمن حتى يتكشف عارياً للناس، وإذا ما ذهب فإنه يذهب غير مأسوف عليه.
وقد يتأخر النصر أيضاً: لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة. فلو انتصر حينئذٍ للقيت معارضة من البيئة حولها لا يستقر معها قرار، فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ولاستبقائه.
أيها المسلمون، من أجل هذا كله ومن أجل غيره مما يعلمه الله ولا نعلمه نحن قد يتأخر نصر الله، فتتضاعف التضحيات وتتضاعف الآلام وتتضاعف معها الأجور، وفي كل ذلك خير مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لاْمُورِ وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْر?هِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَـ?بُ مَدْيَنَ وَكُذّبَ مُوسَى? فَأمْلَيْتُ لِلْكَـ?فِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـ?هَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى? عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ?لأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ?لاْبْصَـ?رُ وَلَـ?كِن تَعْمَى? ?لْقُلُوبُ ?لَّتِى فِى ?لصُّدُورِ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِ?لْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ ?للَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَىَّ ?لْمَصِيرُ [الحج:40-48].
(1/2999)
موعظة عن الآخرة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
29/2/1410
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظة فجأة الموت وسؤال الملكين في القبر. 2- حال الإنسان في القبر. 3- البعث والنشور والحشر. 4- أهوال القيامة وزلزلة الساعة. 5- مواقف القيامة (الحشر – الميزان – الصحف – الحساب – الصراط). 6- بعض أحوال أهل النار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، يقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: وَذَكّرْ فَإِنَّ ?لذّكْرَى? تَنفَعُ ?لْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]، وقال سبحانه: فَذَكّرْ إِن نَّفَعَتِ ?لذّكْرَى? سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى? [الأعلى:9، 10]. فهذه خطبة تذكيرية، مادتها معروفة، لكننا ننشغل فننسى، فنحتاج إلى محطات نقف فيها مع أنفسنا، فأذكر نفسي المقصرة أولاً ثم أذكرك أخي المسلم.
أذكرك بصرعة الموت لنفسك، ونزعه لروحك، وكربه وسكراته، وغصصه وغمه، أذكرك يا أخي إذا جاءك ملك الموت، لجذب الروح من قدميك، ثم الاستمرار لجذب الروح من جميع بدنك، حتى إذا بلغ منك الكرْب والوجع منتهاه، وعمت الآلام جميع بدنك، وقلبك وجل محزون، منتظر إما البشرى من الله بالرضا، وإما بالغضب.. فبينما أنت في كربك وغمومك، وشدة حزنك لارتقابك إحدى البشريين، إذ سمعت صوته إما بما يسرك وإما بما يغمك.
وأذكرك ـ يا أخي ـ بنزولك القبر، وهول مطلعه، ومجيء الملكين منكر ونكير، وسؤالهما لك في القبر عن ثلاثة أسئلة: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟.. تصور أصواتها عند ندائهما لك، لتجلس لسؤالهما لك، وتصور جلستك في ضيق قبرك، وقد سقط الكفن عن حقويك، والقطن من عينيك وأذنيك، ثم تخيّل شخوصك ببصرك إليهما، وتأملك لصورتيهما، فإن رأيتهما بأحسن صورة أيقن قلبك بالفوز والنجاة والسرور، وإن رأيتهما بأقبح صورة، أيقنت بالخسارة والهلاك..
تفكر في مشيبك والمآب ودفنك بعد عزك في التراب
إذا وافيت قبراً أنت فيه تقيم به إلى يوم الحساب
وفي أوصال جسمك حين تبقى مقطعة ممزقة الإهاب
خلقت من التراب فعدت حياً وعُلمت الفصيح من الخطاب
وعدت إلى التراب فصرت فيه كأنك ما خرجت من التراب
أخي المسلم، كيف يكون شعورك، إذا ثبتك الله جل وعلا ونظرت إلى ما أعدّ الله لك، تصور فرحك وسرورك بما تعاينه من النعيم، وبهجة الملك، وإن كانت الأخرى، نسأل الله السلامة والعافية، فتصور ضد ذلك من انتهارك، ومعاينتك جهنم، وقولها لك: هذا منزلك ومصيرك، فيا لها من حسرة، ويا لها من ندامة، ويا لها من عثرة لا تُقال. ثم بعد ذلك الفناء والبِلى، حتى تنقطع الأوصال، وتتفتت العظام، حتى إذا تكاملت عدة الأموات، وقد بقى الجبار منفرداً بعظمته وجلاله وكبريائه، ثم لم يفجأك إلا نداء المنادي للخلائق للعرض على الله جل وعلا: وَ?سْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ?لْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ ?لصَّيْحَةَ بِ?لْحَقّ ذَلِكَ يَوْمُ ?لْخُرُوجِ [ق:41، 42].
عندها يأمر الله ملكاً أن ينادي أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.. تصور وقوع الصوت في سمعك ودعاءك للعرض على مالك الملك، فيطير فؤادك، ويشيب رأسك للنداء، لأنها صيحة واحدة للعرض على الرب جل وعلا: فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ و?حِدَةٌ فَإِذَا هُم بِ?لسَّاهِرَةِ [النازعات:13، 14].
فبينما أنت في فزع من الصوت، إذ سمعت بانشقاق الأرض، فخرجت مغبراً من غبار قبرك قائماً على قدميك، شاخصاً ببصرك نحو النداء يَوْمَ تَشَقَّقُ ?لأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً [ق:44]، وقال تعالى: خُشَّعاً أَبْصَـ?رُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ ?لأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ G مُّهْطِعِينَ إِلَى ?لدَّاعِ [القمر:7، 8]. فتصور تعريك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وهمومك، في زحمة الخلائق، خاشعة أبصارهم، وأصواتهم ترهقهم ذلة وَخَشَعَتِ ?لاصْوَاتُ لِلرَّحْمَـ?نِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً [طه:108].
ثم تصور إقبال الوحوش من البراري، منكسة رؤوسها لهول يوم القيامة، فبعد توحشها من الخلائق، ذلت ليوم النشور وَإِذَا ?لْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير:5]، وتصور تكوير الشمس وتناثر النجوم وانشقاق السماء من فوق الخلائق، مع كثافة سمكها، والملائكة على حافات ما يتفطر من السماء، كما قال تعالى: وَ?نشَقَّتِ ?لسَّمَاء فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَ?لْمَلَكُ عَلَى? أَرْجَائِهَا [الحاقة:16، 17]، وقال جل جلاله: فَإِذَا ?نشَقَّتِ ?لسَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَ?لدّهَانِ [الرحمن:37]، فتصور وقوفك منفرداً عرياناً حافياً، وقد أدنيت الشمس من رؤوس الخلائق، ولا ظل لأحد إلا ظل عرش رب العالمين، فبينما أنت على تلك الحال، اشتد الكرب، واشتد الوهج من حر الشمس، ثم ازدحمت الأمم، وتدافعت وتضايقت، واختلفت الأقدام، وانقطعت الأعناق من شدة العطش والخوف، وانضاف إلى حر الشمس كثرة الأنفاس وازدحام الأجسام، ولا نوم ولا راحة وفاض عرقهم إلى الأرض حتى استنقع ثم ارتفع إلى الأبدان، على قدر مراتبهم ومنازلهم عند ربهم، بالسعادة والشقاوة.. ثم جيء بجهنم تقاد، ولها سبعون ألف زمام، ومع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها وَجِىء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ?لإِنسَـ?نُ وَأَنَّى? لَهُ ?لذّكْرَى? [الفجر:23]، فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل، إلا جثا على ركبته، يقول: يا رب نفسي نفسي، فتصور ذلك الموقف المهيل المفزع، الذي قد ملأ القلوب رعباً وخوفاً، وقلقاً وذعراً، يا له من موقف ومنظر مزعج.. وأنت أخي المسلم بالتأكيد تكون أحدهم، فتوهم نفسك لكربك، وقد علاك العرق والفزع والناس معك منتظرون لفصل القضاء إلى دار السعادة أو إلى دار الشقاء، تصور هذه الخلائق وهم ينادون، كل واحد بنفسه يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَـ?دِلُ عَن نَّفْسِهَا [النحل:111]، وقال سبحانه: يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ?مْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
تصور نفسك وحالتك عندما يتبرأ منك الولد والوالد، والأخ والصاحب، لما في ذلك اليوم من المزعجات والقلاقل، ولولا هول ذلك اليوم، ما كان من الكرم والمروءة، أن تفر من أمك وأبيك، وأخيك وبنيك، لكن عظم الخطر وشدة الكرب، اضطرك إلى ذلك إِنَّ زَلْزَلَةَ ?لسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2].
فبينما أنت في تلك الحالة، مملوء رعباً، وقد بلغت القلوب الحناجر من شدة الأهوال، إذ ارتفع عنق من النار، يلتقط من أمر بأخذه، فينطوي عليهم، ويلقيهم في النار، فتبتلعهم.
ثم تصور الميزان وعظمته، وقد نصبت لوزن الأعمال، وتصور الكتب المتطايرة في الأيمان والشمائل، وقلبك مملوءً خوفاً، لا تدري أين يقع كتابك في يمينك أو في شمالك فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى? أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى? سَعِيراً [الانشقاق:7-12]، فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ ?قْرَؤُاْ كِتَـ?بيَهْ إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَـ?قٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ [الحاقة:19-21]. وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ ي?لَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـ?بِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ي?لَيْتَهَا كَانَتِ ?لْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى? عَنّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنّى سُلْطَـ?نِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ ?لْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ [الحاقة:25-32].
ماذا فعل؟ وما كان جرمه؟ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِ?للَّهِ ?لْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى? طَعَامِ ?لْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ ?لْيَوْمَ هَـ?هُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ ?لْخَـ?طِئُونَ [الحاقة:33-37]، فيا لها من مواقف، ويا لها من أهوال.
والله ـ أيها الأحبة ـ مجرد تصور هذه الأمور يبكي المؤمن منها حقاً.. عن الحسن رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رأسه في حجر عائشة رضي الله تعالى عنها، فنعس، فتذكرت الآخرة فبكت، فسالت دموعها على خد النبي صلى الله عليه وسلم، فاستيقظ بدموعها، فرفع رأسه فقال: ((ما يبكيك)) ، فقالت: يا رسول الله، ذكرت الآخرة، هل تذكرون أهليكم يوم القيامة، قال: ((والذي نفسي بيده، في ثلاثة مواطن فإن أحداً لا يذكر إلا نفسه، إذا وضعت الموازين، ووزنت الأعمال حتى ينظر ابن آدم أيخف ميزانه أم يثقل، وعند الصحف حتى ينظر أبيمينه يأخذ أم بشماله، وعند الصراط)).
تصور أخي المسلم، بينما أنت واقف مع الخلائق الذين لا يعلم عددهم إلا الله جل وعلا وتقدس، إذ نودي باسمك على رؤوس الخلائق من الأولين والآخرين: أين فلان بن فلان؟ هلم إلى العرض على الله عز وجل.
فقمت أنت لا يقوم غيرك، فقمت ترتعد فرائصك، وتضطرب رجلاك، وقلبك مرتفع إلى الحنجرة وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ?لاْزِفَةِ إِذِ ?لْقُلُوبُ لَدَى ?لْحَنَاجِرِ كَـ?ظِمِينَ [غافر:18]، فيا له من يوم قال الله جل جلاله عنه: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ ?لْوِلْد?نَ شِيباً [المزمل:17]. تصور نفسك وبيدك صحيفة، مُحّص فيها الدقيق والجليل، لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، فقرأتها بلسان كليل وقلب منكسر، وداخلك من الخجل والجبن والحياء من الله، فبأي لسان تجيبه حين يسألك عن قبيح فعلك، وعظيم جرمك وبأي قدم تقف غداً بين يديه، وبأي طرف تنظر إليه، وبأي قلب تحتمل كلامه العظيم وتوبيخه. فكم من كبيرة قد نسيتها أثبتها عليك الملك، وكم من بلية أحدثتها فذكرتها، وكم من سريرة قد كنت كتمتها، قد ظهرت وبدت، فيا حسرة قلبك وتأسفك على ما فرطت في طاعة ربك أَن تَقُولَ نَفْسٌ ي?حَسْرَتَى? عَلَى? مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ ?للَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ?لسَّـ?خِرِينَ [الزمر:56]، وقال تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ ?لْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ ?لأمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [مريم:39].
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون، لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة، أصحاب الجنة هم الفائزون.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم..
أقول هذه القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ليقفنّ أحدكم بين يدي الله تبارك وتعالى ليس بينه وبينه حجاب يحجبه، ولا بينه وبينه ترجمان يترجم عنه، فيقول: ألم أنعم، ألم آتك مالاً، فيقول: بلى، فيقول: ألم أرسل إليك رسولاً، فيقول: بلى، ثم ينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار، فليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة فإن لم يجد فبكلمة طيبة)) رواه البخاري.
فأعظم به من موقف وأعظم به من سائل.
أيها المسلمون، ثم هناك الصراط، وهو الجسر المنصوب على متن جهنم، أدق من الشعر وأحد من السيف، فكيف بك يا أخي لو نظرت إليه بدقّته وجهنم تضطرب وتتغيظ بأمواجها من تحته، فياله من منظر ما أفظعه، ويا له من مشهد ما أهوله، ثم قيل لك وأنت تنظر إلى الجسر، اركب يا فلان بن فلان، فتصور حالتك وخفقان قلبك ورجفان جسمك، ولما قيل لك اركب طار عقلك رعباً وخوفاً، ثم إذا رفعت رجلك، وأنت تنتفض لتركب الصراط فوقع قدمك على حدته ودقته، فازداد فزعك، وازداد رجفان قلبك، ورفعت رجلك الأخرى وأنت مضطرب وقد أثقلتك الأوزار وأنت حاملها على ظهرك وأنت تنظر إلى الناس يتهافتون في النار من بين يديك ومن خلفك، فتصور مرورك عليه بضعفك وثقلك وأوزارك، وقلة حيلتك وأنت مندهش مما تحتك وأمامك، ممن يسقطون وقد تنكّست هاماتهم وارتفعت أرجلهم، وآخرون يُتخطفون بالكلاليب وتسمع العويل والبكاء بأذنيك، والأصوات المزعجات بين ناظريك، فيا له من منظر ما أفظعه، ومرتقىً ما أصعبه، ومجاز ما أضيقه، ومكان ما أهوله، وموقف ما أعظمه، تفكر في حالك يا أخي بعقلك ما دمت على قيد الحياة قبل أن يحال بينك وبينه، لعلك أن تتلافى تفريطك، وكلنا مفرط، وتحاسب نفسك، وكلنا مقصر، فيفوت الأوان، وتبوأ بالخيبة والحرمان.
فكيف بك إذا بؤت بالخسران، وزلّت رجلك عن الصراط، ووقعت فيما كنت تخاف منه، فلم تشعر إلا والكلاليب قد دخل في جلدك ولحمك، فجذبت به، وسمعت لنداء النار بقوله عز وجل: هَلِ ?مْتَلاَتِ [ق:30]، وسمعت إجابتها له هَلْ مِن مَّزِيدٍ [ق:30]، وهي تلتهب في بدنك، لها قصيف في جسدك، ثم لم تلبث أن تمزق جسمك وتساقط لحمك، وبقيت عظامك، ثم كيف بك إذا سقيت من شراب أهل النار والعياذ بالله، كلما قربته إلى فمك لتشرب فيه، شوى وجهك، وتساقط لحمه، ثم تجرعته فسلخ حلقك ثم وصل إلى جوفك، فقطع أمعاءك، كما قال سبحانه: وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ [محمد:15]، وقال تعالى: وَيُسْقَى? مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ ?لْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:16، 17].
تصور هذه حالتك، وتزداد عذاباً، لو تذكرت الجنان وما فيها من النعيم المقيم والعيش السليم، فهاجت غصة في فؤادك، على ما فاتك من رضا الله عز وجل، وحزناً على نعيم الجنة، فكيف بك لو تذكرت بعض أقاربك وأصدقائك وقد منّ الله عليهم بدخول الجنة، فزادك ذلك حسرةً وأسفاً، قال الله تعالى: وَنَادَى? أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ أَصْحَـ?بَ ?لْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ?لْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ?للَّهُ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ [الأعراف:50]، فيا خيبة من هذا حاله، وهذا مآله، تصور نفسك كلما أردت أن تنطق بكلمة جاءك الجواب: ?خْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ [المؤمنون:108]، وأشد منها حسرة حين تسمع وقع أبوابها قد أطبقت على أهلها إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ [الهمزة:8، 9].
عند ذلك يعلم أهل النار أن لا فرج ولا مخرج ولا محيص لهم من عذاب الله، خلود فلا موت، وأحزان لا تنقضي، وهموم لا تنتهي، وسقم لا يبرأ، وقيود لا تُحل، وأغلال لا تُفك، كما قال تعالى: إِذِ ?لأَغْلَـ?لُ فِى أَعْنَـ?قِهِمْ و?لسَّلَـ?سِلُ يُسْحَبُونَ فِى ?لْحَمِيمِ ثُمَّ فِى ?لنَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:71، 72]، وقال تعالى: فَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءوسِهِمُ ?لْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَ?لْجُلُودُ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ ?لْحَرِيقِ [الحق:19-22]، لا يرحم بكاؤهم، ولا يجاب دعاؤهم، ولا تقبل توبتهم، ولا تقال عثرتهم، وهم ينادون بالويل والثبور، ويصرخون بالبكاء والعويل، كما قال سبحانه: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـ?لِحاً غَيْرَ ?لَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37]، وقال تعالى: وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً لاَّ تَدْعُواْ ?لْيَوْمَ ثُبُوراً و?حِداً وَ?دْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً [الفرقان:13، 14]، فنظرت إلى النار وهي تشتعل في أجزاء بدنك، تدخل أذنيك وعينيك، ولا تقدر على إبعادها عنك إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً [الفرقان:65، 66].
فاتقوا الله أيها المسلمون، ضعوا في بالكم هذه الأهوال والعظائم بعقل واعٍ وعزيمة صادقة، فإنها حقائق لا خيال، وراجعوا أنفسكم ما دمتم على قيد الحياة وتوبوا إلى الله توبة نصوحاً، وابكوا من خشية الله لعله يرحمكم، ويقيل عثرتكم، فإن الخطر عظيم والبدن ضعيف، والنار محرقة، والموت قريب.
مثل لنفسك يوم الحشر عريانا مستعطفاً قلق الأحشاء حيرانا
النار تزفر من غيظٍ ومن حنقٍ على العصاة وتلق الرب غضبانا
اقرأ كتابك يا عبدي على مهلٍ وانظر إليه ترى هل كان ما كانا
لمّا قرأتُ كتاباً لا يغادر لي حرفاً وما كان في سرٍ وإعلانا
قال الجليل خذوه يا ملائكتي مرّوا بعبدي إلى النيران عطشانا
يا رب لا تخزنا يوم الحساب ولا تجعل لنارك فينا اليوم سلطانا
(1/3000)
نوح عليه السلام
سيرة وتاريخ
القصص
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أرسل الله نوحاً بالرسالة عندما عبدت البشرية الأصنام. 2- الطوفان ونجاة المؤمنين. 3- غرق ابن نوح عليه السلام. 4- العبر والعظات في قصة نوح عليه السلام. 5- الوثنية الحديثة عبادة البشر والأفكار المنحرفة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: تتمة للسلسلة التي بدأناها معكم، في قصص القرآن، فسوف يتناول حديثنا في هذه الجمعة، قصة نبي الله نوح عليه السلام، فنوح عليه السلام أيها الإخوة، أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، وذلك بعدما تحولوا إلى عبادة الأصنام، لأنه كما ورد في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلها على التوحيد.
وقد ذكر الله عز وجل في كتابه أسماء الأصنام التي كان يعبدها قوم نوح، مما جاء على لسان أشرافهم: وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً [نوح:23، 24].
وقد لبث نوح في قومه زمناً طويلاً، يدعوهم إلى عبادة الله قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى? قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً [العنكبوت:14].
ولكن هذه المرة لم تؤت ثمارها فيهم، فلم يؤمن برسالته إلا القليل منهم، فقال نوح عليه السلام لقومه، إني محذركم من عذاب، ومبين لكم طريق النجاة، فاعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، لأني أخاف عليكم إن عبدتم غيره أو أشركتم معه سواه، أن يعذبكم يوم القيامة عذاباً شديداً، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى? قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ ?للَّهَ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [هود:25، 26]، وقال تعالى: قَالَ ي?قَوْمِ إِنّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?تَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ ?للَّهِ إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [نوح:2-4]، ولكن قوم نوح لم يستجيبوا لنصيحته، ولم يأبهوا لإنذار الله لهم، وأنكروا عليه أن يكون نبياً لهم قال سبحانه: فَقَالَ ?لْمَلا ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ ?تَّبَعَكَ إِلاَّ ?لَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ ?لرَّأْى وَمَا نَرَى? لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَـ?ذِبِينَ [هود:27]، وقال سبحانه: قَالَ ?لْمَلاَ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ قَالَ يَـ?قَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَـ?لَةٌ وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبّ ?لْعَـ?لَمِينَ أُبَلّغُكُمْ رِسَـ?لـ?تِ رَبّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ عَلَى? رَجُلٍ مّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:60-63].
استمر نوح عليه السلام في دعوته، محاولاً إقناع قومه بأسلوب هين لين، كما في قوله تعالى: قَالَ ي?قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى? بَيّنَةٍ مّن رَّبّى وَءاتَانِى رَحْمَةً مّنْ عِندِهِ فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَـ?رِهُونَ وَي?قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبّهِمْ وَلَـ?كِنّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَي?قَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ ?للَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ ?للَّهِ وَلا أَعْلَمُ ?لْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ ?للَّهُ خَيْرًا ?للَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ إِنّى إِذًا لَّمِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [هود:28-31].
لم تؤثر هذه الكلمات في نفوس القوم، بل ردوا عليه في عناد: قَالُواْ ي?نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ ?لصَّـ?دِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ?للَّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [هود:32-34]. وبعد أن ضاق نوح ذرعاً بقومه، لجأ إلى ربه، مستغيثاً به مما يلاقي من قومه: قَالَ رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَـ?بِعَهُمْ فِى ءاذ?نِهِمْ وَ?سْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَ?سْتَكْبَرُواْ ?سْتِكْبَاراً ثُمَّ إِنّى دَعَوْتُهُمْ جِهَـ?راً ثُمَّ إِنّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح:5-12].
ثم تابع نوح عليه السلام، مخاطبة قومه، لافتاً أنظارهم إلى قدرة الله عز وجل فوقهم، وأنه سوف يميتهم ثم يبعثهم يوم القيامة للحساب أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ?للَّهُ سَبْعَ سَمَـ?و?تٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ ?لْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ ?لشَّمْسَ سِرَاجاً وَ?للَّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ ?لأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ?لأَرْضَ بِسَاطاً لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً [نوح:15-20].
أيها المسلمون، بعد كل هذا، يتبين لنوح عليه السلام، أن هؤلاء، سوف لا ينفعهم دعوة الله عز وجل، وإن تركوا متمادين في ضلالهم، أضلوا غيرهم عن الحق، ونشروا آثامهم، وانتقل فسادهم إلى ذريتهم بالوراثة، عندها دعا عليهم بأن لا يترك على الأرض منهم أحد. قال تعالى: رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى ?لأَرْضِ مِنَ ?لْكَـ?فِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً [نوح:26، 27].
استجاب الله عز وجل لدعاء نوح، وأراد سبحانه قبل أن يهلك القوم، أن يهيئ له وللمؤمنين أسباب النجاة، فأمره عز وجل، أن يصنع السفينة، شرع نوح عليه السلام في صنع السفينة، وبدأ قومه يستهزؤون به، بأنه قد تحول من داع إلى الله، إلى نجار، قال سبحانه: وَ?صْنَعِ ?لْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَـ?طِبْنِى فِى ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ وَيَصْنَعُ ?لْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [هود:37-39].
انتهى نوح عليه السلام، من صنع السفينة، وظهرت علامات بدء العذاب، وهي تفجر الماء من الأرض، فأمر الله عز وجل نوحاً أن يجمع من كل صنف من الأحياء والحيوانات زوجين، ليحملهما معه في السفينة، حَتَّى? إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ ?لتَّنُّورُ قُلْنَا ?حْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ ?ثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ?لْقَوْلُ وَمَنْ ءامَنَ وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ وَقَالَ ?رْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ?للَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَ?لْجِبَالِ [هود:40-42].
أرسل الله عز وجل بعد ذلك بقدرته على كل شيء، من السماء مطراً غزيراً لم تعهد الأرض قبله، وأمر الأرض بأن تتفجر فيها المياه. فاجتمع ماء السماء وماء الأرض، ليحصل جراء ذلك، الطوفان العظيم، الذي قدره الله لهلاك الكافرين، والسفينة الصغيرة، تسير وسط هذه الأمواج المتلاطمة، بحفظ الله عز وجل ورعايته، وهذا ما ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ فَ?نتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْو?بَ ?لسَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا ?لأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى ?لمَاء عَلَى? أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى? ذَاتِ أَلْو?حٍ وَدُسُرٍ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ [القمر:10-14]. وبذلك انتهت نهاية هؤلاء الكافرين، الذين لم يستجيبوا لأمر نبيهم، بل فضلوا الخضوع للأصنام، من الخضوع لرب العباد.
أيها المسلمون، وفي وسط تلك الأمواج المتلاطمة، تحركت عاطفة الأبوة عند نوح عليه السلام، وتذكر ولده، لأنه كان من الكافرين بدعوه أبيه، فناداه الأب، ليركب معه في السفينة، لينجوا من الغرق، ولكن ظلمة الكفر طمست على بصيرته، وأصر على عصيانه، وظن أنه سيلجأ إلى جبل مرتفع، ولن يصل الماء إليه، قال سبحانه: وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَ?لْجِبَالِ وَنَادَى? نُوحٌ ?بْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ ي?بُنَىَّ ?رْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ ?لْكَـ?فِرِينَ قَالَ سَاوِى إِلَى? جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ ?لْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ ?لْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ?للَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ?لْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ?لْمُغْرَقِينَ [هود:42، 43].
عباد الله، لقد ثارت الشفقة في قلب نوح على ولده، فسأل الله عز وجل بعد ما تحقق من هلاكه، أن ينجيه الله، فأجاب الله عز وجل، بأن ولده كافر، وإن عقيدة البراء من الكفار، من أساسيات التوحيد، والذي يجب عليه أن لا يُغلِّب شفقة الأبوة على حكم الله عز وجل قال سبحانه: وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبّ إِنَّ ?بُنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ ?لْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ?لْحَـ?كِمِينَ قَالَ ي?نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَـ?لِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ?لْجَـ?هِلِينَ قَالَ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [هود:45-47].
أيها المسلمون، وبذلك هلك الكفار من تأثير الطوفان، بعدها أمر الله عز وجل الأرض أن تبلع ماءها، وأمر السماء أن تقلع من المطر، واستوت سفينة نوح عليه السلام ومن معه عند جبل يسمى الجودى قال تعالى في وصف ذلك: وَقِيلَ ي?أَرْضُ ?بْلَعِى مَاءكِ وَي?سَمَاء أَقْلِعِى وَغِيضَ ?لْمَاء وَقُضِىَ ?لأمْرُ وَ?سْتَوَتْ عَلَى ?لْجُودِىّ وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ [هود:44]. رست السفينة عند ذلك الجبل، أمر الله نوحاً أن ينزل من السفينة إلى الأرض، فهبط بأرض الموصل محفوفاً ببركات من الله، ومن آمن معه: قِيلَ ي?نُوحُ ?هْبِطْ بِسَلَـ?مٍ مّنَّا وَبَركَـ?تٍ عَلَيْكَ وَعَلَى? أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ [هود:48].
بارك الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، بعد أن عرضنا عليكم في الخطبة الأولى، وبشكل موجز، قصة نبي الله نوح عليه السلام، فإنه يجب علينا أيها الإخوة، ألا تمر القصة هكذا، لكن لابد من الوقوف عند بعض جوانبها، لنأخذ منها العبرة والعظة، وهكذا يستفاد من قصص القرآن، كما قال سبحانه: لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى ?لالْبَـ?بِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى? وَلَـ?كِن تَصْدِيقَ ?لَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111].
عباد الله، إن أول ما نحب أن نقف عنده، هو ذلك الشرك الذي من أجله، بعث الله رسوله نوح عليه السلام إلى قومه، لقد كانت عبادة الأصنام، والشرك منتشراً عند قوم نوح، ولخطورة هذه القضية، ولسوء عاقبة المشرك، بعث الله فيهم نوحاً، لكي يحذرهم من الخزي الذي سوف يحل بهم في الدنيا والآخرة، إذا لم يرجعوا إلى ربهم.
إن عاقبة الشرك يا عباد الله وخيمة، والله سبحانه وتعالى يغار على دينه، وقد يغفر الله كل ذنب من الإنسان إلا الشرك إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48]. فإن بعض الناس في زماننا هذا يقول: إن الشرك قد زال، ويتصورون أن الأصنام قد زالت وذهبت، وما عاد الناس يعبدونها، منذ فتح مكة، وتكسير الرسول صلى الله عليه وسلم، الأصنام التي كانت على الكعبة وفي جوفها، فنقول أيها الإخوة: إن عبادة الأصنام قد عادت من جديد، وصار الناس في هذا الزمان، يعبدون أصناماً عصرية حديثة، قدمها لنا الكهنة الجدد، بأساليب وأشكال جديدة، أشد خطراً، وأعظم تأثيراً من الأصنام التي كان يعبدها قوم نوح، إن أصنام قوم نوح كانت أصناماً حسية مصنوعة من الحجر أو الشجر، أما أصنامنا نحن، فأصنام معنوية ألعن بكثير من الأصنام الحسية.
أيها المسلم، إن كل شيء خضعت له فقد اتخذته صنماً لك، ومن أهم هذه الأصنام، التي انتشرت في زماننا والتي خضع الناس لها القومية، والوطنية والاشتراكية، والديمقراطية والعلمانية والوجودية، وغيرها كثير، وفي كل يوم نسمع بأسماء جديدة، لأصنام جديدة، ما أنزل الله بها من سلطان.
أيها المسلمون، إن الخضوع لهذه الأصنام نوع من أنواع الشرك بالله، فالحذر الحذر أيها الإخوة، من الوقوع فيها، لأن عاقبة الشرك ما سمعتم مما حل بقوم نوح، وخيمة وليس بين الله وبين أحد من عباده نسب والله المستعان.
قضية أخرى، لابد من التنبيه عليها، وهي درس عظيم يؤخذ من قصة نوح عليه السلام أيضاً، وهو الأسلوب الذي تدرج فيه الشيطان مع قوم نوح.
إن الشيطان ـ يا عباد الله ـ لم يطلب من قوم نوح عبادة غير الله، دفعة واحدة، ولو فعل ذلك، لما استجاب له أحد، لكنه تدرج معهم، فأوحى إلى قوم نوح، بوجوب صنع تماثيل، لأولئك الرجال الصالحين، تخليداً لذكراهم، لأن وداً وسواعا ويغوث ويعوق ونسر، هذه أسماء رجالٍ صالحين، فأوحى الشيطان لقوم نوح، بوجوب صنع أصنام بصورهم، تخليداً لذكراهم، فاستجاب القوم لوحي الشيطان.
وبعد جيل من الزمان، بعد انقراض من تبقى من العلماء، أوحى لمن جاء بعدهم من الجيل الثاني، أن أباءكم، ومن سبقوكم كانوا يعبدون هذه الأصنام، فاستجابوا لوحي الشيطان، ووقعوا في الشرك.
ومن أعاد النظر وتأمل منكم يا عباد الله، في واقعنا، وجد أن جند الشيطان، من شياطين الإنس، تعلموا هذه الخطة نفسها، التي رسمها قائدهم الأول مع قوم نوح.
إن أعداءنا يا عباد الله، إذا تأملنا طريقتهم، نلاحظ أنهم ما أفسدوا ديار المسلمين، ولا أفسدوا أخلاق المسلمين وسلوكهم وتصوراتهم إلا عن طريق التدرج، وأسلوب: المرحلةُ بعد المرحلة.
ودليلنا على ذلك أن ما تعانيه أمتنا من انحرافات في جميع المجالات، انحرافات في الأخلاق، وانحرافات في التصورات، وانحرافات في نظم الاقتصاد، وانحرافات في القضايا الاجتماعية، بل انحراف وبعد عن الإسلام في جميع شئونه، لم يحدث كل هذا يا عباد الله دفعة واحدة، وإنما تم على مراحل.
خذ على سبيل المثال، قضية المرأة، وكيف أوصل أعداؤنا المرأة في العالم الإسلامي، من امرأة محافظة على نفسها وعلى بيتها، من امرأة صانعةٍ للرجال، إلى ما تشاهدونه وتسمعونه بأنفسكم من حال المرأة، فهل وصلت المرأة إلى ما وصلت إليه دفعة واحدة ؟
ولكنه كما ذكرت أيها الإخوة، لقد تم على مراحل، فأول ما رفع أعداء الإسلام، رفعوا شعار تعليم المرأة، وعندما تقرر لهم ذلك، وضعوا المناهج التي يريدون، وجاءوا بمدرسين ومدرسات تربوا على أعينهم، وعندما تقرر لهم ذلك، زينوا للنساء المسلمات أن يتخذن من المرأة الغربية ـ على ما هي عليه من انحراف ـ قدوة لهن، وعندما تقرر لهم ذلك، أخذوا ينادون بخلع الحجاب لأنه قيد، ولا أصل له في دين الإسلام، وعندما تقرر لهم ذلك، راحوا ينادون بالاختلاط ومساواة المرأة بالرجل، في السياسة والإرث وإدارة أعمال الدولة، وعندما تقرر لهم ذلك، وضعوا القوانين التي لا ترتب على المرأة عقوبة إن زنت، وكلكم يقرأ، ما تطالعنا به المجلات في الآونة الأخيرة، حول قيادة المرأة للسيارة وما يدندن حولها، ولا ندري والله ما هي المرحلة التي تلي هذه، إن لم يتغمدنا الله عز وجل برحمته.ويحفظ لنا نساءنا وبناتنا.
ولو تعرضت لأي قضية أخرى، مما عم فيها البلاء في ديار المسلمين، رأيت أنه ما تم ذلك إلا بالتدرج وعلى مراحل، فالربا وكيف انتشر بين المسلمين، عن طريق البنوك وغيره، لم تفتح هذه البنوك أيها الإخوة، في يوم وليلة، لم يقنع فيها غالب المسلمين، إلا بعد مراحل طويلة جداً، فأقول : هل لنا في قصة نوح عليه السلام، عبرة وعظة، وهل نبهتنا هذه القصة، وموقف الشيطان من قوم نوح، لكي ننتبه ونأخذ الحذر من شياطين الإنس، وما يكيدونه لنا، ليل نهار.
أيها المسلمون، قضية ثالثة، تستحق الوقوف عندها، ونحن نعايش قصة نبي الله نوح عليه السلام، وهي قضية الولاء والبراء، مسألة الحب في الله والبغض في الله، والتي والله قد نزعت من قلوب غالب المسلمين، الولاء للمؤمنين، والبراء من المشركين الكافرين أياً كانوا.
إن المسلم في حياته، قد يبتلى بقومه أو أصدقائه أو حتى أهله، وقد يكون هو مسلماً، وأحد هؤلاء من الكفار، فماذا يكون موقفه وما الواجب عليه، لقد بين الله عز وجل، المنهج واضحاً، في قصة نوح عليه السلام، لكل مسلم، وهو أن لا تأخذه العاطفة، أو يجره الشفقة، أياً كان ذلك القريب، إن الرابطة يا عباد الله هي رابطة العقيدة، وغيرها من الروابط لابد تقطع، قال سبحانه: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْو?نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22].
وقصة نوح عليه السلام مع ابنه، والدرس الذي علمه الله عز وجل له، وهو التبري من ولده، تذكرني باستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب بعد هلاكه، وقوله: ((والله لأستغفرن له، ما لم أُنه عنك)) فأنزل الله: مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة:113]. وروى الإمام أحمد في مسنده، من حديث أبي بريدة عن أبيه، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن في سفر، فنزل بنا ونحن قريب من ألف راكب، فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه، وعيناه تذرفان، فقام إليه عمر بن الخطاب وفداه بالأب والأم، وقال يا رسول الله مالك: قال: ((إني سألت ربي عز وجل في الاستغفار لأمي، فلم يُأذن لي فدمعت عيناي رحمة لها من النار)).
فما دلالة هذا يا عباد الله، لم يأذن لخاتم الأنبياء أن يستغفر لأمه آمنة، ويعاتب لأنه كان يستغفر لعمه أبي طالب، ويعاتب نبي الله نوح عليه السلام، لأنه سأل ربه نجاة ابنه المشرك من الغرق. فنقول بعد هذا : ماذا يكون موقف بعض المسلمين هداهم الله، أمام الله عز وجل، وهم لا يؤاكلون ولا يشاربون ولا يجالسون، بل ولا يثقون إلا بالكفار بدين الله، سواء كانوا كفاراً أصليين من اليهود والنصارى، أو كفاراً من بيننا، ومن أقوامنا، ممن هم تاركين للصلاة، أو منكرين أمراً معلوماً من الدين بالضرورة. إن القضية ـ يا عباد الله ـ خطيرة، وليست المسألة مسألة إثم ومعصية، بل القضية قضية إسلام وكفر، إيمان وشرك، جنة ونار.
فنسأل الله عز وجل.. أن يبصرنا في ديننا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. اللهم من أراد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه واجعل تدبيره تدبيراً عليه، يا رب العالمين.
اللهم آمنا في..
(1/3001)
ورجع الحجيج
فقه
الحج والعمرة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
18/12/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحج المبرور يغسل الذنب ويدخل الجنة. 2- ماذا لو كان حجنا مبروراً. 3- الاستقامة على الطاعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد انتهى موسم الحج، ورجع حجاج بيت الله الحرام إلى بلادهم، سالمين غانمين، وقد أدوا حجهم، ولله الحمد والمنة، إلا من قدر الله جل وتعالى له أن يموت في طريقه هذا العام، فأسأل الله جل وعز، بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يقبلهم عنده، وأن يتغمدهم برحمته، ويسكنهم فسيح جناته.
أيها الأحبة الكرام، وقفة مع حديثي أبي هريرة رضي الله عنه، الأول: رواه البخاري ومسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه)) ، والثاني: رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
الذي يحج أيها الأحبة، حجاً مبروراً، وذلك بأن يتحرى الصواب في حجه في أداء أركان وواجبات الحج، ويتحرى السنة، امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((خذوا عني مناسككم)). وأيضاً يبتعد كل البعد عن الرفث والفسوق والجدال، وكان قبل ذلك تحرى الحلال في زاده وراحلته ونفقته، هذا الإنسان يرجع وكأنه ولد اليوم، طاهراً نقياً من الذنوب والمعاصي، ويرجع وقد وعد بالجنة، ليس له جزاء إلا الجنة. تخيلوا حاج يرجع بهذه النفسية، وبهذا الشعور، يمشي على الأرض وكأنه من أهل الجنة، وهو طاهر كملك من الملائكة، ما عليه خطيئة، لو سألنا سؤالاً، كم يقدر عدد الحجاج؟ قرابة المليونين، ينقصون قليلاً أو يزيدون.
دعونا من حجاج الخارج، سأعود إليهم بعد قليل، حجاج الداخل، كم عددهم؟ لا أظن أنهم ينقصون عن المليون، لاأكون مبالغاً، قلْ: إنهم نصف مليون، خمسمائة ألف حاج من هذه البلاد، وهذا عدد قليل، لكن لنفترض هذا، هل تدرون ماذا يعني هذا الرقم؟ إنه يعني نصف مليون حاج موعود بالجنة، إنه يعني خمسمائة ألف حاج رجع كيوم ولدته أمه طاهراً نقياً من الذنوب والخطايا والمعاصي، إننا نسأل أين هم؟ وهل فعلاً نخرج سنوياً من موسم الحج بهذا العدد، وبهذا المستوى، من تكفير الخطايا والآثام، مجتمع يضخ فيه سنوياً قرابة المليون شخص طاهر، قد غسل عن نفسه كل ذنب وخطيئة، ألا يفترض في هذا المجتمع أن ينقلب رأساً على عقب؟ وعلى أقل تقدير أن تبدوا آثار التغيير. كم هي المكاسب التي يجنيها مجتمعنا لو أن حجاجه رجعوا بما ذكرنا، يرجع كل حاج، رجلاً كان أو امرأة، عنصراً مستقيماً في نفسه، من الطبيعي أن هذا الصالح سيؤثر في غيره، يرجع كل حاج عنصراً مستقيماً بعد الحج. الذي كان يدخن قبل الحج، بعد الحج ترك التدخين، الذي كان يتعامل بالربا، ترك الربا وبدأ يتحرى الكسب الحلال، الذي كان يفعل الفواحش، تاب إلى الله عز وجل وترك فحشه، الذي كان يظلم الناس بأي نوع من أنواع الظلم، سواء بأكل أموالهم، أو النيل من أعراضهم، أو إيذائهم، أو أي شكل أو لون من أنواع الظلم، ترك الظلم، وقُلْ مثل هذا الكلام على جميع الأخطاء والمخالفات، والمنكرات التي كان يفعلها الحجاج قبل حجهم، كم هي المكاسب التي سنجنيها من الحج سنوياً لو أن هذا حصل، وقل مثل هذا الكلام في حجاج الخارج، أيضاً أولئك رجعوا إلى بلادهم، وقد غسلوا في أرض عرفات عن أنفسهم كل جرم وذنب وخطيئة، ورجعوا عناصر فعالة في دولهم وقدوات صالحة في مجتمعاتهم، كم هي المكاسب التي ستجنيها الأمة. يرجع الحجاج بهذا المستوى من النقاء، وكل يقوم بدوره، الأب الحاج في بيته بين أولاده، الموظف الحاج في مكتبه مع زملائه، المدرس الحاج في مدرسته مع طلابه، التاجر الحاج في دكانه مع زبائنه، وكل في موقعه الذي يمارس فيه حياته اليومية، والله إنها لمكاسب جمة، ولو كان نصف أو ربع ما نطلبه يتحقق، لحسب أعداء الشريعة لهذا التجمع السنوي ألف حساب، لكنهم يعلمون أنها وفود تذهب وتعود،ونفقات تصرف، وجهود وطاقات، ولا يستثمر هذا التجمع حق الاستثمار، الذي يفترض فيه أن يرهب أعداء الله عز وجل. ليكن لنا حديث خاص، دع عوام الناس، خذ خواصهم من الدعاة وطلاب العلم، الذين يدركون هذه القضايا، أين هم بعد عودتهم من الحج، ألا يفترض أن جهودهم تتضاعف؟ وقدراتهم تزيد، وعطاءهم ينمو، لماذا؟؟ لأن سلاسل وأغلال الذنوب والخطايا يفترض أنهم قد تحللوا منها، في تلك البقاع الطاهرة، لكن ما هو المشاهد، وما هو النتاج الحقيقي لعودة الحجاج في الغالب؟ المشاهد أن الخواص يرجع كل إلى وضعه الطبيعي الذي كان عليه قبل الحج، صاحب الفتور إلى فتوره، وصاحب النصف مشارك إلى نصف مشاركته، والنشيط قد يزيد قليلاً، أما عوام الناس فالله المستعان، يعود صاحب المعصية إلى معصيته، وصاحب الفسق إلى فسوقه، وصاحب الظلم إلى ظلمه، وكأن الحج بالنسبة لهم كانت رحلة أو نزهة.
أيها المسلمون، ماذا تعني هذه الخلاصة التي خرجنا بها، وماذا يدل عليه نتاج الحج؟ إنه يعني قضية واحدة لا ثاني لها. إن حجنا والله المستعان ليس مبروراً، قد شابه شوائب كثيرة، لم نحج كما حج النبي صلى الله عليه وسلم، فيه نواقص وخلل. قد دخله ربما الرفث والفسوق والجدال. لم نرجع من حجنا كما ولدتنا أمهاتنا، رجعنا من الحج بنفس الذنوب والآثام التي ذهبنا بها، وربما خففنا شيئاً قليلاً، أما البقية فهي محملة على ظهورنا ذهاباً وإياباً.
إنها قضية تستحق العناية، وتستحق التأمل، إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصرح بأن هذه الأمة لو صدقوا فإنه لن يغلب إثني عشر ألف من قلة، فما بالكم بتجمع سنوي يحشد ما يقارب مليوني مسلم، أليس من المفترض في مثل هذا التجمع أن يهز العالم، ويرهب القريب والبعيد.
فيا حبذا لو استثمر علماء الأمة، وأهل الحل والعقد فيها، ووجهاء وعقلاء الناس من كل جهة، والدعاة وطلاب العلم، بجميع مستوياتهم وطاقاتهم، واستفيد من هذه الحشود وهذه القدرات، في محاولة صبها في بوتقة الإسلام العام. إنه لا بد أيها الأحبة من الاستفادة من كل طاقة، ومن كل رجل مهما كان عمله، وأينما كان موقعه، خصوصاً في مثل هذه الفترات التي تمر بها الأمة. جراحات الأمة كثيرة، وآلامها عميقة، وأكلة القصعة كثر، والذي كان ينافق صار الآن لا ينافق، والذي كان يفعل ما يريد أن يفعله في ظلمة الليل صار يفعله في وضح النار.
فإذا لم نستفد ـ أيها المخلصون ـ من كل طاقة، ونستفيد من كل تجمع، ونحاول أن نستغل كل مشروع، فإن الجرح يصير جراحات، والألم آلام. إنها خسارة وأية خسارة أن يمر موسم كموسم الحج، ونخرج منه كما دخلنا. هذا نحن، أما بقية بلاد الإسلام فكما قال الشاعر:
ففي أرض أفغان الشهيدة مأتم فهل تسمع الدنيا الضجيج وتُبصر
وفي مصر آنّاتٌ ووطأة غاشم وليل وآهات ودمع وأقبر
وفي دار هارون الرشيد زلازل وآثار مجدٍ أحرقوه ودمروا
حنانيك يا بغداد صبرا فربما تباح لهذا الكفر سيل مطهر
لماذا دموع الحزن لست وحيدة وأنت على الأيام عز ومفخر
فكل بلاد المسلمين مقابر وهم صور الأحجار تنهى وتأمر
تماثيل لكن ناطقات وإنما بلاء البلاد الناطق المتحجر
فنسأل الله جل وتعالى أن يهيئ لهذه الأمة من أمرها رشداً. إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول وأستغفر الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: قال الله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـ?سِكَكُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِنْ خَلَـ?قٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ?لآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ وَ?للَّهُ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ [البقرة:200-202]. إن المسلم لا ينقطع عن الخير، بانتهاء مواسمه، فالمسلم كل عمره مواسم، فإذا قضيتم مناسككم، وفرغتم من حجكم، فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً. كيف يكون لهج الواحد منا، بذكر أبيه وأمه، فالواجب أن يكون لهجنا بذكر الله جل وتعالى، أشد من لهجنا من ذكر الآباء والأمهات، ويكون هذا متى؟ وهذا التوجيه متى يؤمر به المسلم؟ إنه يؤمر به ويكون بعد قضائه النسك ليكون المسلم دائم الصلة بربه، ولئلا يشعر بأنه قد حج وكمل دينه ورجع نقياً طاهراً كيوم ولدته أمه. بل ينبغي له الشعور بالتقصير والتفريط. وأن يستمر على ذكر الله بعد قضاء النسك. ثم يأتي بعده التوجيه الرباني والإرشاد إلى دعائه بعد الإكثار من ذكر الله فإنه مظنة الإجابة. وقد ذم الله تعالى أولئك الذين لا يسألون الله إلا في أمور الدنيا وهم معرضون عن الآخرة: فَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِنْ خَلَـ?قٍ ، والأولى والأكمل بالمسلم أن يسأل ربه من خيري الدنيا والآخرة، وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ?لآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ وَ?للَّهُ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ. الحسنة في الدنيا تشمل العافية في البدن، والرزق الواسع، والزوجة الحسناء، والعلم النافع، والعمل الصالح، والمركب الهين، والثناء الجميل، وغيرها.
والحسنة في الآخرة، أعلاها دخول الجنة وتوابعه من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب وغيرها. ولهذا ورد في السنة أن أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)). أخرج الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد صار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟)) قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبحان الله، لا تطيقه أولا تستطيعه، فهلا قلت: وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ?لآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ قال فدعا الله فشفاه)).
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.. اللهم تقبل من الحجاج حجهم.. اللهم وارحم واغفر لموتاهم.. اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً..
(1/3002)
وقتل داود جالوت
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
24/8/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تدبر القصص القرآني. 2- القرآن كتاب توجيه، ومنهج للأمة متكامل. 3- الذل لا يرفعه إلا الجهاد في سبيل الله. 4- طالوت يقود بني إسرائيل. 5- هزيمة بني إسرائيل في معركة الإرادة. 6- انتصار الثلة المؤمنة. 7- داود يقتل جالوت. 8- عبر من القصة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لقد ذكر الله لنا في القرآن قصصاً كثيرة، وهذه القصص جاءت متنوعة متكررة، بل ربما تكررت القصة الواحدة عشرات المرّات في عشرات السور، بعضها بشكل إجمالي وبعضه تفصيلي.
والقصص لم ترد في القرآن إلا لتدبرها والوقوف عندها، وكثير منها يعالج ما يستجد في حياة الناس من قضايا وأحداث، وهذا بعض معجزات القرآن. كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [ص:29]، قال الله تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ أَمْ عَلَى? قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
إن القرآن هو كتاب هذه الأمة الحي ورائدها الناصح وإنه هو مدرستها التي تتلقى فيه دروس حياتها وتستمع فيه إلى الإرشادات والتوجيهات.
إن هذا القرآن ليس مجرد كلام يتلى، ولا مجرد آيات تُحفظ وتردد، أو تعاويذ يتبرك بها، بل هو دستور شامل، دستور للتربية كما أنه دستور للحياة العملية، بل هو منهج الحياة، ومن ثم فقد تضمن عرض تجارب البشرية بصورة حية، على أهل الإسلام الذين يربيهم المولى جل وعلا بالأحداث والأقدار، فيُهرعون إلى القرآن فيجدونه غضاً طرياً كأنما أنزل البارحة في أحداثهم وشؤونهم، يقدم القرآن الزاد لأمة الإسلام في جميع أجيالها: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ?لْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ?لْغَـ?فِلِينَ [يوسف:2، 3].
ولهذا تتنوع القصص في كتاب الله ويكثر ضرب الأمثال للقياس والاعتبار كما قال سبحانه في إجلاء بني النضير فَ?عْتَبِرُواْ ي?أُوْلِى ?لأَبْصَـ?رِ [الحشر:2].
ولهذا المعنى تجد في سرد القصص القرآني متعة إيمانية وحقائقَ وجودية تتكرر في الأمم والأجيال ما وجدت نفس تتحرك.
ومن أكثر القصص وروداً في القرآن قصص بني إسرائيل، ومن أهم أسباب ذلك أن الله سبحانه وتعالى يعلم أن هذه الأمة ستمرُّ في بعض أجيالها بالأدوار التي مر بها بنو إسرائيل، وتقف من دينها وعقيدتها مواقف مشابهة بمواقف بني إسرائيل، فلهذا عرض الله عليها مزالق الطريق مصورة في تاريخ بني إسرائيل، لتكون لها عظة وعبرة، ولترى صورتها في تلك المرآة المرفوعة في آيات القرآن، فتتجنب المزالق والنكبات.
أيها المسلمون، ولن ننتفع بهذا القرآن حتى نقرأَه لنتلمس عنده توجيهات حياتنا المعاصرة في يومنا وغدنا، كما كان الصحابة الكرام تتلقاه، وحين نقرأ القرآن بهذا الوعي سنجد عنده ما نريد، وسنجد فيه عجائب لا تخطر على بال، سنجد كلماتِه وعباراتِه وتوجيهاته وقصصه حية نابضة، تنبض وتتحرك وتشير إلى طريق الخلاص والنجاة، وتقول لنا: هذا فافعلوه، وهذا لا تفعلوه، وتقول لنا: هذا عدو، وهذا صديق، وتقول لنا: كذا فاتخذوا من الحيطة، وكذا فاتخذوا من العدة، وتقول لنا حديثاً طويلاً مفصلاً دقيقاً في كل ما يعرض لنا من الشؤون، وسنجد عندئذ في القرآن متاعاً وحياة، وعندها سندرك معنى قول الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، فهي دعوة للحياة الدائمة المتجددة تحت ظلال آيات القرآن، لا لحياة تاريخية محدودة في صفحة عابرة من صفحات التاريخ.
أيها المسلمون، ومن قصص القرآن ما قصه الله علينا في حادثة جرت لبني إسرائيل بعد موت موسى عليه الصلاة والسلام، بعدما ضاع ملكهم ونهبت مقدساتهم وذَلوا لأعدائهم، وذاقوا الويلات منهم بسبب ترك الوحي والتوراة، ثم انتفضت نفوسهم، انتفضت فيها العقيدة والإيمان، واشتاقوا للقتال في سبيل الله، وعلموا أنه لا عز لهم إلا بالجهاد في سبيله، فقالوا لنبيٍ لهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لْمَلإِ مِن بَنِى إِسْرءيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى? إِذْ قَالُواْ لِنَبِىّ لَّهُمُ ?بْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَـ?تِلْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لْقِتَالُ أَلاَّ تُقَـ?تِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَـ?تِلَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَـ?رِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ?لْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ بِ?لظَّـ?لِمِينَ [البقرة:246].
لقد اجتمع ملأٌ من بني إسرائيل من أهل الرأي والمشورة فقالوا لأحد أنبيائهم: عيّن لنا ملكاً نقاتل تحت رايته في سبيل الله، لا في سبيل غيره، وهذا التحديد منهم لطبيعة القتال، وأنه في سبيل الله، فيه إشارة إلى انتفاضة العقيدة في قلوبهم ويقظة الإيمان في نفوسهم، وشعورهم بأنهم أهل دين وحق، وأن عدوهم على ضلال وكفر وباطل.
أيها المسلمون، إن هذا الوضوح في انتفاضة العقيدة هو نصف الطريق إلى النصر، فلا بد للمؤمن أن يتضح في حسه أنه على الحق وأن عدوه على الباطل، وأنه مسلم، وعدوُه كافر، ولا بد أن يتجرد في حسه الهدف، وهو في سبيل الله، فلا يغشاه غبش أو ظلمة لا يدري معها أين يسير؟!
واستوثق منهم نبيهم، وهو يعلم حال أمته من خُلف الوعد ونقض العهد ونكث المواثيق فقال: هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لْقِتَالُ أَلاَّ تُقَـ?تِلُواْ فأنتم في سعة الآن، فأما إذا استجبتم فتقرر القتال، فتلك فريضة مكتوبة، ولا يمكن أن ننكل عنها كلمة تليق بنبي صادق يخبر عن كوامن النفوس وضعفها، وههنا تُستثار الحماسة في نفوسهم فيقولون: وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَـ?تِلَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَـ?رِنَا وَأَبْنَائِنَا.
فالأمر واضح عندهم، أعداؤهم أعداء الله، وقد أخرجوهم من ديارهم وسبَوا أبناءهم، ولكن هذه الحماسة لم تدم، فها هو القرآن يقول: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ?لْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ تذهب الحماسات التي انتفخت في ساعات الرخاء، وليست هذه سِمَة خاصة ببني إسرائيل وحدهم، بل هي سِمَة لكل جماعة أو طائفة لا تنضج تربيتها الإيمانية، فهي سمة وصفة بشرية عامة لا يغيرها إلاّ التربية الإيمانية العميقة، ولهذا عقب الله على فعلهم بقوله: وَ?للَّهُ عَلِيمٌ بِ?لظَّـ?لِمِينَ وهو يشير بشيء من الإنكار ووصم الكثرة الكاثرة بالظلم، فهي ظالمة لنفسها، وظالمة لنبيها، وظالمة للحق الذي طالما تغنت به فخذلته، وهي تعرف أنه الحق وتخلت عنه للمبطلين. وكم من الناس في دنيا الناس اليوم من يعرف الحق، لكنه يخذله ولا ينصره وَ?للَّهُ عَلِيمٌ بِ?لظَّـ?لِمِينَ.
ثم يمضي السياق القرآني ليغور في النفس الإسرائيلية، ويقدم لنا تجارب حية نلمسها في حياتنا اليومية، وذلك بعد أن بين اختيار النبي لطالوت ملكاً عليهم، فأنكروا ذلك، وهم الذين طلبوا تعيينه ثم بيّن النبي لهم أن الله اصطفاه وزاده بسطة في العلم والجسم، فهو وحي من الله ولا بد من التسليم له، ثم أخبرهم عن آية ملكه وشرعيته بمجيء التابوت وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ?للَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّى? يَكُونُ لَهُ ?لْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِ?لْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ ?لْمَالِ قَالَ إِنَّ ?للَّهَ ?صْطَفَـ?هُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي ?لْعِلْمِ وَ?لْجِسْمِ وَ?للَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ ?لتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مّمَّا تَرَكَ ءالُ مُوسَى? وَءالُ هَـ?رُونَ تَحْمِلُهُ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ إِنَّ فِي ذ?لِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [البقرة:247، 248].
أيها المسلمون، وينتقل بنا السياق القرآني إلى أهم أحداث هذه القصة فيقول: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِ?لْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ?للَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى إِلاَّ مَنِ ?غْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ [البقرة:249]، ويتجلى في هذا المقطع مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل "طالوت" إنه مُقدِمٌ على معركة، ومعه جيش من أمة مغلوبة عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة، وهو يواجه جيش أمة قوية كثيرة العدد مدججة السلاح، فلا بد إذن من قوة كامنة يضيفها لأتباعه تقف بها أمام القوة الظاهرة الغالبة، وأدرك أن هذه القوة لا تكون إلا في الإرادة، الإرداة التي تضبط الشهوات والنزوات، الإرادة التي تصمد للحرمان والمشاق، وتستعلي على الضرورات والحاجات، الإرادة التي تُؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها، مهما كان ثمنها، فتجتاز بإرادتها الابتلاء بعد الابتلاء.
ولهذا أراد طالوت أن يختبر الأتباع والجنود فقال: إِنَّ ?للَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى إِلاَّ مَنِ ?غْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ وصحت فراسة طالوت في أتباعه المتحمسين ويأتي الجواب بشربهم من النهر فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ فئة تُقاتل عدوها تُبتلى بالعطش! ومن يأمرها به؟ الله من فوق سبع سماوات! أيّ تربية هذه؟ ما الغاية؟ وما الهدف؟
لقد سقط الضِّعاف في الاختبار وتمحّص الصف، وتخلف المتخلفون بعصيانهم لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَـ?لَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ?لْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّـ?عُونَ لَهُمْ [التوبة:47].
كان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن طالوت وأتباعه لأنهم بِذرة ضعف وخذلان وهزيمة، الجيوش ليست بالعدد الضخم ولا بالقوة المادية ولا بعابرات القارات ولا بالقنابل العنقودية والانشطارية، ولكن بالقلب الصامد والإرادة الجازمة وقبله الإيمان الثابت.
وكان ذلك النهر هو النهر الذي يفصل بين الأردن وفلسطين، قال السُّدي رحمه الله: كان الجيش ثمانين ألفاً فشرب من النهر ستة وسبعون ألفاً، وتبقى مع طالوت أربعة آلاف. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من اغترف غرفة بيده رَوَى، ومن شرب منه لم يروَ).
والثابت في صحيح البخاري من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أنّ عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا مؤمن، بضعة عشر وثلاثمائة).
وهل انتهت الغربلة عند هذا الحد؟ لم تنتهِ التجارب بعد ذلك لأن النفس البشرية لا يمكن التنبؤ بمفاجآتها: فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ?لْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ [البقرة:249].
لم يكونوا يستشعرون أنهم قلة، فلما رأَوا الواقع رأَوا أنهم أضعف من مقاومته لاَ طَاقَةَ لَنَا ?لْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ إنهم مؤمنون لم ينكِصوا عن عهدهم مع نبيهم ولا ملكهم، ولكنهم أمام أعداد ضخمة وأسلحة متنوعة، وفي مثل هذه الحال لا يصمد إلاّ من كانت له موازين غير موازين الدنيا، برزت في هذه اللحظة الصعبة فئة قليلة من ثلاثمائة وبضعة عشر، صَفوة الصَّفوة ونخبة النخبة، برزت ههنا فئة مؤمنة متصلة بالموازين الربانية، فتكلموا من واقع إيمانهم وثقتهم بالله، أمام الجيوش الكبيرة والأعداد الغفيرة والأسلحة الثقيلة: قَالَ ?لَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ ?للَّهِ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ?للَّهِ وَ?للَّهُ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ.
وتأمل اللفظ كَم مّن فِئَةٍ صيغة تكثير، وهذا يدل على أن من بين الثلاثمائة وبضعة عشر قوم استقرؤوا أحوال الأنبياء والرسل من قبلهم، واستحضروا نصر الله لهم في أصعب اللحظات: حَتَّى? إِذَا ?سْتَيْئَسَ ?لرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّىَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ?لْقَوْمِ ?لْمُجْرِمِينَ [يوسف:110]، وقال سبحانه في الآية الأخرى: حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
إن المؤمن المتجرد من موازين الدنيا، والمتعلق بالموازين الربانية، يدرك قاعدة عظيمة من قواعد السنن الربانية، هذه القاعدة تقول: إن المنصورين قلة، وعادة ما يوصفون بأنهم فئة أو شرذمة، وقد قال هذا فرعون من قبل في موسى وأتباعه: إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَـ?ذِرُونَ [الشعراء:54-56]، هذه الفئة المؤمنة إذا ثبتت على إيمانها، رَقَت الدَّرج الشاق وصعِدت السلم الطويل، حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار، لأنها اتصلت بالله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده، محطم الجبارين، ومخزي الظالمين، وقاهر المتكبرين، وهي في كل ذلك تكِل النصر إلى الله فتقول: كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ?للَّهِ [البقرة:249]، ويعللون نصرهم بعلته الحقيقية وَ?للَّهُ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ فلولا صبرهم لما انتصروا.
فنسأل الله تعالى أن ينصر إخواننا المستضعفين في كل مكان، وأن ينصرهم على عدوهم إنه سميع قريب مجيب.
بارك الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: ونمضي مع القصة لنرى فيها مزيداً من العبر والدروس، نشاهد فيها أن الفئة المؤمنة القليلة الصابرة، لم تزلزلها كثرة العدد، ولا قوته مع ضعفها وقلتها، بل في مثل هذه اللحظات هي التي تحدد وتقرر مصير المعركة، بعد أن تجردت لربها، وأخلصت له، وانقطعت عن الخلق، واتصلت بالخالق، واستغنت عن جميع الناس، هنا يقول الله تعالى عنهم: وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَ?نصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ ?للَّهِ [البقرة:250، 251]، فبرزوا وظهروا للعيان أمام الأعداء وقالوا: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَ?نصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة:250]، تأمل ـ يا عبد الله ـ في قوله: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا تعبير عجيب، يصور مشهد الصبر أمام الأعداء، وكأنه فيض من الله يُفرغه عليهم، فيغمرهم به وينسكب عليهم انسكابا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا.
أيها المسلمون، إيمان أمام كفر، وحق أمام باطل، وتَمَنٍّ للشهادةِ والموت أمام حِرْص على الحياة، ماذا تكون النتيجة؟ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ ?للَّهِ ويُعلّم القرآن المؤمنين أن النصر على الأعداء بإذن الله لا بإذن غيره، ليتضح التصور الكامل للوجود، ولما يجري في هذا الكون، ولطبيعة القوة التي تحركه.
إن المؤمنين ستار رقيق لقدرة الله، يفعل الله بهم ما يريد، ويُنفّذ بهم ما يختار بإذنه، ليس لهم من الأمر شيء، ولا حول لهم ولا قوة، ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته، فيكون منهم ما يريده بإذنه، وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين، إنه عبد الله، اختاره الله لدوره، وهذه مِنَّة من الله وفضل، وهو يؤدي هذا الدور المختار، ويحقق قَدَر الله النافذ، ثم يكرمه الله بعد كرامة الاختيار بفضل الثواب ولولا فضل الله ما فعل، ولولا فضل الله ما أُثيب.
ويستيقن المؤمن وهو يقاتل أعداء الله نبل الغاية، وطهارة القصد، ونظافة الطريق، فليس له في شيء من هذا كله مصلحة ذاتية، إنما هو منفذ لمشيئة الله الخيرة، قائم بما يريد، استحق هذا كله بالنية الطيبة، والعزم على الطاعة، والتوجه إلى الله في خلوص.
أيها المسلمون، ويبرز في السياق داود عليه السلام فيقول الله تعالى: وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ [البقرة:251]، كان داود فتى صغيراً من بني إسرائيل، وجالوت كان ملكاً قوياً وقائداً مهيباً، ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك، أن الأمور لا تجري بظواهرها إنما تجري بحقائقِها، وحقائقُها لا يعلمها إلاّ هو، ومقاديرها في يده وحده، فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم، ويفوا الله بعهدهم، ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده، وقد أراد الله أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم الظالم على يد هذا الفتى الصغير داود، ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم إنما هم ضعاف، يغلبهم الفتية الصغار، حين يشاء الله أن يقتلهم.
ومن الحكم البليغة في هذه القصة: أن يكون داود هو الذي يتسلم الملك بعد طالوت، ويرثه ابنه سليمان، فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل، وكانت بدايات التمكين هي تلك الانتفاضة، انتفاضة العقيدة والايمان في نفوسهم، بعد الضلال والانتكاس والشرود.
أيها المسلمون، وتصل بنا القصة إلى هذه الخاتمة، ويعلَن النصر الأخير للعقيدة الواثقة، لا للقوة المادية وللإرادة المستعلية، لا للكثرة العددية، حينئذ تأتي الآيات القرآنية مُعلنةً عن الغاية العليا من اصطراع تلك القوى، إنها ليست المغانم والأسلاب، وليست الأمجاد والهالات، إنما هو الصلاح في الأرض، وإنما هو التمكين للخير بالكفاح مع الشر وَلَوْلاَ دَفْعُ ?للَّهِ ?لنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ?لارْضُ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ?لْعَـ?لَمِينَ [البقرة:251].
وهنا تتوارى الأشخاص والأحداث والأسماء، لتبرز من خلال النص القصير حكمة الله العليا في الأرض، من اصطراع القوى وتنافس الطاقات، وانطلاق السعي في تيار الحياة المتدفق الصاخب الموَّار، وهنا تتكشف على مد البصر ساحة الحياة المترامية الأطراف، تموج بالناس في تدافع وتسابق وزحام إلى الغايات، ومن ورائها جميعاً قدرة الله تعالى، تقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق إلى الخير والصلاح والنماء في نهاية المطاف.
أيها المسلمون، وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء، يكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة، تعرف الحق الذي بينه الله لها، وتعرف طريقها إليه واضحاً، وتعرف أنها مكلفة بدفع الباطل وإقرار الحق في الأرض، وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله، إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل، وأن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعة لله، وابتغاءً لرضاه، وهنا يُمضي الله أمره وينفذ قدره، ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله، لا بد وأن تَغْلِبَ في النهاية وتنتصر، لأنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض، وتمكين الصلاح في الحياة. قال الله تعالى: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]، وقال سبحانه: وَنَجَّيْنَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ [فصلت:18]، وقال عز وجل: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?دُ [غافر:51]، وقال تعالى: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
سأكتب شعري الباكي بدمع القلب لا الحبر
أسطّره على كبدي وأترك دفتر الشعر
جراح أحبتي في الأرض تبعث عاصف الفكر
فيا لله هل يبقى هنا صبر لذي صبر؟!
أحقاًّ أن سيف الحِقد تُشهره يد الكفر؟!
وأن دماء إخواني على طرقاتهم تجري؟!
أحقاًّ أن آلافاً تشرّدهم يد الفقر؟!
وأن الطفل لا يدري عن الأم ولا تدري؟!
أحقاًّ أن مسلمة بها كبراءة الزهر
تبيت عفيفة والليل يهتك سترة الطهر؟!
أحقاًّ قصة الإحراق والتجويع والكسر؟!
أحقاًّ قصة التمثيل في الوجه وفي الظهر؟!
أحقاًّ أن رأس المرء يُجعل لعبة تجري؟!
أحقاًّ أن عينيه تُقلع دونما أمر؟!
أحقاًّ ذلكم حقاًّ فما للقلب كالصخر؟!
لئن ماتوا فقد ماتت قلوب الناس في الصدر!!
(1/3003)
وقفات مع آيات
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
آثار الذنوب والمعاصي, السياحة والسفر, القرآن والتفسير
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
19/2/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اليهود يرتكبون الموبقات والله ينتقم لحرماته. 2- اغتنام الطاعة قبل العجز أو الحجب عنها. 3- السياحة والسفر إلى بلاد الكفار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فهذه وقفات مع آيات متفرقة من كتاب الله تعالى، دون أي ترتيب.
وقفتنا الأولى مع آية النساء: فَبِظُلْمٍ مّنَ ?لَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَـ?تٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ ?لرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْو?لَ ?لنَّاسِ بِ?لْبَـ?طِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـ?فِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [النساء:162، 161]. هذه الآية وإن كانت في حق اليهود لكنها خطاب لهذه الأمة وتحذير لها أن تعمل عمل يهود، فيصيبها ما أصابهم، فماذا فعلت يهود حتى نزل بهم لعائن الله، ما الذي انتشر في مجتمعات اليهود حتى تنزل عليهم كل هذه القوارع، فعلوا أشياء كثيرة، منها أربعة أشياء ذكرت تخصيصاً في آيات النساء.
جرمهم الأول: الظلم: فَبِظُلْمٍ مّنَ ?لَّذِينَ هَادُواْ.
جريمتهم الثانية: الصد عن سبيل الله: وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ كَثِيراً.
جريمتهم الثالثة: الربا: وَأَخْذِهِمُ ?لرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ.
جريمتهم الرابعة: بخس حقوق الناس: وَأَكْلِهِمْ أَمْو?لَ ?لنَّاسِ بِ?لْبَـ?طِلِ.
لقد حذر الله اليهود من الظلم، لكنهم لم ينتهوا فوقع الظلم في مجتمعاتهم.
وحذّر الله اليهود من الصد عن سبيل الله، والوقوف في طريق الخير أن ينتشر، وحذرهم من منع أنبياء الله من نشر دين الله، لكن يهود كانت لهم مواقف مخزية ذكرت في مواضع متفرقة من القرآن يجمعها إطار الصد عن سبيل الله، ومنع انتشار الدعوة بين الناس، والوقوف في طريق الإصلاح، ومحاربة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. وحرم الله على اليهود أكل الربا، فأكلوه، وأخذوه وانتشر بينهم، ولهم في ذلك طرق ملتوية، بل واشتهروا به، حتى صار اليهود هم أرباب الربا في العالم. أما اليوم فما من درهم ربا يُتناول في بلد أو مجتمع إلا ولليهود فيه مصلحة، كيف لا يكون ذلك ولهم نفوذ في جميع بنوك العالم.
وحذر الله اليهود من بخس حقوق الناس، وأكل أموال الناس بالباطل، فبخسوا وأكلوا وظلموا فحلّ عليهم غضب الله. فَبِظُلْمٍ مّنَ ?لَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَـ?تٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ ?لرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْو?لَ ?لنَّاسِ بِ?لْبَـ?طِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـ?فِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً.
ماذا كان مصير يهود بعدما فعلوا هذه المحرمات، ماذا حصل لمجتمعات اليهود وماذا حل بهم بعدما انتهكوا حرمات الله عز وجل. نزل عليهم بلاء من الله عظيم، سلط الله عليهم الأمم دهراً من الزمن تسومهم سوء العذاب، مسخوا قردة وخنازير وغيرها وغيرها من العقوبات الإلهية التي ذكرت في القرآن، ذكرت في القرآن تحذيراً لهذه الآية أن تقع في شيء مما حرم عليها، فيصيبها ما أصاب يهود.
فتأمل أخي المسلم، في مجتمعات المسلمين اليوم شرقيها وغربيها، شماليها وجنوبيها، ولم يسلم منها إلا من سلمه الله، هل هذه الأمور الأربعة واقعة وحاصلة عند المسلمين (الظلم/الصد عن سبيل الله/الربا/أكل أموال الناس وبخس حقوقهم). لا أحد يشك، ولا عاقل ينكر من عدم خلو مجتمع من مجتمعات المسلمين من هذه الأربعة ومن غيرها، لكن النسب متفاوتة، فما يزيد هنا قد ينقص هناك، وما يقل هنا قد يكثر. فعلى هذه الأمة الحذر، ثم الحذر من نهج منهج يهود، والاستخفاف بتعاليم الشريعة، وانتهاك الحرمات، لأن العاقبة وخيمة، وخيمة في الدنيا، وشديدة مؤلمة في الآخرة.
الوقفة الثانية، مع قول الله تعالى في سورة الأنعام: وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَـ?رَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110]. الله جل وتعالى بمنه وكرمه قد يفتح عليك أيها المسلم باباً يأتيك منه الأجر، فتقصر أنت يا عبد الله من الأخذ والتزود من هذا الباب، فتعاقب، فتعاقب بأن تحرم هذا الباب حتى تموت، إلا أن يعفو الله عنك. ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة. فهؤلاء لم يؤمنوا به أول مرة، ولم يأخذوه أول مرة، ولم ينتهزوا فرصة حصولهم عليه أول مرة، فعاقبهم الله جل وتعالى بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم، نسأل الله العافية.
إليك أخي المسلم بعض الأمثلة:
أنت قد يفتح الله لك باب طلب علم ويتيسر لك ذلك، أو باب دعوة أو باب صدقة وإنفاق في سبيل الله، أو أي باب من أبواب الخير، فتقصر أنت، أنت الذي تقصر في طلب العلم، وأنت الذي تقصر في الدعوة والمشاركة في الأنشطة الدعوية، وأنت الذي تمسك يدك من الصدقة والبذل في وجوه البر والإحسان.
ثم بعد زمن تعلم أنك كنت أنت المخطئ وأنت المقصر. فتريد أن تقبل الآن على طلب العلم، وتريد الآن أن تدعو إلى الله عز وجل، والآن تريد أن تتصدق وأن تبذل من مالك، فتعاقب. فيعاقبك الله عز وجل، وتحرم هذا الباب وربما إلى أن تموت. وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَـ?رَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. ((القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)).
فاغتنم الفرصة يا عبد الله، سَابِقُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ [الحديد:21]، فَ?سْتَبِقُواْ ?لْخَيْر?تِ [البقرة:148]، فَفِرُّواْ إِلَى ?للَّهِ [الذاريات:50]، وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ?لْمُتَنَـ?فِسُونَ [المطففين:26]، ((اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك وصحتك قبل سقمك وفراغك قبل شغلك وشبابك قبل هرمك وغناك قبل فقرك)) ، إنك الآن ـ أخي المسلم ـ تدعى إلى صلاة ركعة أو ركعتين أو تدعى لإنفاق ريال أو ريالين، أو تدعى للمشاركة في قليل من وقت، وقليل من بذل، ومع هذا تمسك وتبخل. فلا تلومن بعد ذلك إلا نفسك إذا حُرمت وأغلقت دونك الأبواب. قال بعض السلف: "من فتح له باب خير فليسارع إليه، فإنه لا يدري متى يغلق".
ثم اعلم أيضاً بإن أبواب الخير ـ أخي المسلم ـ تأخذ بعناق بعضها البعض، فما أن تلج باباً من أبواب الخير بإخلاص إلا وفتح لك أبواب تلو أبواب. وكذلك من توانى وتشاغل، وضيّع على نفسه فرصة، فإنه قد تفوته فرص أخرى، لماذا؟ لأنه فرّط في الأولى، فعوقب بحرمان الثانية. فجزاء الحسنة الحسنة بعدها. وعقوبة السيئة السيئة بعدها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَـ?رَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: الوقفة الثالثة: قول الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6]. هذه الوقفة ـ أيها الأحبة ـ نقفها بمناسبة بدء عطلة الصيف. فيا أيها الآباء اتقوا الله تعالى في أنفسكم وأهليكم في هذه الإجازة. فإن عدم تقوى الله عاقبته نارٌ وقودها الناس. فهناك عدد ليس بالقليل اعتادوا السفر في عطلة الصيف، فكما يقولون نصطاف في الخارج. وغالب سفر هؤلاء يكون إلى ديار الكفر. أوربا وأمريكا وغيرها. ومع الأسف أن هؤلاء لا ينفع معهم فتاوى العلماء في هذه المسألة؛ لأن مسألة الحلال والحرام أصبحت شبه متساوية، فيقدم ويعمل المسلم الحرام وهو يعلم أنه حرام، والأمر عادي جداً. والدليل أننا نقرأ ونوزع سنوياً في مثل هذا الوقت الفتاوى الرسمية الصادرة من العلماء في هذه المسألة، لكن لا تفيد معهم، فهو يعلم بأن سفره إلى تلك الديار لأجل النزهة لا يجوز، لكن لا يبالي. فهؤلاء قد عرضوا أنفسهم لسخط الله، وعقاب الجبار، وعرضوا أنفسهم وأهليهم لنار وقودها الناس، وكثير منهم قد جنى على أولاده وبناته عندما يعرضهم لمشاهدة التبرج والسكر والدعارة والزنا، علانية هناك، فهؤلاء شباب وفي سن المراهقة ماذا يتوقع منهم، بل ماذا نتوقع أن يفعلوا هنا إذا رجعوا من تلك الديار وقد أقاموا بها مدة ثلاثة أو أربعة أشهر وهم في مثل تلك الأوبئة العفنة. ولا تدري أيضاً طول تلك الفترة كيف كانت محافظة العائلة هناك على الصلاة، وهل هي في أوقاتها. ثم ماذا حملوا معهم من أفكار ودخلوا فيها إلى البلاد.
المفاسد ـ أيها الأحبة ـ في السفر إلى بلاد الكفار لغير ضرورة كبيرة وكبيرة جداً. إن مجتمعنا يكتوي بنار هذه القضايا التي كان يتساهل فيها سابقاً الآن، ومع كل أسف مازلنا كالنعامة التي تدفن رأسها وجسمها ظاهر. وإلا فبماذا نفسر، وكيف نبرر هذه التسهيلات العجيبة والعجيبة جداً والمغرية التي تقدمها مكاتب السياحة لمن أراد السفر إلى الخارج في هذه الإجازة. تذاكر مخفضة وسكن مخفض وتنافس عجيب بين مكاتب السياحة، ودعايات وإعلانات توزع في كل مكان، وقد اطلعت واطلع غيري وأنتم بالتأكيد قد شاهدتم شيئاً من هذا، مبلغ أربعة ألاف ريال وبعضها خمسة آلاف لمدة عشرة أيام في دول معروفة بالزنا والدعارة، يتحرج المسلم من ذكرها فوق المنبر. بل إن بعض المكاتب تعطي التسهيلات بالتقسيط. تكاد تجزم بأن وراء انتشار هذه المغريات وهذه التسهيلات، ودفع الناس إليها دفعاً، تكاد تجزم بأن وراءها أيدي خفية هدفها نشر الرذيلة والفساد في مجتمعات المسلمين، ويدعم هذا التيار الخبيث ما تعرض وسائل الإعلام الخارجية من صور وألوان مغرية لتلك البلاد لجلب السواح إليها. فهناك عرض من الخارج ودفع من الداخل، بل وترتيب وتسهيل وتحفيز من الداخل، كل هذا إذا تزامن مع ضعف الإيمان والله المستعان ورِقَّة الدين، وضغط الزوجة والأولاد على هذا الأب المغلوب على أمره، والعائلة الفلانية قد ذهبت، والجيران قد سافروا، والقريب الفلاني، ونحن لسنا بأقل منهم ثم يجد التسهيلات المالية فيقع والعياذ بالله في المحرم ويوقع أهله معه ويتحمل وزره ووزر من معه.
فيا أيها المسلمون، ويا أولياء الأمور اتقوا الله تعالى، واقبلوا نصيحة مشفق عليكم، ولا أريد أن أقرأ عليكم كالعادة فتاوى العلماء. لكن خطر في ذهني قضية لها تعلق بالأوضاع الراهنة، وهو أن الذي لا يهمه الحلال والحرام ولا يجد فرقاً كبيراً بينهما، بالتأكيد يجد فرقاً بين الحياة والموت فقط، ليضع في ذهنه قضية القتل واحتمالية الاعتداء عليه وعلى أولاده، في تلك الديار الإباحية والفوضوية لا بتوجيه من حكام تلك البلاد لكن بانتقام ومقابلة المثل بالمثل من بعض الشعب الأهوج، فكما قتل منهم أفراد في أي مكان، فربما يدبر مجموعة هوجاء ويعتدون على نفس جنسيات تلك البلاد الذين قتل منهم فيه أفراد. فقد ينتقمون لبني جنسهم وقد ينتقمون لبني ملتهم، والكفر ملة واحدة، فيا أيها الأب، ويا ولي أمر الأسرة، إذا كان لا يهمك الحلال والحرام، فإنني أظن أنه يهمك الحياة والموت. فضع هذا في حسابك وأنت تقطع تذاكر السفر.
فنسأل الله جل وتعالى أن يلهمنا رشدنا وأن يقينا شر أنفسنا.
(1/3004)
يوسف عليه السلام (2)
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القرآن والتفسير, القصص
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
22/2/1410
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- يوسف عليه السلام في ظلمة السجن. 2- يوسف يدعو في السجن. 3- تقلب يوسف في حياته بين المحنة والمنحة. 4- رؤيا الملك وخروج يوسف من السجن. 5- يوسف على خزائن الأرض. 6- اجتماع الشمل بعد طول الفرقة. 7- العفو عند المقدرة. 8- تعليق على قتل بعض المجرمين وإقامة الحد فيهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: نتحدث اليوم عن موقف يوسف عليه السلام، مع امرأة العزيز حيث كانت تراوده عن نفسها، فعصمه الله عز وجل واستجاب دعاءه وصرف عنه كيد هذه المرأة. لكن الخبر انتشر في أرجاء المدينة، وصارت تهمة العار ملصقة بالعزيز وآل بيته، ورأَوْا أنه لا يكف ألسنة السوء عنهم، إلا زجّ يوسف عليه السلام في السجن، لإلصاق التهمة به، رغم معرفتهم أنه بريء. وكانت حالة يوسف عليه السلام، عند دخوله السجن مزيجاً من الحزن والفرح، فأما الحزن، فلأنه سجن ظُلماً، وما سينجم عن ذلك من سمعة سيئة عند من لم يكن مطلعاً على الحقيقة، وكم في سجون العالم أيها الإخوة، من أبرياء مظلومين، أدخلوا السجن إما خطأ، أو ظلماً وعدواناً، فإنا نسلِّي هؤلاء، إن كانوا مسلمين، نسليهم بيوسف عليه السلام، وكيف أنه احتسب الأجر عند الله عز وجل، وصبر على ما أصابه، نسلي هؤلاء الأبرياء، كل من ظلم في قضية، سواء أُدخل السجن بسببها أو لم يُدخل، نسليهم بأن هناك يوماً آخر، تُوَفَّى كلُّ نفس ما كسبت، يومٌ، تقام فيه الموازين ويأخذ كل ذي حق حقه، يقف الناس سواسية أمام الله عز وجل، فيُعرفَ الظالم في ذلك اليوم، ويُفضَحُ أمام الناس، ويأخذ المظلوم حقه.
نقول أيها الإخوة، بأن يوسف عليه السلام حزن على دخوله السجن لأنه كان مظلوماً، وفرح من جهة أخرى، لخروجه من بيت سيدة العزيز، وابتعاده عن المكر والفتنة، وكان السجن فاتحة خير له. ورُبَّ مِحْنَة أيها الإخوة، خاتمتها مِنْحَةٌ، وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [البقرة:216].
وصادف أن دخل معه السجن فتيان، من خدم الملك، وهما: رئيس السُّقاة ورئيس الخبازين، بتهمة المؤامرة على الملك، فرأى كل واحد منهما رؤيا قصها على يوسف عليه السلام، فأخبرهما بما علَّمه الله عز وجل من علم المغيبات بما يوحى إليه، قال الله تعالى: ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ?لآيَـ?تِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى? حِينٍ وَدَخَلَ مَعَهُ ?لسّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ ?لآخَرُ إِنّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ ?لطَّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ?لْمُحْسِنِينَ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذ?لِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَهُمْ بِ?لآخِرَةِ هُمْ كَـ?فِرُونَ [يوسف:35-37].
أيها المسلمون، اغتنم يوسف عليه السلام، فرصة بقائه في السجن، ولم يقلْ بأن هذا سجن، لا يمكن أن يعمل فيه شيئاً، بل قام يدعو إلى الله عز وجل، حاول أن يهدي هؤلاء المسجونين معه، يهديهم إلى الله، وإلى العقيدة الصحيحة، قال تعالى: ي?صَاحِبَىِ ?لسّجْنِ ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ?للَّهُ ?لْوَاحِدُ ?لْقَهَّارُ m مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ مَّا أَنزَلَ ?للَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـ?نٍ إِنِ ?لْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذ?لِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:39، 40]. كم في هذا الموقف درس عظيم لنا أيها الإخوة، وهو أن الإنسان يجب أن يحاول في نشر الخير، وأن يُبلِّغ دين الله عز وجل، وأن يعلِّم الناس الخير، أنى وُجِد، وفي أي ظرف كان، فربما كلمة حق تقولها أخي المسلم، تخرج منك بإخلاص، تهدي بها إنساناً ضالاً، وربما لا يكون تأثيرها إلا بعد سنوات، لا تَحقِرَّنَّ أخي المسلم من المعروف شيئاً، هذا يوسف عليه السلام، وهو في ظلمات السجن، كلما سنحت له فرصة، دعا إلى الله عز وجل.
أيها المسلمون، بعد تلك السنين التي قضاها يوسف في السجن، شاءت العناية الإلهية، أن يخرج يوسف من سجنه، بل ويتربع في أعلى المناصب الدنيوية، وإذا أراد الله عز وجل شيئاً هَيَّأَ له الأسباب، وهذه هي عاقبة الصبر أيها الإخوة. الإنسان يُخلَق وتُخلَق معه متاعبُه، من مصائبَ وآلامٍ، وفقر، ورضى، فقد حبيب، خسارة مال، وغير ذلك من مصائب الدنيا، فكل هذه الأمور، تحتاج إلى الصبر للتغلب عليها.
ولو تأملنا حياة نبي الله يوسف عليه السلام، رأيناها سلسلة من المتاعب التي انتهت بالمكانة المرموقة والحياة الطيبة. تبتدئ حياة يوسف عليه السلام بانسلاخه عن أهله، وإلقائه في البئر، ثم إنقاذه والعيش بعيداً عن أهله، مع ما في ذلك من ألم مكبوت على فراق أهله، وكيد إخوته، ثم تأتي مرحلة قاسية عليه، وهي زجُّه في السجن ظلماً وعدواناً، جزاء أمانته، ظل يوسف عليه السلام صامداً على مبادئه، صابراً على بلواه، مترقباً رحمة الله، منتظراً انفراج الأزمة، مؤمناً بالله وعدله، لم تزحزحه هذه المصائب عن إيمانه وثقته بالله عز وجل، وصدق الله إذ يقول: إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ ?للَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ?لْمُحْسِنِينَ [يوسف:90].
فيا من ابتلاكم الله عز وجل، بأي نوع من الابتلاءات، سواء من ابتُلِيَ في أهله، أو ابتلى في ماله، أو بأي نوع آخر من مصائب الدنيا وهمومها وغمومها، ليس لكم إلا الصبر، فإنه كما قال تعالى: إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ ?للَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ?لْمُحْسِنِينَ. والله لو احتسب الإنسان في كل ما يصيبه، فإن همومه وآلامه، تكون أجراً عند الله عز وجل، لو أخلص نيته لله سبحانه وتعالى، وهذا من عدل الله عز وجل، فإنه لا يمكن للمؤمن، أن يلاقيَ غمَّ الدنيا وغم الآخرة، والدنيا كلها أيها الإخوة، لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فإنها أيام قلائل، ثم تَلقَوْن الله عز وجل، فيثيبَكم على صبركم. كم في هذه اللحظات من عمر يوسف عليه السلام من عبر وعظات. لمن وَفَّقَهُ الله عز وجل: إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ ?للَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ?لْمُحْسِنِينَ.
أيها المسلمون، جعل الله عز وجل سبباً في إخراج يوسف من السجن، أن رأى الملك في منامه رؤيا أثارت اضطرابه، وأوجس منها خيفة، رأى في منامه سبع بقرات سمينات تأكلهن سبع بقرات هزيلات، ورأى أيضاً سبع سنابل خضراء، وسبع سنابل يابسة، فوجئ القوم برؤيا الملك، وظهر ارتباكهم، وتشاوروا فيما بينهم، ثم أجابوا ملكهم بأن هذه أخلاط أحلام باطلة، أثارتها هواجس الملك، وهي لا تدل على شيء.
وَقَالَ ?لْمَلِكُ إِنّى أَرَى? سَبْعَ بَقَر?تٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَـ?تٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَـ?تٍ ي?أَيُّهَا ?لْمَلا أَفْتُونِى فِى رُؤْيَـ?ىَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُواْ أَضْغَـ?ثُ أَحْلَـ?مٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ ?لاْحْلَـ?مِ بِعَـ?لِمِينَ [يوسف:43، 44]. أُخبر الملك بعد ذلك، بأن هناك فتىً في السجن يفسر الأحلام يُوسُفُ أَيُّهَا ?لصّدِيقُ أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بَقَر?تٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَـ?تٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَـ?بِسَـ?تٍ لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى ?لنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ [يوسف:46]. شرع يوسف عليه السلام في تفسير الرؤيا، وكانت تحمل في طياتها نزول الكوارث، ولم يكتفِ عليه السلام بذكر الفواجع التي سوف تنزل، بل وصف الحلول المناسبة، للخروج من هذه الأزمة الخانقة، التي ستعمهم ببلائها، قال لهم يوسف عليه السلام: إن مصر سيأتي عليها سبع سنوات خصبة، فعليكم أن تزرعوا أرضكم قمحاً وشعيراً، وتواظبوا على زرعها عاماً بعد عام، فما تحصدونه ادخروه في سنابله، ولا تفرطوا فيه، وقَتِّروا على أنفسكم فلا تُخرجوا منه إلا القليل مما يقيم أودكم، ثم تأتي بعد هذه السنوات المخصبة، سبع سنين مجدبة قاحلة، تستهلكون فيها ما ادخرتم، ولا تبقون منه إلا القليل، ليكون بذراً لما تزرعونه، وبعد هذه السنين المجدبة، تأتي سنة خصبة يغاث فيها الناس بالمطر، وتجود الأرض بالغلات الوفيرة، قال تعالى: قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذ?لِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذ?لِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ ?لنَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [يوسف:47-49].
أيها الإخوة، لنا لفتة علمية، حول قوله تعالى: فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ هذه الآية الكريمة ـ أيها الإخوة ـ تتفق مع ما وصل إليه العلم الحديث، من أن ترك الحب في سنابله عند تخزينه، وقاية له من التلف بالعوامل الجوية والآفات، وفوق ذلك يبقيه محافظاً على محتوياته الغذائية كاملة. فسبحان الله علم الإنسان ما لم يعلم.
ونحن أيها الإخوة، لكلامنا هذا، لا نريد أن نبحث عن نظرية علمية في كتاب الله عز وجل كما تكلف طائفة من المسلمين هذا المسلك، لأن القرآن أيها الإخوة، لم ينزل ليكون كتاباً علمياً خاصاً بالنظريات العلمية، بل هو كلام الله عز وجل، أنزله سبحانه وتعالى وحياً على رسوله ليكون شرعاً للناس، يتعبدون الله عز وجل بتطبيق أحكامه. والقرآن أيها الإخوة، إضافة إلى هذا فهو معجز من عدة وجوه: فيه إعجاز لغوي، وفيه إعجاز بياني، ولا يخلو في بعض آياته، أن تكون هناك إشارات لبعض الإعجاز العلمي، كما في هذه الآية.
أسأل الله عز وجل أن يريَنا الحق حقاً ويرزقَنا اتباعه، ويريَنا الباطل باطلاً ويرزقَنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: تتمة لقصة يوسف عليه السلام، أن الملك سُرَّ بتفسير يوسف للرؤيا، وعرف أنه أدخل السجن ظلماً، فازداد ثقة به، وميلاً إليه، خصوصاً وقد آنس منه ذكاءً وفهماً، عندها أخرجه الملك من السجن، وكلفه بوزارة المال، وولاه أمور مصر الاقتصادية، وجعله يتصرف في أرض مصر كما يريد، وهذا شأن الله في عباده الصالحين، يَهَبُ نعمته لمن يختاره منهم، ويثيبهم في الدنيا على الإحسان الذي صنعوه، ثم إن ثواب الله في الآخرة، خير من ثواب الدنيا، للذين آمنوا وكانوا يتقون. قال تعالى: وَقَالَ ?لْمَلِكُ ?ئْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ ?لْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ قَالَ ?جْعَلْنِى عَلَى? خَزَائِنِ ?لأرْضِ إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذ?لِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى ?لأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ?لْمُحْسِنِينَ وَلاَجْرُ ?لآخِرَةِ خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يوسف:54-57].
أيها المسلمون، تحقق تأويل يوسف لرؤيا الملك، بمجيء السبع السنوات الخصبة، فرعاها يوسف بتدبيره، وخزّن الفائض من الغلات، وجاءت السنون السبع الأخرى المجدِبة، فحصل جوع وقَحْط لاسيما في البلاد المجاورة، لعدم استعداد أهلها لمثل هذه السنة.
وفي نهاية القصة، جاء إخوة يوسف إلى مصر، لجلب الرزق للجوع الذي أصاب بلادهم، فعندما دخلوا عليه عرفهم، بينما هم لم يعرفوه، إلى أن أخفى صاع الملك في رحل أخيه، وفي النهاية عرفوه، فرجعوا إلى والدهم وبشروه بالخبر كما في الآية الكريمة: ?ذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَـ?ذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى? وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ [يوسف:93]، عندها أمر يعقوب أولاده بتحضير وسائل السفر، تسرعاً وشوقاً للقيا ولده يوسف.
ووصلت أسرة يعقوب عليه السلام إلى مصر، فرأَوْا يوسف في استقبالهم، ولا نستطيع أن نصف مبلغ فرح وغبطة يعقوب، بلقاء ابنه، بعد فراق هذه السنين العديدة، سار الركب داخل مصر، حتى بلغ دار الحكومة، فدخلوها، وأجلس يوسُفُ والديه بقربه على سرير الحكم، زيادة في تكريمهما، وغمر يعقوب وأولاده شعورٌ، بجليل ما هيَّأَ الله لهم على يدي يوسف من التكريم، فَحَيَّوْهُ تحية مألوفة عندهم من الانحناء له، على عادة أهل زمانهم، بما يحيُّون به الرؤساء الحاكمين، فأثار ذلك في نفس يوسف ذكرى حلمه وهو صغير، وقال لوالده: هذا تفسير ما قصصت عليك من رؤيا، حين رأيت في المنام أحد عشر كوكبا، والشمس والقمر ساجدَين لي، قد حققه ربي فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى? يُوسُفَ ءاوَى? إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ?دْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء ?للَّهُ ءامِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ?لْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا وَقَالَ يأَبَتِ هَـ?ذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَـ?ى مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ ?لسّجْنِ وَجَاء بِكُمْ مّنَ ?لْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ?لشَّيْطَـ?نُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ ?لْعَلِيمُ ?لْحَكِيمُ رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ ?لْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ ?لاْحَادِيثِ فَاطِرَ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ أَنتَ وَلِىّ فِى ?لدُّنُيَا وَ?لآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِ?لصَّـ?لِحِينَ [يوسف:99-101].
انظروا ـ أيها الإخوة ـ إلى دعاء يوسف عليه السلام في أواخر هذه الآيات، فهو بعد أن أثنى على الله سبحانه وتعالى، بأنه قد آتاه من الملك وعلمه من تأويل الأحاديث، لم يطلب عليه الصلاة والسلام، إلا ما يتمناه كل مسلم صادق مخلص أن يموت على الإسلام ويلحق بالركب الصالح، توفني مسلماً وألحقني بالصالحين.
أيها المسلمون، نبي من أنبياء الله عز وجل، الجنة مضمونة له، ومع ذلك يقول: أَنتَ وَلِىّ فِى ?لدُّنُيَا وَ?لآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِ?لصَّـ?لِحِينَ.
قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]. وقال سبحانه: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85]. وماذا يريد الإنسان من هذه الدنيا، وما قيمة الدنيا لو قبض الإنسان على غير ملة الإسلام أو ختم له بخاتمة سوء، نسأل الله السلامة والعافية، فهو في الآخرة من الخاسرين، فإن الأعمال بالخواتيم كما يقول عليه الصلاة والسلام.
أيها الإخوة، في القصة أيضاً، لنا درس في التسامح والعفو عند المقدرة، العفو عمن أساء إليك، ومقابلته بالإحسان، فيوسف عليه السلام عندما آلت الأمور إليه، كان باستطاعته أن ينتقم من إخوانه، الذين كادوا له في أول الأمر، ولكن سمو نفسه، وكرم عنصره، وترفعه عن الانتقام، واحتساب الأجر عند الله عز وجل، جعله يأبى أن ينزلق إلى هذا المنزلق، الذي ينغمس فيه عادة الأشخاص العاديون. فعندما اعترف إخوانه بخطئهم بقولهم: تَ?للَّهِ لَقَدْ اثَرَكَ ?للَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَـ?طِئِينَ [يوسف:91]، أجابهم يوسف عليه السلام بهذا الجواب المفعم بالعطف الأخوي، والمسامحة قائلاً: لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ ?لْيَوْمَ يَغْفِرُ ?للَّهُ لَكُمْ [يوسف:92]. فهل نستفيد من هذه القصة، ونخرج ـ أيها الإخوة ـ بروح التسامح والمغفرة، والعفو عن الناس، الذي يسيؤون إلينا. بعض الناس هداهم الله، حتى زوجته التي معه لا تسلم منه، لو زلت أو أخطأت ولو خطأً يسيراً، لكال الصاع صاعين، لا يمكن له أن يتنازل عن حقه، ولو بقدر أُنْمُلة، لا يمكن أن يعفو.
فنقول لمن هذه حاله، أنه سيقف يوماً ما، بين يدي مولاه، يكون محتاجاً أن يعفو الله عنه، ويتجاوز له عن سيئاته وتقصيره، من منا لم يخطئ ولا يخطئ، من منا لا يمضي عليه يوم ولا ليلة، إلا وحصل منه تقصير في حق الله عز وجل.
فكم نحن بحاجة إلى عفو الله عز وجل، كم نحن في حاجة أن يسامحنا ربنا، ولا يفضحنا على رؤوس الأشهاد، فحري بنا أيها الإخوة، في المقابل، أن نتجاوز نحن عن زلات الآخرين تجاهنا، لنلقى ذلك عند الله عز وجل: يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
وصلوا وسلموا...
(1/3005)
يوم الجمعة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
اغتنام الأوقات, الصلاة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
17/6/1416
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اختصاص المسلمين بيوم الجمعة وهداية الله لهم إليه. 2- يوم الجمعة خير الأيام. 3- بعض فضل يوم الجمعة. 4- سنن الجمعة. 5- آداب وسنن صلاة الجمعة. 6- محظورات ومنهيات في يوم الجمعة. 7- أحاديث متعلقة بيوم الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَو?ةِ مِن يَوْمِ ?لْجُمُعَةِ فَ?سْعَوْاْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ وَذَرُواْ ?لْبَيْعَ [الجمعة:9].
أيها الأحبة في الله، أحب أن أذكركم في هذه الخطبة، بهذا اليوم العظيم الذي نحن فيه، وهو يوم الجمعة، لأن بعض المسلمين يغفلون عن هذا اليوم، ويغفلون عما في هذا اليوم، الجمعة يوم عظيم من أيام الله، له من الفضائل، والخصائص، والمزايا، ما لا يوجد في غيره من الأيام. إنه عيد الأسبوع، وشعيرة كبرى، وموسم كريم يتكرر كل سبعة أيام، اختص الله عز وجل هذه الأمة بهذا اليوم، ضلت عنه الأمم قبلنا، وهدانا الله له، كان لليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد، ففي الصحيحين عن النبي أنه قال: ((نحن الآخرون الأولون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، والناس لنا فيه تبع، اليهود غداً، والنصارى بعد غد)) ، وفي جامع الترمذي من حديث أبى هريرة رضي الله عنه، عن النبي قال: ((خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)).
لقد كان من هدي النبي تعظيم هذا اليوم، وتشريعه وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره، كان رسول الله ، يقرأ في فجر يوم الجمعة، بسورتي السجدة والإنسان وهذه يتثاقلها كثير من المصلين، وربما لاموا إمامهم، بأنه قد أطال عليهم الصلاة، وهذا من الحرمان، ومن ثقل تطبيق السنة عليهم، وإنما كان يقرأ بهاتين السورتين في فجر الجمعة، لأنهما تضمنتا ما كان وما يكون في يومها، فإنهما اشتملتا على خلق آدم، وعلى ذكر يوم القيامة، وحشر العباد، وذلك يكون يوم الجمعة، ففي قراءتهما في هذا اليوم تذكير للأمة بما يحدث فيه من الأحداث العظام، حتى يستعدوا لذلك.
أيها المسلمون، إن من بركات هذا اليوم أن الله يغفر لعبده ما ارتكب ما بين الجمعتين من آثام وخطايا، إذا اجتَنب الكبائر، كما في صحيح مسلم: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر)) ، بل إن ذلك الثواب يتعدى الأسبوع إلى عشرة أيام لأن الحسنة بعشرة أمثالها.
ومن بركات هذا اليوم العظيم، أنه ما من مسلم يهلك في يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله شر فتنة القبر وعذابه، إذا كان هذا المسلم من أهل الخير والصلاح، فإنه يرجى له خير كثير لو مات يوم الجمعة أو ليلته، روى الإمام أحمد وغيره عن رسول الله قوله: ((ما من مسلم يموت يوم الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر)).
وفي هذا اليوم العظيم، ستكون نهاية العالم، وستكون نهاية الحياة على وجه الأرض، وفي هذا اليوم سيكون قيام الساعة، والساعة أدهى وأمر، وسيكون حشر الناس والقضاء بينهم إما إلى جنة وإما إلى نار، وما دام الأمر كذلك، فإنه كما جاء في الأثر أنه في ليلة الجمعة، ((ما من شيء إلا وهو مشفق وجِلٌ خائف من قيام الساعة إلا الثقلين الإنس والجن)) ، فسبحان الله، كل مخلوقات الله جل وعلا، تخاف ليلة الجمعة، تخاف من قيام الساعة، إلا هذين الثقلين، وعجباً لابن آدم، فإنك ما تراه أغفلَ ولا أفجرَ ولا أطغى في يوم من الأيام، منه في يوم الجمعة أو ليلة الجمعة، وما رصد قوم لهم عبثاً أو لهواً أو فجوراً أو فسوقاً إلا وجعلوه في يوم الجمعة، أو ليلة الجمعة، فيا ويح ابن آدم ما أظلمه وما أفجره، وما أفسقه، فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله تعالى، واعرفوا لهذا اليوم حقه ومنزلته، عظموا هذا اليوم، وخصوه دون غيره من الأيام ببعض أعمالكم، فاحرص يا عبد الله على ما يلي:
أكثر من الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلته، لأن كل خير نالته هذه الأمة، من خيري الدنيا والآخرة، فإنما نالته على يد هذا النبي الكريم، فينبغي الإكثار من الصلاة عليه ثم عليك بالاغتسال والتنظيف والتطيب والسواك ولبس أحسن الثياب يوم الجمعة لأنه يوم اجتماع المسلمين وعيد الأسبوع فيكون المسلم في هذه المناسبة على أحسن الأحوال وأكمل الخصال تعظيماً لهذا اليوم وعملاً بسنة المصطفى ، وقبل هذا احرص على صلاة الفجر يوم الجمعة، جماعة مع المسلمين، ولا تسهر تلك الليلة حتى تتمكن من الاستيقاظ.
ثم عليك بالتبكير بالذهاب لصلاة الجمعة ماشياً إن أمكن، فإن للماشي إلى الجمعة بكل خطوة يخطوها، أجر سنة صيامه وقيامه روى الإمام أحمد بسند صحيح عن رسول الله قال: ((من غسل واغتسل يوم الجمعة، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فأنصت كان له بكل خطوة يخطوها صيام سنة وقيامه)) ، فما أعظم هذا الأجر يا عباد الله، هذا أجر المسير والتبكير إلى الجمعة، كل خطوة تعادل في الثواب صيام سنة وقيامها أضف إلى ذلك إن المبكر إذا دخل المسجد فاشتغل بالصلاة والذكر وقراءة القران حصل على خيرات كثيرة، والملائكة تستغفر له طيلة بقائه في المسجد، ويكتب له أجر المصلى مادام ينتظر الصلاة، ولكن ومع كل أسف، كثير من الناس زهد في هذا الأجر، ورغب عن هذا الخير، فصار لا يأتي لصلاة الجمعة إلا في آخر لحظة، ومنهم من يأتي وقت الخطبة فقط أو في آخرها، وهذا أمر ملحوظ ومشاهد، يدخل الخطيب المسجد، فلا تكاد ترى إلا بعض الصفوف، وما إن يشرع الخطيب في الخطبة ويسمعه الناس حول المسجد فيبدؤون في المجيء ومنهم من يتأخر حتى قبيل الإقامة، وهذا لاشك أنه حرمان عظيم وتثبيط من الشيطان، وضعف من النفس، فاتقوا الله، عباد الله لا تحرموا أنفسكم هذا الأجر العظيم، بكروا إلى الجمعة، لتحوزوا على رضوان الله جل وعلا، ولا تنس يا عبد الله، إذا بكرت إلى الجمعة، أن تقرأ سورة الكهف، فإنها سنة مأثورة عن النبي ، وفيها خير عظيم، استمع إلى ما رواه البيهقي وغيره بسند صحيح، قوله : ((من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين)) وفي حديث صحيح آخر: ((من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له النور ما بينه وبين البيت العتيق)).
ثم احرص يا عبد الله، احرص على صلاة الجمعة وخطبتها، التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده والشهادة له بالوحدانية ولنبيه بالرسالة وتذكير العباد بأيام الله وتحذيرهم ونهيهم عما يقرب لهم من سخطه وناره، فالخطبة شرط من شروط صحة الجمعة، وحضورها واستماعها أمر مقصود ومتأكد في حق المصلين. فالإنصات للخطبة إذا سمعها أمر واجب، ومن لم ينصت كان لاغياً، ومن لغا فلا جمعة له، روى مسلم في صحيحه قوله عليه الصلاة والسلام: ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصا فقد لغا)) ما أعظمه من حديث. من مس حصا المسجد أو عبث بشيء من متاعه والإمام يخطب فقد لغا في جمعته، وما من دين على وجه الأرض يلزم مؤمنيه في يوم من أيام الأسبوع أن يأتوا يوم الجمعة بالاستماع والإنصات، كأشد ما يكون الاستماع والإنصات إلى خطبة الجمعة، لا يلتفتون عنها بشيء، ولا يردون السلام ولا يشمتون العاطس، كلهم آذان صاغية، كأن على رؤوسهم الطير.
فانتبه يا عبد الله، لا تفسد جمعتك بعبث أو غيره، توجه بسمعك وقلبك إلى الخطبة ولا تتكلم حال الخطبة ولا تكن من الذين غلب عليهم الكسل أو عدم المبالاة يملون من الجلوس ربع ساعة لاستماع ذكر أو موعظة، ولهذا تجدهم يأتون في آخر الخطبة حتى لا يكثر ويطيل الجلوس، وبعضهم إذا جاء متأخراً فإنه لا يجلس يظل واقفاً حتى تقام الصلاة، ولو طلب من أحدهم أن يجلس في غير هذا المكان لجلس الساعات الطوال، في لهو أو لعب أو غيره، فأي حرمان للعبد أكثر من هذا، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن النبي أنه قال: ((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)) يقول أهل العلم في شرح هذا الحديث: لما كان يوم الجمعة في الأسبوع كالعيد في العام وكان العيد مشتملاً على صلاة وذبح وقربان وكان يوم الجمعة يوم صلاة لا ذبح فيه ولا قربان جعل الله سبحانه وتعالى التعجيل والتبكير فيه إلى المسجد بدلا من القربان وقائماً مقامه، بمعنى أن الذي يبكر إلى الصلاة يوم الجمعة كان له من الأجر كمن اشترى شيئاً مما ذكر في الحديث ووزعه على فقراء المسلمين، فمن ذهب في الساعة الأولى كان كمن اشترى من ماله الخاص بدنه فذبحها ثم وزعها على فقراء المسلمين وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
فانظروا رحمكم الله إلى هذا الفرق العظيم بين أجر من يبكر ويأتي في الساعة الأولى ومن يتأخر ويأتي في الساعة الخامسة الأخيرة، إنه الفرق بين من يتصدق ويتبرع بالبدنة وبين من يتصدق ويتبرع بالبيضة فانظر لنفسك ماذا أنت تختار. ولو حصل لك ظرف معين في أحد المرات وتأخرت لظرف خارج عن إرادتك فاحرص أيضا أن تكون على الأقل مع من يقرب بقرة، أو على الأقل دجاجة، لكن يكون طبعك وديدنك مع البيضة دائماً فهذا أيضاً من الحرمان، أما إذا دخل الخطيب فإن البيضة أيضاً، أنت لست من أهلها، لأن الملائكة تطوي صحفها وتجلس تستمع إلى الخطبة.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَو?ةِ مِن يَوْمِ ?لْجُمُعَةِ فَ?سْعَوْاْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ وَذَرُواْ ?لْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ ?لصَّلَو?ةُ فَ?نتَشِرُواْ فِى ?لأَرْضِ وَ?بْتَغُواْ مِن فَضْلِ ?للَّهِ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:9، 10]
ئ
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أخي المسلم، فهذه تنبيهات سريعة أصغ لها جيدا وافهمها ثم اعمل بها:
أولاً: إذا دخلت والإمام يخطب فإنه لا يجوز لك أن تجلس حتى تصلي ركعتين خفيفتين لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام، فليصل ركعتين)) ، متفق عليه، وزاد مسلم: ((وليوجز فيهما)).
ثانيا: لا يجوز السفر يوم الجمعة إذا دخل وقتها بزوال الشمس، لمن يلزمه أداؤها، ويكره السفر قبل الزوال إلا أن كان سيؤديها في طريقه في جامع آخر.
ثالثا: إياك أن تتخطى رقاب الناس إذا حضرت متأخراً، فقد رأى رسول الله النبي وهو على المنبر رجلاً يتخطى رقاب الناس فقال له: ((اجلس، فقد آذيت وآذيت)).
رابعاً: ليست هناك راتبة قبلية لصلاة الجمعة، بل يتنفل المسلم بما شاء من الصلاة، حتى يحضر الإمام، أما البعدي، فهناك إما أربع في المسجد أو ركعتان في البيت.
خامساً: عن أبى هريرة رضي الله عنه، كما في الصحيحين عن النبي قال: ((إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه)) فاحرص يا عبد الله أن توافق هذه الساعة، وقيل إنها في آخر ساعة بعد العصر من يوم الجمعة، فأكثر فيها من الدعاء لنفسك، ولإخوانك المسلمين، فإن واقع الأمة اليوم وإن أحوال المسلمين الآن لهو في أمس الحاجة إلى دعوات صادقات، تخرج من قلب مخلص، يتألم، ويتفطر لواقع أمته، وما يجري فيها، وما يدار حولها، والله المستعان، فلعلك أخي المسلم تصادف ساعة إجابة يكون فيها الخير لك ولغيرك.
سادساً: لا تكن من الذين لا يعرفون يوم الجمعة إلا أنه يوم الراحة الأسبوعية كما يسميه البعض، يوم التنزه، ويوم عطلة وفراغ، يقضيه في اللهو واللعب، وربما في المعاصي والعياذ بالله، يسهر ليلة وينام نهاره، إن هذا ليس من الإسلام في شيء، في الإسلام يوم الجمعة، يوم عبادة، ويوم طاعة أكثر من أيام الأسبوع الباقية، فمن لا يعرف هذا فليصحح مفهومه، وليغير تصوره، ثم ليتغير بعد ذلك سلوكه.
وبعض الناس ينفرون من البلد إلى البراري والخلوات، يوم الجمعة، ولا يحضرون الصلاة وقد نص العلماء كما ذكرنا أنه لا يجوز السفر في يوم الجمعة لمن تلزمه الصلاة بعد دخول وقتها، وذلك حين تزول الشمس حتى يصليها إلا إذا كان سيؤديها في مسجد في طريقه، هذا حكم السفر الذي قد يكون الإنسان محتاجاً إليه، فكيف بمن يخرج من البلد في هذا اليوم لتضييع الوقت والتغيب عن الصلاة، فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، خصصوا للخروج والنزهة يوماً غير الجمعة، وإذا خرجتم فاحرصوا على أداء الصلاة فيما حولكم من المساجد ولا تفرطوا فيها.
سابعاً: يكره تخصيص يوم الجمعة بصيام أو ليلته بصلاة من بين الليالي، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم)) ، رواه مسلم، وعن أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها أن النبي دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: ((أصمت أمس)) قالت: لا. قال: ((أتريدين أن تصومي غداً؟)) قالت: لا، قال: ((فأفطري)) رواه البخاري.
ثامناً: ثبت عن الرسول أنه كان يقرأ في صلاة الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية، وربما قرأ بالجمعة والمنافقون.
تاسعاً: فهذه مجموعة أحاديث أنتقيتها لك من صحيح البخاري كلها تتعلق بالجمعة: عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال النبي : ((لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)). وعن ابن عباس أنه قال: ((إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله في مسجد عبد القيس بحواثي من البحرين)) يقصد بها منطقة الاحساء حالياً، كانت تسمى سابقاً وما حولها بالبحرين.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس وعن ابن شهاب أن السائب بن يزيد أخبره أن التأذين الثاني يوم الجمعة أمر به عثمان حين كثر أهل المسجد وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام، وعند جابر بن عبد الله قال: جاء رجل والنبي يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: ((أصليت يا فلان؟)) قال: لا، قال: ((قم فاركع)) يدل على أنه يجوز للإمام أن يخاطب ويكلم أحداً أثناء الخطبة.
وعن أبي حازم عن سهل قال: (كانت فينا امرأة تجعل على أربعاء في مزرعة لها سلقا، فكانت إذا كان يوم الجمعة تنزع أصول السلق، فتجعله في قدر ثم تجعل عليه قبضة من شعير تطحنها فتكون أصول السلق عرقه، وكنا ننصرف من صلاة الجمعة فنسلم عليها، فتقرب ذلك الطعام إلينا فنلعقه وكنا نتمنى يوم الجمعة لطعامها ذلك).
(1/3006)
ضرورة المراجعة والمحاسبة
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
29/12/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وقفة التوديع. 2- الاعتبار بانقضاء الليالي والأيام. 3- المراجعة والمحاسبة. 4- ثمار المراجعة والمحاسبة. 5- حاجة الأمة بمجموعها إلى المراجعة. 6- صيام المحرم وعاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتَّقوا اللَّهَ وَابتَغُوا إلَيه الوَسيلةَ بتوحيدِه وذكره وشكره وحُسن عبادته والنزولِ على حكمه، ولاَ تَغُرَّنَّكم الحَياةُ الدُّنيَا بزَهرتها وزُخرُفها وزينتِها، وَلاَ يَغُرَّنَّكم بِاللَّهِ الغَرور.
أيّها المسلمون، إنّ وقفةَ التوديعِ مثيرةٌ للأشجان مهيِّجة للأحزان؛ إذ هِي مصاحبةٌ للرّحيل مؤذِنة بانقضاء، ولقد مضى ـ يا عبادَ الله ـ من عمُر الزّمن عامٌ كامل، تقلّبت فيه أحوال، وفنِيت أعمار، ونزَلت بالأمّة فيه نوازلُ تقضّ لها مضاجعُ أولي الألباب، وتهتزّ لها أفئدتهم، وتدمى منها قلوبهم، وإذا كان ذهابُ الليالي والأيام ليس لدى الغافلين اللاهين غيرَ مُضِيّ يومٍ ومجيء آخر، فإنّه عند أولي الأبصارِ باعثٌ حيّ من بواعثِ الاعتبار، ومصدَر متجدِّد مِن مصادِر العِظةِ والادِّكار، يصوِّر ذلك ويبيِّنه أبلغَ بيانٍ قولُ أبي الدرداء رضي الله عنه فيما رواه الحسن البصريّ رحمه الله عنه أنّه قال: (يا ابنَ آدم، إنما أنتَ أيّام، فإذا ذهب يومٌ ذهب بعضك) [1] ، ويصوِّره أيضا قول بعض السلف: "كيف يفرحُ بمرور الأعوام مَن يومُه يهدم شهرَه، وشهرُه يهدم سنتَه، وسنتُه تهدِم عُمُره؟! كيف يفرح مَن يقوده عُمره إلى أجله، وحياتُه إلى موته" [2] ، وقول بعضهم: "من كانت الليالي مطاياه سارتا به وإن لم يسِر" [3].
ولذا فإنّهم يقفون عند وداع العام وقفةَ مراجعةٍ للذات ومحاسبة للنّفس، بالوقوفِ منها موقفَ التاجِر الأريب من تجارته، ألم ترَوا إليه كيفَ يجعل لنفسِه زمنًا معلومًا ينظر فيه إلى مَبلَغ رِبحه وخسارته، باحثًا عن الأسباب، متأمِّلاً في الخطأ والصواب؟!
وإنَّ سلوكَ المسلم الواعي هذا المسلكَ الرشيد ليربو في شَرَف مقاصده ونُبل غاياته وسموِّ أهدافه على ذلك؛ لأنه سَعيٌ إلى الحفاظِ على المكاسِب الحقّةِ التي لا تبور تجارتها، ولا يكسَد سوقها، ولا تَفنى أرباحها، مِن كنوز الأعمال وأرصدةِ الباقيات الصالحات التي جعَل الله لها مكانًا عليًّا ومقامًا كريمًا، وفضَّلها على ما سواه، فقال سبحانه: ?لْمَالُ وَ?لْبَنُونَ زِينَةُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?لْبَـ?قِيَاتُ ?لصَّـ?لِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف: 46].
ولذا كانت العنايةُ بهذه المراجعةِ والحرصُ على هذه المحاسبةِ دأبَ أولي النهى، وديدن الأيقاظ، ونهجَ الراشدين، لا يشغَلهم عنها لهوُ الحياة ولغوها وزخرُفها وزينتها، وإذا هم يقطَعون أشواطَ الحياةِ بحظّ موفورٍ من التوفيقِ في إدراك المُنى وبلوغِ الآمال والظَّفَر بالمقاصدِ والسّلامة من العِثار.
وإنّ ارتباطَ المراجعة والمحاسبةِ بالتغيير نحو الأفضلِ والأكمل وثيق العرى وطيدُ الصِّلات، إذ المراجعة والمحاسبة تُظهران المرءَ على مواطنِ النقص ومواضِع الخلَل ومكامِن العِلل، فإذا صحَّ منه العزم وصلَحتِ النية واستبان الطريق وصدَّق ذلك العملُ جاء عون الله بمددٍ لا ينفد، فأورثَ حسنَ العاقبة وكريم الجزاء، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
وإنَّ الحاجةَ إلى سلوكِ نهج المراجعَة والمحاسبَة ـ يا عبادَ الله ـ ليس مختصًّا بأفرادٍ أو بطائفةٍ من دون الناس، بل إنَ الأمة المسلمةَ بمجموعِها مفتقرة إليه، ولا غناءَ لها عنه وهي تودِّع عامًا منصَرمًا وتستقبِل عامًا جديدًا، لكنّها في حقِّ الأمّة مراجعةٌ تتَّسع أبعادُها، ويعمّ نِطاقها، ويَعظُم نفعُها؛ إذ هي نظرةٌ شاملة للأحداث، وتأمّل واعٍ للنوازل، وتدارسٌ دَقيق للعِظات والعبَر، وسَعيٌ حثيث مِن بعد ذلك إلى تصحيح المسار وإقامة العِوج لتذليلِ الطريق أمامَ استئنافِ الحياة الإسلاميّة القويمةِ المرتكِزة على هدي الوحيين، المستَضيئةِ بأنوار التنزيلين.
وصدَق سبحانه إذ يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ نَسُواْ ?للَّهَ فَأَنسَـ?هُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ لاَ يَسْتَوِى أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ وَأَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ هُمُ ?لْفَائِزُونَ [الحشر:18-20].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنّة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفروه، إنه كان غفّارًا.
[1] أخرجه البيهقي في الشعب (7/381) وفي الزهد الكبير (511) عن قتادة عنه.
[2] انظر: جامع العلوم والحكم (ص383).
[3] انظر: جامع العلوم والحكم (ص383).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله الوليِّ الحميد، الفعَّالِ لما يريد، أحمدُه سبحانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله صاحبُ النهج الراشِد والقول السديد، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، إنَّ وصْلَ ما بين النهايةِ والبداية بالازدلافِ إلى ربِّنا الأعلَى بألوانِ القُرَب وضروبِ الطاعات لهو من أعظمِ أسباب التوفيق وأرجَى أبوابِ القبول، فإذا كانت نهايةُ العامِ المنصرِم حَجًّا وعمرةً وصيامًا ليوم عرفة في حقِّ غير الحاجّ فإنَّ فُرصَ افتتاح العامِ الجديد أيضًا قائمة مُتاحةٌ لمن هُدِي ووُفِّق وأعين.
وإنَّ من أظهرِ ذلك صيامَ شهرِ الله المحرَّم، فإنّه أفضلُ الصيامِ بعد رمضان كما جاءَ في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرَة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله قال: ((أفضلُ الصيامِ بعد رمضان شهرُ الله الذي تدعونَه المحرَّم، وأفضلُ الصلاةِ بعد الفريضة صلاةُ الليل)) [1] ، وكفى به أنّه يشتمِل على يومِ عَاشوراء الذي قال فيه رسول الله : ((أحتسِبُ على الله أن يكفِّرَ السنةَ التي قبلَه)) أخرجه مسلم في صحيحه [2].
والسنّةُ ـ يا عبادَ الله ـ أن يصومَ يومًا قبلَه أو يومًا بعده كما ثبتَ في صحيح مسلم وغيره [3].
فخذوا ـ يا عبادَ الله ـ بحظِّكم من هذا الخير، واعمَلوا على استدامةِ أسبابه وولوج أبوابه تكونوا من الفائزين.
فاتقوا الله عبادَ الله، واذكرُوا على الدوامِ أنَّ الله تعالى قد أمرَكم بالصلاةِ والسلام على خيرِ الأنام، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمَّ عن خلفائه الأربعة...
[1] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1163).
[2] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1162) عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[3] أخرج مسلم في كتاب الصيام (1134) عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: ((فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع)).
(1/3007)
المحاسبة الجادّة
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, الزهد والورع
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
29/12/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاعتبار بانقضاء الأعمار. 2- بين توديع عام واستقبال آخر. 3- فتنة الدنيا. 4- حقيقة الدنيا والموقف منها. 5- دعوة للمحاسبة الجادة. 6- ضرورة اغتنام العام الجديد. 7- الأمة الإسلامية بين آلام اليوم وآمال المستقبل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، وراقبوه في السرّ والنجوى، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
إنّ هذه الشمسَ التي تطلع كلَّ يوم من مشرقها وتغرب في مغربها تحمِل أعظمَ الاعتبار، فطلوعُها ثم غيابُها إيذان بأنّ هذه الدنيا ليست دارَ قرار، وإنما طلوعٌ وزوال.
انظر إلى هذه الشهور، تهلّ فيها الأهلّة صغيرةً كما يولَد الأطفال، ثم تنمو رويدًا رويدًا كما تنمو الأجسام، حتى إذا تكامل نموُّها أخذت في النقص والاضمحلال، وهكذا عمر الإنسان.
تتجدّد الأعوام عامًا بعد عام، فإذا دخَل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظرَ البعيد، ثم تمرّ به الأيام سِراعًا، فينصرم العامُ كلمح البصر، فإذا هو في آخر العام، وهكذا عُمر الإنسان، يتطلّع إلى آخره تطلُّع البعيد، فإذا به قد هجم عليه الموت. يؤمّل الإنسان بطولِ العمر، ويتسلَّى بالأماني، فإذا بحبلِ الأماني قد انصرم، وبناء الأماني قد انهدَم.
إنّنا في هذهِ الأيّام نودّع عامًا ماضيًا شهيدًا، ونستقبل عامًا مقبلاً جديدًا، فليتَ شِعري ماذا أودَعنا في عامنا الماضي؟ وماذا نستقبل به العامَ الجديد؟ قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (يا ابنَ آدم، إنما أنتَ أيّامٌ، فإذا ذهب منك يومٌ ذهبَ بعضُك) [1] ، وقال أبو حازم رحمه الله تعالى: "عَجبًا لقومٍ يعملون لدارٍ يرحلون عنها كلَّ يوم مرحلة، ويدَعون أن يعمَلوا لدارٍ يرحلون إليها كلَّ يوم مرحلة" [2].
كيف يفرح مَن يومُه يهدِم شهرَه، وشهرُه يهدِم سنتَه، وسنتُه تهدم عمرَه؟! كيف يفرح من عُمره يقوده إلى أجلِه، وحياتُه تقوده إلى موته؟! قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كيفَ نفرَح والموتُ من ورائنا، والقبور أمامنا، والقيامةُ موعدنا، وعلى جهنّم طريقنا، وبين يدَي ربّنا موقفنا؟!) [3].
لقد ضربتِ الدنيا في قلوبنا بسَهم، ونصبَت في قلوبنا رايات، ليلُنا ونهارُنا في حديثٍ عن الدنيا: كم نَربح؟ كيف نجمَع؟ إن ضُرِب موعِدٌ للدّنيا بادرنا إليه مبكِّرين، وأقمَنا عند بابه فرِحين، ولا نُبقي للآخرة في قلوبنا إلاّ ركنًا ضيِّقًا وذِكرًا قصيرًا.
انظر إذا رُفع الأذان: كم ترى من المبكِّرين المسرعين؟ وفي الطرقات ترى الكثرةَ تسير بعجلةٍ للدّنيا. لقد وصّى رسولنا ابنَ عمر بوصيّة بليغةٍ تصحِّح منظورَ المسلم إلى هذه الحياةِ الدنيا حيث قال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) [4].
وعلى هذا فعابر السبيل يتقلّل من الدّنيا، ويقصِّر الآمال، ويستكثر من زادِ الإيمان، حديثُه تلاوةُ كتاب الله، وهمُّه المسابقة إلى الخيرات، فاليوم الذي مضى لا يعود، ولهذا يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه وهو على فراش الموت: (اللهمّ إنّك تعلم أني لم أكن أُحبُّ البقاءَ في الدنيا ولا طولَ المكثِ فيها لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن كنتُ أحبّ البقاءَ لمكابدةِ الليل الطويل وظمَأ الهواجر في الحرّ الشديد ولمزاحمة العلماء بالرُّكَب في حِلَق الذِّكر) [5].
عابرُ السبيل لا يدنّسُ نقاءَ النهار بآثامه، ولا يقصِّر الليلَ بغفلته ومنامه، إن دُعي إلى الطاعةِ أجاب، وإن نودِي إلى الصلاة لبّى، على قدمِ الاستعداد أبدًا في غدوِّه ورواحه، إنّه يعلم أنَّ مَن أمضى يومًا من عمره في غير حقٍّ قضاه أو فَرضٍ أدّاه أو مَجدٍ أثَّله أو حمدٍ حصَّله أو خير أسَّسه أو عِلم اقتبسه فقد عقّ يومَه وظلَم نفسَه.
إخوةَ الإسلام، إنَّ الضغوطَ المعاشيةَ اليوميّة حالت بين العبد وبين الخلوةِ مع نفسه والحديث إليها، فهو في حالةٍ من الجري الدائم للحصول على المزيد، في سباقٍ مع الدنيا، ونهَمٍ على شهواتها، وحِرصٍ شديد هائل على أحوالها. ولهذا يقول سعيد بن مسعود رحمه الله تعالى: "إذا رأيتَ العبدَ تزداد دنياه وتنقُص آخرته وهو بذلك راضٍ فذلك المغبونُ الذي يُلعَب بوجهه وهو لا يشعر" [6] ، ويقول محمد بن واسع: "إذا رأيتَ في الجنة رجلاً يبكي، ألستَ تعجَب من بكائه؟!" قيل: بلى، قال: "فالذي يضحَك في الدنيا ولا يدري إلى ماذا يصير هو أعجبُ منه" [7].
أخي المسلم، حاسِب نفسَك في نهاية العام لتعرفَ رصيدَك من الخير والشرّ ومدّخراتِك من الأعمال الصالحة، هذه وصيةُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسِبوا أنفسَكم قبلَ أن تحاسبوا، وزنوها قبل توزنوا) [8].
فالمحاسبةُ تكشِف عن خبايا نفسِك، وتظهِر عيوبها، فيسهل عليك علاجُها قبل أن تندمَ لفوات الأوان، قال مالك بن دينار رحمه الله: "رحِم الله عبدًا قال لنفسه: ألستِ صاحبةَ كذا؟! ألستِ صاحبةَ كذا؟! ثم ذمَّها، ثم خطمها، ثم ألجمها كتابَ الله عز وجل، وكان لها قائدًا" [9].
ولا تقولنّ لشيء من سيّئاتك: هو حقير، فلعلّه عند الله نخلةٌ وعندك نقير.
إنّ المحاسبةَ التي لا يتعدّى أثرُها دمعَ العين وحزنَ القلبِ دونَ صلاحٍ وإصلاح محاسبةٌ ميّتة، ونتيجة قاصرة. المحاسبةُ المثمِرة تلك التي تولّد ندمًا على المعصية، وتحوُّلاً إلى الخير، فهلُمّ نتساءل: حقوقُ الله هل وفّيتها؟ حقوق العباد هل أدّيتَها؟ ما حالك مع الصّلاة؟ هل تؤدّيها مع الجماعة بشروطها وأركانها وواجِباتها وخشوعِها؟ هل تسكب من خشيةِ الله الدموع، فإنّ النار لا تدخلُها عينٌ بكت من خشية الله؟ هل ما زلتَ مصِرًّا على هجر صلاتَي الفجر والعصر مع الجماعة؟ تلك صلاةُ المنافقين، ومن فاتته صلاةُ العصر حبِط عملُه، كما أخبر الصادق المصدوق [10]. أمازلتَ غافلاً عن تلاوةِ كتاب الله وقد كنتَ مقبِلاً عليه في شهر رمضان؟ النوافلُ والمستحبّات لِمَ تفرّط فيها وهي علامة الإيمان وطريق محبّة الرحمن؟ فقد ورد في الحديث القدسي: ((وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمَع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها)) [11].
ما الذي أهمّك في عامك الماضي وأقضّ مضجعَك: لقمة تأكلها ولباسًا تلبسه، متعة عابرة، لذة عاجلة، مالاً تقتنيه وتجمعه، أم كان همُّك أن تحيى لله سالكًا سُبُلَ مرضاتِه وجنّاتِه؟
ما الذي آلمك في أيامك الماضية: منصبٌ لم تستطع تحصيلَه ودنيا لم تبلغ مناك فيها، أم أنّ دعوةَ الله تختلج في نفسك، فإذا علا منارُها وارتفع لواؤها خفق القلبُ فرحًا، وتهادت النفس سرورًا، وإذا أصابتها العواصف والأدواء دمعتِ العين وحزنت النفس وجأر اللسانُ يشكو إلى ربّ العباد أحوالَ العباد؟
هل كنتَ في الماضي زارعًا للخير، تغرس بكلماتك الفضائل، وتنثر العطرَ بأفعالك، أم كنت تغرس الشرَّ والسوءَ وتؤذي إخوانك؟
ذلك ماضٍ لا حيلةَ لإرجاعه، وإن كنتَ تملك محوَ ذنوبه وسيّئاته بالتوبة والاستغفار.
أمّا عامُك الجديد فإنّك تملكه إن كتب الله لك فيه أجلاً. ابدأ عامَك الجديدَ بهمّة عاليةٍ وعزيمة وقّادة، مقدِّمًا حقوقَ سيّدك وإلهك ومولاك، وحقُّه سبحانه أن يطاعَ فلا يُعصى، وأن يذكَر فلا ينسَى، وأن يُشكرَ فلا يُكفَر.
أدِّ حقوقَ والديك بالرعاية والعطفِ والحنان، وحقوقَ زوجك وأبنائك بترسيخ الإيمان والتربية الصالحة، تذكَّر أقاربَك وجيرانك، ولا تطردِ المحتاجين من الأرامل واليتامى والمساكين.
أدّ حقوقَ الخدَم والعمّال قبل أن يجفَّ عرقُهم، واحذر ظُلمَهم، فإنّ الظلمَ ظلماتٌ يومَ القيامة.
أخي المسلم، وأنتَ ترى زوالَ الأيام وذهاب الأعمار ذكِّر نفسَك بحقيقة الدنيا التي تهفو إليها النفوس، ذكّرها بأنّ أيامَها ماضية وزهرتها ذاوية وزينتها فانية، مسَرّاتها لا تدوم. ذكِّرها بالنعيم المقيم في جنّات الخلود، أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا [الرعد:35].
أخي المسلم، إنّك في العام الجديد لا تدري ما يستجدّ لك فيه من أحوالٍ مع تقلّباتِ الليل والنهار، فخذ من صحّتِك لمرضك، ومن حياتك لموتك، ومن غِناك لفقرك، ومن شبابك لهرمِك.
ها هو العام الجديد قد أقبل، فاستثمر أيّامه ولياليه، قال الله تعالى: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البيهقي في الشعب (7/381) وفي الزهد الكبير (511) عن قتادة عنه.
[2] انظر: صفة الصفوة (2/165).
[3] انظر: إحياء علوم الدين (4/184).
[4] أخرجه البخاري في الرقاق (6416) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[5] أخرجه أحمد في الزهد (ص181)، وأبو نعيم في الحلية (1/239، 5/103).
[6] أخرجه ابن المبارك في الزهد (628).
[7] انظر: إحياء علوم الدين (3/128).
[8] روي هذا الأثر من طرق لا تثبت: فأخرجه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (ص29–30)، وأحمد في الزهد (ص120)، وأبو نعيم في الحلية (1/52) من طريق جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، عنه رضي الله عنه، وثابت لم يدرك عمر. وعند ابن أبي شيبة في المصنف (13/270): عن جعفر بن برقان، عن رجل لم يسم، عن عمر. وأخرجه ابن المبارك في الزهد (ص103) عن مالك بن مغول بلاغا عن عمر. وأخرجه مالك في الموطأ (2/111 ـ رواية أبي مصعب ـ) بسند منقطع بين يحيى بن سعيد وعمر. وعلقه الترمذي في صفة القيامة (2459) بصيغة التمريض. وقد ضعف الأثر الألباني في السلسلة الضعيفة (1201).
[9] انظر: إحياء علوم الدين (4/405)، وإغاثة اللهفان (1/79).
[10] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (553، 594) عن بريدة رضي الله عنه بلفظ: ((من ترك صلاة العصر)).
[11] أخرجه البخاري في الرقاق (6502) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على كلِّ حال، ونسأله العافيةَ والمعافاةَ الدائمةَ في الحال والمآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تفرّد بالعظمة والجلال، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله سنيُّ الخصال، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما دامت الأيام والليال.
أمّا بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى.
إخوةَ الإسلام، تستقبل الأمّةُ الإسلاميّة عامَها الجديد بجسَدٍ مقطَّع الأعضاء، مشتَّتِ الأشلاء، وبجروح نازفة في مواقعَ عديدة.
إنها مواجعُ وفجائع، هَزهزَت أعصابَ المسلمين، وفتقَت أشجانَهم، والأمّةُ إذا جنحَت إلى الشهوات وأحبّت الآثام واشتغلت بالخبيث عن الطيّب أسَرها الهوى، وفقدت الشعورَ بالمسؤولية، فضلّ سعيُها، وخاب أمرها، وتسلّط عليها عدوّها جزاءً وفاقًا.
وفي حديث ثوبان أنّ رسول الله قال: ((يوشك الأممُ أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلةُ إلى قَصعتها)) ، قال قائل: يا رسول الله، ومن قلّةٍ يومئذ؟! قال: ((لا، بل أنتم كثير، ولكنّكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابةَ منكم، ولتعرفُنَّ في قلوبكم الوهَن)) ، قال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: ((حبُّ الدنيا وكراهية الموت)) أخرجه أبو داود وأحمد [1].
كيف تنتصر الأمةُ على عدوّها وقد هُزِمت في معركتها مع النّفس، ونخر جسدَها التفرّقُ والاختلاف؟!
وعلى الرغم من الأثقال والأدواء فإنّ فجرًا صادقًا يلوح في الأفق على مستوى الأمّة، فهي تملك مقوِّمات الحضارة وإمكانات السّيادة. بالإيمان والعمل الصالح، بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجعل الله حزنَ الأمّةِ فرحًا، وعسرَها يُسرًا، وذلَّها عِزًّا، وضعفَها قوّة، لتكون كما أراد الله خيرَ أمّة أخرجت للناس، قال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110].
ألا وصلّوا ـ عبادَ الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة الراشدين...
[1] سنن أبي داود: كتاب الملاحم (3745)، مسند أحمد (5/278)، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير (1452)، والبيهقي في الدلائل (6/534)، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (958).
(1/3008)
خطبة عرفة 1424هـ
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
عرفة
9/12/1424
نمرة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الوصية بتقوى الله تعالى في كلّ شيء. 2- الحثّ على الاستقامة وبيان حقيقتها. 3- كيف تكون خادما لدين الله تعالى؟ 4- التذكير بحرمة الدماء والأموال والأعراض. 5- حقيقة الجهاد. 6- الموقف الشرعي من الإرهاب. 7- فضل العدل. 8- دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. 9- الدعوة إلى الوحدة والائتلاف. 10- نصائح للشباب المسلم. 11- واجب العلماء ورجال التربية والتعليم. 12- صيانة الإسلام للمرأة. 13- فضل الدعوة إلى الله تعالى. 14- فضل عرفة والعمل فيه. 15- من هدي النبي في الحج. 16- نعمة الأمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله حقَّ التقوى.
أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصيّة الله للأوّلين والآخرين، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131].
اتّقوا ربَّكم ـ عبادَ الله ـ تقوًى تستقيمون عليها إلى أن توافوه جلّ جلاله، ذاك عنوانُ الخير والهدى، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
اتّقوا الله في أقوالكم، فالمتقون يقولون الحقَّ والسداد، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الأحزاب:70، 71].
اتقوا الله في أعمالكم، فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الأنفال:1].
اتّقوا الله في سرِّكم ونجواكم، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَـ?جَوْاْ بِ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ ?لرَّسُولِ وَتَنَـ?جَوْاْ بِ?لْبِرّ وَ?لتَّقْوَى? وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المجادلة:9].
اتّقوا الله في عباداتكم، فالمتّقون هم العابدون لله، يَـ?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?عْبُدُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].
اتّقوا الله في معاملاتكم، فلتكن على وفق شرع الله، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [البقرة:278].
اتّقوا الله في أولادكم، فعلى الخير ربّوهم، وبالتوجيهِ الإسلاميّ وجّهوهم، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6].
أمّة الإسلام، يقول الله جلّ وعلا: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13].
سأل سفيان بن عبد الله الثّقفي النبيَّ قائلاً: يا رسولَ الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم)) [1].
عبدَ الله، إنّ السعادةَ في الدنيا وإنّ النجاةَ في الآخرة إنما هي بالإيمان بالله والاستقامة على طاعة الرحمن، حقّق إيمانك بالله في ربوبيتِه ووحدانيته وأسمائه وصفاته. حقِّق إيمانَك بالله، آمِن بربّك الذي خلقك والذي أحياك ثم يميتك ثم يحييك، والذي رزقُك بيده، مدبّر الكون، لا خالقَ غيره ولا ربَّ سواه. مَن تلك أفعالُه فهو المستحقُّ أن يُعبَد دون سواه، ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ ?لْبَـ?طِلُ وَأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْعَلِىُّ ?لْكَبِيرُ [الحج:62].
آمِن بأسماء الله وصفاتِه وأنّ لله أسماءَ حُسنى وصفاتٍ عُلا، أمِرَّها كما جاءت معتقِدًا حقيقةَ معناها على ما يليق بجلال الله، من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ [الشورى:11].
آمِن بملائكةِ الله، عبادٌ مكرمون، لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
آمِن بكتُب الله التي أنزلها لهدايةِ البشر، وهي حقٌّ وكلُّها حقّ، فنؤمن بما سمّى الله لنا في كتابه، نؤمن بصحُف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى ابن مريم.
آمِن بكتابِ الله القرآنِ الكريم الذي أنزله الله ليكون خاتمةَ كتبه جلّ وعلا، أنزله مهيمنًا على ما سواه، مصدِّقًا للحقّ، مبطِلاً للباطل، أنزله على عبده ورسوله محمّد، وسمعه جبريل من ربّ العالمين، وبلّغه جبريل رسولَ ربّ العالمين، وتلقّاه الصحابة عن رسول ربّ العالمين، وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ نَزَلَ بِهِ ?لرُّوحُ ?لأمِينُ عَلَى? قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ?لْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ [الشعراء:192-195]. محفوظٌ بحفظ الله له، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر:9]. الإيمان به والعملُ به سببُ السعادة في الدنيا والآخرة، والإعراض عنه سببُ ا لشقاء في الدنيا والآخرة، فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:123، 124].
آمِن برسُل الله الذين أرسلَهم الله ليبلِّغوا العبادَ رسالاتِ الله، ويقيموا عليهم حجّةَ الله، رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ?للَّهِ حُجَّةٌ [النساء:165]. متفاوتون في الفضل، وأولو العزم أفضلهم، وسيّد الأولين والآخرين أفضلُ الجميع، ((أنا سيّدُ ولد آدم ولا فخر)) [2].
آمِن باليوم الآخر ممّا أخبر الله مِن مفارقة الروح للجسد حتى يستقرّ أهل النار في النار وأهلُ الجنة في الجنة.
الزم فرائضَ الإسلام، أدِّ الصلواتِ الخمس كما أمرك بذلك ربُّك، فهي عنوانُ التزامِ الإسلام، ولا حظَّ في الإسلام لمن ترَك الصلاة. حافِظ عليها رحمك الله، فإنها عمودُ الإسلام والركنُ الثاني من أركانه، وقد أطلق النبيّ وصفَ الكفر على تاركها: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)) [3].
أدّ زكاة مالك، وصُم شهرَ رمضان، وحُجّ البيتَ، تلك أركانُ الإسلام متى ما حافظتَ عليها سهُل عليك ما بعدها.
برَّ بالوالدين، صِل الأرحام، أحسنِ الجوار، مُر بالمعروف وانهَ عن المنكر على قدر علمك وقدرتك، اصدق إخوانَك في القول، وانصَح لهم في القول، واحذر الغشَّ والخيانة في كلِّ الأحوال، وكن مسلمًا موقِنًا، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمِنه الناس على دمائهم وأموالهم.
أيها المسلمون، هذا دينكم دينُ الإسلام، دين العبادة والمعاملة، دين العقيدةِ والشريعة، دينٌ شامل لخيرَي الدنيا والآخرة، دين صالح لكلّ زمان ومكان، دينٌ جمع الله فيه الخير كلَّه ورفع به الآصار والأغلال، دينٌ أكمله الله وأتمّهُ ورضيَ به لنا دينًا، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85].
أمّةَ الإسلام، إنّ كلَّ منتمٍ لهذه الشريعة فهو يسعى دائمًا وجاهدًا في إعزاز هذا الدين وإعلاء شأنه، ولكن يا أخي المسلم، متى تكون خادمًا لدينك؟ نعم، تكون خادمًا لدينك، بعملك وتعليمك، بدعوتِك إلى الله على علمٍ وبصيرة، بسلوكك منهجَ من سلفَك من صالح الأمة في عباداتهم ومعاملاتهم، باستقامتك على هذا الدين، باستفادتك من [مكتشفات] العصر فيما يكون سببًا لخدمة دينك وإعلاءِ شأنه. تكون خادمًا لدينك في كلّ ميادين الحياة بطبّك بهندستك بزراعتك بمهنتك، تكون خادمًا لهذا الدين في كلّ ميادين الحياة، نافِس أعداءَك الذين سخّروا كلّ إمكانياتهم وكلَّ تواجُدهم وكلّ علومهم للدّعوة إلى باطلهم، فأنت على الحقّ فكن ثابتًا على الحقّ، استشعِر مسؤوليتَك أيّها المسلم، واعرف موقعَك في حياتك لتؤدّيَ الواجب الذي عليك.
أخي المسلم، هل يكون خادمًا لدينه من يطعن في أمّته ويخوّن حملةَ هذا الدين من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان؟! أيكون خادمًا لدينه من يدلّ على عوراتِ المسلمين؟! أيكون خادمًا لدينه من يسعى في زعزعةِ أمنِ الأمّة والإخلال بأمنها؟! أيكون خادمًا لدينه من يصمّ أذنيه عن سماع الحقّ؟! أيكون خادمًا لدينه من يتّهم علماءه ووُلاتَه ويصفهم بالخيانة؟! أيكون خادمًا لدينه من يزعم قصور هذه ا لشريعة وعجزها عن مواكبة الحياة؟! كلاّ ليس هذا خدمةً للدين، ولكنه البلاء والعياذ بالله.
إخوتي المسلمين، يا مَن جعلتَ الجهادَ لك شعارًا والتكفيرَ لك مطيّة، هل سألتَ نفسك يومًا: هل من الجهاد في سبيل الله سفكُ دماء المسلمين؟! هل من الجهاد في سبيل الله استحلال دماء المستأمَنين؟! هل من الجهاد في سبيل الله تدميرُ ممتلكات المسلمين؟! هل من الجهاد في سبيل الله تسليط الأعداء على المسلمين ليتّخذوا ذريعةً في بلاد الإسلام؟!
أيّها المسلم، كُن فطِنا واعيًا، وإياك أن تكون عاطفيًا حماسيًّا، كن مسلمًا راشدًا، وإياك أن تكون ثوريًّا مندفعًا.
أخي المسلم، إن الجهادَ في سبيل الله ليس في الدماء والقتل، وليس تشفِّيًا وانتقامًا، هو عبادة لله وشعيرة من شعائر الدين، شُرع للدفاع عن أوطان المسلمين، ليكون وسيلةً في إبلاغ هذا الدين والدعوة إليه وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، لمقاومة من يصدُّ وصولَ هذا النور إلى فِطر العالم، فهو دين الله تقبَلُه الفطر السليمة، فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30].
يا مَن أحببتَ الجهادَ ورفعتَ شعارَه، إنّ الإسلامَ لم [يقصِد] سفكَ الدماء، هو يسعى في حقنِها ما وجد لذلك سبيلا، وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَ?جْنَحْ لَهَا [الأنفال:61].
يا مَن رفعتَ شعار الجهاد وأحببته، أسألك حقًّا: هل جاهدتَ نفسَك بتعلُّم العلم والعمل به؟! هل جاهدتَ نفسك في اتباع الكتابِ والسنة؟! هل جاهدتَ نفسك في قبول الكتاب والسنة وإن خالفا رأيك وهواك؟! هل جاهدتَ نفسك في قبول قول الله: وَلاَ تَقْتُلُواْ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لحَقّ [الإسراء:33]، وقوله : ((لزوال الدنيا بأسرِها أهون على الله من قتل المسلم)) [4] ؟! هل جاهدتَ نفسك ـ أخي المسلم ـ في قبول قول النبي : ((من قتل نفسَه بشيء عُذِّب به يومَ القيامة)) [5] ؟! هل جاهدتَ نفسك ـ أخي ـ في قَبول قول الله: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]؟! هل جاهدتَ نفسَك ـ أخي ـ في قبول قول الله: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَأُوْلِى ?لأمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وقوله : ((من خرج عن الطاعة وفارقَ الجماعةَ فمات فميتةٌ جاهلية، ومن قاتل تحتَ راية عمِّيَّة يغضب لعصبية ويهوَى عصبية ويدعو إلى عصبية فقُتل فقِتلةٌ جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برّها وفاجرها ولا تحاشى لمؤمنها ولا يوفي لذي عهدٍ عهدَه فليس مني ولستُ منه)) [6] ؟!
أخي المسلم، إنَّ مفهومَ الجهاد عظيم، ليس قاصرًا في صنفٍ معيّن، بل هو جهاد على اختلاف أنواعه، فالدعوةُ إلى الله والإصلاح بين المسلمين والقيام بالواجبات كلّ ذلك من أنواع الجهاد. هل جاهدتَ نفسَك ـ أخي ـ في الخوفِ من قول النبيّ: ((من قال لأخيه: يا كافر إلا وباء به أحدهما)) [7] ، ((ومن دعا رجلا بالكفر أو قال: يا عدوّ الله وليس كذلك إلا حار عليه)) [8] ؟! قِف مع هذه النصوص، وإيّاك ومجاوزتَها، وَمَن يُشَاقِقِ ?لرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ?لْهُدَى? وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ?لْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى? وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء:115].
أمةَ الإسلام، لقد مرّ بالعالم صنوفٌ من البلايا وأنواع من المصائب، تدمِّر الحرثَ والنسلَ، اصطُلح عليها بالإرهاب، ومقصودهم التعدّي على النفوس والتعدّي على الممتلكات، وآن للمسلم أن يصدعَ بالحقّ ويظهر الحقَّ ويبيّن موقفَ الإسلام من ذلك، وآن للعالم أن يصغيَ إلى أهل الإسلام بعدما أسكتهم دهرًا، ولينصفهم بعدما ظلمهم وأساءَ إليهم في دينهم وكتابهم ونبيِّهم وقبلتهم، ألا فليعلم العالم أجمع أنّ ديننا دين الإسلام دينُ الرحمةِ والخير ودين العدلِ والهدى، دينٌ يحرّم الظلمَ بشتَّى صُوَره، في الحديث القدسي عن ربّنا جلّ وعلا: ((يا عبادي، إني حرمتُ الظلمَ على نفسي وجعلته بينكم محرّمًا، فلا تظالموا)) [9] ، وحرّم سفكَ الدماء بغير حقّ: وَلاَ تَقْتُلُواْ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ [الأنعام:151]. حرّم الغدرَ والخيانة، في الحديث: ((يُنصَب لكل غادر لواء غدرِه عند استِه، يقال يومَ القيامة: هذه غدرة فلان بن فلان)) [10]. أوجب الوفاءَ بالعهود، وعصم دم المعاهدين: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِ?لْعُقُودِ [المائدة:1]، في الحديث: ((من قتل معاهَدًا لم يرح رائحةَ الجنة)) [11]. حرّم الفساد في الأرض بكلّ أنواعه، فحرّم اختطافَ الطائرات والسفنِ والمراكب ووسائل النقل، وحرّم أيضًا الإخلالَ بالأمن مهما كانت صوره، وحرّم بثّ الفساد ونشرَ المخدِّرات وما يسوء الأمّةَ في دينها ودنياها، يقول الله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ [المائدة:33]. حرّم السعيَ في قلب أنظمةِ الحكم الشرعية القائمة، في الحديث: ((من جاءكم وأمركم جميعٌ يريد أن يشقَّ عصاكم ويفرّق كلمتكم فاقتلوه كائنًا من كان)) [12]. أبَعدَ هذا يُوصَف دينُنا بالإرهاب؟!
لا بدّ من وقفةٍ صادقة تراجعون بها أنفسَكم وتعودون بها إلى أفكاركم وعقولكم، ولا يكن عليكم وصاية حتى تعلموا موقفَ الإسلام من تلك البلايا التي نٌسِبت إليه والإسلام منها براء.
أمةَ الإسلام، العدلُ خيرٌ كلُّه، أساسُ السعادة والرقيّ، أساس الرقيّ في الدنيا والسعادة في الآخرة للمسلمين، وأساس السعادة والهناء في الدنيا حتى لغير المسلمين، أمر الله بالعدل ونهى عن الظلم: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى [النحل:90]. على العدل قامت الممالك، وبالعدلِ دامت. الأمّة الإسلاميّة بالعدل قامت دولتُها، فعدَلوا في توحيد الله وإخلاص الدين له، وقبلوا شرعَه، وعدلوا في رعاياهم فحكموا بينهم بالعدل، وعدلوا في عير أهل دينهم فعاشوا في ظلِّ دولتهم معصومي الدم والمال، في عيشةٍ هنيئة، هكذا عدلُ الإسلام لأن الله يقول لنبيه: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107].
صُنّاعَ القرار في العالم، رجالَ السياسة والفكر، أيها المنصفون، أيها العقلاء، أخاطِب كلَّ ذي عقلٍ يحكمهُ عقله، وكلَّ منصفٍ لا يرضى بالتجنّي، أُخاطب فيكم ضمائركم وحبَّكم للعدل وكراهيتكم للظلم مهما كان مصدره، أسائلكم والله شهيدٌ عليّ وعليكم، أسائلكم والتاريخ شاهد بمواقفكم ممّن بعدكم، أسائلكم: هل مِن العقل أن نؤاخِذ أمّةً بآراء خصومها وأعدائها؟! هل من الإنصاف أن نحكم على أمّة بجريرة شذّاذِ أبنائها؟! أليس من [قلّة] العقل والسفه أن نتجاهل أمّةً لها كيانُها، لها أصولها، لها جذورُها، حكّامُها قائمون، علماؤها متواجدون، كتبُها ناطقةٌ بما تحمله من فكرٍ ورأي سليم سديد، أن نأخذَ ذلك من الجاهلين بها أو من الحاقدين عليها أو من أناسٍ لا يعرفون حقيقتَها.
إنّ قومًا شنّوا الغارةَ على ما يسمّى بالوهّابية، ومرادهم بذلك القدحُ في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله. شنّوا الغارةَ عليها، وصفوها بالإرهاب، وصفوها بسَفك الدماء، وصفوها بالتشدّد، وصفوها بالاعتداء على العالمين، كبُرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلاّ كذبا. أعانهم على ذلك بعضٌ من أبناء جِلدتنا، قلّت ديانتهم، فخانوا أمانتَهم، وقالوا الباطل.
أيّها العقلاء، أيّها الأحرار، إنَّ الشيخ محمدَ بن عبد الوهّاب رجلٌ أحبَّ اللهَ ورسوله، قرأ كتابَ الله وكلام رسوله فآمن بهما، عاش في واقعٍ مرير، تسلّط فيه الطغيانُ وقهر القويّ الضعيف، عاش في مجتمعِ جهل وقتلٍ وسلبٍ وتفرُّق، فلم يرضَ بهذا الواقع، ونهض بمسؤوليّته آخذًا بميثاق ربّه، فدعا إلى الله، دعا إلى عبادة الله وإخلاص الدين له، عاش في مجتمعٍ تعلّقوا بالقبور والأشجار والأحجار، دعاهم إلى عبادةِ الله، دعاهم إلى اتّباع الكتاب والسنّة، دعاهم إلى العدلِ والاجتماع والبُعد عن السّلب والنّهب والإفساد، دعاهم إلى حياةٍ دينيّة مدنيّة، سار على ذلك أتباعُه، وعلى هذا حكومات هذه البلاد وملوكُها، قامت هذه الدولة العزيزة على هذا الدين مبدأً، ولن تزالَ عليه إن شاء الله ثابتةً عليه، مستقيمة عليه، لأنّه كتاب الله وسنة محمّد ، وهذه دولةُ الإسلام سائرةٌ في منهجها وأحكامها على هذا المنهاج المستقيم. ثبّتنا الله وإياهم على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
أيها المسلمون، اتقوا الله في أحوالكم كلِّها.
قادةَ العالم الإسلاميّ، تعلمون ما ابتُليت به الأمّةُ من البلايا والمصائب نتيجةً لتفرّقها وبُعدها عن دينها، أدعوكم جميعًا إلى وَحدة إسلامية، أساسُها توحيدُ الله، ومنهجُها شريعة الإسلام، ثُمَّ جَعَلْنَـ?كَ عَلَى? شَرِيعَةٍ مّنَ ?لأَمْرِ [الجاثية:18]: كتابُ الله وسنّة رسوله ، إلى اتحادٍ إسلامي في سياستكم وأمنِكم واقتصادكم، أظهِروا للملأ كيف تصلح الدنيا إذا سِيسَت بالدين، وكيف يعلو الاقتصادُ إذا سِيس بشرع ربِّ العالمين، وكيف تنتظِم الحياة إذا طُبِّقت أحكام شريعة الإسلام وحُكِمت بالعدل، فشريعة الإسلام تثبِّت العدلَ في الأحوال كلِّها.
شبابَ الإسلام، أنتم عدّة الأمّة وأملُها بعد الله، أوصيكم بتقوى الله، عليكم بالحِلم والأناة، ابتعِدوا عن الطَّيش والعَجَلة، أدّوا فرائضَ الإسلام وابتعِدوا عن نواهيه، أطيعوا ولاةَ أمركم، والزموا علماءكم، وجالسوا عقلاءَكم وكبراءكم، واحذروا الاعتدادَ بالآراء.
شبابَ الإسلام، احذَروا الآراءَ الوافِدة والأفكار البعيدةَ عن الدّين مهما كانت شعاراتها، لا تكونوا عونًا [على] أمّتكم، ولا تكونوا عالةً عليهم، تجلبون لهم البلاء. تفقّهوا في دينكم، وزِنوا كلَّ كلام يُقال لكم، ولا يثِقوا ببعض المتعالمين، زِنوا الأقوالَ والآراء بميزان الكتابِ والسنّة، ولا تحملنَّكم العواطفُ على أن تقبلوا ما قد عسى أن يكون شرًّا لكم.
علماءَ الإسلام، إنّكم ورثةُ الأنبياء، والأمّة محتاجةٌ إليكم وإلى عِلمكم، أمّتُكم تعيش في ظلامٍ من الجهل والضعف، لا يرفعُه إلاّ العلم النافع، فخُذوا بزِمام الأمور، وقودوا الأمّةَ إلى كلّ خير.
علماءَ الأمّة، تعصِف بالعالم ريحٌ عاصفةٌ ما بين غلوٍّ وجفاء، وكلُّها بعيدة عن الهُدى وعن صراط الله المستقيم، غلا قومٌ في دين الله، فأضلّوا عبادَ الله، استغلّوا حماسَ شبابنا وغضاضةَ قلوبهم، فربّوهم على التكفير والتفجير وكراهيةِ علماء الأمّة وكراهية ولاتها، وربَّوهم أيضًا على عدم المبالاة بديار الإسلام. وجفا قومٌ فطعنوا في شرع الله، وزعَموا عدمَ قُدرة الدين على إدارة الأمّة، وقالوا قولتهم الخبيثةَ: دَعوا الدينَ حتى تصلحَ الدنيا. وكلّ هؤلاء على خطأ.
فيا علماءَ المسلمين، أوضِحوا شرعَ الله، وبيِّنوا حدودَ الله وحَقَّ الله الواجبَ عليكم، بيِّنوا لهؤلاء حرمةَ الدّماء وأنّ حرمتَها عظيمة، بيّنوا لهم حقوقَ بلاد الإسلام عليكم، وأنه لا يجوز للمسلم أن يسعى في الطّعن في بلاد الإسلام، فلبلاد الإسلام حقّ الحياطةِ والعناية والدفاع عنها بكلِّ ممكن؛ لأنّ بلادَ الإسلام أمانة في أعناق الأمّة.
رجالَ التّربية والتعليم، عقولُ أبنائنا بين أيدِيكم، أنتم مربّو الأجيال، أنتم المسئولون عنهم، حصِّنوهم بالشريعة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، احذَروا أن تتعرّضوا لثوابت الدّين في مناهج المسلمين، وطوّروا مناهجَ الدنيا والتقنية بكلّ وسيلة لتنفعوا بها أمَّتكم، وصِلوا حاضرَ الأمّة بماضيها، واربطوا حاضرها بماضيها، فشبابُنا بحاجةٍ إلى أن نصِله بماضيه؛ بأخلاقِه بقيَمة بدينه بسلوكه بعبادته بكلّ مُمكن، حتى يرتبط الحاضر بالماضي، فلن يُصلِح آخرَ هذه الأمّة إلا ما أصلح أوّلَها.
أختي المسلمة العزيزة، لقد عاشت أخواتٌ لك في الجاهلية؛ تُقتل المرأة في مهدِها، وإن أمسِكت أُمسكت على خزيٍ وهوان، فجاء الإسلامُ فأعزّ المرأةَ، ورفع من شأنها، كانت ممتهَنةً مبتذَلة، فرعاها حقَّ الرعاية، وخلَّصها من ظلمِ الجاهلية، وجعلها الزوجة الراعيةَ والأمّ الشفيقة، طهّرها وأعزَّها وسمِع صوتها وأنزلها المنزلةَ اللائقةَ بها، ولكن الأعداء يريدون غيرَ ذلك، يريدون منكِ ـ أيتها المسلمة ـ أن تكوني ألعوبةً بأيدي الرجال، يريدونك فاكهةً في مجالسهم، ولذّةً في أنديتِهم. اتّقي الله، كيفَ أنتِ وقد ذهب دينُك وسُلِب حياؤك وانتُهك عِرضِك وانتُقِص دينك؟! فاتّقي الله، وتأسَّي بمن مضى مِن سلف صالحات هذه الأمّة، والله يقول لأزواج نبيّه: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـ?عًا فَ?سْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ [الأحزاب:53].
دعاةَ الإسلام، أدعوكم إلى التعاونِ والتكامُل فيما بينكم، ادعُوا إلى الله على علمٍ وبصيرة، اسلُكوا منهجَ محمّد في دعوته، قُلْ هَـ?ذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى? ?للَّهِ عَلَى? بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ?تَّبَعَنِى [يوسف:108]. الدعوةُ إلى الله خيرٌ كلُّها، الدعوةُ إلى الله إصلاحٌ للبلاد والعباد، الدعوةُ إلى الله إظهارٌ لمحاسن الإسلام، فالدعوة إلى الله في عالمنا كلِّه كلُّها خير لمن تأمَّل، فمكاتبُ الدعوة إلى الله والدعاةُ إلى الله لم يقولوا شرًّا، وإنما هم دعاةُ خير ودعاةُ أمنٍ ودعاةُ سلامٍ ودعاة للإصلاح والتوجيه.
فيا أمّةَ الإسلام، أصلِحوا بين الناس، فالإصلاح بين المسلمين خلقٌ كريم، فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ [الأنفال:1]. أصلِحوا بين الناس إذا تنازعوا، وقرّبوا بينهم إذا تباعدوا، واقصدوا بذلك وجهَ الله، لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـ?حٍ بَيْنَ ?لنَّاسِ [النساء:114].
حجّاجَ بيت الله الحرام، الآنَ وقد طويتُم البحارَ والقفار وأطَلتم الأسفار، فها أنتم قد بلغتُم مرادَكم، نعمةٌ من الله عليكم لم تكونوا بالغيه إلا بشقّ الأنفس. وصَلتم إلى هذا البلد الحرام في الشهر الحرام مرتدين الإحرام، فلكم حرمةُ الزمان والمكان وحرمةُ الإحرام. اعرِفوا لهذا البلد فضلَه، واعرفوا له مكانته، وعظّموا حرماته، ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَـ?تِ ?للَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ [الحج:30]. احرِصوا على أمنه، وإياكم والإلحادَ فيه وزعزعةَ أمنه، فإن ذلك من الصدِّ عن سبيل الله.
حجّاجَ بيت الله الحرام، لكم في هذه البلاد أخوانٌ لكم في الدين يسهَرون الليالي في سبيل حُسن استقبالكم وتنظيمِ سيركم في تنقّلاتكم كلِّها، فلهم عليكم حقٌّ أن تدعوا الله لهم، وأن تلتزِموا الأنظمَةَ المرعية التي هي سببٌ لانتظام سيركم.
حجّاجَ بيت الله الحرام، هذا يومُ عرفة الذي يقول فيه محمّد : ((الحجّ عرفة)) [13]. هذا اليوم من وقفه كان مدرِكًا للحجّ. هذا اليوم الذي من طلوعِ شمسه إلى طلوع فجر يومِ العاشر، فمَن أدرك عرفةَ في هذا الوقتِ فقد تمّ حجّه، قال : ((الحجّ عرفة، من أدرك جمعًا قبل صلاة الفجر فقد أدرك)) [14].
أيّها المسلم، هذا يومٌ من أيام الله العظيمة، ويوم من الأيّام المباركة.
وقفتَ ـ أيها المسلم ـ بصعيد عرفات، أوصيك ونفسي بتقوى الله في هذا اليوم، أكثِر فيه من التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل، استغفر الله من خطاياك وزلَلك، ارفَع أكفَّ الضراعة إلى ذي الجلال والإكرام. هذا يومٌ يباهي الله بكم ـ حجّاجَ بيته الحرام ـ ملائكتَه: انظروا إلى عبادي، أتَوني شُعثًا غُبرًا، أشهِدكم أني قد غفرتُ لهم، ما من يومٍ أكثر من أن يُعتق الله فيه عبيدًا من النار [من يوم عرفة].
أتى نبيُّكم هذا الموقفَ، فوقف بنمِرة، ثم دفع إلى عُرنَة فخطب بها الناس خطبةً عظيمة نافعة وجيزة، بيّن فيها حرمةَ الدماء والأموال، وألغى فيها مآثر الجاهلية ورباها ودماءَها، وأخبرهم أنه تاركٌ فيهم ما إن تمسّكوا به لن يضلّوا: كتاب الله [15].
صلّى بهم الظهرَ والعصر جمعًا وقصرًا تقديمًا، أمر المؤذّن فأذّن فأقام فصلّى الظهر، ثم أقام فصلّى العصر، ثم أتى عرفة، فكان واقفًا على راحلته، مستقبلَ القبلة، يدعو ربَّه ويتضرّع بين يديه رافعًا يديه خاضعًا مستكينًا خاشعًا راجيًا، صلوات الله وسلامه عليه. سقط خطامُ ناقته من إحدى يديه فأخذه باليد الأخرى، ويدٌ رافعَها يدعو الله ويرجوه [16].
أفطر في ذلك اليوم ليبيِّن أنَّ الفطر للحاجّ أولى من الصيام، بُعِث إليه بقدَح لبنٍ فشربه والناس ينظرون [17].
سقط رجلٌ من أصحابه عن راحلتِه فقال: ((اغسِلوه بماء وسِدر، وكفّنوه في ثوبيه، ولا تقرّبوه طيبًا، فإنه يُبعَث يومَ القيامة ملبِّيًا)) [18] ، صلوات الله وسلامه عليه.
لم يزَل واقفًا حتى غربت الشمسُ وذهبت الصُفرة قليلاً وغاب القُرص، ثم دفع منها إلى مزدلفة وهو يحثّ الناس على السكينة والوقار [19].
أتى المزدلفةَ فصلّى بها المغربَ والعشاء جمعًا من حين قدم، بات بها، وأذِن للضّعَفة بالرحيل بعد منتصَفِ الليل [20] ، وصلّى بها الفجر، وذكر الله عند المشعر الحرام.
ثمّ انصرف إلى منى، فرمى جمرةَ العقبة، ثم نحر هديَه وحلق رأسَه، ثم أتى البيتَ وطاف به طوافَ الإفاضة، فهكذا أعمالُ يوم النحر؛ رميُ الجمرة والحلق أو التقصير ثم الطواف بالبيت، ومن قدَّم شيئًا على شيء فنبيّنا يقول: ((افعل ولا حرج)) [21] ، فمن رمى وحلَق أو رمى وطاف بالبيت حلّ له كلُّ شيء حرُم عليه بالإحرام إلا النساء، ومن رمى وحلق وطاف البيت حلّ له كلُّ ما حرّم الإحرامُ عليه.
ثمّ بِت بمنى ليلةَ الحادي عشر والثاني عشر، وارمِ الجمارَ في اليومين بعد الزوال، والرميُ لك إلى طلوع الفجر الثاني، فإن شئت فانصرِف قبلَ غروب الشمس في اليوم الثاني عشر، وإن شئت فابقَ بمنى وارمِ الجمار في اليومِ الثالثَ عشر، فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203].
حجّاجَ بيت الله الحرام، الأمنُ نعمةٌ من نِعم الله على عباده، بيّن الله قدرَه في كتابه العزيز، فقال عن خليله إبراهيم في دعائه: وَإِذْ قَالَ إِبْر?هِيمُ رَبِّ ?جْعَلْ هَـ?ذَا بَلَدًا آمِنًا وَ?رْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ?لثَّمَر?تِ [البقرة:126].
الأمن يحتاج إليه العالم والعابدُ والتاجر والجاهِل والرجل والأنثى، الأمن نعمةٌ وفضل من الله على عباده، يحقّقه للأمّة طاعتُهم لله وتوحيدُهم له، وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55].
أمةَ الإسلام، عاش أسلافُكم في القرون الخالية، لا يأتي البيتَ إلا نزرٌ من الناس، وإذا خرج من بلاده ودّعه أهلُه، فعسى أن يرجِع أو عسى أن يموتَ هناك، الطريقُ مخوف، والسّفر طويل، والأمنُ قليل، أمّا اليوم فقد أسبغ الله هذه النعمةَ، فجعل الحرمَ حرمًا آمِنا مطمئنًّا، هيّأ الله رجالاً اختارهم لحمايتِه وخدمته وشرّفهم بذلك، سَعَوا جهدَهم في توسعته وراحة أهله والنفقة عليه، واسترخَصوا كلَّ غالٍ ونفيس في سبيل راحة الحجّاج، وبذلوا قُصارى جُهدهم، فاشكروا الله على هذه النعمة، ثم اشكروا الله على من جعلهم سببًا في حصولها من قادةِ هذه البلاد، فمنذ تولّي الملكُ عبد العزيز ـ غفر الله له وشرّفه بولاية هذا البيت ـ والبيتُ يزداد كلَّ عام خيرًا، تعاقب عليه أبناؤه الملوك البرَرة، ولا يزال في هذا العهد المبارَك في عزّةٍ وقوّة، فجزى الله الجميعَ خيرًا، ووفّقهم لما يحبّه ويرضاه، وأعانهم على كلِّ خير.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (38) عن سفيان رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (3/2)، والترمذي في التفسير (3148)، وابن ماجه في الزهد (4308) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن، وقد روى بعضهم هذا الحديث عن أبي نضرة عن ابن عباس الحديث بطوله"، وفي السند علي بن زيد بن جدعان قال الذهبي في السير (8/293): "هو مِن أوعية العلم، لكن له ما ينكر"، لكن يشهد له حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري في التفسير (4712)، ومسلم في الفضائل (2278) وليس فيه: ((ولا فخر)) ، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (1571). وفي الباب أيضا عن جابر وأنس وعبد الله بن سلام وواثلة بن الأسقع وعائشة وأبي بكر رضي الله عنهم.
[3] أخرجه أحمد (5/ 346)، والترمذي في الإيمان (2621)، والنسائي في الصلاة (463)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1079) من حديث بريدة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب"، وصححه ابن حبان (1454)، والحاكم (11)، وهو في صحيح الترغيب (564).
[4] أخرجه الترمذي في الديات (1315)، والنسائي في المحاربين (3922) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعقبة بن عامر وابن مسعود وبريدة"، وأشار إلى أن وقفه أصحّ من رفعه، وكذا رجح وقفه البيهقي في الكبرى (8/22)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (439).
[5] أخرجه البخاري في الأدب (6047)، ومسلم في الإيمان (110) عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه.
[6] أخرجه مسلم في الإمارة (1848) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في الأدب (6104)، ومسلم في الإيمان (60) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[8] أخرجه البخاري في الأدب (6045)، ومسلم في الإيمان (61) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[9] أخرجه مسلم في البر (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في الأدب (6177،6178)، ومسلم في الجهاد (1735) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وليس فيه: ((عند استه)).
[11] أخرجه البخاري في الجزية (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[12] أخرجه مسلم في الإمارة (1850) من حديث عرفجة رضي الله عنه.
[13] أخرجه أحمد (4/309)، وأبو داود في المناسك، باب: من لم يدرك عرفة (1949)، والترمذي في الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج (889)، والنسائي في الحج، باب: فرض الوقوف بعرفة (3016)، وابن ماجه في المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع (3015) عن عبد الرحمن بن يعمر رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (468)، وابن خزيمة (2822)، وابن حبان (3892)، والحاكم (1/463)، وهو في صحيح سنن الترمذي (705).
[14] هو نفس الحديث السابق، وقد تقدم تخريجه.
[15] أخرجه مسلم في الحج (1218) عن جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي.
[16] أخرجه الفاكهي في أخبار مكة (2758)، والطبراني في الأوسط (5141، 5706) من طريق الأعمش عن أنس رضي الله عنه، وقال الهيثمي في المجمع (10/169): "رواه البزار والطبراني في الأوسط.... ورجال البزار رجال الصحيح غير أحمد بن يحيى الصوفي وهو ثقة، ولكن الأعمش لم يسمع من أنس".
[17] أخرجه البخاري في الصوم (1989)، ومسلم في الصيام (1124) عن ميمونة رضي الله عنها.
[18] أخرجه البخاري في الحج (1849، 1850، 1851)، ومسلم في الحج (1206) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[19] أخرجه مسلم في الحج (1218) عن جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي.
[20] أخرجه البخاري في الحج (1676)، ومسلم في الحج (1295) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[21] أخرجه البخاري في الحج (1736، 1738)، ومسلم في الحج (1306) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3009)
بين عامين
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
29/12/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاعتبار بأحداث العام المنصرم. 2- هجرة النبي وأصحابه إلى المدينة صورة من صور البلاء في سبيل الله. 3- وجوب التناصر بين المسلمين. 4- دروس الولاء والإخاء بعد الهجرة النبوية. 5- وقفية أرض فلسطين وفضلها وفضل المسجد الأقصى. 6- واجب المسلمين في حماية المسجد الأقصى ودرء الأخطار عنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أيها المسلمون، يقول الله تعالى في كتابه العزيز وهو أصدق القائلين: إِنَّ ?لَّذِينَ تَوَفَّـ?هُمُ ?لْمَلَئِكَةُ ظَـ?لِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ?لأرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ?للَّهِ و?سِعَةً فَتُهَـ?جِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا إِلاَّ ?لْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ?لرّجَالِ وَ?لنّسَاء وَ?لْوِلْد?نِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً [النساء:97، 989]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، أيّها المرابطون ببيت القدس وأكناف بيت القدس، اليوم نودّع عامًا، وغدًا نستقبل عامًا جديدًا، وإنّ لكل شيء بداية ونهاية، إن نهاية عامنا هذا قد آذنت بالرحيل، إن هذا الرحيل ليترك في النفوس الأسى والحسرة والحزن، ويدفع إلى أخذ العبرة والعظة، الأسى على زمن انقضى في غير طاعة الله وابتغاء مرضاته، والحزن على فراق أحبة مضوا بين طيات السنين، وانقطع بهم ما كانوا يأمِّلونه، وغدوا أثرًا بعد عين، وينبغي أخذ العبرة مما مرّ بالأمة الإسلامية من أحداث جسام أقضّت المضاجع وأفزعت القلوب.
فكم مرّ بالأسماع ما نزل ببعض البلاد العربية والإسلامية على يد أعداء الإسلام، من الظلم والقسوة، ومن التخريب والتدمير والقتل والتشريد والتهجير والإبعاد وسفك الدماء وغير ذلك، فتألم له المسلمون جميعًا، إذ كانوا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وكم مر بالأسماع وشاهدته العيون من أخبار الزلازل العنيفة والفيضانات الهائلة المروعة ما يُشعر بعجز المخلوق وافتقاره إلى رحمة الخالق القادر، وكم مرّ بالأمة الإسلامية في خلال العام الراحل من ظروف حرجة كانت مخبر الصدق والإيمان ومحكًا للعزائم الثابتة.
كلّ ذلك ـ أيها المؤمنون ـ مما يجب أن نأخذ منه العبر، وهو مما يدعو إلى الرجوع إلى الله تعالى والتعلق به والتمسك بدينه والاهتداء بشرعه، لعل الله العلي القدير أن يبدّل المسلمين بدلاً من الخوف أمنًا، ومن البؤس والشدائد والمحن رخاء وعزة ونصرًا، ومن الأعوام العصيبة أعوامًا تشرق باليُمن والخير والبركات.
أيها المسلمون، إن الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ـ على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم ـ تلقي بظلالها ومشاهدها وأحداثها في هذه الأيام، فلقد كانت فتنة المسلمين من أصحاب النبي في مكة فتنة الإيذاء والتعذيب، وما ألمَّ بهم من المشركين من ألوان الهزء والسخرية، فلما أذن لهم الرسول الكريم بالهجرة أصبحت فتنتهم في ترك وطنهم وأموالهم ودُورهم وأمتعتهم.
ولقد كانوا أوفياء لدينهم مخلصين لربهم أمام الفتنة الأولى والفتنة الثانية، قابلوا المحن والشدائد بصبر ثابت وعزيمة صادقة، حتى إذا أشار عليهم الرسول بالهجرة إلى المدينة توجهوا إليها، وقد تركوا الديار والأموال ليسلم لهم الدين، واستعاضوا عن ذلك بإخوانهم الأنصار الذين ينتظرونهم في المدينة.
وهذا المثل الصحيح للمسلم الذي أخلص الدين لله، هذا عن أصحاب رسول الله في مكة.
أما أهل المدينة الذين آووهم في بيوتهم وواسوهم ونصروهم، فقد قدموا المثل الصادق للأخوة الإسلامية والمحبة في الله عز وجل.
أيها المسلمون، إن هذه الهجرة كانت فرضًا في أيام النبي ، أي: الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، وقد انقطعت هذه الهجرة بالفتح كما ورد في الحديث الشريف: ((لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا)) ، والأمر الثاني: الذي يُستنبط من مشروعية هذه الهجرة هو وجوب نصرة المسلمين بعضهم لبعض مهما اختلفت ديارهم وبلادهم ما دام ذلك ممكنًا، فقد اتفق العلماء والأمة على أن المسلمين إذا قدروا على إنقاذ المستضعفين أو المأسورين أو المظلومين من إخوانهم المسلمين في أي جهة من جهات الأرض ثم لم يفعلوا ذلك فقد باؤوا بإثم كبير.
أيها المؤمنون، وكما تجب موالاة المسلمين بعضهم لبعض، فإنه لا يجوز في الوقت ذاته أن يشيع شيء من الولاية أو التناصر أو التآخي بين المسلمين وغيرهم، وهذا ما جاء واضحًا في كلام الله العلي القدير إذ يقول: وَ?لَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى ?لأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73].
أيها المؤمنون، ليست الأمة الإسلامية جماعة من الناس همُّها أن تعيش بأي أسلوب أو تخط طريقها في الحياة إلى أي وجهة ما دامت تجد القوت واللذة، فلو كانت كذلك فقد أراحت واستراحت، كلا وألف كلا، فالمسلمون أصحاب عقيدة تحدّد صلتهم بالله تعالى وتوضح نظرتهم إلى الحياة، وتنظم شؤونهم في الداخل، وتسوق صلاتهم بالخارج إلى غايات معينة، وفرق بين امرئ يقول لك: همي في الدنيا أن أحيا فحسب، وآخر يقول: إذا لم أحرس الشرف وأحفظ الحقوق وأرضى لله وأغضب لله فلا سعت بي قدم، ولا غمضت لي عين.
أيها المسلمون، والمهاجرون إلى المدينة لم يتحولوا عن بلدهم ابتغاء ثراء أو استعلاء، والأنصار الذين استقبلوهم وناصبوا قومهم العداء، لم يفعلوا ذلك ليعيشوا كيفما اتفق، إنهم جميعًا يريدون الاستضاءة بنور الوحي والحصول على رضوان الله تعالى، وهل الإنسان إذا جحد ربه وتبع هواه إلا حيوان ذميم أو شيطان رجيم؟!
أيها المسلمون، لقد كانت هجرة الحبيب محمد إلى المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم تعني نشأة أول دار للإسلام إذ ذاك على وجه الأرض، وقد كان ذلك إيذانًا بظهور الدولة الإسلامية بإشراف قائدها ومُنشئها الأول محمد عليه الصلاة والسلام، ولذا فقد كان أول عمل قام به الحبيب محمد أن أقام الأسس الهامة لهذه الدولة المتمثلة في بناء المسجد والمؤاخاة بين المسلمين عامة والمهاجرين والأنصار خاصة، وكتابة وثيقة حددت نظام حياة المسلمين فيما بينهم، وأوضحت علاقتهم مع غيرهم.
أما بالنسبة للأساس الأول فقد بادر الرسول الكريم إلى بناء المسجد لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المرء برب العالمين وتنقي القلب من أدران الأرض ودسائس الحياة الدنيا، وتم بناء المسجد في حدود البساطة، فراشه الرمال والحصى، وسقفه الجريد، وأعمدته جذوع النخل، وربما أمطرت السماء فأوحلت أرضه.
ولكن أيها المسلمون، هذا البناء المتواضع هو الذي ربى ملائكة البشر، مؤدبي الجبابرة وملوك الدار الآخرة، في هذا المسجد أذِن الرحمن لنبي يؤم بالقرآن خيرة من أمّ به، يتعهدهم بأدب السماء وأخلاق القرآن من بزوغ الفجر إلى غسق الليل.
والمسجد كان ولا يزال منارًا للهدى ومشعلاً للنور وطريقًا إلى الخير وسبيلاً للعرفان، إنه المدرسة الجامعة لكل معاني الخير، والموجه إلى أسمى المبادئ وأمثل القيم، يتلاقى فيه أبناء الإسلام ليتفقهوا أسرار شريعتهم، ويتدارسوا ما فيه خيرهم وصلاحهم، فمن فوق منبره وفي رحاب ساحاته يتيسر لهداة الأمة أن يعبئوا مشاعرها، ويوقظوا ويصيغوا أرواحها، ويوجهوا موكبها الوجهة الصالحة المثمرة.
أيها المسلمون، إن الناس اليوم لما أعياهم بناء النفوس على الأخلاق الجليلة، استعاضوا عن ذلك ببناء المساجد الشاهقة المزخرفة، أما أسلافنا وما أدراكم ما أسلافنا فقد انصرفوا عن ذلك إلى تزكية أنفسهم وتقويمها، فكانوا أمثلة صحيحة للإسلام.
أما بالنسبة للأساس الثاني، فقد آخى الرسول عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار، آخى بينهم على الحق والمواساة، ولم يكن ما أقامه الحبيب محمد من مبدأ التآخي مجرد شعار في كلمة أجراها على ألسنتهم، إنما كان حقيقة عملية تتصل بواقع الحياة وبكل أوجه العلاقات القائمة بين الأنصار والمهاجرين.
وحسبنا دليلاً على ذلك ما قام به سعد بن الربيع الذي كان قد آخى الرسول بينه وبين عبد الرحمن بن عوف، إذ عرض سعد على عبد الرحمن أن يشركه في بيته وأهله وماله في قسمة متساوية، ولكن عبد الرحمن شكره وطلب منه أن يرشده إلى سوق المدينة ليشتغل فيها.
ولم يكن سعد بن الربيع منفردًا عن غيره من الأنصار فيما عرضه على أخيه كما قد يظن، بل كان هذا شأن عامة الصحابة في علاقاتهم وتعاملهم بعضهم مع بعض.
أيها المسلمون، أما الأساس الثالث فهو كتابة وثيقة بين المسلمين وغيرهم، وهذا الأساس هو أهم ما قام به الرسول مما يتعلق بالقيمة الدستورية للدولة الجديدة، ومن هنا تسقط دعوى الذين يزعمون أن الإسلام ليس إلا دينًا، قوامه ما بين الإنسان وربه، وليس له من مقومات الدولة والتنظيم الدستوري شيء، وهو أكذوبة واضحة كان يقصد منها محترفو الغزو الفكري والمستعمرون أن يقيدوا بها الإسلام، كي لا ينطلق فيعمل عمله في المجتمعات الإسلامية، وحتى لا يصبح له شأن يتغلب به على المجتمعات المنحرفة الأخرى، إذ الوسيلة إلى ذلك محصورة في أن يكون الإسلام دينًا لا دولة، وعبادات مجردة من غير تشريع ولا قوانين.
كما أن هذه الوثيقة تدل على مدى العدالة ومبدأ التسامح التي اتسمت بها معاملة النبي لليهود، ولقد كان بالإمكان أن تؤتي هذه المسألة العادلة ثمارها فيما بين المسلمين واليهود، ولكن حينما ساءت النوايا لم يتحقق شيء من ذلك.
التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله ثم الحمد الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمدًا رسول الله، والصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله، وعلى آلك وأصحابك أجمعين.
وبعد: أيها المسلمون، إن أفضل المساجد المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد النبوي بالمدينة المنورة والمسجد الأقصى المبارك في فلسطين، وهي المساجد التي تشد إليها الرحال، وقداستها منغمسة في نفوس المسلمين لكونها رمز عقيدتهم وتاج عزهم وسعادتهم، كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام والمسجد الأقصى)) ، إلى ذلك يشير القرآن الكريم بقوله: سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لأقْصَى ?لَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـ?تِنَا إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لبَصِيرُ [الإسراء:1].
أيها المؤمنون، وحول ما يتعرض له المسجد الأقصى ومدينة القدس وأرض الإسراء والمعراج من أخطار وتجاوزات أقول: إن أرض الإسراء والمعراج وفي مقدمتها مدينة القدس أرض إسلامية وقفية، فتحها سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد ، فتحها ومعه أكرم وأرفع مجموعة عرفها الكون من البشر، ألا وهي زمرة الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومعهم أطهر مجموعة من الملائكة اجتمعوا سويًا لأول مرة بقيادته ليلة الإسراء، ووضعوا حجر الأساس للوجود الإسلامي في هذه البقعة الطيبة المباركة.
ثم جاء الفتح العمري للمدينة المقدسة عام ستة عشر للهجرة، ولعل المسجد الأقصى أهم معالم مدينة القدس، وإن له تاريخًا قديمًا جدًا كما ورد في حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه قال: قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال: ((المسجد الحرام)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((المسجد الأقصى)) ، قلت: كم بينهما؟ قال: ((أربعون سنة)) ، وعن ميمونة مولاة النبي قالت: قلت: يا رسول الله، أفتنا ببيت المقدس؟ قال: ((أرض المحشر والمنشر، ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره)) ، وفي رواية: ((بخمسمائة صلاة)) ، وفي رواية: قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أصل إليه؟ قال: ((فتهدي له زيتًا يسرج فيه، فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه)).
ولقد توالت عناية المسلمين بالمسجد الأقصى خلال القرون المتوالية، وظلوا يحرصون على عمارته وصيانته، ويؤلفون الكتب عن تاريخه وفضائله، ويتعودون الاعتكاف فيه.
أيها المسلمون، والملاحظ أنه منذ عام 1967م والحفريات تحت أساسات المسجد الأقصى وتحت ساحاته مستمرة، كما أن الكثير من المباني الواقعة في الجهة الجنوبية منه هدمت، مما تسبب في إحداث حفر كبيرة ومكشوفة تمتلئ بمياه الأمطار في فصل الشتاء، حيث تتسرب هذه المياه تحت أساساته مما يعرض المسجد للخطر، وما انهيار جزء من الجدار الاستنادي للطريق التي تربط بين ساحة البراق وباب المغاربة فجر يوم الأحد الماضي إلا مؤشر على الأخطار القادمة.
إننا نأخذ بعين الاعتبار العوامل الجوية والطبيعية التي تحدث بين الفينة والأخرى، ولكن الاستمرار في الحفريات وعدم سد الفراغات الموجودة في الجهة الجنوبية وعرقلة أعمال الترميم وتغيير المعالم المحيطة بالمسجد الأقصى والنداءات التي تصدر باستمرار من قبل أوساط متطرفة في إسرائيل، والتي تنادي بهدم الأقصى وبناء الهيكل مكانه، ومنع المصلين من الوصول إلى المسجد الأقصى المبارك لأداء الصلاة فيه وإقامة الجدار الفاصل، وعزل القرى والمدن الفلسطينية، كل ذلك يشكل خطرًا واضحًا على المقدسات وعلى الأرض وعلى الإنسان، كما أنه يعتبر اعتداءً صارخًا على عقيدة المسلمين وعلى صلاحيات الوقف الإسلامي المسئول عن المسجد الأقصى المبارك وعن الحفاظ عليه.
أيها المسلمون، وإزاء ما يحصل فإننا نطالب المسلمين شعوبًا وحكومات التدخل لمنع هذه الاعتداءات والعمل على ترميم معالم المسجد الأقصى من خلال لجان متخصصة في هذا المجال.
وإننا لنعجب من هذا الصمت العربي والإسلامي إزاء ما يحصل في هذا البلد المسلم، فأين الشعور الإسلامي والحس الإيماني، بل وأين نخوة المعتصم، ونخوة صلاح الدين؟!!
إن الاقتصار على سياسة الشجب والاستنكار لا يكفي، بل لا بد من العمل على جميع المستويات للحفاظ على مكانة المدينة المقدسة ودرء الخطر عنها، والعمل على تحريرها.
فيا أمة العرب والإسلام، أفيقي من هذا السبات العميق، وتنبهي لهذه الأخطار المحدقة قبل فوات الأوان، وارفعي راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، وراية الجهاد والاعتصام بحبل الله جميعًا وعدم التفرق، وعليك بلمّ الشمل ووحدة الصف، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47].
(1/3010)
مبدأ التأريخ الهجري وخطورة تركه - فضل المحرم وعاشوراء
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدروس والعبر المستفادة من تعاقب الليل والنهار. 2- قصة بدأ التأريخ الهجري. 3- مفاسد وأضرار مترتبة على التأريخ الميلادي. 4- دعوة للمحاسبة في نهاية العام. 5- فضل شهر الله المحرم. 6- فضل صيام يوم عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون, اتقوا الله حق تقاته, بامتثال أوامره واجتناب زواجره, فإنها وصيته تعالى للأولين والآخرين, قال تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].
أيها المؤمنون, إن الله جل ذكره خلق الشمس والقمر, وجعل الليل والنهار لحكم عديدة, وفوائد كثيرة, ذكرها الله تعالى منثورة في كتابه الحكيم, في أماكن متفرقة, فمن تلك الحكم والفوائد: أن يعلم الناس من اختلافهما وتعاقبهما وسيرهما في منازلهما عدد السنين والحساب, وتغير الفصول والبروج, قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء:12]، وقال عز وجل: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس:5]، وقال في ذلك: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَج [البقرة:189]، فجعل تعالى معرفة السنين والشهور مستفادة من سير القمر وتنقله في منازله, وذلك من نعم الله على عباده, ورحمته بهم, إذ إن ظهور هذه العلامة في السماء مشاهد مبصر, لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب, بل يميزه ويعرفه الصغير والكبير, والعالم والجاهل، والحاضر والباد, بخلاف سير الشمس, فإن معرفتها تحتاج إلى حساب وكتاب, وفي ذلك عسر ومشقة, فالحساب لا يعرفه إلا الأقلون من الخلق, إذ إن ذلك أمر غائب لا يشاهد, ولما كانت هذه الشريعة مبنية على اليسر والسهولة, كما قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج [الحج:78]، وقوله: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج [المائدة:6]، وقوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، جعل الله الحساب الشرعي الذي ترتبط به عبادات الناس مبنياً على سير القمر, قال الله تعالى: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189].
فهذه الآية العظيمة التي يشاهدها الناس في سمائهم، يبدوالهلال صغيراً في أول الشهر, ثم يتزايد إلى التمام في نصفه, ثم يشرع في النقص والاضمحلال, إلى الغياب والزوال في آخر الشهر, وهكذا دواليك, بها يعرف الناس مواقيت عباداتهم, من الصيام, والحج, وأوقات الزكاة, والكفارات, وغير ذلك من السنن والمكتوبات, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنا أمة أمية؛ لا نكتب ولا نحسب, الشهر هكذا وهكذا)) [1] يعني مرة تسعة وعشرين, ومرة ثلاثين، كما قال رسول الله : ((الشهر تسع وعشرون ليلة, فلا تصوموا حتى تروه, فإن غُم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) [2] رواه الشيخان. فجعل الله المرجع في الفطر والصيام إلى رؤيته. واعتبار الأهلة في العبادات هي الشريعة التي جاء بها الأنبياء جميعاً, ولكن اليهود والنصارى حرفوا ذلك [3].
أيها المؤمنون, لقد كانت العرب في جاهليتها تؤرخ بأيامها وأحداثها الكبار, ووقائعها العظام, واستمر ذلك في حياة النبي , وخلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه, وأوائل خلافة عمر الفاروق رضي الله عنه, ثم إنه مع اتساع الخلافة, توافرت أسباب البحث عن تأريخ يعمل به المسلمون, يجتمعون عليه, فجمع عمر الناس سنة: ست عشرة أو سبع عشرة من الهجرة, فشاورهم من أين يبدأ التأريخ؟ فقال بعضهم: من بعث النبي , وقال آخرون: من متوفاه, فقال عمر رضي الله عنه: من خروجه من مكة إلى المدينة, فاتفقوا على ذلك, ثم إنهم تشاوروا في أي شهر تبدأ السنة, فاتفقوا على أن يكون شهر الله المحرم هو أول الشهور في السنة, وقال بعض أهل العلم: "إن الصحابة رضي الله عنهم أخذوا التأريخ بالهجرة من قول الله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ " [التوبة:108]. ومهما يكن من أمر, فقد استقر هذا التأريخ في أمة الإسلام, منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا, وأصبح التأريخ بالهجرة النبوية الشريفة إلى المدينة, كما تميزت به أمة الإسلام عن غيرها من الأمم.
إذا قامت الدنيا تعد مفاخراً فتاريخنا الوضاء من الهجرة ابتدا
فلما دب إلى الأمة داء الوهن والضعف, وأصابها العجز والكسل, وتسلط عليها أعداؤها المستعمرون, وأذنابهم المنافقون, فمزقوها شرّ ممزق, وكان من جملة ما ذهب من معالم شخصيتها وأعلام تميزها التأريخ العربي الإسلامي الهجري, فاستبدل كثير من أبناء الأمة ودولها الذي هو أدنى بالذي هو خير, فغدا التاريخ الهجري الإسلامي مجهولاً مغموراً, وأصبح التاريخ النصراني الإفرنجي مشهوراً معروفاً. وقد ترتب على هذا التبديل مفاسد كثيرة, منها:
عزل أبناء الأمة عن تاريخهم وأمجادهم, وأسلافهم وسالف حضارتهم وعزهم, ولا يستريب عاقل أن الأمة لا تستطيع أن تصنع مستقبلها ولا أن تصلح واقعها, إلا من خلال دراستها لتاريخها ومعرفتها به, فبقدر ما تكون الأمة واعية بماضيها, محيطة بتاريخها, حريصة على الإفادة منه, بقدر ما تسمو شخصيتها, وتدرك غايتها, وتعرف سبيل الوصول إلى بغيتها.
فالأمة المعزولة عن تاريخها أمة قريبة الجذور, سريعة الاجتثاث والأفول لأدنى عارض, ولأدهى عائق, ولذا حرص الأعداء بشتى صنوفهم؛ الكافرون المشركون, والمنافقون العلمانيون, على عزل الأمة عن تاريخها, وسلكوا لذلك طرائق قدداً, كان منها ـ بل من أبرزها ـ تغييب التأريخ العربي الإسلامي الهجري.
ومن مفاسد الاعتماد على التأريخ الإفرنجي, وجعله هو الأصل في حياة الأمة وتعاملاتها: ضياع كثير من الشعائر التعبدية, والمعالم الشرعية, فلا يدري المسلم على سبيل المثال متى الأيام البيض, التي رغب النبي في صيامها, ولا يعرف ما هي الأشهر الحرم, التي أوجب الله على المؤمنين احترامها وتعظيمها, ولا يعلم ما هي أشهر الحج, التي يفعل فيها وغير ذلك من العبادات.
ومن مفاسد التأريخ بتاريخ النصارى الميلادي, وجعله أصلاً في ذلك: الوقوع في الإثم العظيم, والذنب الكبير, الذي نهى الله ورسوله عنه, وهو التشبه بالكفار وتقليدهم, والتبعية لهم, ففيه قول الله تعالى: لا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ [المائدة:48]، وقال: وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب:1]، وقال : ((من تشبه بقوم فهو منهم)) [4] , وقال : ((ليس منا من تشبه بغيرنا, لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى)) [5].
وقد نهى العلماء رحمهم الله عن تسمية الشهور بالأسماء الأعجمية, روي ذلك عن مجاهد وأحمد وغيرهما.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "الخطاب بها من غير حاجة في أسماء الناس والشهور؛ كالتواريخ ونحو ذلك, فهو منهي عنه مع الجهل بالمعنى بلا ريب, وأما مع العلم به فكلام أحمد بيّن في كراهته أيضاً ونحوه, ومعناه غير معروف" [6].
فالتأريخ بتاريخ النصارى الميلادي لا يجوز إلا لحاجة, أو تبعاً للتاريخ الهجري, فاحرصوا ـ بارك الله فيكم ـ على المحافظة على معالم شخصية أمتكم, وإياكم إياكم إياكم والتشبه بأعداء الله؛ من اليهود والنصارى والمشركين, والمنافقين والعلمانيين, وغيرهم, فإن الله قد حذركم من ذلك غاية التحذير, فقال جل ذكره: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51].
[1] أخرجه البخاري في الصوم برقم (1780), وأخرجه مسلم في الصيام برقم (1806).
[2] أخرجه البخاري في الصوم برقم (1776), وأخرجه مسلم في الصيام برقم (1796).
[3] اقتضاء الصراط 1(/474).
[4] أخرجه أبو داود في اللباس برقم (3512), وأخرجه أحمد من حديث ابن عمر برقم (4868).
[5] أخرجه الترمذي في الاستئذان والآداب برقم (2619).
[6] اقتضاء الصراط (1/464).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون, قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62]، فقد جعل الله تعالى الليل والنهار يتعاقبان, فيخلف كل واحد منهما الآخر, لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ , أي: يستدرك ما فاته من عمل, هذا مع كثرة تكرر هذا التعاقب, وقرب زمانه, فكيف ـ أيها الإخوان ـ بتعاقب الشهور وتوالي السنين؟! أليس ذلك مدعاة للتذكر والتفكر والاستدراك؟! بلى والله, فهذه دعوة لنا جميعاً أن نتوب إلى الله تعالى, ونستدرك ما فات, فإنما الأعمال بالخواتيم.
فهل لك أن تمحو الذنوب بعبرة وتبكي عليها حسرة وتندما
وتستقبل العام الجديد بتوبة لعلك أن تمحو بها ما تقدما
أيها المؤمنون, أنتم في شهر عظيم, شرفه الله تعالى وخصه دون سائر الشهور, بأن أضافه إليه, فاحفظوا حرمة هذا الشهر, فإنه من الأشهر الحرم, التي قال الله تعالى فيها: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36]. فبادروا ـ عباد الله ـ بالأعمال الصالحة فيه, لاسيما الصيام, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((وأفضل الصيام بعد شهر رمضان, شهر الله الذي تدعونه: المحرم)) [1].
شهر الحرام مبارك ميمون والصوم فيه مضاعف مسنون
فأكثروا فيه من الصوم, فإن ضعفتم عن ذلك فلا يفوتنكم صيام يوم عاشوراء, أي: يوم العاشر منه, فإن فضيلته عظيمة, وحرمته قديمة, وكان النبي يداوم ويتحرى صيامه, فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن صوم يوم عاشوراء فقال: (ما رأيت النبي يتحرى صيام يوم فضله على غيره, إلا هذا اليوم؛ يوم عاشوراء, وهذا الشهر ـ يعني شهر رمضان ـ) [2] رواه الشيخان. وكان يحث عليه ويأمر به, فعن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: ((يكفر السنة الماضية)) [3].
وأما سبب صومه: فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء, فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: هذا يوم صالح, هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم, فصامه موسى, فقال: ((فأنا أحق بموسى منكم)) فصامه وأمر بصيامه. رواه البخاري ومسلم [4].
فهذا يوم أعز الله فيه أولياءه وأحبابه, وأذل أعدائه وأعداء رسله, فلذا نحن نصومه شكراً لله تعالى على ذلك, فنصر موسى عليه السلام هو نصر لنا أمة الإسلام, قال الله تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]. فمن قال: لا إله إلا الله, وقام بتوحيد الله, وصدق رسله, ودعا إليه, فهو منا ونحن منه, مهما تباعد الزمان ونأى المكان وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52].
وبإحياء ذكرى ذلك النصر المجيد، على ذلك الطاغية الكبير، نعلن أن الدعوات لا تهزم بالأذى والحرب والاضطهاد. فإن عاقبة الظلم وخيمة. والله ناصر دينه, وكتابه, وأوليائه.
تالله ما الدعوات تهزم بالأذى أبداً وفي التاريخ بَرُّ يميني
أيها المؤمنون, إن من المعالم البارزة في شريعتكم؛ مخالفة أعداء الله تعالى وعدم التشبه بهم, لذا فإن النبي حرص على مخالفة اليهود والنصارى, وغيرهم من الكفار, في دقيق الأمر وجليله, ومن ذلك صيام عاشوراء, فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: حين صام رسول الله يوم عاشوراء وأمر بصيامه, قالوا: يا رسول الله, إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا كان العام المقبل- إن شاء الله- صمنا اليوم التاسع)) فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله. رواه مسلم.
فصوموا ـ أيها المؤمنون ـ اليوم العاشر من هذا الشهر, وصوموا اليوم التاسع, كما هم نبيكم أن يفعل ذلك.
[1] أخرجه أحمد برقم (8151).
[2] أخرجه البخاري في الصوم برقم (1867), وأخرجه مسلم في الصيام (1914).
[3] أخرجه مسلم في الصيام برقم (1976).
[4] أخرجه البخاري في الصوم برقم (1865), وأخرجه مسلم في الصيام برقم (1911).
(1/3011)
قل يا أهل الكتاب
أديان وفرق ومذاهب, الإيمان, التوحيد, العلم والدعوة والجهاد
أديان, أهمية التوحيد, الإيمان بالرسل, محاسن الشريعة
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
7/1/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بداية الخليقة. 2- من آدم إلى نوح عليهما السلام. 3- دعوة إمام الحنفاء والأنبياء بعده. 4- رسالة خاتم الأنبياء والمرسلين. 5- بشارة الأنبياء بمحمد. 6- دين الأنبياء واحد. 7- دعوة أهل الكتاب للإسلام. 8- تسلّط أهل الكتاب على بعض الشعوب والمجتمعات. 9- تأصيل لا بد من معرفته والإيمان به. 10- صيام عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، وتذكّروا أنّ الدنيا بالية وأنّ الآخرة هي دار القرار، مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:40].
وبعد: أيّها المسلمون، ويا أيّها البشرُ أجمعون، في الزمنِ الغابر وفي الماضي السّحيق وقبلَ عصورٍ ودهورٍ لا يعلَم مداها إلاّ الله وقبلَ بدء الخليقة كان الله وحدَه ولا شيءَ معه، أوّلٌ بلا ابتداء كما هو آخر بلا انتهاء، ظاهرٌ فلا شيءَ فوقَه، باطن فلا شيءَ دونه سبحانه وبحمده، قضى وقدّر في حينٍ من الدّهر أن يخلقَ الخلق ويبرأ الأنفُس، فخلق السمواتِ والأرض وما بينهما، وخلق الملائكةَ الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وبرأ الجنَّ وأخفاهم عن العيون، ثم خلقَ بيديه الكريمتين أبانا آدم، وجعل البشرَ منه ينسِلون، وقال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58]، فهو الغنيّ سبحانه، فآدمُ أوّل البشر وغُرّة الأنبياء، أمره الله بالتوحيد وإخلاصِ العبادة للعزيز الحميد، وشرع له شريعتَه، ووالي النبواتِ في ذريّته ليسوسَ الأنبياء الخلقَ ويهدوهم دينَهم الحقّ والذي ارتضى لهم.
وقد كان الناسُ على هذا الأصل، كلُّهم على الإسلام والتوحيد، جميعُهم على الهدى لاتِّباعهم النبوّة، على الفطرة أمةً واحدة، يدينون دينًا واحدًا، ويعبدون إلهًا واحدًا، حتى اجتالتهم الشياطين، وانحرَفوا عن الدين القويم، وتنكَّبوا الصراطَ المستقيم، وذلك قبلَ مبعَث نبيّ الله نوح عليه السلام، روى البخاريّ في صحيحه عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: (كان بينَ آدم ونوح عشرةُ قرون، كلُّهم على الإسلام، ثمّ لمّا وقع الخُلف بينهم في دينهم كما قال الله عز وجل: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا [يونس:19] وذلك بتركِهم اتّباعَ الأنبياء وعدم تمسّكهم بالحبل الممدود إلى السّماء، فاتّخذوا أربابًا وآلهة من دون الله؛ وَدًّا وسُواعا ويغوث ويعوقَ ونسرًا، وهذه أسماءُ رجالٍ صالحين، صوّرهم قومُهم حين ماتوا لينشطوا بذكرهم على العبادة، ثم عظّمهم من بعدَهم حتى عبَدوهم) كما ثبت ذلك في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه [1].
فأرسل الله إليهم أوّلَ رسول إلى أهل الأرض نوحًا عليه السلام، فلبِث فيهم ألفَ سنة إلا خمسين عامًا، يدعوهم إلى التوحيدِ وإخلاص العبادة لله وحدَه، فما آمن معه إلا قليل، فأنجاه الله ومن معه من المؤمنين، وأغرق بعدُ الباقين. ثمّ أرسل الله رسُلَه تترى، كلّما جاء أمّةً رسولها كذّبوه، ومنهم هودٌ وصالح عليهما السلام. ثمّ عمَّ الأرضَ شرك من نوعٍ آخر مع شرك الأصنام وهو عبادةُ الكواكب، حتى لم يبقَ من المؤمنين الموحِّدين سوى إبراهيم وزوجته سارة وابن أخيه لوط عليهم السلام، فبعث الله رسولَه إمامَ الحنفاء وأبا الأنبياء وأساسَ الملّة الخالصة والكلمة الباقية إبراهيم خليلَ الرحمن، فأزال الله به تلك الشرورَ، وكسَر الأصنام، وأهلك الله الطغاة، وأنجى خليلَه، ووهبه الولدَين المباركَين والنبيَّين الكريمين: إسماعيل وإسحاق عليهما السلام، فكان إسماعيل في جُرهُمَ والعماليق والحجاز واليمين، وبعَث الله إسحاقَ في الشام وما والاها، ثمّ جعل الله من ذريّة إسحاقَ نبيَّ الله يعقوبَ عليه السلام وهو إسرائيل الذي تسلسل منه الأنبياء والمُلوك، فيوسُف ثمّ موسى وهارون ويونس وداود وسليمان ويحيى وزكريّا وعيسى عليهم السلام، وقد جاء موسى برسالةٍ وكتاب هي اليهوديّة والتوارة، إلى أن كان آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى عليه السلام، فجاء بالنصرانيّة والإنجيل.
ولمّا كان الأنبياءُ بشرًا يموتون، وحملةُ العلم بعدَهم ينسَون ويُخطئون وقد يحرّفون، ولم يتكفّل الله ببقاء رسالاتِهم ولا حِفظ كتُبهم لحكمةٍ أرادها الله سبحانه، فقد أوحى الله لجميع الأنبياء ببشارةِ أقوامهم بنبيّ كريم ورسولٍ خاتم، رسالتُه خالدة، وكتابه محفوظ، يحمِل الأمانة التي حملها قبله الأنبياء والمرسلون، إن هم تمسّكوا بغرزة نجَوا، وإلاّ فإنّ تكذيبه تكذيبٌ لمن قبله من الأنبياء والمرسلين، هو رسولُ الله محمّد بن عبد الله الهاشمي القرشيّ، فأعطاه الله أكملَ شريعة وأعمّها، داعيًا إلى ملّة إبراهيم ودينِ المرسلين قبلَه، وهو عبادة الله وحدَه لا شريك له وإخلاصُ الدين كلِّه لله، وطهّر الأرض من عبادة الأوثان بعدَ أن وقع في الشرك غالبُ أهل الأرض من الكتابيّين وغيرهم.
محمّد رسول الله بشارةُ المسيح والأنبياء قبلَه، مذكورٌ في ثمانِ عشرة بشارةً؛ أحدَ عشر منها في العهدِ القديم، وسبعٌ في العهد الجديد، وقد جدَّ علماءُ في السوء حذفِ هذه البشارات من كتُبهم أو تحريفها وتأويلها، وهي لا تنطبِق إلاّ على نبيّ هذه الأمّة محمّد ، كما هدى الله لهذا الهدى أحبارًا من اليهود ورهبانًا من النصارى تجرّدوا للحقّ ، فهُدوا للحقيقة.
أيّها المسلمون، إنّ الناظرَ في سيرةِ الأنبياء والرّسل من لدُن آدمَ عليه السلام إلى خاتمهم محمّد يجد أن دينَ الأنبياء واحد، وصراطهم المستقيم واحد، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].
لقد بُعِثوا جميعًا بالدّين الجامع الذي هو عبادةُ الله وحدَه لا شريك له، والتعريف بالطريق الموصِل إليه، والتعريفُ بحال الخليقةِ بعد الموتِ من البعث والحِساب والجزاء، وهذه هي الوحدة الكبرى بين الرسل والرسالات، وهو المقصودُ من قول النبيّ : ((إنّا معاشر الأنبياء إخوةٌ لعلاّت، أمّهاتُهم شتّى، ودينهم واحد)) متفق عليه [2] ، فالأصل العامّ أنّ دينَ الأنبياء واحد وشرائعُهم متعدّدة، والكلّ من عند الله، وهذا هو المعنى العامّ للإسلام، اتفاقٌ على الأصول وتنوّع في الشرائع، ولم يخرج نبيّ قطّ عن دعوةِ التوحيد، قال الله تعالى لنبيّه محمّد : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وفي سورة النحل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، ولم يشرع الله لنبيٍّ أن يعبدَ غيرَ الله أبدًا، بل جعل تأليهَ الأنبياء كفرًا: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:79، 80].
وقد شرع الله لنا ما شرَعَه للرسل قبلَنا من الإسلام الذي هو دين الله: شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، ولذا تجِد يعقوبَ عليه السلام يجمَع أبناءه قُبيل موته ليطمئنّ على مسيرتِهم قبل مغادرةِ الحياة: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]، كما أنكر الله على اليهودِ والنصارى الغلوَّ في الأنبياء وعبادةَ غير الله، وسمّاه شركًا وكفرًا، قال الله سبحانه: وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:30، 31]، وقال سبحانه: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، وقال عز وجل: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:171].
فعلى هذه الأسُس القديمة والعقيدةِ التي دان بها جميعُ الأنبياء جاءت شريعةُ محمّد رسالةً خاتمة ونبوّة خالدة، فيها الإيمان بجميع الأنبياء والكتُب، أمّا الشريعة فهي جامعة لكلّ الكمالات، ناسخةٌ لكلّ الشرائع.
وبعد: أفما آن لأهل الكتاب وعلمائهم خاصّة أن يتبصّروا ليعلموا أنّ الإسلامَ هو امتداد تكميلِ الشرائع السماويّة السابقة، وأنه الدين الذي ارتضاه للخَلق جميعًا من زمَن النبيّ محمّد وإلى قيام الساعة، لا يقبل الله دينًا سواه، ولا ملّة غيره، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
ولكم أن تتأمّلوا؛ فأيّ دين في الدنيا جعل الإيمانَ بجميع الكتبِ السماوية والتصديقَ بجميع أنبياء الله ورسله ركنًا فيه؟! بل قرَّر نبيّه أنه هو وأتباعه أولَى بالأنبياء السابقين ممّن يدَّعي تبعيتَهم حين قال رسولنا محمّد ليهودِ المدينة: ((نحن أحقّ بموسى منكم)) [3] ليبيّنَ أنّ الإسلام هو المحضن الوحيد والأخير لأتباع الرسالات السابقة، وأنه الطريقُ الوحيد الموصِل إلى الله، ثمّ ألا يلفِت نظرَكم أنه على امتداد خمسةَ عشَر قرنًا لم يسجّل التاريخُ دخولَ عالمٍ مسلم واحدٍ لليهودية أو النصرانية، في حين سجّل التاريخ وبمدادٍ من نور مواكبَ من أحبارٍ ورهبان وغيرهم دانوا بشريعة الإسلام، ووصلوا حبالهم بدينه الخاتم الذي ارتضاه الله للناس جميعًا، فآتاهم الله أجرهم مرتين.
لذا، ومِن منبَع الرسالة ومهبط الوحي، ومن مِنبر البيتِ الذي بناه إبراهيمُ وحجّ إليه موسى وعيسى عليهم السلام، أوجِّه نداءً صادقًا بنداء رسولِنا محمّد إلى غير المسلمين: أسلموا تسلموا، أسلِموا يؤتكم الله أجرَكم مرّتين، وإلاّ فإنّ عليكم إثمَكم وإثمَ من يتبعونكم على جهالة. نداءٌ لقبول الحقّ ودراسة الإسلام بصدق، الإسلامِ الصحيح الذي جاء به رسول الهُدى محمّد ، الإسلام على حقيقته الخالي من البدَع والمحدثات البريء من مخالفات البشَر وأخطاء بعض المنتسبين إليه.
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنّة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4920) بمعناه.
[2] صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء (3443)، صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2365) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[3] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (2004)، ومسلم في كتاب الصيام (1130) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، نعبده ونستعينه، ونسأله أن يهديَنا صراطه المستقيم، وأن يجنّبنا طريقَ المغضوب عليهم والضالين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: إنّ ممّا يجرّ الشقاءَ على البشرية في زمنِ خلطِ المفاهيم اختطافَ بعض السّاسة دينًا من الأديان واتّخاذه مركبًا لقهر الشعوبِ أو أداةً للتسلُّط على أتباع دينٍ آخر، كما فعلت الصهيونة العالمية باليهوديّة، أو كما تفعل حكومات تدّعي العلمانيّة بدين النصرانيّة، فتقهر شعوبًا وتحتلّ دوَلاً بباعثِ الدين والتديّن. وهم وإن نفَوا هذا الباعثَ في تصريحاتهم فإنّه تبثّه فلتاتُ ألسنتهم وسَبق كلماتِهم صراحةً بلا مواربة. وإنّ علماءَ الدين في تلك الديانات مطالبون أن يبيّنوا بجلاءٍ عدمَ إقرارهم بتصرّفات حكوماتهم، وأنّ ما يحدث ليس ما تدعو إليه دياناتُهم؛ ليعلمَ الأتباع الذين يُستخدَمون في هذه الاعتداءات الذين يحسَبون أنهم يُحسنون صُنعًا ويتقرّبون إلى الله زُلفى ليعلموا أنّهم مجرّد أدواتٍ لسَاسة وخدمٍ لنزواتٍ منفلِتة، لا يحدُّها دين ولا يرعاها خلُق، وإنّ سكوتَ هؤلاء أو حديثهم على استحياء مؤذنٌ بما يسمّونه صراعَ الحضارات أو صدامها، وما جدارُ الفصل العنصريّ المغتصِب لأراضي المسلمين في فلسطين إلاّ من ذاك.
أيّها المسلمون، وكلمةٌ أخيرة في التأصيل: إنّ الواجبَ على المسلمين أن يزدادوا يقينًا بدينهم، يجب على أمّة الإسلام أن يعتقِدوا أنهم على الحقّ وحدَهم في الإسلام الحقّ، وأنه آخر الأديان، وأنّ القرآنَ آخر الكتب ومهيمنٌ عليها، ورسوله محمّد آخر الرسل وخاتمهم، وشريعته ناسخةٌ لشرائعهم، وأنّ الله لا يقبل دينًا سواه، ولا يجوز التنازلُ عن شيء من ذلك ولو ذهبت الأنفس.
نقول هذا في وقتٍ تضعضَع فيه بعض المنهزِمين فنادَوا بالخَلط بين الشرائع المنسوخة والمحرّفة وبين دين الإسلام بدعوى التقريبِ بين الأديان، وفي وقتٍ أيضًا ضعُف الإيمان لدى قومٍ فرأوا أن الصوابَ قد يشمَل الجميع، بدا ذلك من ألسنةِ بعضهم ومِن تصرّفات وأطروحات آخرين، كأنّهم لم يسمَعوا قولَ الله عزّ وجلّ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]. فأين هُم من آيات القرآن؟! أين هم من سورة الفاتحة والبقرة وآل عمران وما في النساء والمائدة؟!
ولئن نادى قومٌ بتجديد الخطاب الدينيّ فإننا حقًّا بحاجةٍ إلى تأصيلِ للخطاب الدينيّ، والتأصيل هو التجديد الشرعيّ كما في السنة، اللهمّ أرِنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
ثمّ اعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ صيامَ اليوم العاشر من شهرِ الله المحرّم يكفّر [سنة]، فصوموه وصوموا يومًا قبلَه أو يومًا بعده، فهذه هي سنّة نبيّكم محمّد حين صام هذا اليوم شكرًا لله على أن أنجى موسى وقومَه، وأغرق فرعونَ وقومه.
وإنّ من المفارقات العجيبة أنّ هذا اليومَ السعيد تحوّله فئة من المنتسبين للإسلام إلى مأتمٍ دائم ومناحة لا تنقطع، في صورةٍ يتجلّى فيها الجهلُ بالدين واتّباع المضلّين بلا عقلٍ رزين، فيا أولئك صحِّحوا المسير إلى الله، واتّبعوا هديَ البشير النذير.
أيها المسلمون، إنّ الله تعالى أمركم بأمر فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:65].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، واخذلِ الطغاة والملاحدةَ والمفسدين...
(1/3012)
خطبة عيد فطر 1419هـ
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
1/10/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل يوم العيد. 2- شكر الله تعالى على نعمه. 3- فتنة الفضائيات. 4- الخشية من عدم القبول. 5- واقع الأمة المزري. 6- كلمات للأخوات المسلمات. 7- الحث على المحافظة على الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره...
أما بعد: أيها المسلمون، إن يومكم هذا يوم عظيم، وعيد كريم، فأقول لكم: كل عام وأنتم بخير، تقبل اللهم مني ومنكم، أسأل الله جل وتعالى أن يجعلني وإياكم وجميع إخواننا المسلمين من المقبولين، ممن تقبل الله صيامهم وقيامهم وكانوا من عتقائه من النار.
أيها المسلمون، إن هذا اليوم يوم عظيم من أيام المسلمين، يوم كله برٌ وإحسان، خرج المسلمون إلى مصليات الأعياد متطهرين مكبرين شكراً لله تعالى على إتمام شهر الصيام، وعونه على القيام.
لقد حضر المسلمون وقصدوا مصلاهم وقد أدوا زكاة فطرهم للفقراء والمساكين فرحين مكبرين مهللين، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر والله الحمد.
أيها المسلمون، يقول الله جل وتعالى: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185]، أما العدة أيها الأحبة فأكملناها، والتكبير كبّرنا، أو قُل كبّر بعضنا لكن بقي علينا جميعاً وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
عباد الله، بم نبدأ شكر الله؟ أنبدأ بالشكر على نعمة الإسلام، أم نبدأ بالشكر على نعمة إتمام رمضان.
ما أعظمك يا ربنا وما أرحمك يا ربنا، أبقيتنا أحياء حتى أدركنا رمضان، وأبقيتنا حتى أتممنا صيامه، وغيرنا في بطن الأرض يتمنى أن يسجد لك سجدة، ما أرحمك يا ربنا، فتحت أبواب الجنان، وأغلقت أبواب النيران وكتبت من كتبت في سجل العتق من النار، فلك الحمد على الصيام ولك الحمد على القيام ولك الحمد على الدعاء ولك الحمد على تلاوة القرآن.
إذا كان شكري نعمة الله نعمة عليّ له في مثلها يجب الشكر
فكيف وقوع الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر
إذا مس بالسراء عم سرورها وإن مس بالضراء أعقبها الأجر
وما منها إلا له فيه منّة تضيق بها الأوهام والبر والبحر
الله أكبر الله أكبر لا اله إلا الله الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
إن شكر الله تعالى أيها المسلمون درجات، تبدأ بالاعتراف بفضله والحياء من معصيته وتنتهي بتجريد الشكر له جل وعلا، وذلك بأن نترجم الشكر إلى أقوال وأعمال، فتكون أعمالنا كلها دالة على شكره، قال الله تعالى: ?عْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ?لشَّكُورُ [سبأ:13].
أيها المسلمون، قال ربكم جل جلاله: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، فإن كنا حقاً نحرص على شكر الله فلنري الله من أنفسنا خيراً بعد شهر الصيام والقيام.
يا حسرتى على دموع سكبت في المساجد ويا حسرتى على دعوات رفعت من أجلها الأيدي إلى السماء ويا حسرتى على حضور مع الجماعة وتلاوة للقرآن طوال الشهر فأعقب ذلك كله عودة إلى المعاصي، وتفريط بالصلوات وهجر للقرآن واستهانة بالمحرمات وإهمال للمسئوليات، اللهم إنا نعوذ بك من الحور بعد الكور ونعوذ بك من أن نبدل نعمتك كفراً ونحن نستقبل أيام العيد.
وقد قيل: من أراد أن يعرف أخلاق الأمة فليراقبها في أعيادها، إذ تنطلق فيه السجايا على فطرتها، وتبرز العواطف والميول والعادات على حقيقتها، والمجتمع السعيد الصالح هو الذي تسمو أخلاقه في العيد إلى أرفع ذروة.
ولقد رأى أحد السلف قوماً يعبثون في يوم العيد بما لايرضي الله فقال: إن كان هؤلاء تُقُبِّل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كانوا لم يُتقَبّل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين.
أيها المسلمون، إننا نعيش زمن فتن، والسالم من سلّمه الله، وإن من أعظم فتن هذا الزمان التي فتنت الصغير والكبير والرجل والمرأة، والتي ما تركت بيتاً إلا دخلته، إلا من رحم الله وهم قليل، ألا وهي فتنة الفضائيات والتي حقيقتها فضائحيات، قَلّ من لم يدخل من المسلمين في بيته صحن الدش الذي من خلاله تستقبل هذه المحطات، وقد تحدثت مراراً وتحدث غيري حول هذا الموضوع الخطير ومع الأسف قل من يستجيب، فلعلي أستغل جمعكم هذا وقد خرجتم لتوّكم من شهر الصيام، شهر التوبة والرجوع إلى الله، فأقول لك يا أخي ياصاحب الدش: انج بنفسك من النار، خلّص رقبتك من نار جهنم، مما أدخلته على أولادك وأهل بيتك، وأنت تعلم جيداً ما تبثه هذه القنوات من مواد، لم تعد حجة متابعة أخبار العالم مقبولة ولا مستساغة حتى عند من يحتجون بها، لأن ما فيها من الشر والدمار والهلاك لدين المرء وخلقه مئات أضعاف ما فيها من أخبار.
لقد تعوّد أولادكم أيها المصلون أن يشاهدوا الدعارة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، أليس ظلماً منك لولدك أن تعوده على رؤية المرأة والرجل في وضع الزوجين، وتعوده على مشاهدة القُبَل المحرمة بل وفي ليالي رمضان، ألا تظن أنك ستوقف بين يدي الله وتُسأل عن تعليمك لولدك وبنتك طرق المعاكسات وأساليب ارتكاب الفاحشة، بالطبع ستقول: لم أفعل هذا، لكنك قد فعلت شئت أم أبيت عن طريق إدخال الدش في بيتك.
كنت أُقلب أحد الأعداد من مجلة أصداف وهي أحد المجلات السيئة التي تباع عندنا فتعجبت مما تنشره المجلة بكل جرأة وصراحة وإن كان هذا أمراً معلوماً من قبل وليس سراً، لكن الغريب كما قلت لكم هو الجرأة والصراحة والنشر. فبالخط العريض: مدير محطة "إل بي سي" يعترف علناً بأن المحطة تركز على الجنس وأن هذا هو الذي يجذب المشاهد العربي. وفي نفس العدد وفي أحد الحوارات التي أجريت مع مالك إحدى المحطات الفضائية المعروفة في الوطن العربي إعترف علانية وبصراحة بأن محطته تستخدم المذيعات الجميلات اللواتي يجدن الإثارة والإغراء والبرامج ذات الطابع الجنسي لاستقطاب المشاهدين وخاصة من دول الخليج.
فيا أولياء أمور البنين والبنات، لا أظن بأن خطر القنوات الفضائية لم يعد واضحاً لكل عاقل، فإني أخاطب الإيمان الذي في قلوبكم، وأخاطب الإسلام الذي تعتنقون، وأنتم أعلم مني بأن ما يعرض في بيوتكم عبر هذه الدشوش أنه يخالف إسلامكم الذي تعتنقون، ويضاد إيمانكم الذي تحملون.
فاتقوا الله أيها المسلمون، نصيحة مشفقٍ عليكم أقولها لكم مرة أخرى، انجوا بأنفسكم من النار، انجوا بأنفسكم من النار. فوالله إنها نارٌ محرقة، سوداء مظلمة، أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، وأوقد عليها ألف عام حتى احمرت، وأوقد عليها ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة.
وياليت خطورة الفضائيات كانت مقتصرة على النواحي الأخلاقية، إنها تهدد أيضاً أمن البلاد من خلال بث الأفكار المنحرفة الدخيلة على مجتمعنا، ومن خلال تعليم الناشئة طرق ارتكاب الجريمة، وطرق الاغتصاب، وإتقان عمليات السطو والسرقة والقتل بل وحتى كيفية صنع المتفجرات من بعض المواد المتاحة، وغيرها من الأشياء التي تعرض على أنها أفلام، وهي في حقيقتها بث لهذه السموم ومحاولةٌ لزرعها في المجتمعات الآمنة والمحافظة، فمن المستفيد من ترويج هذه الأفلام؟ ومن المغبون؟ وليت المسألة وقفت عند فلم أو مسلسل وانتهى الأمر، لكن الواقع الذي نشاهد أن الأمر لا ينتهي، بل هناك من يحاول أن يطبق في النهار ما تعلّمه في الليل من هذه القنوات، ويكفينا بعض الجهات المسئولة التي تشتكي من زيادة نسبة الجرائم الأخلاقية والجنائية، من هيئة الأمر بالمعروف والشرطة والمحاكم وغيرها.
لماذا تأخر عنّا المطر أيها الأحبة، كم مرّة صلينا الاستسقاء ومع ذلك لم نُجب، هل لكثرة أعمالنا الخيرية؟ أم لزيادة في نوافل الخير والطاعات؟ إنه لا تفسير لهذه الظاهرة كما نعلم جميعاً من ديننا إلا المعاصي، بسبب ما نرتكب من معاصي بأيدينا وأرجلنا ليل نهار، وهل هناك معصية أعظم من معصية الفضائيات.
أسألكم أيها الأحبة، من منّا جاءه علم من ربه أنه قبل صيامه وقيامه؟ من جاءه علم من ربه أنه كتب من العتقاء من النار؟ إن الله تعالى يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، فهل من صفات المتّقين أن نرجع إلى الوراء ونحرق الحسنات بلهيب السيئات. لقد أثبت الواقع العملي لدى بعض المسلمين، أنهم ليسوا حريصين على قبول طاعاتهم ذلك أن علامة قبول الطاعة أن يوفق العبد لطاعة بعدها، ومن أعظم الطاعات فعل الواجبات والكف عن المعاصي التي لا مرية فيها، فانظر أين موقفك يا عبد الله، شهر كامل وأنت تجاهد النفس وتصّبرها، وتجمع الحسنات وتحسبها، فهل بعد هذا تراك تنقضها، إن الله تعالى يقول: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـ?ثًا [النحل:92].
أيها المسلمون، لقد جاءنا العيد وواقع الأمة مؤلم والله المستعان، أعداء الأمة يسومونها سوء العذاب، اليهود من جهة، والنصارى من جهة، والملاحدة والباطنيون من جهة، وكلهم من الخارج، ومنافقون من داخلها، من بني جلدتها ويتكلمون بلسانها، لكن قلوبهم معلقة ومتجهة نحو الغرب أو الشرق. إن واقع الأمة اليوم، لا يخفى على عاقل، أراضيها من أوسع بلاد الله، خيراتها من أغنى بلاد الله، شعوبها من أكثر الشعوب عدداً، وفي المقابل، أراضيها مسلوبة، خيراتها منهوبة، شعوبها مظلومة، الفقر يقتلها، والجهل ينهكها، وفوضى لا أول لها ولا آخر، عقولها محجّمة، طاقاتها معطّلة، أموالها مبددة. واليوم هناك حروب ضروس، موجه خنجرها في صدر العالم الاسلامي والعربي وهي الحرب الاقتصادية والتي من خلالها يلعب الغرب وفي مقدمتها دولة عاد الكبرى ومن ورائها عملائها من اليهود يلعبون في ميزانيات كثير من الدول، فأغرقوا معظم دول العالم إلا من رحم الله في ديون خارجية تصب فوائدها في جيوبهم وتدفعها الدول المديونة بل وأجيال متعاقبة تكتوي بنار هذه الفوائد الربوية. ومن خلال هذه الحرب الباردة سيطر الغرب على معظم الدول بل ووجهت سيساتها الخارجية والداخلية.
تسأل وإلى متى سيبقى المسلمون هكذا، وإلى متى وواقع الأمة مظلم أسود، لقد تاقت نفوس المخلصين إلى منقذ للأمة من واقعها، أسأل الله جل وعز أن يكون عاجلاً غير آجل. وكلّنا أمل أن يبارك الله في هذه الصحوة المباركة، وفي هذا الشباب المقبل على دينه بأن يكون فاتحة الخير على يديه.
أمّا عن واقع الأمة الحالي وفي أثناء أيام العيد، فقد أحسن ذلك الشاعر حين وصف حالها فقال:
قتل وتعذيب وتشريد فمتى سيغمر كوننا العيد
ومتى متى يا أمتي فرحي ومتى متى ستزغرد الغيد
في كل أرض صرخةٌ لفم دوّت فدوّت بالصدى البيد
لكننا نلهو فلا غضب نبدي ولا الإيثار موجود
وكأن وقراً قد تغلغل في آذاننا فالسمع مسدود
صرب وصهيون تمزقنا وسلاحنا في الصدر تنديد
والمجلس المأمول في شغل عنا يماطل فوقه الهود
والنخوة القسعاء صادرها متفرد في الرأي نمرود
وإذا العروبة تنبري شيعاً عادت إليها الأزمن السود
يا أمة شاخ الزمان بها وعلت محياها التجاعيد
عاث الخلاف بها وفرقها بعدٌ عن الإسلام مشهود
الهدي فيها وهي ضائعة يقتادها القيثار والعود
قد خدّرت بفم منغمة شغلت بها والسيف مغمود
في كل يوم يستباح بها دم يقامر فيه عربيد
يا أمتي ما ضاع يُرجعه سيف به الإيمان معقود
يا أمتي هذا الكتاب لنا ولنا به عز وتسويد
فإذا به سرنا سيغمرنا نصر من الرحمن موعود
[البيان: 110/41].
فنسأل الله جل وتعالى أن يفرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم فرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فرجاً عاجلاً غير آجل.
نفعني الله واياكم بهي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول هذا القول وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معيد الجمع والأعياد، ومبيد الأمم والأجناد، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه أن الله لا يخلف الميعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا مضاد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المفضّل على جميع العباد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وعلى أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وسلم تسليماً كثيراً.
الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
الله أكبر الله أكبر لاإله إلا الله ،والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أما بعد: فيا أيتها الأخوات الحاضرات معنا في هذا المشهد العظيم، الممتثلات أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهود الخير ودعوة المسلمين أسأل الله جل شأنه بكل اسم هو له، أن يجعلنا وإياكنّ ممن قال فيهم سبحانه: إِنَّ ?لْمُسْلِمِينَ وَ?لْمُسْلِمَـ?تِ وَ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَ?لْقَـ?نِتِينَ وَ?لْقَـ?نِتَـ?تِ وَ?لصَّـ?دِقِينَ وَ?لصَّـ?دِقَـ?تِ وَ?لصَّـ?بِرِينَ وَ?لصَّـ?بِر?تِ وَ?لْخَـ?شِعِينَ وَ?لْخَـ?شِعَـ?تِ وَ?لْمُتَصَدّقِينَ وَ?لْمُتَصَدّقَـ?تِ و?لصَّـ?ئِمِينَ و?لصَّـ?ئِمَـ?تِ وَ?لْحَـ?فِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ?لْحَـ?فِظَـ?تِ وَ?لذ?كِرِينَ ?للَّهَ كَثِيراً وَ?لذ?كِر?تِ أَعَدَّ ?للَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35].
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن خطب الرجال، في مثل هذا اليوم الأغرّ، مشى متوكئاً على بلال رضي الله عنه، وخطب النساء، وكان من خطبته أنه تلا عليهنّ آية مبايعة النساء في سورة الممتحنة، ثم أمرهنّ بالصدقة وقال لهنّ: ((تصدّقن فإن أكثركنّ حطب جهنم)) ، فقالت امرأة من وسط النساء: لماذا يا رسول الله؟ فقال: ((لأنكنّ تكثرن الشكاية وتكفرن العشير)) فجعلن رضي الله عنهنّ يلقين من قروطهنّ وخواتيمهنّ وقلائدهنّ في ثوب بلال رضي الله عنه، صدقةً لله.
فيا أيتها الأخوات ويا أيتها الأمهات، اتقين الله تعالى وكنّ خير خلف لخير سلف.
أيتها النساء، إن عليكنّ أن تتقين الله في أنفسكنّ وأن تحفظن حدوده وترعين حقوق الأزواج والأولاد، فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله.
أيتها النساء، إن المرأة في هذا الزمان وفي هذا العصر بالذات تعاني أكثر مما كانت تعاني منه المرأة من قبل، ولا يخفاكنّ الهجوم الشرس الذي يوجه في هذا الوقت، في كل بلاد العالم بشكل عام وفي بلدان المسلمين بشكل خاص من قبل أعداء الشريعة وخصوم الملة من الخارج والداخل ممن تربوا على فكر الغرب العفن، وتشربوا زبالة إنتاجه، فهناك محاولات كثيرة في إخراج المرأة من بيتها بأية حجة، وقد نجحوا في كثير من الجوانب لتحقيق ما يريدون، وهناك نداءات مباشرة تارة، وغير مباشرة تارات، حول قيادة المرأة للسيارة وهناك وهناك، أشياء وأشياء يُكاد فيها للمرأة، والمتتبع للصحف والمجلات يدرك ذلك، لكن أملنا كبير بعد الله تعالى بكنّ أيتها النساء أن تكنّ على مستوى هذا التحدّي، وأن لا تُفتنّ مع من انزلق في هذا التيار.
أيتها النساء، إياكنّ والخروج إلى الأسواق بالتبرج والطيب وربما كشف الوجه واليدين أو وضع ساتر رقيق لا يستر، فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صنفان من أهل النار لم أرهما بعد، وذكر نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهنّ كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنّة ولا يجدن ريحها)).
أيتها النساء، إياكنّ ثم إياكنّ من لبس البنطلون فإنه حرام ولا يجوز للمرأة لبسه، وإن كان أمام النساء، ومع الأسف انتشرت هذه الظاهرة عندنا، ولم تكن معروفة من قبل، وهذا أحد الأمثلة فيما نجح المفسدون في إدخاله على مجتمعنا وإلباسه لنسائنا.
أيتها النساء، لا تدخلن المطاعم بحجة أنها من قسم العوائل، فإن هذه عادة قبيحة، وهو مما أدخله المفسدون علينا أيضاً، فكم تحزن عندما ترى بعض الأسر المحافظة والمعروفة، يرتادون هذه المطاعم دون أية غضاضة أو حرج.
أيها المسلمون والمسلمات، إن كان من وصية جامعة خاتمة أوصي بها نفسي أولاً ثم أوصيكم جميعاً ذكوراً وإناثاً ونحن في هذا اليوم العظيم من أيام الله تعالى، خصوصاً بعد انقضاء شهر رمضان، فإنها تقوى الله تعالى في السرّ والعلن، ثم أوصيكم بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ جعل يقول وهو يجود بنفسه: ((الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)) ، إنه لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، من تركها فعليه لعنة الله، من تركها خرج من دين الله، من تركها انقطع عنه حبل الله، من تركها خرج من ذمة الله، من تركها أحل دمه وماله وعرضه، تارك الصلاة عدو لله، تارك الصلاة عدو لرسول الله، تارك الصلاة عدو لأولياء الله، تارك الصلاة مغضوب عليه في السماء، ومغضوب عليه في الأرض، تارك الصلاة لا يؤاكل ولا يشارب ولا يجالس ولا يرافق، ولا يؤتمن. تارك الصلاة خرج من الملة، وتبرأ من عهد الله، ونقض ميثاق الله، إنه لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
(1/3013)
فتح بيت المقدس
سيرة وتاريخ
معارك وأحداث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
2/3/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إفساد النصارى لما استولوا على بلاد الشام. 2- التقاء الجيشين في حطين. 3- وقائع المعركة. 4- نتائج المعركة. 5- غيرة السلطان صلاح الدين لدين الله تعالى ورسوله. 6- العزم على فتح بيت المقدس. 7- وقائع معركة فتح البيت المقدس. 8- فتح بيت المقدس وما جرى فيه من أحداث. 9- خطبة محيي الدين زنكي. 10- معاناة المسلمين في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: استولى النصارى على بلاد الشام، وذلك في القرن السادس الهجري، وعاثوا فيها فسادًا، وهذا شأن النصارى، كلما حلوا بأرض، فإنهم ينشرون فسادهم، ويبثون سمومهم.
ومن أقبح ما فعله النصارى، قبحهم الله، إضافة إلى مضايقتهم المسلمين أنهم لم يتركوا المسلمين يعيشون في بلادهم بحرية وإن كانوا دائمًا يرفعون شعار الحرية، وحقوق الإنسان كذبًا وزورًا، إضافة إلى هذا، مُنع الأذان في كثير من بلاد الشام نحو تسعين سنة، بما في ذلك المسجد الأقصى ووضعت الصلبان في كل مكان، حتى قبة الصخرة، رفعوا عليه صليبًا كبيرًا، وأدخلوا الخنزير في مساجد المسلمين وفعلوا وفعلوا أعظم من هذا.
لكن هذه الغشاوة، انقشعت عن المسلمين ولله الحمد، في معركة حطين وذلك بعدما زادت جرائم النصارى، وبلغ الظلم والقهر حده، عزم السلطان صلاح الدين على غزو النصارى، وتطهير البلاد منهم، وتخليص المسلمين من جرائمهم. فبرز السلطان من دمشق وسار بجيشه، لكنه انتظر قدوم ورجوع الحجاج، لأن النصارى كانوا يتعرضون لقوافل الحجاج أحيانًا، وهم راجعون إلى الشام فلما جاز الحجيج سالمين نزل الجيش في منطقة، وانتظروا اكتمال الجيوش الإسلامية، فجاءت العساكر المصرية وتوافت الجيوش المشرقية فاجتمعوا حوالي اثني عشر ألفًا، فرَتب الجيش وسار قاصدًا بلاد الساحل حيث تجمع النصارى. فسمع النصارى بتجمع المسلمين، فجهزوا جيوشهم وجاءوا بحدهم وحديدهم، واستصحبوا معهم الصليب، يحمله عباد الطاغوت في خلق لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل، حتى قيل أن عددهم كانوا قرابة الستين ألفًا، فتقدم المسلمون، وأول ما استولوا عليه بحيرة طبرية، واستفاد المسلمون بما فيها من الأطعمة والأمتعة وغير ذلك، وصارت البحيرة في حوزة المسلمين، ومنع الله الكفرة أن يصلوا منها إلى قطرة ماء، حتى صار النصارى في عطش عظيم، فتقدم المسلمون إلى سطح الجبل الغربي من طبرية عند قرية يقال لها: حطين.
وجاء النصارى وقد اجتمع ملوكهم من كل نواحي بلاد الشام، فتواجه الفريقان، وتقابل الجيشان وأسفر وجه الإيمان، وأظلم وجه الكفر والطغيان، ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان، وذلك عشية يوم الجمعة، فبات الناس على مصافهم، وأصبح صباح يوم السبت، الذي كان يومًا عسيرًا على الكافرين، فطلعت الشمس على وجوه النصارى واشتد الحر وقوي بهم العطش وكان تحت أقدام خيولهم حشيش قد صار هشيمًا من كثرة الدك، فصار ذلك شؤمًا عليهم، فأمر قائد المسلمين صلاح الدين الأيوبي، أن يرمي عليهم بشظايا من النار، فتأجج الهشيم تحت سنابك خيول النصارى، فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال، وتبارز الشجعان، ثم أمر السلطان بالتكبير والحملة الصادقة على النصارى، فحملوا عليهم، وكان النصر من الله جل وعلا، فمنحهم الله أكتافهم، فقتل منهم ثلاثون ألفًا في ذلك اليوم، وأسر ثلاثون ألفًا من شجعانهم وفرسانهم وكان في جملة من أسر جميع ملوكهم، سوى ملك طرابلس فإنه انهزم في أول المعركة، وسلب المسلمون صليبهم الأعظم وقد غلفوه بالذهب واللآلئ والجواهر النفيسة، ولم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله ودفع الباطل وأهله، حتى ذكر أن بعض الفلاحين رآه بعضهم يقود نيفًا وثلاثين أسيرًا من النصارى قد ربطهم بطنب خيمة، وباع بعضهم أسيرًا بنعل ليلبسها في رجله، وجرت أمور لم يُسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين.
أيها المسلمون، فلما تمت هذه المعركة ووضعت الحرب أوزارها أمر السلطان بضرب مخيم عظيم، وجلس فيه على سرير المملكة وعن يمينه ويساره الأسرى، تتهاوى بقيودها فأمر بضرب أعناق جماعة منهم كان يذكر الناس عنهم شرًا، ثم جئ بملوكهم فأجلسوا عن يمينه ويساره على مراتبهم، فأجلس ملكهم الكبير عن يمينه وبقيتهم عن شماله ثم جيء السلطان بشراب طيب فشرب منه ثم ناوله الملك فشرب، فتكلم أحد ملوك النصارى، وتعرض للرسول صلى الله عليه وسلم، غضبًا منه لقومه الذين هزموا وقتلوا، فغضب السلطان وقام من مكانه وتحول إلى خيمة داخل تلك الخيام واستدعى ذلك الملك، فلما أوقف بين يديه قام إليه بالسيف ودعاه إلى الإسلام فامتنع، فقال له: نعم أنا أنوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانتصار لأمته، ثم قتله وأرسل برأسه إلى الملوك وهم في الخيمة، وقال لهم: إن هذا تعرض لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هكذا كان مواقف سلاطين المسلمين، مع ملوك النصارى، عندما كانوا يتعرضون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو للدين. وهرب كثير من النصارى في ذلك اليوم وهم جرحى فمات أغلبهم ببلادهم، وكان ممن مات ملك طرابلس الذي انهزم جريحًا فمات بها بعد مرجعه ثم أُرسل الصليب الكبير إلى دمشق ليودع في قلعتها فأُدخل الصليب منكوسًا. ثم تحرك السلطان، واسترجع كثيرًا من بلاد الشام يأخذها بلدًا بلدًا، إقليم الأردن ثم سار إلى عكا ثم صيدا ثم بيروت ثم رجع نحو غزة وعسقلان ونابلس وبيسان وأراضي الغور، فملك ذلك كله، وغنم الجيش من هذه الأماكن شيئًا كثيرًا، ثم إن السلطان أمر جيوشه أن ترتاح في هذه الأماكن عدة شهور، لكي تتجهز لفتح بيت المقدس، فانتشر الخبر على عزم المسلمين فتح بيت المقدس، فطار الناس بهذا الخبر، فجاء العلماء والصالحون تطوعًا، فاجتمع من عباد الله ومن الجيوش شيء كثير جدًا، فعند ذلك قصد السلطان صلاح الدين القدس بمن معه، فنزل غربي بيت المقدس فوجد البلد قد حصنت غاية التحصين وكانوا ستين ألف مقاتل والتحق بهم من فر ونجا يوم حطين. فأقام صلاح الدين خمسة أيام وسلم إلى كل طائفة من الجيش ناحية من السور وأبراجه، ثم تحول هو إلى ناحية الشام لأنه رآها أوسع للمجال والجلاد والنزال وقاتل النصارى دون البلد قتالاً هائلاً وبذلوا أنفسهم وأموالهم، ولكن في سبيل الشيطان، واستشهد في الحصار بعض أمراء المسلمين، فحنق عند ذلك كثير من الأمراء والصالحين واجتهدوا في القتال ونصب المجانيق، وغنّت السيوف، والعيون تنظر إلى الصلبان منصوبة فوق الجدران وفوق قبة الصخرة صليب كبير، فزاد ذلك أهل الإيمان شدة في التشمير وكان ذلك اليوم يومًا عسيرًا، على الكافرين غير يسير، فبادر صلاح الدين بأصحابه إلى الزاوية الشرقية الشمالية من السور فنقبها وحشاها وأحرقها فسقط ذلك الجانب وخرّ البرج برمته فلما شاهد النصارى ذلك الحادث الفظيع والخطب المؤلم الوجيع، طلبوا الأمان والصلح، فرأى صلاح الدين أن ذلك أصلح وإن كان في البداية امتنع ورأى قتل كل النصارى، فرضي بالصلح على أن يبذل كل رجل منهم عن نفسه عشرة دنانير وعن المرأة خمسة دنانير وعن كل صغير وصغيرة دينارين، ومن عجز عن ذلك كان أسيرًا للمسلمين، وأن تكون الغلات والأسلحة والدور للمسلمين، وأنهم يخرجون كلهم من بيت المقدس، فكتب الصلح بذلك. فكان جملة من أسر بهذا الشرط ستة عشر ألف أسير من رجال ونساء وولدان.
ودخل صلاح الدين بيت المقدس يوم الجمعة قبل وقت الصلاة. ولم يتمكن المسلمون من إقامة صلاة الجمعة في تلك الجمعة لضيق الوقت وأقيمت في الجمعة القادمة وكان الخطيب محيي الدين بن الزكي. فدخل المسلمون المسجد الأقصى، ونظفوا المسجد مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير، وأعيد إلى ما كان عليه في الأيام الإسلامية، وغسلت الصخرة بالماء الطاهر، وأعيد غسلها بماء الورد والمسك، وأبرزت للناظرين، وقد كان النصارى قلعوا منها قطعًا فباعوها بوزنها ذهبًا، فتعذر استعادة ما قطع منها. ثم قبض من النصارى ما كانوا بذلوه عن أنفسهم من الأموال، وأطلق صلاح الدين خلقًا منهم، بنات الملوك بمن معهن من النساء والصبيان والرجال ووقعت المسامحة في كثير منهم، وشفع في أناس كثير فعفا عنهم، وفرق صلاح الدين جميع ما قَبض منهم من الذهب في العسكر، ولم يأخذ منه شيئًا، وكان رحمه الله حليمًا كريمًا مقدامًا شجاعًا رحيمًا.
أيها المسلمون، ولما تطهر بيت المقدس مما كان فيه من الصلبان والنواقيس والرهبان والقسس، ودخل أهله الإيمان ونودي بالأذان، وقرئ القرآن، ووحد الرحمن كان أول جمعة صلاها المسلمين بعد يوم الفتح بثمانية أيام، وذلك بعد توقف الصلاة تسعين سنة والله المستعان، وأُتي بالمنبر، وهذا المنبر له قصة، وهي أن نور الدين وكان هذا قبل صلاح الدين رحمهما الله أجمعين كان قد عزم على فتح بيت المقدس وطرد النصارى وإرجاع الأذان والصلاة والجمعة فيها، فلما عزم على جهاد النصارى، صنع المنبر الذي سوف يوضع هناك، قبل الجهاد، وذلك لقوة يقينه بنصر الله عز وجل، فتوفي رحمه الله قبل أن يتم الله له ما أراده، فأكمل المشوار بعده صلاح الدين، فلما كانت الجمعة أُحضر ذلك المنبر ونصب إلى جانب المحراب ثم بسطت البسط وعلقت القناديل وتلي التنزيل وجاء الحق وبطلت الأباطيل وصفت السجادات وكثرت السجدات وتنوعت العبادات وارتفعت الدعوات ونزلت البركات وانجلت الكربات وأقيمت الصلوات، وأذن المؤذنون وخرس القسيسون، وعُبد الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وكبره الراكع والساجد، والقائم والقاعد، وامتلأ الجامع وسالت لرقة القلوب المدامع، فلما أذن المؤذن للصلاة قبل الزوال، كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال لأن الأذان لم يرفع في ذلك المسجد ثنتين وتسعين سنة.
فنسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحقق آمالنا في القدس مرة أخرى وأن يخلصها من وطأة يهود، كما خلصها من النصارى وأن يهيئ لهذه الأمة، أمثال صلاح الدين ونور الدين، فيقفوا مواقف الحكام الصادقين المخلصين، الحريصين على دينهم وأمتهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
لحى الله اليهود فما أقاموا لعهد الله في المحراب وزنا
بلادي كل أرضٍ ضح فيها نداء الحق صبّاحًا مغنّى
ودوى ثم بالسبع المثاني شباب كان للإسلام حصنا
ترى القدس الحزين لنا ينادي وما من سامع قد هبّ منّا
ينادي المغرب المقدام مصرًا ويدعو قُدسُ لبان المعنّى
ويهوى القلب شهباء المعالي وفي بغداد للإسلام معنى
إلى الصومال آذتها جراح ففي صنعاء إخوان المثنى
نفعني الله وإياكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فكم كانت نفوس المسلمين مشتاقة لأن تسمع أول خطبة يقام في بيت المقدس بعد هذا الانقطاع الطويل، ولم يكن قد عين الخطيب الرسمي فأمر صلاح الدين أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي خطيبًا، فلبس رحمه الله عباءته وخطب في الناس في ذلك اليوم خطبة سنية فصيحة بليغة، وذكر فيها شرف بيت المقدس وما ورد فيها من الفضائل والترغيبات وما فيه من الدلائل والأمارات، وكان أول ما قال رحمه الله أن قرأ هذه الآية: فَقُطِعَ دَابِرُ ?لْقَوْمِ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ وَ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأنعام:45]، ثم أورد تحميدات القرآن كلها ثم قال: "الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومزيد النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدر الأيام دولاً بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاض على العباد من طله وهطله الذي أظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع، أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه ونصرة أنصاره، ومطهر بيت المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه وأرضى به ربه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، رافع الشكر، وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أسرى به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السماوات العلى، إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، مازاع البصر وما طغى، صلى الله عليه وعلى خليفته الصديق السابق إلى الإيمان وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان، ذي النورين جامِع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسر الأصنام وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
ثم ذكر الموعظة وهي مشتملة على تغبيط الحاضرين بما يسّره الله على أيديهم من فتح بيت المقدس، فذكر فضائله ومآثره وأنه أول القبلتين، وثاني المسجدين، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تقعد الخماصر بعد الموطنين إلا عليه، وإليه أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام، وصلى فيه بالأنبياء والرسل الكرام، ومنه كان المعراج إلى السموات ثم عاد إليه ثم سار منه إلى المسجد الحرام على البراق، وهو أرض المحشر والمنشر يوم التلاق وهو مقر الأنبياء ومقصد الأولياء، وقد أسس على التقوى من أول يوم. إلى آخر تلك الخطبة البليغة الجامعة.
فنسأل الله عز وجل، أن يحقق للمسلمين آمالهم وأن يُرجع لهم قدسهم وأن لا ينسوا القدس كما نسوا الأندلس من قبل وذلك في وسط ما يُضلل به المسلمون.
خلت فلسطين من أبنائها النجب واقفرت من بني أبنائها الشهب
طارت على الشاطئ الخالي حمائمه واطلعت سفن الإسلام والعرب
يا أخت أندلسٍ صبرًا وتضحية وطول صبر على الأرزاء والنوب
ذهبت في لجة الأيام ضائعةً ضياع أندلس من قبل في الحقب
وطوحت ببنيك السيف نازلة بمثلها أمة الإسلام لم تُصبِ
أيها المسلمون، إن لكم إخوانًا على أرض فلسطين، يواجهون هذه الأيام أبشع صور المجازر الوحشية، يقتل منهم كل يوم بالعشرات، وما تشاهدون وتسمعون عبر وسائل الإعلام لا يعد شيئًا لما هو على الحقيقة، وما لا يعرض ولا يذاع أضعاف أضعاف ما يعرض ويذاع، فإلى الله المشتكى، لكن أملنا كبير بالله عز وجل، وكما حصل الفتح الأول وسمعتم بعض أخباره، فإنّا على يقين بالفتح الثاني، وستعود القدس لأهلها إن شاء الله تعالى، هذا الأمل أيها الأحبة لم يأتي من فراغ، بل هو خبر صادق ووعد يقين، أمل منبعه كتاب الله ومشربه سنة رسول الله. وإن الأمة في انتظار هذا الأمل على أحر من الجمر.
أمل يخاطب خلسةً وجداني والطير يثقل كاهل الأغصان
أمل أحس به إذا انهار الظلام وقام صرح الصبح كالبنيان
وأحسه والطفل يبتدأ الخطى يهوي فينهض واهي الأركان
أمل يروادني وإن قيدت بالأغلال أو عذبت بالإحسان
أمل يراودني وإن ألجمت قلة حيلتي فكتمت سحر بياني
ويظل يحدوني على رغم الجراح تفتني وتغوص في وجداني
أمل يحدثني بعودة عزتي وكرامتي وجحافل الإيمان
شمّاء لاتحني الرؤوس لغاصب كلا ولا تخشى سوى الرحمن
تنفَضُّ من غفواتها مشحونةً بالثأر يدفعها إلى الميدان
ترمي العدو بحارقٍ من نارها وتعود تحمل راية السلطان
حلم أراه حقيقة تغزو الوجود وتستخف بسطوة الأحزان
فنسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحقق للأمة آمالها، وأن يرجع إليها قدسها.
(1/3014)
عمر المختار
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القتال والجهاد, تراجم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
17/3/1412
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فترة الذل والهوان. 2- دور العلماء في قيادة الحركات الإصلاحية. 3- نشأة الشيخ عمر المختار. 4- رحلات الشيخ عمر المختار ونشاطاته العلمية. 5- غارة إيطاليا على ليبيا. 6- جهاد السنوسيين. 7- تولي عمر المختار قيادة الجيوش. 8- بلاء عمر المختار الحسن في ميدان الجهاد. 9- مكر الطليان واعتداءاتهم السافرة. 10- أسر الشيخ عمر المختار. 11- كلمات خالدة. 12- استشهاد الشيخ عمر المختار. 13- العبرة من سيرة المختار وجهاده.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن الأمة الإسلامية أيها الأخوة، كما هو معلوم لديكم، مرت بفترات ضعف وذلة لأعدائها. وهذا أمر ليس بغريب. فإن أية حضارة أو أية أمة، لها فترات تكون فيها قوية متينة متمكنة، وفترات ضعف وذلة وخور. ولا شك بأن الأمة الإسلامية الآن تعيش في فترة الضعف والذلة، إذا لم يكن أكبر الضعف والذلة لأعدائها. وقد تكالب أكلة القصعة عليها، ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، قالوا: أمن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: ((لا، إنكم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل)).
عباد الله، إن الحقيقة التي نريد أن نصل إليها في هذه الخطبة، بعد توفيق الله عز وجل ومنه وكرمه أن انتقال الأمة من حال الضعف إلى حال القوة، ومن تمكن الأعداء منها إلى تمكنها هي من أعدائها، وأن يحدث انتعاش ووعي على كافة المستويات، وأن يعي المجتمع أو الشعب الواقع الذي كان يعيش فيه، والواقع الذي لابد أن يصل إليه، إن هذه النقلة والتي نسميها بعبارة أخرى، الحركات الإصلاحية. لابد أن يتقدمها ويحركها ويوجهها العلماء، وبعبارة أخرى أيها الأخوة، إن علماء أية أمة، وعلماء أي مجتمع، لابد أن يكونوا هم في مقدمة الناس، يوجهونهم ويرشدونهم، ويبثون الوعي فيهم، ولا يمكن لأي مجتمع ولا لأي واقع، أن يتخلص من سيطرة أعدائه عليه، وأن يحصل إصلاح عام بين الناس، إذا تخلى العلماء وأصحاب الرأي والفكر عن دورهم. إذًا أيها الأخوة، لابد للحركات الإصلاحية أن يقودها العلماء العاملون.
ولو تأملنا، في تاريخ عالمنا الإسلامي لرأينا أن حركات الإصلاح التي قامت، كان وراءها العلماء الأفاضل المخلصون، خصوصًا الدول الإسلامية، التي وقعت في فترة من فتراتها تحت ظل الاستعمار الغربي، تجد أن الذي قاوم الاستعمار، وأن الذي أيقظ وألهب روح الجهاد وتحرير البلاد هم العلماء العاملون.
أيها المسلمون: لنتعرف في هذه الجمعة، على أحد هؤلاء العلماء، وعلى الجهاد الذي بذله في وجه الاستعمار في بلاده، فإن في معرفة سيرة هؤلاء ودراسة الأوضاع والأحوال التي مرت ببلادهم لعبرة وعظة، وفيها من الدروس والفوائد الشيء الكثير.
شخصية هذه الحركة الإصلاحية هو العالم الشيخ/ عمر المختار. وهذه الحركة قامت في بلاد المغرب على أرض ليبيا، ولنستعرض معكم أيها الأخوة كتب التاريخ، ولنقلب صفحاته لنتعرف على تلك الحركة الإصلاحية، ولنتعرف على ذلك الشيخ الفاضل.
ولد عمر المختار من أبوين مؤمنين صالحين عام 1858م أي قبل (134) سنة في بلدة البطنان ببرقة، ووالده السيد مختار عمر من قبيلة المنفة في بادية برقة، وقد توفي والده في طريقه إلى مكة لأداء فريضة الحج.
وهذه أول بادرة جديرة بالالتفات إلى حياة عمر المختار الذي ذاق مرارة اليتم في صغره، فكان هذا هو أول الخير في قلب البطل، ذلك أنه يتيم منكسر، والقلب المنكسر يشعر بآلام الناس، فإذا صادف مثل هذا القلب الإيمان ودخله حب الله وتغلغل فيه، تحول إلى قلب نوراني رحيم يلجأ إلى الله القوي المتين في كل أمره، ويحنو دائمًا على الضعفاء والمساكين. ثم ذهب عمر إلى الجغبوب وهي منطقة عندهم لإتمام دراسته وبقي بها ثمانية أعوام، وأظهر من الصفات الخلقية السامية ما حبّب فيه شيوخ السنوسية.
والسنوسية، دعوة إسلامية أسسها الشيخ العالم المجاهد محمد بن علي السنوسي في تلك البلاد. أحبه شيوخ السنوسية وزعماءها فتمتع بعطفهم ونال ثقتهم حتى إن السيد محمد المهدي السنوسي عند انتقاله من جغبوب إلى الكفرة عام 1895م اصطحب عمر المختار معه.
وفي عام 1897م عيّنه السيد المهدي شيخًا لزواية القصور بالجبل الأخضر قرب المرج. وكان يقطن بهذه الزاوية، وحولها قبيلة العبيد، وهم أناس عرفوا بشدة المراس وقوة الشكيمة، وقد اختاره السيد المهدي لهذه الزاوية حتى يسوس شئونهم باللين تارة وبالعنف تارة أخرى، وحقق المختار ما عقده السيد المهدي على إدارته الحازمة من آمال.
وعندما قرر السيد المهدي الانتقال إلى السودان الغربي سنة 1312هـ كان المختار في طليعة من ذهبوا معه، وذلك حتى يسهم بنصيب في القتال الذي نشب وقتذاك بين السنوسية والفرنسيين في المناطق الجنوبية وحول واداي.
وأقام المختار في "قرو" مدة من الزمن، ثم عينه السيد المهدي شيخًا لزاوية "عين كلك" فاستمر المختار بالسودان الغربي وقتًا طويلاً نائبًا عن السيد المهدي، وكان يقوم بتعليم أبناء المسلمين وينشر الإسلام في هذه البقاع النائية، فالمختار داعية كبير، له أثر واضح في الدعوة إلى الإسلام تميز بالمحاورة والإقناع وحسن الإرشاد والتوجيه.. إنه أستاذ في هذا الفن.. أبت نفسه الكبيرة أن يكتم ما يعلم وأن يقعد مع القاعدين، فانطلق يبشر برسالة الإسلام، وينقل الناس من الضلالة إلى الهدى ومن الظلام إلى النور.
وبعد وفاة السيد المهدي عام 1902م استدعي المختار إلى برقة وعُيّن مرة أخرى شيخًا لزاوية القصور، فبذل الهمة في حكم قبيلة العبيد وسياسة شئونها حتى سلس له قيادها، وكانت من أكبر القبائل عنادًا حيث عجزت السلطات الرسمية عن إخضاعها. ولهذا فقد شكرت الحكومة العثمانية للمختار هذا النجاح.. وهذه موهبة أخرى للعالم البطل، فقد كان موهوبًا بفطرته، حبته الأقدار موهبة الحكم والفصل بين الناس، والقدرة على الإدارة الحازمة.. فها هو يأتي إلى قبيلة عاتية، تحار فيها قوات الدولة، يأتيها الداعية القوي فتنقاد وتطيع وتمضي على نظام مكين، وما ذلك إلا لأن روح المختار روح قوية تؤثر سريعًا في كل من رآها أو خالطها أو عمل معها، وقد ظلت هذه الصفة فيه إلى آخر لحظة من حياته.
أيها المسلمون، لما فاجأت إيطاليا الدولة العثمانية بإعلان الحرب عليها عام 1911م، وقام الأسطول الإيطالي بإطلاق قذائفه على موانئ طرابلس وبرقة.. وقع على السنوسي عبء الدفاع عن البلاد التي نشأت فيها دعوتهم، وكانت مقر إمارتهم. فاحتشدت جموعهم في ميادين القتال خصوصًا في برقة، وبدأ كفاح صارم استمر مدة ثلاثين عامًا تحمّل أثناءه السنوسيون أعظم تضحية قدمتها أمة في العصر الحديث من أجل المحافظة على بقائها.
ومنذ مجيء الطليان إلى برقة وطرابلس حتى وقت خروجهم منها مهزومين مقهورين خطّ السنوسيون قصة كفاحهم بدمائهم وأقاموا الدليل بعد الآخر على أن الشعوب التي تعتز بعقائدها وتاريخها لا يمكن فناؤها مهما تضافرت ضدها القوى المادية التي تعتمد على البندقية والمدفع وإزهاق الأرواح. وانتشر في طول البلاد وعرضها خبر اعتداءات الطليان على برقة وطرابلس، واستنفرالزعماء السنوسيون شيوخ الزوايا للجهاد.. فكان شيخ زاوية المرج أول من خرج بجيش لنجدة العثمانيين، فكان وصول هذه النجدة مثبتًا لأقدام العثمانيين الذين استطاعوا مع السنوسيين مقابلة الطليان ثم إرغامهم على التقهقر إلى بنغازي. وكان في مقدمة الذين خفّوا لنجدة العثمانيين والالتحام مع العدو في برقة السيد عمر المختار، فقد كان رحمه الله يزور شيوخ السنوسية بالكفرة، وفي أثناء رجوعه إلى زاوية القصور بلغه نبأ نزول الطليان في بنغازي، فلم يلبث بمجرد وصوله إلى القصور أن أمر قبيلة العبيد المنتسبة لزاوية القصور الاستعداد للحرب وخرج بنجدة كبيرة، ثم تبعه بقية شيوخ الزوايا، وتتابعت المعارك وطالت الحرب، واستمر السنوسيون يضيقون الخناق على العدو.. بيد أن الصعوبات الشديدة سرعان ما أحاطت بالمجاهدين من كل جانب لانقطاع الموارد عنهم من أسلحة وذخائر ومؤن.. فانسحب عزيز المصري قائد القوة العثمانية بكامل قواته وسلاحه، وبقيت البلاد خالية من وسائل الدفاع.
وفي هذه الظروف الشديدة صمد السنوسيون في وجه الطليان، وتولى عمر المختار قيادة "الجبل الأخضر" ثم أُسندت إليه القيادة العامة للمجاهدين، ولم يتردّد هذا البطل المغوار في قبولها، فشكل جيشًا وطنيًا جعل من خطته التزام الدفاع والتربص بالعدو، حتى إذا خرج الطليان من مراكزهم انقض المجاهدون عليهم فأوقعوا بهم شر مقتلة وغنموا منهم أسلابًا كثيرة أمدتهم بأكثر الأسلحة والعتاد مما كانوا في حاجة ملحة إليه. وظل الحال على هذا النوال حتى نشبت الحرب العالمية الأولى عام 1914م. ولما ازدادت الأمور سوءًا بين الأمير السنوسي محمد إدريس المهدي وبين الحكومة الإيطالية الفاشستية، اضطر الأمير إلى مغادرة البلاد عام 1923م إلى مصر. وقبل أن يرتحل عن بلاده نظم خطة الجهاد، وعهد بالأعمال السياسية والعسكرية في برقة إلى السيد عمر المختار نائبًا عنه، كما نظم الجهاد في طرابلس وجعل القيادة العامة على الجميع للمختار.. إلا أن الأقدار أرادت أن يتوقف الجهاد بطرابلس. وكان ذلك معناه أن الثورة قد انتهت فعلاً وأن الأمر قد استتب للطليان في طرابلس أخيرًا، وأن برقة وحدها هي التي أصبحت تحمل على عاتقها عبء الجهاد منفردة ضد العدو.. فوقع بذلك العبء كله على السيد المختار، وكان البطل أهلاً لذلك.
وأول الصعوبات التي قابلت المختار أن والي برقة الجديد أخذ يحل المعسكرات المختلفة في برقة عنوة، ثم قامت الحكومة باحتلال مقر الإمارة السنوسية، وإلغاء كل الاتفاقات التي أبرمتها إيطاليا مع السنوسية.. فانسحب المجاهدون إلى الجنوب، وشرعوا يوسعون دائرة عملياتهم حتى شملت منطقة الجبل الأخضر بأكملها. ووجد المختار ـ وقد استأنف الجهاد على نطاق واسع ـ أن من واجبه الاتصال بالأمير وإطلاعه على ما وقع من حوادث، وليتلقى منه التعليمات المفصلة بصدد الجهاد.. فسافر إلى مصر وقابل السيد إدريس ولقي كل إعزاز وتكريم.
وعاد المختار من مصر إلى برقة عن طريق السلوم مزودًا بتعليمات الأمير لمواصلة الجهاد. فأعد الطليان كمينًا للقبض على المختار وصحبه، ولكن المختار صمد لهم وانقض هو وصحبه على القوة الإيطالية الغادرة وأبادوا أفرادها وتابعوا سيرهم إلى الجبل الأخضر. وبدأ كفاح جديد في عامي 1924م، 1925م، ووقعت معارك عدة، ولمع اسم المختار وسطع نجمه كقائد بارع يتقن أساليب الكرّ والفرّ ويتمتع بنفوذ عظيم، وأخذت القبائل العربية تنضم إلى صفوف المجاهدين. ولم يكن في استطاعة الطليان في هذه المرحلة أن يقوموا بنشاط حربي ملحوظ في منطقة الجبل الأخضر، فقصروا جهودهم على احتلال المركز السنوسي العتيد في الجغبوب، وأعدوا لهذا حملة عسكرية كبيرة من الجنود والسيارات المصفحة والمدافع الرشاشة.. وبسقوط مركز الجغبوب أضيفت متاعب جديدة للمختار الذي حمل على عاتقه العبء كاملاً.
ثم لجأ الطليان إلى محاولة بذر بذور الشقاق بين المجاهدين، وحاولوا استمالة السيد عمر المختار نفسه وعرضوا عليه عروضًا سخية من الأموال الطائلة، ومنّوه بالجاه العريض في ظل حياة رغدة ناعمة، ولكنهم لم يفلحوا. واستطاع الطليان بعد احتلال الجغبوب عام 1927م أن يقطعوا السبل بين المجاهدين في الجبل الأخضر وبرقة وبين مصر من الناحية الشرقية، وبين مراكز السنوسية الباقية في الجنوب فوضعوا المختار والمجاهدين في عزلة تامة في الشمال.
فهل وهن المختار وضعف ووجد اليأس إلى قلبه سبيلاً؟ كلا بل إن الأحداث لم تنل منه شيئًا.. وكان يبتسم ابتسامة الواثق بربه المؤمن برسالته، ويواصل الجهاد مهما تكن الظروف والنتائج.. وفي خلال هذه الظروف السوداء القاتمة ظل يشن الغارة بعد الغارة على درنه وما حولها، حتى أرغم الطليان على الخروج بجيوشهم لمقابلته فاشتبك معهم في معركة شديدة استمرت يومين كان النصر فيها حليفه.
ذلك هو عمر المختار على حقيقته.. أسد هصور وبطل مسلم، بدّد بحفنة من الرجال جيوش الإمبراطورية الإيطالية وجعلها تفر هاربة تاركة عتادها ومؤنها.. ولو لم يكن الرجل من أصل كريم ومعدن نفيس لما كان بهذه القوة النادرة.. كان كل ماحوله ينذر بالهزيمة، ويقيم الدليل على أن المعركة غير متكافئة، وأن النتيجة هي استيلاء إيطاليا في النهاية على ليبيا بأكملها.. فما جدوى القتال والكفاح؟ كان هذا هو منطق الحوادث، وهو منطق العقول والأوهام دائمًا.. ولكنه ليس بمنطق الأبطال، الراغبين في الشهادة الذين يقاتلون مهما كانت النتائج، لأنهم يؤمنون بشيء واحد هو أن يموتوا شهداء.. وذلك هو مصدر القوة العجيبة التي تنفجر من قلوب الشهداء.
وسوف نكمل بقية القصة في الخطبة الثانية، بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: وحدثت جملة مفاوضات بين السلطات الإيطالية والسيد المختار لتهدئة الأحوال، وكثرت العروض المغرية لشخص المختار، ولكنه رفض كل العروض.. وبيّت الطليان النيّة على الإيقاع بالمختار وأسره، وتم الاتفاق على عقد هدنة لمدة شهرين تبين للمختار بعدها أنها مجرد مراوغة من إيطاليا لكسب الوقت، وأنها ترمي إلى القضاء على كل حركة تعمل لتحرير ليبيا من الغزاة.
وجاء جرازياني إلى برقة حاكمًا عليها، وكان مزودًا بتعليمات صريحة من قبل الحكومة الفاشستية بضرورة القضاء على المقاومة في برقة. فأنشأ المحكمة الطائرة عام 1930م، وكانت هذه المحكمة تنتقل على متن الطائرات من مكان إلى آخر لإصدار الأحكام السريعة ثم تنفيذها في الحال.
ثم أخذ جرازياني يعمل على حل زوايا السنوسيين ومصادرة أملاكها، وفي الوقت نفسه بدأ ينفذ سياسة عزل الأهالي عن المجاهدين، فحشدهم في معتقلات امتدت من العقلية إلى السلوم. واستمر هجوم المجاهدين على مراكز الطليان، ونشبت معارك كثيرة، وفي إحدى المعارك عثر الطليان عقب انتهائها على نظارات السيد المختار، كما عثروا على جواده مجندلاً في ميدان المعركة، وأصد جرازياني منشورًا ضمنه هذا الحادث. وزحف الطليان لاحتلال الكفرة فاشتبكوا مع المجاهدين في معركة استخدموا فيها الطائرات.. وقاتل المجاهدون جميعًا بشجاعة وبسالة نادرة واستشهد منهم مائة في واقعة الهواري، وأسر الطليان ثلاثة عشر، واحتلوا الكفرة.
وكان لسقوط الكفرة أعظم الأثر في موقف المختار في الجبل الأخضر، ذلك أن جرازياني استطاع بذلك إغلاق الحدود المصرية إغلاقًا تامًا بمد الأسلاك الشائكة على طولها.. ومع ذلك فقد ظل المختار في الجبل يقود المعارك ويقاوم الطليان.
يقول جرازياني في بيان له عن الوقائع التي نشبت بين جنوده والسيد عمر المختار: إنها "كانت 263 معركة في خلال عشرين شهرًا". هذا عدا ما خاضه المختار من المعارك خلال عشرين سنة قبلها.
ولما أراد الله أن يختم له بالشهادة ذهب كعادته في نفر قليل يقدر بأربعين فارسًا، يستكشف مواقع العدو، ويتفقد مراكز إخوانه المجاهدين. ومرّ بواد صعب المسالك كثير الغابات، وعلمت به القوات الإيطالية بواسطة جواسيسها، فأمرت بتطويق الوادي، فما شعر المختار ومن معه إلا وهم وسط العدو، ودارت معركة، وعلى الرغم من كثرة عدد العدو واحتياطاته تمكن المجاهدون من خرق صفوفه ووصلوا إلى غربي سلطنه.. ففاجأتهم قوة طليانية أخرى، وكانت ذخيرتهم على وشك النفاذ، فاشتبكوا في معركة جديدة قتل فيها جميع من بقي مع المختار، وقتل حصانه أيضًا ووقع عليه، فتمكن من التخلص من تحته، وظل يقاوم وحده إلى أن جرح في يده، ثم تكاثر عليه الأعداء وغلب على أمره، وأسروه وهم لا يعرفون من هو. ثم عُرف وأُرسل إلى سوسة، ومنها أُركب الطراد إلى بنغازي حيث أُدوع السجن.
وعزا المختار في حديثه عند قدومه إلى بنغازي سبب وقوعه في الأسر إلى نفاذ ذخيرته، وأكد للمتصرف الإيطالي أن وقوعه في الأسر لا يضعف شيئًا من حدة المقاومة، إذ أنه قد اتخذ من التدابير ما يكفل انتقال القيادة من بعده إلى غيره. وختم المختار قوله بكلمات خالدة لابد أن نلقنها أبناءنا جيلاً بعد جيل لتكون مثلهم الأعلى في التوكل على الله والثبات على الحق، فقال: إن القبض عليه، ووقوعه في قبضة الطليان إنما حدث تنفيذًا لإرادة المولى عز وجل، وإنه وقد أصبح الآن أسيرًا بأيدي الحكومة، فالله سبحانه وتعالى وحده يتولى أمره.. ثم أشار إلى الطليان وقال: "وأما أنتم، فلكم الآن وقد أخذتموني أن تفعلوا بي ما تشاؤن، وليكن معلومًا أني ما كنت في يوم من الأيام لأُسلم لكم طوعًا!".
وكان جرازياني وقت القبض على المختار يقضي أجازته في روما، فوصله الخبر يوم 12 سبتمبر 1931م وهو بالقطار الذاهب إلى باريس، فقطع رحلته واستقل طائرة أوصلته إلى بنغازي، ودعا "المحكمة الخاصة" إلى الانعقاد.. وجاء الطليان بالسيد عمر المختار إلى قاعة الجلسة مكبّلاً بالحديد وحوله الحرس من كل جانب.. وكانت محاكمة صورية شكلاً وموضوعًا، وكانوا قبل بدء المحاكمة بيوم واحد قد أعدوا "المشنقة" وانتهوا من ترتيبات الإعدام وتنفيذ الحكم قبل صدوره.. لقد استغرقت المحاكمة من بدئها إلى نهايتها ساعة واحدة وخمس عشرة دقيقة، وصدر الحكم بإعدام المختار.. فقابل ذلك بقوله: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ [البقرة:156].
وجمعوا حشدًا عظيمًا لمشاهدة التنفيذ وأرغموا أعيان برقة وبنغازي وعددًا كبيرًا من الأهالي لا يقل عن عشرين ألفًا على حضور عملية التنفيذ.
وفي صباح يوم الأربعاء 11 سبتمبر 1931م نفذ الطليان في "سلوق" حكم الإعدام شنقًا في الشيخ عمر المختار.. وعندما وجدوا أنه لم يمت أعادوا عملية الشنق مرة ثانية. وكأنما الرعب يملأ قلوبهم من البطل حتى بعد وفاته، فما إن أتموا عملية الشنق حتى نقلوه إلى مقبرة الصابري بناحية بنغازي، ودفنوا جسده الطاهر في قبر عظيم العمق بنوه بالأسمنت المسلح، وأقاموا على القبر جندًا يحرسونه زمنًا طويلاً خوفًا من أن ينقل المواطنون جثمانه الطاهر. وكأني به رحمه الله تعالى وهو يُقَّدم للموت يردد قول الشاعر:
أماه لا تجزعي فالحافظ الله إنا سلكنا طريقًا قد خبرناه
على حفافيه يا أماه مرقدنا ومن جماجمنا ترسو زواياه
أماه هذا طريق الحق فابتهجي بسلم باع للرحمن دنياه
هزأت بالأرض والشيطان يعرضها في زيفها ببريق الذل حلاه
عشقت موكب رسْل الله فانطلقت روحي تحوم في آفاق رؤياه
لا راحة دون تحليق بساحتهم ولا هناءَ لقلبي دون مغناه
العبرة من سيرة المختار وجهاده: المختار رجل قد حرّر قلبه من الأوهام والشهوات، ومن الشرك والضلال، ومن كل ظلمة تحجب نور الحق.. فأصبح دائم المراقبة لله، يراه في كل شيء ويحس بآياته.. إنه فريد في سيرته أحيا شيئًا كاد يندثر، أحيا معاني الإيمان التي كان الناس قد بدأوا ينصرفون عنها.
والمختار ليس أوّل من جاهد، ولا أول من استشهد إنما هو أحد أولئك الأبطال القلائل الذين يواصلون القتال رغم اليأس من نتيجة المعركة.. فهو بلغة الجيش رجل فدائي، وبلغة الإسلام من أولئك ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?نًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ [آل عمران:173]. وهذا الصنف هو أقوى ما عرفت البشرية وستعرف من الرجال.
وما أحوجنا في هذه الأيام إلى دراسة سيرته واقتفاء خطاها، وتربية الأجيال على هداها.. فالمختار كان داعية إلى الله، تربى على أيدي دعاة السنوسية، ولما اكتمل وترعرع، أدى الرسالة وبلغ الأمانة.. وكان على فهم صحيح لدينه يأخذه كُلاً لا يتجزأ، دينًا ودولة، عقيدة وعبادة، مصحفًا وسيفًا.. والمختار كان دائم الشباب، يتدفق النور والحرارة من قلبه رغم كبر سنه، وتلك طبيعة المقاتلين في سبيل الله. وإنك لتعجب حين تعلم أنه عُيّن قائدًا عامًا وهو فوق الستين واستشهد وهو فوق السبعين.
ومن العبر الهامة في سيرة المختار أن الله لا يضيع جهاد المجاهدين ولا إيمان المؤمنين، إذا علم منهم صدق النية وحسن الطويّة.. فها هم أهل ليبيا جاهدوا طويلاً، ثم انتصرت إيطاليا عليهم، وبقيت صاحبة السلطان المطلق حتى عام 1942م، ثم أراد الله أن يحق الحق ويبطل الباطل، فجاءت الحرب العالمية الثانية، وكانت سببًا في نصر المظلومين، فعادوا إلى أوطانهم بعد أن أُخرجوا منها ظلمًا.
والعبرة الأخرى أن الرجل لم يسع إلى الشهرة، لأن المخلصين لا يبحثون عنها، وإنما هي تبحث عنهم، ولكن العبرة من سيرته أن كل من أخلص وجاهد وعمل الصالحات ابتغاء رضوان الله، تكفل الله برفع ذكره في الدنيا فضلاً عن الآخرة.
وعبرة أخرى أن المختار كان وليًا من أولياء الله ـ ولا نزكي على الله أحدًا ـ وقد صدقت فيه إشارات الحديث القدسي القائل: ((من آذى لي وليًا فقد آذنته بالحرب)) ، وقد صدق الله وعده، ودمّر إيطاليا الفاشستية، ونكّل بقادتها شر نكال.
(1/3015)
من خصائص هذه الأمة
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
19/5/1412
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الله تعالى على الأمة المحمدية. 2- سبب الذل والهوان. 3- الغزو الفكري. 4- خيرية هذه الأمة. 5- أمة الغيث. 6- رحمة الله تعالى بهذه الأمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن من تمام نعمة الله على البشرية أن ختم الديانات السابقة، بالحنفية السمحة، بملة الإسلام قال الله تعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3].
وإن من تمام نعمة الله على أتباع هذا الدين، أنه عز وجل خص دينه بخصائص عظيمة جليلة، وأفرده سبحانه وتعالى بخيرات لم تكن في الأديان السابقة كاليهودية والنصرانية، نحب أن نقف مع شيء منها في جمعتنا هذه.
والمتأمل لهذه الخصائص يجد العجب العجاب من عظمة الإسلام وبهائه ورونقه وسموه، مما لا تزيد المسلم إلا تمسكًا بها، وارتباطًا واعتزازًا أيما اعتزاز.
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
أيها المسلمون، ومما لابد من معرفته في هذا الصدد، أن ما أصاب المسلمين من ذل وهوان ومسكنة، إنما سببه هو الابتعاد عن الدين، وأننا قد قلبنا له ظهر المِجن واستبدلناه بنفايات الغرب، حثالة أفكار المشركين وزبالتهم، التي لم تزدنا إلا ضعفًا، وقد نجح الغزو الفكري النصراني، بالتأثير على الكثرة الكاثرة من المسلمين، وأدى ذلك إلى انسلاخهم عن الإسلام.
وآثار هذا الغزو الفكري القبيح، أشهر من أن تذكر، وحسبك من ذلك أنك تجد أكثر شبابنا وأبناء جلدتنا الذين يتكلمون بألسنتنا، قد أقبلوا بوجوههم شطر الحضارة الغربية، بل قُلْ الحظيرة الغربية، وأشرأبت أعناقهم إليها، وتاقت نفوسهم إلى الانكباب عليها، ساعدهم في ذلك هوى متبع، وجهل عميق بالإسلام، وثمن بخس زهيد في طلب متاع الدنيا الفانية، الذي باعوا به عزتهم وكرامتهم وأمتهم.
ومع الأسف الشديد، فإن طلائع هذا الغزو وصل إلى مناهج التعليم في البلاد الإسلامية، وبدأ هذا الأخطبوط في مد أذرعه إلى هذا المعقل الحصين، فأفسد وأتلف، ويجب على الأمة الإسلامية وهي مسئولة ومحاسبة على ذلك عند الله سبحانه، أن تحفظ هذا المعقل من السقوط والتردي وأن تبرز للمسلمين حقيقة الإسلام وخصائصه، وكم هو غنيٌ بالحقائق والخصائص.
أيها المسلمون، ومع كل هذا المكر وهذا الكيد، فإن الله عز وجل حافظ دينه، ومعلٍ كلمته، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
وإن المتأمل في بعض خصائص هذه الأمة، يجد الروح والاطمئنان، وهذا هو المطلوب عند التعرض لبعض هذه السمات.
فأول سمات هذه الأمة، الخيرية قال الله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110].
فهذه الأمة، هي خير الأمم، وأكرم الأمم قاطبة عند الله عز وجل، كما جاء في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعًا: ((إنكم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله)) وفي رواية: ((نُكمل يوم القيامة سبعين أمة، نحن آخرها وخيرها)) فالله عز وجل، قد أكرمنا وجعل أمة محمد خير الأمم، خير الأمم في أعمالها، خير الأمم في أخلاقها، في منازلها في الجنة، في مقامها في الموقف، وهذه الخيرية ما جاءت إلا عن طريق الدين والشرع، فلأن دين هذه الأمة وشريعتها، أكمل الشرائع، اكتسبت هذه الأمة هذه الخيرية.
فلهذا لا غرابة من محاولة أعداء الدين من الخارج وأذنابهم العلمانيين من الداخل، أن يضعفوا تمسك الناس بالشريعة، عن طريق بث سمومهم وزبالة أفكارهم.
ثم إن خيرية هذه الأمة جاءت مِن تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ. فاكتساب الأمة للخيرية، لأنها أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكلما قوي هذا الجانب في الأمة، وحرصت الأمة على زيادة ودعم هذا الأمر، زاد ذلك وقوى من خيريتها على باقي الأمم، لكن إذا فرطت الأمة في الأمر بالمعروف وفرطت في النهي عن المنكر، حتى أدى ذلك إلى انتشار الرذيلة، وتفشي الأخلاق السيئة، فأين الخيرية على من سواهم. إذا صارت شوارعنا ومناهجنا وإعلامنا وأسواقنا وأخلاقنا واقتصادنا، كله يستقي من نتن الغرب والشرق. فأين الخيرية إذن.
ولهذا يعلم المنافقون والعلمانيون الذين يندسون في صفوفنا، يعلمون جيدًا، بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا مارس دوره الطبيعي، وبشيء من الحرية، فإنهم يعلمون جيدًا أنه لا مُقام لهم في هذه الأرض، ولهذا يسعون جادين في التضييق على أصحابها، بكل سبل التضييق وسحب صلاحياتها، كل هذا من جانب، ومن جانب آخر، يترأسون هم الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.
فخيرية هذه الأمة، بدينها وشرعها، وإلا لو تساوينا معهم في المعصية، لكانت الغلبة لهم علينا بالقوة المادية.
أيها المسلمون، ومن سمات هذه الأمة، أنها أمة الغيث، كما وصفها وشبهها الرسول بالمطر الذي ينتفع به الناس، قال عليه الصلاة والسلام من حديث أنس عن الترمذي وغيره: ((ومثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خيرٌ أم آخره)) فهذه الأمة، أمة الغيث لا يدري أوله خير أم آخره، لأن الغيث كله خير، وفي كله خير، في أوله وفي وسطه وفي آخره، فكل نوبة من نوبات المطر لها فائدة في النماء، لا يمكن إنكارها والحكم بعدم نفعها، بل إن كل حبة من حبات المطر له فائدته، فكذلك هذه الأمة، كل فرد من أفراد هذه الأمة ينفع، وكل إنسان بمقدوره أن يقدم الكثير لأمته ولدينه، لكن المشكلة أن هذا الشعود مفقود بين الناس اليوم، كل يقول: أنا فرد واحد، وأنا ضعيف الإمكانات، وماذا عساي أن أقدم، أمام قوى الشرق والغرب. ثم إني مشغول جدًا بأعمال، ولديّ أطفال، وزوجة مريضة، وأنا الوحيد لوالديّ، فما أن أنتهي من مشكلة إلا وتتبعها أخرى، فنقول لك أيها المسلم: مع وجود كل هذه الأمور فيك، ومع قلة إمكاناتك وضعفها، ومع وجود المشاكل عليك فأنت فرد في أمة الغيث ،وأنت أحد حبات المطر، وبإمكانك أن تقدم بل الكثير.
وسأضرب لك الآن بعض الأمثلة وبعض الأشياء التي يمكنك أن تقدمها للأمة، لكن أولاً: لا بد من وجود هذا الشعور عندك، وأنك فرد مهم ولك دورك وبإمكانك أن تقدم.
فمقدورك أيها المسلم أن تقدم الدعاء، وهل يعجزك دعاء مخلص تطلقه في أي ساعة من ليل أو نهار مع وجود المشاكل عندك، ومع كثرة أعبائك وأولادك وأمراضك. لا أظن أن أحدًا لا يمكن أن يقدم الدعاء للمسلمين، تدعو الله عز وجل بإخلاص وجد وحرص، أن يفرج همّ الأمة وأن ينقذها مما هي فيه. تخيل أن كل مسلم قدم هذا العمل، تخيل أن غالبية المسلمين رفعوا أيديهم إلى الله تعالى، وهم يجأرون إلى الله، بتضرع وتذلل، أن ينقذ المسلمين من اعتداءات الصرب النصارى مثلاً، أو من عدوان اليهود، أو من أية بلية حالة بالمسلمين.ألا يمكن أن يوجد في هذه الملايين من هو مستجاب الدعوة، فتلقى دعواته بابًا مفتوحًا في السماء، فيكون فرج طائفة من المسلمين بسبب دعواته. يمكن هذا، لكن أين الأدعية المخلصة، ليل نهار. هذا عمل يمكنك أن تقدمه أيها المسلم.
عمل آخر، أن تكف نفسك عما حرّم الله، هذا عمل لو قدمه كل مسلم للأمة فكم من الخير سوف يعم، تخيل أن كل مسلم، وكل صاحب القدرات والإمكانيات كما يقول هو، تكفل لنا أن يحفظ نفسه عن فعل الحرام فهذا ترك الزنا، وذاك ترك شرب الخمر، والجميع ترك الكذب والغش والسرقة والاعتداء على الآخرين إلى غير ذلك مما حرم الله، كم تحصل الأمة، على خير لو كفّ كل مسلم شره عن الآخر.
هذا العمل، أتعجز ـ أيها المسلم ـ أن تقدمه لأمتك، هذا العمل ينفعك أنت أولاً، ولا يحملك وزره يوم القيامة، إضافة إلى الخير الذي سوف يعم، فمن الذي لا يستطيع أن يقدم هذا لدينه وأمته ولنفسه.
نريد منك أيها الأخ الكريم، أن تؤيد المسلمين في قضاياهم العامة، تقف في صف مصالح الأمة، ولا تقف ضدها، كما يقف الآن، عدد غير قليل من المنافقين والعلمانيين، لصالح أسيادهم من دول الغرب الكافرة، وهم يحسبون على هذه الأمة، ويُعَدُّون فينا في إحصائيات السكان، هل وأنت مشغول في قضاياك الخاصة وهمومك الداخلية، هل يمنعك هذا من أن تقف مع العلماء المخلصين، والدعاة الناصحين وهم يقدمون النصح للأمة، لا نريدك أن تفعل شيئًا إذا كنت تقول لا أقدر على شيء، فقط أيد كلام العلماء، وقف في صف الدعاة والمصلحين، ولا تقف ضدهم، فهذا عمل كبير فهذا عمل كبير يمكنك أن تقدمه للأمة.
فلو أفتى العلماء بحرمة التصالح مع اليهود، نريدك أيها المسلم الذي تقول عن نفسك أنك ضعيف أن تقف في صف هذه الفتوى، لا ضدها.
لو تكلم الدعاة وتحرك المصلحون، وقدموا عملاً طيبًا للأمة، إما جمع تبرعات أو توزيع كتيبات، أو أي عمل آخر، لا نريدك أن تتبرع، نريدك أن تؤيد هذه الأفكار الطيبة وتشجع عليها، ولا تقف ضدها أو تعترض عليها، أو تشوش عليها، ولتبق بعد ذلك مشغولاً في همومك ومشاكلك الخاصة وأعمالك الخاصة.
فهل وعينا هذه القضية أيها الإخوة، فأنت أيها الأخ الكريم، قطرة من غيث هذه الأمة، وكل قطرة كما أسلفنا تنفع بإذن الله، وبمقدورك أن تقدم الكثير، ولو أن تشارك المسلمين بمشاعرك الطيبة. فلا تحتقر نفسك، ولا تنقص من قيمتك، فكونك مسلمًا، هذه لوحدها، أكبر نعمة، وفائدة عظيمة جدًا لك ولغيرك، فما بالك لو أضيف معها القليل من العمل لخدمة هذا الدين.
فنسأل الله عز وجل أن يستعملنا في طاعته، وأن يجعلنا جنودًا لخدمة دينه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول ما سمعتم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: روى مسلم في صحيحه قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الله تعالى إذا أراد رحمة بأمةٍ من عباده قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطًا وسلفًا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي، فأهلكها وهو ينظر، فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره)). انظروا إلى رحمة الله جل وعزبنا ياأهل هذه الأمة. الأمم السابقة كانت إذا خالفت أمر الله، وخالفت وعصت الرسول الذي أرسل إليها. أهلكها الله عز وجل وعذبها ونبيها ينظر إليها، أما هذه الأمة، فمن رحمة الله بنا، أن قبض رسوله.
وانظر إلى المخالفات التي تخالفها هذه الأمة عما جاء به رسول الله ، مخالفات على مستوى الأفراد، مخالفات على مستوى الشعوب، ومخالفات على مستوى الدول، ومخالفات على مستوى الأمة.
إنه ما من نبي من الأنبياء إلا ورأى عذاب قومه بعينه أو حصل لهم عذاب وهو حي بين ظهرانيهم.
فنوح عليه السلام قد دعا على قومه قال تعالى: وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى ?لأَرْضِ مِنَ ?لْكَـ?فِرِينَ دَيَّارًا [نوح:26]، فاستجاب الله له فأهلكهم جميعًا وشمل الهلاك ابن نوح قال سبحانه: وَنَادَى? نُوحٌ ?بْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ ي?بُنَىَّ ?رْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ ?لْكَـ?فِرِينَ قَالَ سَاوِى إِلَى? جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ ?لْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ ?لْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ?للَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ?لْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ?لْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ ي?أَرْضُ ?بْلَعِى مَاءكِ وَي?سَمَاء أَقْلِعِى وَغِيضَ ?لْمَاء وَقُضِىَ ?لأمْرُ وَ?سْتَوَتْ عَلَى ?لْجُودِىّ وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ [هود:42-44]، وقال سبحانه عن قوم هود: فَأَنجَيْنَـ?هُ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ ?لَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَـ?تِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ [الأعراف:72]، وقال جل وعلا عن قوم صالح: فَأَخَذَتْهُمُ ?لرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَـ?ثِمِينَ فَتَوَلَّى? عَنْهُمْ وَقَالَ يَـ?قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ ?لنَّـ?صِحِينَ [الأعراف:78، 79].
وقال سبحانه عن قوم لوط: فَأَنجَيْنَـ?هُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ?مْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ?لْغَـ?بِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا فَ?نْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لْمُجْرِمِينَ [الأعراف:83، 84]، وقال تبارك وتعالى عن قوم شعيب: فَأَخَذَتْهُمُ ?لرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جَـ?ثِمِينَ [الأعراف:91].
أما هذه الأمة، فمن تمام رحمة الله بها أن قبض نبيها قبلها، فجعله لها فَرَطًا وسلفًا بين يديها. جاء ملك الجبال إلى الرسول ، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك ـ وذلك عندما لم يقبلوا دعوته ـ وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت؟ إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين؟ فقال له رسول الله : ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئًا)). قال الله تعالى: وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ?للَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]. قال ابن عباس كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره قال: "كان فيهم أمانان: النبيُ ، والاستغفار، فذهب النبي ، وبقي الاستغفار".
الرسول قبض، وكان هو الأمان الأول لهذه الأمة من أن يعذبها الله، وبقي الثاني معنا، ألا وهو الاستغفار. فلو قصرنا في هذا فنسأل الله السلامة والعافية.
فنسأل الله عز وجل، أن يوفق الأمة إلى الاستغفار مما هي واقعة فيه، أن تستغفر من ولائها لغير الله، أن تستغفر من الربا الذي ينخر في اقتصادها، أن تستغفر من التقريب الذي يهدد مجتمعاتها، أن تستغفر من الظلم الواقع في غالب أرضها. رفع الأسعار، وهضم الحقوق. إسكات القول الحق أن يظهر للناس، مطاردة الصالحين في كل مكان. وإلا فعذاب الله لا محالة. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا...
(1/3016)
مواقِف وتأمّلات
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الصوم, المسلمون في العالم
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
7/1/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة الأمة إلى المحاسبة والمراجعة. 2- توديع العام يذكر بالرحيل من الدنيا. 3- ضرورة النهوض لإصلاح الأوضاع. 4- وجوب الدفاع عن الإسلام. 5- فضل شهر المحرم وعاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ ولزومِ طاعته والحذَر من معاصيه، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
معاشرَ المسلمين، في مستهَلِّ كلِّ عام ومع إشراقة كلِّ سنَة تبرُز الحاجةُ الفرديّة والجماعية إلى المراجعة والمحاسبة ليقوَّم الماضي ويُصلَح الحاضر ويُخطَّط للمستقبل، وَفقَ منهج سليمٍ يقود للمنافع الخيِّرة ويوصِل للمقاصد المنشودة.
وإنّ أمَّتنا وهي تستقبل عامًا جديدًا بعد انصرامِ عامِها الماضي حاملاً الأحداثَ الجسامَ والوقائع العِظام لهي في ضرورة قُصوى إلى إدراكِ التحدِّيات التي تواجهُها والأخطار التي تعاني منها، وفي الوقت ذاته هي في حاجةٍ ماسّة إلى موقفٍ صحيح ومعالَجة ناجعة وتحسينات نافعة، كلُّ ذلك وَفق أسُسٍ إصلاحية ومشروعاتٍ علمية تحدَّد مقوّماتها وتُرسى أصولُها من منطلقاتِ دينها وثوابت عقيدتها وهدي نبيِّها محمّد عليه أفضل الصلاة والسلام.
معاشرَ المسلمين، وثمَّتَ مواقفُ ينبغي التركيز عليها ونحن نعيش مستهلَّ هذا العام الذي نسأل الله جلّ وعلا أن يجعلَه عامَ بركة وخيرٍ ومَسرَّة على الأمّة الإسلامية جمعاء.
وهذه المواقف أوّلها: أنّ استقبالَ المسلمين لعام جديدٍ من حياتهم هو بمجرَّده حدث كبيرٌ، يذكِّر بحقيقةٍ مستَيقَنة بأنّ الأيام مراحلُ ومطايا، تُبعِد من الدنيا، وتُدني من الآخرة، ي?قَوْمِ إِنَّمَا هَـ?ذِهِ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا مَتَـ?عٌ وَإِنَّ ?لآخِرَةَ هِىَ دَارُ ?لْقَرَارِ [غافر:39]. فهل يكونُ توديع عامٍ واستقبالُ آخر سببًا لتحريك همَمِنا واستنهاض عزائمنا؟! فالموفَّق من يسعى لإصلاح حاله وإدراك ما تبقَّى من حياته؛ بحيث يكون غدُه خيرًا من يومه، ويومُه أفضلَ من أمسِه، وعامُه الجديدُ أفضلَ من عامه المنصرِم، والكيِّس على لسانِ المصطفى هو من حاسَب نفسه وراجع حساباته، وتزوَّد من الأعمالِ الصالحة وحقَّق توبةً نصوحًا إلى ربّه مما مضى منه من الذنوب وما حصل منه من الهفوات، فربّنا جلّ وعلا يذكِّرنا بقاعدة الإصلاح وأصلِ الخير بقوله جل وعلا: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7، 8]، ونبيُّنا فيما يحكيه عن ربِّه في الحديث القدسي الطويل، ويُوجز فيما يرويه عن ربّه قولَ ربّه جلّ وعلا في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إنما هي أعمالُكم أحصيها لكم، ثمّ أوفِّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمدِ الله، ومن وجَد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه)) رواه مسلم [1].
وثاني هذه الوقفات أيها المسلمون: أنَّ عامَنا الماضي انصرَم وانتهى، والأمةُ الإسلامية والأمّة المحمَّدية حُبلى بالمشكلاتِ وثكلَى بالفِتَن والمغريات، غيومٌ على حياتها من المِحَن، وسُحُب على واقعها من الإحَن، فكلُّ ذلك يتطلَّب من أبناء المسلمين جميعًا حُلولاً عاجِلة وإراداتٍ جازمةً، وعزائم صادقة في الإصلاح والتقويم من قِبَل الأفراد والمجتمعات، من قبل الحُكّام والمحكومين، وَفقَ يقينٍ من الجميع بأنّه لا مخلِّصَ للأمة من أزماتها الخانقة وأوضاعها المتردِّية إلا بالإسلام الحقّ الصافي الذي نزل به القرآنُ وجاء به سيِّد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام، الإسلام الذي فهِمه صحابتُه الكرام، إنّه الإسلامُ الصافي الذي يُمارَس في الجوانب كلِّها والنواحي الحياتية جميعها، سياسيًا واقتصاديًا، ثقافيًا واجتماعيًا، علمًا وعَمَلا، حُكما وتحَاكُمًا، وَفق فهمٍ لمعرفة مقاصد الإسلام من إقامة حياةٍ مثاليّة نافعةٍ صالحة حضاريّة راقية مُثمرةٍ الثمرات الخيِّرة في الدنيا والآخرة، في ظلِّ عَيش يُطبَّق فيه قول الله جلّ وعلا: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا [النور:55].
فعلى أمَّةِ الإسلام اليومَ أن تعلمَ علمَ اليقين وهي تعيش على مَفرَق الطرُق وتشعُّب السبُل أنَّ عزَّها وقوَّتها وخيرَها وحضارتَها هو ارتباطُها بدينها والالتزام بشريعة ربِّها والاهتداء بهدي نبيِّها عليه أفضل الصلاة والتسليم، فذلكم هوا السِّلاح الفاعل الذي يدرأ الشرورَ والأخطار عنها, والدِّرعُ الحصين الذي تتقي به في وجه الهجَمات الكاسِحة والصِّراع العنيف الذي تعيشه قوى الأرض، فربّنا جل وعلا يقول: وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8].
وإنّ الواجبَ الوقوفُ أمام التحدِّيات التي تواجه المسلمين وتَنال من دينهم، وإنّ الواجبَ أيضًا سَدُّ الباب أمام كلِّ من يريد الاصطياد في الماء العكِر من أصحاب الاتِّجاهات المنحرفةِ والمسالك الضّالة والمشارب المشبوهة التي تحرِصُ على صرف المسلمين عن التوجُّهات الصحيحة لواقع الحياة المستمَدِّ من دينهم بدعاوَى من أولئك مزركشَة وأقوال مزخرفة وسذاجات فكريّة لا تنطلي إلا على مغفَّل.
ثالثُ هذه الوقفات أيها المسلمون: أنَّ الإسلامَ أصبح يُتَّهم من الأعداء الحاقدين بما هو منه بَراء، كلُّ ذلك للصَّدِّ عن سبيل الله، ولإبعاد البشرية عن منهجه الوضّاء، ولذا فأبناءُ العالَم الإسلامي مطالبون بتصحيح المسارات التي يتَّخذها الآخرون سبيلاً لتشويه صورةِ الإسلام النقيّة، ويبتغيها الحاقدون سُلَّمًا لطمس حقائقه المضيئة، وإنَّ واجبَ المسلمين تجاه دينهم أن يثبتوا للعالم كلِّه صدقَ التوجُّه وسلامةَ المقاصد وسموَّ الأهداف وإظهارَ الإسلام الحقِّ للعالم كلِّه، الإسلام الذي تضمَّن الرحمةَ بأوسع معانيها، والعدلَ بأدقِّ تفاصيله، والإحسانَ بشتَّى صُوَره، وإصلاحَ الدارين بكلِّ وسيلة ممكِنة.
وعلى العلماء والمفكِّرين النظرُ لكلِّ قضيَّة تُطرَح في عالمهم نظَرَ تدقيق وتفهُّمٍ وتمحيص للاستفادة من الإيجابيات التي لا تتعارض مع مصالح أمَّتنا، ولا تتنافى مع ثوابتِ عقيدتنا ومسلَّمات شريعتنا، ولن يتمَّ هذا إلا بتوحيد الجهود وتنسيقِ المواقِف في إطار فهمٍ صحيح من الكتاب والسنة ونيّةٍ صادقة للإصلاح، في محيطِ وعيٍ تامّ وإدراكٍ كامل بعالم يموجُ بالتَّحوُّلات وتعصِف باستقراره المتغيِّرات، عَملٌ من العلماء والمفكّرين وَفقَ قاعدةٍ متمكِّنة لا يبادِرها تفريطٌ في شيء من الثوابت، ولا يَخترقها تنازُل عن شيء من الخصائص، وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153].
اللهمّ انفعنا بهذا الدين، وأصلِح حياتنا بسيرةِ سيّد الأنبياء والمرسلين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب البر (2577) عن أبي ذر رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ نبيَّنا محمَّدًا عبده ورسوله الدَّاعي إلى رضوانه، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فبها يصلُح الحال ويسعَد المآل.
معاشرَ المسلمين، شهرُ الله المحرَّم مِن أعظم شهور الله جلّ وعلا، مكانتُه عظيمة، وحرمتُه كبيرة، يقول النبي فيما رواه مسلم: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرَّم)) [1].
وأفضلُ أيَّام هذا الشهر يومُ عاشوراء، ففي الصحيحين أنَّ نبيَّ الله صام عاشوراء وأمر بصيامه [2] ، وفي صحيح مسلم أنّ رسولَ الله سُئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: ((أحتسِبُ على الله أن يكفِّر السنةَ التي قبله)) [3].
والسنةُ ـ أيّها المسلمون ـ أن يصومَ المسلم معه التاسعَ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبيّ : ((لئن بقيتُ إلى قابلٍ لأصومنَّ التاسِع)) [4] ، فإن لم يتيسَّر صامَ الحاديَ عشر، والأكملُ صومُ يومٍ قبلَه ويوم بعده.
ثمّ إنَّ الله أمرنا بأمرٍ عظيم تصلُح به حياتنا وتزكو به سرائرنا وتسعَد به دنيانا وأخرانا، ألا وهو الإكثار من الصلاة والتسليم على النبيّ الكريم.
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيّدنا ونبيِّنا محمّد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين...
[1] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1163) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1892، 2002، 2004)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1126، 1125، 1130) عن ابن عمر وعائشة وابن عباس رضي الله عنهم.
[3] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1162) عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في كتاب الصيام (1134).
(1/3017)
من وحي الهجرة
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
محمد أحمد حسين
القدس
7/1/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عمر يؤرخ للمسلمين بتاريخ هجرة النبي. 2- المشروع الاستعماري الجديد للعالم الإسلامي. 3- دروس من الهجرة النبوية. 4- وثيقة المدينة المنورة وكفالتها لحقوق الإنسان. 5- ممارسات يهودية بغيضة على ثرى فلسطين. 6- النظرة اليهودية الحاقدة على الإسلام والمسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، أيها الصامدون في رحاب المسجد الأقصى تفدونه بالمُهج والأرواح، رغم كيد المحاصرين لهذا المسجد ورغم إجراءاتهم التعسفية للحيلولة بين عباد الله وبيوت الله.
مر بالمسلمين خلال الأسبوع الماضي ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، التي جعل منها الفاروق عمر مبدأ للتاريخ الهجري للأمة الإسلامية، لما لهذه المناسبة من أثر واضح في مجرى الأحداث ومسار الدعوة الإسلامية، فهل استوعب المحتفون دروس الهجرة، ووقفوا على أهدافها ومراميها، وحققوا التأسي بصاحبها عليه الصلاة والسلام؟! هل أخذوا منها ما يعينهم على إصلاح أحوالهم وتغيير واقعهم وتحسين أوضاعهم؟!
هذه الأوضاع والأحوال التي نفذ من خلالها أعداء الأمة، لبسط السيطرة على ديار المسلمين وفرض ثقافة المحتل على شعوبهم، تحت شعارات تحرير الشعوب ورعاية حقوق الإنسان ونشر العدالة السياسية والاجتماعية بين هذه الشعوب المقهورة، وكأن قهر الاحتلال يقل عن قهر السلطان والاستبداد، إلى غير ذلك من الدعاوى العريضة التي تخفي وراءها الأهداف الحقيقية لهذه الحملة الاستعمارية التي تستهدف ديار المسلمين.
ولعل ما تروّج له أمريكا لما يسمى "مشروع الشرق الأوسط الكبير للإصلاح" يأتي ضمن هذه الحملة، لبث المزيد من السيطرة والنفوذ الأجنبي وتعزيز الوجود الاستعماري، والذي انتشرت جيوشه المحتلة في أقطار كثيرة من دنيا العروبة والإسلام، لتنفيذ سياسات المحتلين، والتمكين للغزو الثقافي الذي يستهدف عقيدة الأمة وفكرها ومقومات نهضتها.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لو تمثلت أمتكم روح الهجرة وتضحياتها لما وصلت إلى هذا الحد من استهانة الأمم بها، فروح الهجرة تعني اليقين الجازم بأن الله ينصر دينه ويؤيد رسوله، إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40].
ولذلك عاد من كان يطارد رسول الله في الصباح، عاد حارسًا له في المساء بعد أن رأى بأُم عينيه أن الله يمنع رسوله، ولكنه عاد بجائزة عظيمة، إنها سواري كسرى، عاد بسواري كسرى، ليتسلمها سراقة بن مالك في عهد الفاروق عمر، يوم وصل المسلمون إلى مدائن كسرى، وبادت دولة الأكاسرة.
إنها الثقة بالله، واليقين بنصره، حين لا يتوجه المرء إلا لله، فلا ضعيف مع الله، ولا قوي بسواه، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ [المائدة:56].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ونقرأ في كتاب الله العزيز قوله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، ومن يتابع مراحل الدعوة الإسلامية يرى المسلمين في مكة وقد تعرضوا لكل أصناف البلاء والاضطهاد من قبل كفار مكة، ولم يسلم من أذى المشركين رسول الله ، فصبر هو وأصحابه، وتحمل الأذى، وتسامت هممهم فوق كل بلاء في سبيل الله ونصرة دينه والثبات على الإيمان، حتى ضاق المشركون بهم ذرعًا، وراحوا يبطشون بأصحاب النبي ، ويخططون لقتل النبي نفسه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال:30].
فأذن النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه بالهجرة إلى المدينة المنورة حيث دار الهجرة، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، إن المهاجرين في هذه الأيام غرباء في ديار الإسلام.
أيها المسلمون، وبالمهاجرين والأنصار قامت دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة على أسس الإيمان والمؤاخاة وتربية المسجد الذي بناه النبي عليه الصلاة والسلام أول ما نزل المدينة، هذا يؤكد على دور المسجد في إعداد الأجيال الربانية وحملة الدعوة الإسلامية.
وقد نظم نبينا عليه الصلاة والسلام حياة مجتمع المدينة في وثيقة دستورية تحفظ حقوق المسلمين وغير المسلمين في سماحة وعدالة لم تعرفها أحدث القوانين الوضعية، ولم تقترب منها، وكيف لا والرسول صلى الله عليه يشرع من وحي ربه، والبشر يشرعون من هوى أنفسهم، وينحرفون مع مصالحهم.
أيها المسلمون، ولم يمض طويل وقت حتى عاد المهاجرون الذين تركوا الأوطان والأهل والأموال في سبيل الله، نصرة لدينه واتباعًا لرسوله، عادوا براية الحق التي هاجروا تحت لوائها فاتحين منتصرين، ليعلو نداء التوحيد فوق البيت الحرام وتنتهي عبادة الأوثان والأصنام، وإذا بمكة ومن حولها من جزيرة العرب تذعن لراية الهجرة، راية الحق، ويُهدي الله جل في علاه نصره لرسوله والذين آمنوا في الحياة الدنيا، وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:10]، فهلا حقق المسلمون في هذه الأيام وهم يعيشون ذكرى الهجرة النبوية وصف الإيمان الذي ينصر الله أهله، كما نصر الصحابة الكرام بقيادة النبي عليه الصلاة والسلام ومن سار على نهجه من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين.
لقد علمتنا الهجرة الشريفة أن الثقة واليقين بالله يقودان إلى نصره الموعود لعباده المؤمنين، وصدق الله العظيم: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، جاء في الحديث الشريف عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) ، أو كما قال.
التائب من الذنب كمن لا ذنب له. فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اقتدى واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
وبعد: أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، لم تكتف سلطات الاحتلال الإسرائيلي بما يقوم به جيشها من اجتياح للمدن والقرى وقتل للأبرياء وفرض الحصار على سائر الأرض الفلسطينية، وترويع الآمنين بهدم البيوت، وتجريف الأراضي، وقطع الأشجار لمواصلة بناء جدار الفصل العنصري، إمعانًا في تكريس الاحتلال وتقطيع أوصال الأرض الفلسطينية لإعاقة الحياة العادية للمواطن الفلسطيني، بعزل المُزارع عن مزرعته، والطالب عن مدرسته وجامعته، والطبيب عن عيادته، وأبناء الأسرة والبلدة الواحدة عن بعضهم بعضًا.
لم تكتف هذه السلطات بكل هذه الممارسات الظالمة، بل أضافت إليها سطوًا وقرصنة على أموال البنوك العربية والعبث في محتوياتها وحساباتها ومصادرة أموالها، مرهبة الموظفين والمراجعين، في سابقة خطيرة تستهدف زعزعة الحياة الاقتصادية لأبناء شعبنا التي تزداد حرجًا يومًا بعد يوم، جراء الممارسات الإسرائيلية، مع أن كل هذه الممارسات التي تهدف إلى إذلال شعبنا والتضييق عليه لن تزيد هذا الشعب المرابط إلا إصرارًا على البقاء وتمسكًا بحقوقه الثابتة مواصلاً حياته في رباط وثبات فوق تراب وطنه الطهور.
يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، ومن الممارسات الظالمة ما تفوه به نائب وزير الدفاع الإسرائيلي بوصفه الفلسطينيين والعرب بأنهم يعانون من خلل في صفاتهم الوراثية، يدفعهم هذا الخلل إلى قتل الآخرين، إن أقل ما توصف به هذه التفوهات بالعنصرية والاعتداء على حكمة الله في خلقه وتكريمه لبني الإنسان.
وقريب من هذه التفوهات وفي نفس السياق ما تفوه به أحد الحاخامين اليهود بوصفه للدين الإسلامي بأنه دين متخلف، ودعا إلى فصل المواطنين العرب عن الإسرائيليين لعدم إمكانية التعايش بين الإسرائيليين والعرب في الدولة العبرية على حد قوله وزعمه.
إن هذه التفوهات والتي سبقتها تفوهات كثيرة بوصف العرب بالصراصير أو الأفاعي أو الذئاب تدل بوضوح على العقلية السوداوية تجاه الدين الإسلامي، والعنصرية البغيضة ضد المواطنين العرب من أبناء فلسطين المحتلة.
لقد أقر الدين الإسلامي يهود المدينة على دينهم، وحفظ حقوقهم في الوثيقة التي وضعها النبي لتنظيم حياة مجتمع المدينة في ظل دولة الإسلام الأولى، وعاش غير المسلمين على امتداد التاريخ الإسلامي في ظل دولة الإسلام يتمتعون بكامل حقوقهم الدينية والمدنية، ولكنها عدالة الإسلام وسماحة المؤمنين.
إنه الإسلام ـ أيها الناس ـ الذي كفل كرامة الإنسان دون النظر إلى دينه وجنسه، فلا عزة للمسلمين بغير الإسلام، ولا سعادة للبشرية المنكوبة بعيدًا عن سلطانه وأحكامه.
ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(1/3018)
الحج دروس وعبر
فقه
الحج والعمرة
يزيد بن الخضر ابن قاسي
بوزريعة
1/12/1424
علي مغربي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تاريخ بدء الحج. 2- قصة بناء الكعبة المشرفة. 3- دروس وعبر في الحج. 4- فضل الحج المبرور. 5- نداء ودعوة للمسارعة بالحج. 6- تعريف الحج وشيء من فقهه. 7- مفاهيم خاطئة شائعة بين الناس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، إن إخوانكم في هذه الأيام قد عقدوا الإحرام، وقصدوا بيت الله الحرام، وملؤوا الفضاء بالتلبية والتكبير والتهليل والإعظام، مستجيبين في ذلك لنداء رب العالمين، نداء الرحمن الرحيم، على لسان نبيه وخليله إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وذلك لما انتهى إبراهيم وولده إسماعيل من بناء بيت الله الحرام، أمر الله خليله إبراهيم بأن يؤذن في الناس بالحج قال تعالى: وَأَذّن فِي ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ [الحج:27]، فقال إبراهيم: يا رب، كيف أُبلغ الناس وصوتي لا ينفذ إليهم؟! فقال: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتًا فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوتُ أرجاء الأرض، وأجابه كلُ شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة، لبيك اللهم لبيك.
فأجاب هذا النداء المسلمون القادرون، المؤمنون الموحدون، المخلصون الراغبون فيما عند الله، مقبلين إلى بيته الحرام، من كل فج عميق، مشاةً وراكبين، من كل الجهات والأقطار، قاطعين الفيافي والقفار، والأمصار والبحار، مفارقين الأوطان والديار، وتاركين الشهوات والأوطار، ومنفقين الدرهم والدينار، رجاء المغفرة والعتق من النار، شعارهم وكلامهم وتردادهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
وإن دخول موسم الحج ـ يا عباد الله ـ يحرك الساكن ويهيج المشاعر، وكلما هب نسيم الرحيل إلى بيت الله الحرام، وبدأت الوفود بالسفر والرحيل، وارتفعت أصوات الملبين، حنت القلوب، واقشعرت الجلود، وذرفت العيون شوقا إلى بيت الله الحرام، لقد ساروا وقعدنا، وقرُبوا وبعُدنا، فإن كان لنا معهم نصيب سعدنا.
يا سائرين إلى بيت العتيق لقد سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وقد رحلوا ومن أقام على عذر كمن راحا
إن الحج ـ معشر المسلمين ـ شعيرة من شعائر الله العظيمة، شرعها الله لإبراهيم، ثم أقرها وبين مناسكها رسولنا الأمين، وإن بيت الله الحرام هو منبع الإسلام ومنارة التوحيد، بناه إمام الموحدين خليل الرحمن إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
في بناء البيت قصة عجيبة وعظيمة، أوردها البخاري في صحيحه، وذلك لما جاء إبراهيم عليه السلام بهاجر وابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت العتيق، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هناك ووضع عندهما ماء وتمرًا، ثم انطلق إبراهيم، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟! قالت ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذا لا يضيعنا. ثم انطلق إبراهيم عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات: رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ?لْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ فَ?جْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ?لنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَ?رْزُقْهُمْ مّنَ ?لثَّمَر?تِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]، وجعلت أم إسماعيل ترضع ولدها إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نَفِد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فقامت على الصفا ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدًا، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا، فقالت: صه، ثم تسمعت فسمعت أيضًا، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه بيدها، فشربت وأرضعت، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة، فإن هذا البيت يبنيه هذا الغلام وأبوه.
وإن في قول إبراهيم عند دعائه: فَ?جْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ?لنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ لفائدة جليلة، قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيره: "لو قال أفئدة الناس لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم، ولكن قال: مّنَ ?لنَّاسِ فاختص به المسلمون".
فنحن المسلمون على إرث عظيم من إرث إبراهيم، وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في جاء في رواية الترمذي وأبي داود وغيرهما بسند صحيح: ((كونوا على مشاعركم، فإنكم اليوم على إرث من إرث إبراهيم)). فهذا من فضائل وخصائص هذه الأمة.
وإن الله تعالى جعل في الحج منافع عظيمة وحكما بديعة، وذلك لما جمع الله فيه من شرف المكان والزمان.
قال تعالى: لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ [الحج:28]، فهذه المنافع والخيرات التي ينالها الحاج ويصيبها في الحج هي منافع الدنيا والآخرة، وأجلّها وأعظمها مغفرة الله تعالى ورضاه، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: (منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة فرضوان الله جل وعلا، وأما منافعُ الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات).
وعلى هذا يجوز لمن قصد الحج أن يَأخُذَ بضاعة معه ليبيعها في الحج، ما دامت النية للحج هي الأصل وهي الدافع ابتداءً، وليست نية التجارة.
وكما لا ينكر على من يجلب بضاعة من الحج لينتفع بها أو ليبيعها في بلده، وأن هذا من المنافع التي كتبها الله للحاج كما دلت عليه الآية، ولقوله تعالى أيضا: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ [البقرة:198]، نزلت في شأن التجارة في موسم الحج.
وإن في تشريع الحج حِكما كثيرة ودروسا بليغة، منها:
تحقيقُ التوحيد لله عزّ وجل، فهذه التلبية التي يرددها الحجاج أثناء مناسكهم تتضمن معنى التوحيد الذي هو أساس الدين وقوامه، كما تتضمن البراءة من الشرك بكل صوره وشتى أنواعه وأشكاله.
فالواجبُ على المسلمين جميعا أن يستحضِروا ما دلّت عليه هذه الكلمة من معنى، وأن يعرفوا ما تضمّنته من دلالة عظيمة، فالمسلم الموحد لا يسأل ولا يدعوإلا اللهَ، ولا يستغيث إلا بالله، ولا يتوكَّل إلا على الله، لا يذبح ولا ينذر إلا لله، مستيقنًا أنَّ الخير كلّه بيد الله، وأزمَّة الأمور بيده، ومرجعها إليه، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.
قال ابن القيم رحمه الله: "وقد اشتملت كلماتُ التلبية على قواعدَ عظيمة وفوائد جليلة... منها: أن التلبيةَ تتضمّن التزامَ دوامِ العبودية، ومنها: أنها تتضمّن الخضوعَ والذل، ومنها: أنها تتضمَّن الإخلاصَ لله جل وعلا".
ومن حكم الحج ذكر الله عز وجل، قال تعالى: وَأَذّن فِي ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْبَائِسَ ?لْفَقِيرَ [الحج:27، 28]، فذكر الله هو أول المقاصد التي أرادها الله من هذه العبادة، حيث أراد أن ترتبط القلوب به خلال أيام الحج.
ومن دروس الحج وحِكمه الاستسلام والامتثال لأمر الله، وهو ما يتربى عليه الحاج في عدد من شعائر الحج، وذلك نراه في امتثال الحجاج وقيامهم بالكثير من العبادات التي قد لا نرى وجه الحكمة فيها، كالطواف والسعي وكونهما سبعًا، والابتداء بالطواف من الحجر الأسود بعد تقبيله أو استلامه أو الإشارة إليه، وبداية السعي من الصفا، ورمي الجمرات بسبع حصيات. كل ذلك يصنعه الحاج عبودية لله تعالى وامتثالاً لأمره واستسلامًا لشرعه.
عباد الله، وإن من حكم الحج ودروسه كذلك ما جاء في قول نبينا عند كل منسك من مناسك الحج، مخاطبا الصحابة وأمته: ((خذوا عني مناسككم)). وهذا ليعلم المسلمون وليتذكروا وليستيقنوا أنه لا سعادة ولا نجاح ولا توفيقَ ولا سدادَ في هذه الحياة الدنيا ولا في الآخرة إلا باتباع النبي ، والسير على طريقته ومنهاجه، والأخذ بهديه وسنته في الاعتقاد والأعمال، وفي الحكم والتَّحاكم، وفي الأخلاق والسلوك.
ومن دروس الحج أيضًا تذكر يوم الحشر الأكبر، فأنت لما ترى ذلك الحشد الكبير من الناس على اختلاف حالهم وأصلهم، فقيرهم وغنيهم، قويهم وضعيفهم، حاكمهم ومحكومهم، عربيهم وأعجميهم، أبيضهم وأسودهم، كلهم بلباس واحد، ويرددون كلامًا واحدًا، فهذا المشهد العظيم يذكر بيوم يحشر فيه الناس إلى ساحة المحشر.
ومن حكم الحج ودروسه كذلك إغاظة المشركين، فثمة أمور صنعها النبي أول ما صنعها إغاظة للمشركين.
ومن ذلك الرمل في الأشواط الثلاثة الأُوَل في الطواف وفي السعي إظهارا لقوة المسلمين، ونحن نصنعها تأسيًا بنبينا.
ولا شك أن اجتماع المسلمين في الحج رمز لإظهار الوحدة والقوة، قال أحد المستشرقين من دعاة التنصير: "سيظلّ الإسلام صخرةً عاتية تتحطّم عليها سفن التبشير ما دام للإسلام هذه الدعائم: القرآن، واجتماعُ الجمعة، ومؤتمر الحج".
والحق ما شهدت به الأعداء، فإن موسم الحج أو مؤتمر الحج كما سموه يبعث ويغرس في المسلمين روح الوحدة والترابط، والاجتماع والائتلاف، وكيف لا يجتمعون ولا يتوحدون وربهم واحد، ودينهم واحد، ونبيهم واحد، وهم على قبلة واحدة، مناسكهم واحدة، لباسهم واحد، وشعارهم واحد. لهذا كان موسم الحج رمزا للقوة وعبرة للوحدة، ويا ليت المسلمين استفادوه منه، ولكن هيهات هيهات.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، إن الله تعالى قد وعد بالفضل العظيم والثواب الجسيم لمن لبى نداءه وحج بيته الحرام.
فقد صح عن النبي أنه قال: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) ، وعن ابن مسعود رض الله عنه قال: قال رسول الله : ((تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة)) رواه أحمد وصححه الألباني.
وفي الصحيح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت رسول الله فقلت: ابسط يدك فلأبايعك، فبسط فقبضت يدي، فقال: ((ما لك يا عمرو؟)) ، قلت: أشترط، قال: ((تشترط ماذا؟!)) قلت: أن يغفر لي، قال: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله)).
فالحاج الذي لم يرفث ولم يفسق يخرج طاهرا نقيا من الذنوب صغيرها وكبيرها كيوم ولدته أمه.
فيا لله على هذا الثواب العظيم، ويا لله على هذا الثواب الجسيم.
وزيادة على هذا فإن للحاج دعوة مستجابة، فقد روى ابن ماجة بسند حسن عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم)).
والحاج في حفظ الله تعالى، فقد صحح الألباني من رواية الحميدي أن النبي قال: ((ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج إلى المسجد من مساجد الله، ورجل خرج غازيًا في سبيل الله، ورجل خرج حاجًا)).
ومما جاء في فضل الحج وأنه منفاة للذنوب ما أخرجه الطبراني وحسنه الألباني من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتب الله بها لك حسنة، ويمحو عنك بها سيئة، وأما وقوفك بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي، جاؤوني شعثًا غبرًا من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي، ولم يروني، فكيف لو رأوني؟! فلو كان عليك مثل رمل عالج أو مثل أيام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوبًا غسلها الله عنك، وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك، وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك)).
إن في هذه الأحاديث دعوة ونداءً للمبادرة إلى الحج، فالغنيمة الغنيمة، والمبادرة المبادرة، والعجل العجل قبل حلول الأجل، لمن استطاع إلى ذلك سبيلا، فمن استطاع أن يلبي فيها نداء ربه فليفعل ولا يؤخر ولا يتماطل، فإن العبد لا يعلم متى موعد رحيله من هذه الدنيا، والحج أيام معدودات، ومن لم يجب نداء الحج مع استطاعته تهاونًا وتكاسلاً فقد أتى ذنبًا عظيما، وأصاب جرمًا كبيرًا وكان من المحرومين.
والحج هو قصد مكة للتعبد لله عزوجل بأداء المناسك على ما جاء في سنة رسول الله.
والحج واجب على المسلم الحر المكلف القادر مرة في عمره على الفور، والقادر والمستطيع هو القادر في ماله وبدنه، وهذا بعد قضاء الواجبات والنفقات الشرعية والحوائج الأصلية، أي: بعد قضاء الديون والكفارات والنذور والنفقات الواجبة والشرعية مما يكفيه وعائلته إلى أن يرجع من الحج، والحوائج الأصلية يعني: لا بد أن يكون ما عنده من المال زائدًا على الحوائج الأصلية وهي التي يحتاج إليها الإنسان كثيرًا.
ومن كان عنده مال وأعجزه كبره أو أعجزه مرض لا يرجى برؤه لزمه أن يقيم من يحج عنه، ويجزي عنه.
والمعذور الذي لا يقدر فنيته في قلبه، وعذره عند ربه، وربما سبق بعض من سار بقلبه وهمّته وعزمه بعض السائرين ببدنه؛ لأن المتخلف لعذر شريك للسائر، كما قال النبي لما رجع من غزوة تبوك: ((إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم، حبسهم العذر)) ، أي: معكم في الأجر. وبهذا الصدد نود أن ننبه على بعض المفاهيم والأفكار الخاطئة والشائعة عند بعض الناس.
فكون الحج واجبا على من استطاع فقد يقع في نفوس بعض الناس التخفيف من شأنه وأمره، فيؤول بهم الأمر إلى التكاسل والتهاون أو أن يفهموا ذلك بمفهوم التخيير.
ومن المفاهيم الخاطئة كذلك فهمُ وجوب الحج على الاستطاعة بمفهوم التأخير دون الفورية والمبادرة إليه، فيؤخر الواحدُ حجَه بحجة أنه لم بلغ الأربعين أو الستين، أو يقول: ما زلت صغيرًا، وإلى غير ذلك من الأعذار غير المقبولة.
اعلم ـ أخي المسلم ـ أن لو كان عمرك في سن التكليف وهو ما حدده العلماء بسن الخامسة عشر، وكان عندك القدرة المالية والبدنية لوجب عليك الحج، وإن تركته وأنت في سن التكليف ظنًا منك صغر سنك لأثمت عند الله، ولم تكن من المعذورين.
ومن المفاهيم والأفكارالمنحرفة عن صراط الله أن بعض الناس يمتنعون عن الحج مع قدرتهم عليه ماليًا وبدنيًا، بسبب أنهم يكرهون الدولة الفلانية وحكومتها، وقد سمعت أحدهم يتبجح ويقول: أنا لا أحج لأني لا أريد أن أمكّن أو أعطي مالي لهؤلاء الناس ليستفيدوا منه، ويقول: لو أن الحاج تصدق بقيمة تكلفة الحج على الفقراء لكان أفضل من أن يأخذه هؤلاء. وفي الحقيقة مثل هذه الأفكار أو الآراء السفيهة ناتجة عن خلفية سياسية عقيمة تغذيها أفكار حاقدة على الإسلام والمسلمين، والمسلم العاقل يدرك بفطرته بطلانها، وأنها دليل على خفة الدين ونقص الإيمان. والله المستعان.
ومن الأخطاء الشائعة ترك فريضة الحج مع القدرة أو تسويفه من أجل المشاريع، أو الصفقات التجارية الزائدة عن الحاجة.
ومن الأخطاء كذلك ترك فريضة الحج مع الاستطاعة بسبب البخل والشح، أو خشية الفقر، وهذا في الحقيقة من تخويف إبليس كما قال تعالى: ?لشَّيْطَـ?نُ يَعِدُكُمُ ?لْفَقْرَ [البقرة:268]، والرسول يقول : ((تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب)) ، فبين أن الحج ينفي الفقر عن المسلم.
ومن الأخطاء كذلك ترك فريضة الحج عمن توفي وكان له مال، فيذهب الورثة إلى اقتسام التركة أو الفريضة دون التفكير في الحج عن المتوفى، سواء كان المتوفى من الوالدين أو من الأرحام، فمن الجهل والغفلة أو من اللؤم والخسة أن يقتسم الأبناء إرث والديهم أو أحدهما دون التفكير في الحج عنه، أو يدفعان مؤنة وتكاليف ذلك لمن يحج بدلهما، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!
ومن منكرات السفر ـ عباد الله ـ إلى بيت الله الحرام سفر المرأة لوحدها دون محرم، وهذا مما نهى عنه الشارع الحكيم؛ لما قد يترتب جراء ذلك من المفاسد، ففي الصحيحين قال : ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها)) ، وقال أيضا: ((لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم)) ، فقال له رجل: يارسول الله، إنّ امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا؟ قال: ((انطلق فحجّ مع امرأتك)).
ومن المنكرات كذلك ما يفعله بعض الناس في بعض مناطق البلاد قبل سفرهم أو ذهابهم إلى الحج، فيقومون بالطواف على القبور أو المعالم التي ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا من الجهل بدين الله، وهو من البدع الشركية المنكرة، فإن الطواف خصه الله تعالى بالكعبة فقط، وهو شعيرة من شعائر الحج والعمرة، فلا يجوز لمسلم موحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يطوف بغير الكعبة.
ومما يجب على الحاج اجتنابه وبه يتم بِرُ حجه أن لا يقصد بحجه رياء ولا سمعة، ولا مباهاة ولا فخرا ولا خيلاء، ولا يقصد به إلا وجه الله ورضوانه، ويتواضع في حجه ويخشع لربه.
وعلى المسلم أن يحج بالطيب من الكسب، من المال الحلال؛ فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.
إذا حججتَ بمال أصله سحتُ فما حججتَ ولكن حجّت العيرُ
لا يقبل اللهُ إلاّ كلَّ طيّبة ما كلُ من حج بيتَ الله مبرورُ
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفق الحجاج لأداء مناسك الحج، اللهم اجعل حجهم حجا مبرورا، وسعيهم سعيا مشكورا، وواجعل ذنبهم مغفورا، اللهم من لم يستطع منهم الحج فافتح له أبواب فضلك وإحسانك، ووفقه لتلبية ندائك يا أكرم الأكرمين.
(1/3019)
ولاية الله
قضايا في الاعتقاد
الأولياء
عبد الخالق بن عبد الله سنان جميعان
مكة المكرمة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله يخلق ما يشاء ويختار. 2- فضل ولاية الله. 3- تعريف ولاية الله وحقيقتها. 4- أنواع الولاية. 5- مراتب الولاية. 6- شروط الولاية. 7- الطريق إلى ولاية الله تعالى. 8- مفاهيم خاطئة عن الولاية والأولياء.
_________
الخطبة الأولى
_________
فقد اقتضت حكمة الله تعالى في خلقه أن جعل منهم المؤمن والكافر، والولي والفاجر، والسعيد والشقي، والعالم والجاهل، والغني والفقير، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ [القصص:68].
ولقد أكرم الله سبحانه بعض عباده فهداهم إلى الإيمان به، وإلى معرفته وطاعته ومحبته ونصرة دينه، فصاروا بذلك أولياء له سبحانه وتعالى: ?للَّهُ وَلِيُّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ [البقرة:257].
فجعل لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، كما قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ ?لْبُشْرَى? فِي ?لْحَيو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ?للَّهِ ذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [يونس:62-64].
وأخبر سبحانه بأنه معهم ينصرهم ويؤيدهم، كما قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّ?لَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128]، وقال سبحانه: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?دُ [غافر:51]، وفي الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه عز وجل: ((فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) [1].
وأكرم الله تعالى أولياءه بتبشير الملائكة لهم عند خروج روحهم من هذه الحياة الدنيا، فقال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ [فصلت:30، 31].
وعادى سبحانه وتعالى من عادهم وآذاهم فقال : ((إن الله قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب)) [2] ، قال ابن رجب: "أي: فقد أعلمته بأني محارب له، حيث كان محاربًا لي بمعاداة أوليائي" [3].
أيها المسلمون، الولاية ضد العداوة، وأصلها: المحبة والقربة.
ولاية الله: موافقته بأن تحب ما يحب، وتبغض ما يبغض، وتكره ما يكره، وتسخط ما يسخط، وتوالي من يوالي، وتعادي من يعادي.
ولي الله: هو العالم بالله تعالى، المواظب على طاعته، المخلص في طاعته.
أيها الإخوة المؤمنون، إن لولاية الله عز وجل أنواعًا ومراتبَ وشروطًا.
أما أنواعها فهي نوعان: عامة وخاصة.
فالعامة: ولاية كلّ مؤمن، فمن كان مؤمنًا تقيًا كان لله وليًا، وفيه من الولاية بقدر إيمانه وتقواه.
والولاية الخاصة: أن يكون العبد قائما لله بجميع حقوقه، مؤثرا له على كل ما سواه في جميع حالاته، قد صارت مراضي الله ومحابه هي همه ومتعلق خواطره، يصبح ويمسي وهمه مرضاة ربه وإن سخط الخلق عليه، فهذا له الولاية الخاصة، وفي الحديث: ((ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)) [4].
وأما مراتبها فقد ذكرها الله تعالى في قوله: وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لَّذِينَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ?لنَّبِيّينَ وَ?لصّدّيقِينَ وَ?لشُّهَدَاء وَ?لصَّـ?لِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، فالأنبياء هم أفضل الأولياء، ثم يليهم الصديقون، ثم الشهداء، ثم الصالحون. وبهذا يتبين أن الأولياء ليسوا في درجة واحدة بل بعضهم أفضل من بعض.
وما شروطها:
فأولها: الإيمان والتقوى، قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:62، 63]، قال الطبري: "وليّ الله هو من كان بالصفة التي وصفه الله بها، وهو الذي آمن واتقى" [5].
وثانيها: متابعة الرسول والاقتداء به، قال ابن تيمية: "فأولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد ، فيفعلون ما أمر به، وينتهون عما عنه زجر، ويقتدون به فيما بيَّن لهم أن يتبعوه فيه" [6] ، وقال رحمه الله: "ومن ظن أن لأحد من أولياء الله طريقًا إلى الله غير متابعة محمد باطنًا وظاهرًا فهو كافر".
أيها المسلمون، ولاية الله تعالى هي الغاية التي خلقنا من أجلها، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وهي ليست بضاعة يتوارثها الأبناء عن الآباء، بل هي منهج واضح وصراط مستقيم، وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ [الأنعام:153]، وإن الطريق إليها ليس مفروشًا بالورود والرياحين، بل يتطلب جهدًا ووقتًا وتضحية.
والباب الأعظم للدخول إلى ساحتها هو الإيمان بالله وبما جاء عنه سبحانه وتعالى، والإيمان برسوله وبما جاء عنه، والقيام بكل ما أمر به، واجتناب كل ما نهى عنه، والإكثار من نوافل العبادات والطاعات، قال : ((إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما يتقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)) [7].
فاحرصوا ـ رحمكم الله ـ على ما يقربكم عند ربكم زلفى لعلكم تفلحون.
[1] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: التواضع (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: التواضع (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] جامع العلوم والحكم (2/334).
[4] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: التواضع (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] جامع البيان (15/122).
[6] مجموع الفتاوى (11/274).
[7] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: التواضع (6502)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
سبق وأن عرفنا أن ولي الله من حافظ على أوامر الله ونواهيه، متابعًا في ذلك رسوله ، مخلصًا في ذلك لربه في عبادته وفي شأنه كله، إلا أنه حصل خلط عند كثير من الناس في معنى الولاية وحقوقها، فالولي عندهم من انتصب لتوزيع الأوراد الطرقية، ولو كان في غاية من الجهل بدينه، وعند بعضهم الولي من اشتهر بالكهانة والسحر وسموه في اصطلاحهم (مرابطًا) ولو تجاهر بترك الصلوات وشرب المسكرات، وعند آخرين هو كل معتوه مجنون يهيم في الفلوات ولا يتحاشى النجاسات.
وهذا فَهَمٌ سقيم، وباطلٌ عظيم؛ لأن الله تعالى يقول: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:62، 63]، قال الجنيد بن محمد: "علمنا هذا مقيَّد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم بعلمنا" [1] ، وقال غير واحد من أهل العلم: "لو رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهي" [2].
وزادوا على ذلك فاخترعوا لهم مراتب وألقابا، فجعلوا منهم الأقطاب والأئمة والأوتاد والأبدال والنقباء والنجباء والرجيبيون والأفراد.
وهذا تقسيم لا خِطام له ولا زمام، قال ابن تيمية: "أما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل "الغوث" الذي بمكة و"الأوتاد الأربعة" و"الأقطاب السبعة" و"الأبدال الأربعين" و"النجباء الثلاثمائة"، فهذه أسماء ليست موجودة في كتاب الله تعالى؛ ولا هي أيضًا مأثورة عن النبي بإسناد صحيح ولا ضعيف" [3].
وحق هؤلاء الأولياء على الناس عند هؤلاء القوم الجزم بولايتهم، والشهادة لهم بالجنة، ثم الطاعة العمياء لهم ولو في معصية الله، وبذل الأعراض والأنفس والأموال لهم.
ثم اعتقدوا فيهم بأنهم يعلمون الغيب، وأنهم قادرون بالتصرف في الكون والحياة، واعتقدوا بأنهم معصومون من جميع الأخطاء، واعتقدوا أنهم يغيثون من يستغيث بهم ويتوجه إليهم بالتوسل والدعاء، وهذا ـ لعمرو الله ـ ضلال مبين وجهلٌ عظيم وخطر مستطير، قال الله تعالى: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ و?لأرْضِ ?لْغَيْبَ إِلاَّ ?للَّهُ [النمل:65]، وقال: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ?لْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـ?تِ ?لأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59]، وقال تعالى: وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء [يونس:107].
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ ولا تغتروا بأمثال هذه الترّهات، واحرصوا على طاعة ربكم ومرضاته، واقتدوا في كل أقوالكم وأعمالكم بسنة نبيكم تفلحون.
ثم صلوا وسلموا على من بعثه الله رحمة للعالمين، وهاديًا للناس أجمعين، نبيكم محمد...
[1] انظر: الرد على المنطقيين، لابن تيمية (ص515).
[2] انظر: الرد على المنطقيين (ص515-516).
[3] مجموع الفتاوى (11/433).
(1/3020)
كرامات الأولياء
قضايا في الاعتقاد
الأولياء
عبد الخالق بن عبد الله سنان جميعان
مكة المكرمة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة دراسة مسائل العقيدة. 2- تعريف الكرامات وبيان الموقف الشرعي منها. 3- الكرامات في الكتاب والسنة. 4- تمييز الكرامة من غيرها. 5- فوائد الكرامات. 6- التحذير من الاستشراف للكرامات. 7- المنحرفون في باب الكرامات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي الزاد وبها المعاد، زاد مبلِّغ، ومعادٌ منجح، دعا إليها أسمعُ داع، ووعاها أفقهُ واعٍ، فأسمع داعيها، وفاز واعيها.
عباد الله، إن تقوى الله سبحانه حمت أولياءَ الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، استقربوا الأجل فبادروا العمل، وكذَّبوا الأملَ فلاحظوا الأجل.
أيها المسلمون، إن دراسة مسائل العقيدة ـ عقيدة الفرقة الناجية والطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة ـ هي من الضرورات المُلحَّة التي لا يستغني عنها المسلم في إحياء قلبه وإنارته بنور الله، ولقد أجلبَ السلف الصالح على هذه العقيدة بخيْلهم ورَجْلهم دراسةً وتأليفًا وتعلُّمًا وتعليمًا.
وإن من أصول أهل السنة والجماعة التي يجب الإيمان بها الإيمان بكرامات الأولياء وإثباتها، والتصديق بها، واعتقاد أنها حق، وذلك باتفاق أئمة أهل الإسلام.
عباد الله، الكرامات هي الأمر الخارق للعادة يظهره الله تعالى على يد عبد من عباده الصالحين حيًا أو ميتًا؛ إكرامًا له، فيرفع عنه ضرًا، أو يحقق له نفعًا، أو ينصر به حقًا، ولكنها لا تصل إلى الخوارق التي أظهرها الله تعالى على أيدي أنبيائه ورسله لإثبات نبوتهم.
قال الله تعالى: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ?لْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ ي?مَرْيَمُ أَنَّى? لَكِ هَـ?ذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ?للَّهِ إنَّ ?للَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37].
قال مجاهد وعكرمة وجماعة: "يعني وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف" [1] ، وقال ابن كثير: "وفي الآية دلالة على كرامات الأولياء" [2].
فالكرامات ثابتة بالقرآن والسنة والواقع.
فمن الكرامات الثابتة بالقرآن: قصة أصحاب الكهف الذين عاشوا في قوم مشركين، وهم قد آمنوا بالله، وخافوا على أن يغلبوا على أمرهم، فخرجوا من القرية مهاجرين إلى الله عز وجل، فيسر الله لهم غارا في جبل، وجه هذا الغار إلى الشمال، فلا تدخل الشمس عليهم فتفسد أبدانهم ولا يحرمون منها، إذا طلعت تزاورُ عن كهفهم ذات اليمين، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال، وهم في فجوة منه، وبقوا في هذا الكهف ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، وهم نائمون، يقلبهم الله ذات اليمين وذات الشمال، في الصيف وفي الشتاء، لم يزعجهم الحر، ولم يؤلمهم البرد، ما جاعوا وما عطشوا وما ملوا من النوم. بقوا هكذا حتى بعثهم الله وقد زال الشرك عن هذه القرية، فسلموا منه.
ومن ذلك قصة مريم رضي الله عنها، أكرمها الله حيث أجاءها المخاض إلى جذع النخلة، وأمرها الله أن تهز بجذعها لتتساقط عليها رطبا جنيا.
ومن ذلك قصة الرجل الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه،كرامة له؛ ليتبين له قدرة الله تعالى، ويزداد ثباتا في إيمانه.
أما الكرامات في السنة فمنها ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذا أصابهم مطر فأووا إلى غار فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه، فقال واحد منهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فرق من أرز فذهب وتركه وأني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره أن اشتريت من بقرا وأنه أتاني يطلب أجره فقلت له أعمد إلى تلك البقر فسقها فقال لي إنما لي عندك فرق من أرز فقلت له اعمد إلى تلك البقر فإنها من ذلك الفرق فساقها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، فانساحت عنهم الصخرة، فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي فأبطأت عليهما ليلة فجئت وقد رقدا وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أدعهما فيستكنا لشربتهما فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساحت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء، فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلى وأني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار فطلبتها حتى قدرت فأتيتها بها فدفعتها إليها فأمكنتني من نفسها فلما قعدت بين رجليها فقالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركت المائة دينار فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، ففرج الله عنهم فخرجوا)) [3].
قال النووي: "وفيه إثبات كرامات الأولياء، وهو مذهب أهل السنة" [4].
وأما شهادة الواقع بثبوت الكرامات فظاهر، يعلم به المرء في عصره؛ إما بالمشاهدة، وإما بالأخبار الصادقة.
إخوة الإسلام، ليس كل ما يظهر على أيدي الصالحين ـ أو غيرهم ـ يكون كرامة من الله عز وجل، بل قد تكون غواية من الشيطان أو إضلالا من بعض الجن.
ولقد استقر عند كثير من العامة أن خرق العادة يدل على أن من وقع له ذلك من أولياء الله تعالى، وهذا غلط؛ فإن الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحر وكاهن وراهب، فيحتاج من يستدل بذلك على ولاية أولياء الله تعالى إلى فارق، والواجب أن يختبر حال من وقع له ذلك؛ فإن كان متمسكا بالأوامر الشرعية والنواهي كان ذلك علامة ولايته، ومن لا فلا.
قال غير واحد من أهل العلم: "لو رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهي" [5].
لذلك كان لا بد من بيان بعض الشروط التي يجب أن تحقق في صاحب الكرامة وفي الكرامة نفسها للتمييز بين الكرامة وكيد الشيطان.
ومن أهم تلك الشروط ما يلي:
أولاً: أن يكون صاحبها مؤمنا متقيا، وهو الوصف الذي ذكره الله عز وجل في كتابه بقوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:62، 63].
ثانيًا: أن لا يخالف أمرا من أمور الدين، فلو رأى في المنام أو في اليقظة أن شخصا في صورة نبي أو ملك أو صالح يقول له: قد أبحت لك الحرام أو حرمت عليك الحلال أو أسقطت عنك التكاليف أو نحو ذلك فلا يصدقه، لأن ذلك من الشيطان، إذ إن شريعة الله عز وجل باقية إلى يوم القيامة من غير نسخ، فإذا رأى الإنسان يقظةً أو منامًا ما يخالف ذلك فينبغي أن يعرف أنه من الشيطان.
ثالثًا: أن لا يدعي صاحبها الولاية، إذ إن الولاية درجة تتعلق بفعل الرب عز وجل وفعل العبد. فإن الله عز وجل يرفع المؤمن المؤدي لفرائضه والمجتنب لنواهيه المتقرب إليه بنوافل العبادات إلى درجة الولاية، والإنسان لا يعلم ذلك عن الله عز وجل، وهل قبل الله عز وجل من العبد عمله فرفعه به أم لم يقبله منه؟
فدعوى الولاية هي دعوى علم الغيب أولا، ثم إنها تزكية للنفس ثانيا.
أيها المسلمون، يتضمن وقوع هذه الكرامات حكمًا وفوائد كثيرة؛ أهمها:
1- أنها كالمعجزة، تدل أعظم دلالة على كمال قدرة الله، ونفوذ مشيئته، وأنه فعال لما يريد، وأن له فوق هذه السنن والأسباب المعتادة سننا أخرى لا يقع عليها علم البشر، ولا تدركها أعمالهم.
2- زيادة الإيمان والتثبيت للولي الذي ظهرت على يديه ولغيره من المؤمنين، قال تعالى: يُثَبّتُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?لْقَوْلِ ?لثَّابِتِ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ [إبراهيم:27].
3- أن فيها نصرة للدين وإعلاء لكلمة الله.
4- وفيها تكذيب القائلين بأن الطبيعة هي التي تفعل؛ إذ لو كانت الطبيعة هي التي تفعل لكانت على نسق واحد لا يتغير، فإذا تغيرت العادات والطبيعة دل على أن للكون مدبرا وخالقًا.
5- أنها من البشرى التي عجّلها الله تعالى لأوليائه في الدنيا، فإن المراد بالبشرى كل أمر يدل على ولايتهم وحسن عاقبتهم، قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ ?لْبُشْرَى? فِي ?لْحَيو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ [يونس:62-64].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
[1] انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (1/368).
[2] تفسير القرآن العظيم (1/368).
[3] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: حديث الغار (3465) ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب: قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال (2743)
[4] صحيح مسلم بشرح النووي (17/56) وانظر: فتح الباري (6/589).
[5] انظر: الرد على المنطقيين، لابن تيمية (515، 516).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، ينبغي للعبد المسلم الناصح لنفسه المريد لها الخير أن يجتهد في مرضات ربه وطاعة مولاه، ولا ينبغي له أن تستشرف نفسه الكرامة، بل الواجب عليه والمطلوب منه شرعا أن يلازمه الخوف أبدا، واحتقار النفس سرمدا، وأن ينظر إلى الخلق بعين الرحمة والنصيحة، وأن يبذل جهده في مراقبة عيوب النفس وآفاتها والخوف من سوء الخاتمة.
قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ ?لْبُشْرَى? فِي ?لْحَيو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ.
فذكر تعالى أن أولياءه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وهم المتقون، ولم يشترط أن يجري على أيديهم شيء من خوارق العادة، فدل أن الشخص قد يكون وليا لله وإن لم يجر على يديه شيء من الخوارق إذا كان مؤمنا متقيا.
قال أبو علي الجوزجاني: "كن طالبا للاستقامة، لا طالبا للكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة" [1].
عباد الله، مع بيان ما سبق من وجوب الإيمان بكرامات الأولياء إلا أنه قد انحرف في هذا الأصل قسمان من الناس:
الأول: الغالون: وهم الصوفية، فإنهم قد غلوا في شأن الكرامة وأفرطوا وتجاوزوا فيها الحد، حيث ادعوا باسم الكرامة للأولياء ما هو من خصائص الله وحده.
الثاني: المنكرون الجافون: وهم المعتزلة ومن تأثر بهم، وذلك أنهم جفوا في شأن الكرامة وفرطوا، فقالوا بإنكار الكرامة، ونفوا وقوعها، ولا شك أن هذا ضلال بعيد، وجهل عظيم؛ إذ الحق وسط بين الطرفين.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
عباد الله، صلوا على الحبيب رسول الله، فقد أمركم الله بذلك في محكم كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد...
[1] انظر: شرح العقيدة الطحاوية (ص508).
(1/3021)
آل البيت
قضايا في الاعتقاد
آل البيت
عبد الخالق بن عبد الله سنان جميعان
مكة المكرمة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل محبة الله تعالى. 2- من محبة الرسول. 3- تعريف آل بيت النبي. 4- فضائل آل البيت. 5- حقوق آل البيت. 6- صور مشرقة للسلف في توقير آل البيت.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الدين بالعروة الوثقى.
إخوة الإسلام، إن أعظم ما يحصله العبد في دنياه وآخرته هو محبة الله تعالى له، فهي الغاية التي يتنافس فيها المتنافسون, وإليها شخص العاملون, وإلى علمها شمر الصادقون, فهي جنة الدنيا ولذة القلب وقوته وحياته, فالقلب لا يفلح ولا يصلح ولا يتنعم ولا يبتهج ولا يلتذ ولا يطمئن ولا يسكن إلا بمعرفة الله تعالى ومحبته, فمحبة العبد لربه ومحبة الله لعبده هي النور والشفاء والسعادة واللذة, تالله لقد ذهب أهل المحبة بشرف الدنيا والآخرة.
عباد الله، إن من محبة الله وطاعته محبة رسوله وطاعته، قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ [آل عمران:31]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) [1].
ومن علامات محبته محبة من أحبّ، وطاعة من أمر بطاعته.
ومن ذلك محبه آل بيته ، وهم من تحرم الصدقة عليهم من بني هاشم من آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي : ((كِخْ، كِخْ)) ليطرحها، ثم قال: ((أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة؟!)) [2] ، وفي رواية لمسلم: ((أنا لا تحل لنا الصدقة)) [3].
ويدخل في آل بيته نساؤه رضي الله عنهن، قال الله تعالى: ?لنَّبِىُّ أَوْلَى? بِ?لْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْو?جُهُ أُمَّهَـ?تُهُمْ [الأحزاب:6].
وإن محبة آل بيت النبوة وإجلالهم مطلب شرعيّ قبل أن يكون علامة من علامات حبه ، كما قال تعالى: قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ ?لْمَوَدَّةَ فِى ?لْقُرْبَى? [الشورى:23].
أيها المسلمون، فضائل أهل البيت كثيرة مشهورة، ومحاسنهم عظيمة منثورة، منها:
أمره عليه السلام بمحبتهم، واختصاص الله للمباهلة بهم، ونزول آية التطهير بسببهم: إِنَّمَا يُرِيدُ ?للَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ?لرّجْسَ أَهْلَ ?لْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33]، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبي غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: إِنَّمَا يُرِيدُ ?للَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ?لرّجْسَ أَهْلَ ?لْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرًا [4].
وبُشر مُحبِّهم بالجنة ومسالمهم بالسلامة، وأنُذر محاربهم بالحرب، وشرع الصلاة عليهم معه في كل صلاة، وقرنهم في حديث الثقلين بكتاب الله، ووصى بهم وأكّد الوصاة بقوله: ((الله، الله)) [5].
مدارسُ آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفر العَرصات
وقد كان منهم بالحجاز وأهلها مغاوير نحّارون في السنوات
إذا فخروا يومًا أتوا بمحمدٍ وجبريل والقرآن ذي السورات
ملامك في أهل النبي فإنهم أحبايَ ما عاشوا وأهل ثقات
أحب قصي الرحم من أجل حبكم وأهجر فيكم أسرتي وبناتي
تخيَّرتهم رشدًا لأمري إنهم على كل حال خيرة الخيرات
فيا رب زدني في يقيني بصيرة وزد حبهم يا رب في حسناتي [6]
أيها الإخوة الكرام، إن لآل بيت النبوة علينا حقوقا عظيمة يجب مراعاتها والقيام بها، فمنها:
محبتهم وإجلالهم بما يليق بهم، وإكرام الصالحين منهم وموالاتهم، ومعرفة أقدارهم، قال عليه : ((أما بعد: ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به)) ، فحث على كتاب الله ورغَّب فيه ثم قال: ((وأهل بيتي، أذكركم الله أهل بيتي، أذكركم الله أهل بيتي، أذكركم الله أهل بيتي)) [7].
قال الآجري رحمه الله: "واجب على كل المسلمين محبة أهل بيت رسول الله ، وإكرامهم واحتمالهم، وحسن مداراتهم والصبر عليهم، والدعاء لهم" [8].
ومنها: استحقاقهم من الخمس والفيء، قال الله تعالى: وَ?عْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ [الأنفال:41]، وقال تعالى: مَّا أَفَاء ?للَّهُ عَلَى? رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ?لْقُرَى? فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَامَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ?لأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ [الحشر:7].
ومنها: الدعاء لهم في الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنها: تولي الصالحين منهم ومجالستهم والأخذ عنهم، والبرّ بهم وتطييب خواطرهم؛ فإنهم من آثار النبي ، ومحاولة القرب منهم، ومصاهرتهم تزوجًا أو تزويجًا.
ومنها: مناصرتهم والبذل لهم، والذبُّ عنهم، وذكر مناقبهم ومحاسنهم.
ومنها: تأكيد مناصحة غير الصالح منهم والشفقة عليه والرحمة به، ودعوته إلى نهج آل البيت الطيبين الطاهرين.
فهذه بعض حقوقهم عليكم أيها المسلمون، فقوموا بها على أكمل وجه من غير إفراط ولا تفريط.
ويشترط لهذه الحقوق صحة ثبوت انتسابه لرسول الله في النسب، وصحة انتسابه له في الدين.
ومما ينبغي أن يعلم أن آل بيت النبوة ليسوا بمعصومين، بل هم كغيرهم من سائر البشر، فيهم الصالح والطالح، والبر والفاجر، والمسلم والكافر، وأنهم داخلون في قوله : ((ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)) [9].
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، أقول هذا القول، وأسغفر الله.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان، باب: حب الرسول (15)، ومسلم في الإيمان (44) من حديث أنس رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: ما يذكر في الصدقة للنبي (1491)، ومسلم في الزكاة (1069).
[3] أخرجها مسلم في الزكاة (1069).
[4] أخرجه مسلم في فضائل الصحابة (2424).
[5] أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة (2408) من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه.
[6] انظر: معجم الأدباء (11/103) من قصيدة طويلة لدعبل الخزاعي.
[7] أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة (2408) من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه.
[8] الشريعة (5/ 2276).
[9] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، لقد حرص السلف الصالح رحمهم الله من الصحابة والتابعين على هذه الحقوق، وقاموا بها خير قيام، وما ذلك إلا لاستشعارهم مكانة الآل من النبي ، وامتثالاً لوصيته بهم.
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: (والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله أحبّ إليّ أن أصِلَ من قرابتي) [1].
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول للعباس عم رسول الله : (والله، لإسلامك يومَ أسلمت كان أحب إليّ من إسلام الخطاب ـ يعني والده ـ لو أسلم؛ لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب) [2].
وقد أمر رضي الله عنه العباسَ عام الرمادة أن يستسقي بالناس، فقال عمر: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمّ نبينا فأسقنا) [3].
قال ابن حجر: "ويستفاد من قصة العباس استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة، وفيه فضل العباس وفضل عمر بتواضعه للعباس ومعرفته بحقه" [4].
ولما دخل عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم في حاجة له على عمر بن عبد العزيز قال له عمر: "إذا كانت لك حاجةٌ فأرسل إليَّ أو اكتب؛ فإني أستحيي من الله أن يراك على بابي" [5].
وعن الشعبي: صلى زيد بن ثابت على جنازة أمه، ثم قُرِّبت له بغلته ليركبها، فجاء ابن عباس فأخذ بركابه، فقال زيد: (خلِّ عنه يا ابن عم رسول الله)، فقال ابن عباس: (هكذا نفعل بالعلماء)، فقبل زيدٌ يد ابن عباس؛ وقال: (هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا ) [6].
وحين قُيِّد الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وضُرب في فتنة القول بخلق القرآن، وبعد أن أقام الحجة على أحمد بن أبي دؤاد أمام الواثق قال الواثق: اقطعوا قيد الشيخ، فلما قُطع، ضَرَبَ بيده إلى القيد ليأخذه، فجاذبه الحداد عليه، فقال الواثق: لم أخذته؟ قال: لأني نويت أن أُوصي أن يجعل في كفني حتى أخاصم به هذا الظالم غدًا، وبكى فبكى الواثق وبكينا، ثم سأله الواثق أن يجعله في حِل، فقال: لقد جعلتك في حِل وسعة من أول يومٍ إكرامًا لرسول الله ، لكونك من أهله" [7].
فهذه بعض الصور المشرقة لسلفكم الصالح في التعامل مع آل بيته.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وأدوا الحقوق إلى أهلها، وأخلصوا أعمالكم لربكم تفوزوا في الدنيا والآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم...
[1] أخرجه البخاري في المغازي، باب: غزوة خبير (4241)، ومسلم في الجهاد والسير (1759).
[2] رواه ابن سعد في الطبقات (4/22)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (26/365).
[3] أخرجه البخاري في الاستسقاء، باب: سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا (1010).
[4] فتح الباري (2/497).
[5] انظر: الشفا، للقاضي عياض (2/608).
[6] أخرجه ابن سعد في الطبقات (2/360)، والطبراني في الكبير (5/107)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/514).
[7] انظر: سير أعلام النبلاء (11/315).
(1/3022)
خطبة استسقاء 6/1/1425هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
6/1/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاستغفار سبب لنزول الأمطار. 2- الأنبياء يحثون على الاستغفار. 3- حرص السلف على الاستغفار. 4- الحاجة إلى الاستغفار. 5- بركات الاستغفار وفوائده. 6- دعاء وابتهال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله حقَّ التقوى، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
وقال تعالى: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].
بيَّنت الآياتُ ـ عبادَ الله ـ أنَّ الاستغفارَ من الذنب سببٌ لنزول الغيث والإمداد بالأموال والبنين ونباتِ الأشجار وتوفُّر المياه، ذلك أنّ الذنوبَ والمعاصي إذا انتشرت في أمّة سبَّبت الشقاء والهلاك والقحطَ والجدْب، ولهذا أمر الله الناسَ عبر الأجيال بواسطةِ أنبيائه أن يُقلِعوا عن المعاصي، ويطلبوا الغفرانَ من الله على ما اقترفوه، حتى ينالوا رحمتَه ويجتنبوا غضبه.
فها هو نبيّ الله هودٌ يعِظ قومه بما ذكره القرآن: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ [هود:52]. ويذكر القرآن كيفَ وعَظ النبيّ صالح قومه: لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46]، أي: هلاَّ استغفرتم ربَّكم حتى تنالوا رحمته.
والاستغفارُ معناه طلبُ المغفرة من الله بمحوِ الذنوب وسَتر العيوب، مع إقلاعٍ عن الذنب، وندَم على فعله، قال تعالى: فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود:61]، أي: أنَّ الاستغفار وسيلةٌ لاستجابة الدعاء.
وعن حاطب قال: سمعتُ رجلاً في السَّحَر بناحية المسجد وهو يقول: (يا ربّ، أمرتني فأطعتُك، وهذا السحَر فاغفر لي)، فنظرتُ فإذا هو ابن مسعود رضي الله عنه [1].
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يصلِّي من الليل ثم يقول: (يا نافع، هل جاء السَّحَر؟) فإذا قال: نعم أقبَل على الدعاء والاستغفارِ حتى يصبح [2].
ها هم السلفُ رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، مع ما هم عليه من علمٍ وعمل وزهد وورع، كانوا قليلاً ما ينامون وبالأسحارِ هم يستغفرون، ومع ما كانوا عليه من خير كثير كان الواحدُ منهم يقول: "استغفارُنا يحتاج إلى استغفار". فيا عجبًا، يقضون الليلَ في عبادةٍ وصلاة، ثم يأتي السحَر فيستغفرون، كأنهم لا زالوا يشعرون بالتقصير.
وأوجبُ ما يكون الاستغفار عند الوقوع في مهاوي المعاصي وأرجاسِ الذنوب، وهنا يجدُ المسلم الاستغفارَ أداةً يتعلَّق بها لتقِيمه من عثرته، ومغسلةً يتطهَّر بها من أدران ذنبه.
المسلم بحاجةٍ إلى الاستغفار، فهو لا يستغني عنه أبدًا لا ليلاً ولا نهارًا، وتدبَّر حكمةَ الاستغفار دُبُر كلِّ صلاة، حتى لا يُعجَبَ المسلم بصلاته وعبادته، ويتألَّى بها على الله، كما تألَّى بعضُ الأعراب على الله ومَنُّوا على الرسول عليه الصلاة والسلام: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَـ?مَكُمْ بَلِ ?للَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَـ?نِ [الحجرات:17].
الاستغفارُ مع الإقلاع عن الذنب سببٌ للخصب والنماء وكثرة الرزق وزيادة العزّة والمنعة، وفي دعوةِ نوح قومَه ونُصحِه لهم نسمَع قولَ الله عزّ وجلّ: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].
هذا شعيبٌ عليه السلام يرى قومَه على أسوأ الأخلاق مع الشرك والإلحاد، فيلحُّ في نُصحهم للإقلاع عمّا هم فيه من ضلال، ويبشّرهم بأنّ ربَّهم رحيمٌ بعباده ودود، يرضَى عن عباده الصالحين، ويكفِّر عنهم ما مضى من سيِّئاتهم إذا أخلصوا النيةَ والتوجهَ إليه، وَ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90].
فما أعظمَ بركاتِ الاستغفار، فهذه خزائنُ رحمةِ الله بين يديك، ومفاتيحُها الاستغفار، يقول ابن القيم رحمه الله: "وشهدتُ شيخَ الإسلام ابنَ تيميه رحمه الله إذا أعيَته المسائل واستعصَت عليه فرَّ منها إلى التوبة والاستغفار والاستعانة بالله واللجوء إليه واستنزال الصوابِ من عنده والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلَّما يلبثُ المددُ الإلهي أن يتتابَع عليه مدًّا، وتزدلِف الفتوحات الإلهية إليه، بأيّتهنّ يبدأ" انتهى كلامه رحمه الله [3].
أمّا كونُ الاستغفار سببًا لرفع البلايا فقد قال الله سبحانه في شأن نبيّه يونس عليه السلام: فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ?لْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143، 144].
ومن فوائدِ الاستغفار أنّه سببٌ لصفاءِ القلب ونقائه، فالذنوب تترك أثرًا سيّئًا وسوادًا على القلب، كما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((إنّ المؤمنَ إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تَاب ونزع واستغفر صُقِل قلبه، فإن زاد زادت، فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى? قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [المطففين:14] )) [4].
أكثروا ـ عبادَ الله ـ من الصلاة والسلام على النبيّ المختار.
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه وسلّم.
اللهمّ أنت الله لا إله إلاَّ أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، اللهمّ أنت الله لا إله إلاّ أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهمّ أغثنا، اللهمّ أغثنا، اللهم أغثنا، اللهمّ أغثنا غيثًا مُغيثًا مريئًا مجلّلاً، عاجلاً غير آجل، نافعًا غير ضار. اللهم تحيي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغًا للحاضر والباد. اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذابٍ ولا بلاء ولا هدم ولا غرق. اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق.
اللهمَّ اسقِ عبادك وبلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدَك الميت.
اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضرع، وأنزل علينا من بركاتك، واجعل ما أنزلته علينا قوَّةً لنا وبلاغًا إلى حين.
اللهمّ إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، اللهمّ إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، اللهمّ إنا نستغفرك إنك كنت غفارا، اللهمّ إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأنزل السماء علينا مِدرارا، اللهمّ أنزل السماء علينا مدرارًا، اللهمّ أنزل السماء علينا مدرارًا.
اللهمّ أسقنا الغيث ولا تجعلنا من الآيسين، اللهمّ أسقنا الغيث ولا تجعلنا من الآيسين.
اللهمّ ارحم الأطفالَ الرُضَّع والشيوخ الركّع والبهائم الرتَّع، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، يا أرحم الراحمين، يا ربَّ العالمين.
اللهم أسقنا الغيثَ ولا تجعلنا من الآيسين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهمّ إنّا خلق من خلقك، فلا تمنع عنَّا بذنوبنا فضلك، اللهمّ إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنع عنَّا بذنوبنا فضلك، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنَّا بذنوبنا فضلك.
ربّنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفِر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم أصلح لنا دينَنا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كلّ خير، والموتَ راحةً لنا من كلّ شرّ، يا ربّ العالمين.
اللهمّ اغفِر لجميع موتى المسلمين، اللهمّ اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهمّ إنك عفوّ تحبّ العفو فاعفِ عنَّا، اللهمّ إنك عفوّ تحِبّ العفو فاعفُ عنا، اللهمّ إنك عفوّ تحب العفو فاعفُ عنا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
إخوةَ الإسلام، أكثِروا من الدعاء والصلاة على النبيّ محمّد ، واقلِبوا أرديتَكم تأسّيًا برسول الله [5].
[1] أخرجه الطبري في تفسيره (3/208).
[2] أخرجه الطبري في تفسيره (3/208).
[3] إعلام الموقعين (4/172).
[4] أخرجه أحمد (2/297)، والترمذي في التفسير (3334)، والنسائي في الكبرى (10251)، وابن ماجه في الزهد (4244) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (2787)، والحاكم (3908)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2469، 3141).
[5] سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الجمعة (969)، ومسلم في الاستسقاء (1489) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3023)
إنهم يعبثون بالأخلاق.. ستار أكاديمي
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, قضايا المجتمع
عبد المحسن بن مريسي الحارثي
جدة
جامع الحربي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطر التغريب. 2- الحرب الإعلامية. 3- ترويج الإعلام للبرامج الفاسدة. 4- سفول الهمم. 5- برنامج: "العار أكاديمي". 6- رواج هذا البرنامج في جميع الأوساط. 7- برنامج: "بيق براذر". 8- مفاسد هذه البرامج الخبيثة. 9- الواجب تجاه هذه البرامج الغازية.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، تعلمون جميعًا أن أخطر ما يواجه الأسرة المسلمة تلك المحاولات التغريبية الخبيثة التي تعمل وتجنّد كلّ طاقاتها لهدم الأسرة المسلمة، وإبعادها عن طريق الإسلام وتعاليمه ومعتقداته، تريد أن ترميَ بها في مستنقعات الرذيلة والفساد.
فأصبح قادة ذلك الفكر الهدام يركزون جهدهم من خلال وسائل الإعلام المختلفة المسموعة والمرئية وخاصة التلفاز، فذاك أكثر تأثيرًا في النفوس، وأكثر هيمنة على العقول، وهو الضيف الذي يقتحم البيوت بدون استئذان، فاستطاعوا أن يصلوا إلى مبتغاهم، فأصبحت وسائل الإعلام في كثير من الأقطار الإسلامية والعربية في حال لا يرضي الله عز وجل، وذلك من خلال ما يقدمه مِن نشر ألوان الفساد والانحلال من المسلسلات الماجنة والأغاني والمشاهد الساقطة، وعرض الأزياء الفاضحة، إلى غير ذلك مما تعلمون وتشاهدون وتقرؤون عنه.
ولكن في الوقت الذي تعاني فيه الأمة انتكاسةً في القيَم والمُثل وتتجرع مرارة الانحراف والتفكك، في الوقت الذي تتذوّق فيه الأمة كافة أنواع الهزائم النفسية والاقتصادية والسياسية، في الوقت الذي يُشن على الأمة حربٌ لا هوادة فيها، في هذا الوقت الذي تحتاج فيه الأمة إلى إعلام موجه، فإذا بوسائل الإعلام موجَّهة لا موجِّهة، فأصبحت أجهزة الإعلام تشنّ على الأمة حربًا تهدف إلى هزيمة الأمة أخلاقيًا، تريد أن تقضي على ما تبقّى من أخلاق أبناء الأمة، فظهرت قنوات فضائية تبثّ على الهواء فضائح أخلاقية، جاءت هذه القنوات للطعن في ذلك الجسد الجريح، جاءت تجهز على ذلك الجرح النازف الدامي، جاءت تلك القنوات الفاجرة لتعزف وترقص على جراحات الأمة ومآسيها التي نراها في أقطار الإسلام.
فما أن تخرج الأمة من محنة حتى يشعل لها أعداؤها فتنة ومحنة أخرى، ولقد ظهر مؤخرًا ما يسمى بـ"سوبر ستار"، وهو برنامج خبيث يتنافس فيه شبان وشابات، يتنافسون على الرقص والغناء، يتنافسون على التخنث والبغاء، يتنافسون على إسقاط الفضيلة والحياء ونشر الرذيلة، ثم يصوَّت لساقط أو ساقطة من المتنافسين من كافة أقطار العالم العربي والإسلامي، يصوّت له ليفوز بالجائزة.
ذلك البرنامج الفاسد الذي باركه أعداء الأمة، ورأوا أنه برنامج يحفز على التعايش مع العرب، رأوا فيه الأمل في إيجاد جيل مسلم متسامح مع أعدائه، رأوا أنه يساعد على نسيان قضية مقدَّساتهم وأراضيهم المغتصبة، وقد أظهر هذا البرنامج أمورًا خطيرة جدًّا، من ذلك سفاهة وسذاجة الإعلام العربي في كثير من البلاد العربية، وذلك من خلال اهتمامة بذلك الحدث من خلال إعلاناته ودعايته وترويجه لذلك البرنامج من خلال وسائل الإعلام، والاهتمام بذلك البرنامج الفاضح من خلال مطالبته للشعوب بالتصويت لصالح الشباب أو الشابات، والاتصال من أقطار شتى للإدلاء بالأصوات، وترشيح أحد الساقطين أو الساقطات، متناسيًا ذلك الإعلام دوره في رقي الأمة والنهوض بها من كبوتها التي طالت، نسي أو تناسى دوره في الاهتمام بقضايا الأمة وقضايا الشعوب، فألغت بعض أجهزة الإعلام برامجها العامة والهامة لتقييم المهرجانات في الحدائق العامة وفي الشوارع والميادين والمنتزهات وفي المدن والمحافظات. واستحدثت شاشات عرض كبيرة في الميادين والمنتزهات، وذلك لحشد التأييد والمساندة لرمز وطنهم كما يزعمون، لتلك الساقطة أو لتأييد ذلك الساقط.
تناسى الإعلام أزمات الشعوب وقضايا الأمة المصيرية، تناسوا هموم الأمة وما تعانيه من أزمات ونكبات، فأصبح الهمّ هو حشد الأصوات لترشيح ذلك الصوت الذي يحرك الأوساط رقصًا ويهزّ الرؤوس طربًا لاختيار ذلك القوام الرشيق والقدّ الفاتن. فبدلاً من أن يكون الإعلام أداة بناءةً للأمة أصبح معولَ هدم لها.
لقد أظهر ذلك البرنامج والذي لاقى رواجًا كبيرًا في بلاد الإسلام، أظهر وبيّن دناءة الهمم وسخافة العقول ووضاعة الاهتمامات عند كثير من أبناء الأمة، حتى تناسى أبناؤها همومها وقضاياها، وظهر في إحصائيات عديدة أن المشاركين في التصويت للترشيح في هذا البرنامج فاق عشرات الملايين أكثر من ثمانين مليون اتصال، من مختلف الأقطار العربية تصوّت للساقطين والساقطات، تصوّت لنشر الرذيلة وقتل الفضيلة.
إحصائيات مبكية، والمبكي المحزن والذي يُبكي القلوب قبل العيون أن قضايا الأمة المصيرية التي تواجهها والتي فيها إبادة شعوبها واغتصاب أراضيها واستباحة مقدساتها وانتهاك أعراضها وسلب أموالها لا نرى من أجهزة الإعلام ذلك الاهتمام وذلك الزخم الإعلامي الذي وجده ذلك البرنامج، هل تصدّقون أن التصويت على قضية مصيرية للأمة على وثيقة الاعتراض على الحرب على أفغانستان في مجلس الأمن لم يتجاوز أربعة ملايين صوت من جميع الأقطار العربية مقابل أكثر من 80 مليون صوت يرشحون أهل العهر والفساد؟!
برنامج ساقط يبثّ التفاهة والسفاهة، وينشر الرذيلة، ويصوّت عليه أكثر من ثمانين مليونا، وقضية مصيرية للأمة لا يتجاوز التصويت على الاعتراض على إبادة ذلك الشعب المسلم لا يتجاوز أربعة ملايين.
ذلك البرنامج أظهر سخافة وانحطاط أجهزة الإعلام وانحرافها ودناءتها في كثير من البلدان.
أصبح يحاكي ما يراه في الغرب، وينقل ما لديهم من تخلّف وخبث وخلاعة وفجور إلى شعوبه المسلمة. أصبح الجهاز الإعلامي المتفتّح لا يميز بين الفضيلة والرذيلة أو بالأصح لا يفرق بينهما، أصبح موجَّها من أساتذته في الغرب، وصدق : ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)).
والعجيب أن هناك من المسؤولين الكبار في بعض تلك الدول التي شاركت في ذلك البرنامج وفي تلك المهزلة، من المسؤولين من يتحمّس لذلك البرنامج، بل ويحمّس مواطنية للتصويت لصالح مواطنيهم المشاركين، ثم بعد فوز تلك الساقطة يشاركون شعوبهم، ولكن ليس في معاناتهم أو قضاياهم الهامة، فقد تناسوا ذلك وضيّعوا تلك الأمانة، بل يشاركونهم في أفراحهم، فيتصلون بتلك الساقطة مباركين ومهنئين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وجدير إذا الليوث تولّت أن يليَ ساحها جموع الثعالب
وليتَ الأمر توقّف عند هذا الحد، بل إنه ازداد سوءًا، فظهر ما يسمّى بعد ذلك بـ"ستار أكاديمي" أو "عار أكاديمي"، إنه عارٌ ودمار، وهي قناة مستقلة تعلن الحربَ على الأخلاق، إنهم يعبثون بالأخلاق، قناة ساقطة على شاكلة تلك القنوات الأخرى، فكرتها فرنسية، تقوم بجمع مجموعة من الشبان والشابات، نساء ساقطات وأشباه رجال، يجتمعون في بيت واحد، لا يحكمهم قيم أو أخلاق، ولا يردعهم دين ولا حياء.
تبثّ هذه القناة على مدار أربع وعشرين ساعة وتنقل كل ما يحدث في أرجاء ذلك البيت، حيث تنتشر الكاميرات في كلّ أنحاء البيت، تصوّر إقامتهم المختلطة المحرمة، وتنقل صوتًا وصورة حياتهم وهم يأكلون وهم يشربون، وهم يرقصون ويغنون، وهم يتحادثون ويتهامسون، تصورهم على الهواء مباشرة وهم يتبادلون أنواع اللهو غير البريء من القبَل والاحتضان، ثم إذا جاء وقت السحر ركزت الكاميرات على غرف نومهم، وحقيقة فإن نومهم غير مختلط، فأشباه الرجال في غرف نومهم، تراهم شبه عراة بلباس داخلي سفلي فاضح، والبنات في غرف نومهن، تراهن يتقلبن ذات اليمين وذات الشمال، وتراهن يتبطحن تارة ويستلقين تارة أخرى...
ويا للعار، إنهم يعبثون بالأخلاق، يعبثون بأخلاق أبناء الأمة، يعبثون بأخلاق بنات الأمة، ويستمر اعتكافهم على ذلك المجون في ذلك المكان والتصوير مستمر كذلك طيلة مكوثهم اعتكافهم لمدة ثلاثة أشهر، إنّ شريعة الإسلام لا تعرف من الاعتكاف إلا ما عرفته عن نبيها حيث كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وفعل ذلك الصحابة رضي الله عنهم، ثم تبعهم الصالحون إلى هذا اليوم، وهو انقطاع العبد عن الدنيا وشواغلها في بيت من بيوت الله، ويتفرغ لعبادة ربه تبارك وتعالى، أما ما يشاهد من خلال هذه القناة الخبيثة فهو اعتكاف على حرام، اعتكاف على عبث أخلاقي، عبث من أبناء الأمة وبنات الأمة، يعتكفون أشهرًا في مثل هذا المستنقع، والذين لا يشاركون يعكفون على مشاهدة هذه المهزلة بالساعات والساعات.
لقد انتشر هذا البلاء، فأصبح همّ الكثيرين مشاهدة ما يحدث كل يوم لفلان أو فلانة، كيف كانت حركاته وحركاتها، كيف كانت رقصاتهم وسهرتهم وغنائهم، ولا يقتصر الأمر كما تظنون في مشاهدته على الشباب فقط أو الشابات، بل إنه لمختلف المراحل العمرية، تحرص على مشاهدة هذا الدمار وهذا العار، فأصبح الكثير من الشابات يتابعن بلهفة عجيبة ما يحدث يوميًا في تلك القناة، ويتمنين أن يكنّ مثل تلك الفتاة، ويتمنين أن تتاح لهن الفرصة للمشاركة وللغناء والرقص وإقامة العلاقات المحرمة مع أشباه الرجال، مع الحرص على التصويت للشبان، وكذلك الحال بالنسبة للشباب.
لقد أصبح هذا العبث وهذا العار حديثَ المجالس بين الطالبات في مختلف المراحل الدراسية الابتدائية والثانوية والجامعية حتى بين المعلمات وبين كثير من الأمهات، فأصبح الحديث في اجتماعهن ومجالسهن هو ذلك العبث وعن حلقة البارحة وما حدث فيها، لقد انتشر في هذه الأوساط حتى بين الشباب الذكور، انتشر في هذه الأوساط وفي طبقات المجتمع كلها، انتشر كانتشار النار في الهشيم.
تحدثت إحدى المعلمات الفاضلات فتقول: دخلت على طالبات في الصف الرابع الابتدائي بدلاً من معلمة أخرى، قالت: فسألت إحداهن عن أمنتيتها في المستقبل، فقالت تلك الصغيرة: أتمنى أن أكون مثل فلانة، قالت المعلمة: ومن تكون هذه؟ قالت الطالبة: هذه فتاة تظهر في قناة "ستار أكاديمي"، قالت: ثم سألت زميلتها التي بجانبها نفس السؤال، فأجابت بنفس الإجابة أنها تتمنى أن تكون مثل فلانة.
فأين أنتم أيها الآباء والأمهات؟ اتقوا الله عز وجل ولا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم.
إن ما يبث عبر هذه القنوات الفضائية أمرٌ خطير، حرب على العقيدة وعلى الأخلاق. إنهم يعبثون بالأخلاق ويدمرون العقيدة.
وذكر أحد الكتاب الخليجين في إحدى الصحف أن إحدى الفضائيات العربية كانت تبث على الهواء مباشرة مشهدًا يسجد فيه مطرب خليجي شاب لمطربة عربية، وذلك فرحًا بدخولها لقاعة الاحتفال، يقدم لها ولاء السجود على طريقة الديانات الوثنية الشرقية في مد يديه إلى الأمام والانحناء لمولاته، أولئك هم عبدة الجسد، إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لقد سقط كثير من الشباب أمام الإغراءات وأمام الشهوات، فأي شرع وأي دين يقر ذلك الفعل؟! بل أي قيم وأعراف تقر ذلك السعار الجسدي؟!
أتريدون أبناءكم وبناتكم يشاهدون تلك المشاهد؟! !ترضون أن يشاهدوا ذلك العبث الأخلاقي؟!
ثم يزداد العبث بأخلاق أبناء الأمة فتظهر قناة أخرى على شاكلة ذلك العار والدمار، ومكانها في إحدى دول الخليج، وتسمى باسم "الرئيس" أو "بيق برذر" Big Brother ، وهي على نفس النمط، ويحمل نفس الفكرة، وتسعى لنفس الأهداف الساقطة والأغراض الخبيثة، ثم استمعوا لاستهزائهم ولخبثهم، ذكرت إذاعة البي بي سي البريطانية نبأ افتتاح هذه القناة، ثم ذكرت أنه تمشيًا مع الأعراف والتقاليد والآداب الإسلامية والعربية فإنه يوجد في ذلك البيت مكان التصوير مكان العهر والفجور يوجد مصلّى للصلاة، فأي آداب في ذلك المكان؟! وأي أعراف وتقاليد في ذلك المكان؟! فكيف يجتمع المصلى مكان الصلاة بجانب مكان الدعارة والبغاء أكرمكم الله؟! وصل الأمر إلى أن يستهزأ بعقولنا، إنه استهزاء واستخفاف بعقول المسلمين.
ولا عجب فما حصل هذا إلا بعد سكوت الفضلاء من المسلمين عن هذه التفاهات من بدايتها بعد أن رأوا سخافة الشعوب التي تحرص على مشاهدة هذا العبث، والسذج من النساء والرجال الذين يحرصون على المشاهدة والمشاركة في التصويت، يتحدثون في مجالسهم عن تدين فلان وهو أحد المشاركين في البرنامج، يقولون: فلان متديّن رأيته يصلي بالأمس، فهو يحافظ على الصلاة وإنه متديّن.
وأي صلاة تلك الصلاة التي لا تنهاهم عن فحشاء ولا منكر؟! أي صلاة تلك الصلاة التي لا تخرجه من ذلك المرتع الوخيم وذلك المستنقع القدر؟! ولا تعجبوا من ذلك فالأمور مدروسة وقد خطط لها ولكنها بالتدريج.
فعندما يتقبل المشاهد مثل هذه اللقطات والضمّات والغمزات واللمزات واللمسات غير البريئة، ويشاهد ويتقبل القبلات الساخنة واللهو الفاضح، فلا تستغربوا بعد ذلك إذا ظهرت قنوات للإباحية وممارسة الجنس والشذوذ، ووالله إن الأمر ليس ببعيد.
إن ما يحدث ـ أيها الفضلاء ـ عبث بأخلاق الأمة، يعلّمون الفتيات أصول العهر والفجور والبغاء بالمجّان وعلى الهواء مباشرة، والشباب يتعلمون كيف يتخنّثون نزّه الله أسماعكم، إنها الحقيقة المرة.
إنها حرب على العفاف وهدم للحياء وسحق للفضيلة والقيم الطيبة، إنها إبادة للمعتقدات وهدم للأخلاق والشمائل الحميدة، إنها حرب على الطيبين والطيبات، حرب على المسلمين والمسلمات، إنهم يهدفون لذلك كلة، والأمر ليس للتهوين من أمر الاختلاط فحسب، بل إنهم يريدون أن يجعلوا من الاختلاط المحرم أمرًا طبيعيًا يجب أن يعيشه الشبان والشابات فيزرعونه في قلوبهم ونفوسهم.
يريدون أن يصوروا أن الاختلاط هو الوضع المألوف الذي يجب أن تقر به الأديان والمعتقدات، ويجب أن ترضى به التقاليد والأعراف والعادات، ويجب أن نسلم به كأحد الموروثات، وأن يتقبله ويتعايش معه الآباء والأمهات، بعدها تصبح الفضيلة رذيلة والرذيلة فضيلة، والحياء عقدة نفسية وغباء، والطهر والعفاف رجعيه، فينسلخ المجتمع عن كل قيمه وعاداته ومعتقداته، ويصبح بلا هوية ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أسأل الله عز وجل أن يحفظنا وأعراضنا والمسلمين، ويردنا جميعًا إليه ردًا جميلاً.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، وفاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
يجب على كلّ محب للفضيلة وكل غيور وكلّ صاحب خلق كريم أن ينكر بقدر استطاعته، ينكر مثل هذه التصرفات السخيفة، وأن يحاربها بقدر استطاعته.
وذلك من خلال إخراجه من بيته لمثل هذه القنوات وإزالتها، ويجب على صاحب كل قلم أن يتقي الله عز وجل فيبين الحقيقة، وأن يحذر أبناء الأمة مما يحاك بهم وما يخطط لهم.
يجب أن يحاربوا مثل هذه البرامج، ويحذروا الناس من خلال كتاباتهم عن مثل هذه المستنقعات الخبيثة، إننا نطالب صاحب كل سلطة بمنع هذه التفاهات وبإيقاف هذا العبث الأخلاقي، والدولة ـ وفقها الله ـ حريصة على الحفاظ على دينها وعقيدتها وتقاليدها، وكذلك حريصة على أخلاقيات أبنائها، فكما كنا نطالب بإلغاء تلك القناة الخبيثة التي تسمّي نفسها بالإصلاح وهي أساس الفساد والإفساد، وتم بحمد الله منعها وإزالتها وإيقاف بثها، وذلك حفاظًا على أمن البلاد وحفاظًا على عقيدتها وعلى شبابها، فإننا نطالب بإلغاء هذه القنوات الخبيثة وإيقافها حفاظًا على عقيدة أبنائنا وبناتنا، حفاظًا على أخلاقياتهم، حفاظًا على أسرنا ومجتمعاتنا، حفاظًا على أمننا الأخلاقي، والمسؤولون حريصون على ذلك بإذن الله عز وجل، أسأل الله عز وجل أن يوفقهم لإزالة كل منكر.
ومن خلال هذا المنبر أوجه رسالة إلى كلّ من يقوم بدعم وتمويل هذه القنوات الساقطة، إلى كل من يساهم في نشر هذا العبث الأخلاقي، إلى صانعي هذا الإعلام، إلى عملاء التغريب، إلى عملاء الشيطان، إلى من يروّجون العهر والمنكر والفساد، ليتقوا الله عز وجل، إنكم بصنيعكم هذا تقعون في أمر عظيم، فعليكم الوزر وكذلك أوزار من وقع وسقط في مثل هذه المستنقعات القذرة.
فاتقوا الله عز وجل، إن الأمة في أشد الحاجة لمن يوجّه أبناءها وبناتها إلى الطريق الصحيح، إلى طريق النور في هذه الظلمات المدلهمة. إن الأمة في أشد الحاجة إلى إعلام يحمل همّ الأمة، يدافع عن عقيدتها وعن قيما وأعرافها وتقاليدها، الأمة في أشد الحاجة إلى إعلام هادف يوضح الحقائق ويكشف الشبهات والملابسات، إعلام يدافع عن قضاياها وعن مقدساتها وأراضيها، نحتاج إلى إعلام يكون أداة بِناء للأمة، لا معول هدم لها.
إني أذكّركم وأحذركم بقوله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].
يكفي الأمة ما فيها من جرحات وآلام، يكفيها ما تعانيه من فتن وبلاء، يكفيها أعداؤها من الخارج الذين لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمّة، كفاكم عبثًا بأخلاق أبناء أمتكم، كفاكم تدميرا للناشئة من أبناء الأمة، والمصيبة أن يأتي هذا الطعن في هذا الجسد الجريح في جسد الأمة المكلوم من قبل أبنائها وبأموال أبنائها.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
وأحذركم أنكم بصنيعكم هذا تتعرضون لعقاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة، فالله عز وجل يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].
أسأل الله عز وجل أن يصلح فساد قلوبنا وقلوبكم.
وأنتم معاشر الأباء والأمهات، كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، اتقوا الله عز وجل فيمن تحت أيديكم، اعلموا أنها أمانة عظيمة، اعلموا أنكم ستقفون بين يدي الله عز وجل في موقف عظيم، في موقف مهول، يشيب فيه الصغير، يوم لا يجزي والدٌ عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئًا، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، يوم تكونون في أمس الحاجة إلى مثقال ذرة من حسنة وأنت على تلك الحال، فإذا بك تسأل عن أسباب فساد أبنائك وبناتك، يوم يتعلقون بك يوم القيامة ويأخذون بتلابيبك يقولون: يا رب لقد أضاع الأمانة، يا رب كان سببًا في انحرافنا، يا رب كان سببًا في ضياعنا، وذلك كله بسبب ما جلبته لهم من وسائل ترفيه وتسلية محرمة.
وأنت ـ أيها المسكين الضعيف ـ لا تستطيع أن تدافع عن نفسك، فأقرب الناس لك هم خصماؤك، هم الذين يبحثون عن مثقال ذرة من حسنة ليأخذوها منك كي ينجوا من عذاب الله، فتلتفت يمينك فلا ترى إلا النار، وتلتفت شمالك فلا ترى إلا النار، يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى [المعارج:11-16].
فاعلموا ـ أيها الآباء ـ أنكم موقوفون، وأنكم ستسألون، فأخرجوا تلك المنكرات من بيوتكم حفاظًا على أبنائكم وبناتكم فالأمر جد خطير.
يا من جلبت الدشّ رفقًا إنما أفسدتَ ما في البيت من غلمان
خنت الأمانة في الشباب وفي النسا وجعلت بيتك منتدى الشيطان
خنت الأمانة في البنات ولن ترى منهن برًا إنهن عواني
ترضى لنفسك أن تكون مفرطًا في الدين والأخلاق والإيمان
ترضى لنفسك أن تكون مزعزعا لقواعد الإسلام والإيمان
ترضى لنفسك أن تكون مروجا لبضاعة الكفران والخسران
أفسدت ما في البيت من أخلاقه أذهبت ما في البيت من إحسان
أدخلت في البيت الضلال مع الخنا والفسق بعد تلاوة القرآن
وأنتم أيها الشباب والشابات، اتقو الله تبارك وتعالى واعتصموا بكتابه وبسنة نبيه ، واعلموا أنكم مستهدفون من أعداء الأمة، وأن هدفكم في هذه الحياة أسمى مما يراد بكم، وإياكم ثم إياكم أن يكون قدوتكم الفسقه وأشباه الرجال وليسوا برجال، ولا تكن قدوتكنّ تلك الساقطة فقدوتنا جميعا محمّد ، والمرءُ يحشر مع من أحب، حشرنا الله وإياكم في زمرته وتحت لوائه.
واعلموا ان هذه القنوات فتنة عظيمة وبلاء عظيم، وأذكركم بكلمة عظيمة لطلق بن حبيب رحمه الله، قال: "إذا عُرضت عليكم الفتنة فأاطفئوها بتقوى الله عز وجل"، واعلموا أنها مؤامرة كبرى، مؤامرة تدور على الشباب ليعرض عن معانقة الحراب، مؤامرة تقول لهم: تعالوا إلى الشهوات في ظل الشراب، مؤامرة مراميها عظام تدبرها شياطين الخراب. فالحذر الحذر من ذلك كله.
أسأل الله عز وجل أن يحفظنا وأن يحفظ أبنائنا وبناتنا وأبناء المسلمين وبناتهم، وأن يردنا إليه جميعا ردًا جميلا.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه فقال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمً ا [الأحزاب:56].
(1/3024)
العار أكاديمي
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, قضايا المجتمع
عبد الله بن يعقوب تركستاني
مكة المكرمة
الشهداء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسلام دين الخير والعدل. 2- تحريم الفساد والإفساد. 3- من أنواع الفساد. 4- ضرورة كشف مخططات المنافقين. 5- فساد بعض القنوات العربية. 6- برنامج: "ستار أكاديمي" وخبث أهدافه. 7- إنها حرب إعلامية لا أخلاقية. 8- وسائل تسويغ العهر والرذيلة. 9- سبل العلاج على مستوى الأفراد. 10- سبل العلاج على مستوى المجتمعات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن أصدقَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ ، وشرَّ الأمورِ محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يدَ الله على الجماعة، ومن شذَّ عنهم فمات فميتته جاهلية.
أيها المسلمون، إن دينَ الإسلام دينُ الخير والعدلِ والإحسان، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ [النحل:90]. دينُ الصلاح والإصلاح، يدعو إلى الخير وينهى عن الشرّ والفساد، وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا [الأعراف:56].
الفسادُ في الأرض إجرام، نهى عنه ربُّنا جلّ وعلا، وتتابعت رسُلُ الله وأنبياؤه ينهَون عن الفساد في الأرض، قال نبيّ الله صالح عليه السلام لقومه: وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ ءالآء اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف:74]، ونبيُّ الله شعيب يقول لقومه: وَيا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ [هود:85]، ونبي الله موسى يخاطب أخاه نبيَّ الله هارون قائلاً له: اخْلُفْنِى فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142]، وصالحو البشر يخاطبون قارون قائلين له: وَابْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص: 77].
الفسادُ في الأرض خُلُق اللئام من البشر، والله لا يحبّ المفسدين ولا يصلِح عملَهم، قال تعالى عن أعدائه اليهود: وَيَسْعَوْنَ فِى الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة: 64]، وقال تعالى عن موسى ومخاطبته آلَ فرعون: فَلَمَّا أَلقوا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس: 81].
أيها المسلمون، لقد رتَّبَ عزَّ وجلَّ على الفسادِ عقوبةً عظيمة، قال تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة: 204-206] وقال: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ [الرعد: 25].
أيّها المسلمون، عندَ تدبُّر كتابِ الله والتأمُّل فيه نرى فيه نهيًا وتحذيرًا عن أنواع من الفساد؛ ليكون المسلم على حذرٍ من أيِّ نوع من أنواعها.
ومن أنواع الفساد إضلالُ الناس وتشكيكُهم في دينهم وصرفُهم عن الطريق المستقيم، وهو خُلُق المنافقين، قال الله عنهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة: 11، 12].
أيها الأحبة، ولأن الله تعالى أمر بفضح المنافقين وكشفِ خُططهم ومؤامراتهم وما يكيدونه للمسلمين، فقال تعالى: وَكَذَلِكَ نفَصّلُ ?لآيَـ?تِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ?لْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55]، وقال: أَمْ حَسِبَ ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ ?للَّهُ أَضْغَـ?نَهُمْ وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَـ?كَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَـ?هُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ ?لْقَوْلِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَـ?لَكُمْ [محمد: 29، 30] لذا نرجو منكم العذر في ذكر بعض العبارات غير المألوفة في مثل هذا المقام. والله المستعان.
أيها الأحبة، عندما أدركنا خطورةَ تسخير تقنية البثّ المباشر في إنشاء قنوات بثّ فضائية تعبُر حدودنا وتغزو منازلنا، ركّزنا على التحذير من مخاطر الغزو الفكري الغربي لمجتمعاتنا عبر القنوات الفضائية، وتوقّع كثيرون أن تستغلَّ الدولُ الغربيةُ هذه التقنية لإفسادِ الصالح من مجتمعاتنا عن طريقِ نشرِ الإباحيةِ والتنصيرِ وأفكارِ التحرّرِ من القيمِ الأخلاقيةِ، وترويجِ ممارسةِ الفاحشةِ بطرقٍ محرّمةٍ مبتذلة، وركَّزَ المصلحون حينذاك على التحذيرِ من الرياحِ القادمةِ من الغرب، لكنَّ الذي حدث وبكلّ أسف هو ما لم يكن في حسبان أحدٍ منا، وهو أن التسابقَ في عالمِ إفسادِ القيمِ والأخلاق جاء من قنواتٍ عربيةٍ صِرفة!! عربيةِ التمويلِ واللغةِ والإخراجِ والممثلين والمخطّطين.
الغربُ الكافر بثَّ قنواتِ فسادٍ ومجون، لكنه كعادته جعلها بمقابلٍ ماديّ، أما نحن فمشكلتنا بل مصيبتنا جاءت من رجالِ أعمالٍ عربٍ ومسلمين، لا يهمّهم الربح بقدر ما تهمّهم الشهرة، ويكفيهم مردودُ الإعلانِ والاتصالاتِ الهاتفية من البعض ليفسدوا الكلّ إن استطاعوا، فكانت قنوات مجانية متاحة عبر كل الأقمار وبمجرد ضغطة زرّ الزناد القاتل للقيم والأخلاق.
نعم، ما كدنا نحتج ونحذّر من قنوات الغناء المبتذل والفيديو كليب الملوّث بالعري والجنس الرخيص والإغراء وترويج بضائع الغانيات والقينات باسم الغناء، حتى فوجئنا بقنواتٍ فضائيةٍ عربية تقدم نوعًا جديدًا من الفساد، في بثٍّ حيّ ومباشر للخلاعة والمجون، في الوقت الذي يُمزَّق الإسلام وأهلهُ في كلِ مكان، وتستحل ثروات العرب والمسلمين، وتهدر دماؤهم رخيصة في فلسطين وفي كل الأرض، وبينما الإسلام يئن ضعفًا وخورًا من أهلهِ, ويشتكي ألمًا وقهرًا من تسلط الملاحدة والزنادقة، إذا بنا نفاجأ بانحطاط جديد يخترعه الغرب، ثم يأتي من يزعمون أنهم عرب ومسلمون، ليستنسخوا هذا الانحطاط، ويطبقونه على أولادنا وشبابنا وبناتنا، ويجعلون العالم العربي والإسلامي كلّه مشدوهًا مشدودًا بآخر التقليعات الساقطة والمنكر الفاضح ومبارزة الله في المعاصي.
يقول تعالى في أمثال هذه القنوات السافلة وقيادتها الساقطة: إِنَّ الذين يُحِبُونَ أن تَشيعَ الفاحِشَةُ في الذين آمَنُواْ لَهُم عَذابٌ أليمٌ في الدُنيا والآخرةِ واللهُ يَعلَمُ وأنتُم لا تَعلمُونَ [النور:19]، ويقول تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27]. نعم، يريدون أن نميل إلى الباطل ميلاً عظيمًا عبر برامج سحقت الفضيلة وزينت الرذيلة ونسفت الأخلاق والقيم.
هذه الفضيحة الأخلاقية التي تعيشها أمتنا المهزومة روحيًا وعسكريًا هذه الأيام أخبر بها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم, حذو القذة بالقذة, شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع, حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)) ، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى? قال: ((فمن؟!)).
تصوروا ـ يا رعاكم الله ـ قناةً عربيةً تبث على مدى 24 ساعة يوميًا، لا تعدو كونها مجموعةَ كاميرات، تصوِّرُ إقامةً مختلطةً لمجموعةٍ من النساءِ وأشباهِ الرجال في أحدِ الأوكار، وتَنْقُلُ بالصوتِ والصورةِ سلوكَهم الرخيصَ غيرَ الهادف، غير المحكوم بقيم أو أخلاق.
تصوِّرهم وهم يأكلون، وهم يرقصون، وهم يتبادلون اللهوَ غير البريء والقُبلَ والأحضان، يتنافسون على المنكر وعلى كل ما يغضب الله تعالى، فمن يكن منهم أكثر إجادة للرقص يكن فائزًا بالدرجات العليا! ومن يكن أكثرهم حميمية مع صديقاته ولطيفًا ورومانسيًا يكن هو الفائز! ومن يجيد المقامات والغناءَ والعزف وكلَّ أنواعِ الغفلةِ يكن هو الأول عليهم! ثم إذا أقبل السحر ركّزت الكاميرا على غرفِ نومهم، وهم مستغرقون في نومٍ حقيقي بلباسٍ مبتذل. أما الشريط الإخباري أسفلَ الشاشة فيحمل رسائلَ غرامٍ، لا تقلّ مجونًا عمَّا تحمله الكاميرا.
كم هي خطة ساقطة ومهينة تلك التي خطّط لها القائمون على هذا البرنامج الفاضح والمسمّى: "ستار أكاديمي"، والذي تبثه إحدى القنوات العربية المشتهرة بالعهر والفساد، فالقائمون على هذه القناة السافلة علاوةً على سحقهم لقيمِ الفضيلةِ والأخلاقِ علانيةً في نفوس الشباب والبنات من خلال برامجهم المختلفة، فقد جنوا كذلك الملايين والملايين من وراء الاتصالات التي تصل للبرنامج, فأنتَ من ترشّحُ اليوم ليكون الفائزَ بهذه الرقصة? وأنتِ ـ يا أيتها الفتاة ـ من ترشحين من الشباب ليكون الفائزَ عندكِ? ومن هو الشابُ الذي دخل قلبَكِ وتتمنين أن تقضي أوقاتًا دافئة معه? ساعدي هذا الشاب، وأنتَ ساعد هذه الفتاة التي أُعجبت بقِوامها واتّصل وأعطها صوتك. وهكذا يمزقون الفضيلة وينحرون الحياء والعفاف، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
برنامج حقير يبين طريقةَ هؤلاء الساقطين في تضييعِ وإفسادِ بناتنا وشبابنا، حيث إنهم يجعلونهم يألفون المنكر، وقليلاً قليلاً يعتادون على الحرام, ويعايشونه لحظة بلحظة، ورويدًا رويدًا حتى يعتادون على أن يعيشوا مثل الحياة التي يعيشها المشاركون في "ستار أكاديمي"، وشيئًا فشيئًا يكونون جزءًا من واقعهم وحياتهم الساقطة، ويجعلون الشباب والفتيات يقولون في أنفسهم: كلُ هذه الرقصات والضم والتقبيل على مرأى ومسمع من العالم أجمع، وعلى الهواء مباشرة، ومع هذا الناسُ يصوّتون لهم ويشجعونهم، فما بالنا نحن لا نفعل مثلهم ولو في الدس والخفاء؟! لماذا لا نقلد حياتهم الرومانسية؟! وهكذا، يسعون لتخنيث الشاب، فلا حميّةَ له على أخته أو أهله أو عرضه، والفتاةُ تتعلّم أصولَ العهرِ والفجورِ بالمجّان، وعلى الهواء مباشرة، وهكذا تُنحر كلُ فضيلةٍ في المجتمع، ولا يبقى من القيم والمثل الكريمة إلاَّ الشعاراتُ الجوفاء. فأيّ سطوةٍ للخلاعة والدعارة تحدث الآن?! شعوبٌ ومؤسسات من عدة دول عربية إسلامية تستنفر جهدها ووقتها ومالها لإنجاح مراهق أو مراهقة في الغناء, وفي إثبات أنه الأكثر بسالةً في الصمود حتى آخر السباق، وتحتفل البلاد التي يقترب نجومها من التصفيات, وتبدو كأنما تُهيئ نفسها لإطلاق قمرٍ فضائي في مداره, أو كأنها ستهدي للأمة قائدًا ربانيًا أو فاتحًا عظيمًا! فأيّ خلاعةٍ تمارسُ بوقاحةٍ على مستوى الأمة?!
مراهقون ومراهقات يرقصون على ضفاف نشرات الأخبار المثقَلة بالاحتلالات والشهداء, وكلما سقط منهم واحد في التصفيات بكت عليه الأمّة كما لم تبكِ سقوط بغداد! فرحماك رحماك يا رب، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
أيها الأحبة، إن هذه الحرب الإعلامية غير الأخلاقية التي تشنّها الفضائياتُ العربية على المشاهدِ العربي المسلم في عمقه الفكري والأخلاقي بدأت تأخذ منحى نوعيًا لم يكن أشدّ المحذرين منها ومن خطورتها يتوقعه، يتصل هذا التحول النوعي بالخلفيات والأسس التي تنطلق منها هذه الحرب الضروس، خاصةً في جانبها الأخلاقي، فلم تعد مظاهرُ الغوايةِ والعري والفحشِ والغناءِ الماجنِ والاختلاءات الآثمةِ والمشاهد الفضائحية إلى آخر ذلك العبث الأخلاقي، لم تعدْ تُعرضُ في سياقِ الاعتراف بمخالفتها الشرعية والأخلاقية والتربوية، وإنما باتت تعرض في سياق عكسي تمامًا، هو سياق التسويغ والتبرير، منطلقةً في ذلك عبر ثلاث وسائل رئيسة:
الوسيلة الأولى: إباحة الباطل، وذلك بنفي أن يكون في تلك المظاهر ما يخالف الدين والخُلُق، والجدلِ بأن تصنيفها في دائرة المحرم لا يستند إلى أدلة متفق عليها بقدر ما يعود إلى اجتهادات ذاتية في معاني النصوص، ومن ثَمَّ يكون هذا الحكم رأيًا قابلاً للنقاش والاختلاف! ومن ثَمَّ أيضًا يكون بالإمكان وفق هذا المنطق جعْلُ تلك المظاهر في دائرةِ المباح، رغم أنها ليست من المسائل الخلافية، سواء كان الخلاف فيها معتبرًا أو غير معتبر، وإنما هي من المحرم القطعي بالنص والإجماع.
الوسيلة الثانية: إيجابُ الباطل، وهذه الوسيلةُ أشدُ خطرًا من سابقتها، لأنها لا تقف عند نفي تحريم تلك المظاهر والجدال لإباحتها، وإنما تتجاوزه إلى مدى أبعد وأخطر، وهو محاولة إيجابه بالحكم الشرعي، بنسبة الرضا عنها وإقرارِها إلى الله، تعالى الله عما يقوله الظالمون علوا كبيرًا.
ولأنَّ الباطلَ ذو نَسَقٍ واحد فمقولةُ اليوم ليست إلاَّ إعادةً لمقولةِ الأمس، مقولةِ الذين أرادوا تشريع باطلهم بأنه أمرُ الله وإيجابُه افتراءً عليه، قال تعالى: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف:28].
في هذا السياق كان ثمةَ من يعلّل حماستَه لإنجاح أحدِ مهرجانات الاختلاط العربية مؤخرًا بأن النبي يحث على الإتقان! وعلّل أحدُ الكتّاب العرب دفاعه عن ظاهرة العري بأن الله خلق الجمال من أجل الاستمتاع به. والحقيقةُ العقديةُ الشرعيةُ التي قفز عليها هؤلاء وأولئك من المفترين أن الله تعالى وإن قدَّرَ الغوايةَ والفاحشةَ والباطلَ كونًا يقتضي الحدوث والوقوع لحكمةٍ بالغةٍ يريدها، فإنه لا يأمر بها ولا يرضاها شرعًا: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعرافل:28].
الوسيلة الثالثة: تحييد الباطل وتجريده عن الحكم الشرعي، بمعنى نفي خضوع الأفعال للأحكام الشرعية وضوابطها. فقد نفوا عن الأحكام الشرعية القدسية والعصمة والاطراد والثبات، وذهبوا إلى أنها نتاج ظروف تاريخية غير ملزمة، وأن معايير الحكم على الأفعال يجب أن تكون عقلية صرفة، فما رآه العقل حسنًا فهو حسن وما رآه قبيحًا فهو القبيح. وهذا الفكر المنحرف هو فكر المعتزلة في القديم والعصرانيين العقلانيين في الحديث. ووفق هذا المنهج صارت مظاهرُ الباطل نسبية ومتحولة، فما يكون اليوم حقًا من الممكن جدًا أن يكون غدًا باطلا، وما هو باطل اليوم يكون غدًا حقا لدى رواد هذا الفكر المنحرف.
ولأن مشهد الفضاء العربي مفتوح على إبداع وسائل تسويغية أخرى للغواية والباطل فقد ابتكرت هذه القناة أخيرًا وسيلةً رابعةً تقوم على توظيف المصطلحات والدلالات، فعلى حين تعني "الأكاديمية" في الدلالات والأعراف العلمية المكانَ المهيّأ للبحث والتعليم والمدارسة، وهو اصطلاح يتقاطع مع مصطلح الجامعة، صارت بعد توظيفه من قبل تلك القناة مكانًا تسويغيًا لمظاهر أخلاقية سلبية.
فهل ثمة أكاديمية حقيقية؟! وهل هناك غايات مجردة في ذلك؟! إن مناخ الاختلاط بين أولئك الشباب، وتشجيعهم على التفاعل البيني، ودعوتهم إلى كسر الحواجز النفسية والاجتماعية الحائلة دونهم، واعتماد الملابس العارية للفتيات، وتشجيع وغض الطرف عن حالات التماس الصريح بين شباب من الجنسين بالضم والقبلات والنظرات والغمزات والضحكات، ثم النقل الفضائي الموجّه على مدار الساعة، إضافة إلى حالات الغواية العقدية التي ظهرت بين بعض الشباب من خلال حالات الاستعانة بالأحراز والتمائم والتعويذات، كل ذلك يؤكد أنه ليس ثمة أكاديمية حقيقية، وليس هناك أهداف مجردة، وإنما هي مشروع تقويضي يمثل فيها أولئك الشباب المشارك الطُّعم، والشباب المشاهد الهدف، وتظل هذه الأكاديمية المستعارة المزعومة ساحة حرب حقيقية، وأولئك الموظفون المسوغون يرمون إلى النيل من العقيدة والأخلاق نيلاً لا هوادة فيه!
هذا التوظيف التسويغي جديد في صورته، إلا أنه من حيث الحقيقة يذكرنا بتوظيف قديم توسّل بالدلالة الاصطلاحية أيضًا، غير أن الفرق أن هذا التوظيف الحادث كان لمكان بحث ومدارسة، أما التوظيف القديم فمكان عبادة وطاعة، إذ وظف المنافقون مسجدهم للإرصاد ومحاربة الله ورسوله ومضارة المؤمنين، ولهذا سماه القرآن مسجد الضّرار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، أيها الشرفاء، أيها الأحرار، أيها الرجال، يا أصحاب الغيرة، يا أصحاب النخوة، يا أصحاب الشهامة، لقد عظمت المصيبة وجلَّ الخطب وبلغ السيل الزبى واتسع الخرق على الراقع.
لسنا هنا لكي نصرخ ونولول ونبكي عظائم الأمور، بل لوضع الحلول والعلاج لهذه القضية العويصة، وفي نظري القاصر أن العلاج لهذه القضية له طرفان: خاص وعام، أما الخاص فعلى مستوى الأفراد، والعام على مستوى المجتمعات.
أما العلاج الخاص لمن أراد الخلاص بصدق وإخلاص فأولاً: ذكر الله وتلاوة القرآن، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين [يزنس:57]، وقال جل وعلا: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [الإسراء:82].
إن الدواء الناجع الذي تطيب به القلوب القاسية هو ذكر الله تعالى، وأعظمه تلاوة القرآن الكريم، فإنَّه حياة القلوب، والقلب الذي ليس فيه شيء من القرآن قلب خرب عشعشت فيه الشياطين، قلب أغلف محجوب عن رحمة الله تعالى.
ثانيًا: صدق التضرع إلى الله ودوام اللجأ إليه والتباكي بين يديه، فعليك بالإخلاص فإنه خلاصك، وداوم الإنابة إلى رب العالمين، واستحضر عظيم جنايتك التي حالت بينك وبين ربك، واستعن في ذلك بقراءة آيات الوعيد، وقراءة الكتب التي تصف لك الدار الآخرة، أو سماع الأشرطة التي يخشع لها قلبك، وقم بين يديه جل جلاله، مظهرًا فقرك وشدة احتياجك إليه، وابك على خطيئتك، وادع دعاء الغريق.
فعن ابن عبّاس قال: كان النّبيّ يدعو يقول: ((ربّ أعنّي ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر لي ولا تمكر عليّ، واهدني ويسّر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليّ، ربّ اجعلني لك شكّارًا، لك ذكّارًا، لك رهّابًا، لك مطواعًا، لك مخبتًا، إليك أوّاهًا منيبًا، ربّ تقبّل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبّت حجّتي، وسدّد لساني، واهد قلبي، واسلل سخيمة صدري)) رواه الترمذي.
ثالثًا: حضور مجالس العلم والوعظ والتذكير والتخويف والترغيب، فعن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه : ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل اللّه له به طريقًا إلى الجنّة، وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت اللّه يتلون كتاب اللّه ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السّكينة وغشيتهم الرّحمة وحفّتهم الملائكة وذكرهم اللّه فيمن عنده)) رواه الترمذي.
رابعًا: ذكر الموت، أكثر من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات، وقد كان رسول الله يتعاهد قلوب أصحابه بتذكيرهم بالموت. قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
[الأنبياء:35]، وقال الله: قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلاً [الأحزاب:16].
يا نفسُ توبي فإِن الموتَ قد حانا واعصِ الهوى فالهوى ما زال فَتَّانا
في كل يوم لنا مَيْتٌ نشيّعهُ ننسى بمصرعهِ آثارَ مَوْتانا
يا نفسُ ما لي وللأموالِ أكنزُها خَلْفي وأخرجُ من دنيايَ عريانا
ما بالُنا نتعامى عن مَصارِعنا ننسى بغفلِتنا من ليس يَنْسانا
ولم أرَ مثلَ الموتِ حقًا كأنه إِذا ما تخطته الأماني باطل
وكلُّ أناسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُم دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرّ مِنْهَا الأنامل
الخامس: إيجاد البديل المناسب الموافق لدين الله تعالى، ولن يعدم الإنسان البديل إذا سأل واستشار، المهم هو صدق النية في الخلاص من هذا البلاء المدمر والسيل الجارف ومن صدق الله صدقه الله.
أما العلاج على مستوى المجتمعات فأولاً: إيقاف جميع القنوات المشبوهة وما أكثرها، وإيقاف كل قنوات المجون العربية عن طريق قرار سياسي تتخذه القيادات العربية في اجتماعاتها، لأن الأمر خطير ويتعلق بمصلحة أمة وشعوب، وله انعكاسات سلبية خطيرة على أجيالنا القادمة، ونحن أمة ذات قيم دينية وحضارة وأخلاق، ولنا قضايا مصيرية ملحة تستوجب إعداد أجيال لنصرتها، ولا يجدر بنا أن ننتظر حتى نؤاخذ بما يفعل السفهاء منا.
ثانيًا: إيجاد القنوات البديلة المناسبة للأسرة والشباب، والتي تخدم قضايا الأمة ومصالحها.
ثالثًا: وضع الخطط والبرامج الملائمة لاحتواء الشباب فكريا واجتماعيًا وثقافيًا.
رابعًا: إبراز القدوات العظيمة التي تمتلئ بها ذاكرة التاريخ من العلماء والنبلاء ورجالات الأمة، وتقديمهم للناس بدلاً من القدوات الساقطة المهينة التي تعلق بها الشباب.
وأخيرًا ما أحوجنا في هذه الأيام إلى كاتب يحمل همّ مجتمعه، ناقدٍ صادقٍ بحسِّ المسلم الفطن الكيّس. ما أحوجنا للإعلامي البارع الذي ينتقد الوضع الخاطئ في مجتمعه, نقدا يسكب فيه بلسما يعالج آلام مجتمعه ومآسيه. ما أحوجنا لمثقفٍ يكشف ببنانه ولسانه زيف المزيفين وحقد الحاقدين. ما أحوجنا لعالم يخرُج من مكتبته ودرسه ليرى الخلل في المجتمع ومدى المصائب التي حلت عليه. ما أحوجنا لمن يفتح عقول شبابنا على المؤامرات المحيطة به لجره بعيدًا عن دينه وهويته وتغريبه عن محيطه الإسلامي.
إن العلاج ليس بالأمر الصعب إذا صدقت النفوس وحسنت النوايا وأريد بذلك وجه الله.
(1/3025)
روائع من صبر الأنبياء
سيرة وتاريخ
القصص
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
7/1/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة الابتلاء والامتحان. 2- فوائد الابتلاء. 3- من مواقف الأنبياء. 4- قصة موسى مع فرعون. 5- انتكاس بني إسرائيل. 6- صيام عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، سنّةُ الله ماضية في الابتلاءِ والامتحان، والحقُّ والباطل في هذه الحياة في صراع مرير مستمِرّ، لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى? مَنْ حَيِيَ عَن بَيّنَةٍ وَإِنَّ ?للَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:42]، أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]. وليس أحدٌ معصومًا من البلاء، فأشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثمّ الصالحون الأمثل فالأمثل.
ولهذا البلاءِ حِكمٌ من الله جلّ وعلا، فمنها تمييزُ الخبيث من الطيب، لِيَمِيزَ ?للَّهُ ?لْخَبِيثَ مِنَ ?لطَّيّبِ [الأنفال:37]، فيظهر صدقُ الصادِق من كذب الكاذب. ومن فوائدِ البلاء رفعُ درجات العبد، وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ ?لْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ [التوبة:120]. ومنها تكفيرُ الخطايا والسيئات، ((ما يصيب العبدَ من همٍّ ولا نصَب ولا وصب، حتى الشوكة يُشاكها إلاَّ كفَّر الله بها من خطاياه)) [1].
وموقفُ المؤمن مِن البلاء الصبرُ والاسترجاع، وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ [البقرة:155، 156]، رضًا بقضاء الله، فلا تسخُّطَ ولا كراهية، في الحديث: ((ليس منَّا من ضرب الخدودَ وشقَّ الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)) [2].
أيّها المسلم، وممّا يعينك على الصبر عندَ الامتحان والابتلاء مواقفُ أنبياءِ الله وخيرتِه من خلقه، فقد قصَّ الله علينا أنباءَ الماضين للاعتبار والاتِّعاظ: لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِى ?لألْبَـ?بِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى? وَلَـ?كِن تَصْدِيقَ ?لَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء [يوسف:111]، وَكُلاً نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء ?لرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِى هَـ?ذِهِ ?لْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى? لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120].
لقد قصَّ الله علينا قصصَ أنبيائه المرسلين، وماذا واجهوا في دعوتهم، وماذا قِيل لهم، وما هو البلاء الذي حلَّ بهم، ثمّ ما هو صبرُهم وتحمُّلهم، كلُّ ذلك في سبيل الله والعاقبة للتقوى.
نوحٌ عليه السلام أوّلُ رسُل الله إلى الخلق، ماذا جرى له؟ مكَث في قومه ألفَ سنة إلاَّ خمسين عامًا، يدعوهم إلى الله سِرًّا وجهارًا، ليلاً ونهارا، لينقذهم من الضلال، ويصعد بهم إلى طريق الهدى، والله يقول: وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [هود:40]. سخِروا منه، وسخِروا من أتباعه، وقالوا له: لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ ي?نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ?لْمُرْجُومِينَ [الشعراء:116]. أنجى الله نوحًا وأتباعَه، وأغرق قومَه. ابتُلي بكفر ابنه وصدودِه عن أبيه، والله يقول له: إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ?لْجَـ?هِلِينَ [هود:46].
إبراهيمُ أبو الأنبياء بعده، بعثه الله لأبيه وقومه، يدعوهم إلى الله، ويبيِّن لهم توحيدَ الله، ويحذِّرهم من عبادة الأصنام، ويبيِّن لهم فسادَ معتقدِهم وباطلَ ما هم عليه، فما كان من أبيه وقومه إلاّ التكذيبُ والإنكار، لقد تلطَّف مع أبيه في دعوته: ي?أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئًا ي?أَبَتِ إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ ?لْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَ?تَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ي?أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ?لشَّيْطَـ?نَ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ كَانَ لِلرَّحْمَـ?نِ عَصِيًّا ي?أَبَتِ إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ ?لرَّحْمَـ?نِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَـ?نِ وَلِيًّا [مريم:42-45]، وماذا قال أبوه؟ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَ?هْجُرْنِى مَلِيًّا [مريم:46]. لقد أقام الحججَ والبراهين العقلية على فسادِ عبادةِ الأصنام وضلالها، وعدم قدرتها على تخليص نفسها، فكيف تُتَّخذ أربابًا وآلهة؟! أوقَدوا نارًا ليحرقوه، فقال الله لها: كُونِى بَرْدًا وَسَلَـ?مَا عَلَى? إِبْر?هِيمَ [الأنبياء:69]. وهَبَ الله له في الكبَر إسماعيلَ وإسحاق، فلما ترعرع إسماعيل وتعلَّقت نفس الأب به أمره الله بذبحه ليبتليَ إيمانه وصدقه: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ?لسَّعْىَ قَالَ ي?بُنَىَّ إِنّى أَرَى? فِى ?لْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَ?نظُرْ مَاذَا تَرَى? قَالَ ي?أَبَتِ ?فْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء ?للَّهُ مِنَ ?لصَّـ?بِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَـ?دَيْنَـ?هُ أَن ي?إِبْر?هِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ?لرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَـ?ذَا لَهُوَ ?لْبَلاَء ?لْمُبِينُ وَفَدَيْنَـ?هُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:102-107]، كلُّ ذلك ليظهرَ إيمان الخليل، ولذا اتخذه الله خليلاً، وَ?تَّخَذَ ?للَّهُ إِبْر?هِيمَ خَلِيلاً [النساء:125].
يوسف بنُ يعقوبَ بنِ إسحاق، نبيٌّ من أنبياء الله، ابتُلي بما ابتُلي به، ابتُلي بصدودِ إخوته عنه، ومحاولتهم إلحاقَ الأذى به، وأُلقي في البئر، فاشتُري وبيع، وصار عند عزيز مصر رقيقًا وهو الكريم بنُ الكريم بنِ الكريم بن الكريم، فابتُلي بامرأة العزيز، كما ابتُلي بإخوته، ولكن الصبرُ والثبات على الحقّ حال بينه وبين ما أُريد، كَذ?لِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ?لسُّوء وَ?لْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ?لْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].
وأيوبُ يقول الله عنه: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى? رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَيْنَـ?هُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى? لِلْعَـ?بِدِينَ [الأنبياء:83، 84].
التقم الحوتُ يونسَ عليه السلام، فصار في بطنِ الحوت ينادي ويناجي: أَن لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:87]، قال الله: فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـ?هُ مِنَ ?لْغَمّ [الأنبياء:88]، فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ?لْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143، 144].
سيِّدُ الأوّلين والآخرين، سيّد ولد آدم، أفضلُ خلق الله على الإطلاق محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، خاتم أنبياء الله ورسله، بعثه الله على حين فَترةٍ من الرسل واندراس من العلم إلى قومٍ ما أتاهم من نذير من قبله، وما طرق أسماعَهم نذيرٌ قبلَه، إلى قومٍ غارقين في وثنيَّتهم، غارقين في جهالاتهم وضلالاتهم، بدأهم بدعوةِ إيّاهم إلى كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله"، ليقولوها ويعمَلوا بمقتضاها، ويدَعوا تلك المعبوداتِ الباطلة، فما كان من قومه إلاّ أن وقفوا موقفَ العداء منه، فوصفوه بما هو بَراء منه، وما يعلمون في كنانة أنفسِهم براءته منه، قالوا عنه: الكذّاب والسّاحر والمجنون والشاعر والمفتري، وكلُّ ذاك باطل والله يقول: فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَـ?كِنَّ ?لظَّـ?لِمِينَ بِئَايَـ?تِ ?للَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33].
ألحقوا الأذى به وبأتباعه من أقرَب الناس إليه أيضًا، وحاصَروه في الشِعب، وجرى ما جرى. خرج خارجَ مكّةَ عسى أن يجدَ من يسمَع رسالتَه ويقبَلها، فقوبِل بالتكذيب، ورماه سفهاؤُهم بالحجارة، فأدمَوا عقبَه، وملكُ الجبال يأتيه بأمر الله: أَأُطبق عليهم أخشبي مكة [3] ؟ فيقول كلمتَه العظيمة: ((أتأنَّى بهم؛ لعلّ الله أن يخرجَ من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئًا)) [4] ، فحقَّق الله له أمنيّتَه، وحقَّق الله له رَجاءَه، فما مات حتى انقادت له الجزيرة، وآمن به أهلُها، فصلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين.
موسى بنُ عمران كليم الرحمن، أحدُ أولي العزم من الرسل، ولِد ذلك النبيّ الكريم في زمنٍ كان فرعونُ يقتُل الذكورَ من بني إسرائيل ويستحوِذ على النساء ويُبقيهن، وكان ذاك بلاءً عظيمًا، لكن قدرة الله فوق قدرة البشر كلِّهم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وَأَوْحَيْنَا إِلَى? أُمّ مُوسَى? أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ?ليَمّ وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَـ?عِلُوهُ مِنَ ?لْمُرْسَلِينَ [القصص:7].
التقَطه آلُ فرعون حقدًا عليه لكي يقتلوه، وإذا القدرة الربّانيةُ أن ألقى الله في قلب امرأةِ فرعونَ حبَّه ومودَّته، قالت لفرعون: لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى? أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [القصص:9]. تربَّى في بيت فرعونَ وعلى فراشه وفي نعمتِه، وفي قضاء الله ما لا يعلمه البشر.
أمره الله وأخاه أن يأتيَا فرعونَ، ذلك الطاغية الذي ادَّعى أنّه الربُّ الأعلى: أَنَاْ رَبُّكُمُ ?لأَعْلَى? [النازعات:24]، ليدعُوَاه إلى الله، وقال لهما: فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى? [طه:44]. موسى عليه السلام عرف رهبةَ فرعونَ وطغيانَه، فقال الله: إِنَّنِى مَعَكُمَا [طه:46]، فبيَّن الله له أنه معه ناصرُه ومؤيِّده.
ابتدأ دعوتَه لفرعون، يدعوه إلى الله، يدعو ذلك الطاغيةَ المتكبِّر الجبّار إلى الله وإلى توحيده، يدعو من يقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرِى [القصص:38]، ليقول له: الله خالقك وخالق الخلق كلِّهم. استكبر وأبى، طلب آيةً تدلّ على صِدق موسى، فإذا العصا التي يحمِلها تحوَّلت بأمر الله حيَّةً تسعى، وإذا يدُه تنقلب بيضاءَ تحاكي الشمسَ في قوّة إضاءتها، ومع هذا فما ازداد إلاَّ طغيانا وكفرًا.
أقام موسى يدعو إلى الله ويطلب من فرعونَ أن يخلِّص بني إسرائيل من ظُلمه وطغيانه، والآيات والبراهينِ ترِدُ حينًا بعد حين، ولكن ذاك لاجٌّ في طغيانه وضلاله، وَمَا تُغْنِى ?لآيَـ?تُ وَ?لنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ [يونس:101]. في زمنٍ كان السحرة لهم شأنهم، ولهم دورُهم في الدنيا، وفرعونُ يراهم قوَّتَه وجنده، ويراهم مَن يعتمد ويعوِّل عليهم في أموره كلِّها.
دَعا فرعونُ موسى للمناظرةِ والمجادَلة في يومٍ ليظهرَ من كان محِقًّا ممّن كان مبطلاً. جمع فرعونُ سحرتَه على اختلافهم وتنوُّعهم وكثرتهم، فأتوا بحبالهم وعصيِّهم، ومع موسى أخوه فقط. امتلأ الوادي بأولئك السحرة الذين رُغِّبوا ووعِدوا بأن يكونوا خاصَّةَ فرعونَ وجلساءه إن هم تغلَّبوا على موسى وحدَه، فكان أوّلَ الأمر يدَّعي أنه الربُّ الأعلى، والآن يتضعضَع أمره ويهين شأنُه حينما يطلُب المناظرةَ من موسى عليه السلام.
جمع السحرةُ كيدَهم، وجمعوا ما عندهم وما لديهم، فامتلأ الوادي بتلك الحبال والعصيّ التي في مرأى الإنسان أنها حيّاةٌ وأنها وأنها، أوجَس في نفسِه خيفةً موسى؛ بَشرٌ يخاف كما يخافُ سائرُ الناس، لكن اللهَ جل وعلا ثبَّت قلبَه وقوَّى يقينه: لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ?لأعْلَى? وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ ?لسَّـ?حِرُ حَيْثُ أَتَى? [طه:68، 69]. نعم، إنّ السحرَ أمام الحقِّ يتضاءل، وإنّ السحرَ أمام الوحي يتضاءل، وإنَّ السحرةَ إنما يعلوُ سِحرهم إذا فُقِد الوحي، وأمّا الوحيُ والإيمان فإنّه ضدٌّ للسَّحَرة وطغيانهم وضلالهم.
عصا موسى تحوَّلت حيةً ملأت الوادي والتقمت كلَّ ما فيه، وكادت أن تلتقمَ فرعونَ ومَن معه، فأصيبُوا بالذّهول والإحباط، وتحوّلت تلك القوّةُ إلى ضعفٍ ووهَن، هؤلاء السّحَرة المهرَة في سِحرهم المهرةُ في علمهم وخداعهم رأَوا أمرًا لا طاقةَ لهم به، وآيةً لا استطاعةَ لهم بتحدِّيها، فخرّوا لله ساجدين، ءامَنَّا بِرَبّ هَـ?رُونَ وَمُوسَى? [طه:70]، آمنوا أجمعين لما رأوا تلك الآيات الباهرة. فرعونُ يهدِّد ويتوعَّد، وقالت السحرة: فَ?قْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَـ?ذِهِ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا إِنَّا امَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَـ?يَـ?نَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ ?لسّحْرِ وَ?للَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [طه:72، 73]. آمنوا ساعةً واحدة نالوا بها الجناتِ العالية، وسبحان الحكيم العليم.
بنو إسرائيل كانوا أذلَّةً في أيّام فرعون، فببعثةِ موسى رُفع شأنهم وأعزَّهم الله، وجعل منهم الأنبياءَ والملوك وفضَّلهم على سائل عالم زمانهم، بماذا؟ باتِّباعهم لموسى وإيمانهم وقيامهم بالتَّوراة، ولكن سرعانَ ما تبدَّل أولئك، فعصَوا موسى، وعبَدوا العجل، فجعلهم في التِّيه أربعين سنةً عقوبة لهم. وكان الأنبياء يتعاقبون فيهم، ما مضى نبيّ إلاَّ أتى نبيّ، لكنهم تحوَّلوا عن دينهم، ولجُّوا في طغيانهم، فعاقبهم الله بالعقوباتِ العظيمة؛ ضرب الله عليهم الذلّةَ والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله. ما هي حالهم وأخلاقهم؟ وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَادًا وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]. حالُ بعضهم من بعض: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى? [الحشر:14]، وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ?لْعَدَاوَةَ وَ?لْبَغْضَاء إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ [المائدة:64]. موقفُهم من صفاتِ ربَّهم موقفُ الظلم والعدوان، وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ يَدُ ?للَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ [المائدة:64]، لَّقَدْ سَمِعَ ?للَّهُ قَوْلَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ [آل عمران:181]. أخلاقُ مجتمعِهم: كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:79]. تعاملهم مع غيرهم: سَمَّـ?عُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـ?لُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]. تلك أخلاقُهم لما انحرفوا عن ملّة الإسلام، وصار لهم من الضلال ما صار.
موسى عليه السلام بعدما أقام داعيًا إلى الله مناضِلاً مجاهدًا خرج من مصرَ فارًّا بأتباعه من ظلمِ فِرعون، فتبعه فرعونُ بقوّته لكي يهلِكه ويقضيَ عليه، انتهى موسى وقومُه إلى البَحر، فرعونُ من ورائهم والبحر أمامهم، فلا محيصَ لهم من عدوٍّ أو غرَق في البحر، قالوا لموسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، فماذا قال لهم؟ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]. أمره الله فضربَ بعصاه البحر، فإذا البحر ينشقّ اثني عشر طريقًا يبَسًا، والماء كالحواجز بين تلك الطّرق، يسلكه موسى ومن معه آمنًا، ويأتي فرعونُ فينطبِق البحرُ عليه، ويغرقه ومن معه، وأخرجه الله ليكون عبرةً وعِظة لمن بعده.
أيّها المسلم، تلك سنّةُ الله في الابتلاء والامتحان، فليستقِمِ المسلم على دينه، وليثبُت على الحقّ الذي آمن به، وليعلَم أن البلاءَ والامتحان لأهل الإسلام لا بدّ منه.
إنَّ أمةَ الإسلام ـ وهي تعاني من حملاتٍ شرسة ودعايات وتحدِّيات ـ يجب عليها أن تعلَم حقًّا أنه لا ينجيها من كيد عدوِّها ولن يخلِّصها من مكائد عدوِّها إلا تمسُّكها بدينها واعتصامها بحبل الله واجتماع كلمتها على ذلك، فبهذا تحمي الأمّةُ نفسَها بتوفيقٍ من الله من كيد أعدائها، ويكون لها القوّة، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ?لزَّبُورِ مِن بَعْدِ ?لذّكْرِ أَنَّ ?لأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ?لصَّـ?لِحُونَ [الأنبياء:105]، وقال جلّ وعلا: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:171-173].
إنّ قصصَ الأنبياء الماضين عبرةٌ وعِظة لمن اتَّعظ واعتبر. جعلني الله وإيّاكم من المعتبرين المتَّعظين، إنه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَذَكّرْ بِ?لْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في المرضى (5642)، ومسلم في البر (2563) عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما.
[2] أخرجه البخاري في الجنائز (1297، 1298)، ومسلم في الإيمان (103) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[3] الأخشبان بالمعجمتين، قال ابن حجر في الفتح (6/316): "هما جبلا مكّة أبو قبيس والذي يقابله، وكأنّه قعيقعان... وسمّيا بذلك لصلابتهما وغلظ حجارتهما, والمراد بإطباقهما أن يلتقيا على من بمكّة, ويحتمل أن يريدَ أنّهما يصيران طبقًا واحدًا".
[4] أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة (3231)، ومسلم في الجهاد، باب: ما لقي النبيّ (1795) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، قدِم نبيّكم المدينة، وإذا اليهود يصومون اليوم العاشر من محرَّم، فسألهم: ((ما سببُ صيامكم لهذا اليوم؟!)) قالوا: يومٌ أنجى الله فيه موسى وقومَه، وأغرق فيه فرعونَ وقومه، فنحن نصومه شكرًا لله، فقال : ((نحن أولى وأحقُّ منكم بموسى)) [1].
أجَل، إنَّ محمّدًا وأمَّتَه أولى الناس بأنبياءِ الله ورسُله، فهم آمنوا برسلِ الله، وصدّقوهم، واعتقدوا أنهم جاؤوا بالحقّ، ولكن العمل إنما هو بشريعة نبيّهم. آمنوا بإبراهيم وبموسى وبعيسى، واعتقدوا أنهم أنبياءُ الله ورسله، وأنهم أدَّوا الواجب وبلَّغوا الرسالة، لكن عملُهم بشريعةِ نبيِّهم ، إِنَّ أَوْلَى ?لنَّاسِ بِإِبْر?هِيمَ لَلَّذِينَ ?تَّبَعُوهُ وَهَـ?ذَا ?لنَّبِىُّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَ?للَّهُ وَلِىُّ ?لْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68].
صام محمّد اليومَ العاشر تسعَ سنين أو عشرَ سنين، يصوم كلَّ عام اليومَ العاشر، ولما افتُرض رمضان في العام الثاني من الهجرة قال للصحابة: ((إنه ليس بفرض، من أحبَّ أن يصومَه فليصمه، وإلاَّ فلا)) [2] ، ذلك أنَّ الفرضَ الواجب إنما هو صيام رمضان، وما عدا صيام رمضان فلم يوجب الشرع علينا ابتداءً صيامًا إلا رمضان خاصة، فصيامه سنّةٌ وليس بواجب.
وفي آخر حياةِ النبيّ تمنّى نبيُّكم إن عاش إلى قابل ليصومنَّ التاسعَ مع العاشر [3] ، وقال لنا: ((صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده، خالفوا اليهود)) [4].
فسنّة محمد أن نصومَ اليومَ العاشر الذي سيوافق يومَ الاثنين، ونصوم قبله التاسعَ الذي هو يوم الأحد، أو نصوم بعده اليوم الحادي عشر وهو يوم الثلاثاء.
ورغَّبنا في صيامه فيقول أبو قتادة عن رسول الله في صيام يوم عاشوراء: ((أحتسِب على الله أن يكفّر السنة الماضية)) [5] ، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: ما رأيتُ النبيَّ يصوم يومًا يتحرّى فضلَه على الأيام إلاَّ هذا اليوم، يعني: يوم عاشوراء [6]. إذًا صيامه سنة ليس بفرض، ولكنّه قربةٌ يتقرَّب بها إلى الله.
أخي المسلم، قد تطرَح سؤالاً فتقول: لماذا خصَصتم يومَ عاشوراء ولم تصوموا الواحدَ من محرّم، ولم تصوموا اليوم الثاني عشر من ربيع الأول أيّ يوم كان، ولم تصوموا وقت المبعَث ووقتَ المولد ووقت المهاجّر، لماذا؟! نقول: يا أخي، نحن متَّبِعون لا مشرِّعون، مقتدون لا مبتدِعون، فصيامنا يومَ عاشوراء إنما واظَبنا عليه لأجل اتِّباع سنّة نبيّنا ، وصيامُنا ليوم الاثنين في سائر شُهور العام لأنّ نبيَّنا أخبرنا أنه يومٌ وُلد فيه ويومٌ بُعث فيه ويَوم أوحِيَ إليه فيه [7] ، فلم نصمْه إلا اتّباعَ السنة، ولو أمِرنا أن نصومَ يوم مولده أو يوم مهاجَره أو يومَ مبعثِه لكنّا نمتثِل الأمر، لكنّنا نتَّبع ولا نبتدِع، ونقف عند ما قيل لنا، فإنَّ عباداتنا اتِّباعٌ فقط، اتّباعٌ للشرع، وفي الحديث عنه قال: ((من أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)) [8] ، وفي لفظ: ((من عمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ)) [9] ، فطريقتُنا اتباعُ ما جاء به محمّد.
جعلنا الله وإياكم من المقتدين به، المتأسيِّن به، السائرين على نهجه إلى أن نلقى الله، وإلى أن نَرِد حوضَه في ذلك اليوم العظيم، نسأل الله الثباتَ على الحقّ والاستقامة عليه.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على سيّدنا محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على نبيّنا محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الصوم (2004)، ومسلم في الصيام (1130) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في الصوم (1893)، ومسلم في الصيام (1125) من حديث عائشة رضي الله عنها بمعناه.
[3] أخرجه مسلم في الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء؟ (1134) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بمعناه.
[4] أخرجه أحمد (1/241)، والبزار (1052ـ كشف الأستار ـ)، والحميدي (485)، والبيهقي (4/287)، وصححه ابن خزيمة (2095)، لكن في سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال الهيثمي في المجمع (3/188-189): "فيه كلام"، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3508)، وصحّ موقوفاً عند عبد الرزاق (7839)، والطحاوي (2/78)، والبيهقي (4/287).
[5] أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر (1162) نحوه.
[6] أخرجه البخاري في الصوم (2006)، ومسلم في الصيام (1132) بنحوه.
[7] أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر (1162) عن أبي قتادة نحوه.
[8] أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718) عن عائشة رضي الله عنها.
[9] علقه البخاري في الاعتصام، باب: إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ، ووصله مسلم في الأقضية (1718) عن عائشة رضي الله عنها.
(1/3026)
حرب المفاهيم
العلم والدعوة والجهاد, قضايا في الاعتقاد
الاتباع, البدع والمحدثات, قضايا دعوية
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
14/1/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فتنة العقول والفهوم. 2- خطورة الانحراف الفكري. 3- أهمية الفهم الصحيح. 4- مفاسد سوء الفهم. 5- انقلاب المعايير. 6- الانحراف الحاصل في العقيدة والعبادات والمعاملات. 7- دعوة لتصحيح منهج التلقي. 8- ضرورة الرجوع إلى فهم السلف الصالح. 9- أسباب اختلال المفاهيم. 10- سبل العلاج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجل، فإنها نعمتِ الوصية، وأهلُها خير البريّة، من حقَّقها حقّق المراتبَ العليّة والمطالب السنيّة، وسلِم من كلّ فتنة وبليّة، واستوى عنده في هذه الدّنيا تِبرُها وترابها وعذبها وعذابها، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أيّها المسلمون، تمرّ الليالي والأيّام، وتكِرّ الشهور والأعوام، ولا تزال أمّة الإسلام تتجرَّع المآسيَ وتعيش الفِتن، وتعصف بها الابتلاءات وأمواجُ المحن، وإذا كانت فتَن هذا الزمان قد تتابعت ومِحن العصر قد تنوَّعت وتكاثرت كحبّات عِقدٍ منتثِر أو كسيلِ سماءٍ منهمر فإنّ أشدَّ هذه الفتن خطرًا وأعظمَها أثرًا وأكثرها ضررًا فتنة العقول والفهوم؛ بصرفها عن مراد الله عزّ وجلّ ومراد رسوله ومنهجِ السلف الصالح رحمهم الله.
معاشرَ المسلمين، المتأمِّل في مسيرة الأمّة الإسلامية عبر تأريخها الطويل يجد أن هناك أنواعًا مِن الانحرافات الخطيرة التي مُنيت بها هذه الأمّة، غيرَ أنّ انحرافَ المفاهيم هو الخلاصة المرَّة التي آل إليها الانحرافُ التأريخيّ برُمَّته، ولئن ظنَّ بعض الغيورين أنّ ما أصاب الأمّةَ من أرزاء هو إفرازُ الانحرافات السلوكيّة المتفشِّية بين ظهرانيها، فإنّ مِن المؤكَّد أنّ الانحراف الأخطرَ بلا مُوارَبة الذي رُزئت به أمّتُنا عبرَ التأريخ هو الانحرافُ في الأفكار والمفاهيم. فقد يجِد الدّاعية رجلين؛ أحدُهما منحرف السلوكِ مستقيم المفاهيم، والآخر منحرفٌ في السلوك والمفاهيم، فسيبذل جهدًا يسيرًا مع الأوّل لصحّة مفاهيمه، بينما سيبذل جهدًا أكبرَ مع الآخر لأنّه يحتاج أوّلاً إلى تصحيح مفاهيمه، ثمّ بعد ذلك تصحيح سلوكه. وتلك هي الحقيقة المرّةُ في حال كثيرٍ من أبناء أمّتنا اليوم، فلقد تجاوز الانحرافُ مرحلةَ السلوك، وبلغ ذِروتَه في المفاهيم الرئيسَة لهذا الدّين القويم، لذلك فليس من الغرابةِ أن تعيشَ أمّتنا شدّةَ الكربة وحالة الغُربة التي أخبر عنها المصطفى في الحديث الصحيح عند مسلم وغيره: ((بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ)) [1].
وأيُّ اغترابٍ فوق غربتِنا التي لها صارتِ الأعداءُ فينا تحكَّمُ [2]
إخوةَ الإيمان، قضيّة الفَهم الصحيح قضيّةٌ من أهمِّ القضايا التي ينبغي العنايةُ بها، لا سيّما في أوقاتِ الفتن؛ إذ بها تتفاوت مراتبُ الخَلق في إصابةِ الحقّ، ولذلك اختصَّ الله نبيَّه سليمان عليه السلام بالفَهم مع ثنائه عليه وعلى داودَ بالعِلم والحُكم، قال تعالى: فَفَهَّمْنَـ?هَا سُلَيْمَـ?نَ وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء:79]، وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه لأبي موسى في كتابه إليه: (الفهمَ الفهمَ فيما أُدلِي إليك) [3] ، وقال عليّ رضي الله عنه: (أو فَهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه) [4] ، وقال أبو سعيد: كان أبو بكر رضي الله عنه أعلمَنا برسول الله [5] ، ودعا النبيّ عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما أن يفقِّهه في الدين ويعلِّمه التأويل [6] ، وتلك مرتبةٌ فوق مرتبةِ العلم المجرَّد.
يقول الإمام العلاّمة ابن القيّم رحمه الله:"صِحّة الفَهم وحُسنُ القصد من أعظم نِعم الله التي أنعم بها على عبدِه، بل ما أعطِيَ عبدٌ عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجلَّ منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامُه عليهما، وبهما يأمن العبدُ طريقَ المغضوب عليهم الذين فسَد قصدُهم وطريقَ الضّالين الذين فسدت فهومُهم، ويصير من المنعَم عليهم الذين حسُنت أفهامهم وقصودُهم، وهم أهلُ الصراط المستقيم الذين أمِرنا أن نسأل اللهَ أن يهديَنا صراطَهم في كلِّ صلاة. وصحَّةُ الفهم نورٌ يقذِفه الله في قلبِ العبد، يميّز به بين الصحيحِ والفاسد والحقِّ والباطل والهدى والضّلال والغيِّ والرشاد"، ثمّ قال رحمه الله: "ولا يتمكَّن المفتِي ولا الحاكمُ من الفتوى والحكمِ بالحقّ إلا بنوعين من الفهم، أحدهما: فهمُ الواقع والفِقه فيه، والثاني: فهمُ الواجب في الواقع، وهو فهمُ حكم الله الذي حكَم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقعِ، ثمّ يطبِّق أحدَهما على الآخر"، إلى أن قال رحمه الله: "ومَن تأمَّل الشريعةَ وقضايا الصحابةِ وجدها طافحةً بهذا، ومَن سلك غيرَ هذا أضاع على الناس حقوقَهم، ونسبَه إلى الشريعةِ التي بعَث الله بها رسولَه " انتهى كلامُه رحمه الله [7].
إخوةَ العقيدة، المستقرئ لحوادثِ التأريخ يجِد أنّ إساءةَ المفاهيم وراءَ كلِّ مِحنة بُليت بها هذه الأمّة، بل البشريّة قاطبة، وهل أُبلِسَ إبلِيس وقُتل هابيل وافترَق أهلُ الكتابَين وافترقَت هذه الأمّة وأريقَت دماء المسلمين وتسلّط عليهم أعداؤهم إلاّ بسببها؟! وما الذي سفَك دمَ عثمان وعليٍّ والحسين وابنِ الزبير وابن جُبير وغيرِهم من سادات الأمّة إلا ذلك؟! وما الذي أريقَت عليه الدّماء في فتنةِ أبي مسلم؟! وما الذي جرَّد الإمام أحمدَ بين العِقابين وضربِ السّياط حتى عجَّت الخليقةُ إلى ربِّها وخلَّد خلقًا في السّجون وسلَّط سيوفَ التتار على ديار الإسلام ومهَّد لطوائفِ الإلحاد والزندقة والنفاق والخوارج والفرق الضّالة إلا سوءُ المفاهيم؟!
ولهم نصوصٌ قصَّروا في فهمِها فأُتوا من التقصير في العرفان [8]
أمّة الإسلام، وما أشبهَ الليلةَ بالبارحة، فها هي الصِّراعات العالمية والتحدياتُ الدولية تنطلق من سوء المفاهيم، وهل مَوجات الغزو الفكريِّ والعقديِّ والأخلاقيِّ والإعلاميِّ المعاصر إلا حربُ مفاهيم؟! وهل فَرض أنماطٍ ثقافيّة وفكريّة وإملاءُ اتجاهاتٍ إصلاحيّة معيّنة باسم العولمة والانفتاحِ والحريّة إلا معركةُ مفاهيم؟! وهل كيل التُّهم على الأمّة الإسلامية بدعوى الإرهاب وعدم مراعاة حقوق الإنسان ومصادرة الحريّات وإقصاء مناهج الحقّ والعدلِ والسلام والنيل من القيم والمثُل النبيلة والكيلُ في القضايا الإسلاميّة بمكيالين إلاّ صراعُ مفاهيم؟!
وإن تعجبوا ـ يا رعاكم الله ـ فعجبٌ تحويل المفاهيم الخاطئة بفِعل الإعلام الموجَّه المضادّ إلى حقائقَ مسلَّمةٍ عند كثيرٍ من المتلَّقين، فمفهومُ الإرهاب مثلاً لا يكون محارَبًا إلا إذا كان خطأً من بعض أهل الإسلام، لكن سَحق المقدَّرات والعبَث بالمقدَّسات بحربِ المجازر والمجنزرات من العدوِّ الصهيونيّ الغاشِم ضدَّ إخواننا في فلسطين لا يُعدّ ذلك إرهابًا بإفكِهم، بينما الدّفاع عن الحقوق المشروعة في الأرض والحفاظ على الدين والعِرض يعدّ إرهابًا بزعمِهم!! فليسَ بعد هذا تلاعبٌ بالمفاهيم. وإذا كان هذا غيرَ مستغرَب مع الخصم في عصرٍ بُحّت فيه بعضُ حناجر المنهزمِين فكريًّا من بين جِلدتنا أمام ما يسمَّى بـ"الآخر" فإنّ صدورَ آثار المفاهيم في الاختلاف بين أهل الإسلام وتحويلها إلى صراعات دموية لأمرٌ يبعث على الغرابَة.
ولقد تابع الغيورون ما جَرى ويجرِي على أرضِ العِراق من نزيفِ الدمِ المهراق ممّا يبعث على الإدانة والاستنكار، ويتيح الفرصةَ للعدوّ المتربِّص بخيراتِ العراق ومقدَّراته، ولذا فالدعوةُ موجّهة بإشفاقٍ لإخواننا في بلاد الرافدين لإلقاءِ السلاح فيما بينهم، وحقنِ دماء المسلمين، ووقفِ شلاّلات الدماء البريئة، والمحافظة على وحدة الشعب العراقيّ المسلم ومصالحه الشرعية، والاجتماع على مفاهيم الكتابِ والسنّة الغرّاء ونبذ ما يخالفها.
إخوةَ الإسلام، ولعلَّ أخطرَ حروبِ المفاهيم التي بُليَت بها الأمّة المفاهيمُ العقدية في تحقيق معنى الشهادتين وتوحيدِ العبادة والأسماء والصفاتِ والقضاء والقدر والولاء والبراء والشّرك والتوسُّل والتبرُّك والشفاعة والولاية والجماعة والتكفير والغلوّ والمحبّة والخصائص النبويّة والموقف من الصحابة وما يكون في اليوم الآخر ونحو ذلك، كما أن مفاهيمَ العبادات والمعاملات والعقودِ والقضاء وتمييز الأحكام والنظرة إلى الإنسان والكون والحياة وعمارةِ الأرض، إضافةً إلى مفاهيم الدعوةِ والحسبة والجهاد، وقضايا الفكر والثقافة والحرية، وقضايا الشباب والمرأة والحجاب والحوار والإصلاح والنوازل والمستجدّات المعاصرة، كلُّ هذه مما يحتاج إلى تأصيلٍ شرعيّ للمفاهيم الصحيحة وفقهٍ واقعيّ يُعنى بما يُسمّيه أهل العلم كالشاطبي وغيره فقهَ المآلات وكذا فقه الأولويات وفقه المرحلة التي تمرّ بها الأمّة من حيث القوةُ والضعف كما نصّ على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في عنايةٍ بالنصوص وضبطٍ للاستدلال وصحّة في الاستنباط وحسن توظيفٍ لمقاصد الشريعة وقواعد الفقه فيها.
إنّها دعوةٌ صادقة لتصحيح المفاهيم الخاطئةِ عن ديننا وشريعتنا، تبدأ أوّلاً من أنفسنا نحن أهل الإسلام وإخواننا في تصحيح عقيدتنا وتصوّراتنا ومفاهيمنا، ثمّ مع غيرنا في تصحيحِ صورةِ الإسلام المشوَّهة مع شديد الأسف لدى كثيرٍ من شعوب العالم.
لا بدّ من تصحيح منهَج التلقّي في الفهم لهذا الدّين القويم الذي أصابه خللٌ ذريع عند فئام من النّاس، فما بال أقوامٍ اختلطت عندهم الأفهامُ وداخلها الخلطُ واللَّبس والإيهام، وعُزلت عن نور الوحي ومشكاة سنّة سيّد الأنام، وكرَعت في أوحال الضلالات والأوهام، وخيَّم عليها فسطاطُ الأباطيل والإظلام، حتى توارت المفاهيم الصحيحةُ في أنفاق مظلمةٍ من المفاهيم الغريبَة، وغرقت كثيرٌ من أشرعَة المناهج السليمة في بحارِ ومستنقعات المناهج السقيمة، ممّا يتطلّب من رُبّان سفينة هذه الأمّة من أهل العلم والعقل والدعوةِ والإصلاح العملَ بجدٍّ في إصلاح المفاهيم وربط الأمّة بمفاهيم خير القرون عليهم من الله الرحمة والرضوان، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "وآراؤهم لنا ـ يعني الصحابة ـ أحمدُ وأولى لنا من آرائنا عندنا لأنفسنا" [9] ، ويقول الإمام أحمد رحمه الله: "حبُّهم ـ أي: الصحابة ـ سنّة، والدعاء لهم قُربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارِهم فضيلة" [10] ، ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "يجب على كلِّ ناظر في الدليل الشرعيّ مراعاةُ ما فهِم منه الأوّلون وما كانوا عليه في العمل به، فهو أحرى بالصّواب، وأقومُ في العلم والعمل" [11].
ولئن طالبَ كلٌّ بتصحيح مفاهيم غيرِه فإنّ الفيصلَ في ذلك فهمُ السلف الصالح رحمهم الله، والله عزّ وجلّ يقول: وَمَا ?خْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْء فَحُكْمُهُ إِلَى ?للَّهِ [الشورى:10]، ويقول سبحانه: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ?للَّهِ وَ?لرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ ذ?لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59].
ألا فاتقوا الله عبادَ الله، وتمسّكوا جميعًا بالكتاب والسنّة، واتَّحِدوا على فهمِ سلف الأمّة، تسعَدوا وتفلِحوا في دنياكم وأخراكم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيّد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه كان للأوّابين غفورًا.
[1] صحيح مسلم: كتب الإيمان (145) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] بيت من القصيدة الميمية لابن القيم.
[3] أخرجه الدار قطني في سننه (4/206-207)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 119، 150)، قال شيخ الإسلام في منهاج السنة (6/71): "رسالة عمر المشهورة في القضاء إلى أبي موسى الأشعري تداولها الفقهاء، وبنوا عليها واعتمدوا على ما فيها من الفقه وأصول الفقه، ومن طرقها ما رواه أبو عبيد وابن بطة وغيرهما بالإسناد الثابت عن كثير بن هشام عن جعفر بن برقان قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري..."، وقال الحافظ في التلخيص (4/196): "ساقه ابن حزم من طريقين، وأعلهما بالانقطاع، لكن اختلاف المخرج فيهما مما يقوي أصل الرسالة، لا سيما وفي بعض طرقه أن راويه أخرج الرسالة مكتوبة".
[4] أخرجه البخاري في الجهاد (3047) بنحوه.
[5] أخرجه البخاري في المناقب (3654، 3904)، ومسلم في فضائل الصحابة (2382).
[6] أخرجه أحمد (1/266، 314، 328، 335)، والطبراني في الكبير (10/238، 263)، وصححه ابن حبان (7055)، والحاكم (6287)، وقال الهيثمي في المجمع (9/276): "لأحمد طريقان، رجالهما رجال الصحيح"، وصححه الألباني في شرح الطحاوية (180). وهو متفق عليه دون قوله: ((وعلمه التأويل)) ، أخرجه البخاري في الوضوء (143)، ومسلم في فضائل الصحابة (2477).
[7] إعلام الموقعين (1/87-88).
[8] هذا البيت من الكافية الشافية لابن القيم.
[9] المدخل إلى السنن الكبرى (ص110)، ومناقب الشافعي (1/442) للبيهقي.
[10] السنة (ص78).
[11] الموافقات (3/77).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، شرع الشرائعَ وأحكَم الأحكام، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له الملك القدوس السلام، وأشهد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله سيّد الأنام، هو للأنبياء بدرُ التمام ومِسك الختام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه البررَة الكرام، الموصوفين بقوّة الإيمان وصحّة الأفهام، والتابعين ومن تبعهم واقتفى أثرهم بإحسان إلى يوم القيام للملك العلام، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيّها الإخوة الأحبّة في الله، وحتى لا تختلطَ المفاهيم ينبغي تشخيصُ الداءِ ووصف الدواء.
إنّ من أهمِّ أسبابِ اختلال المفاهيم الجهلَ واتباع الهوى والتعصّب والتحزّب المقيتَ وإيثار الدنيا وطلب محمدَة الخلق وضعفَ الإيمان وتركَ التقوى واللهَث وراء حبّ الظهور والشهرة، كما أنّ منها تركَ المحكمات واتباع المتشابه وتصيّد الشواذّ من المسائل وتقفُّر العلم. أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ قال: ((إذا رأيتُم الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم)) [1] ، وروى الدارمي والدارقطني وغيرهما عن عمر رضي الله عنه قال: (إنّه سيأتي ناسٌ يجادلونكم بشبهاتِ القرآن، فخذوهم بالسنن، فإنّ أصحاب السنَن أعلمُ بكتاب الله) [2].
وهاك ـ يا رعاك الله ـ سلسلتَهم الذهبيةَ من صحابةِ رسول الله وتابعيهم بإحسان والأئمة الأربعة والأوزاعيّ والليث والسفيانين وأئمةِ الحديث وشيخ الإسلام ابن تيمية وإمامِ الدعوة الإصلاحية رحمهم الله جميعًا.
كما أنّ من أسباب اختلال المفاهيم عدمَ الرجوع إلى أهل العلم المعتَبرين، يقول عزّ وجلّ: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، وحداثةُ السنِّ مظِنّة سوء الفهم في الغالب، وحدِّث ولا حرج عن التأويلات الفاسدة.
واليومَ في عصر الإعلام والفضائيّات وثورةِ الثقافات والمعلومات تولّت فضائيّات تدّعي الحريةَ والاستقلال التشكيكَ في المفاهيم الصحيحة لهذه الأمّة والطعنَ في رموزها والتلاسُن الكلاميّ والتراشق الإعلاميّ والتنقُّص لثوابت الأمّة ومسلَّماتها والتعرّض بالنّقد والثَّلب والمحاكمة لفضلائها وعُظمائها، ولكلّ قومٍ وارث، ممّا يثير البلبلةَ ويُشكِّك في المسلّمات وينشُر الفوضى الفكريّة ويهدِم البُنى الصحيحةَ لفكر الأمّة وموروثها الحضاريّ.
أمّا العلاج ـ يا رعاكم الله ـ فيكمُن في حُسن القصد وتحرِّي الحقّ وتقوى الربّ والوقوف حيث وقف الأسلاف، فإنهم عن علمٍ وقفوا، وببصرٍ نافذٍ كفّوا، وإلا ففِتن المفاهيم بحرٌ سحيق لا ساحلَ له، فكم من فاتن فيها بعلم، ومفتون عنها بتقليد، وقد جمع هذا الزمانُ وأهلُه كثيرًا من صوَر المفاهيم الخاطئة، وما اجتمعت في عصرٍ كاجتماعها وتوارُدها في هذا العصر، حتى قلَّ الفقه فيها، وعظُمت المجاهدةُ لها، وما ذلكم إلا لأنّ أصحابَ المفاهيم الخاطئة يرَون الصوابَ حكرًا على أنفسهم، أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ ?للَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء [فاطر:8]. وكم وصَفوا أهلَ المفاهيم الصحيحة بالأوصافِ الشنيعة، فرمَوهم بالمجسِّمة والحشوية والوهّابية بأَخَرَة، وكم عيبَت الأقوال الصحيحةُ بالفهوم السقيمة. وما على المرءِ إلا نحتُ القوافي من مقاطعها، وما عليه إذا لم يفهمِ البشَر؟!
حتى خُيِّل لبعض المنهزِمين أن لا امتطاءَ لصهوَة التقدم والحضارة إلاّ بالتمرُّد على الدين والنيلِ من قيَمه ومفاهيمه والمساسِ بثوابتِه والمطالبة بإخضاع مسلَّماته ومحكَماته للنَّظر والحوار، فظنّ بعضهم الإفسادَ إصلاحًا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12]، وقد قال قائلهم عن نبيّ الله موسى عليه السلام وكلميه: إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى ?لأرْضِ ?لْفَسَادَ [غافر:26].
فمهلاً مهلاً أيّها المفتونون، ورويدَكم رويدَكم أيّها المنهزِمون، وعلى رسلِكم أيّها الخائضون في أمور الشريعة، فأعطُوا القوسَ باريها، وحنانَيكم أيّها المخالِفون، فها قد برِح الخفا، وتبيَّن الحقّ وانجلى، وظهرَ المحقّ واعتلى، ووُضعت المفاهيم في صحيح مجاريها، وحاد السالكُ عن الشطَط في مراميها، ولم يبقَ لمعاندٍ مستمسَك، ولا لمجادلٍ مستعصَم، ولن يُخرجَ الأمّةَ من وهدتها وينقذها من جديدِ صراعاتها إلاّ عودتها الجادّةُ لتصحيح مفاهيمها في أنفسها أوّلاً، ثمّ عند غيرها ثانيًا، مستثمرةً وسائلَ العصر وثقافاته في تحقيق ذلك قبلَ أن يستفحلَ داؤها ويستحيلَ دواؤها، ولنا عِبرةٌ أيّ عِبرة تتبعُها لوعة وعَبرة في أساطين المفاهيم المغلوطَة عبر التأريخ الذين ندِموا على ما قدَّموا، واعترفوا بحيرتهم واضطِرابهم، فأرواحُهم في وحشةٍ من جسُومهم، وحاصلُ دنياهم أذًى ووبال، وآخَر قد طاف المعاهدَ كلَّها، وسيَّر طرفَه بين تلك المعالم، فلم يرَ إلاّ واضعًا كفَّ حائرٍ على ذَقَنٍ أو قارعًا سنَّ نادم.
فيا هؤلاء، ويا أولئك، ويحكم، البدارَ البدارَ قبل فواتِ الأوان، فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَ?عْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ?تَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [القصص:50].
ألا وصلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على الرحمةِ المهداة والنّعمة المسداة، نبيكم محمد بن عبد الله، كما أمركم ربكم جلّ في علاه فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلِّم وبارك على سيّد الأوّلين والآخرين وأشرفِ الأنبياء والمرسلين نبيّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين...
[1] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4547)، صحيح مسلم: كتاب العلم (2665).
[2] سنن الدارمي: المقدمة (119)، وأخرجه أيضا الآجري في الشريعة (1/48، 52)، واللالكائي في أصول الاعتقاد (202).
(1/3027)
حرب المفاهيم
العلم والدعوة والجهاد, قضايا في الاعتقاد
الاتباع, البدع والمحدثات, قضايا دعوية
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
14/1/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فتنة العقول والفهوم. 2- خطورة الانحراف الفكري. 3- أهمية الفهم الصحيح. 4- مفاسد سوء الفهم. 5- انقلاب المعايير. 6- الانحراف الحاصل في العقيدة والعبادات والمعاملات. 7- دعوة لتصحيح منهج التلقي. 8- ضرورة الرجوع إلى فهم السلف الصالح. 9- أسباب اختلال المفاهيم. 10- سبل العلاج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجل، فإنها نعمتِ الوصية، وأهلُها خير البريّة، من حقَّقها حقّق المراتبَ العليّة والمطالب السنيّة، وسلِم من كلّ فتنة وبليّة، واستوى عنده في هذه الدّنيا تِبرُها وترابها وعذبها وعذابها، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أيّها المسلمون، تمرّ الليالي والأيّام، وتكِرّ الشهور والأعوام، ولا تزال أمّة الإسلام تتجرَّع المآسيَ وتعيش الفِتن، وتعصف بها الابتلاءات وأمواجُ المحن، وإذا كانت فتَن هذا الزمان قد تتابعت ومِحن العصر قد تنوَّعت وتكاثرت كحبّات عِقدٍ منتثِر أو كسيلِ سماءٍ منهمر فإنّ أشدَّ هذه الفتن خطرًا وأعظمَها أثرًا وأكثرها ضررًا فتنة العقول والفهوم؛ بصرفها عن مراد الله عزّ وجلّ ومراد رسوله ومنهجِ السلف الصالح رحمهم الله.
معاشرَ المسلمين، المتأمِّل في مسيرة الأمّة الإسلامية عبر تأريخها الطويل يجد أن هناك أنواعًا مِن الانحرافات الخطيرة التي مُنيت بها هذه الأمّة، غيرَ أنّ انحرافَ المفاهيم هو الخلاصة المرَّة التي آل إليها الانحرافُ التأريخيّ برُمَّته، ولئن ظنَّ بعض الغيورين أنّ ما أصاب الأمّةَ من أرزاء هو إفرازُ الانحرافات السلوكيّة المتفشِّية بين ظهرانيها، فإنّ مِن المؤكَّد أنّ الانحراف الأخطرَ بلا مُوارَبة الذي رُزئت به أمّتُنا عبرَ التأريخ هو الانحرافُ في الأفكار والمفاهيم. فقد يجِد الدّاعية رجلين؛ أحدُهما منحرف السلوكِ مستقيم المفاهيم، والآخر منحرفٌ في السلوك والمفاهيم، فسيبذل جهدًا يسيرًا مع الأوّل لصحّة مفاهيمه، بينما سيبذل جهدًا أكبرَ مع الآخر لأنّه يحتاج أوّلاً إلى تصحيح مفاهيمه، ثمّ بعد ذلك تصحيح سلوكه. وتلك هي الحقيقة المرّةُ في حال كثيرٍ من أبناء أمّتنا اليوم، فلقد تجاوز الانحرافُ مرحلةَ السلوك، وبلغ ذِروتَه في المفاهيم الرئيسَة لهذا الدّين القويم، لذلك فليس من الغرابةِ أن تعيشَ أمّتنا شدّةَ الكربة وحالة الغُربة التي أخبر عنها المصطفى في الحديث الصحيح عند مسلم وغيره: ((بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ)) [1].
وأيُّ اغترابٍ فوق غربتِنا التي لها صارتِ الأعداءُ فينا تحكَّمُ [2]
إخوةَ الإيمان، قضيّة الفَهم الصحيح قضيّةٌ من أهمِّ القضايا التي ينبغي العنايةُ بها، لا سيّما في أوقاتِ الفتن؛ إذ بها تتفاوت مراتبُ الخَلق في إصابةِ الحقّ، ولذلك اختصَّ الله نبيَّه سليمان عليه السلام بالفَهم مع ثنائه عليه وعلى داودَ بالعِلم والحُكم، قال تعالى: فَفَهَّمْنَـ?هَا سُلَيْمَـ?نَ وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء:79]، وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه لأبي موسى في كتابه إليه: (الفهمَ الفهمَ فيما أُدلِي إليك) [3] ، وقال عليّ رضي الله عنه: (أو فَهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه) [4] ، وقال أبو سعيد: كان أبو بكر رضي الله عنه أعلمَنا برسول الله [5] ، ودعا النبيّ عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما أن يفقِّهه في الدين ويعلِّمه التأويل [6] ، وتلك مرتبةٌ فوق مرتبةِ العلم المجرَّد.
يقول الإمام العلاّمة ابن القيّم رحمه الله:"صِحّة الفَهم وحُسنُ القصد من أعظم نِعم الله التي أنعم بها على عبدِه، بل ما أعطِيَ عبدٌ عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجلَّ منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامُه عليهما، وبهما يأمن العبدُ طريقَ المغضوب عليهم الذين فسَد قصدُهم وطريقَ الضّالين الذين فسدت فهومُهم، ويصير من المنعَم عليهم الذين حسُنت أفهامهم وقصودُهم، وهم أهلُ الصراط المستقيم الذين أمِرنا أن نسأل اللهَ أن يهديَنا صراطَهم في كلِّ صلاة. وصحَّةُ الفهم نورٌ يقذِفه الله في قلبِ العبد، يميّز به بين الصحيحِ والفاسد والحقِّ والباطل والهدى والضّلال والغيِّ والرشاد"، ثمّ قال رحمه الله: "ولا يتمكَّن المفتِي ولا الحاكمُ من الفتوى والحكمِ بالحقّ إلا بنوعين من الفهم، أحدهما: فهمُ الواقع والفِقه فيه، والثاني: فهمُ الواجب في الواقع، وهو فهمُ حكم الله الذي حكَم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقعِ، ثمّ يطبِّق أحدَهما على الآخر"، إلى أن قال رحمه الله: "ومَن تأمَّل الشريعةَ وقضايا الصحابةِ وجدها طافحةً بهذا، ومَن سلك غيرَ هذا أضاع على الناس حقوقَهم، ونسبَه إلى الشريعةِ التي بعَث الله بها رسولَه " انتهى كلامُه رحمه الله [7].
إخوةَ العقيدة، المستقرئ لحوادثِ التأريخ يجِد أنّ إساءةَ المفاهيم وراءَ كلِّ مِحنة بُليت بها هذه الأمّة، بل البشريّة قاطبة، وهل أُبلِسَ إبلِيس وقُتل هابيل وافترَق أهلُ الكتابَين وافترقَت هذه الأمّة وأريقَت دماء المسلمين وتسلّط عليهم أعداؤهم إلاّ بسببها؟! وما الذي سفَك دمَ عثمان وعليٍّ والحسين وابنِ الزبير وابن جُبير وغيرِهم من سادات الأمّة إلا ذلك؟! وما الذي أريقَت عليه الدّماء في فتنةِ أبي مسلم؟! وما الذي جرَّد الإمام أحمدَ بين العِقابين وضربِ السّياط حتى عجَّت الخليقةُ إلى ربِّها وخلَّد خلقًا في السّجون وسلَّط سيوفَ التتار على ديار الإسلام ومهَّد لطوائفِ الإلحاد والزندقة والنفاق والخوارج والفرق الضّالة إلا سوءُ المفاهيم؟!
ولهم نصوصٌ قصَّروا في فهمِها فأُتوا من التقصير في العرفان [8]
أمّة الإسلام، وما أشبهَ الليلةَ بالبارحة، فها هي الصِّراعات العالمية والتحدياتُ الدولية تنطلق من سوء المفاهيم، وهل مَوجات الغزو الفكريِّ والعقديِّ والأخلاقيِّ والإعلاميِّ المعاصر إلا حربُ مفاهيم؟! وهل فَرض أنماطٍ ثقافيّة وفكريّة وإملاءُ اتجاهاتٍ إصلاحيّة معيّنة باسم العولمة والانفتاحِ والحريّة إلا معركةُ مفاهيم؟! وهل كيل التُّهم على الأمّة الإسلامية بدعوى الإرهاب وعدم مراعاة حقوق الإنسان ومصادرة الحريّات وإقصاء مناهج الحقّ والعدلِ والسلام والنيل من القيم والمثُل النبيلة والكيلُ في القضايا الإسلاميّة بمكيالين إلاّ صراعُ مفاهيم؟!
وإن تعجبوا ـ يا رعاكم الله ـ فعجبٌ تحويل المفاهيم الخاطئة بفِعل الإعلام الموجَّه المضادّ إلى حقائقَ مسلَّمةٍ عند كثيرٍ من المتلَّقين، فمفهومُ الإرهاب مثلاً لا يكون محارَبًا إلا إذا كان خطأً من بعض أهل الإسلام، لكن سَحق المقدَّرات والعبَث بالمقدَّسات بحربِ المجازر والمجنزرات من العدوِّ الصهيونيّ الغاشِم ضدَّ إخواننا في فلسطين لا يُعدّ ذلك إرهابًا بإفكِهم، بينما الدّفاع عن الحقوق المشروعة في الأرض والحفاظ على الدين والعِرض يعدّ إرهابًا بزعمِهم!! فليسَ بعد هذا تلاعبٌ بالمفاهيم. وإذا كان هذا غيرَ مستغرَب مع الخصم في عصرٍ بُحّت فيه بعضُ حناجر المنهزمِين فكريًّا من بين جِلدتنا أمام ما يسمَّى بـ"الآخر" فإنّ صدورَ آثار المفاهيم في الاختلاف بين أهل الإسلام وتحويلها إلى صراعات دموية لأمرٌ يبعث على الغرابَة.
ولقد تابع الغيورون ما جَرى ويجرِي على أرضِ العِراق من نزيفِ الدمِ المهراق ممّا يبعث على الإدانة والاستنكار، ويتيح الفرصةَ للعدوّ المتربِّص بخيراتِ العراق ومقدَّراته، ولذا فالدعوةُ موجّهة بإشفاقٍ لإخواننا في بلاد الرافدين لإلقاءِ السلاح فيما بينهم، وحقنِ دماء المسلمين، ووقفِ شلاّلات الدماء البريئة، والمحافظة على وحدة الشعب العراقيّ المسلم ومصالحه الشرعية، والاجتماع على مفاهيم الكتابِ والسنّة الغرّاء ونبذ ما يخالفها.
إخوةَ الإسلام، ولعلَّ أخطرَ حروبِ المفاهيم التي بُليَت بها الأمّة المفاهيمُ العقدية في تحقيق معنى الشهادتين وتوحيدِ العبادة والأسماء والصفاتِ والقضاء والقدر والولاء والبراء والشّرك والتوسُّل والتبرُّك والشفاعة والولاية والجماعة والتكفير والغلوّ والمحبّة والخصائص النبويّة والموقف من الصحابة وما يكون في اليوم الآخر ونحو ذلك، كما أن مفاهيمَ العبادات والمعاملات والعقودِ والقضاء وتمييز الأحكام والنظرة إلى الإنسان والكون والحياة وعمارةِ الأرض، إضافةً إلى مفاهيم الدعوةِ والحسبة والجهاد، وقضايا الفكر والثقافة والحرية، وقضايا الشباب والمرأة والحجاب والحوار والإصلاح والنوازل والمستجدّات المعاصرة، كلُّ هذه مما يحتاج إلى تأصيلٍ شرعيّ للمفاهيم الصحيحة وفقهٍ واقعيّ يُعنى بما يُسمّيه أهل العلم كالشاطبي وغيره فقهَ المآلات وكذا فقه الأولويات وفقه المرحلة التي تمرّ بها الأمّة من حيث القوةُ والضعف كما نصّ على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في عنايةٍ بالنصوص وضبطٍ للاستدلال وصحّة في الاستنباط وحسن توظيفٍ لمقاصد الشريعة وقواعد الفقه فيها.
إنّها دعوةٌ صادقة لتصحيح المفاهيم الخاطئةِ عن ديننا وشريعتنا، تبدأ أوّلاً من أنفسنا نحن أهل الإسلام وإخواننا في تصحيح عقيدتنا وتصوّراتنا ومفاهيمنا، ثمّ مع غيرنا في تصحيحِ صورةِ الإسلام المشوَّهة مع شديد الأسف لدى كثيرٍ من شعوب العالم.
لا بدّ من تصحيح منهَج التلقّي في الفهم لهذا الدّين القويم الذي أصابه خللٌ ذريع عند فئام من النّاس، فما بال أقوامٍ اختلطت عندهم الأفهامُ وداخلها الخلطُ واللَّبس والإيهام، وعُزلت عن نور الوحي ومشكاة سنّة سيّد الأنام، وكرَعت في أوحال الضلالات والأوهام، وخيَّم عليها فسطاطُ الأباطيل والإظلام، حتى توارت المفاهيم الصحيحةُ في أنفاق مظلمةٍ من المفاهيم الغريبَة، وغرقت كثيرٌ من أشرعَة المناهج السليمة في بحارِ ومستنقعات المناهج السقيمة، ممّا يتطلّب من رُبّان سفينة هذه الأمّة من أهل العلم والعقل والدعوةِ والإصلاح العملَ بجدٍّ في إصلاح المفاهيم وربط الأمّة بمفاهيم خير القرون عليهم من الله الرحمة والرضوان، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "وآراؤهم لنا ـ يعني الصحابة ـ أحمدُ وأولى لنا من آرائنا عندنا لأنفسنا" [9] ، ويقول الإمام أحمد رحمه الله: "حبُّهم ـ أي: الصحابة ـ سنّة، والدعاء لهم قُربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارِهم فضيلة" [10] ، ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "يجب على كلِّ ناظر في الدليل الشرعيّ مراعاةُ ما فهِم منه الأوّلون وما كانوا عليه في العمل به، فهو أحرى بالصّواب، وأقومُ في العلم والعمل" [11].
ولئن طالبَ كلٌّ بتصحيح مفاهيم غيرِه فإنّ الفيصلَ في ذلك فهمُ السلف الصالح رحمهم الله، والله عزّ وجلّ يقول: وَمَا ?خْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْء فَحُكْمُهُ إِلَى ?للَّهِ [الشورى:10]، ويقول سبحانه: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ?للَّهِ وَ?لرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ ذ?لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59].
ألا فاتقوا الله عبادَ الله، وتمسّكوا جميعًا بالكتاب والسنّة، واتَّحِدوا على فهمِ سلف الأمّة، تسعَدوا وتفلِحوا في دنياكم وأخراكم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيّد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه كان للأوّابين غفورًا.
[1] صحيح مسلم: كتب الإيمان (145) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] بيت من القصيدة الميمية لابن القيم.
[3] أخرجه الدار قطني في سننه (4/206-207)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 119، 150)، قال شيخ الإسلام في منهاج السنة (6/71): "رسالة عمر المشهورة في القضاء إلى أبي موسى الأشعري تداولها الفقهاء، وبنوا عليها واعتمدوا على ما فيها من الفقه وأصول الفقه، ومن طرقها ما رواه أبو عبيد وابن بطة وغيرهما بالإسناد الثابت عن كثير بن هشام عن جعفر بن برقان قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري..."، وقال الحافظ في التلخيص (4/196): "ساقه ابن حزم من طريقين، وأعلهما بالانقطاع، لكن اختلاف المخرج فيهما مما يقوي أصل الرسالة، لا سيما وفي بعض طرقه أن راويه أخرج الرسالة مكتوبة".
[4] أخرجه البخاري في الجهاد (3047) بنحوه.
[5] أخرجه البخاري في المناقب (3654، 3904)، ومسلم في فضائل الصحابة (2382).
[6] أخرجه أحمد (1/266، 314، 328، 335)، والطبراني في الكبير (10/238، 263)، وصححه ابن حبان (7055)، والحاكم (6287)، وقال الهيثمي في المجمع (9/276): "لأحمد طريقان، رجالهما رجال الصحيح"، وصححه الألباني في شرح الطحاوية (180). وهو متفق عليه دون قوله: ((وعلمه التأويل)) ، أخرجه البخاري في الوضوء (143)، ومسلم في فضائل الصحابة (2477).
[7] إعلام الموقعين (1/87-88).
[8] هذا البيت من الكافية الشافية لابن القيم.
[9] المدخل إلى السنن الكبرى (ص110)، ومناقب الشافعي (1/442) للبيهقي.
[10] السنة (ص78).
[11] الموافقات (3/77).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، شرع الشرائعَ وأحكَم الأحكام، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له الملك القدوس السلام، وأشهد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله سيّد الأنام، هو للأنبياء بدرُ التمام ومِسك الختام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه البررَة الكرام، الموصوفين بقوّة الإيمان وصحّة الأفهام، والتابعين ومن تبعهم واقتفى أثرهم بإحسان إلى يوم القيام للملك العلام، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيّها الإخوة الأحبّة في الله، وحتى لا تختلطَ المفاهيم ينبغي تشخيصُ الداءِ ووصف الدواء.
إنّ من أهمِّ أسبابِ اختلال المفاهيم الجهلَ واتباع الهوى والتعصّب والتحزّب المقيتَ وإيثار الدنيا وطلب محمدَة الخلق وضعفَ الإيمان وتركَ التقوى واللهَث وراء حبّ الظهور والشهرة، كما أنّ منها تركَ المحكمات واتباع المتشابه وتصيّد الشواذّ من المسائل وتقفُّر العلم. أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ قال: ((إذا رأيتُم الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم)) [1] ، وروى الدارمي والدارقطني وغيرهما عن عمر رضي الله عنه قال: (إنّه سيأتي ناسٌ يجادلونكم بشبهاتِ القرآن، فخذوهم بالسنن، فإنّ أصحاب السنَن أعلمُ بكتاب الله) [2].
وهاك ـ يا رعاك الله ـ سلسلتَهم الذهبيةَ من صحابةِ رسول الله وتابعيهم بإحسان والأئمة الأربعة والأوزاعيّ والليث والسفيانين وأئمةِ الحديث وشيخ الإسلام ابن تيمية وإمامِ الدعوة الإصلاحية رحمهم الله جميعًا.
كما أنّ من أسباب اختلال المفاهيم عدمَ الرجوع إلى أهل العلم المعتَبرين، يقول عزّ وجلّ: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، وحداثةُ السنِّ مظِنّة سوء الفهم في الغالب، وحدِّث ولا حرج عن التأويلات الفاسدة.
واليومَ في عصر الإعلام والفضائيّات وثورةِ الثقافات والمعلومات تولّت فضائيّات تدّعي الحريةَ والاستقلال التشكيكَ في المفاهيم الصحيحة لهذه الأمّة والطعنَ في رموزها والتلاسُن الكلاميّ والتراشق الإعلاميّ والتنقُّص لثوابت الأمّة ومسلَّماتها والتعرّض بالنّقد والثَّلب والمحاكمة لفضلائها وعُظمائها، ولكلّ قومٍ وارث، ممّا يثير البلبلةَ ويُشكِّك في المسلّمات وينشُر الفوضى الفكريّة ويهدِم البُنى الصحيحةَ لفكر الأمّة وموروثها الحضاريّ.
أمّا العلاج ـ يا رعاكم الله ـ فيكمُن في حُسن القصد وتحرِّي الحقّ وتقوى الربّ والوقوف حيث وقف الأسلاف، فإنهم عن علمٍ وقفوا، وببصرٍ نافذٍ كفّوا، وإلا ففِتن المفاهيم بحرٌ سحيق لا ساحلَ له، فكم من فاتن فيها بعلم، ومفتون عنها بتقليد، وقد جمع هذا الزمانُ وأهلُه كثيرًا من صوَر المفاهيم الخاطئة، وما اجتمعت في عصرٍ كاجتماعها وتوارُدها في هذا العصر، حتى قلَّ الفقه فيها، وعظُمت المجاهدةُ لها، وما ذلكم إلا لأنّ أصحابَ المفاهيم الخاطئة يرَون الصوابَ حكرًا على أنفسهم، أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ ?للَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء [فاطر:8]. وكم وصَفوا أهلَ المفاهيم الصحيحة بالأوصافِ الشنيعة، فرمَوهم بالمجسِّمة والحشوية والوهّابية بأَخَرَة، وكم عيبَت الأقوال الصحيحةُ بالفهوم السقيمة. وما على المرءِ إلا نحتُ القوافي من مقاطعها، وما عليه إذا لم يفهمِ البشَر؟!
حتى خُيِّل لبعض المنهزِمين أن لا امتطاءَ لصهوَة التقدم والحضارة إلاّ بالتمرُّد على الدين والنيلِ من قيَمه ومفاهيمه والمساسِ بثوابتِه والمطالبة بإخضاع مسلَّماته ومحكَماته للنَّظر والحوار، فظنّ بعضهم الإفسادَ إصلاحًا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12]، وقد قال قائلهم عن نبيّ الله موسى عليه السلام وكلميه: إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى ?لأرْضِ ?لْفَسَادَ [غافر:26].
فمهلاً مهلاً أيّها المفتونون، ورويدَكم رويدَكم أيّها المنهزِمون، وعلى رسلِكم أيّها الخائضون في أمور الشريعة، فأعطُوا القوسَ باريها، وحنانَيكم أيّها المخالِفون، فها قد برِح الخفا، وتبيَّن الحقّ وانجلى، وظهرَ الحقّ واعتلى، ووُضعت المفاهيم في صحيح مجاريها، وحاد السالكُ عن الشطَط في مراميها، ولم يبقَ لمعاندٍ مستمسَك، ولا لمجادلٍ مستعصَم، ولن يُخرجَ الأمّةَ من وهدتها وينقذها من جديدِ صراعاتها إلاّ عودتها الجادّةُ لتصحيح مفاهيمها في أنفسها أوّلاً، ثمّ عند غيرها ثانيًا، مستثمرةً وسائلَ العصر وثقافاته في تحقيق ذلك قبلَ أن يستفحلَ داؤها ويستحيلَ دواؤها، ولنا عِبرةٌ أيّ عِبرة تتبعُها لوعة وعَبرة في أساطين المفاهيم المغلوطَة عبر التأريخ الذين ندِموا على ما قدَّموا، واعترفوا بحيرتهم واضطِرابهم، فأرواحُهم في وحشةٍ من جسُومهم، وحاصلُ دنياهم أذًى ووبال، وآخَر قد طاف المعاهدَ كلَّها، وسيَّر طرفَه بين تلك المعالم، فلم يرَ إلاّ واضعًا كفَّ حائرٍ على ذَقَنٍ أو قارعًا سنَّ نادم.
فيا هؤلاء، ويا أولئك، ويحكم، البدارَ البدارَ قبل فواتِ الأوان، فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَ?عْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ?تَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [القصص:50].
ألا وصلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على الرحمةِ المهداة والنّعمة المسداة، نبيكم محمد بن عبد الله، كما أمركم ربكم جلّ في علاه فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلِّم وبارك على سيّد الأوّلين والآخرين وأشرفِ الأنبياء والمرسلين نبيّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين...
[1] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4547)، صحيح مسلم: كتاب العلم (2665).
[2] سنن الدارمي: المقدمة (119)، وأخرجه أيضا الآجري في الشريعة (1/48، 52)، واللالكائي في أصول الاعتقاد (202).
(1/3028)
يا باغي البركة
الرقاق والأخلاق والآداب, قضايا في الاعتقاد
فضائل الأزمنة والأمكنة, معجزات وكرامات
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
14/1/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البركة من الله تعالى. 2- فضل المبارك. 3- الرسل والدعاة إلى الله مباركون. 4- القرآن الكريم كتاب مبارك. 5- من أسباب البركة. 6- البركة في الأسرة والمرأة. 7- الرجل المبارك. 8- مجالس الذكر. 9- المال المبارك. 10- البركة في المأكل والمشرب. 11- أوقات فاضلة. 12- أماكن مباركة. 13- الفضيلة الدائمة. 14- ما يرفع البركة. 15- مفاسد محق البركة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، فتقوى الله نورُ البصائِر، وبها تحيى القلوبُ والضمائر.
أيّها المسلمون، يسعَى الخلائقُ في هذِه الحياةِ بألوانٍ منَ الأعمال شتّى، يضمَحلّ منها ما كان في معصية الله وسخَطه، ويزكو ما كان في مرضاتِ الله وطاعتِه، قال سبحانه: فَأَمَّا ?لزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ?لنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ?لأرْضِ [الرعد:17].
وكلُّ شيءٍ لا يكونُ لله فبركتُه منزوعَة، والربُّ هو الذي يُبارِك وحدَه، والبركةُ كلُّها مِنه، وهو سبحانَه تبارَك في ذاتِه، ويباركُ فيمن شاءَ من خلقِه، قال جلّ وعلا: وَتَبَارَكَ ?لَّذِى لَهُ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ ?لسَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الزخرف:85]. وكلُّ ما نُسِب إليه فهو مبارَك، واسمه تعالى مباركٌ تُنال معه البركة، قال عزّ وجلّ: تَبَـ?رَكَ ?سْمُ رَبّكَ ذِى ?لْجَلَـ?لِ وَ?لإِكْرَامِ [الرحمن:78].
والله جلّ وعلا برحمته يأتي بالخيرات، وبفضله يضاعِف البركات، وليسَت سَعةُ الرّزق والعملِ بكثرته، ولا زيادةُ العمر بتعاقُب الشهور والأعوام، ولكن سعةُ الرزقِ والعمُر بالبركة فيه.
بالعمَل المبارَك يُكتسَب الذّكر الجميل في الحياة، وجزيلُ الثوابِ في الآخرة، فيه طهارةُ القلبِ وزكاةُ النفس وعليُّ الخلُق.
والبركةُ ما كانت في قليلٍ إلاَّ كثَّرته، ولا في كثير إلا نفَعَته، ولا غِنَى لأحدٍ عن بركةِ الله، حتى الأنبياء والرسل يطلبونها من خالقِهم، يقول النبيّ : ((بينما أيّوبُ يغتسِل عريانًا، فخرَّ عليه جرادٌ من ذهَب، فجعل أيّوب يحتسي في ثوبه، فناداه ربّه: يا أيّوب، ألم أكن أغنيتُك عمّا ترى؟! قال: بلى وعزّتِك، ولكن لا غِنى بي عن بركتك)) رواه البخاري [1].
والرسُل والدعاةُ مبارَكون بأعمالهم الصّالحةِ ودعوتهم إلى الخيرِ والهدى، قال عيسَى عليه السلام: وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى بِ?لصَّلَو?ةِ وَ?لزَّكَو?ةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:31]. ونوحٌ عليهِ السّلام أُغدِق ببركاتٍ من الله: قِيلَ ي?نُوحُ ?هْبِطْ بِسَلَـ?مٍ مّنَّا وَبَركَـ?تٍ عَلَيْكَ وَعَلَى? أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ [هود:48]، ودعا نوحٌ عليه السلام ربَّه بالمنزلِ المبارَك: وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ ?لْمُنزِلِينَ [المؤمنين:29]. وألقَى الله البركةَ على إبراهيمَ وآله، قال تعالى: وَبَشَّرْنَـ?هُ بِإِسْحَـ?قَ نَبِيًّا مّنَ ?لصَّـ?لِحِينَ وَبَـ?رَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى? إِسْحَـ?قَ [الصافات:112، 113]، وبارَك فيه وفي أهل بيته، قال عزّ وجلّ: رَحْمَتُ ?للَّهِ وَبَرَكَـ?تُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ ?لْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ [هود:73]، قال ابن القيم رحمه الله: "هذا البيتُ المبارَك المطهَّر أشرفُ بيوت العالم على الإطلاق، فلم يأتِ بعدَ إبراهيمَ نبيٌّ إلاَّ من أهل بيتِه، وكلُّ من دخل الجنّةَ من أولياء الله بعدَهم فإنما دخل من طريقهم وبدعوَتهم" [2]. ودعا نبيّنا ربَّه بالبركة في العطاء في قوله عليه الصلاة والسلام: ((وبارِك لي فيما أعطيتَ)) رواه الترمذي [3].
وتحيّة المسلمين بينهم عند اللّقاء طلبُ السّلام والرحمة والبركة.
أيّها المسلمون، القرآنُ العظيم كثيرُ الخيراتِ واسِع المبرّات، كتابٌ مبارَك محكَم، فصلٌ مهيمِن، أنزله الله رحمة وشفاءً وبيانًا وهُدى، قال سبحانه: وَهَـ?ذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَـ?هُ [الأنبياء:50]. وسورةُ البقرة سورة مبارَكة، مأمورٌ بتعلّمها، قال عليه الصلاة والسلام: ((تعلَّموا سورةَ البقرةِ، فإنّ أخذَها بركَة، وتركَها حَسرة، ولا تستطيعها البطَلَة)) أي: السّحرة. رواه أحمد [4].
وسَعة الرِّزق وبركةُ العمُر في صلةِ الرحِم، يقول المصطفى : ((مَن أحبَّ أن يُبسَط له في رِزقه وينسَأ له أثره فليصِل رحمه)) رواه البخاري [5].
والصادقُ في البيع والشراءِ والمعاملات مبارَكٌ له في الكَسب، مترادفٌ عليه الخير، يقول النبي : ((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرّقا، فإن صدَقا وبيَّنا بُورك لهما في بيعِهما، وإن كذبا وكتَما مُحِقت بركة بيعِهما)) متفق عليه [6].
ولحرصِ الإسلام على الأسرةِ وحلولِ البركة فيها وعليها مِن أوّل نشأتها شُرع الدّعاء للزوجين بالبركة عند النكاح، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: كان النبيّ إذا رفّأ الإنسانَ إذا تزوّج قال له: ((بارَك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير)) رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح" [7]. وأوفرُ الزوجاتِ بركةً ما قلّت المؤونة في نكاحها، والزواجُ السعيد ما صاحبه اليسرُ والتسهيلُ، يقول المصطفى : ((أعظمُ النّساء بركةً أيسرُهنّ مؤونة)) رواه أحمد [8]. والزوجةُ المبارَكة هي المطيعةُ لله القائمة بحقوق زوجها في غير معصيةِ الله. والولدُ المبارك هو الناشئ على طاعة ربِّه، المستمسِك بسنّة نبيه عليه الصلاة والسلام، الصائنُ لنفسِه عن الذنوب والعِصيان.
وإذا دَخل ربُّ الأسرةِ دارَه شُرع إفشاءُ السلام على أهله رجاءَ البركة، يقول أنس رضي الله عنه: قال لي رسول الله : ((يا بنيّ، إذا دخلتَ على أهلك فسلّم، تكُن بركةً عليك وعلى أهل بيتك)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" [9].
والرجلُ المبارَك هو الذي ينتفَع به حيثُما حلّ، وإذا قرُب العبد من ربّه بورِك في وقته وعمِل أعمالاً كثيرةً في زمنٍ يسير. أبو بكر الصديق رضي الله عنه قبل صلاة الفجر عاد مريضًا وتبِع جنازةً وأطعَم مسكينًا وأصبح صائمًا، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله : ((من أصبَح منكم اليومَ صائمًا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن تبِع منكم اليومَ جنازَة؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمَن أطعمَ منكم اليومَ مسكينًا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمَن عاد مِنكم اليومَ مريضًا؟)) قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله : ((ما اجتَمَعت في امرِئ إلا دخل الجنة)) رواه مسلم [10].
وخير الصُّحبةِ صُحبةُ الصالحين، وأزكى المجالس مجالسُ الذّكر، تحضرُها الملائكة، ويُغفَر لجليسها، ((فتقول الملائكة لربّها: فيهم فلانٌ ليس مِنهم، وإنما جاء لحاجةٍ، قال: هم الجلساءُ لا يشقى بهم جليسهم)) متفق عليه [11]. فهذا من بركَتهم على نفوسهم وعلى جليسهم.
والمالُ المبارَك ما كثُر خيرُه وتعدّدَت منافعه وبُذِل في طُرقِ البرّ والإحسان ابتغاءَ مرضاته، ومن قنِع بربحٍ حلال قليل وتحرّى الصدقَ في معاملاته ظهرتِ البركة في ماله وفي أولاده، قال النبيّ : ((من أخذه بحقّه ووضعه في حقِّه فنِعمَ المعونة)) رواه البخاري [12].
وسرورُ الدنيا وبهجةُ زينتِها لا تتمّ إلا بكسبٍ حلال، والمالُ يكثُر عددُه بالبذلِ والعطاء في الخيرات، قال المصطفى : ((ما نقصَت صدقةٌ مِن مال)) رواه مسلم [13] ، وقالَ عليه الصلاة والسلام: ((أنفِق ينفَق عليك)) رواه البخاري [14]. ومن أخذ ما أُعْطِي بتعفُّف وغِنى بنفسٍ من غَير مسألةٍ ولا استشرافٍ له بالقلب بورِك له فيه، قال : ((من أخذه بطيب نفسٍ منه بورِك له فيه، ومن أخذَه بإشرافِ نفسٍ له لم يبارَك له فيه)) رواه ابن حبان [15].
والبركةُ يتحرّاها العبدُ في مأكلِه في يومه وليلتِه، فالطّعام المبارَك ما أكلتَه ممّا يليك، وتجنّبتَ الأكلَ من وسط الصحفَة، وذكرتَ اسمَ الله عليه، قال عليه الصلاة والسلام: ((البركةُ تنزل وسطَ الطعام، فكُلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" [16].
وأمَر رسول الله بلَعقِ الأصابعِ والصحفة بعد الفراغ من الطعام رجاءَ البركة، وقال: ((إنّكم لا تدرون في أيِّها البركة)) رواه مسلم [17].
وفي الاجتماعِ على الطعام بركة، وفي التفرّق نزعٌ لها، يقول وحشيّ بنُ حرب: قالوا: يا رسولَ الله، إنّا نأكل ولا نشبع، قال: ((فلعلّكم تفترِقون)) ، قالوا: نعم، قال: ((فاجتمِعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله، يبارَك لكم فيه)) رواه أبو داود [18].
وسيّد المياه وأنفعُها وأبركُها ماءُ زمزم، قال عليه الصلاة والسلام: ((إنها مبارَكة، إنها طعامُ طُعم)) رواه مسلم [19].
أيّها المسلمون، اصطَفى الله من الدهرِ أزمنةً، ومِن البقاع أمكنَة، خصّها بالتشريف والبركة، فليلةُ القدر ليلةٌ مباركة رفيعةُ القدر عظيمةُ المكانة، إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـ?رَكَةٍ [الدخان:3]، وأوّلُ النهار بعد صلاةِ الفجر زمنُ الغنيمة المبارك ووقتُ نزول الأرزاق وحلول البركات، أقسَم الله به في كتابِه بقوله جلّ وعلا: وَ?لَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَ?لصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [التكوير:17، 18]، والنبيّ دعا بالبركةِ في بُدُوِّ الصباح، قال عليه الصلاة والسلام: ((اللهمَّ بارك لأمّتي في بكورها)) [20]. والنومُ بين صلاة الصبحِ وشروقِ الشمس تفويتٌ لزهرة اليوم.
وبيتُ الله الحرام مبارك، ليس في بيوتِ العالمَ أبرك منه ولا أكثرَ خيرًا ولا أدوم ولا أنفعَ للخلائق، قال جلّ وعلا: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لّلْعَـ?لَمِينَ [آل عمران:96].
ومدينةُ المصطفى مدينةٌ مباركة، الصلاةُ في مسجِد النبيّ عن ألفِ صلاةٍ فيما سواه، وصاعُها ومدُّها مبارك فيه، وتمرُ عاليتها شِفَاء، يقول النبيّ : ((اللهمّ بارك لنا في مدينتِنا، وبارك لنا في صاعِنا ومُدّنا)) رواه مسلم [21] ، وفي لفظٍ له: ((اللهمّ اجعَل مع البركة بركتين)) [22] ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((اللهمَّ اجعَل بالمدينة ضِعفَي ما جعلتَ بمكّة من البركة)) متفق عليه [23]. قال النوويّ رحمه الله: "الظاهرُ أنَّ البركةَ حصلت في نفسِ المكيل، بحيث يكفي المدّ فيها من لا يكفيه في غيرها، وهذا أمرٌ محسوسٌ عند من سَكنها" [24].
وبارَك الله في مواطنَ من أرضه كما في قوله تعالى: سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لأقْصَى ?لَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـ?تِنَا [الإسراء:1].
والفضيلة الدائمةُ في كلِّ زمانٍ ومكان بالإيمانِ والعمل الصّالح، وأيّ مكانٍ وعمل كان أعونَ للشّخص كان أفضلَ في حقِّه، يقول سلمان رضي الله عنه: (إنَّ الأرضَ لا تقدّس أحدًا، وإنما يقدّس الرجلَ عملُه) [25].
أيّها المسلمون، إذا أظهَر العبادُ ذنوبًا تتابعَت عليهم العقوبات، وكلّما قلّتِ المعاصي في الأرض ظهرَت فيها آثار البركة من الله، وانتشارُ المعاصي وفشوّها سببٌ لنزع الخيراتِ والبركات، قال جلّ وعلا: وَأَلَّوِ ?سْتَقَـ?مُواْ عَلَى ?لطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَـ?هُم مَّاء غَدَقًا لّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [الجن:16، 17].
وللمعصيةِ أعظمُ تأثير في محقِ بركةِ المال والعمُر والعلم والعمَل، يقول النبيّ : ((وإنّ العبدَ ليُحرَم الرزقَ بالذنبِ يصيبه)) رواه ابن ماجه [26] ، قال ابن القيم رحمه الله: "وفي الجملةِ فالمعصيةُ تمحق بركةَ الدين والدنيا ممّن عصى الله، فلا تجد بركةً في عمُره ودينه ودنياه" [27].
ولا يُنال ما عند الله إلا بطاعتِه، والسعادةُ في القربِ من الله، وبالإكثار من الطاعات تحُلّ البركات، وبالرجوع إليه تتفتّح لك أبوابُ الأرزاق.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو التواب الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب التوحيد (7493) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] جلاء الأفهام (ص309).
[3] سنن الترمذي: كتاب الصلاة (464) عن الحسن بن علي رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أحمد (1/199، 200)، وأبو داود في الصلاة (1425)، والنسائي في قيام الليل (1745، 1746)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1178)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (272، 273)، وابن خزيمة (1095)، وابن حبان (945)، والحاكم (4800)، والنووي في الأذكار (86)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1263).
[4] مسند أحمد (5/249، 251، 254، 257) عن أبي أمامة رضي الله عنه، وهو عند مسلم في الصلاة (804). وفي الباب عن بريدة رضي الله عنه.
[5] صحيح البخاري: كتاب الأدب (5986) عن أنس رضي الله عنه، وهو عند مسلم أيضا في البر (2557).
[6] صحيح البخاري: كتاب البيوع (2079، 2082، 2110، 2114)، صحيح مسلم: كتاب البيوع (1532) عن حكيم بن حزام رضي الله عنه.
[7] سنن الترمذي: كتاب النكاح (1091)، وأخرجه أيضا أحمد (2/381)، وأبو داود في النكاح (2130)، وابن ماجه في النكاح (1905)، وصححه ابن حبان (4052)، والحاكم (2745)، والنووي في الأذكار (356)، وصححه الألباني على شرط مسلم في آداب الزفاف (102).
[8] مسند أحمد (6/145) عن عائشة رضي الله عنها، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى (5/402)، والبيهقي في السنن (7/235)، وصححه الحاكم (2/ 178)، ووافقه الذهبي، وفي سنده ابن سخبرة لا يدرى من هو، ولذا ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1117).
[9] سنن الترمذي: كتاب الاستئذان (2698)، وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط (5991) في حديث طويل، وصححه ابن القيم في زاد المعاد (2/382)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1608).
[10] صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1028).
[11] صحيح البخاري: كتاب الدعوات (6408)، صحيح مسلم: كتاب الذكر (2689) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[12] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6427) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في كتاب الزكاة (1052).
[13] صحيح مسلم: كتاب البر (2588) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[14] صحيح البخاري: كتاب التوحيد (7496) عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: ((قال الله تعالى: أَنفق أُنفق عليك)) ، وهو عند مسلم في كتاب الزكاة (993).
[15] صحيح ابن حبان (3220، 3402، 3406) عن حكيم بن حزام رضي الله عنه، وهو عند البخاري في الرقاق (6441)، ومسلم في الزكاة (1035).
[16] سنن الترمذي: كتاب الأطعمة (1805) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أحمد (1/270، 300، 343، 345، 364)، وأبو داود في الأطعمة (3772)، والنسائي في الكبرى (6762)، وابن ماجه في الأطعمة (3277)، وصححه ابن حبان (5245)، والحاكم (7118)، وصححه الألباني على في الإرواء (1980).
[17] صحيح مسلم: كتاب الأشربة (2033) عن جابر رضي الله عنه.
[18] سنن أبي داود: كتاب الأطعمة (3764)، وأخرجه أيضا أحمد (3/501)، وابن ماجه في الأطعمة (3286)، والحاكم (2500)، وصححه ابن حبان (5224)، وحسن إسناده العراقي في تخريج الإحياء (2/6)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (664).
[19] صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2473) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[20] أخرجه أحمد (3/417، 431، 432، 4/384، 390)، وأبو داود في الجهاد (2606)، والترمذي في كتاب البيوع (1212)، والنسائي في الكبرى (8833)، وابن ماجه في التجارات (2236) عن صخر الغامدي رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه ابن حبان (4754، 4755)، وهو في صحيح الترغيب (1693).
[21] صحيح مسلم: كتاب الحج (1373) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[22] صحيح مسلم: كتاب الحج (1374) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[23] صحيح البخاري: كتاب الحج (1885)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1369) عن أنس رضي الله عنه.
[24] شرح صحيح مسلم (9/142)، وانظر: فتح الباري (4/98).
[25] أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الأقضية (1500)، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (1/205)، وفي إسناده انقطاع.
[26] سنن ابن ماجه: كتاب الفتن (4022) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (5/277، 280، 282)، وأبو يعلى (282)، والطبراني في الكبير (2/100)، وصححه ابن حبان (872)، والحاكم (1814، 6038)، ووافقه الذهبي، وقال البوصيري في الزوائد: "سألت شيخنا أبا الفضل العراقي عن هذا الحديث فقال: حسن"، إلا أن في إسناده رجلاً مجهولاً، ولذا ضعفه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (1/236-238).
[27] الجواب الكافي (ص56).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانِه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلّم تسليمًا مزيدًا.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، محقُ البركةِ يجلِب قلّةَ التوفيقِ وفسادَ القلب، وأنفعُ الأشياءِ أبركُها، ومن بارَك الله فيه وعليه فهو المبارَك، ولا تُرتَجى البركة فيما لم يأذَن به الشرع الحكيم. وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تزكو النفس وتصلح الأحوال وتحلّ البركاتَ على المجتمعات. ومن التزم الصدقَ في البيان أُلقِيت الحكمةُ على لسانه والسدادُ في أفعاله. ومن أخذ المال بغير حقِّه بارَ نفعُه، قال النبيّ : ((ومن أخذه بغير حقِّه كان كالذي يأكل ولا يشبع)) رواه البخاري [1].
والرِّبا عديمُ النفعِ ماحقٌ للمالِ مُجلِب للهمّ، يجري أكلُه خلفَ سَراب، قال سبحانه: يَمْحَقُ ?للَّهُ ?لْرّبَو?اْ وَيُرْبِى ?لصَّدَقَـ?تِ [البقرة:276].
والحلِف منفقةٌ للسلعة ممحِقٌ للكَسب، ومنعُ الصدقة خشيةَ النفادِ تلفٌ للمال، قال : ((اللهمَّ أعطِ ممسكًا تلفًا)) رواه البخاري [2].
فالزَم جانبَ العبودية والاتباع، وابتعِد عن المحرّمات والشّبهات في المال وغير المال، يبارَك لك في الأخذ والعطاء.
ثمّ اعلَموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيّه، فقال في محكَم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6427) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في كتاب الزكاة (1052).
[2] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1442) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا من دعاء الملك، وأخرجه أيضا مسلم في كتاب الزكاة (1010).
(1/3029)
حديث للأطباء والمرضى
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الإعلام, المرضى والطب
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
14/1/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الابتلاء بالأمراض. 2- فوائد الابتلاء. 3- نعمة العافية. 4- نصائح للطبيب المسلم. 5- وصية للقائمين على المستشفيات والمستوصفات. 6- وصايا للمريض. 7- طهارة المريض وصلاته. 8- الوصية بالوالدين. 9- التحذير من برنامج "ستار أكاديمي" وأمثاله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، الدنيا دارُ عمل وابتلاء، لا يسلَم العبدُ فيها من سقَمٍ يكدِّر صفوَ حياته، ولا مِن مرضٍ يضعِف قوَّته وحاله، وقد يكون في البلاء نعمة، وفي المرض والشدةِ بُشرى، وربّك يرحم بالبلاء، ويبتلي بالنعماء، وشدّةُ المؤمن في هذه الدنيا عينُ لذّته وراحتِه يومَ القيامة. والبلاءُ عنوانُ محبةِ الله والطريق إلى جنَّته، في الحديث: ((أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثمّ الأولياء، ثمّ الأمثل فالأمثل، يبتلَى العبدُ على قدرِ دينه، فإن يكن في دينه صلابة شدِّد عليه، وإلاّ خُفِّف عنه)) [1] ، وقال : ((إنَّ عِظمَ الجزاء مع عِظم البلاء، وإنَّ الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرِّضا، ومن سخط فله السخط)) [2].
أيّها المسلم، في بلاءِ المؤمن رفعٌ لدرجاته وحطٌّ لخطاياه، ((لا يصيب العبدَ من همّ؛ مرض فما دون ذلك إلاَّ حَطَّ الله بها سيئاته كما تحطُّ الشجرة ورقها)) [3].
وفي البلاءِ قوَّةُ الإيمان والتوكُّل على الله وتعلّقُ الأمل بالله، ويُكتب للمريض ما كان يعمَله في صحّته لأنه بنيَّته ينوي الخير، وذاك من فضل الله. وفي المرضِ إذهاب الداء الدفينِ في النفوس، من الكبر والعُجب والاغترار والغفلة، فيعرف ضعفَه وعجزَه، ويتذكَّر قول الله: وَخُلِقَ ?لإِنسَـ?نُ ضَعِيفًا [النساء:28].
أيها المسلم، إنَّ العافيةَ من أعظم نِعم الله عليك بعد الإسلام، وأجزلِ عطاياه لك، هذه نعمةُ العافية نعمةٌ عظيمة، في الحديث: ((نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحّة والفراغ)) [4] ، وسيُسأل العبد يومَ القيامة عن النعيم الذي ناله في الدنيا، يقال له: ألم نصحِّح جسمَك؟! ألم نُرويك من الماء البارد؟!
أيّها المسلم، وسلبُ تلك العافية أو اعتلالُها يورِث ذلك كثرةَ الدعاء وعظيمَ التضرّع بين يدي الله، فسبحان من يستخرج الدعاءَ بالبلاء والشكرَ بالعطاء.
أيّها المسلم، وإذا كنتَ على يقين أنَّ الله أرحمُ بك من نفسك، وأرحم بك من أمّك الشفيقة عليك، أيقنتَ بأنّ قضاءَ الله كلّه عدل، فعليك الصبر، ثم تخلَّق بالرضا عن الله لتكونَ من السعداء.
أيّها الطبيب المسلم، مهنتُك شريفة، وعملك طيّب، عليك بتقوى الله والجدّ والاجتهاد، فالاطِّلاع على كلِّ جديد في هذا الطبِّ لتخدمَ به أمتك، وتتقرَّب بذلك إلى الله.
أيّها الطبيبُ المسلم، المرضى اطَّلعتَ على عوراتهم، وأفشَوا إليك أسرارَهم، وبَثّوا لك شكايتهم، فحقٌّ عليك كتمانُ السرّ وإخفاء الأمراض، وأن لا تشيعَ شكايتهم وحالَهم إلى الناس، بل اجعَل ذلك من أسرار عملك، فأنت مؤتمَن على هذا كلِّه.
أيّها الطبيب المسلم، إنَّ المؤمنَ في كلّ أحواله داعٍ إلى الله، ناشرٌ لدين الله، ساعٍ في الخير جهدَه.
أيّها الطبيب المسلم، من خلال فحوصك واطّلاعك على ذلك ترى من عجائبِ صُنع الله وقدرته في عباده ما تتيقَّن به قولَ الله: وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ [الذاريات:21].
أيّها الطبيب المسلم، قولُك للمريض حكمٌ مقبول لديه، ورأيُك حتى في أجسامهم مقبول.
أيّها الطبيب المسلم، سلَّم لك المريضُ جسمَه وعقله، وربما سلَّم لك روحَه، فاتق الله في أمانتك، وراقب الله في عملك.
أيّها الطبيب المسلم، ليس عيبًا عليك أن تقولَ عمّا لا تعلم: لا أعلمه، فإنّه ربما انغلق عليك أمرٌ اطلع عليه الآخرون، ربما انغلق عليك أمر علِمه غيرك، وَمَا أُوتِيتُم مّن ?لْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85].
أيّها الطبيب المسلم، لقد استغلّ أعداء الإسلام مهنةَ الطبِّ في الدعوة إلى الضلال وإخراج الناس من دينهم بما يظهرونه من رِقّة ولُطف ورحمةٍ بالمريض، فحرّي بك ـ أيّها الطبيب المسلم ـ أن تكون سبَّاقًا لهذه الأمور، ليكن معك حِلمٌ ورفق ولُطف بالمريض، لا يكن مرضُه سببًا لازدرائه، ولا بلاؤه سببًا لاحتقاره، فما جاء المرض إلا لتطهيره ورفع درجاته، والله حكيم عليم.
أيّها الطبيب المسلم، غَضُّ البصر وتحصينُ الفرج والبعد عن رذائل الأمور من الأخلاق التي يجب أن يتحلّى بها الطبيب المسلم كما يتحلّى بها الكلّ، لكن الطبيب المسلم في هذه المواقف فليراقب الله في أقواله وأعماله وتصرّفاته.
أيّها الطبيب المسلم، نبيّنا يقول: ((إنّ الله يحب الفأل)) [5] ، فكن ذا خلُق حسَن، وارفق بالمريض، وارعَ له مرضَه، وتلطَّف به، وإياك أن تضجر من سوء أخلاقِه وقلّة صبره، فلِصاحبِ الحقِّ مقال.
أيّها الطبيب المسلم، إنّ ما ابتُلي به الناس من اختلاطِ الجنسين في أماكنِ التمريض والعلاج لهو خطر عظيمٌ وشرّ مستطير، والمسلمون بإمكانهم عملُ الطبّ، وبإمكانهم تخصيص [مكان] للنساء دون الرجال، وبإمكانهم فصلُ الجنسين بعضهما عن بعض، وذاك أمرٌ إذا صدقت النيّة فيه وحسن القصد فإنّ الأمة توفَّق للخير.
أيّها الطبيب المسلم، إياك وأن تكونَ مهنتُك سببًا للتكبُّر والعلوّ على الناس، فمن تكبَّر أو تعالى بمهنته وضعه الله، واعلم أنَّ المعاصيَ سببٌ يُغلِق أمامَ الإنسان التزوُّد من المعلومات، ورُبَّ معصية له تُفقِده قوَّةَ فكرَه وتدبيره، فطاعة الله سببُ الازدياد من كلّ خير، ومعاصي الله سببٌ لضعف البصيرة وقلَّةِ الإنتاج. فعلى الطبيب المسلم تقوَى الله في مِهَنه كلِّها ليكون من الصادقين، وليؤدِّ هذه الوظيفةَ أداءً كاملاً بإخلاص، وليجعل ذلك عبادةً لله، فإنّ الله جلّ وعلا يثيب العبدَ على نواياه الصالحة، فقد يبلغ العبدُ بنيته المبلغ العظيمَ، فمن أحسنَ قصدَه ونيته فليبشر من الله بالثواب والعطاء الجزيل.
أيّها الطبيب المسلم، إنَّ كلَّ طبيب تطبَّب وهو لا يحسِن الطبَّ ولا يفهمه يكونُ من الآثمين، ويكون إثمُ ما جَنت يداه عليه يومَ القيامة.
أيّها المسلم، إنَّ الطبَّ مع كونه مهنةً ومع كونه مكسبًا لبعض الناس فيجب أن تكونَ مكاسبه مكاسبَ واقعية لا استغلالاً للمريض، واستغلالاً لضعفه، فيؤخذ منه أضعافُ أضعاف ما يأخذه الآخرون، فلنتق الله في تعاملنا.
إنَّ المستشفياتِ الخاصّة والعيادات الخاصة يكون أحيانًا منها استغلالٌ للمرضى، وتكليفهم ما لا يطيقون، وتحميلهم من النفقات ما لا استطاعةَ لهم ولا قدرةَ لهم بتحمُّله، ولو بحثوا في أيّ مكان لكان ما يأخذونه أضعاف أضعافِ ما أخذه غيرهم.
وأمرٌ آخر أنّ هذه المستوصفات الخاصّة يجب على أهلها تقوى الله، وأن يختاروا لمهنة الطبِّ من يثقون بعلمه في الغالب، ويغلب على الظنّ أهليته وصدقُه وقدرته على ذلك العمل، ليكون الهمّ فحص ما يعيّنونه في تلك المستشفيات والمستوصفات، حتى لا تكون أرواحُ الأمّة ضحايًا لأخطائهم وتصرّفاتهم من قرب أو من بُعد، فليس الهمّ المكاسب، ولكن يجب أن يكن الهمّ النفع العامّ، هذا واجب المسلمين.
أيّها المسلم، إذا ابتُليتَ بالمرض فاصبر، والجأ إلى الله، واعلَم أنّ الأسبابَ كلَّها لا تؤثّر إلا بإرادة الله، فمع تعاطيك للأسبابِ فلتكن ثقتك بالله، ورجاؤك في الله، وأملُك معلَّقًا بالله، وتعلم أنَّ الأمرَ بيد الله، قال الخليل عليه السلام: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]، فالشفاءُ بيد الله، والأسباب التي نتعاطاها إنما هي أسبابٌ خاضعة لإرادة الله جلّ وعلا، لكن يكون متعلّقنا بالله، وثقتنا بالله، وآمالنا في الله.
احذَر ـ أيها المريض ـ أن تكونَ في شدّتك مطيعًا، وفي رخائك عاصيًا متمرِّدًا، وأعظمُ من ذلك من يعصي الله في شدَّته ورخائه، يقول نبيّكم : ((تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة)) [6]. أكثِر من ذكر الله والثناء عليه، واعلم أنه أرحم بك من نفسك، ابتلاك ليطهِّرك من الخطايا، ابتلاك ليرفعَ درجاتِك، ابتلاك لتكون مقبِلاً عليه منيبًا إليه راجعًا إليه عالمًا أن النفعَ والضرَّ بيده، وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَـ?شِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدُيرٌ [الأنعام:17].
فيا أيّها المسلم، اتَّق الله في كلِّ أحوالك، واتَّق الله في كلّ أعمالك، وراقبِ الله في كلّ تصرفاتك، هكذا يكون المؤمن حقًّا، أسأل الله أن يوفّق الجميعَ لما يحبّه ويرضاه، إنّه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ ?للَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَـ?شِفَـ?تُ ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَـ?تُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِىَ ?للَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ ?لْمُتَوَكّلُونَ [الزمر:38].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (1/185)، والترمذي في الزهد (2398)، والنسائي في الكبرى (7481)، وابن ماجه في الفتن (4023) وغيرهم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وليس فيه: ((ثم الأولياء)) ، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (2900)، والحاكم (120، 121، 5463) والضياء في المختارة (1056)، ورمز له السيوطي بالصحة، وعزاه من بين ما عزاه للبخاري، قال المناوي في الفيض (1/519): "وعزوه إلى البخاري تبع فيه ابن حجر في ترتيب الفردوس، قيل: ولم يوجد فيه"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (143).
[2] أخرجه الترمذي في الزهد (2396)، وابن ماجه في الفتن (4031)، والقضاعي في مسند الشهاب (1121)، والبيهقي في الشعب (9782) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وحسن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (146).
[3] أخرجه البخاري في المرضى (5648، 5660، 5667)، ومسلم في البر (2571) عن ابن مسعود رضي الله عنه بنحوه.
[4] أخرجه البخاري في الرقاق (6412) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[5] لم أقف عليه بهذا اللفظ، وأخرج أحمد (2/332)، وابن أبي شيبة (9/40)، وابن ماجه في الطب (3536) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله يحب الفأل الحسن ويكره الطيرة، وصححه ابن حبان (6121)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (2848).
[6] هذا اللفظ أخرجه أحمد (1/307)، والحاكم (3/623)، والضياء في المختارة (10/24) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه القرطبي في تفسيره (6/398)، وأخرجه بنحوه أيضًا أحمد (1/293)، والترمذي في صفة القيامة (2516) وقال: "حديث حسن صحيح"، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي أخرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2043).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيّها المسلم، إنّك خُلِقتَ لعبادة الله، خُلقتَ لطاعة الله، وإنّ الصلوات الخمس أعظمُ فرائض الإسلام عليك بعد توحيدك وإخلاصك الدينَ لله، فالصلوات الخمسُ في اليوم والليلة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، هي عمودُ الإسلام، تجب على [المسافر كالمقيم]، وعلى الخائف كالآمن، وعلى المريض كالصحيح، لا تسقط عنك ما دام عقلُك حاضرًا.
أيّها المسلم، إذا ابتُليتَ بمرض لا سمح الله، فاعلم أنه لا بدَّ من أداء الصلاة، ولا تسقطُ عنك هذه الفريضة بشروطها ما دمت قادرًا على الأداء، وربُّك جلّ وعلا قد يسَّر لك الأمور، يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ [البقرة:185]، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ?لأغْلَـ?لَ ?لَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157]، ويقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ?لدّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، فالحمد لله على تيسير هذه الشريعة.
أيّها المسلم، مرضُك لا يسقِط عنك الصلاةَ، ولا يُسقِط عنك الطهارةَ لها، فالطهارة للصلاةِ شرطٌ لصحة الصلاة، يقول : ((لا يقبل الله صلاةَ أحدِكم إذا أحدثَ حتى يتوضأ)) [1] ، ويقول: ((لا يقبل الله صلاةً بلا طهور)) [2].
إذًا أيها المريض المسلم، عندما تُبتَلى بالمرض فلا بدّ من طهارةٍ قبل الصلاة، تطهَّر بالماء، فإن عجزتَ عن الماء لمرضك بأن كان الماءُ يزيدُ المرضَ مرضًا أو يؤخّر البرء أو كان هذا الماء يؤثِّر على عضوٍ ما من الأعضاء، فتيمَّم، إمّا بدلاً عن كلّ البَدن، أو تيمَّم عن ذلك العضوِ الذي لا تستطيع أن تُمرّ الماءَ عليه، فإن كان عليه جبيرة قد لُفَّ بلفافةٍ فإن مسحَك عليها قائمٌ مقامَ غسل العضو بمنزلة الخفين.
وأمرٌ آخر أيها المسلم، لا بدّ من الطهارة، فإن عجزتَ عن استعمال الماء أو كان الماء يزيد المرضَ أو يؤخِّر البرء، فتيمّم، والتيممُ بالتراب ضربةٌ واحدة تسمَح بها وجهَك ويديك بعضها مع بعض، أو كنتَ لا تجدُ من يقرِّب لك الماء، أو ليس عندك من يخدمك ولا من يقرِّب لك الماء، فإنّ الله جلّ وعلا قد عذرك ويسَّر لك التيمّمَ ليقوم مقامَ الماء.
أيّها المريض، قد تشكو أحيانًا من نجاسةِ ملابسك ونجاسة الفراش الذي أنت عليه، فنقول: إزالة النجاسة شرطٌ لصحة الصلاة مع الإمكان، وإذا تعذَّر الأمر عليك وتعذَّر تغيير ملابسك وتعذّر تغيير فراشك واستحال ذلك عليك فإنّ الله يقول: فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ مَا ?سْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
أخي المسلم، إذا ابتُليتَ مثلاً بسلَس بول أو بنزيف دمٍ من بعض الجروح أو بريحٍ يتكرَّر خروجها في كلِّ الوقت، فإنك تتوضَّأ لوقتِ كلّ صلاة، وتصلّي وتقرأ حتى يأتي الوقت الآخر تيسيرًا من الله وتسهيلاً.
أيّها المسلم، اعلم أنَّ الصلاة لا بدّ من أدائها كاملةَ الأركان والواجبات، هذا هو الواجب، ((صلُّوا كما رأيتموني أصلي)) [3] ، ولكن من رحمةِ الله أنَّ المريض يسقط عنه ما يعجز عن أدائه من أركانِ الصلاة، فإن كان هذا ا لمريضُ يستطيع أن يصلّي قائمًا لكنه لا يستطيع الركوعَ فليومئ برأسه عن الركوع، لا يستطيع السجود فليومئ برأسِه عن السجود، أو يصلي على كرسيّ ونحو ذلك. إن كان هذا المريضُ لا يستطيع أن يصلِّيَ قائمًا صلّى قاعدًا، وأومأ بالركوع والسجود، يقرأ الفاتحة ثم يطأطئ رأسه كراكِع، ثم يطأطئ كساجد. إن كان لا يستطيع أن يصلّيَ جالسًا فليصلِّ وهو مستلقي، إن كان يستطيع على جنبِه الأيمن ليتَّجه إلى القبلة فالحمد لله، إن عجز عنها صلّى على حاله، يصلّي إلى جهة القبلة أو رجلاه إلى القبلة، فإن تعذّر الأمر عليه أو كان وضعُ سريره على خلاف ذلك فكلُّها تسقط عنه، ويصلّي على قدر حاله.
دخل النبيّ على رجلٍ من أصحابه وقد وضع وسادةً ليسجدَ عليها لأنّه أصيب بداء الباسور، فقال: ((ما هذه الوسادَة؟)) قال: أسجُد عليها، فرمَى بها، وقال: ((صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب، فإن لم تستطِع فمستلقيًا)) [4] ، ما دام العقلُ حاضرًا فلا بدّ من أداء الصلاة، وإن عجزتَ عن أدائها كلَّ فرص [في وقته]، أو كنتَ أحيانًا تتوضَّأ لفرضٍ ولا تستطيع الوضوءَ لكلِّ فرض، جاز لك أن تجمَع الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء على قدرِ ما يناسبك، إن كان التقديم أنسبَ جمعتَ تقديمًا، وإن كان التأخير أنسبَ جمعت التأخير، وكلّ هذا من تيسير الله.
وعلى أبناء المسلمين البرُّ بآبائهم وأمّهاتهم، ولا سيّما عند مرضهم وثقَلهم وقلّة حركتهم، فليتقرّبِ الأبناء إلى الله ببرّ الأبوين والإحسان إليهما عند كبرهما وضعف قوّتهما وانهيار صحتهما واحتياجهما إليك، ولتذكر أمَّك أيامَ طفولتك؛ تزيل الأذى، تغسلك بيمينها، تفعل معك أفعالاً لو عُدت ثانيًا لعرفتَ فضلَها وقدرها. وكم للأب من محاسنَ عليك. فعند مرضِ الأبوين لا ينبغي للأبناء والبناتِ التجاهل والجفاءُ والإعراض والصدود والانشغال بأي عذر ما من الأعذار، وقد لا يكون هذا العذر مقبولاً، فعليهم أن يتقرّبوا إلى الله ببرّ الأمهات والآباء في زمن المرض وضعف القوة، فذاك عين الابتلاء، فالنفوس الأبيّة والمعادنُ الطيبة لا يخفى عليها ذلك، تبرّ بالآباء والأمّهات في أثناء الكبر وشدَّة المرض وضعفِ القوة، ولا يكِلونه إلى أيّ أحد، بل يرَون ذلك شرفًا لهم وفضلاً لهم وقربّة يتقرّبون بها إلى الله.
نسأل الله أن يعافيَنا وإيّاكم في الدين والبدَن والأهل والمال، وأن يمتِّعنا بقوانا متاعًا حسَنا، إنه على كل شيء قدير.
إخوتي المسلمين، شبابَ الإسلام، فتياتَ المسلمين، أناشدكم الله، أناشدكم دينَكم وحبَّكم لله وإخلاصكم لله وطاعتكم لرسوله ، أسائلكم عمَّا قام في قلوبِكم من تعظيم أوامر لله وتعظيم نواهيه والتصديق بوعده ووعيده ورجاء جنّته والخوف من عذابه.
أيّها الشباب المسلم ذكورًا وإناثًا، لقد ابتُلي المسلمون ببلاءٍ عظيم، وأحاطت بهم شرور عظيمةٌ متتابعة، لا يخلِّصهم منها إلا رجوعُهم إلى الله وإقبالهم على الله وخوفُهم من الله. قنواتٌ فضائية شِرِّيرة، تنشر بالصورة والصوتِ منكراتٍ في العقيدة، منكرات في الأخلاق، تدعو إلى الرذيلة، وتحارب الفضيلة، ما يسمَّى بـ"الأستر كت"، هذه البرامجُ وأمثالها، هذه البرامج الهابطة، هذه البرامج الضالّة هي التي تروِّج للرذيلةِ وتدعو إلى الرذيلة وتحارب الفضيلة، ويحاول معِدُّو هذه البرامج في هذه القنوات التي بعضُها قد يحسَب على المسلمين، تروّج للباطل، لهذه الأفلام الهابطة الرخيصة التي غايتها محاربة كلّ خلُق قويم وكلّ فضيلة وكل كرامة.
فليتّقِ المسلمون ربهم، وليحذَروا مشاهدةَ هذه الأفلام، وليربَؤوا بأنفسهم عنها، فإنها سمومٌ قاتلة، وإنها فسادٌ عظيم، فليتَّقوا الله في أنفسهم وفي أبنائهم وبناتهم، وليعلَموا أنَّ النظرَ إليها جريمة؛ لأنها دعوةٌ إلى الرذائل وترويجٌ للفساد.
فليتَّق الله المسلمون في أنفسهم، وليعلَموا أنّ مشاهدتها والتعاملَ معها وإعانتها أو العمَل فيها أمر يخالف شرعَ الله؛ لأن الله يقول: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة:2]، لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُون [المائدة:78، 79]، قال رسول الله : ((كلاَّ، لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر ولتأخُذنَّ على يدِ السفيه، أو ليضرنَّ الله قلوبَ بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم)) [5].
فليحذر المسلمون مشاهدةَ هذه الأفلام الخليعة، ليبتعِدوا عنها ديانةً لله ومحافظةً على قيَمهم وأخلاقهم، محافظةً على دينهم قبلَ أن تزلّ القدم، فإنّ هذه البرامج ضارة، أعدَّها أعداءُ الإسلام الذين يحاربون المسلمين بكلّ وسيلة، في عقيدتهم وفي فِكرهم وفي أخلاقهم وفي اقتصادهِم وفي سلوكهم، يحاربون هذا الدينَ بقَدر ما يستطيعون، فليكُن للمسلمين موقفٌ بالبعدِ عنها وعدَم التعامل [معها وعدم] مشاهدتها واعتقاد ضررها وفسادها. وإنَّ السعيَ فيها والمكاسبَ من خلالها مكاسبُ خبيثة، مكاسبُ سيئة، فليحذر المسلمون أن يكونوا أعوانًا على الباطل.
أسأل الله أن يثبِّتنا وإياكم على قوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الوضوء (135)، ومسلم في الطهارة (225) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في الطهارة (224) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري في الأذان (631) عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الجمعة (1117) عن عمران بن حصين رضي الله عنه، وليس فيه: ((فإن لم تستطع فمستلقيا)).
[5] أخرجه أحمد (1/391)، وأبو داود في الملاحم (4336)، والترمذي في التفسير (3047)، وابن ماجه في الفتن (4006) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وقد اختلف في إرساله ووصله، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1105).
(1/3030)
أيها المسلمون أفيقوا
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
14/1/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة المسلمين للتوحد أمام المؤامرات المختلفة. 2- جرائم يهودية في المسجد الأقصى. 3- اليهود يريدون تهويد القدس. 4- مسئولية المحتلين للعراق عما يراق فيه من دماء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، أيها المرابطون في هذه الرحاب المقدسة، تمر أمتنا الإسلامية في منعطف خطير، ينذر بانهيار الأنظمة الإسلامية، الواحد تلو الآخر، إذا لم يتدارك المسلمون قادة وحكامًا وشعوبًا أبعاد المؤامرات التي تحاك ضد الإسلام والمسلمين من قبل أعدائهم بزعامة أمريكا الحاقدة، وأوروبا الصليبية الماكرة، وروسيا الملحدة، إذا لم يعمل المسلمون على وقفة جادة وجريئة بوجه المخططات المعادية لإسلامهم، والتي تتخذ حاليًا أشكالاً متنوعة ومسميات متعددة، فمن الانفتاح والتعايش السلمي إلى العولمة، ثم العلمانية ووحدة الأديان، وإلى الوفاق الدولي لمحاربة الإرهاب، وبات واضحًا أمام الجميع مفهوم الإرهاب من وجهة نظر أعداء الإسلام.
أيها المؤمنون، لقد حذرنا في خطبة سابقة من علياء هذا المنبر الشريف أن مدينتنا المقدسة في خطر، وأن مسجدنا المبارك في خطر، وأن جدار الفصل العنصري ما هو إلا أسلوب من أساليب الاحتلال الإسرائيلي لعزل مدينة القدس عزلاً تامًا عن باقي مناطق ومدن فلسطين في الضفة الغربية المحتلة.
وما حدث ـ أيها المؤمنون ـ في الأسبوع الماضي من اقتحام مسلح للمسجد الأقصى المبارك ومهاجمة المصلين وإطلاق القنابل الصوتية والأعيرة المطاطية، حتى قبل إنهاء المصلين لصلاة السنة البعدية، ما هو إلا إرهاب دولة وممارسات احتلال، لاختبار مدى صمودكم ومدى ثباتكم بمسجدكم ودفاعكم عنه، فالاحتلال لا يزال يتحين الفرص للانقضاض على هذا المسجد المبارك، بعد أن آلت الأمور السياسية في العالم لصالح أعداء الإسلام.
أيها المسلمون، لقد ذكرت الصحف العبرية أن إسرائيل ومن خلال شركة إلعاد ستعمل على إقامة مركز تجاري سياحي في مدينة القدس، وعلى وجه التحديد في منطقة وادي حلوة، والتي يطلقون عليها مدينة داود، وستعمل المؤسسات والحكومة والجمعيات الاستيطانية لشراء العقارات لإسكان المستوطنين فيها، وذكرت الصحف أيضًا أن شركة إلعاد تمكنت من امتلاك ثلاث وأربعين منزلاً يقيم فيها حاليًا المستوطنون تحت حراسة مشددة، وأن شركة إلعاد وبالتعاون مع سلطة الأراضي ستقوم بمسح جغرافي وسكاني لمعرفة العقارات التي لا يقيم فيها أصحابها الأصليون لوضع اليد عليها باعتبارها أملاك غائبين.
أيها المؤمنون، هذا المخطط الاستعماري والاستيطاني الجديد يهدف إلى تهويد وادي حلوة بالكامل، لأن اليهود يعتبرونها على حد زعمهم أقدس من حائط البراق، لأنها المدينة التي بناها سيدنا داود عليه السلام، هذه هي المخططات الصهيونية القديمة الجديدة، والتي ستكون بداية للانقضاض على هذا المسجد المبارك لا قدر الله.
فمتى يفيق المسلمون من سباتهم العميق؟! متى تستيقظ ضمائر القادة والحكام؟! ومتى ينفضون عن كاهلهم الذل والصغار والتبعية؟! متى يدرك المسلمون في بيت المقدس أن المستوطنين يسعون للاستيلاء على مزيد من العقارات الإسلامية داخل أسوار البلدة القديمة وخارجها لتكون البلدة القديمة محاطة بالقلاع الاستيطانية من جميع الجهات ومن جميع الأمكنة؟! وقد نشرت بعض الصحف أن عدد المستوطنين الذين يسكنون في هذه الأماكن يزيد على مائة وخمسين ألف مستوطن.
ومن هذه الرحاب الطاهرة ومن هذا المنبر الشريف، وباسم جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، نستنكر الاعتداء الآثم الذي حدث يوم الجمعة الماضي على المصلين، ونحذر في الوقت ذاته من زرع بذور الشقاق واندساس العملاء بين المصلين، حتى لا نعطي الفرصة لأعدائنا لانتهاك حرمة هذا المسجد المبارك.
أيها المؤمنون، إن الوقت الذي نحياه اليوم وقت صعب يتطلب من الجميع اليقظة والحذر ووحدة الصف تحت راية الإسلام، لتفويت الفرص أمام أعداء الإسلام الذين يعيثون في الأرض فسادًا ويسعون إلى تخريب البيت الفلسطيني من الداخل، فما الاغتيالات الأخيرة والانفلات الأمني إلا مظهرًا من مظاهر التفكك والضعف الذي حل بنا في هذه الأيام، والله تبارك وتعالى يقول في محكم التنزيل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:102، 103].
وإن سياسة الهدم والتشريد التي تنتهجها سلطات الاحتلال تتطلب من جميع المسلمين الوحدة والترابط والتعاون والوقوف أمام المخططات التي تستهدف النيل من وجودنا الإسلامي في أرض فلسطين المسلمة، نسأل الله تبارك وتعالى أن يمن علينا جميعًا بالأمن والاستقرار والمحبة والوئام.
عباد الله، ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله قال: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) أو كما قال.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الذي أنعم علينا بنعم لا تعد ولا تحصى، ولا يمكن أن تتخطى، ونشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على النبي المصطفى والحبيب المجتبى، والآل المستكملين الشرفا والأتباع الحنفا.
إن ما جرى من أحداث مؤلمة ومجازر بشعة في يوم عاشوراء يوم الاثنين الماضي من تفجيرات في بغداد وكربلاء، وراح ضحيتها مئات من المسلمين الشيعة وأهل السنة يدل دلالة واضحة على أن أعداء الإسلام يتربصون بالمسلمين في كل زمان ومكان، والذين فشلوا حتى اليوم في إظهار أسلحة الدمار الشامل والتي كانت ذريعة حسب كلامهم لاحتلال العراق، إنما يسعون اليوم إلى إثارة الفتن الطائفية بين المسلمين في العراق، لإطلالة أمد الاحتلال، وعدم إعطاء الشعب العراقي الحرية وبناء ذاته من جديد.
ومن هنا نحمّل قوات التحالف الظالمة المسؤولية الكاملة عما حدث ويحدث من مجازر دموية في أرض العراق وبين المسلمين هناك، وليكن معلومًا لدى الجميع أن المسلم يحرم عليه قتل المسلم، وعندما يقولون: إن الجماعات الإسلامية هي التي قامت بهذه الأعمال إنما يريدون أن يلصقوا تهمة الإرهاب بالمسلمين، والعالم أجمع أصبح يعرف الآن من هم الإرهابيون.
أيها المؤمنون، قضية هامة، ففي زحمة الأحداث التي نعيشها هذه الأيام، هذه القضية التي قد ينساها بعضنا، نؤكد من هذا المكان الطاهر أن السجناء المسلمين في سجون الاحتلال يعانون من ظروف مهينة وصعبة للغاية وظروف صحية سيئة، والواجب على أمتنا وأصحاب المسؤولية أن يعملوا على رفع الضيم والظلم عنهم، وإعطائهم حقهم، إلى أن يأذن الله تبارك وتعالى بإطلاق سراحهم، وندعو الله تبارك وتعالى من هذا المكان الطاهر أن يفرج كربهم، وأن يرحم ضعفهم، وأن يطلق سراحهم، وأن يعيدهم إلى أهلهم سالمين غانمين. آمين.
عباد الله، قبل أيام قليلة كانت ذكرى هدم الخلافة الإسلامية التي توحد أعداء الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها للقضاء عليها، لأنها تحمل راية الإسلام، تحمل راية: لا إله إلا الله محمد رسول الله، تكالب أعداء الإسلام عليها من كل مكان، واستطاعوا أن يقضوا على الخلافة الإسلامية، والواجب على أمتنا في هذه الأيام أن تعود إلى رشدها، وإلى صواب أمرها، وإلى إقامة دولة الإسلام حتى ترفع الظلم والضيم عن المسلمين في كل مكان.
وتأكدوا ـ أيها المسلمون ـ أن العزة والكرامة لن تعود لكم إلا إذا عدتم إلى الله تبارك وتعالى، فمتى يعود المسلمون في هذه الأيام إلى الله عز وجل حتى يخفف عنا هذه الآلام، حتى يرحل عنا الاحتلال؟! وتذكروا دائما أن الظلم مهما طال فلن يدوم، وأنه مهما طال الظلام فلا بد من طلوع الفجر.
(1/3031)
عيد الأضحى 1424هـ
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد, فقه
الإعلام, الذبائح والأطعمة, المرأة, المسلمون في العالم, محاسن الشريعة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
10/12/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التذكير بنعمة الحج. 2- شعيرة ذبح الأضاحي وما يتعلق بها من آداب وأحكام. 3- نعمة الهداية للإسلام. 4- الدعوة إلى التوحيد. 5- منهج الوسطية. 6- التحذير من الغلو. 7- خطورة التكفير. 8- أمن بلاد الحرمين. 9- الدعوة للإصلاح. 10- التذكير بمآسي المسلمين وجراحاتهم. 11- قضية فلسطين والعراق. 12- المشروع الحضاري الإسلامي. 13- الأعمال الخيرية والإغاثية. 14- مناهج التعليم. 15- ضرورة العناية بالشباب. 16- واجب وسائل الإعلام. 17- التحذير من إعلام الرذيلة. 18- صيانة الإسلام للمرأة. 19- نصائح وتوجيهات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا إخوةَ الإيمان في كلّ مكان، أيّها المسلمون في أمّ القرى بلدِ الله الحرام، حجّاجَ بيت الله الحرام، خيرُ ما يوصَى به الأنام تقوَى الله الملكِ القدوس السلام، فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ في السِّرِّ والإعلان، وزكّوا بواطنَكم من الأوضار والأدران. اتَّقوا الله في الغيبِ والشهادةِ تحوزوا والحسنى وزيادة، وتحقِّقوا السعادةَ والسيادة والقيادة والريادة، يِـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ?للَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الأنفال:29].
معاشرَ المسلمين، أيّها الحجّاجُ الميامين، ها قد أنعم الله عليكم ببلوغ هذا اليومِ المبارَك الأزهر، وشهدتُم بفضله ومنِّه يومَ الحجّ الأكبر والمنسكِ الأشهَر، منسكٍ لا تُحصى فضائله ولا تُستَقصى نوائلُه، يوم عيد الأضحى المبارك، يجود فيه الباري جلّ وعلا بمغفرةِ الزلاّت وسَتر العيوب والسيّئات وإقالةِ العثرات وإغاثةِ اللّهفات ورفع الدرجات وإجابة الدعوات وقَبول التوبات. طوبى لكم ـ أيها الحجاج ـ ثم طوبى على ما تنعمون به من غامِرِ الرَّوحانياتِ وسابغ الإيمانيات، دموعُكم لرضوان الله مطَّردة، والضُّلوع منكم بالأشواق متَّقِدة، كيف وقد عانيتُم في عرفةَ من الإجلال والمهابةِ والخشوع والخضوع والدّموع والإنابة ما يكاد يذهب بالمُهَج ويأخذ بالألباب.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا.
عبادَ الله، من الشعائر العظمَى التي يتقرّب بها المسلمون إلى ربِّهم في هذا اليوم الأغرّ ـ يستوي فيها الحجّاج والمقيمون ـ شعيرة ذبح الأضاحي، اقتداءً بخليل الله إبراهيم ونبيِّ الله وحبيبه محمّد عليهما الصلاة والسلام، يقول تعالى: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَـ?دَيْنَـ?هُ أَن ي?إِبْر?هِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ?لرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَـ?ذَا لَهُوَ ?لْبَلاَء ?لْمُبِينُ وَفَدَيْنَـ?هُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:103-107]. وخُلِّدت بذلك سنّةُ النّحر في عيد الأضحى لتبقى شامةً غرّاءَ على عظيم الاستسلام والإيمان، وآيةً كبرى في الإذعان لأوامِر الواحِد الديّان، ولتبقى حادثةَ الفداء أيضًا عبرةً وعنوانًا لتربية الأبناءِ في طاعةِ وبرِّ الآباء، لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ [الحج:37]، أي: ينالُه طاعتُكم وما وقر في قلوبكم من خشيته وتعظيم أمره.
أيّها المسلمون، أيّها المضحّون، ويحسُن التذكيرُ في هذا المقام بجُملةٍ من أحكام وسُنَن الأضحية، فقد أجمع أهلُ العلم على أنّ الأضحيةَ لا يجوز ذبحُها قبلَ وقتِ صلاةِ عيد يوم النّحر لما ورد عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنَّ أوّلَ ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلِّي، ثم نرجع فننحَر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنّتنا، ومن نحر قبلَ الصلاة فإنما هو لحم قدّمه لأهله، ليس من النسُكِ في شيء)) أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له [1] ، وعن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال: صلّى النبيّ يومَ النحر ثم خطب ثم ذبح وقال: ((من ذبح قبل أن يصلّي فليذبح أخرى مكانَها، ومن لم يذبح فليذبَح بسم الله)) أخرجه الشيخان [2].
وينتهي وقتُ ذبح الأضحية بغروب شمسِ اليوم الثالث من أيّام التشريق لقوله عليه الصلاة والسلام: ((وكلّ أيام التشريق ذبحٌ)) أخرجه الإمام أحمد وغيره [3].
ولا يجوز التضحيةُ بالمعِيبة عيوبًا بيّنة، لما ورد عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أربعٌ لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيّنُ عوَرها، والمريضة البيّن مرضُها، والعرجاء البيِّن ظلعُها، والكبيرة التي لا تُنقي)) أخرجه أحمد وأهل السنن [4].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
ويُعتبَر في سِنّ الهدي والأضحية السنُّ المعتبَر شرعًا، وهو في الإبل خمسُ سنين، وفي البقر سنتان، وفي المعز سنة، وفي الغنم نصفُ سنة.
وتُجزئ الشاة الواحدة عن الرجُل وأهلِ بيته، كما في حديث أبي أيوب رضي الله عنه [5].
ومن سُنَن الأضحية أن يتولّى المضحِّي الذبحَ بنفسه لمن كان يُحسنُه؛ لأنَّ النبيَّ نحر ثلاثًا وستين بدنةً بيده الشريفة، ثم أعطى عليًّا رضي الله عنه فنحَر ما غبر [6] ، كما جاء ذلك في صحيح الخبر [7]. وقد ضحّى النبي بكبشين أملحَين أقرنين، ذبحهما بيده وسمّى وكبّر [8].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
ومِن السنّة ـ يا عبادَ الله ـ أن لا يُعطَى جازرها أجرَتَه منها.
ومن السنّة أن يأكلَ منها ثُلثًا، ويهدي ثلثًا، ويتصدّق بثلث، لقول الله عز وجل: فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْقَـ?نِعَ وَ?لْمُعْتَرَّ كَذ?لِكَ سَخَّرْنَـ?هَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا.
أمّةَ الإسلام، حجَّاجَ بيت الله الحرام، اشكُروا الله على ما هداكم للإسلام، فلقد كان الناسُ قبل انبلاج فجرِ الإسلام ببعثةِ خير الأنام عليه الصلاة والسلام في جهالةٍ حالِكة وضلالات هالكة، يئدون البنات، ويعبدون الحجارةَ كاللاّت والعزى ومناة، يتطيّرون ويتكهّنون، ويتعلّقون بالأوهامِ والخرافات، ويأتون الفواحشَ والمحرّمات، كانوا في ظلامٍ بهيم دامسٍ وكُفرٍ لحقيقةِ الحياة طامِس، إلى أن أضاءَ الكون بشمس الرسالة المحمّدية على صاحبها أزكى صلاة وأفضل سلام وتحيّة، فأخرجَتِ الناسَ من الظلمات إلى النور، وانتشلتهم من جَور الأديان إلى عدل ورحمةِ الإسلام، كِتَابٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ?لنَّاسَ مِنَ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَى? صِرَاطِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ [إبراهيم:1].
وكان أساسُ الأسُس وأصلُ الأصول في دعوتِه عليه الصلاة والسلام وركيزة مرتكزاتها ورُكن أركانها الدعوة إلى توحيد الله عزّ وجلّ وإفراده بالعبادة ونبذ كلّ ما سواه، تحقيقًا لقوله سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
ولهذا المقصد الأجلّ ـ يا عبادَ الله ـ أرسِلت الرسل وأُنزلت الكتب، يقول سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنَاْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:25]، ويحذّر سبحانه خاتمَ أنبيائه من معرّة الشرك بقوله: وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الزمر:65]. ويدلّ ذلك أجلى دلالة على خطورة الشرك على الملّة والأمّة ووجوب الحذر من شَوب التوحيد بما ينقضه أو ينقصُه، يقول الحقّ تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163]، وفي التنديدِ والتشنيع على من حادّ الله بالإشراك به يقول تعالى: قُلِ ?دْعُواْ ?لَّذِينَ زَعَمْتُم مّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ ?لضُّرّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً [الإسراء:56].
إنّ التوحيدَ الخالصَ لله هو الذي أطلَق العقولَ من أغلال الخرافة، وحرّرها من قيود الذلّ إلا لله والاستعانة إلا بالله، وإنّ العقيدة الصحيحةَ الخالصة من كلّ شوبٍ وكدر هي التي خرّجت أجيالاً من الأمّة غيّرت مجرى التأريخ، ولألأت وجهَ العالم، وتألّقت بها أبهى وأزهى حضارةٍ عرفتها البشريّة، وبها قُهِرت الشدائد العاتية والجيوشُ الغاشمة ضدّ الملّة والإنسانية، وهي بلا مِراء أساس القوّة والعِزّة التي يجب أن يستعصمَ بها كلّ مسلم صادقِ الإيمان في كلّ زمان ومكان.
فلِواحدٍ كن واحدًا في واحدي أعني سبيلَ الحقّ والإيمان [9]
إخوةَ العقيدة، وما يبدئ الموحّد الغيورُ ويعيد في قضيّة العقيدة والتوحيد إلا لأنّه حقّ الله على العبيد، وما كان حقًّا لله جل وعلا طاب ذكرُه في الأفواه وحلا، حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ?لسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ?لطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ?لرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
إخوةَ الإسلام، ومن المهمّات التي يجب أن يتوارَد عليها المسلمون في موسِم حجّهم المبارك ما تميّزت به الشريعة الغرّاء من منهج الوسطيّة والاعتدال في كلّ أبوابها ومقاصدها، فهي وسطٌ في العقيدة، وسَط في العبادات، وَسطٌ في المعاملات، وسطٌ في كلّ شيء، وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، فلا إعناتَ ولا غلوّ، ولا مشقّة ولا حرَج، ولا تنطُّعَ ولا شطَط، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ?لدّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]. ومن قواعدِنا الفقهية المشهورة: اليُسر ورفعُ الحرج، والمشقّة تجلب التيسير.
ولما انحرف فئامٌ من المسلمين عن منهاج الوسطيّة والاعتدال ظهرت فتنةٌ فاقِرة يقاسي المسلمون جرّاءها الكروب والمحن، فتنة زلّت فيها أقدامٌ وضلّت فيها أفهام، ألا وهي فتنة التكفير ـ أجارنا الله وإياكم ـ الدّاعية إلى الخروجِ على ولاة أمر المسلمين وإثارةِ القلاقل وزعزعة أمنِ الأمّة وشَرخِ صفّ جماعتها، وأسبابُ ضلال هذه النابتة فهمٌ منحرِف آحاديّ لنصوص الكتاب والسنة، ولله درّ الإمام العلاّمة ابن القيم حيث يقول:
ولهم نصوصٌ قصّروا في فهمها فأُتوا من التّقصير في العِرْفان [10]
ضاربين صَفحًا عن فهم الصحابة الأبرارِ الذين شاهدوا التنزيلَ وأدركوا التأويل، مطَّرحين أقوالَ السلف الأخيار وأئمّة التفسير والفقه واللّغة، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ كَمَا ءامَنَ ?لنَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ ?لسُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لسُّفَهَاء وَلَـ?كِن لاَّ يَعْلَمُونَ [البقرة:13].
إنّ الذين يؤلّبون المسلمين على وُلاة أمرهم ابتغاءَ الفتنةِ والفوضَى ويسعَون في الأرض فسادًا وتدميرًا وإرهابًا وإرعابًا وتفجيرًا واستحلالاً للدّماء المعصومة من المسلمين والمعاهَدين والمستأمَنين باسم الإسلام ودعوى الإصلاح بإفكِهم لَمَا هم عليه من أبطَل الباطل، وأشدِّه تنكُّبًا عن دين الإسلام الأبلج، وأعمقِه مخالفةً لدعوة رسول الهدى وسواءِ المنهج، يقول تعالى: مِنْ أَجْلِ ذ?لِكَ كَتَبْنَا عَلَى? بَنِى إِسْر?ءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ?لأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ?لنَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]. الله أكبر، أيّ وعيد وتهديدٍ أبلغُ وأزجر من هذا؟! ويقول عليه الصلاة والسلام: ((من قتل معاهَدًا لم يَرح رائحةَ الجنة، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا)) أخرجه البخاري [11]. وهل يعني الولاءُ والبراء ـ يا عبادَ الله ـ اتخاذَ المستأمَنين والمعاهَدين والذمّيين غرضًا للقتل والترويع وسفكِ الدماء وتناثُر الأشلاء؟! يقول جلّ شأنه: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? [المائدة:2]، ويقول سبحانه: لاَّ يَنْهَـ?كُمُ ?للَّهُ عَنِ ?لَّذِينَ لَمْ يُقَـ?تِلُوكُمْ فِى ?لدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـ?رِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]. والآية دليلٌ على سماحةِ الإسلام ويُسره واعتداله وموقفِه المنصفِ من المخالفين.
أمةَ الإسلام، إنّ قضيّة التكفيرِ الخطيرة ناجمةٌ عن انحرافٍ وغلوّ، وقد نُهينا عن الغلوّ في الدين لأنّه سبب هلاكِ الأوّلين: يَـ?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ ?لْحَقّ [المائدة:77]. والغلوّ مذموم في جانب الوجود والعدم والفِعل والترك، كما أنّ الإرهابَ مذموم في الأسباب والبواعث والمقدّمات والنتائج والأفعال وردود الأفعال، إضافةً إلى أنّ امتطاءَ صَهوةِ التكفير يبعثُ عليها جهلٌ مركَّب في فهم مسائلَ من الدين كالولاء والبراءِ والجهاد والحدودِ والدماء، وقد بلغت حدًّا يوجِب التصدّي له من قِبَل أهل العِلم بالحجّة والبيان والدليل والبرهان، حراسةً لشبابِ الأمّة الغضّ من الهُويّ في عينِها الحَمِئة والتمرُّغِ في أوحَالها النّتِنة، يقول : ((من رمى أخاه بالكفر أو قال: عدوّ الله وليس كذلك إلا حار عليه)) [12] ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من قال لأخيه: يا كافر فقد باءَ بها أحدُهما)) عياذًا بالله، خرّجه مسلم في صحيحه [13].
إنَّ على وسائل الإعلام المرئيّة والمسمُوعة والمقروءَة، وعلماءِ الشريعَة الموقِّعين عن ربّ العالمين المؤتمَنين على ميراث النبوّة، والدعاةِ ورجالِ الحِسبة، أن يربطوا المسلمين وفِتيانهم بمنهاج الوسطيّة السلفيَة المعتدِلة التي جاءت بها شريعَة الإسلام، ودلّت عليها نصوصُ الكتابِ والسنّة بفهمِ سلَف الأمّة، وتمثّلتها مهبِط الوحي ومنبع الرسالة، فكان أن سَطع بأساطينِ قيادتها نورُ الإيمان، وعمّ الأمنُ والأمان، وغدَت ثغرًا باسمًا في وجهِ الزمان، فضلاً من الله ومَنًّا، لا باكتسابٍ مِنّا، وَ?لْبَلَدُ ?لطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ [الأعراف:58].
إنَّ أمنَ بلاد الحرمين الشريفين قضيةٌ لا تقبَل المساومات ولا تخضع للمزايدات، ولا تهزّها الزوبعات والمهاترات، وقد بسط الله فيها أمنَه وأمانَه إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومن عليها وهو خير الوارثين، لا مكانَ فيها للعُنف والتخريبِ والإفساد والتأليب، وإن رغِمَت أنوفٌ من أناس فقل: يا ربّ، لا تُرغم سِواها.
أمّةَ الدعوة والإصلاح، ومن القضايا التي يجب أن تتواصى بها الأمّةُ وتحدِّدَ أصولَها وضَوابطها وتتَّخذها عنوانَ حِرصٍ للترابُط وتجاوز العقَبات والتحدّيات الدعوةُ للإصلاح الذي هو وجهٌ من وجوه حكمةِ بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، يقول تعالى على لسان شعيب عليه السلام: إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ?لإِصْلَـ?حَ مَا ?سْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِ?للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
والذين يتوجَّهون شطرَ الإصلاح المعتَبر ويحملون لواءَه لهم رجالٌ بَررَةٌ بالأمّة، يُسلِمونها إلى ساحاتِ الخير والقوّة، ولا يقودُ هذه الركابَ إلاّ كبيرُ الهمّة مَضّاء العزيمة، وسيكون الإصلاحُ مربحًا ومغنَمًا إذا انطلقنا فيه من إصلاحِ الذات والنظر في عيوبها وتهذيبها وأطرِها على سُنَن الهُدى، وأتبعنا ذلك بإصلاحِ الأسرةِ ولبناتها لأنها نواة المجتمع، وسيكون الإصلاحُ للعَلياء مرقاةً إذا بسطنا ظلالَه على المجتمَع والأمّة بما تقتضيه الحكمة والمصلحةُ من التدرّج والرفق ولأناة ومراعاة فقه المهمّات والأولويات.
ولمّا كانت الأهواءُ تجمح والمدارِك تختلِف وتتفاوَت كان لِزامًا اعتبارُ صلاح المصلِح وصفاءِ منهجه واستقامة آرائه؛ إذ لا يشفَع في هذه الأمانة الجُلَّى سلامةُ النيّة وحبُّ الخير ـ على أنهما محمدتان ـ مع ضحالةِ العلم وقصورِ النظر وضَعف الترجيح بين المفاسد والمصالح والخلطِ بين الثوابت والمتغيّرات. وبهذا تتفتّق أكمامُ الإصلاح على قول الحق سبحانه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ?لْقُرَى? بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
ويؤكَّد هنا ـ يا رعاكم الله ـ على التحذير من الجانب المزعوم للإصلاح الذي يركَب مطيتَه بُعض المزايدين على الشريعة وذوي المغامرات الطائشَة والأطروحات المثيرة المتَّسِمة بالمخالفات الشهيرة واللاهثين وراءَ ركوب موجةِ حُبّ الشُهرة والظهور، وقد أوضحَ لنا القرآن الكريم ذلك غايةَ الإيضاح في جانب قومٍ لا خلاقَ لهم من المنافقين بقوله سبحانه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
أمّة الإسلام الخيِّرة، أيّتها الوفودُ المباركة، تعيشون هذه الأيامَ وعلى ثرى البلد الأمين الأفيَح سرورَ العيد وأُنسَ التعارُف والتآلف، وتنعَمون بنسائِمِ الرحمة والأخوّة الإسلامية الحانية، في هذه المواكبِ المهيبة الفريدة، ولكنّنا نذكّر في غمرَة الأسى بأنّ أمّتنا الإسلاميّة لا تزال تتجرّع المآسيَ والحسرات وتتلقّى الويلات والنكبات، القوارعُ تنوشُها من كلّ حدَبٍ وصَوب، والخطوب تؤمُّها من كلّ مضيق وطريق، تبدّدَت قواها، وانقصمت عُراها، وحيثما أجلتَ النظرَ أدمَت عينيك وقرّحت فؤادَك توازعُ الأشلاء ونزيف الدماء واغتصابُ الأرض والعِرض، والعدوّ المتربِّصُ يجدّ في خنق أنفاسِها وتجاهُل قضاياها، ولا مخلِّصَ لها من هذا الذلِّ والهوان إلا الاعتصامُ بالوحيين وأن تتنادَى وتتواصى بالوحدة الإسلامية المسيكة على مَرِّ الفُرصِ والمناسبات، تحقيقًا لقولِه سبحانه: إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92]، وأن لا تربطَ ولاءاتِها وتوجُّهاتها إلا لعقيدتها ودينها وثوابتها، وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
وفي هذا الموسمِ الكريم ملتقَى العالم الإسلاميّ من أطراف البقاع والأسقاع يجب على الأمّة أن يمتدَّ بصرُها لتعيَ جيِّدًا موقعَها من ركاب العلياء والقيادة، ولتعلم أنَّ مسؤوليّاتٍ جسامًا تنتظرها، كفاؤها الصبرُ والعِزّة، في ابتدارٍ لأسباب النصرةِ ووسائل الظَّفر مهما كانت قوّةُ العدوّ قاهرة، لاَ تَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى ?لأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ ?لنَّارُ وَلَبِئْسَ ?لْمَصِيرُ [النور:57]، يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [التوبة:32].
أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، إنّه لا سبيلَ للغاية المنشودةِ من القوّة والعزّةِ والوحدَة وحماية الديار والذّمار ودَحر المعتدين على كلّ أرضٍ مسلِمة إلاّ بالأوبةِ العمليّة الصادقة إلى الوحيين واتخاذهما شِرعةً ومنهاجًا. وإنّنا في حاجة ملحّة إلى أن نتمثَّل ذلك كلٌّ بحسَب ثغرِه من الأمانة والمسؤوليّة على كلّ صعيد؛ سياسيًّا وثقافيًّا، فكريًّا واقتصاديًّا، اجتماعيًّا وإعلاميًّا وتربويًّا، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
إخوةَ الإسلام، وكُبرى القضايا المعاصِرة التي أشخصتِ الأبصار وفرتِ الأكبادَ وأذاقت الغيورَ اللوعةَ والسُّهاد قضيةُ فلسطين المحتلَّة السليبةِ والمسجد الأقصى الجريح المعَنَّى، فلسطينُ المسلمة تُسام العذاب والدون، والأقصى الملَوَّع يقاسي مرائرَ العدوانِ والهون، فليت شِعري كيف تطيب الحياةُ وأرضُنا المقدّسة مسرى إمام الأنبياء عليه الصلاة والسلام في قبضةِ شِرذمةٍ من الصهاينة الغاشمين، يُلطِّخونها بأرجاسِهم وأنجاسِهم، ويثبِّتون فيها أقدامَهم، ويحشُدون قواهم، ويضاعفون خُططَهم ومآربهم عبرَ توسُّعاتٍ جغرافيّة ومستوطنات عدوانية وجدرانٍ فاصلةٍ عنصريّة، ومضاعفةٍ لترسانة الأسلحة النووية التي تمثِّل خطورةً بالغة على الأمن والسلام في المنطقة على سمع العالم ومرآه، بل إنهم يسومون إخوانَنا هناك القصفَ والخسف والمذابِح والمجازرَ والتدمير والتشريد والإرهاب بكلّ ما يحمله هذا المصطلحُ من معاني الظّلم والغِلظة والقسوَة والعنجهيّة، وأليّة بفاطِر الأرض والسماء لا حنثَ يعروها، لو أنَّ الظلمَ والإرهابَ والصَّلَف والقِحة والإرعاب صُوِّرت مخلوقًا لما تخطّى تلك الطُّغمةَ الباغية من الصهاينة المعتدين الغاشمين.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
وتستحكِم بنا حلقاتُ المحن، ويبسط الأعداءُ أيديَهم بالسوء، وتُرزَأ الأمّة في جزء آخرَ من أجزاء جسدها المثخَن بالجراح، يتمثَّل ذلك في بلادِ الرافدَين مهدِ العلماء وموئِل الخلافة الإسلاميّة حِقبةً من الزمان، وتعيش تلك الرّقعة الهضيمةُ حياةَ النّهب والسّلب والفوضى، حتى أمسَى العَمارُ فيها دمارًا وتبارا، وأسرع الغاصِب إلى خيراتها وتبارَى، وغدا الاستقرار فوضىً وبوارًا، وإلى الله وحدَه نجأر بالبثِّ والشَّكوى، والدعوةُ موجَّهة إلى العالم بأسرِه للإسهام في إعمارِ العراقِ العريق ودَعم شعبِه المسلِم والحِفاظ على وَحدتِه، والدعاءُ مبذولٌ أن يهيِّئ الله لإخوانِنا في بلادِ الرافدَين ولايةً تحكمُهم بالكتابِ والسنّة، وتؤمِّن بإذنِ الله سُبُلهم، وتحقِّق أمنَهم، وتوحِّد صفوفَهم، وترعى مقدَّراتهم، وتحافظ على خيراتهم.
فيا مَن تشهدون هذه العبادةَ العظيمة، يا مَن تتصعَّد مِن أحنائكم الزَّفرات وتلجؤون إلى الرحمن بأحرِّ الدعوات وتسكبون العَبَرات الذارفات، اذكُروا إخوانًا لكم مفزَّعين ملتاعِين في فلسطين وفي بلادِ الرافدَين وفي كلّ مكان، ادعوا الله أن يكشفَ عنهم الهمومَ والغموم، وأن ينصرَهم على كلّ باغٍ ظلوم ومعتدٍ غشوم، عَسَى ?للَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَ?للَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً [النساء:84].
بهذه المكائدِ الزُّيوف برح الخفاء، وبانتِ الدعاوى الجوفاء، وأيقن الغيورون على أوضاعِ أمّتهم أنَّ الهيئات العالميةَ التي تتعلَّل فيما يَمسّ قضايا المسلمين بالعُلالاتِ الواهية لن تجمعَ متفرِّقًا، ولن تكُفَّ معتدِيًا غاشمًا، وأنَّ المنظّمات الدولية التي تماطل قضايانا لن تؤمِّن خائفًا، ولن تنصُر مظلومًا، مما يؤكِّد الحاجةَ لمتابعةِ الدعوة إلى إنشاءِ محكمة عدلٍ إسلاميّة عالميّة، حتى لا تختلّ الموازين التي ينبغِي أن تحكمَ التعامُل بين الشعوب والأمَم.
إنّه لن يصلحَ حالُنا إلاّ باتحادِنا وتآلفنا وتوجُّهنا شطرَ الكتاب والسنة، وإن دهاقنةَ السياسة العالمية ووسائل الإسلام الغربية مطالبة أن تفهمَ الإسلامَ على حقيقته، وأن تحذرَ من ربطِ الإرهاب بالإسلام دينِ الحقّ والخير والعدل والسلام، وأن تحذرَ من إلصاقِ تهمة الإرهاب بالمسلمين.
لقد آن الأوانُ لكي تخرجَ الأمّةُ من نفَق التحدّيات وبُؤَر العقبات والأزمات، أن تضطلعَ بمشروعٍ إسلاميّ حضاريٍّ يضع الخطَطَ والبرامِج والاستراتيجيات المهمّة والآلياتِ العمليّة والخطُوات التنفيذيّة الجادّة لكافّة قضايا أمّتنا والمستجدّات والتحدّيات السياسية والاقتصادية والثقافيّة والفكرية والأمنية والتربويّة والإعلامية، ووضعِ برامجَ توعويّة بشتَّى اللغات تعالجُ الجهلَ بقواعدِ الاعتدالِ والوسطيّة والتخلُّص من الآراء الآحادية والاجتهاداتِ الفرديّة والفتاوَى التحريضيّة التي تنطلِق مِن كهوفٍ ومَغارات، ويبثُّها مجاهيلُ نكِرات، لا سيّما في القضايا المصيريّة، وذلك بوضعِ ميثاقٍ علميّ عالمي عالٍ للإفتاء، يحقِّق المرجعيّة المعتبَرة للفتوَى في النوازل والمستجدّات المعاصِرة، تحقيقًا للمصالح وتكمِيلها، ودرءًا للمفاسد وتقليلها، وإنَّ من فضل الله وكريم ألطافه أن ضمنَ المستقبلَ المشرِقَ لهذه الأمّة، فلا مكانَ لليأس والقنوط، ولا مجالَ للتخاذل والإحباط، بل جدٌّ وعمل وتفاؤل وانطلاق واستشرافٌ لآفاق مستقبلٍ أفضل، صلاحًا وإصلاحًا، ولن يصلُح أمرُ آخر هذه الأمّة إلا بما صلح به أوّلها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور:55].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
نسأل الله أن يُصلحَ أحوالَ المسلمين في كلّ مكان، وأن يهيّئ لهم من أمرهم رشَدًا بمنّه وكرمه، إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافّة المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفورًا.
[1] صحيح البخاري: كتا الجمعة (965)، صحيح مسلم: كتاب الأضاحي (1961)، واللفظ للبخاري.
[2] صحيح البخاري: كتا الجمعة (985)، صحيح مسلم: كتاب الأضاحي (1960)، واللفظ للبخاري.
[3] مسند أحمد (4/82) من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه، وأخرجه أيضا البزار (8/364)، وابن حبان (3854)، والطبراني في الكبير (2/138)، والبيهقي (5/239)، وفيه اختلاف واضطراب، والصحيح فيه أنه منقطع، قال البزار: "وحديث ابن أبي حسين هذا هو الصواب، وابن أبي حسين لم يلق جبير بن مطعم، وإنما ذكرنا هذا الحديث لأنا لم نحفظ عن رسول الله أنه قال: ((في كل أيام التشريق ذبح)) "، وانظر: التمهيد (23/197).
[4] أخرجه أحمد (4/284)، والترمذي في الأضاحي، باب: ما لا يجوز من الأضاحي (1497)، وأبو داود في الضحايا (2802)، والنسائي في: الضحايا، باب: العجفاء (4371)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: ما يكره أن يضحى به (3144)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (907)، وابن خزيمة (2912)، وابن حبان (5889)، والحاكم (1/467)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1211).
[5] أخرج مالك في الضحايا (1050)، والترمذي في الأضاحي، باب: ما جاء أن الشاة الواحدة تجزئ عن أهل البيت (1505)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: من ضحى بشاة عن أهله (3147) عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: كان الرجل في عهد النبي يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1216).
[6] أي: ما بقي، فقد كمّل رضي الله عنه المائة.
[7] أخرجه مسلم في الحج (1218) في حديث جابر رضي الله عنه الطويل في صفة حج النبي.
[8] أخرجه البخاري في الأضاحي (5564، 5565)، ومسلم في الأضاحي (1966) عن أنس رضي الله عنه.
[9] هذا البيت من الكافية الشافية لابن القيم.
[10] الكافية الشافية.
[11] صحيح البخاري: كتاب الجزية (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[12] أخرجه البخاري في الأدب (6045)، ومسلم في الإيمان (61) عن أبي ذر رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
[13] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (60) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب (6104).
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله الملكِ القدّوس السلام، أكملَ لنا الدينَ وأتمَّ علينا الإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، شرع الشرائع وأحكمَ الأحكام، وأصلّي وأسلِّم على نبينا محمّد بن عبد الله سيّد الثقلين وأزكى الأنام، انجابت بنور رسالته حنادِس الظلام، وعلى آله البرَرة الكرام، وصحبه الهُداة الأعلام، فُرسان الوغى وليوث الآجام، ومن تبع آثارهم بالحقّ واستقام، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، اتقوا الله يا حجّاجَ بيت الله، فمن اتَّقى الله فهو المرحوم، ومن حُرِمها فهو المحروم، واعلموا أنّ التقوى سببُ القَبول وخير مطيّة لتحقيق الخير المأمول، إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
أيها المسلمون، إنَّ من مقاصد الإسلام الساميَة تهذيبَ النفوس من الشحِّ والأثرةِ، والإحسانَ للفقراء والمحتاجين والملهوفين والمنكوبين، يقول جل وعلا: وَأَحْسِنُواْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)) [1].
وهذه السَّجيّة المنبثِقةُ من سماحةِ الإسلام وجوهره تأسو الجراح وتداوي الكُلومَ وتخفِّف البأساء وتدفع البلاء والضرَّاء، ولا غِنى عنها لأيّ مجتمعٍ ينشُد المحبَّة والوِئام، ولن يتنكَّر لذوي الحاجات والعاهات والفاقات والزمنَى والمعوِزين إلاّ غلاظُ الأكباد وقساةُ القلوبِ عياذًا بالله، وشريعتُنا الرحيمة حذّرت من ذلك أيّما تحذير.
إنّ الأعمالَ الخيريّة والإغاثية بصنوفها المتعدّدة جزءٌ لا يتجزّأ من منظومةِ شريعتِنا الغرّاء وحضارتنا المشرِقة اللألاء، هي الكفُّ الندِيّ والبلسَم الشفيّ وطوقُ النجاة للمجتمعات والملتقَى الإنسانيّ للحضارات، ومَن ينتسبُ إليها يسمو سماءَ المجدّ شرفًا، قد تخلَّى عن الذات، وتجاوز المصالحَ والأنانيّات، عاش شمعةً مضيئة، يبذل الخيرَ للغير، وإذا طُوي بساطُها وأفَلت نجومُها وعُطِّلت قوافِلها حلّت في المجتمعاتِ الكوارثُ والنكبات، وانتشر الفقرُ والعَوَز، واستشرت البَطالة، ولا غروَ أن تجدَ نماذجَ مضيئةً مشرقَة تنطلقَ من ثوابتِ بلادِ الحرمين الشريفين حرسها الله ونسيجِها المتميِّز، فلها القِدح المعلَّى والدورُ الرائدُ المجلَّى في ذلك كلِّه، وما هي إلاّ شكرٌ للمنعِم على إنعامه، وآيةٌ ساطِعة على كَرَم أبنائها وزكاءِ أَرُومتهم ونُبل معدنهم ومحبَّتهم للخير وتفانيهم فيه بحمد الله، ولن يقبضَ أياديَها البيضاءَ في إسداءِ البرِّ والإحسان وبذلِ النَّدى والمعروف وإغاثة الملهوف ولو في أقاصي المعمورة ـ كما هو واقعُ الحالِ بحمد الله ـ تخذيلُ الشانئين وحملاتُ المغرضين ومحترفي الإساءة للبرآء الخيّرين، ممّا يؤكِّد وجوبَ التصدِّي الحاسم والوقوف الحازم، وذو الفَضلِ لا يسلَم من قَدح وإن غدا أقومَ مِن قِدح، والله المستعان.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أمةَ التعليم والتربية، مناهجُنا مبَاهِجُنا، هي التي تمثِّل مِحورَ الثمرةِ التعليميّة والتربويّة، وفي ضوئها تتكوّن مداركُ الأجيال واتجاهاتُهم، وبها تُعلَّق الآمال في الإصلاح العقديّ والفكريّ والاجتماعي، وهي ولا ريب من الأهميّة بمكانٍ في الدلالة على رقيِّ الأمّة أو انحدارها. ولئن حدّقنا في مضامينِ تلك المناهج ومعانيها وحلَّقنا فوقَ مفرداتها ومبانيها ألفيناها بحمد الله ومنّه قائمةً على الكتاب والسنّة، مستوحاةً من هدي سلفنا الصالح، مواكبةً لتمدُّن العصرِ وتطوُّرِه، في غيرِ تبعيّة أو ذَيليّة، تقتبِس مِن علوم الحضارةِ المعاصرة ما تؤيّدُه شريعتُنا، وتنبذُ ما سواه. وأمّا الافتراءاتُ التي ألحِقَت بها وحامت حولها فهي أوهى من أن تُتَعقَّب أو تُنقَض، وتحويرُ المناهج وتنقيحُها مما يقتضيه توثُّب العصر ورُقيُّه، وقد درَجت على ذلك الأمَم قديمًا وحديثًا، ولسنا بِدعًا في هذا المرتَقى، فلتقرَّ أعينُ الذين يدوكون ويخوضون فيها بعِلم أو بغير علم أنها بأيدٍ أمينةٍ بإذن الله، مخلِصةٍ لديها وأمَّتها، ولكنَّ المهمَّ في ذلك الإيصاءُ بالحرص على عدَم التعرُّضِ لجوهر العقيدة، والحذَر من المساس بالثوابتِ والأصول، والعناية بتأهيل المعلِّمين والمعلِّمات الذين يتحمَّلون أمانةَ التربية والتعليم، ليكونوا قدوةً لطلاّبهم قولاً وعملاً، داخلَ حصونِ التعليم وخارجَها، وأن يُتحرَّى منهم مَن كان على حظٍّ وافر من الدين والنُّضج العقليّ والجانب الخُلقيّ والسّلوكي.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
إخوةَ الإيمان، ومِن المنافع التي يجب أن نشهدَها في هذا المؤتمر الإسلاميّ ضرورةُ العناية بفئةٍ عزيزة على نفوسنا جميعًا، فئةٍ تُعدُّ بحقٍّ مناطَ آمَال الأمّة ومعقِدَ رجائها، تلكُم هي فئة الشباب، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءامَنُواْ بِرَبّهِمْ وَزِدْنَـ?هُمْ هُدًى [الكهف:13]؛ لأنّ إغفالَ قضايا هذه الشريحة المهمّةِ في الأمّة والتجافيَ عن محاورتهم وتوجيههم وإرجاءَ الحلولِ لمشكلاتهم قد يؤدّي بهم إلى فسادٍ عريض في كلّ مزلَقٍ خلقيّ وجنوح سلوكيّ وانحرافٍ فكري.
يجب تحصينُ الشباب من لوثاتِ العولمة والتغريب والحفاظُ عليهم من تيّارات التطرُّف والغلوّ، وما فواجعُنا التي كابدناها منّا ببعيد، لذا فإنّ الحاجةَ ملِحَّةٌ لأخذهم بحكمةِ العاقل الأحوذي، واحتضانهم وفتح الصدور لهم بقدرة العاقل الألمعيّ، واستخدامِ أمثل الأساليب التي تُلامس أفئدتهم وتوافق فِطرَتهم لنثوبَ بهم إلى رحابِ الجيل الإسلامي المأمول بإذن الله، ولعلّ ذلك يكون من أولويّات حوارنا الإصلاحيّ الذي نفَحَنا عَبَق أريجة وقام داعيًا إلى منهج الوسطية والاعتدال والمطارحاتِ الشفيفة في الآراء دونَ مواربة أو إعضاء، وإنّ منهجَ الحوار ليُحسَبُ للأمّة الإسلاميّة وثبةً فكريّة وحضاريّة تُحكِم نسيجَ الجماعةِ المسلمَة وتعضدُ من وَحدتها وتآلفها، ومنقبَةً شمّاء تستطلِع في شموخٍ آليّاتِ التحدّي داخليًا وخارجيًا في هذا العصر المتفتِّق على متغيّراتٍ خطيرة، لكن ثم لكن لا بدَّ من مراعاة آداب الحوار وضوابِطه ومنهجِه وأخلاقياته، حتى لا يتحوّل الحوارُ إلى فوضى فكريةٍ تلحِقُ الآثارَ السلبية على البلاد والعباد، وأن لا يتّخَذ الحوار من ذوي المآرب المشبوهة مطيّةً للنيل من المسلَّمات والمساس بالثوابت، سدّد الله الخُطى ومَنى التوفيق.
أمّةَ الإسلام، لوسائل الإعلام النزيهةِ المنصفة من قنوات وشبكاتٍ وصُحفٍ ومجلاّت عبءٌ في بيان وبثِّ قضايا الأمة والسعيِ للدفاع عنها، مع كشف هجماتِ الأعداء المسمومة والوقوف بحزمٍ أمام حملاتهم المحمومة وتصحيحِ المفاهيم المغلوطةِ عن ديننا وعقيدتنا وشريعتنا.
أما بعضُ وسائلِ الإعلام والقنوات الفضائيّة المتهتِّكة التي تثير غاراتٍ شعواء من الشهوات والملذّات التي تضرِم نيرانَ الفساد والإفساد وتزلزل معاقِلَ الطُّهر والفضيلة من القواعدِ فإننا نناشدهم اللهَ عز وجل أن يتَّقوا الله في قِيَم الأمّة ومُثُلِها وفضائلها، وأن يُبقوا على لُعاعةٍ من حياء لبني الإسلام ودياره.
إنَّ استحواذَ الرذيلة على جوانبَ من حياة الأمة عبرَ تلك القنوات يُعرِّضها لأخطرِ المهالك، ويفضي بها إلى مهاوٍ سحيقة من الظلْم والظّلَم، خصوصًا وأنَّ كثيرًا من القلوب خاوية من اليقين والخشية، وهما خير عاصمٍ من قواصم تلك القيعان الوبيئة. وايم الله، إنّك لتُقضَى أسًى وحسرةً على الأحوال المزرية المسِفَّة التي آل إليها أمرُ كثير من الفضائيات وشبكات المعلوماتِ من الدعوة الصارخة إلى الفُحشِ والفضائح وسردِ المخازي والقبائح، في تحطيمٍ أرعن للشرَف والعِفّة والفضيلةِ والأخلاق.
إنّ هذا الواقعَ المأساويّ المرير لمن أمضى الأسلحةِ التي انتضاها أعداؤنا وبعضُ أفراخهم من بني جِلدتنا للقضاء على ما تبقّى من شأفتنا، وحسبُك من شرٍّ سماعُه. فماذا دَهانا؟! وأيّ أمرٍ أمَرٍّ عَرانا؟! أين ضياءُ العفاف والطُّهر؟! أينَ عزّةُ الغيرة والفضيلةِ والحياء؟! بل أين صلابة العقيدة وقوّة الإيمان؟! إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النور:19].
فيا إخوةَ الإسلام، يا حجّاجَ بيتِ الله الحرام، صونوا أبصارَكم وأنفسَكم وأبناءكم وأُسَركم عن تلك المباءات، واحسِمُوا هذا الداءَ قبل استطارة شرّه، فمعظمُ النار من مستصغَر الشَّرَر، وما شرَرُها إلا كبير وخطير، ممّا يدعو إلى ضرورةِ الالتزام بميثاق شرَف إسلاميّ إعلاميّ، يتقيّد به جميعُ مُلاّك هذه القنوات في إعلاءِ صرح الفضيلة. وإنّ لكم في الإعلام الإسلاميّ الهادف الرصين المرتقِي في أدائه المبدِع في عرضه النيِّرِ في فكره المتميِّز في طرحه خيرُ بديلٍ في تمثيل الإسلام أحسنَ تمثيل لمواجهةِ التحدِّيات الإعلامية المناوئةِ للإسلام في وسائل الإسلام العالمية، والنماذجُ الواقعيّة المتميّزة تبعثُ بحمد الله على التفاؤل والاستبشار.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
معاشرَ المسلمين، شريعتُنا الغرّاء كانت ولا تزال الحفيّةَ بالمرأة، الحارسةَ لكرامَتها وعِرضها، الراعيةَ لحقوقها ومكانتها، أمًّا كانت أو بنتًا، زوجةً أو أختًا. والإسلام هو الذي شرَع السُّبُل الكفيلةَ لتحصين شخصيتها ضدَّ كلِّ ما يهدِّد مقوّماتِها من الامتهان والابتذال، خصوصًا في هذا العصر حيثُ سعيرُ المغريات والشهوات واشتدادُ الهجمة على أخواتنا المحصَنات المؤمنات، وقد بات من البدَهيّات أنَّ الذين ينتقصون الإسلامَ من خِلال ما يتظاهرون به من الدفاع عن حقوقِ المرأة وقضاياها إنما يصدُرون عن فيَضان مشاعرَ مسعورة وأهواء جامحة تريد من المرأة المصونَة أن تكون أداةً طيِّعةً في التقليد والإغراء، وليس وراءَ تلك الدعوات اعتبارٌ لدينٍ أو خُلق أو فضيلة أو رغبةٌ في إنصاف المرأة، وإلا كيف يقبل العقل أن يكون الوقارُ والحِشمَة والحياء في قفَص الاتهام والتنديد والجفاء، والسفورُ والتبرّج مبرّآن من كلّ نقيصةٍ ووصمة؟!
انظروا ـ يا رعاكم الله ـ إلى مكانة المرأة في الحضارات الغربية، فإنها كانت ولا تزالُ معدودةً مسلاةً لتَرَف الرجُل وبذخِه الغريزيّ والجنسيّ، ومظهرًا لا بدّ منه للبريق الحضاريّ. وبرهانٌ آخر يتجلّى في المنادين والمناديات بالحريّات عمومًا وبحريّة المرأة خصوصًا، أين هؤلاء عن نزعِ حجابها عنوةً في بعض المجتمعات التي يُزعَم أنها مضربُ المثل في صيانةِ الحريات ومراعاة حقوق الإنسان؟!
إنَّ الإسلام حين شرع الحجابَ ولزومَ الحياءِ والقرار إنما يصرف المرأةَ إلى خصائصِها ومكانتِها التي لا يُحسِنها سواها، ويراعي ظروفَها وأنوثَتها، لتمضيَ مع الرجل جنبًا إلى جنب في هذا الكون بنظام محكمٍ بديع من اللطيف الخبير، لكلٍّ مقامُه ووظيفته، أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ?للَّطِيفُ ?لْخَبِيرُ [الملك:14]، قُلْ ءأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ?للَّهُ [البقرة:140].
وللواهمين والواهماتِ يُساق القول: إنَّ المرأةَ في مكانتها السَّنيَّة وبالتزام آداب الحجابِ الشرعية والضوابط المرعيّة لا يمنعها ذلك أن تكونَ في قمّة الحضارةِ والرقيّ وإحراز السَّبق العليّ والتقدّم الاجتماعي والنهوض بأمّتها والانتصار لدينها، وإن اضطُرَّت إلى العمَل الوظيفيّ أو المهنيّ ففي منأًى عن أنظار الرجال والاختلاطِ بهم، وأن لا تكون بَرزَةً تنازعهم أقدامَهم وتزاحمهم مناكبَهم، حين ذاك يغيضُ ماؤها ويذهب بهاؤها، فالحذرَ الحذر من كلّ دعوةٍ نشاز تريد أن تهبطَ بالمرأة من سماء مجدِها وأن تنزلها من علياء كرامتها وإن بدَت بزخرف القول ومعسول الكلام ودعوى التقدُّميَّة الزائفة والمدنية المزعومة والحرية المأفونة.
وإنّنا إذ نحمد الله سبحانه على ما امتنّ به على فتاةِ الحرمين الشريفين من تمثُّل الحجاب والوقار والحشمة لنذكِّرها بالمحافظة على مكانتها الشمّاء بين قريناتها في سَائر المجتمعات، ونحذِّرها في الوقتِ نفسه أن تُخدَع ببعضِ الأصواتِ النّشاز التي تتبجّح بالخروج على شِرعة الحشمة والهدى والمعروف والحياء، وإنّ ما تلوّح به تلك الأصوات المبحوحة إنما هو مسلكُ المنهزمين والمنهزمات أمام بريق الحضارة الزائفة، والله عزّ وجلّ يقول: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لأزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:59].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها الحجّاج الكرام، إخوةَ الإسلام، رحِم الله أمرأً شهِد هذه المشاهدَ بجوارحه وقلبه، وندم على آثامه وذنبه، وتاب وأناب في هذه العَرصات إلى ربّه، وأقام الفرائض والسّنَن، واستمع القولَ فاتبَع أحسنه.
فتمسّكوا ـ عبادَ الله ـ بكتاب الله، وتفكَّروا في آياتِه ومعانيه، وامتثِلوا أوامرَه ونواهيه، اقتدوا بنبيكم ، وتمسَّكوا بسنّته.
اللهَ اللهَ في الصلاةِ مع الجماعةِ، فإنها نعمتِ الطاعة والبضاعَة، ومُروا بالمعروف أمرًا رفيقًا، وانهوا عن المنكر نهيًا حليمًا حكيمًا رقيقًا، فالحِسبة قِوام الدين، وبها نالت الأمّة الخيرية على العالمين، هي صمام الأمان في الأمة، فكونوا لها أوفياء، وبأهلها أحفياء، حتى لا تغرقَ سفينة الأمة.
احفَظوا أقدارَ العلماء، وصونوا أعراضَ أهلِ الحسبة والدعاة الفُضَلاء، أطيعوا أمرَ من ولاّه الله من أموركم أمرًا، وحذار أن تقربوا من الفتنة شرَرًا ولا جمرًا، ولا تقحِموا في الخلافِ المعتبر إلا العلماء الثقات، لا زيدًا ولا عمرًا.
عليكم بالصدق والوفاء بالعهد والأمانة والحشمة والصيانة وبرِّ الوالدين وصلةِ الأرحام، تراحموا، تلاحموا، تسامحوا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا. احذَروا الغشّ وقولَ الزور والكذب والخيانةَ، ولا تقرَبوا الزنا، واحذروا الربَا والرشوةَ، واجتنبوا المسكِرات والمخدّرات، فإنها من الكبائرِ وسببُ البلايا والجرائر، وإياكم والنميمةَ والغيبةَ والظلم والبهتان والشائعات والتساهلَ في حقوق العباد، فإنها مجلبةٌ لغَضَب الجبار والذلّةِ والصغار وحَطِّ الأقدار، بل هي الآثام والأوزار، أجارنا الله وإياكم من ذلك كلِّه.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
اللهمّ إنَّ السرورَ بك هو السرور، والفرحَ بغيرك هو الغرور، اللهمّ بابَ فضلك نقرع، وإليك نلجأ ونفزع، وبأسمائك الحسنى نلهَج، وبصفاتك العلا نبهَج، اللهمّ فأعزّ الإسلام والمسلمين، اللهمّ فأعزّ الإسلام والمسلمين، اللهمّ أعزّ الإسلام والمسلمين، وأعلِ بفضلك كلمةَ الحقّ والدين، وأذلَّ الشرك والمشركين، وسلِّم الحجاج والمعتمرين، ودمّر أعداءَ الملّة والدين، اللهمّ عليك بالطغاة والملحدين والصهاينة المعتدين وكلّ أعداء الإسلام والمسلمين...
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6013)، ومسلم في الفضائل (2319) عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
(1/3032)