أحكام اليمين في الشريعة الإسلامية
فقه
الأيمان والنذور
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
10/6/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الأيمان في توثيق العقود وخطرها. 2- التحذير من الكذب في اليمين. 3- الترهيب من كثرة الحلف في البيع والشراء وغير ذلك. 4- النهي عن الحلف بغير الله. 5- اليمين لا تمنع من البر. 6- لغو اليمين. 7- كفارة اليمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، اليمينُ بالله طريقٌ من طرُق الإثبات, إذ الدّعوى والخصومَة تكون بين مدّعٍ ومدعًى عليه، ولهذا جاء عنه أنّه قال: ((لو يعطَى النّاس بدعواهم لادَّعى رجالٌ دماءَ قوم وأموالَهم, ولكنّ البيّنة على المدّعي واليمين على المنكِر)) [1].
أيّها المسلم، فاليمينُ على المنكِر, وقد تكون أيضًا على المدّعِي, فقد قضى النبيّ بالشّاهد واليمين [2]. هذه اليمينُ هي حلفٌ بالله جلّ وعلا، يحلِف بها المسلم إمّا لإثبات حقّ له أو يحلِف بها لنفيِ ما ادُّعي عليه من الحقوق، ولكنّ المؤمن حقًّا الذي يخاف الله ويرجوه وهو على يقين بأنّ الخصومةَ ستعاد يوم القيامة, وأنّ الله جلّ وعلا يعلم سرَّ العبد ونجواه, يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ [غافر:19]، قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ?للَّهُ [آل عمران:29]، وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَ?حْذَرُوهُ [البقرة:235].
أيّها المسلم، هذه اليمينُ هي تعظيمٌ لله وإجلال لله, فلا يليق بك أن تكذبَ فيها وأن توقعَها على غير موقعِها. هذه اليمينُ يصدِرها مؤمنٌ يخاف اللهَ ويتّقيه، يمينُ مؤمنٍ لا تخدعه زخارف الدنيا وأطماعها, يمين مؤمنٍ دينُه أغلى عنده من الدنيا بأسرِها, يمين مؤمنٍ يعلم أنّ الله سائله يومَ القيامة عنها ومحاسبُه عنها.
بيّنةُ المدّعي قد تقصر، وقد لا يحسِن, ويمينُك قد يُصدِّقك بها صاحبُك, ولكن إن انتفعتَ بها دنيًا فسوف تنضرّ بها آخرةً إن كنتَ كاذبًا فيها ومفتريًا فيها.
فليتَّق المسلم ربَّه عندما تُطلب منه اليمين, عندما تقصُر بيّنات المدَّعي, أو لا يجِد من يشهَد له؛ لأنّ بيّنتَه الإثباتيّة من شهود أو غيرها مفقودة, فاتّق الله في يمينك, ولا تزلّ باليمين, واعلَم أنّك إن كذبتَ في يمينك للتتغلّب بها على خصمِك فالله خصمُك يومَ لقاه, فاتّق اللهَ واحذرِ اليمينَ الكاذبة، فإنّها ممحقة للبركةِ في الدنيا, وقد يعجَّل لصاحبها العقوبة في الدنيا، ويوم القيامة فالأمر مهول والأمر عظيمٌ جدًا.
يقول الله: إِنَّ ?لَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ?للَّهِ وَأَيْمَـ?نِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَئِكَ لاَ خَلَـ?قَ لَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ?للَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77].
أترضَى لنفسِك أن تكونَ في جملة هؤلاء؟! أترضَى لنفسك أن تكونَ من هؤلاء الذين لا خلاقَ لهم, لا نصيبَ لهم في الآخرة, ولا يكلّمهم الله, ولا ينظر إليهم, ولا يزكّيهم, ولهم عذاب أليم؟! من يرضى لنفسه بهذا إلا خاسِئ الحظّ والعياذ بالله، قال أبو ذرّ: من هم يا رسول الله؟ خابوا وخسِروا، قال: ((المسبِل والمنّان والمنفِق سلعتَه باليمين الكاذب)) [3].
أيّها المسلم، اليمين الكاذبةُ ذنبُها عظيم ووزرها كبير، لا تنفَع فيها الكفّارة لعظيم شأنها وكبيرِ خطرها, فاتّق الله في نفسك, وراقبِ الله قبلَ كلّ شيء.
نبيّنا يقول: ((من اقتطعَ مالَ امرئ مسلمٍ بيمينِه لقيَ اللهَ وهو عليه غضبان)) ، قالوا: يا رسول الله، ولو يسيرًا؟ قال: ((ولو قضيبًا من أراك)) [4].
جاء رجلان إلى النبيّ في خصومة، أحدهما من حضرموت والآخر من كِندة، تخاصما في أرض, قال الحضرميّ: يا رسول الله، هي أرضي اغتصَبَني هذا، وقال الآخر: هي أرضي أزرعها ورثتُها من أبي، فسأل النبيّ المدَّعي: ((ألك بيّنة؟)) قال: لا، قال: ((إذًا يحلِف صاحبك)) ، قال: يا رسول الله، إذًا يحلِف ولا يبالي, هو فاجرٌ لا يتورّع عن شيء، فلمّا أراد أن يحلفَ قال النبيّ: ((لئِن حلَف على يمين صبرٍ ليقتطعَ بها مال امرئ مسلم لقيَ الله وهو عليه غضبان)) [5] ، فعند ذلك اتَّعظ الرجل, وردّ الأمرَ إلى أهله. هكذا الإيمان الصّادق يحجز المسلمَ من أن يستمرّ على طغيانه وظلمِه وعدوانه.
النبيّ عدَّ الكبائرَ فقال: ((الإشراكُ بالله, وعقوق الوالدين, واليمين الغموس)) [6]. وأخبر أنّ من اقتطعَ بها مالَ امرئ مسلم أوجب الله له النّارَ وحرّم عليه الجنّة.
فاحذر ـ أخي ـ مِن ذلك, احذَر من ذلك غايةَ الحذر, ولا توقعِ اليمين إلاّ وأنت على ثقةٍ من صِدق نفسك, موقن بذلك, وإيّاك أن تخدعَك الدّنيا أو يستحوذَ عليك الشيطان قائلاً: لا تضعف أمامَ خصمِك, احتفِظ بقوّة شخصيّتك, إلى غير ذلك. لا يا أخي، الدّنيا منقضية وزائلة, والآثام والأوزار ستتحّملها يومَ قدومك على الله, فتخلّص في حياتك قبلَ أن يؤخذَ من حسناتِك وتُحمّلَ سيئاتِ وخطايا غيرك.
أيّها المسلم، البعضُ من النّاس لا يبالي باليمين في مصلحةٍ يريدها, لا يبالي أن يكذبَ في يمينه، في موقفٍ ما من المواقف يريد التخلّصَ من هذا الموقف فيكذِب في يمينه ولا يبالي.
أخي المسلم، النبيّ جعل من الثلاثةِ الذين لا يكلّمهم الله, ولا ينظر إليهم, ولا يزكّيهم يوم القيامة, ولهم عذاب أليم، ذكر منهم: ((رجلاً جعل الله بضاعتَه، لا يبيع إلا بيمينه، ولا يشتري إلاّ بيمينه)) [7] , بمعنَى أنّ تعظيمَه لله أمر هيّنٌ في نفسه, فهو يحلِف على البيع والشراء, إن أراد أن يبيعَ قال: والله دفِع لي في هذا كذا, وهو كاذب, لأنّ المشتري إذا حلف أمامَه ظنّ صدقَه فيما قال، فاشترى منه بما قال, والله يعلم أنّه كذبٌ وافتراء.
فإيّاك واليمينَ في بيعك أو اليمينَ في شرائك، عظَمِ الله ووقّر الله في اليمين, ولا تحلِف إلا للأمر الذي لا بدّ منه, أمّا أن تحلفَ دائمًا فيوشك أن تستخفَّ بالأيمان فلا تبالي بها ولا تهتمّ بها.
أيّها المسلم، وأمّا الحلفُ على الأمور الماضيَة فهذا أيضًا على حالين: فقد تحلِف على أمر ماضٍ وأنت كاذبٌ فيه، فهذه هي اليمين الغموس, وقد تحلِف على أمر ماضٍ وأنت صادق فيه فهذا لا شيءَ عليه, لكن على كلٍّ اليمينُ يجب أن تعظَّم, ويجب أن تحتَرم, ولا ينبغي التساهلُ فيها كلِّها.
أيّها المسلم, والحلِف بغير الله نُهينا عنه لأنّ مَن حَلفنا به نعظِّمه, والتعظيمُ الحقيقيّ إنما هو لربّنا جل وعلا, ولهذا نبيّنا نهانا عن الحلفِ بغير الله فقال : ((مَن حلف بغير الله فقد كفَر ـ أو ـ أشرَك)) [8] , يعني بذلك الشركَ الأصغر, اللهمّ إلا أن يعظِّم مَن يحلفُ به مثلَ تعظيمِه لله، فهذا شيء عظيم.
وقال : ((لا تحلِفوا بآبائكم, من كان حالفًا فليحلِف بالله أو ليسكُت)) [9] , فنهِينا عن الحلفِ بآبائنا أو الحلِف بأيّ شخص حتّى بمحمّد وهو سيّد الخلق وأفضلُهم, لا يجوز لنا أن نحلفَ به, لأنّ هذا أمرٌ ممنوع إذ التعظيم المطلق إنّما هو لربّنا جلّ وعلا.
أيّها المسلم، ربّك يقول مخاطبًا عبادَه المؤمنين: وَ?حْفَظُواْ أَيْمَـ?نَكُمْ [المائدة:89]، وحفظُ اليمين يكون كما سبَق بالصِّدق فيها وعدمِ الكذبِ فيها, ويكون حفظُها أيضًا بإعطاءِ كفّارتها إذا كانت هذه اليمينُ على أمورٍ مستقبَلة, حلفتَ أن لا تفعل أشياءَ ففعلتَ, أو حلفتَ أن لا تفعلَ ففعلتَ, فهذه هي اليمينُ التي تجري فيها الكفّارة.
هديُ نبيّنا أنّه إذا حلف على أمرٍ لا يفعله ثمّ رأى الخيَرة والصلاحَ فيه كفّر عن يمينه وفعل, وإذا حلف على أمر سيفعله ورأى المصلحة في تركِه كفّر عن يمينه ولم يفعَل, يقول : ((إنّي ـ والله ـ لا أحلف على يمينٍ فأرى غيرَها خيرًا منها إلاّ أتيتُ الذي هو خير وتحلّلتُ منه)) [10] ، أو قال: ((إلا كفرتُ عن يميني)) [11].
فإذا حلفتَ ـ أيها المسلم ـ على أمور تريد أن لا تفعلها مِن حماقةٍ حصلت لك فقلت: والله لا أفعل هذا الشيء, لا أدخل هذا المكان, أو لا أشتري هذه السلعة, أو لا أبيعها, ثم تبيّن لك أن المصلحةَ في خلافِ ذلك, إذًا فكفِّر عن يمينك واحفَظ يمينك, لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ?للَّهُ بِ?للَّغْوِ فِى أَيْمَـ?نِكُمْ وَلَـ?كِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ?لأيْمَـ?نَ [المائدة:89].
أمّا لغوُ اليمين ما يجري على اللّسان من غير إرادةِ اليمين فهذا عفو: لا والله ما فعلت كذا, والله ما فعلتُ كذا, هذا لغو اليمين لا كفارةَ فيه, لكن لو حلفتَ يمينًا أنّك لا تفعل هذه الأشياء أو يمينًا أنّك ستفعلها فالمطلوب منك إمّا أن تلتزمَ بيمينك إن كان خيرًا, وإن كان عدمُ الالتزام أولى فكفّر عن يمينك وافعَل الذي هو الخير.
أيّها المسلم، وكلّ أمر يمكنك أن تبتعِدَ عن اليمين فهو أحسنُ لك وخير لك وأفضل لك، فكم من متسرِّع في الأيمان على أولاده على زوجاته على أهل بيته، فربّما خالفوا مرادَه ولم يُوفوا بحقّه، فيكون خاسرًا بذلك, ولهذا جاء في الحديث في حقّ المسلم: ((وأن نبرَّ المقسِم)) [12] , أي: نبرّ يمينَ من أقسمَ علينا إذا أقسَم علينا بأمرٍ يمكِننا فعلُه أن نبرَّ قسمَ أخينا المسلم.
أيّها المسلم، فاحفَظ يمينَك ولا تتساهل بها, الكذب ابتعِد عنه بكلّ صوره, اليمين التي تريد أن تلزِمَ نفسَك بفعل شيءٍ ثم تبيّن لك أن عدمَ فعله هو الأولى فكفّر عن يمينك, الأمر الذي حلفتَ أن لا تفعله ثمّ تبيّن أنَّ فعلَه أولى وأردتَ فعلَه فكفّر عن يمينك.
وربّنا جلّ وعلا قال لنبيّه : ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ ?للَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْو?جِكَ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ ?للَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَـ?نِكُمْ وَ?للَّهُ مَوْلَـ?كُمْ وَهُوَ ?لْعَلِيمُ ?لْحَكِيمُ [التحريم:1، 2]. حَلِفٌ من النبيّ إمّا أنّه حلِفٌ على أن لا يشربَ ذلك العسل, أو حلِفٌ أن لا يطأ سرِّيَّته، فأمره الله أن يتحلّل من يمينه بالكفّارة لأنّ ذلك هو الأولى، فقال الله: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ ?للَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْو?جِكَ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ ?للَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَـ?نِكُمْ أي: أنت تحلّ برّها بالكفّارة التي أوجبَها الله لتكونَ سببًا لحلّ الارتباط بهذا اليمين.
فلنتّق الله في أيماننا, ولنحذَر من الكذب فيها, ولنحذر من تركِ الكفّارة فيما نريد أن نمتنع, ولا نجعل اليمين بالله حائلةً بيننا وبين فعلِ الخير, قال الله تعالى في كتابه العزيز: وَلاَ تَجْعَلُواْ ?للَّهَ عُرْضَةً لأيْمَـ?نِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:224]، فلو حلف أن لا يبرّ, أو أن لا يفعلَ خيرًا، فالأولى له أن يكفِّر ويفعلَ الخير, ولا يجعل اليمينَ عائقًا له من فعل الخير.
أقسمَ الصدّيق رضي الله عنه ليقطعنَّ عن مِسطح النفقةَ التي كان ينفِق عليه لمّا حصل ما حصل منه، قال الله له: وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ?لْفَضْلِ مِنكُمْ وَ?لسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ وَ?لْمُهَـ?جِرِينَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ?للَّهُ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور:22]، فلو استفزّك الشيطان فقلتَ لأحدِ أولادك: واللهِ لا أكلّمك, أو واللهِ لا أنفق عليك, أو نحو ذلك، فكفّر عن يمينِك، وأرغِم عدوَّ الله، وابذل المعروف, وابذل الخيرَ، فذاك خير لك من أن تلجَّ في طغيانِك, وتعتمدَ على اليمين, فاليمين التي حلفتَها لتمتنعَ بها مِن فعلِ الخير كفّر عنها وافعَل الخير, هكذا أمرَك الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولعموم المسلمين من كلّ ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البيهقي في السنن (10/ 252) بهذا اللفظ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وحسنه النووي في الأربعين: الحديث الثالث والثلاثون، والحافظ ابن حجر في الفتح (5/ 283)، وأصله في البخاري: كتاب التفسير، باب: قول الله: إِنَّ ?لَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ?للَّهِ وَأَيْمَـ?نِهِمْ... (4552)، ومسلم: كتاب الأقضية، باب: اليمين على المدّعى عليه (1711).
[2] أخرجه مسلم في الأقضية، باب: القضاء باليمين والشاهد (1712) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[3] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: بيان غلظ تحريم إسبال الإزار... (106) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار (137) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه بلفظ: ((فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة)).
[5] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار (139) عن وائل بن حجر رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الأيمان والنذور، باب: اليمين الغموس (6675) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[7] أخرجه الطبراني في الكبير (6/246) من حديث سلمان رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب (2/574): "ورواته محتج بهم في الصحيح"، وقال الهيثمي في المجمع (4/78): "ورجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1788).
[8] أخرجه أحمد (2/ 125)، وأبو داود في الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بالآباء (3251)، والترمذي في الأيمان والنذور، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله (1535) واللفظ له من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن حبان (4358)، والحاكم (1/ 65)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2042).
[9] أخرجه البخاري في التوحيد، باب: السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها (7401)، ومسلم في الأيمان، باب: النهي عن الحلف بغير الله (1646) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[10] أخرجه البخاري في فرض الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنواب المسلمين (3133)، ومسلم في الأيمان، باب: ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها (1649) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[11] هذا اللفظ هو أحد روايات مسلم.
[12] الأمر بإبرار المقسم أخرجه البخاري في المظالم، باب: نصر المظلوم (2445)، ومسلم في اللباس والزينة, باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة (2066) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ ربَنا تعالى بيّن لنا في كتابِه كفّارةَ اليمين التي حلفناها على تركِ أشياء أو فعلها, قال تعالى: لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ?للَّهُ بِ?للَّغْوِ فِى أَيْمَـ?نِكُمْ وَلَـ?كِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ?لأيْمَـ?نَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَـ?كِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَـ?ثَةِ أَيَّامٍ [المائدة:89].
فجعلَ الله الكفّارةَ على قسمين: أقسامًا ثلاثة مخيّر فيها، هي إمّا أن تطعمَ عشرةَ مساكين أو تكسوهم أو تعتق رقبة, أنت في هذه الأشياء مخيّر، وإن كان ظاهرُ القرآن تقديم الإطعام, فإذا عدِمت هذه الأشياءَ الثلاثة, لا عتقَ لا كسوةَ لا تستطيع الإطعامَ، فانتقِل إلى صيام ثلاثةِ أيّام, ويستحبّ تتابعها لإفتاءِ بعض الصّحابة بذلك. هذه كفارةُ اليمين. والإطعام نصّ الله على عشرة مساكين، وإطعام كلّ مسكين نصف صاع, أي: كيلو ونصف من الأرزّ أو الحب أو التّمر أو نحو ذلك, تعطَى لعشرة مساكين. هذه هي كفّارة اليمين, وإن تعدّدت الأيمان وتنوّعت فلكلّ يمين كفّارتها.
فالمهمّ أنّ المسلمَ يحفظ يمينَه، فلا يكذب, ولا يتهاوَن بالكفّارة, ولا يستخفّ باليمين, ويجعل الله نصبَ عينيه في يمينِه حتى لا يقَع في الهلكةِ.
أسأل اللهَ أن يحفظنا وإيّاكم بالإسلام, وأن يجعلنا وإيّاكم مِن المستقيمين على طاعتِه, وأن لا يجعلَ الدّنيا أكبرَ همّنا ولا مبلغ عِلمنا, إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمَكم الله ـ أنّ أحسَنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على سيد الأولين والآخرين وإمام المتقين وقائد الغرّ المحجّلين محمّد بن عبد الله خاتم أنبياء الله ورسله كما أمركم ربّكم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمّد, وارضَ اللهمَّ على خلفائِه الرّاشدين...
(1/2869)
معالم في عظمة الإسلام
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
17/6/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال البشرية قبل الإسلام. 2- أجل نعمة على البشرية هي الإسلام. 3- فضل الصحابة وعلماء الأمة في نشر الدعوة والمعرفة. 4- فشل محاولات الأعداء في طمس معالم الإسلام. 5- شروط النصر والتمكين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]، اتّقوا الله وتمسّكوا بما شرع لكم من الدّين القويم، واشكروه على ما منّ به عليكم من ملّة أبيكم إبراهيم حين ضلّ عن الحقّ من الأمّة سوادٌ عظيم، وتمسّكوا بطاعة الله على مِنهاج رسوله ، فإنّ في ذلك السلامةَ والنجاة والعزَّ والرفعة والجاه، وإيّاكم ومعاصيه فإنها توجِب أليمَ العقاب ووبيل العذاب. فاتّقوا الله, وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
وبعد: أيّها المسلمون، إنّ أجلَّ نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض عامّة وعلى المسلمين خاصّة نعمة الإسلام وبعثةُ نبيّ الرحمة عليه الصلاة والسلام. لقد كان أهلُ الأرض قبل مجيء الإسلام في ظلام دامس وضلال طامِس، عَدا غُبّرَ من أهل الكتاب وبقايا ممّن على الحنيفيّة ملّة إبراهيم، أمّا من سواهم مِن ورثة الأديان السماوية وصانعي المعتقدات الوثنيّة الأرضية فقد اغتالوا زكيَّ النفوس وسليمَ الفطر، فذبحوها على عتبات الوثنية, وغمسوها في لُجج الجاهلية، فاستزرعوا الأصنامَ في جنبات الحرَم, وغيّبوا العقول في متاهات الظُّلَم.
وهكذا انطمست أنوار الرسالة السماوية، وتلاعب الشيطان ببني آدم، فاشتدّت حاجة أهلِ الأرض إلى بعثة نبيّ رسول من عند الله، يخرجهم من الظلمات إلى النور، وأدركتهم رحمةُ أرحم الراحمين، فكانت بعثة محمّد خاتم النبيين وسيّد المرسلين، فأشرقت به الأرض بعد ظلماتها، واجتمعت عليه الأمّة بعد شتاتها، وجاء الإسلام العظيمُ يحمل للبشرية كلَّ خير ويزيح عنها كلَّ شرّ.
إنّه الرسول النبي الأمي، ?لَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَـ?هُمْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ?لطَّيِّبَـ?تِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ ?لْخَبَئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ?لأغْلَـ?لَ ?لَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157].
واختار الله له أنصارًا وأعوانًا، هم صحابةُ رسول الله , أبرُّ الناس قلوبًا، وأغزرُهم علمًا، وأقلّهم تكلّفًا، فجاهدوا في الله حقَّ جهاده، وحفظوا لنا الدين، ونقلوا إلينا الشريعة، ونشَروا الإسلامَ في مشارقِ الأرض ومغاربها بالعدل والرحمة حتى أظهره الله على الدّين كله، وأخمد به نارَ المجوس، ودمّر كبرياءَ اليهود، وكشف ضلال النصارى، وحطّم أصنامَ الوثنية، وملأ الأرض عدلاً, والقلوبَ فقهًا وخشية ورحمةً وإيمانًا، وصنع قادة وسادةً وأحبارًا، فتحوا البلادَ بالجهاد، والقلوبَ بالعلم والحكمة والقدوةِ والرحمة، وأخرجوا الناسَ من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضِيق الدنيا إلى سعةِ الدنيا والآخرة، وفجَّروا ينابيعَ العلم حتى ملؤوا مدارسَ العالم ومكاتب الدنيا بعلومهم ومؤلّفاتهم, مما لم يعرفِ العالم له نظيرًا من سائر الملل.
هذا هو دين الإسلام الذي شهد الله تعالى له بالكمال فقال سبحانه: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3].
أيّها المسلمون، ولقد وقف الشيطان وحزبُه من هذا الدين ولا زالوا يقِفون موقفَ العدوّ اللدود، واستخدموا كلَّ ما يملكون من الوسائلِ للقضاء عليه أو للصدِّ عنه أو تشويهِه, حاربوه فانتصَر عليهم، حاوَلوا محاصرتَه في بلده ومنعَ انتشاره فاكتسح كلَّ الحواجز والحدود، وامتدَّ نوره ساطعًا في أرجاء المعمورة، فاعتنقته القلوبُ السليمة والفطر المستقيمة؛ لأنّه دين الله، دينُ الفطرة الذي يلائِم كلَّ زمان ومكان, حاولوا الدسَّ فيه وإلقاءَ الشبَه على تشريعاته وأحكامه، فارتدّت سهامهم في نحورِهم, وبقيَ هذا الدين غضًّا طريًّا كما أُنزل.
كما دخل على المسلمين منافقون خادِعون فكشف الله سريرتهم, وأظهر للمسلمين علاماتِهم، ليحذروهم إلى يوم الدين, وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ ?لْقَوْلِ [محمد:30].
كما دخل أعداءُ الدّين للفُرقة بين المسلمين، بإلقاء العداوةِ بينهم وتمزيقهم, فخرجت فرقٌ شتى، فكان ذلك مصداقَ ما أخبر به النبيّ منِ افتراق أمّته على ثلاث وسبعين فرقة، كلّها في النار إلا واحدة [1] ، وهذه الفرقة الواحدة هي الفرقة النّاجية أهلُ السنة والجماعة، من كان على مثل ما كان عليه النبي وأصحابه، ولن تزالَ بإذن الله موجودةً إلى قيام الساعة، يقول النبي : ((لا تزال طائفةٌ من أمّتي ظاهرين على الحقّ، لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيَ أمر الله وهم على ذلك)) رواه مسلم [2].
وبهذا يبقى دينُ الإسلام منتصرًا، ويبقى من تمسّك به منصورًا، ومن خالف ذلك فلا يضرّ إلا نفسه، ولن يضرَّ الله شيئًا.
أمّة الإسلام، ومع اختلافِ الناس وتشعّبهم في دينهم وانتشارِ الجهل والهوى في بعض الأعصار أو الأمصار إلاّ أنّ الله تعالى رحيم بأمّته، قد جعل في هذه الأمة الخيرَ إلى قيام الساعة، فلم ينقطع من العلماء الربانيّين من يدعو الأمّةَ ويرشدها إلى العودة إلى دينها الصحيح الصافي من الشوائب والعوالق، ويردّها إلى المورِد العذبِ الأصيل: الكتابِ والسنة، ليكونَ المجتمع على مثل ما كان عليه النبي وأصحابه، وهذه سنّة الله الماضية.
ومع هذا فلا يزال أيضًا أعداءُ الإسلام من الكفّار والمنافقين والعملاءَ والمدسوسين يواصلون حربهم ضدَّ الإسلام الصحيح بكلّ ما يستطيعون من مكائدَ ودسائس وافتعالِ مواقِف وتذليق منافقين، إلاّ أنّ دين الله واضح وسنّة المصطفى بيّنة, والمحجّة بيضاء ناصعة, ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وتعود السّهامُ إلى صدور أصحابها خاسئةً ذليلة, ويبقى الإسلام طَودًا شامخًا وحِصنًا منيعًا محفوظًا بحفظ الله، يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ هُوَ ?لَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [التوبة:31، 32].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] حديث الافتراق ورد عن عدد من الصحابة، من ذلك ما أخرجه الترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة (2641) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال: "حسن غريب"، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2129).
[2] صحيح مسلم: كتاب الإمارة، باب: قوله : ((لا تزال طائفة...)) (1920) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله كثيرًا كما ينعِم كثيرًا، خلقَ كلَّ شيء فقدّره تقديرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله شهادةً تامّة نرجو بها النجاة يوم لقاه.
وبعد: أيّها المسلمون، اتّقوا الله تعالى، واعلموا أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة, وكلّ ضلالة في النار.
أمّة القرآن، أمّةَ التوحيد والإيمان، إنّه لا يشكّ مسلم في نصرِ الله لأوليائه ودفاعه عنهم، إِنَّ ?للَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ [الحج:38]، كَتَبَ ?للَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ ?للَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، وَلَن يَجْعَلَ ?للَّهُ لِلْكَـ?فِرِينَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141].
ولكن هذا لا يكون لمن تخاذَل وبدّل دينَه الصحيح, وحارب التوحيدَ والسنّة، وحكّم غيرَ شرع الله، وولغ في المعاصي، وعادَى أولياء الله. إنما الدفاع والنصرُ والتمكين لمن قبض على دينه، وعضّ بالنواجذ على ما جاء في الوحيين, واطَّرح الهوى, واتَّبع الهدى, وأخلص قصده وعملَه لربّه، عند ذلك يتحقّق له وعدُ السماء: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَـ?لَهُمْ [محمد:7، 8]، وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ [الحج:40].
وأمّا النّاعقون والمعتدون فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم، ولا يجوز لمسلمٍ أن يتنازلَ عن دينه ومعتقده, أو يساومَ على مبادئه وثوابته, كما لا يجوز أن تكونَ أخطاءُ بعض المسلمين أو المتحمّسين لدينهم أو المتهوّرين في تصرّفاتهم سببًا في ترك الحقّ الواجب علينا اتباعه، وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايَـ?تِ ?للَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَ?دْعُ إِلَى? رَبّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ [القصص:87].
اللهمَّ أحيِنا على الإسلام سعداء، وتوفَّنا على التوحيدِ شهداء، واحشُرنا في زمرة الأنبياء، ولا تشمِت بنا الحاسدين والأعداء.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين...
(1/2870)
فضل المدينة وحرمتها
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
17/6/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مكانة المدينة في الإسلام.2- فضائل المدينة. 3- فضل سكنى المدينة. 4- فضل الصلاة في المسجد النبوي. 5- فضل مسجد قباء. 6- فضل الصبر على سُكنى المدينة. 7- المدينة في آخر الزمان. 8- ما ينبغي أن يتحلّى به ساكن المدينة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله فإنّ تقواه أفضل مكتَسَب، وطاعته أعلى نسَب، يِـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ?للَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الأنفال:29].
أيّها المسلمون، تتفاوت البلدان والأوطانُ شرفًا ومكانة وعلوًّا وحرمَة ومجدًا وتأريخًا، وتأتي المدينة النبويّةُ بلد المصطفى أرضُ الهجرة ودار الإيمان وموطِد السنّة في المكان الأعلى والموطن الأسمى، هي بعدَ مكّةَ سيّدة البلدان, وثانيتها في الحرمة والإكرام والتعظيم والاحترام، فيها قامت الدّولة النبوية والخلافة الإسلاميّة، وبها ضربتا بعروقهما, وسمقتا بفروعِهما، وصدَق رسول الله إذ يقول: ((أمِرتُ بقريةٍ تأكل القرى, يقولون: يثربُ، وهي المدينة)) متفق عليه [1].
دارةُ المحاسن ودائِرة الميامن, طيبة الغرّاء وطابةُ الفيحاء، توسِع العينَ قرّة والنفسَ مسرّة، الفضائل مجموعةٌ فيها, والإيمان يأرِز في نواحيها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنّ الإيمانَ ليأرِز إلى المدينة كما تأرز الحيّة إلى جحرها)) متفق عليه [2] ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إنّ الإسلامَ بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، وهو يأرز بين المسجِدين كما تأرز الحيّة إلى جحرها)) أخرجه مسلم [3] ، وعند الحاكم والبيهقيّ من حديث جابر رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((ليعودَنَّ كلّ إيمان إلى المدينة، حتى يكونَ كلّ إيمانٍ بالمدينة)) [4].
متنفَّس الخواطِر ومَرتع النواظر، بلدةٌ معشوقَة السّكنى طيِّبة المثوى، سكنُها مع الإيمان شرفٌ بالغ، واستيطانها مع التّقوى عزٌّ شامخ، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنّ النبيّ قال: ((مَن استطاعَ أن يموتَ بالمدينة فليفعل, فإني أشفع لمن مات بها)) أخرجه أحمد والترمذيّ وابن ماجه [5] ، وعند النسائيّ من حديث صُمَيتة: ((مَن مات بالمدينة كنتُ له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة)) [6]. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (اللهمَّ ارزُقني شهادةً في سبيلك, واجعَل موتي في بلدِ رسولك محمّد ) أخرجه البخاري [7].
فيا هناءَةَ ساكنيها ويا سعادة قاطنيها، ويا فوزَ من لزم الإقامةَ فيها حتى جاءته المنيّة في أراضيها.
في البعدِ عنها يهيجُ الشّوق إليها, ويتضاعَف الوَجد عليها، وكان رسول الله إذا قدِم مِن سفر ونظر إلى جُدُراتها ودوحاتها ودرجاتها أوضع راحِلته, وحرّكها واستحثّها, وأسرع بها لحبِّه لها [8] ، فهي حبيبة المحبوب القائل: ((اللهمّ حبِّب إلينا المدينةَ كحبِّنا مكّة أو أشدّ)) متفق عليه [9].
ولا غروَ فهي دارُه ومهاجَره، فيها نصِب محرابه ورُفع منبره، وفيها مضجعه ومنها مبعثه، وفيها أحُدٌ جبلٌ يحبّنا ونحبّه، بلده البديع ودِرعه المنيع وحِصنه الرفيع، يقول عليه الصلاة والسلام: ((رأيتُ أني في دِرعٍ حصينة، فأوّلتها المدينة)) أخرجه أحمد [10].
بلدةٌ آمِنة، ومدينة ساكنة، لا يُهراق فيها دم, ولا يحمَل فيها سلاحٌ لقتال، فعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: أهوى رسول الله بيده إلى المدينة فقال: ((إنها حَرَم آمِن)) أخرجه مسلم [11].
لا يكيد أهلَ المدينة أحَد أو يريدهم بسوءٍ أو شرّ إلا انْماع كما ينماع المِلح في الماء، يقول رسول الهدى : ((مَن أخاف أهلَ المدينة ظُلمًا أخافه الله عزّ وجلّ, وعليه لعنة الله والملائكةِ والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يومَ القيامة صرفًا ولا عدلاً)) أخرجه أحمد [12] ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((مَن أخاف أهلَها فقد أخاف ما بين هذين)) وأشار إلى ما بين جنبيه بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه. أخرجه ابن أبي شيبة [13].
ومِن مناقبها المأثورَة وفضائِلها المشهورة أنها محفوظةٌ مصونة محروسة محفوفة، لا يدخلها رُعب الدّجال ولا فزعُه، ولا يرِدها ولا تطؤُها قدمه، محرَّم عليه أن يدخل نقابها أو يلِج أبوابها، يريدُها فلا يستطيعها، الملائكةُ على أنقابها وأبوابها وطرُقها ومحادّها صافّون بالسّيوف صلتة, يحرسونها ويذبّونه عنها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((على أنقابِ المدينةِ ملائكةٌ، لا يدخلها الطاعون ولا الدّجال)) متفق عليه [14] ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((يأتي المسيحُ من قِبل المشرق همّتُه المدينة، حتى ينزل دُبُر أحُد, ثمّ تصرف الملائكة وجهَه قِبَل الشام، وهناك يهلك)) أخرجه مسلم [15].
يأتي الدجالُ سَبخة الجُرف عند مجتمَع السيول عند الضّرَيب الأحمر، فيضربُ رواقه، وترجف المدينة بأهلها ثلاثَ رجفات، فيخرج إليه كلّ منافق ومنافقةٍ وكلّ كافر وكافرة وكلّ مشرك ومشركةٍ، وصدق رسول الله : ((لا تقوم السّاعة حتى تنفِيَ المدينة شِرارها كما ينفي الكير خبثَ الحديد)) أخرجه مسلم [16].
هي حرام ما بين لابَتَيها وحرَّتَيها وجبَليها ومأزِميها، لا ينفَّر ولا يُصاد صيدها, ولا يؤخَذ طيرها, ولا يعضَد شوكها, ولا يخبَط شجرها, ولا يُقطع عِضاهها، ولا يختلى خَلاها, ولا تؤخَذ لقطتُها إلا لمن يعرِّفها، يقول رسول الهدى : ((إنّ إبراهيمَ حرّم مكّة, وإني حرّمت المدينة ما بين لابتيها, لا يقطَع عضاهها, ولا يصاد صيدها)) أخرجه مسلم [17] ، ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: لو رأيت الظباءَ في المدينة ما ذعرتها، قال رسول الله : ((ما بين لابتَيها حرام)) متفق عليه [18] ، ويقول عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: كان أبو سعيدٍ يجِد أحدَنا في يده الطير قد أخذَه، فيفكّه من يدِه ثمّ يرسلِه. أخرجه مسلم [19].
ومَن أظهرَ فيها بدعةً أو حدَثًا أو شِركًا أو آوى زانيًا أو مبتدِعًا فقد عرّض نفسه للوعيد الشديد واللّعن الأكيد، يقول رسول الهدى : ((المدينة حرَم ما بين عَير إلى ثور, فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين، لا يقبل الله منه يومَ القيامة صرفًا ولا عدلاً)) متفق عليه من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه [20].
ومَن اعتقد جوازَ الطواف بالقبور أو التبرّكَ بتربتها أو الاستشفاءَ بها أو التوسّل بأصحابها أو نداءَها ودعاء أهلها فقد اعتقد باطلاً، وأتى حادِثًا منكرًا. ومَن اعتقد أنّ البركة إنما تحصُل بمسحِ جدارٍ أو عمودٍ أو باب أو تقبيل مِنبرٍ ومحراب فقد جانب الصّواب, وخالف السنّة والكتاب، وعليه الكفّ عن ذلك والتّوبةُ وعدم العودة.
أيّها المسلمون، في سُكنى المدينة النبويّة من الفوائدِ الشرعيّة والعوائد الأخرويّة والمصالح الدينية والسعادة النفسية ما يستحقَر دونها كلّ عيش واسع ورغدٍ ورفاه في غيرها من البلدان والأوطان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((يأتي على النّاس زمان يدعو الرجل ابنَ عمّه وقريبه: هلمّ إلى الرخاءِ هلمّ إلى الرخاء, والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده لا يخرجُ منهم أحدٌ رغبةً عنها إلا أخلفَه الله فيها خيرًا منه)) أخرجه مسلم [21] ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ليسمعَنَّ ناسٌ برُخصٍ من أسعار ورزق، فيتبعونه, والمدينةُ خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون)) أخرجه البزّار والحاكم وصحّحه [22].
الصلاةُ في مسجدها مضاعفة الجزاء فرضًا ونفلاً في أصحّ قولي العلماء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي قال: ((صلاةٌ في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه, إلاّ المسجد الحرام)) متفق عليه [23]. ووجهُ ذلك أنّ قوله : ((صلاة في مسجدي هذا)) نكِرة في سياقِ الإثبات في معرض الامتنان فتعمّ الفرضَ والنافلة، قال ابن النّجّار رحمه الله تعالى: "ومِن صيغ العموم أيضًا النكرةُ في سياقِ إثبات الامتنان"، وقال ابن حجر رحمه الله تعالى: "ويمكِن أن يقالَ: لا مانعَ من إبقاء الحديث على عمومه" انتهى كلامه رحمه الله [24].
إلاّ أنّ صلاةَ النافلة في البيت أفضلُ من صلاتها في مسجد رسول الله حتى ولو كانت مضاعَفة، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((صلاةُ المرء في بيتِه أفضل من صلاته في مسجدِي هذا إلاّ المكتوبة)) أخرجه الشيخان وأبو داود واللفظ له [25] ، وأخرج ابن ماجه بإسناد صحيح عن عبد الله بن سعد قال: سألت رسول الله : أيما أفضلُ الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ فقال: ((ألا ترى إلى بيتي ما أقربَه من المسجد، فلأن أصلّيَ في بيتي أحبّ إليّ من أن أصلّي في المسجد إلاّ أن تكون صلاة مكتوبة)) [26].
وفي هذا المسجِد المبارك بُقعة هِي روضة من رياض الجنّة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما بين بيتي ومِنبري روضةٌ مِن رياض الجنّة، ومنبري على حوضي)) متفق عليه [27] ، وعند أحمد: ((ومنبري هذا على تُرعة من ترَع الجنة)) [28] ، وعند النسائي: ((إنّ قوائم منبري هذا رواتب في الجنّة)) [29] ، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يحلِف أحدٌ عند مِنبري هذا على يمين آثمة ولو على سِواك أخضَر إلاّ تبوّأ مقعدَه من النّار أو وجبت له النار)) أخرجه أبو داود وابن ماجه [30].
وثبت الفضلُ في الصلاة في مسجدِ قباء عن المبعوث في أمّ القرى، فعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مَن تطهّر في بيته ثم أتى مسجدَ قباء فصلّى فيه صلاةً كان له كأجر عمرة)) أخرجه ابن ماجه [31] ، ولا يقصَد في أوقات النهي لكونها أوقاتًا يُنهى عن التنفّل فيها.
ولا يُزار في المدينةِ النبويّة من المساجِد سِوى هذين المسجدين: مسجدِ رسول الله ومسجد قباء.
أيّها المسلمون، البركةُ في المدينة حالّة في صاعِها ومدِّها ومكيالها وثمرِها وقليلها وكثيرها، دعا لها النبي بالبركة وقال: ((اللهمّ اجعَل في المدينة ضعفَي ما بمكة من البركة)) متفق عليه [32] ، ((مَن تصبّح كلَّ يومٍ سبعَ تمرات عجوةٍ لم يضرَّه في ذلك اليوم سمّ ولا سحر)) [33] ، ((وفي عجوة العالية شفاء أو إنها ترياق أوّلَ البكرة)) [34].
قدِم رسول الله المدينةَ وهي أرض وباء ومرَض وبلاءٍ، متغيّرةُ الماء، فاسدةُ الهواء، قتّالة الغرباء، كثيرة الأنداء، زائرُها محموم، وقاطنها موعوك موخوم, أخذَتِ الحمّى فيها أبا بكر وبلال وعائشةَ أمَّ الأفضال، فدعا رسول الله ربَّه أن يصحِّحها وأن ينقلَ حمّاها إلى الجُحفة, فاستجاب الله منه الدّعاء وحقّق له النداء، ففي البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنّ النبيّ قال: ((رأيتُ كأنّ امرأة سوداء ثائرة خرجت مِن المدينة حتى قامت بمهيَعة وهي الجُحفة, فأوّلتُ أنّ وباءَ المدينة نُقِل إليها)) أخرجه البخاري [35]. قال ابن حجر: "فعادَت المدينة أصحَّ البلاد بعد أن كانت بخلاف ذلك" [36].
مَن صبر على لأوائِها وبلوائِها وغِمار شدّتها وغلوائها نال السّعودَ وتحقّق له الفضلُ الموعود، ألا وهو شفاعة صاحبِ المقام المحمود والحوضِ المورود ، فعن عبد الله بنِ عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسولَ الله يقول: ((مَن صبر على لأوائها وشدَّتها كنتُ له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة)) أخرجه مسلم [37] ، وعن أبي سعيد مولى المهري أنّه جاء أبا سعيدٍ الخدري رضي الله عنه لياليَ الحرّة، فاستشاره في الجلاء من المدينة، وشكا إليه أسعارها وكثرةَ عياله، وأخبره أنّه لا صبرَ له على جَهد المدينة ولأوائها، فقال له أبو سعيد: ويحك! لا آمرُك بذلك، إني سمعت رسول الله يقول: ((لا يصبر أحدٌ على لأوائها فيموت إلا كنتُ له شفيعًا أو شهيدًا يومَ القيامة إذا كان مسلِمًا)) أخرجه مسلم [38].
هذه هي المدينةُ، فضائلها لا تحصى، وبركاتها لا تستقصى, ومع ذلك كلّه فسيأتي عليها زمان في آخر الأزمان عند قيام الساعة يقول فيه النبي : ((تتركون المدينةَ على خير ما كانت، لا يغشاها إلا العواف ـ يريد عوافيَ السباع والطير ـ , وآخِر من يحشَر راعيان من مزينة يريدان المدينةَ ينعقان بغنمهما، فيجدانها وحوشًا, حتى إذا بلغا ثنيّة الوداع خرّا على وجوههما)) متفق عليه [39].
فاغتنموا ـ يا رعاكم الله ـ فيها الأوقات، واستكثِروا من الصالحات والحسنات.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الحج، باب: فضل المدينة وأنها تنفي الناس (1871)، ومسلم: كتاب الحج (1382) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الحج، باب: الإيمان يأرز إلى المدينة (1876)، ومسلم: كتاب الإيمان (147).
[3] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (146).
[4] مستدرك الحاكم (8400)، ودلائل النبوة (6/330-331)، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذه السياقة"، وصححه الشيخ صالح الرفاعي في فضائل المدينة (ص196-197).
[5] مسند أحمد (2/74، 102)، سنن الترمذي: كتاب المناقب، باب: ما جاء في فضل المدينة (3917)، سنن ابن ماجه: كتاب المناسك، باب: فضل المدينة (3112)، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (3741)، وحسنه البغوي في شرح السنة (7/324)، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5437)، والألباني في صحيح سنن الترمذي (3076).
[6] سنن النسائي الكبرى (2/488), وأخرجه الطبراني في الكبير (24/331), والبيهقي في الشعب (8/112-113)، وصححه ابن حبان (3742)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1194، 1195).
[7] صحيح البخاري: كتاب الحج، باب: كراهية النبي أن تعرى المدينة (1890).
[8] أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب: المدينة تنفي الخبث (1886) عن أنس رضي الله عنه بمعناه.
[9] صحيح البخاري: كتاب المرضى، باب: عيادة النساء الرجال (5654) واللفظ له، ومسلم: كتاب الحج (1376) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[10] مسند أحمد (1/271) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا البيهقي في الكبرى (7/41)، وصححه الحاكم (2588)، وحسنه ابن حجر في الفتح (13/341)، والألباني في السلسلة الصحيحة (3/91). وله شاهد من حديث جابر رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي شيبة (30489)، وأحمد (3/351)، والدارمي في الرؤيا، باب: في القمص والبئر واللبن والعسل والسمن (2159)، والنسائي في الكبرى (4/389)، وصححه ابن حجر في الفتح (7/377، 13/341).
[11] صحيح مسلم: كتاب الحج (1375).
[12] مسند أحمد (4/55، 56)، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى (4266)، والطبراني في الكبير (7/143، 169، 170)، وأبو نعيم في الحلية (1/372) من حديث السائب بن خلاد رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1215)، وانظر: السلسلة الصحيحة (351).
[13] مصنف ابن أبي شيبة (6/406) من حديث جابر رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (3/354، 393)، قال المنذري في الترغيب (2/152) والهيثمي في المجمع (3/306): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1213).
[14] صحيح البخاري: كتاب الحج، باب: لا يدخل الدجال المدينة (1880)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1379).
[15] صحيح مسلم: كتاب الحج (1380) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[16] صحيح مسلم: كتاب الحج (1381) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[17] صحيح مسلم: كتاب الحج (1362) من حديث جابر رضي الله عنه.
[18] صحيح البخاري: كتاب الحج، باب: لابتي المدينة (1873)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1372).
[19] صحيح مسلم: كتاب الحج (1374).
[20] صحيح البخاري: كتاب الحج، باب: حرم المدينة (1867)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1370) واللفظ له.
[21] صحيح مسلم: كتاب الحج (1381).
[22] مستدرك الحاكم (8400) من حديث جابر رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (3/341-342) بنحوه، والبيهقي في دلائل النبوة (6/330-331)، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذه السياقة"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1189)، والشيخ صالح الرفاعي في فضائل المدينة (ص196-197).
[23] صحيح البخاري: كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1190)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1394).
[24] فتح الباري (3/68).
[25] صحيح البخاري: كتاب الأذان، باب: صلاة الليل (731)، صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها (781)، سنن أبي داود: كتاب الصلاة، باب: صلاة الرجل التطوع في بينه (1044) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
[26] سنن ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسعة فيها، باب: ما جاء في التطوع في البيت (1378)، وأخرجه أيضا أحمد (4/342)، والبيهقي في الكبرى (2/411)، وصححه ابن خزيمة (1202)، والضياء المقدسي في المختارة (388)، والبوصيري في مصباح الزجاجة (2/9)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (1133).
[27] صحيح البخاري: كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب: فضل ما بين القبر والمنبر (1196)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1391).
[28] مسند أحمد (2/360) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد ورد عن غيره من الصحابة منهم: سهل بن سعد وجابر وأبو سعيد رضي الله عنهم، انظر: السلسلة الصحيحة (2363)، وفضائل المدينة للرفاعي (ص493).
[29] سنن النسائي: كتاب المساجد، باب: فضل مسجد النبي (696) عن أم سلمة رضي الله عنها، وأخرجه أيضا عبد الرزاق (3/182)، وأحمد (6/289، 292، 318)، وأبو يعلى (6974)، والطبراني في الكبير (23/254)، وأبو نعيم في الحلية (7/248)، والبيهقي في الكبرى (5/248)، وصححه ابن حبان (3749)، وهو في صحيح سنن النسائي (672)، وانظر: السلسلة الصحيحة (2050).
[30] سنن أبي داود: كتاب الأيمان والنذور، باب: ما جاء في تعظيم اليمين عند منبر النبي (3246)، سنن ابن ماجه: كتاب الأحكام، باب: اليمين عند مقاطع الحقوق (2325)، وأخرجه أيضًا مالك في الأقضية، باب: ما جاء في الحنث على منبر النبي (1434)، وأحمد (3/375)، وصححه ابن الجارود في المنتقى (927)، وابن خزيمة كما في الفتح (5/285)، وابن حبان (4368)، والحاكم (7810) وغيرهم، وهو في صحيح سنن أبي داود (2782).
[31] سنن ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء (1412)، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة (32524، 32525)، وأحمد (3/487)، والنسائي في كتاب المساجد، باب: فضل مسجد قباء والصلاة فيه (699)، وصححه ابن حبان (1627)، والحاكم (3/12)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1180، 1181).
[32] صحيح البخاري: كتاب الحج، باب: المدينة تنفي الخبث (1885)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1369) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[33] أخرجه البخاري في الأطعمة، باب: الهجرة (5445)، ومسلم في الأشربة (2047) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[34] أخرجه مسلم في الأشربة (2048) عن عائشة رضي الله عنها.
[35] صحيح البخاري: كتاب التعبير، باب: إذا رأى أنه أخرج الشيء من كورة... (7038).
[36] فتح الباري (10/191).
[37] صحيح مسلم: كتاب الحج (1377).
[38] صحيح مسلم: كتاب الحج (1374).
[39] صحيح البخاري: كتاب الحج، باب: من رغب عن المدينة (1874)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1389) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانِه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه وإخوانِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه, ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيّها المسلمون، ينبغي لساكنِ المدينة أن يُعرَف بحسن سيرته وصلاحِ سريرته وصفاءِ قلبه وطهارته وأمانتِه وعفّته وصدقِ لسانه وحديثه، مجافيًا مستقبَح الفعال، مجانبًا فاحشَ الأقوال، وعلى ساكنيها أن يكونوا أوفياءَ لها أمناءَ عليها غيارى على حرمتها، فلا يدنّسوها بقذَر المحرّمات ونتن القنوات والفضائيات ودنَس المخالفات، وعلى المجترئين على حرمتها وقداستها ممّن أتَوا من الأخلاق قبائحَها وأظهروا من الأفعال فضائحَها انتهاكًا لحقّ الحرم ومكانته, واستخفافًا بعظمتِه وحرمته، واغترارًا بالمسامحة والتّجاوز، ورجاءَ العفو والمغفرة، عليهم أن يتّقوا الله عزّ وجلّ وأن يرعوُوا ويقصروا ويتوبوا ويرجعوا، وأن يستشِعروا أنهم في أرضٍ درج عليها رسول الله وصحابته الكرامُ، وعاشوا فيها بالهدى والتقى، فاللهَ اللهَ في اقتفاء آثارهم وسلوكِ منهاجهم والسيرِ على طريقتهم.
رزقنا الله جميعًا فيها حسنَ الأدب، وغفر لنا جميعًا الخطأ والزّلل، وتجاوز عنّا جميعًا بعفوه ومغفرته.
إخواني، إنّ الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنّى بملائكته المسبّحة بقدسه وثلثّ بكم أيّها المؤمنون من جنّه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الراشدين...
(1/2871)
أحكام الطلاق - الإفساد في الأرض
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الطلاق, الفتن, قضايا الأسرة, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
17/6/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة أداء الحقوق الزوجية. 2- حرص الإسلام على انتظام الحياةِ الزوجيّة. 3- الطلاق آخر الحلول. 4- تنظيم الإسلام للطلاق. 5- فرح إبليس بحصول الفرقة بين الزوجين. 6- التحذير من الغضب. 7- الحكمة من مشروعية الطلاق. 8- واجب أهل الزوجين. 9- التحذير من الإساءة والإضرار بعد الطلاق. 10- التحذير من المفسدين باسم الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جلّ وعلا مبيّنًا حقَّ كلٍّ من الزوجين على صاحبه: وَلَهُنَّ مِثْلُ ?لَّذِى عَلَيْهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، فبيّن تعالى أنّ على الزوج واجبًا نحوَ امرأته, وأنّ على المرأة واجبًا نحو زوجها.
عندما يتصوّر كلٌّ من الزوجين هذه الواجبات أو هذا الواجبَ حقَّ التصور ويؤدّي كلٌّ منهما الواجبَ عليه نحوَ صاحبه, عند هذا تستقيم الحياةُ الزوجيّة, وينتظم البيت, وتعيش الأسرة هناءً وطمأنينةً وسكينة, ويتفرّغ كلٌّ منهما للقيام بالحقّ الواجب عليه.
فالرّجل عندما يتصوّر حقًّا أنّه راعٍ على امرأته والله سائلُه عنها, أنها أمانةٌ عندَه والله سائلُه عن تِلكم الأمانة, أنّ المرأة بمنزلة الأسير عندَه فهو مطالبٌ بواجبِ النّفقة سُكنى وكسوةً وسائر النفقات, ومطلوبٌ منه أن يعاشرها ويعاملَها بالمعروف, حسن خلقٍ ولين جانبٍ وتعاملٌ حسن.
المرأة أيضًا تتصوّر هذا الواقعَ، فتعلم أنّ بعقد النكاح أصبحت تبعًا لزوجِها, وأنّ الواجبَ عليها القيام بحقّه, السمع والطاعةُ له في المعروف, عدمُ المخالفة, القيامُ بالحياة الزوجيّة.
فإذا عرف كلٌّ واجبه, وأدّى كلّ الواجب عليه فإنّ الحياة الزوجيةَ تكون حياة طيبةً مطمئنة, تسودها المحبة والمودّةُ والوئام, وينشأ النشء في ظلّ ذلك التعاون المبارك. وإنما تُصاب الحياة الزوجيّة بما تصاب به عندما يضعف أداء كلٍّ للواجب عليه, فيقصِّر الرجل في حقّ المرأة, يقصّر في كِسوتها, في مسكنِها, في النفقةِ عليها, يسيء عشرتَها, يخاطبها بأسوأ خِطاب, لا يتحمّل خطأها, يعاتِب عند كلّ زلّة, ويعاقب عندَ كلّ هَفوة، فهو لا يعرِف جميلاً, ولا يحتفظ بأعمالٍ طيّبة. وعندما يكون ذلك من المرأة فتسيء الخلقَ, ولا تسمَع ولا تطيع أو غير ذلك, تدخُّل الأهلين من قبَل الزوج أو قبل الزوجة, فإنّ تدخّلَهما وإشعالهما نارَ الفتنة بين الزوجين ممّا يقوِّض سلامةَ البيت وطمأنينته.
أيّها المسلم، إنّ الإسلامَ حريص على انتظام الحياةِ الزوجيّة واستمراريّتها، ولذا أرشد الزوجَ عندما يشعُر من المرأة بتقصير بقوله: وَ?للَّـ?تِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ?هْجُرُوهُنَّ فِى ?لْمَضَاجِعِ وَ?ضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34].
فأمر بالموعظةِ، والذكرى تنفع المؤمنين, يعِظها ويذكّرها الله, ويخوِّفها من عصيان زوجِها, فإن يكن فيها خير وإيمان ردعها إيمانها أن تستمرَ على الخطأ, وهجرَها في الكلام, وهجرها في المضجَع, فعسى الهجر أن يذكّرها ويؤدّبها, وأذن في الأدب بالضرب بلا ضربٍ مبرّح, وإنما أدبٌ يكفي في ذلك، فإن تعذّرتِ الأمور شُرع حكمان يأتيان مِن قبل المرأة والزوج ليقوّما الوضعَ بين الزوجين وأسباب الخلاف وهل يمكن تلافي ذلك الخلاف أما لا؟ كلّ هذا حرص على استمرار النّكاح وعلى انتظام الحياة الزوجية.
أيّها المسلم، إنّ الطلاق في الإسلام لم يأت الحلَّ الأول, وإنما جاء عندما تتعذّر الحلول كلّها, وتبذَل الأسباب ولا تغني شيئًا, فعند ذلك شرَع الله الطلاقَ، أي: أذِن للزّوج فيه.
والطلاق يهدِم البيت, ويشتِّت الأسرة ويفرِّقها, فتبقى المرأة أيِّمًا والأولاد من بنين وبنات ربّما ضاعوا بين قسوةِ أبٍ وعدم قدرة أم, وتلك البليّة العظمى.
أيّها المسلم, عندما أذِن الله في الطلاق إنما أذِن وشرعه للحاجة الملحَّة إلى ذلك, لم يشرَعه محبّةً له, ولكن لأنّ فيه مصلحةً فشرِع ذلك الطلاق, وهذا الطلاق من أبغَض الحلالِ إلى الله كما قال : ((أبغضُ الحلال إلى الله الطلاق)) [1] ، وتوعّد المرأةَ المسلمة حينما تطلب الطلاقَ من زوجها بلا سببٍ يقتضيه, فيروَى أنّه قال: ((أيما امرأةٍ سألت زوجَها الطلاقَ في غير ما بأس فحرامٌ عليها رائحة الجنة)) [2].
ثم هذا الطلاقُ ـ أيها المسلم ـ لم يأتِ فوضويًّا, ولم يُجعل أمرُه لشهوةِ الرجل أو المرأة, بل جاء بنظامٍ دقيق مؤثّر نافع, فهو دواء, والدّواء إنما يستعمَل بقدره فقط، ألا ترى الطبيبَ لو وصَف لك أنواعًا من العِلاج مأكولاً أو مشروبًا، هل تتناولها جرعَةً واحدة وتقول: يكفي؟! لا، لا بدّ له من أوقاتٍ مناسبة، إذًا فالطلاق دواء إنما يستعمل في الحاجة إليه.
ولقد كانوا في الجاهليّة قبل الإسلام يطلّقون طلاقًا فوضويًّا، فيطلّق الرجل المرأةَ في أيّ وقت شاء، فإذا قاربت العدّة راجعها، وربما جمَع لها مئاتٍ من الطلقات، فجاء الإسلام وحدَّ مِن هذه الجاهلية, جعل للطلاق عددًا، وجعل له زمنًا, كلُّ ذلك للتأمل والتفكّر والتبصّر، فعسى الأمر يعود إلى مجاريه.
فأوّلاً: الشارع جعل للطلاق وقتًا، فلم يأذَن للمسلم أن يطلّق متى شاء، لكي يمنع أهلَ الحماقة من حماقاتهم والذين لا يتبصّرون في الأمور أن يوقفَهم عند حدّهم.
فالطلاق في الشريعة إنما هو في وقتٍ مخصّص، وهو أن يطلّقها في طهرٍ عقِب الحيض، أي: في طهرٍ ما جامعها فيه، فإن طلّقها في طهرٍ وطِئها فيه صار بذلك عاصيًا لله؛ لأنّه يحتمَل أنها حامل، فتطول المدّة عليها، وهو أيضًا قد لا يرغبها، لطولِ المدّة عليها، فيكون في ذلك ضررٌ عليه وعليها، فحرّم عليه أن يطلّقها في طهرٍ وطئها فيه. وحرم عليه أن يطلّقها وهي حائض؛ لأنّ الحيض يمنعه من الاستمتاع، فربما انصرفت نفسُه عنها، وفيه أيضًا تطويل المدة عليها.
وحرّم عليه أن يجمعَ ألفاظَ الطلاق بلفظ واحد، بأن يقول لها: هي طالقٌ بالثلاث, سمع النبيّ رجلاً قال لامرأته: أنتِ طالق بالثلاث, فغضب وقال: ((أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!)) حتى قام رجل فقال: أأقتله يا رسول الله؟ [3] دلّ على أنّه ارتكب إثمًا عظيمًا.
ثم إنّ النبيّ منع المسلمَ من أن يتساهلَ ويتلاعبَ بالطلاق, وجعل الطلاقَ نافذًا سواء أكان هازلاً في أدائه, أو كان جادًّا في أدائه، فيقول : ((ثلاثٌ جدّهن جدّ وهزلهن جدّ: النكاح والطلاق والرجعة)) [4]. فلا يحلّ لك أن تطلّق من باب المزاح واللّعب، فإنّ هذا حكم شرعيّ، والله يقول: وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَـ?تِ ?للَّهِ هُزُوًا [البقرة:231].
ثم شرَع له إذا طلّقها الطلقةَ الواحدة أن يتركَها حتى تنقضيَ عدّتها, ولا يجمع لها في الطهر بين طلقتين، فإنّه لا ينفعه ذلك، بل إذا طلّقها وليس له فيها رغبةٌ فبانقضاء عدّتها تكون أجنبيّةً عنه، لا تعود إليه إلا بعقدٍ جديد برضاها؛ لأنها طلقة واحدةٌ انقضت عدّتها, كلّ هذا حتى لا يستغرقَ المسلم ألفاظَ الطلاق, ولا يقع في مشاكل, فإنّه إن طلّقها الطلقةَ الثالثة فلا تحلّ له حتى تنكِح زوجًا غيره نكاحَ رغبةٍ لا نكاح تحليل, كلّ هذه أمور محافظةً على البيت أن ينهدِم على أيدي سفيه.
أيّها المسلم، إنّ عدوَّ الله إبليس يفرح بك في حال غضبك وحماقتك، فيجعل الطلاق نصبَ عينيك، ويلقيه على مسامعك, فإن اتّقيتَ الله وتبّصرت في الأمور لم تطِع عدوَّ الله في مراده, جاء في الحديث: ((إنّ الشيطان ينصب عرشَه على الماء, ويبثّ جنوده فيأتيه الواحدُ ويقول: ما زلتُ بفلان حتى فرّقت بينه وبين أبيه أو بينه وبين أمّه أو أخيه, يقول: ما فعلتَ, يوشِك أن يصالحه. ويأتيه آتٍ ويقول: ما زلتُ بفلان حتى فرّقت بينه وبين امرأته, قال: فيدنيه ويضمّه إليه ويقول: أنتَ وأنت وأنت)) [5]. فعدوّ الله يفرح بالتّفريق بين الزوجين، يفرح بتشتيت الأسرة وتفرّقها.
أيّها المسلم، كن حريصًا على استمرارِ الحياة الزوجيّة.
أيّها الرجل، أنت أقوى عودًا وأشدّ ثباتًا، فإياك وإيّاك أن تعصِفَ بك الريح فتطلّق بلا سببٍ يقتضيه, إيّاك والضجر وقلةَ الصبر ونفادَ الحلم، تأمّل في كلامك قبل أن تقوله, وتدبّر عواقبَ الأمور, وإذا غلَب الغضب عليك فاقعُد من قيام, واضطجِع من قعود, وتوضّأ، وتعوّذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم، واخرج عن المنزل، فعسى الغضب أن يزول وتنقشِع سحائبه.
أيّها الرّجل المسلمُ العاقل، ليس لائقًا بك أن يكونَ الطلاق دائمًا على لسانك, لا تجعله حلَّ المشاكل, فالمشاكل يمكِن حلّها بكلّ سبب, لا تجعَل خصومتك مع الناس وغلطَك مع الآخرين أن تصبّ غضبك على امرأتك, عندما يبدو منها تقصيرٌ في واجب أو عدم قيام بواجب فما أمكن أن تتلافاه فتلافاه, وما أمكن أن تتجاوَزه فتجاوزه, ما دام الدّين سليمًا والعِرض نزيهًا والشّرف محافظًا عليه, فبقيّة الأمور يمكن الصبر عليها, ويمكن تداركها, ويمكن إصلاحها, أمّا العجلة في أمرِ الطّلاق على أتفهِ الأسباب وأحقَر الأسباب فهذا غير لائق بالرجل العاقل ذي العقل الرزين والرأي السليم.
أيّها المسلم، لا بدَ من صبر، ولا بدّ من تحمّل، ولا بدّ من تصوّرٍ للمآل بعد الطلاق, أمّا إذا كان الإنسان لا يبالي, ضعفٌ في الإيمان, قلّةٌ في الصبر، نفادٌ في الحلم, فإنّه يهدِم بيته في لحظةٍ من اللحظات.
أيّها المسلم، إنّ الطلاقَ شرِع لتخليصِ الرّجل من عدَم ملائمة المرأة أو تخليصِ المرأة من عدم ملائمة الرّجل, لكن ما أمكن تداركُه والصبر عليه فالمطلوبُ من الزوجين السّعيُ في لمّ الشّعث وتدارك الأخطاء.
ثمّ أهل الرجل وأهل المرأة عليهم أيضًا واجبٌ أن يبذلاه حتى لا تقَع المشاكل, فينصح أهلُ المرأةِ المرأة, ويوصوها بالصبر وعدم الضجر, وينصح أهلُ الرّجل الرجلَ، فيوصونه بالصبر والثبات, فإذا تعاون الجميع على الخير أمكن استمرارُ الحياة الزوجية على أطيب الأحوال.
أيّها المسلم، بعضُ الرجال يمارس ضغوطًا على المرأة حتى بعد الطلاق لينتقِم منها, فيتّخذ من الضغوط الأولادَ أوّلاً, ربما لا يمكِّنهم من رؤية أمّهم, وربما يتركُهم فلا يرعاهم ولا ينفِق عليهم فيضيعون, إمّا أن يأخذَهم عنده فيعامَلون غيرَ معاملة الرّفق واللين, وإمّا أن يتركَهم عند أمّهم فلا يرعاهم ولا ينفِق عليهم. وقد تتعصّب الأمّ أيضا على زوجها فتنتقم منه فتمنَع أولادَه من الذّهاب إلى أبيهم، كلّ هذه الأغلاط والأخطاء ينبغي تلافيها وتداركُها، وأن لا نتّخذ من الطلاق وسيلةَ انتقام وبطشٍ بالآخرين وإلحاق الضّرَر بالآخرين.
فلنتَّقِ الله في أنفسنا, ربّنا جلّ وعلا أمر الزوجَ إذا طلّق أن يتركَ المرأة في المنزل مدّةَ العدّة لعل الله أن يحدِث بعد ذلك أمرًا، لعله أن يندمَ ولعلّها أن تندم، جعل الطّلاق مراحل: أولى ثم ثانية ثم ثالثة.
أولى فإن يكُن من المرأة الخطأ ندِمت أو مِن الرجل، ثم الثانية, فإذا طلّقها الثالثة علِم أنّ الحياة الزوجيّةَ لا يمكن استمرارها واستقرارُها.
فعلى الجميع لزومُ حدود الله والوقوف عندها؛ لأنّ الله يقول: وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1].
فلنتَّق الله في طلاقِنا, لا من حيثُ الزمن, ولا من حيثُ العدد, ولا من حيث الإقدامُ عليه إلا بعدَ تعذّر كلّ وسيلةٍ يمكن أن نستعمِلها حتى لا نلجأ إلى الطلاق ولا نجعله الحلَّ لمشاكلنا.
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والهداية والعون على كلّ خير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يأيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ?لنّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ ?لْعِدَّةَ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَـ?حِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ?للَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1].
[1] أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: في كراهية الطلاق (2178)، وابن ماجه في الطلاق، باب: حدثنا سويد بن سعيد (2018) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأعلّ بالإرسال، لذا ضعفه الألباني في الإرواء (2040).
[2] أخرجه أحمد (5/277، 283)، وأبو داود في الطلاق، باب: في الخلع (2226)، والترمذي في الطلاق، باب: ما جاء في المختلعات (1187)، وابن ماجه في الطلاق، باب: كراهية الخلع للمرأة (2055) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (748)، وابن خزيمة كما في الفتح (9/403)، وابن حبان (4184)، والحاكم (2809)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (2035).
[3] أخرجه النسائي في الطلاق، باب: الثلاث المجموعة وما فيه من التغليظ (3401) من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه، وأعله ابن كثير في تفسيره (1/278) بالانقطاع، وقال الحافظ في الفتح (9/362): "رجاله ثقات, لكنّ محمود بن لبيد ولد في عهد النّبيّ ولم يثبت له منه سماع, وإن ذكره بعضهم في الصّحابة فلأجل الرّؤية, وقد ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له عدّة أحاديث ليس فيها شيء صرّح فيه بالسّماع. وقد قال النسائي بعد تخريجه: لا أعلم أحدا رواه غير مخرمة بن بكير ـ يعني ابن الأشج ـ عن أبيه اهـ. ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم في عدة أحاديث، وقد قيل: إنه لم يسمع من أبيه"، وصححه الألباني في غاية المرام (261).
[4] أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: في الطلاق على الهزل (2194)، والترمذي في الطلاق، باب: ما جاء في الجد والهزل في الطلاق (1184)، وابن ماجه في الطلاق، باب: من طلق أو نكح... (2039) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في الإرواء (1826).
[5] أخرجه مسلم في صفة القيامة والجنة والنار، باب: تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس (2813) من حديث جابر رضي الله عنه بمعناه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
وبعد: أيّها المسلمون، يقول الله جلّ وعلا: وَيَئَادَمُ ?سْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ?لْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـ?ذِهِ ?لشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا ?لشَّيْطَـ?نُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَـ?كُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـ?ذِهِ ?لشَّجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ?لْخَـ?لِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ ?لنَّـ?صِحِينَ فَدَلَّـ?هُمَا بِغُرُورٍ [الأعراف:19-22].
أيّها الإخوة، يبيِّن لنا ربّنا جلّ وعلا أنّه أسكنَ أبانا آدمَ وزوجته الجنة, وأباح لهما كلَّ شيء فيها إلاّ شجرة واحدةً عيّنها لهما ونهاهما عن قربانها: وَلاَ تَقْرَبَا هَـ?ذِهِ ?لشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ. هذه شجرةٌ واحدة منِع آدم وزوجتُه من الأكلِ منها، وسائر ثمار الجنة أبيحَت لآدم وزوجتِه, ماذا عمِل عدوّ الله إبليس؟ وسوس لهما وقال لهما: إنّ ربّكما ما نهاكما عن هذه الشجرة إلاّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، فإذا أكلتما منها كنتما من الخالدين دائمًا, وقاسمهما: أقسَم لهما أنه ناصح، فدلاّهما بغرور.
أيّها الإخوة، هكذا الشيطان يعمَل مع بني آدم، يظهِر لهم الشرّ والفساد والبلاءَ في قالَب الإصلاحِ والنصيحة, يزيّن لهم الباطلَ حتى يظنّوه خيرًا, ويقبِّح لهم الخيرَ حتى يظنّوه باطلاً، وهكذا أعوانُ الشّياطين من شياطين الإنس الذين يسعَون في الأرض فسادًا, يُغرون الجهال ويغوونهم ويصدّونهم عن طريق الله المستقيم, يظهرون لهم الباطلَ في قالَب الحق, والشرَّ في قالب الخير, ويظنَّ الجاهل أنّ أولئك محقّون, والله يعلم أنهم مفسدون.
أيّها المسلم، كم من عدوٍّ متربّص بالأمّة ساعٍ في الأرضِ فسادًا، لكنّه يلبس لبوسًا لأجلِ أغراضِه ومطامعه, فقد يكون في قلبه مرض ونفاقٌ وحِقد على الإسلام وأهله، لا يروي غليله ولا يطفئ حقدَه إلا أن يرى بين المسلمين شرًّا, فهو والعياذ لله داعيةُ ضلال وساعٍ في الأرض فسادًا, يأتي لجاهلٍ ولمراهِق غِمر لا يفهم, فيحسِّن له الباطل, يحسِّن له قتلَ الأبرياء وسفكَ الدّماء وإخلالَ الأمن, يقول: هذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, اقتل, ودمّر, واختَر من تقتله وأنت آمر بمعروف أو ناهٍ عن منكر، وقد يأتيه يومًا ويقول له: هذا من كراهية أعداءِ الله وموالاة أولياء الله, وقد يأتيه في صوَر شتى، لكن يعلم الله منه أنّ قصدَه الفساد والإفساد، يقول لهم: افعلوا وأقدموا على إجرامِكم فإنّكم في الجنّة؛ لأنّكم قتلتم الكفارَ والمشركين, فأهل الإسلام المصلّين الصائمين يراهم هذا الخبيث يراهم مجرمين يجب قتلُهم واستئصالهم.
هكذا يحسِّن أعداء الإسلام لمن لا بصيرةَ عنده ولا علم عنده، يحسّنون له الشرَّ كما حسّن الشيطان لأبينا آدم الأكلَ من تلكم الشجرة حتى أهبطه الله إلى الأرض, لكن الله تدارك أبانا آدمَ، فتاب عليه وعفا عنه.
أيّها الشابّ المسلم، فاحذر دعاةَ السوء، احذر دعاةَ السوء ومجالسَ السوء وأرباب السوء، مهما أظهروا لك من الغَيرة على الدين, ومهما قالوا لك من الدّفاع عن الدين, إذا كانوا يأمرونك بقتلِ المسلمين وسفكِ دمائهم وترويعهم والإخلالِ بأمنهم فاعلَم أنهم مجرمون ومفسِدون, المصلِح لا يدعو إلى فتنة, ولا يؤيّد الفتنة, وإنما يدعو إلى الخير ويأمر بالخير بالطرق الشرعية. أمّا سفكُ الدّماء وقتل الأبرياء، سفك الدّماء تدميرُ الأمة إرباكها، فليس هذا من الدّين أبدًا، هذا كلّه من تزيين الشّيطان, لا تطِع أولئك, ولا تنقَد لهم, ولا تطِعهم فيما يقولون وما يظهرون, إنهم أعداؤك وأعداءُ دينك وإن تظاهروا بما يتظاهرون به, فلو كان في القلبِ إيمان وإسلامٌ لاحترموا الدّماء والأموالَ والأعراضَ، إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، وفي الحديث: ((لا يزال المرءُ في فسحةٍ من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)) [1].
فيا أخي المسلم، كيف يستبيح إنسانٌ قتلَ رجل الأمن مثلاً, هذا رجلٌ يدافِع عن دينه ثمّ عن أمّته، فلماذا تسفك دمه؟ لماذا؟ لأنّ هذا الذي خطّط لهذا يرَى أولئك كفّارًا، دماؤهم حلال, وقتلهم واجِب. كلّ هذه من المغالطات، كلّ هذه من دعاة الفتن, من دعاةِ الضلال, من أقوامٍ امتلأت قلوبهم مرضًا وحِقدًا على الإسلام وأهله.
فاتّقوا الله يا شباب الإسلام، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوةُ إلى الله وإلى دينه أمرٌ مطلوب شرعًا, لكن بالطرق الشرعيّة المأذون بها, بالأمر بالمعروف في حدوده, والدعوة إلى الله بوسائلها, أمّا أن نتّخذ من سفك الدماء وترويع الآمنين أن نتخذها وسيلةً ندّعي أن هذا دعوة وأنّ هذا إصلاح، هذا ليس بالإصلاحِ أبدًا, وهذا منافٍ للإصلاح وبعيدٌ كلَّ البعد عنه.
فلنتَّق الله في أنفسنا، ولنتَّق الله في أمننا وأمنِ مجتمعنا، ولنحرص على التناصح والتعاون فيما بيننا في سبيل ما يقلّص هذه الجريمة, ويقطع دابرها, فكلٌّ منا مسؤول عن واجبه نحوَ أمّته, والنبيّ يقول لنا: ((لعنَ الله من آوى محدِثًا)) [2]. فالمحدِث الفاجرُ الظالم لا يجوز إيواؤه، ولا يجوز التستّر عليه؛ لأنه والعياذ بالله إذا ترِك واستمرّ على إجرامه وفساده فضرره ليس على فئة معيّنة, ضررُه عليك وعلى فلان وعلى أهلِك وعلى مجتمعك.
فلنتَّق الله في أنفسنا، ولا نطِع أعداءنا ولا نطِع من في قلبه مرض على الإسلام وأهله، فأمننا نحن جميعًا مسؤولون عنه, نرجو الله أن يحفظه من كلّ سوء, وأن يعيذنا من شرورِ أنفسنا ومن ذنوبِنا أن لا تكون جُندًا علينا, نسأل الله السلامةَ والثبات, ولا شكّ أن ما أصاب العبادَ فبذنوبهم، وما ربّك بظلاّم للعبيد.
واعلموا ـ رحمَكم الله ـ أنّ أحسَنَ الحديثِ كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجمَاعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحِمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك مُحمّد, وارْضَ اللهمَّ عن خلفائِه الرّاشدين...
[1] أخرجه البخاري في الديات، باب: قول الله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا (6862) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] أخرجه مسلم في الأضاحي، باب: تحريم الذبح لغير الله... (1978) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(1/2872)
حقيقة العطاء
التوحيد
الربوبية
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
24/6/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غفلة الناس عن معرفة حقيقةِ العطاء. 2- فقه السلف لحقيقة العطاء. 3- حكمة الله تعالى في المنع. 4- النهي عن النظر إلى زهرة الحياة الدنيا. 5- المراد بذمّ الدنيا في الكتاب والسنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتّقوا الله حقَّ التقوى، وراقِبوه فإنّه سبحانه يعلم السّرَّ وأخفى، ولا تغرّنّكم الحياة الدنيا, ولا يغرّنَّكم بالله الغرور.
أيّها المسلمون، في غمرةِ السعيِ إلى إدراك المنى وبلوغ الآمال والظفَر بالرّغائب يغفل أو يتغافل فريقٌ من النّاس أنّ عاقبةَ هذا السعي لن تكون وفقَ ما يأمُل على الدّوام، ولذا فإنّه حين يقَع له بعضُ حرمانٍ ممّا يحبّ، وحين يُحال بينه وبين ما يشتهي تَضيق عليه الأرضُ بما رحُبت، وتضيق عليه نفسه, ويُزايِله رشدُه، فيُفضي به ذلك إلى التردّي في وَهدَة الجحود لنعمِ الله السابغة ومننِه السّالفة، فيصبِح ويمسي مثقَلاً بالهموم, مضطربَ النّفس, لا يهنأ له عيشٌ ولا تطيب له حال.
وإنّ الباعث على هذا ـ أيّها الإخوة ـ هو الخطأ في معرفة حقيقةِ العطاء وحقيقة المنع, وتصوّرُ أنّهما ضدّان لا يجتمعان, ونقيضان لا يلتقيان.
من أجل ذلك كان للسّلف رضوان الله عليهم في هذا البابِ وقفاتٌ محكمات لبيان الحقّ والدّلالة على الرّشد والهداية إلى الصّواب، فقد نقل الإمام سفيان الثوري رحمه الله عن بعض السلف قولَه: "إنّ منعَ الله عبدَه من بعض محبوباته هو عطاءٌ منه له؛ لأنّ الله تعالى لم يمنعه منها بخلاً، وإنما منعه لطفًا". يريد بذلك أنّ ما يمنّ الله به على عبده من عطاءٍ لا يكون في صورةٍ واحدةٍ دائمةٍ لا تتبدّل, وهي صورة الإنعام بألوانِ النّعم التي يُحبّها ويدأبُ في طلبها، وإنما يكون عطاؤه سبحانه إلى جانِب ذلك أيضًا في صورةِ المنع والحَجب لهذه المحبوبات؛ لأنّه وهو الكريم الذي لا غايةَ لكرمه ولا منتهى لجودِه وإحسانه, وهو الذي لا تعدِل الدنيا عنده جناحَ بعوضة كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي في جامعه بإسنادٍ صحيح عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، عن النبيّ أنه قال: ((لو كانت الدنيا تعدِل عند الله جناحَ بعوضة ما سقى كافرًا مِنها شربةَ ماء)) [1].
إنّه سبحانه لم يكن ليمنعَ أحدًا من خلقه شيئًا من الدّنيا إلاّ لحكمةٍ بالغةٍ وتقديرٍ عليم ومصالحَ قد تخفى على أكثرِ الناس، يدلّ لذلك قوله في الحديث الذي أخرجه الترمذيّ في جامعه وابن حبّان في صحيحه بإسنادٍ صحيح عن قتادة بن النّعمان رضي الله عنه، عن النبيّ أنّه قال: ((إنّ الله إذا أحبَّ عبدًا حماه عن الدّنيا كما يظَلّ أحدكم يحمي سقيمَه الماء)) [2] ، وفي روايةٍ للحاكم في مستدركه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبيّ قال: ((إنّ الله تعالى ليحمِي عبدَه المؤمن وهو يُحبّه, كما تَحْمُون مريضَكم الطعامَ والشراب تخافون عليه)) [3].
ويشهد لهذا أيضًا ـ كما قال العلامة الحافظ ابن رجب رحمه الله [4] ـ أنّ الله عزّ وجلّ حرَّم على عباده أشياء من فضول شهوات الدنيا وزينتِها وبهجتها حيث لم يكونوا محتاجين إليه, وادَّخرَه لهم عندَه في الآخرة، وقد وقعتِ الإشارة إلى هذا بقوله عزّ وجلّ: وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ?لنَّاسُ أُمَّةً و?حِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِ?لرَّحْمَـ?نِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْو?بًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـ?عُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].
وصحّ عن النبيّ أنه قال: ((من لبِس الحريرَ في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)) أخرجه الشيخان في صحيحيهما [5].
وفي الصحيحين أيضًا من حديث حذيفة رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((لا تلبَسوا الحريرَ ولا الديباج, ولا تشرَبوا في آنيةِ الذهب والفضّة, ولا تأكلوا في صحافِها, فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)) [6].
وأخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النبي قال: ((من شرِب الخمرَ في الدنيا لم يشربها في الآخرة)) [7]. هذا مع أنّه شتّان بين خمرٍ لذّةٍ للشاربين, لا يُصدَّعون عنها ولا يُنزِفون, وتلك هي خمر الآخرة، وبين خمرةٍ هي رجسٌ من عمَل الشيطان، يريد أن يوقع بها العداوة والبغضاءَ بين المؤمنين, ويصدّهم بها عن ذكر الله وعن الصلاة, وتلك هي خمر الدنيا.
وأخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد بإسنادِه عن أمير المؤمنين عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه أنّه قال: (لولا أن تنقُص حسناتي لخالطتكم في ليِّن عيشِكم, لكني سمعتُ الله عيَّر قومًا فقال: أذهبتم طَيّبَـ?تِكُمْ فِى حَيَـ?تِكُمُ ?لدُّنْيَا وَ?سْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ) [8].
وإنّ الواقعَ الذي يعيشه كلّ امرئٍ في حياته ليقيم الأدلة البينة والبراهين الواضحة على صدق وصحّةِ هذا الذي نقله سفيان رحمه الله، فكم من مُؤمّلٍ ما لو بلِّغ أملَه لكانت عاقبة أمره خُسرًا, ونهاية سعيِه حَسْرةً وندَمًا، وكم من حريصٍ على ما لو ظفِرَ بما أراد لأعقبَه ظَفَرُه هزيمةً يجرّ أذيالها ويتجرّع مرارتها, ولذا وجه سبحانه الأنظارَ إلى حقيقة أنّ المرء كثيرًا ما يُحبّ من حظوظ الدنيا ما هو شرٌّ له ووبال عليه, ويكره منها ما هو خيرٌ له وأجدرُ به، فقال عزّ اسمه: كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
ونهى سبحانه نبيَّه صلوات الله وسلامه عليه عن النظر إلى ما مُتِّع به المترَفون ونظراؤهم من النّعيم، مبيِّنًا له أنّه زهرة ذابلة ومتعة ذاوية, امتحنهم بها وقليلٌ منهم الشّكور, فقال تبارك وتعالى: وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى? مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْو?جًا مّنْهُمْ زَهْرَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [طه:131].
وإذًا فليس بِدعًا ـ أيّها الإخوة ـ أن يكونَ منعُ الله الإنسانَ من بعض محبوباتِه عطاءً منه له؛ لأنّه منعُ حفظٍ وصيانةٍ وحماية, وليس منعَ حجبٍ أو بُخلٍ أو حِرمان.
وصدق الله إذ يقول: ?عْلَمُواْ أَنَّمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ?لأَمْو?لِ وَ?لأَوْلَـ?دِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ?لْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ?للَّهِ وَرِضْو?نٌ وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [الحديد:20].
نفعني الله وإيّاكم بهدي كتابه وبسنّة نبيّه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن الترمذي: كتاب الزهد, باب: ما جاء في هوان الدنيا على الله (2320)، وأخرجه أيضا ابن ماجه في الزهد، باب: مثل الدنيا (4110)، والطبراني في الكبير (6/157)، وأبو نعيم في الحلية (3/253)، والبيهقي في الشعب (7/325)، وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (7847)، وصححه الألباني بمجموع طرقه انظر: السلسلة الصحيحة (686، 943).
[2] سنن الترمذي: كتاب الطب, باب: ما جاء في الحمية (2036), صحيح ابن حبان (الإحسان:2/443)، وأخرجه أيضا ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1957)، والطبراني في الكبير (19/12)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (7464)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1659).
[3] المستدرك (7465) وصحح إسناده.
[4] جامع العلوم والحكم (ص294).
[5] صحيح البخاري: كتاب اللباس, باب: لبس الحرير... (5832), صحيح مسلم: كتاب اللباس والزينة, باب: تحريم استعمال إناء الذهب...(2073) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[6] صحيح البخاري: كتاب الأطعمة, باب: الأكل في إناء مفضض (5426), صحيح مسلم: كتاب اللباس والزينة, باب: تحريم استعمال إناء الذهب... (2067).
[7] صحيح البخاري: كتاب الأشربة, باب: قوله تعالى: إنما الخمر والميسر... (5575), صحيح مسلم: كتاب الأشربة, باب: عقوبة من شرب الخمر (2003).
[8] أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/280).
_________
الخطبة الثانية
_________
إنّ الحمدَ لله نحمده ونستعينُه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضلّ له، ومن يضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، لقد بيّن أهل العلم أنّ الذمَّ الواردَ في الكتاب والسنة للدّنيا ليس راجعًا إلى زمانِها الذي هو اللّيل والنهار المتعاقبان إلى يومِ القيامة، فإنّ الله جعلهما خِلفةً لمن أراد أن يذكَّر أو أراد شكورًا، وعن عيسى عليه السلام أنّه قال: (إنّ هذا الليلَ والنهار خِزانتان، فانظروا ما تضعون فيهما) [1].
وليس الذمّ أيضًا راجعًا إلى مكانِ الدنيا الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم مِهادًا وسكنًا, ولا إلى ما أودَعه الله فيها من الجبال والبِحار والأنهار والمعادِن, ولا إلى ما أنبتَه فيها من الزُّروع والأشجارِ, ولا إلى ما بثّ فيها من الحيوان وغير ذلك، فإنّ ذلك كلَّه من نعمةِ الله على عباده بما جعل لهم فيه من المنافع وما لهم به من اعتبارٍ واستدلالٍ على وحدانيّة خالقه وقدرتِه وعظمَته.
وإنما الذمُّ الوارد لها راجعٌ إلى أفعال بني آدم فيها؛ لأنّ غالبَ هذه الأفعال واقعٌ على غير الوجه الذي تُحمَد عاقبته, وتؤمَن مغبّته, وترجَى منفعتُه.
فاتّقوا الله عبادَ الله, وابتغوا فيما آتاكم الله الدارَ الآخرة, ولا تنسَوا نصيبكم من الدنيا، واذكروا على الدّوام أنّ الله تعالى قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام في أصدق الكلام: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...
[1] أخرجه البيهقي في الزهد الكبير (2/295).
(1/2873)
عظم الإخلاص وخطر الرياء
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
24/6/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الإخلاص. 2- فوائد الإخلاص ومنافعه. 3- فضل النية الصالحة. 4- خطر الرياء وعاقبته. 5- تصحيح بعض المفاهيم في باب الإخلاص. 6- أسباب حفظ العمل من الرياء والعجب. 7- من علامات الإخلاص وأماراته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ عباد الله ـ حقّ التقوى، فالعزّ في طاعة المولى، والذلّ في اتّباع الهوى.
أيّها المسلمون، القلوب لا تطمئنّ إلا بالله، وغِنى العبد بطاعةِ ربّه والإقبال عليه، ودينُ الحقّ هو تحقيقُ العبوديّة لله، وكثيرًا ما يخالط النفوسَ من الشهوات الخفيّة ما يفسِد تحقيقَ عبوديّتها لله، وإخلاصُ الأعمال لله أصل الدين، ولذلك أمر الله رسولَه بالإخلاص في قوله: فَ?عْبُدِ ?للَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ ?لدّينِ [الزمر: 2]، وأمِر النبيّ أن يبيِّن أنّ عبادتَه قائمة على الإخلاص فقال له: قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ?للَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ ?لدّينَ [الزمر:11].
وبذلك أمِرت جميع الأمَم قال جلّ وعلا: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَذَلِكَ دِينُ ?لقَيّمَةِ [البينة:5].
وأحقّ النّاسِ بشفاعةِ النبيّ يومَ القيامة من كان أخلصَهم لله, قال أبو هريرة رضي الله عنه: مَن أسعد النّاس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: ((مَن قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه)) رواه البخاري [1].
والإخلاص مانعٌ بإذن الله من تسلّط الشيطان على العبد, قال سبحانه عن إبليس: فَبِعِزَّتِكَ لأغوينهم أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ?لْمُخْلَصِينَ [ص:82، 83]، والمخلِص محفوظٌ بحفظ الله من العصيانِ والمكاره، قال سبحانه عن يوسفَ عليه السلام: كَذ?لِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ?لسُّوء وَ?لْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ?لْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].
به رِفعة الدرجات وطَرق أبوابِ الخيرات، يقول المصطفى : ((إنك لن تُخلَّف فتعملَ عملاً تبتغي به وجهَ الله إلا ازدَدتَ به درجةً ورفعة)) متفق عليه [2]. وإذا قوِي الإخلاص لله علَت منزلة العبدِ عند ربّه، يقول بكر المزني: "ما سبقَنا أبو بكر الصدّيق بكثير صلاةٍ ولا صيام, ولكنّه الإيمان وقَر في قلبه والنّصحُ لخلقه". وهو سببٌ لتفريج الكروبِ, ولم ينجِّ ذا النون سوى إخلاصه لمعبودِه: لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:87].
المخلصُ لربّه مجابُ الدعوة, يقول النبيّ : ((انطلقَ ثلاثة نفرٍ ممّن كان قبلَكم حتى آواهم المبيتُ إلى غار فدخلوه, فانحدرت صخرةٌ من الجبل فسدّت عليهم الغار، فقالوا: إنّه لا ينجّيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال كلّ واحدٍ منهم متوسّلاً إلى الله بصالح عملِه وإخلاصِه: اللهمّ إن كنتَ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك ففرّج عنّا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجَت فخرجوا يمشون)) متفق عليه [3].
بتجريدِ الإخلاصِ تزول أحقادُ القلوب وضغائن الصدور، يقول النبيّ : ((ثلاثٌ لا يغلّ عليهنّ قلبُ مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحةُ ولاة الأمر، ولزوم جماعةِ المسلمين)) رواه أحمد [4].
والإخلاصُ شرطٌ في قَبول توبة المنافق، قال عزّ وجلّ: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ فِى ?لدَّرْكِ ?لأسْفَلِ مِنَ ?لنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلاَّ ?لَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَ?عْتَصَمُواْ بِ?للَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لْمُؤْمِنِينَ [النساء:145، 146].
في الإخلاصِ طمأنينة القلب وشعورٌ بالسّعادة وراحَةٌ من ذلّ الخلق، يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: "مَن عرف الناس استراح"، أي: أنهم لا ينفعونه ولا يضرّونه.
وكلّ عملٍ لم يقصَد به وجه الله طاقة مهدَرَة وسراب يضمحِلّ، وصاحبه لا للدنيا جمَع ولا للآخرة ارتفَع، يقول النبيّ : ((إنّ الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا, وابتُغِي به وجهه)) رواه النسائي [5].
وإخلاص العملِ لله وخلوصُ النية له وصوابه أصلٌ في قبول الطاعات، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (لا ينفع قولٌ وعمل إلا بنيّة، ولا ينفع قولٌ وعملٌ ونيّة إلا بما وافق السنة) [6].
والإخلاصُ أن تكونَ نيّتك لله لا تريد غيرَ الله، لا سمعةً ولا رياء ولا رِفعة عند أحدٍ ولا تزلّفًا، ولا تترقّب من الناس مدحًا، ولا تخشى منهم قَدحا، والله سبحانه غنيّ حميد، لا يرضى أن يشرِك العبد معه غيرَه، فإن أبى العبد إلا ذلك ردّ الله عليه عملَه، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: ((قال الله عزّ وجلّ: أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركتُه وشركَه)) رواه مسلم [7].
أيّها المسلمون، العمل الصّالح وإن كان كثيرًا مَع فسادِ النيّة يورِد صاحبَه المهالك، فقد أخبر الله عزّ وجلّ عن المنافقين أنهم يصلّون وينفقون ويقاتِلون، وأخبر النبيّ عنهم أنهم يتلون كتابَ الله في قوله: ((ومثل المنافقِ الذي يقرأ القرآن كالرّيحانة ريحها طيّب وطعمُها مرّ)) متفق عليه [8]. ولفَقدِ صدقِهم في إخلاصهم قال الله عنهم: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ فِى ?لدَّرْكِ ?لأسْفَلِ مِنَ ?لنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145]، ((وأول من تسعَّر بهم النار يوم القيامة قارئ القرآن والمجاهدُ والمتصدّق بماله, الذين لم تكن أعمالهم خالصةً لله، وإنما فعلوا ذلك ليقال: فلانٌ قارئ، وفلان شجاع، وفلانٌ متصدِّق)) رواه مسلم [9].
والعملُ وإن كان يسيرًا يتضاعف بحُسن النيّة والصدقِ والإخلاص، ويكون سببًا في دخول الجنات, يقول النبي : ((مرّ رجل بغُصن شجرة على ظهر طريق، فقال: والله، لأنحيَّنَّ هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأدخِل الجنة)) رواه مسلم، ((وامرأة بغيّ رأت كلبًا يطيف بركيّة كادَ يقتله العطش، فسقته بموقها ماءً فغفر الله لها)) متفق عليه [10] ، يقول عبد الله بن المبارك: "رُبّ عملٍ صغيرٍ تعظّمه النية، وربّ عملٍ كبيرٍ تصغّره النية" [11] ، قال ابن كثير رحمه الله في قوله: و?للَّهُ يُضَـ?عِفُ لِمَن يَشَاء [البقرة:261] "أي: بحسب إخلاصه في عمله" [12].
والواجبُ على العبدِ كثرة الصالحات مع إخلاصِ النيات، فكن سبّاقًا لكلّ عملٍ صالح، ولا تحقرنَّ أيَّ عملٍ تخلِص نيتَك فيه، فلا تعلم أيَّ عملٍ يكون سببًا لدخولك الجنات، ولا تستخفَّنَّ بأيّ معصية فقد تكون سببًا في دخولك النار، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((دخلتِ امرأة النارَ في هرّةٍ حبستها، لا هيَ أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاشِ الأرض)) متفق عليه [13].
والله جلّ وعلا متّصِف بالحمد والكرم، وإذا أحسنَ العبد القصدَ ولم تتهيّأ له أسباب العمل فإنّه يؤجَر على تلك النية وإن لم يعمل, كرَمًا من الله وفضلاً، يقول عليه الصلاة والسلام: ((مَن سأل الله الشهادةَ بصدقٍ بلّغه الله منازلَ الشهداء وإن مات على فراشه)) رواه مسلم [14] ، ويقول النبي عن الرّجل الذي لا مالَ عنده وينوي الصّدقة: لو أنّ لي مالاً لعملتُ بعمل فلان، قال: ((فهو بنيّته)) رواه الترمذي [15] ، بل إن الهمَّ بعملٍ صالح يؤجَر عليه العبد وإن تخلَّف العمل، قال عليه الصلاة والسلام: ((من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عندَه حسنةً كاملة)) متفق عليه [16].
والمسلم يجعل نيتَه صادقةً في كلّ خير، يقول عمر رضي الله عنه: (أفضلُ الأعمال صدقُ النيّة فيما عند الله, فإن صدَّق العمل النيةَ فذاك، وإن حِيل بين العمل والنية فلك ما نويتَ، ومن سرّه أن يكمُل له عملُه فليحسِن النية, فإنّ الله يأجر العبدَ إذا حسُنت نيته حتى بإطعامِ زوجته).
أيّها المسلمون، إذا قوِي الإخلاصُ وعظُمت النيّة وأخفِي العمل الصالح مما يشرَع فيه الإخفاء قرُب العبد من ربّه وأظلّه تحتَ ظلّ عرشه، يقول المصطفى : ((سبعةٌ يظلهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه ـ وذكر منها: ـ رجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلمَ شماله ما تنفِق يمينه)) رواه مسلم [17]. وكلّما أخفِي العمل كان أقربَ إلى الإخلاص، قال جلّ وعلا: إِن تُبْدُواْ ?لصَّدَقَـ?تِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ?لْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [البقرة:271]. يقول بِشر بن الحارث: "لا تعمَل لتُذكَر، اكتُم الحسنةَ كما تكتم السيئة" [18].
وفُضِّلت نافِلة الليل على نافلة النّهار واستغفارُ السّحر على غيره، لأنّ ذلك أبلغ في الإسرار وأقربُ إلى الإخلاص.
وعلى العبدِ الصبر عن نقلِ الطاعة من ديوان السّرّ إلى ديوان العلانية, وإذا أخلصتَ في العمل ثمّ أثنى عليك الخلقُ وأنت غيرُ متطلِّع إلى مدحِهم فليس هذا من الرياء، إنما الرياءُ أن تزيّن عملَك من أجلهم، سُئل النبيّ عن الرّجل يعمَل العمل من الخير يحمدُه الناس عليه، فقال: ((تِلك عاجِل بشرى المؤمِن)) رواه مسلم [19].
ومّن كان يعمل صالحًا ثمّ اطّلع الخلق على عملِه فأحجم عن الاستمرار في تلك الطاعة ظنًّا منه أنّ فعلَه بحضرتهم رياءٌ فذلك من حبائل الشيطان، فامضٍ على فعلِك, يقول الفضيل بن عياض: "تركُ العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شِرك، والإخلاص أن يعافيَك الله منهما" [20].
وبعضُ النّاس يظنّ أنّ الإخلاصَ مقصور على الصّلاة والصّدقة والحجّ دون غيرها من الأوامر، ومِن رحمة الله ورأفته بعبادِه أنّ الإخلاص يُستصحَب في جميع العبادات والمعاملات، ليُثابَ العبد على جميع حركاتِه وسكناته, فزيارة الجارِ وصلةُ الرحم وبرّ الوالدين هي مع الإخلاص عبادَة، وفي جانب المعاملات من الصّدق في البيع والشراء وحسنِ عشرة الزوجَة والاحتساب في إحسان تربية الأبناء كلّ ذلك مع الإخلاص يُجازَى عليه بالإحسان، يقول النبيّ : ((ولستَ تنفِق نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلا أجِرت عليها، حتى اللقمة تضعُها في في امرأتِك)) متفق عليه [21] ، قال شيخ الإسلام: "من عبَد الله وأحسَن إلى الناس فهذا قائمٌ بحقوق الله وحقّ عبادِ الله في إخلاصِ الدّين له، ومن طلب من العِباد العوضَ ثناءً أو دُعاءً أو غير ذلك لم يكن محسنًا إليهم لله" [22].
أيّها المسلمون، الإخلاص عزيز، والنّاس يتفاضلون فيه تفاضلاً كبيرًا، ولدفعِ عوارضِه من آفةِ الرّياء والعُجب بالعمل الجأ إلى الله دومًا بالدّعاء أن تكونَ من عباده المخلَصين، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلّبها كيف يشاء، وكان أكثر دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اللهمّ اجعل عملي كلَّه صالحًا، واجعله لوجهِك خالصًا، ولا تجعل لأحدٍ فيه شيئًا) [23].
وأكثِر مِن مطالعة أخبار أهلِ الصدق والإخلاص، واقرَأ سيَر الصالحين الأسلاف، واحتَقِر كلّ عملٍ صالح تقدّمه، وكن خائفًا مِن عدم قبوله أو حبوطِه، فليس الشأن الإتيانَ بالطاعات فحسب, إنما الشأن في حفظها ممّا يبطِلها.
ومِن حفظِ العمل عدمُ العجب وعدم الفخر به, فازهَد في المدح والثناءِ، فليس أحدٌ ينفَع مدحُه ويضرُّ ذمّه إلا الله, والموفَّق من لا يتأثّر بثناء الناس، وإذا سمِع ثناءً لم يزِده ذلك إلا تواضعًا وخشية من الله، وأيقِن أنّ مدحَ الناس لك فتنة، فادعُ ربَّك أن ينجّيَك من تلك الفتنة، واستشعِر عظمةَ الله وضعفَ المخلوقين وعجزَهم وفقرهم، واستصحِب دومًا أنّ الناس لا يملِكون جنّة ولا نارًا، وأنزِل الناسَ منزلة أصحابِ القبور في عدمِ جلبِ النفع لك ودفع الضرّ عنك، والنفوسُ تصلح بتذكّر مصيرها، ومن أيقنَ أنّه يوسَّد في اللّحد فريدًا أدرَك أنّه لن ينفعَه سوى إخلاصِه مع ربّه, وكان من دعاء السّلف: "اللهمّ إنّا نسألك العملَ الصالح وحفظَه".
أيّها المسلمون، ثوبُ الرياء يشفّ ما تحته, يفسِد الطاعةَ ويحبط الثوابَ، وهو من أقبحِ صفاتِ أهلِ النفاق يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142], وهو من أشدِّ الأبواب خفاءً, وصفه ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: (أخفى من دبيبِ النّمل على صفاةٍ سوداء في ظلمَة الليل) [24] ، قال الطيبيّ رحمه الله: "وهو من أضرّ غوائلِ النّفس وبواطن مكائدِها, يبتَلى به المشمِّرون عن ساقِ الجدِّ لسلوكِ طريقِ الآخرة".
والنبيّ خافه على أمّته وحذّرهم منه، قال عليه الصلاة والسلام: ((ألا أخبِركم بما هو أخوفُ عليكم عندي من المسيح الدجال)) ، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((الشركُ الخفي، يقوم الرجل يصلّي، فيزيّن صلاتَه لما يَرى مِن نظر الرّجل إليه)) رواه أحمد [25] ، قال في تيسير العزيز الحميد: "الرّياء أخوفُ على الصالحين من فتنة الدجال".
المرائي مضطربُ القلب مزَعزَع الفكر، لا يُخلِص في عبوديّته ومعاملته, يعمَل لحظّ نفسه تارةً ولطلب الدنيا تارةً ولطلب الرفعة والمنزلةِ عند الخلق تارة. المرائي يفضحه الله ويهتِك سترَه ويظهر خباياه، ضاعت آماله وخابَ سعيه, وعومِل بنقيض قصده, يقول النبي : ((من يُسمّع يسمِّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به)) رواه مسلم [26].
وإن أخفى المرائي كوامنَ نفسه وخفايا صدره أظهرَها الله، يقول النبيّ : ((المتشبِّع بما لم يعطَ كلابِس ثوبي زور)) متفق عليه [27].
فاخشَ على أعمالك من الخسران، فالميزان يومَ الحشر بمثاقيل الذرّ، المنّ والأذى يبطِل البَذل، والرياءُ يحبِط العمل، وإرادةُ الدنيا وثناء الخلق متوعَّد فاعلُه بدخول النار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى? إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَـ?هُكُمْ إِلَـ?هٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـ?لِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف:110].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب العلم، باب: الحرص على الحديث (99).
[2] أخرجه البخاري في الجنائز، باب: رثاء النبي سعد بن أبي وقاص (1296)، ومسلم في الوصية، باب: الوصية بالثلث (1628) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الإجارة، باب: من استأجر أجيرًا فترك الأجير أجره... (2272)، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: قصة أصحاب الغار الثلاثة (2743) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بمعناه.
[4] أخرجه أحمد (5/183)، والدارمي في المقدمة (229)، وابن ماجه في المقدمة (230) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (67، 680)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (404). وجاء أيضا من طريق أنس وابن مسعود وجابر وجبير بن مطعم وأبي الدرداء وأبي سعيد وأبي قرصافة ومعاذ بن جبل وبشير وابنه النعمان رضي الله عنهم.
[5] سنن النسائي: كتاب الجهاد، باب: من غزا يلتمس الأجرَ والذكر (3140) عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير (8/140)، وجوّد إسناده المنذري في الترغيب (1/24)، وابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص16)، وابن حجر في الفتح (6/28)، وهو في صحيح سنن النسائي (2943).
[6] أخرجه ابن أبي الدنيا بإسناد ضعيف، انظر: جامع العلوم والحكم (ص13).
[7] صحيح مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب: من أشرك في عمله غير الله (2985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه البخاري في فضائل القرآن، باب: إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكل به (5059)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضيلة حفظ القرآن (797) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[9] صحيح مسلم: كتاب الإمارة، باب: من قاتل للرياء والسمعة استحق النار (1905) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: حديث الغار (3467)، ومسلم في السلام، باب: فضل سقي البهائم (2245) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] انظر: جامع العلوم والحكم (ص13).
[12] تفسير القرآن العظيم (1/318).
[13] أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (3318)، ومسلم في البر والصلة والآداب، باب: تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان (2619) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[14] صحيح مسلم: كتاب الإمارة، باب: استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى (1909) من حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه.
[15] سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب: ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر (2325) من حديث أبي كبشة الأنصاري رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (4/230، 231)، وابن ماجه في الزهد، باب: النية (4228)، والطبراني في الكبير (22/345)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وهو في صحيح سنن الترمذي (1894).
[16] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: من هم بحسنة أو بسيئة (6491)، ومسلم في الإيمان، باب: إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة (131) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[17] أخرجه البخاري في الزكاة، باب الصدقة باليمين (1423)، ومسلم في الزكاة باب فضل إخفاء الصدقة (1031) من حديث أبي هريرة.
[18] أخرج بعضه أبو نعيم في الحلية (8/346)، وانظر: سير أعلام النبلاء (10/476).
[19] صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب: إذا أثنى على الصالح... (2642) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[20] أخرجه البيهقي في الشعب (5/347).
[21] أخرجه البخاري في الوصايا، باب: أن يترك ورثته أغنياء... (2742)، ومسلم في الوصية، باب: الوصية بالثلث (1628) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[22] مجموع الفتاوى (1/54).
[23] انظر: الاستقامة (2/308)، ومجموع الفتاوى (10/173).
[24] أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (1/58).
[25] مسند أحمد (3/ 30) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأخرجه أيضا ابن ماجه في الزهد، باب: الرياء والسمعة (4204)، والبيهقي في الشعب (5/334)، وصححه الحاكم (7936)، وحسن إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (4/ 237)، والألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3389).
[26] صحيح مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب: من أشرك في عمله غير الله (2987) من حديث جندب العلقي رضي الله عنه.
[27] أخرجه البخاري في النكاح، باب: المتشبع بما لم ينل وما ينهى من افتخار (5219)، ومسلم في اللباس والزينة، باب: النهي عن التزوير في اللباس... (2129) من حديث عائشة رضي الله عنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له عَلى توفيقِه وامتنانه، وأشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهَد أنّ نبيّنا محمّدًا عبدُه ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليما مزيدًا.
أما بعد: أيّها المسلمون، لا أنفعَ للقلب من تجريدِ الإخلاص، ولا أضرَّ عليه من عدمِه، وكلّما قوِي إخلاصُ الدّين لله كمُلت العبوديّة، ومن عرف الناسَ أنزلهم منازلهم, ومن عرَف الله أخلَص له أعماله، وكلّما صحّتِ العزيمة وعظمتِ الهمّة طلب الإنسان معاليَ الأمور, ولم يلتفِت إلى غير الله, ولم ينظُر إلى ما سواه، وليسَ من الرّشَد طلب الآخرة بالرياء, وإيّاك أن تطلب بعملك محمدةَ الناس أو الطّمع بما في أيديهم.
والإخلاصُ يحتاج إلى مجاهدةٍ قبل العمل وأثناءه وبعده، وآفة العبدِ رضاه عن نفسِه، ومن نظر إلى نفسِه بعين الرّضا فقد أهلكها، وأمارةُ الإخلاص استواء المدحِ والذم، والله يحبّ من عبده أن يجعلَ لسانه ناطقًا بالصّدق وقلبَه مملوءًا بالإخلاص وجوارحَه مشغولة بالعبادة.
ثمّ اعلَموا أنَّ الله أمرَكم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال في محكَم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم على نبيّنا محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
(1/2874)
الطمأنينة في الصلاة
الصلاة, قضايا دعوية
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم منزلة الصلاة وفضلها. 2- كيف تكون الصلاة مؤثّرة؟ 3- شرح حديث الرجل الذي أساء صلاته بحضرة النبي. 4- أهمية الرفق في الدعوة والتعليم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، الصلوات الخمسُ أعظم أركانِ الإسلام بعدَ التّوحيد، فهي الركنُ الثاني مِن أركانِ الإسلام, وهي عمودُ الإسلام، وهي الدّالّة على وجودِ إيمانٍ في القلب, فإنّ الإيمانَ اعتقاد وأعمالٌ وأقوال, والصلوات الخمسُ تمثّل ذلك الاعتقادَ الحقيقيَّ, ولذا من ترك هذه الصلاةَ فأنت في شكٍّ مِن سلامةِ دينِه.
وهذه الصلواتُ الخمس تزكّي القلبَ, وتطهِّر النّفس, وتنهَى عن منكراتِ الأخلاق والأعمال, إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]. وهي مشتملةٌ على ذكر الله، وَلَذِكْرُ ?للَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]. فمِن أوّلها إلى آخرِها ما بين تعظيمٍ لله تنزيهٍ لله, وما بين التجاءٍ واضطرار وكمال افتقارٍ إلى ذي العزّة والجلال.
والمصلِّي يناجي ربَّه من حين ما يقول: الله أكبر, فهي إشارةٌ إلى كشفِ الحجابِ بينه وبين ربِّه, فموقفُه في صلاته موقفُ العزّ, موقف الشّرف, موقِف الفضلِ، موقف الخير كلِّه.
هذه الصلواتُ الخمس قرّة عين نبيّكم القائلِ: ((حُبِّب إليَّ من دنياكم النساءُ والطيب, وجعِلت قرّة عيني في الصلاة)) [1] ، وهي راحته وأنسُه، فهو يقول : ((أرِحنا ـ يا بلال ـ بالصلاة)) [2].
ولكن يا أخي, متى تكون هذه الصلاةُ مؤثِّرة؟ ومتى يكتسِب العبد منها تلك الفضائلَ والأعمالَ الجليلة؟ نعم أيّها المسلم, إنما تكون صلاتُه مؤثرةً في نفسه مزكِّية لقلبه مصلحةً لعمله إذا أدّاها بطمأنينة وخشوعٍ أثناء أدائها.
فالمطمئنّ فيها هو الذي ينتفع بها ويتأثَّر بها, أمّا الذي يؤدِّيها صورةً لكنّه لا يطمئنّ, ينقرُها نقرَ الغراب, لا تراه مطمئنًّا في قيامٍ ولا في قراءة ولا في ركوع ولا في سجودٍ ولا في رفع بعد الركوع ولا في جلوسٍ بين السجدتين ولا في التشهد الأخير, وإنما يؤدّيها عادة, وربما استغرقَ في أدائها بضعَ دقائق أو أقلّ. يدخلها ثم يتعَب ويملُّ منها، ويحبّ الفراغَ منها بكلّ ما أمكنه, تلك صلاةٌ لا تؤثِّر عليه شيئًا, ولا يستفيد منها, ولا ينتفِع بها.
أيّها المسلم، فإن أردتَ أن تكونَ صلاتك مؤثّرةً في نفسك مزكّيَة لأخلاقك مطهِّرة لقلبك فاطمئنَّ في أدائها, وتأنَّ في أدائها, واعلَم أنها فرصَة لك تناجِي ربَّك, إيّاك والمللَ منها, إيّاك والضجرَ منها, بل كن محبًّا لهذه الصلاة, مستأنِسًا فيها, تراها الفرصةَ الطيّبة والساعةَ المباركة واللحظاتِ الخيِّرة.
أيّها المسلم، فحاوِل ـ أخي ـ أن تطمئنّ في أداء الصلاة, ولا يستخفنَّك الشيطان فيشغلك بأفكارٍ بعيدة ووساوس, فتؤدّي الصلاةَ بغير الأداءِ الشرعيّ الذي أمَر الله به, وأمر به رسوله.
أيّها المسلم، في الصحيحين [3] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دخل النبيّ المسجدَ فدخل رجلٌ وصلّى، ثم أتى فسلّم على النبيّ ، فقال له النبيّ : ((وعليك السلام، ارجِع فصلِّ، فإنّك لم تصلِّ)) ، رجع فصلّى ثم جاء فسلّم على النبيّ، فقال له: ((ارجع فصلّ، فإنّك لم تصلّ)) ، صلّى ثالثًا ثم جاء، فقال: ((ارجِع فصلّ، فإنّك لم تصلِّ)) ، هو صلّى ظاهرًا, قيام ركوعٌ قيام بعد الركوع سجودٌ جلوسٌ بين السجدتين تشهُّد، ومع هذا فالنبيّ يقول له: ((ارجِع فصلّ، فإنّك لم تصل)) فلمّا تكرّر ثلاث مرّات استيقن الرّجل أنّ هناك نقصًا في الصلاة, لكنه لا يدري ما هذا النقصُ وما محلّ هذا النقصِ وهذا التقصير, فقال مقسِمًا: والذي بعثك بالحقّ ما أحسِن غيرَ هذا فعلّمني، هذا مقدارُ عِلمي، هذه الصلاة التي رأيتَني صليتها هي غايةُ علمي, أظنّ أنّ هذه هي المشروعة، فلمّا تصوَّر الرجل خطأه, وطلب التعليم، واستعدَّ لقبول التعليم، عند ذلك بيّن له أكملُ الخلق عِلمًا وأرفقهم بجاهلٍ وأحسنُهم تعليمًا وتوجيهًا ودعوةً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، فقال له: ((إذا قمتَ إلى الصّلاة فكبّر)) ، لم يزجره, ولم ينتهِره, ولم يسبَّه, ولكنّه أراد أن يعلَم الخطأَ الذي وقع فيه, ثم جاء هذا التعليمُ برفق ولينٍ وحُسن تعليم, وصدق الله: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]، وصدق الله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لانْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
فقال له: ((إذا قمتَ إلى الصّلاة فكبّر)) أي: تكبيرةَ الإحرام التي هي مفتاحُ الصّلاة, وفي الحديث: ((مفتاحُ الصّلاة الطَّهور, وتحريمها التّكبير, وتحليلُها التسليم)) [4] ، فتكبيرة الإحرام أوّل شيء يُدخَل به في الصلاة, ((فكبّر)) فإنّ من لم يؤدِّ تكبيرةَ الإحرام لم تنعقِد صلاته أصلاً.
((ثمّ أقرأ ما تيسَّر معك مِن القرآن)) ، ولا شكّ أن الفاتحةَ هي أولى ما تيسّر, لأنّ الأحاديثَ الصحيحة دالّة على أن أيَّ صلاة لا يقرَأ المصلّي فيها فاتحةَ الكتاب فصلاته باطلةٌ لحديث ((لا صلاةَ لمن لم يقرَأ بفاتحةِ الكتاب)) [5].
ثم قال: ((ثمّ اركع)) ، أي: بعد الفاتحة اركَع لأنّ ما زاد على الفاتحة سنّة ويحافَظ عليها, قال: ((اركَع حتى تطمئنَّ راكعًا)) ، اركَع حتى تطمئنَّ في ركوعك، فتكون حالَ الركوع مطمئنًّا لتقول الذكرَ المشروعَ في الركوع: سبحانَ ربي العظيم, وإن أتيتَ به ثلاثًا فخير, وإن أوصلتَه إلى العشرِ فذاك منتهَى الكمال.
وكان نبيّنا يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم [6] , وربما قالها عشرًا، ويقول: ((سبحانك ربّنا وبحمدك, اللهمّ اغفر لي)) [7] , وكان يركع ركوعًا مطمئنًّا فيه، يضَع يديه على ركبتَيه مطمئنًّا في ركوعِه غيرَ رافع لرأسِه ولا مطأطئَه إلى الأرض [8] , بل ركوعٌ في غاية الاعتدال صلوات الله وسلامه عليه.
((ثمّ ارفع حتى تعدِل قائمًا)) ، أمره بالطمأنينة في الرّفع بعد الركوع، فقال: حتى تعتدلَ راكعًا, أي: تستقيمَ بعد الرفع من الركوع، فلا تصِل الركوع بالسجود, ولكن اطمئنّ واعتدل قائمًا حتى تعودَ العظام إلى مكانها، وكان إذا رفَع رأسَه من الركوع اعتدَل قائمًا يقول الذّكرَ المشروعَ بعد الركوع: ((اللهمّ ربّنا لك الحمد ملءَ السماء وملء الأرض وملءَ ما شئت من شيء بعد, أهلَ الثناء والمجد، أحقّ ما قال العبد وكلّنا لك عبد)) [9] ، يقول أنس: حتى يقول القائل: قد ذهل [10] ، أي: قد نسي.
((ثمّ اسجُد حتى تطمئنَّ ساجدًا)) ، أمره أن يطمئنَّ في سجودِه, والسّجود من أشرفِ أعمال العَبد، وأقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد, والنبيّ قال لنا: ((أمّا الركوعُ فعظِّموا فيه الربَّ, وأمّا السجودُ فأكثِروا فيه من الدعاء، فقَمِنٌ ـ أي: حريٌّ ـ أن يستجابَ لكم)) [11]. فأمره بالطمأنينة في السّجود ليؤدّيَ الذكرَ المشروع: سبحانَ ربي الأعلى، مرّةً أو ثلاثًا والكمالُ عشرًا، وسبحانك ربَّنا وبحمدِك اللهمَّ اغفِر لي. وكان نبيّكم في سجودِه ربما قال: ((اللهمَّ اغفر لي ما أسررتُ وما أعلنت وما أنت أعلم به مني)) [12] ، أو يقول: ((أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتِك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك)) [13]. وكان يأمُر بالاعتدال في السّجود، فكان يجافي عضدَيه عن جنبَيه، وبطنَه عن فخذيه [14] ، ويكون سجوده في غاية الاعتدال والخضوع لله.
ثم قال له: ((ثم ارفَع حتى تعدلَ جالسًا))، أمرَه بالطّمأنينة في الجلسَة بين السجدتين حتى يؤدّيَ الذكرَ المشروع، وكان نبينا يقول بين السجدَتين: ((ربِّ اغفر لي وارحمني واجبُرني وارزُقني وعافني)) ، قال أنس: حتى يقول القائل: قد ذهل [15] ، أي: قد نسي.
ثم أمرَه بالطمأنينة في السّجدة الثانية، ثم قال له: ((ثم افعَل هذا في صلاتِك كلِّها)) ، أي: كلّ قيام وركوعٍ وسجود وقيامٍ بعد الركوع وجلوسٍ بين السجدتين, اطمئنَّ فيها كلِّها؛ لتكونَ الصلاة صلاةً مقبولة مؤثِّرة بتوفيقٍ من الله.
أيّها المسلم، إنّ نبيّنا حذّرنا من الإخلالِ بصلاتنا فقال : ((أشدّ النّاس سرقةً الذي يسرِق من صلاته)) ، قالوا: كيف يسرق من صلاته؟! قال: ((لا يتمّ ركوعَها ولا سجودها)) [16] ، فجعل الذي لا يطمئنّ في الركوع ولا في السجود سارقًا مِن صلاته. قال أبو عبدٍ الأشعري: إنّ النبيّ نظر إلى رجلٍ لا يطمئنّ في ركوعه وينقر سجودَه قال: ((لو ماتَ هذا لمات على غير ملّة محمّد )) [17].
أيّها المسلم، فاطمئنَّ في صلاتك، اطمئنَّ في أدائها, لا تجعَلها أمرًا عاديًّا وكأنّه ثقلٌ ألقيتَه من ظهرك، لا، هي عبادةٌ من أجلِّ العبادات, أحسِن النيةَ في أدائِها, وأخلِص لله في أدائِها, واطمئنَّ فيها, واحمَد الله أن جعلك تحبّ هذه الصلاةَ وترغب في هذه الصلاةِ وتطمئنّ في هذه الصلاة, أدِّها كما أمرك الله, وكما شرع لك رسوله , واحذَر الاستعجالَ بها، احذَر الاستعجال والاستخفاف بها.
أيّها الإمام بالمصلين, اتّق الله فيمن وراءك, فإنّ وراءك المأمومين, فاتَّق الله فيهم, وصلِّ بهم صلاةً تطمئنّ فيها لكي ينالوا الثوابَ العظيم، فإن أسأتَ وأخللتَ بأداء الصلاة فلَهم الأجرُ وعليك الوزرُ والإثم.
فلنتَّق اللهَ في صلاتنا، ولنطمئنَّ فيها, فإنّ الطمأنينةَ في أدائها عنوانُ صدق الإيمان وقوّته، قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون:1، 2]، خشوعُهم نتيجة للطّمأنينة والسّكينة والإقبال على هذه الفريضة بقلبٍ مخلِص محبٍّ لهذه الصلاة، وَ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ?لْخَـ?شِعِينَ ?لَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـ?قُوا رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ ر?جِعُونَ [البقرة:45، 46].
فاطمئنّوا ـ إخواني ـ في صلاتِكم, واسكُنوا في صلاتكم، وأدّوها عن طمأنينةٍ ورغبة فيها وحبّ لها, ولا تستطيلوا وقتَها فإنها ساعاتٌ عظيمَة ولحظاتٌ مباركة.
أسأل الله أن يجعلني وإيّاكم ممن قبِل الله صلاتَه, وتقبّل أعماله, ووفّقه لأدائها كما يرضِي الله ورسولَه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الحشر:7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (3/128، 199، 285)، والنسائي في عشرة النساء (3939، 3940)، وأبو يعلى (3482)، والضياء في المختارة (1737) من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2676)، وجوّد إسناده العراقي كما في فيض القدير (3/371)، وقواه الذهبي في الميزان (2/177)، وصححه الحافظ في الفتح (3/15، 11/345)، وهو في صحيح سنن النسائي (3681).
[2] أخرجه أحمد (5/364)، وأبو داود في كتاب الأدب، باب: في صلاة العتمة (4985) عن رجل من الصحابة بنحوه، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (4171).
[3] صحيح البخاري: كتاب الأذان، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات (757)، صحيح مسلم: كتاب الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (397).
[4] أخرجه أحمد (1/123، 129)، وأبو داود في الطهارة، باب: فرض الوضوء، وفي الصلاة (61، 618)، والترمذي في الطهارة، باب: ما جاء في مفتاح الصلاة الطهور (3)، وابن ماجه في الطهارة، باب: مفتاح الصلاة الطهور (275) من حديث علي رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن"، وصححه القرطبي في تفسيره (1/175)، وحسنه النووي في الخلاصة، ورمز السيوطي لحسنه، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (55، 577). وللحديث شواهد كثيرة.
[5] أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم (756)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (394) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
[6] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل (772) عن حذيفة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم (794، 817)، ومسلم في كتاب الصلاة (484) عن عائشة رضي الله عنها.
[8] أخرجه البخاري في الأذان (828) عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه بمعناه.
[9] أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع (477) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[10] قال أنس رضي الله عنه ذلك في وصف طول قيام النبي بعد الركوع وطول جلوسه بين السجدتين، أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: الطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع، وباب: المكث بين السجدتين (800، 821)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب: اعتدال أركان الصلاة وتخفيفهما (472).
[11] أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب: النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود (479) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[12] أخرجه أحمد (6/147)، والنسائي في التطبيق (1124، 1125) عن عائشة رضي الله عنها، وليس فيه: ((وما أنت أعلم به مني)) ، وصححه الحاكم (807)، وهو في صحيح سنن النسائي (1076، 1077).
[13] أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (486) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[14] مجافاة النبي لعضديه عن جنبيه في السجود ثابت في عدة أحاديث، منها حديث ميمونة رضي الله عنها أخرجه مسلم في الصلاة (497). وأما مجافاة بطنه عن فخذيه فقد دلت على معناه جملة من الأحاديث منها ما أخرجه أبو داود في الصلاة (730)، والبيهقي في الكبرى (2/115) عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: وإذا سجد فرج بين فخذيه، غيرَ حامل بطنه على شيء من فخذيه. انظر: التلخيص الحبير (1/255)، وإرواء الغليل (358).
[15] قال أنس رضي الله عنه ذلك في وصف طول قيام النبي بعد الركوع وطول جلوسه بين السجدتين، أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: الطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع، وباب: المكث بين السجدتين (800، 821)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب: اعتدال أركان الصلاة وتخفيفهما (472).
[16] أخرجه أحمد (5/310)، والدارمي في كتاب الصلاة، باب: في الذي لا يتم الركوع والسجود (1328)، والطبراني في الكبير (3/242) والأوسط (8179)، والبيهقي في الكبرى (2/385) من حديث من حديث أبي قتادة رضي الله عنه, وصححه ابن خزيمة (663)، والحاكم (835)، وقال الهيثمي في المجمع (2/120): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (524).
[17] أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/372، 456)، وأبو يعلى (7184، 7350)، والطبراني في المعجم الكبير (4/115)، والبيهقي في الكبرى (2/89) عن أبي عبد الله الأشعري عن أمراء الأجناد، وصححه ابن خزيمة (665)، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (1/199) والهيثمي في المجمع (2/121)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (528).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عبادَ الله، سيرةُ محمّد في دعوتِه إلى الله وتبصيرِه للجاهِلين وتعلِيمه لهم سيرةٌ مِن أكملِ السيَر وأفضلِها وأحبّها, ذلكم أنّه يرفُق بالجاهل، ويحلم عليه، ويقدِّر جهلَه وعدمَ علمه.
انظر كيفَ عامل ذلك الإنسان الذي رآه يسيء في صلاته, لم ينتهِره, ولم يغلِّظ القولَ عليه, ولم يخاطِبه بجفاءٍ وغلظة, وإنما قال: ((ارجِع فصلّ، فإنّك لم تصلّ)) ، فلمّا استيقَن الرجل الخطأَ عند ذلك واستعدَّ للتعليم علّمه النبيّ الأمر المشروع, ولم يقُل له: أعِد ما مضى من صلاتك, فإنّ ما مضى كان عن جهلٍ وعن عدمِ علم والنبي يقول: ((إنّ الله تجاوز لي عن أمّتي الخطأ والنسيانَ وما استُكرهوا عليه)) [1] ، فما مضى لم يقل: اقضِ هذه الصلاة، ولا: كم يوم أو شهر صلّيتَ؟ إنما علّمه الصلاةَ الحاضرة ليعملَ بها في المستقبَل، وما مضى فعَن جهلٍ وقلّة علمٍ فعفا الله عمّا مضى وسلَف.
أيّها الداعي إلى الله، قد ترى في الجماعةِ مَن هو يخلّ بالصلاة, إمّا لا يطمئنّ, إمّا يسابِق الإمامَ، إلى غير ذلك من المخالفات, فعلِّم الجاهل, واحلم عليه حتى يقبلَ منك التوجيهَ, ويقبَل منك التعليم, ويعلَم أن قصدَك إسعادَه وتخليصَه من الجهل. لا تخاطبْه بخطاب سيّئ, ولا تقُل له قولاً عنيفًا, ولكن ارفق به حتى يقبَل منك وينشرحَ صدره إليك، فالرّفق ما وضِع في شيء إلا زانه، ولا نزِع من شيء إلا شانه، الرفقُ خيرٌ كلّه, وقدوةُ الدعاة إلى الله وقدوةُ الموجِّهين وقدوة العلماء سيّد الأوّلين والآخرين محمّد , فلنتأسَّ به في أقواله وأعماله وتوجيهاته ونصائحه, والله يقول لنا: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
فإن سلكنا هذا المسلكَ بتوفيقٍ من الله استطعنا تعليمَ جاهلنا وتوجيهَه والأخذَ بيده لما فيه الخير, وإن قابلناه بالعنف والإنكار والكراهية وغِلَظ القول فإنّ الناس ينفرون منّا، ولا يقبلون منّا توجيهًا ولا تعليمًا.
فلنقتدِ بنبيّنا، فهو خير قدوة لنا وخير أسوة لنا في كلّ أحوالنا صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
واعلَموا ـ رحمَكم الله ـ أنّ أحسَنَ الحديثِ كِتاب الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمّد ، وشرّ الأمورِ محدثاتُها، وكلّ بدعةٍ ضلالَة، وعَليكم بجمَاعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعَة، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصَلّوا ـ رحِمكم الله ـ عَلى نبيّكم محمّد كمَا أمرَكم بذلك ربّكم، قالَ تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك عَلى عبدِك ورَسولِك مُحمّد, وارْضَ اللهمَّ عن خلفائِه الرّاشدين...
[1] أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب: طلاق المكره والناسي (2043) عن أبي ذر رضي الله عنه، وسنده ضعيف، لكن له شواهد كثيرة عن ابن عباس وثوبان وابن عمر وأبي بكرة وأم الدرداء والحسن مرسلا، ولذا أورده الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1663)، وانظر: الإرواء (82).
(1/2875)
الطمأنينة في الصلاة
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الصلاة, قضايا دعوية
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
24/6/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم منزلة الصلاة وفضلها. 2- كيف تكون الصلاة مؤثّرة؟ 3- شرح حديث الرجل الذي أساء صلاته بحضرة النبي. 4- أهمية الرفق في الدعوة والتعليم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، الصلوات الخمسُ أعظم أركانِ الإسلام بعدَ التّوحيد، فهي الركنُ الثاني مِن أركانِ الإسلام, وهي عمودُ الإسلام، وهي الدّالّة على وجودِ إيمانٍ في القلب, فإنّ الإيمانَ اعتقاد وأعمالٌ وأقوال, والصلوات الخمسُ تمثّل ذلك الاعتقادَ الحقيقيَّ, ولذا من ترك هذه الصلاةَ فأنت في شكٍّ مِن سلامةِ دينِه.
وهذه الصلواتُ الخمس تزكّي القلبَ, وتطهِّر النّفس, وتنهَى عن منكراتِ الأخلاق والأعمال, إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]. وهي مشتملةٌ على ذكر الله، وَلَذِكْرُ ?للَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]. فمِن أوّلها إلى آخرِها ما بين تعظيمٍ لله تنزيهٍ لله, وما بين التجاءٍ واضطرار وكمال افتقارٍ إلى ذي العزّة والجلال.
والمصلِّي يناجي ربَّه من حين ما يقول: الله أكبر, فهي إشارةٌ إلى كشفِ الحجابِ بينه وبين ربِّه, فموقفُه في صلاته موقفُ العزّ, موقف الشّرف, موقِف الفضلِ، موقف الخير كلِّه.
هذه الصلواتُ الخمس قرّة عين نبيّكم القائلِ: ((حُبِّب إليَّ من دنياكم النساءُ والطيب, وجعِلت قرّة عيني في الصلاة)) [1] ، وهي راحته وأنسُه، فهو يقول : ((أرِحنا ـ يا بلال ـ بالصلاة)) [2].
ولكن يا أخي, متى تكون هذه الصلاةُ مؤثِّرة؟ ومتى يكتسِب العبد منها تلك الفضائلَ والأعمالَ الجليلة؟ نعم أيّها المسلم, إنما تكون صلاتُه مؤثرةً في نفسه مزكِّية لقلبه مصلحةً لعمله إذا أدّاها بطمأنينة وخشوعٍ أثناء أدائها.
فالمطمئنّ فيها هو الذي ينتفع بها ويتأثَّر بها, أمّا الذي يؤدِّيها صورةً لكنّه لا يطمئنّ, ينقرُها نقرَ الغراب, لا تراه مطمئنًّا في قيامٍ ولا في قراءة ولا في ركوع ولا في سجودٍ ولا في رفع بعد الركوع ولا في جلوسٍ بين السجدتين ولا في التشهد الأخير, وإنما يؤدّيها عادة, وربما استغرقَ في أدائها بضعَ دقائق أو أقلّ. يدخلها ثم يتعَب ويملُّ منها، ويحبّ الفراغَ منها بكلّ ما أمكنه, تلك صلاةٌ لا تؤثِّر عليه شيئًا, ولا يستفيد منها, ولا ينتفِع بها.
أيّها المسلم، فإن أردتَ أن تكونَ صلاتك مؤثّرةً في نفسك مزكّيَة لأخلاقك مطهِّرة لقلبك فاطمئنَّ في أدائها, وتأنَّ في أدائها, واعلَم أنها فرصَة لك تناجِي ربَّك, إيّاك والمللَ منها, إيّاك والضجرَ منها, بل كن محبًّا لهذه الصلاة, مستأنِسًا فيها, تراها الفرصةَ الطيّبة والساعةَ المباركة واللحظاتِ الخيِّرة.
أيّها المسلم، فحاوِل ـ أخي ـ أن تطمئنّ في أداء الصلاة, ولا يستخفنَّك الشيطان فيشغلك بأفكارٍ بعيدة ووساوس, فتؤدّي الصلاةَ بغير الأداءِ الشرعيّ الذي أمَر الله به, وأمر به رسوله.
أيّها المسلم، في الصحيحين [3] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دخل النبيّ المسجدَ فدخل رجلٌ وصلّى، ثم أتى فسلّم على النبيّ ، فقال له النبيّ : ((وعليك السلام، ارجِع فصلِّ، فإنّك لم تصلِّ)) ، رجع فصلّى ثم جاء فسلّم على النبيّ، فقال له: ((ارجع فصلّ، فإنّك لم تصلّ)) ، صلّى ثالثًا ثم جاء، فقال: ((ارجِع فصلّ، فإنّك لم تصلِّ)) ، هو صلّى ظاهرًا, قيام ركوعٌ قيام بعد الركوع سجودٌ جلوسٌ بين السجدتين تشهُّد، ومع هذا فالنبيّ يقول له: ((ارجِع فصلّ، فإنّك لم تصل)) فلمّا تكرّر ثلاث مرّات استيقن الرّجل أنّ هناك نقصًا في الصلاة, لكنه لا يدري ما هذا النقصُ وما محلّ هذا النقصِ وهذا التقصير, فقال مقسِمًا: والذي بعثك بالحقّ ما أحسِن غيرَ هذا فعلّمني، هذا مقدارُ عِلمي، هذه الصلاة التي رأيتَني صليتها هي غايةُ علمي, أظنّ أنّ هذه هي المشروعة، فلمّا تصوَّر الرجل خطأه, وطلب التعليم، واستعدَّ لقبول التعليم، عند ذلك بيّن له أكملُ الخلق عِلمًا وأرفقهم بجاهلٍ وأحسنُهم تعليمًا وتوجيهًا ودعوةً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، فقال له: ((إذا قمتَ إلى الصّلاة فكبّر)) ، لم يزجره, ولم ينتهِره, ولم يسبَّه, ولكنّه أراد أن يعلَم الخطأَ الذي وقع فيه, ثم جاء هذا التعليمُ برفق ولينٍ وحُسن تعليم, وصدق الله: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]، وصدق الله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لانْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
فقال له: ((إذا قمتَ إلى الصّلاة فكبّر)) أي: تكبيرةَ الإحرام التي هي مفتاحُ الصّلاة, وفي الحديث: ((مفتاحُ الصّلاة الطَّهور, وتحريمها التّكبير, وتحليلُها التسليم)) [4] ، فتكبيرة الإحرام أوّل شيء يُدخَل به في الصلاة, ((فكبّر)) فإنّ من لم يؤدِّ تكبيرةَ الإحرام لم تنعقِد صلاته أصلاً.
((ثمّ أقرأ ما تيسَّر معك مِن القرآن)) ، ولا شكّ أن الفاتحةَ هي أولى ما تيسّر, لأنّ الأحاديثَ الصحيحة دالّة على أن أيَّ صلاة لا يقرَأ المصلّي فيها فاتحةَ الكتاب فصلاته باطلةٌ لحديث ((لا صلاةَ لمن لم يقرَأ بفاتحةِ الكتاب)) [5].
ثم قال: ((ثمّ اركع)) ، أي: بعد الفاتحة اركَع لأنّ ما زاد على الفاتحة سنّة ويحافَظ عليها, قال: ((اركَع حتى تطمئنَّ راكعًا)) ، اركَع حتى تطمئنَّ في ركوعك، فتكون حالَ الركوع مطمئنًّا لتقول الذكرَ المشروعَ في الركوع: سبحانَ ربي العظيم, وإن أتيتَ به ثلاثًا فخير, وإن أوصلتَه إلى العشرِ فذاك منتهَى الكمال.
وكان نبيّنا يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم [6] , وربما قالها عشرًا، ويقول: ((سبحانك ربّنا وبحمدك, اللهمّ اغفر لي)) [7] , وكان يركع ركوعًا مطمئنًّا فيه، يضَع يديه على ركبتَيه مطمئنًّا في ركوعِه غيرَ رافع لرأسِه ولا مطأطئَه إلى الأرض [8] , بل ركوعٌ في غاية الاعتدال صلوات الله وسلامه عليه.
((ثمّ ارفع حتى تعدِل قائمًا)) ، أمره بالطمأنينة في الرّفع بعد الركوع، فقال: حتى تعتدلَ راكعًا, أي: تستقيمَ بعد الرفع من الركوع، فلا تصِل الركوع بالسجود, ولكن اطمئنّ واعتدل قائمًا حتى تعودَ العظام إلى مكانها، وكان إذا رفَع رأسَه من الركوع اعتدَل قائمًا يقول الذّكرَ المشروعَ بعد الركوع: ((اللهمّ ربّنا لك الحمد ملءَ السماء وملء الأرض وملءَ ما شئت من شيء بعد, أهلَ الثناء والمجد، أحقّ ما قال العبد وكلّنا لك عبد)) [9] ، يقول أنس: حتى يقول القائل: قد ذهل [10] ، أي: قد نسي.
((ثمّ اسجُد حتى تطمئنَّ ساجدًا)) ، أمره أن يطمئنَّ في سجودِه, والسّجود من أشرفِ أعمال العَبد، وأقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد, والنبيّ قال لنا: ((أمّا الركوعُ فعظِّموا فيه الربَّ, وأمّا السجودُ فأكثِروا فيه من الدعاء، فقَمِنٌ ـ أي: حريٌّ ـ أن يستجابَ لكم)) [11]. فأمره بالطمأنينة في السّجود ليؤدّيَ الذكرَ المشروع: سبحانَ ربي الأعلى، مرّةً أو ثلاثًا والكمالُ عشرًا، وسبحانك ربَّنا وبحمدِك اللهمَّ اغفِر لي. وكان نبيّكم في سجودِه ربما قال: ((اللهمَّ اغفر لي ما أسررتُ وما أعلنت وما أنت أعلم به مني)) [12] ، أو يقول: ((أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتِك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك)) [13]. وكان يأمُر بالاعتدال في السّجود، فكان يجافي عضدَيه عن جنبَيه، وبطنَه عن فخذيه [14] ، ويكون سجوده في غاية الاعتدال والخضوع لله.
ثم قال له: ((ثم ارفَع حتى تعدلَ جالسًا))، أمرَه بالطّمأنينة في الجلسَة بين السجدتين حتى يؤدّيَ الذكرَ المشروع، وكان نبينا يقول بين السجدَتين: ((ربِّ اغفر لي وارحمني واجبُرني وارزُقني وعافني)) ، قال أنس: حتى يقول القائل: قد ذهل [15] ، أي: قد نسي.
ثم أمرَه بالطمأنينة في السّجدة الثانية، ثم قال له: ((ثم افعَل هذا في صلاتِك كلِّها)) ، أي: كلّ قيام وركوعٍ وسجود وقيامٍ بعد الركوع وجلوسٍ بين السجدتين, اطمئنَّ فيها كلِّها؛ لتكونَ الصلاة صلاةً مقبولة مؤثِّرة بتوفيقٍ من الله.
أيّها المسلم، إنّ نبيّنا حذّرنا من الإخلالِ بصلاتنا فقال : ((أشدّ النّاس سرقةً الذي يسرِق من صلاته)) ، قالوا: كيف يسرق من صلاته؟! قال: ((لا يتمّ ركوعَها ولا سجودها)) [16] ، فجعل الذي لا يطمئنّ في الركوع ولا في السجود سارقًا مِن صلاته. قال أبو عبدٍ الأشعري: إنّ النبيّ نظر إلى رجلٍ لا يطمئنّ في ركوعه وينقر سجودَه قال: ((لو ماتَ هذا لمات على غير ملّة محمّد )) [17].
أيّها المسلم، فاطمئنَّ في صلاتك، اطمئنَّ في أدائها, لا تجعَلها أمرًا عاديًّا وكأنّه ثقلٌ ألقيتَه من ظهرك، لا، هي عبادةٌ من أجلِّ العبادات, أحسِن النيةَ في أدائِها, وأخلِص لله في أدائِها, واطمئنَّ فيها, واحمَد الله أن جعلك تحبّ هذه الصلاةَ وترغب في هذه الصلاةِ وتطمئنّ في هذه الصلاة, أدِّها كما أمرك الله, وكما شرع لك رسوله , واحذَر الاستعجالَ بها، احذَر الاستعجال والاستخفاف بها.
أيّها الإمام بالمصلين, اتّق الله فيمن وراءك, فإنّ وراءك المأمومين, فاتَّق الله فيهم, وصلِّ بهم صلاةً تطمئنّ فيها لكي ينالوا الثوابَ العظيم، فإن أسأتَ وأخللتَ بأداء الصلاة فلَهم الأجرُ وعليك الوزرُ والإثم.
فلنتَّق اللهَ في صلاتنا، ولنطمئنَّ فيها, فإنّ الطمأنينةَ في أدائها عنوانُ صدق الإيمان وقوّته، قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون:1، 2]، خشوعُهم نتيجة للطّمأنينة والسّكينة والإقبال على هذه الفريضة بقلبٍ مخلِص محبٍّ لهذه الصلاة، وَ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ?لْخَـ?شِعِينَ ?لَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـ?قُوا رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ ر?جِعُونَ [البقرة:45، 46].
فاطمئنّوا ـ إخواني ـ في صلاتِكم, واسكُنوا في صلاتكم، وأدّوها عن طمأنينةٍ ورغبة فيها وحبّ لها, ولا تستطيلوا وقتَها فإنها ساعاتٌ عظيمَة ولحظاتٌ مباركة.
أسأل الله أن يجعلني وإيّاكم ممن قبِل الله صلاتَه, وتقبّل أعماله, ووفّقه لأدائها كما يرضِي الله ورسولَه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الحشر:7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (3/128، 199، 285)، والنسائي في عشرة النساء (3939، 3940)، وأبو يعلى (3482)، والضياء في المختارة (1737) من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2676)، وجوّد إسناده العراقي كما في فيض القدير (3/371)، وقواه الذهبي في الميزان (2/177)، وصححه الحافظ في الفتح (3/15، 11/345)، وهو في صحيح سنن النسائي (3681).
[2] أخرجه أحمد (5/364)، وأبو داود في كتاب الأدب، باب: في صلاة العتمة (4985) عن رجل من الصحابة بنحوه، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (4171).
[3] صحيح البخاري: كتاب الأذان، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات (757)، صحيح مسلم: كتاب الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (397).
[4] أخرجه أحمد (1/123، 129)، وأبو داود في الطهارة، باب: فرض الوضوء، وفي الصلاة (61، 618)، والترمذي في الطهارة، باب: ما جاء في مفتاح الصلاة الطهور (3)، وابن ماجه في الطهارة، باب: مفتاح الصلاة الطهور (275) من حديث علي رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن"، وصححه القرطبي في تفسيره (1/175)، وحسنه النووي في الخلاصة، ورمز السيوطي لحسنه، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (55، 577). وللحديث شواهد كثيرة.
[5] أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم (756)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (394) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
[6] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل (772) عن حذيفة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم (794، 817)، ومسلم في كتاب الصلاة (484) عن عائشة رضي الله عنها.
[8] أخرجه البخاري في الأذان (828) عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه بمعناه.
[9] أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع (477) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[10] قال أنس رضي الله عنه ذلك في وصف طول قيام النبي بعد الركوع وطول جلوسه بين السجدتين، أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: الطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع، وباب: المكث بين السجدتين (800، 821)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب: اعتدال أركان الصلاة وتخفيفهما (472).
[11] أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب: النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود (479) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[12] أخرجه أحمد (6/147)، والنسائي في التطبيق (1124، 1125) عن عائشة رضي الله عنها، وليس فيه: ((وما أنت أعلم به مني)) ، وصححه الحاكم (807)، وهو في صحيح سنن النسائي (1076، 1077).
[13] أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (486) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[14] مجافاة النبي لعضديه عن جنبيه في السجود ثابت في عدة أحاديث، منها حديث ميمونة رضي الله عنها أخرجه مسلم في الصلاة (497). وأما مجافاة بطنه عن فخذيه فقد دلت على معناه جملة من الأحاديث منها ما أخرجه أبو داود في الصلاة (730)، والبيهقي في الكبرى (2/115) عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: وإذا سجد فرج بين فخذيه، غيرَ حامل بطنه على شيء من فخذيه. انظر: التلخيص الحبير (1/255)، وإرواء الغليل (358).
[15] قال أنس رضي الله عنه ذلك في وصف طول قيام النبي بعد الركوع وطول جلوسه بين السجدتين، أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: الطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع، وباب: المكث بين السجدتين (800، 821)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب: اعتدال أركان الصلاة وتخفيفهما (472).
[16] أخرجه أحمد (5/310)، والدارمي في كتاب الصلاة، باب: في الذي لا يتم الركوع والسجود (1328)، والطبراني في الكبير (3/242) والأوسط (8179)، والبيهقي في الكبرى (2/385) من حديث من حديث أبي قتادة رضي الله عنه, وصححه ابن خزيمة (663)، والحاكم (835)، وقال الهيثمي في المجمع (2/120): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (524).
[17] أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/372، 456)، وأبو يعلى (7184، 7350)، والطبراني في المعجم الكبير (4/115)، والبيهقي في الكبرى (2/89) عن أبي عبد الله الأشعري عن أمراء الأجناد، وصححه ابن خزيمة (665)، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (1/199) والهيثمي في المجمع (2/121)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (528).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عبادَ الله، سيرةُ محمّد في دعوتِه إلى الله وتبصيرِه للجاهِلين وتعلِيمه لهم سيرةٌ مِن أكملِ السيَر وأفضلِها وأحبّها, ذلكم أنّه يرفُق بالجاهل، ويحلم عليه، ويقدِّر جهلَه وعدمَ علمه.
انظر كيفَ عامل ذلك الإنسان الذي رآه يسيء في صلاته, لم ينتهِره, ولم يغلِّظ القولَ عليه, ولم يخاطِبه بجفاءٍ وغلظة, وإنما قال: ((ارجِع فصلّ، فإنّك لم تصلّ)) ، فلمّا استيقَن الرجل الخطأَ عند ذلك واستعدَّ للتعليم علّمه النبيّ الأمر المشروع, ولم يقُل له: أعِد ما مضى من صلاتك, فإنّ ما مضى كان عن جهلٍ وعن عدمِ علم والنبي يقول: ((إنّ الله تجاوز لي عن أمّتي الخطأ والنسيانَ وما استُكرهوا عليه)) [1] ، فما مضى لم يقل: اقضِ هذه الصلاة، ولا: كم يوم أو شهر صلّيتَ؟ إنما علّمه الصلاةَ الحاضرة ليعملَ بها في المستقبَل، وما مضى فعَن جهلٍ وقلّة علمٍ فعفا الله عمّا مضى وسلَف.
أيّها الداعي إلى الله، قد ترى في الجماعةِ مَن هو يخلّ بالصلاة, إمّا لا يطمئنّ, إمّا يسابِق الإمامَ، إلى غير ذلك من المخالفات, فعلِّم الجاهل, واحلم عليه حتى يقبلَ منك التوجيهَ, ويقبَل منك التعليم, ويعلَم أن قصدَك إسعادَه وتخليصَه من الجهل. لا تخاطبْه بخطاب سيّئ, ولا تقُل له قولاً عنيفًا, ولكن ارفق به حتى يقبَل منك وينشرحَ صدره إليك، فالرّفق ما وضِع في شيء إلا زانه، ولا نزِع من شيء إلا شانه، الرفقُ خيرٌ كلّه, وقدوةُ الدعاة إلى الله وقدوةُ الموجِّهين وقدوة العلماء سيّد الأوّلين والآخرين محمّد , فلنتأسَّ به في أقواله وأعماله وتوجيهاته ونصائحه, والله يقول لنا: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
فإن سلكنا هذا المسلكَ بتوفيقٍ من الله استطعنا تعليمَ جاهلنا وتوجيهَه والأخذَ بيده لما فيه الخير, وإن قابلناه بالعنف والإنكار والكراهية وغِلَظ القول فإنّ الناس ينفرون منّا، ولا يقبلون منّا توجيهًا ولا تعليمًا.
فلنقتدِ بنبيّنا، فهو خير قدوة لنا وخير أسوة لنا في كلّ أحوالنا صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
واعلَموا ـ رحمَكم الله ـ أنّ أحسَنَ الحديثِ كِتاب الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمّد ، وشرّ الأمورِ محدثاتُها، وكلّ بدعةٍ ضلالَة، وعَليكم بجمَاعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعَة، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصَلّوا ـ رحِمكم الله ـ عَلى نبيّكم محمّد كمَا أمرَكم بذلك ربّكم، قالَ تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك عَلى عبدِك ورَسولِك مُحمّد, وارْضَ اللهمَّ عن خلفائِه الرّاشدين...
[1] أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب: طلاق المكره والناسي (2043) عن أبي ذر رضي الله عنه، وسنده ضعيف، لكن له شواهد كثيرة عن ابن عباس وثوبان وابن عمر وأبي بكرة وأم الدرداء والحسن مرسلا، ولذا أورده الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1663)، وانظر: الإرواء (82).
(1/2876)
وصايا للشباب في الفتن
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, قضايا دعوية
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
1/7/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدعوة الإسلامية بين الأمس واليوم. 2- انزعاج الأعداء من الصحوة الإسلامية. 3- الخوف على الصحوة من أبنائها. 4- القضايا الكبار للرجال الكبار. 5- ضرورة إعمال جميع الأدلة في مواضعها. 6- دعوة للرجوع إلى العلماء والالتفاف حولهم. 7- التحذير من العاطفة والهوى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71]. اتّقوا اللهَ واقصِدوا مرضاتِه، وسارعوا إلى مغفرته وجنّاته, ولا تغرّنّكم الدنيا، ولا يلهينّكم زخرفها، حلالُها حساب, وحرامُها عقاب، ومصيرها إلى الخرَاب، فكم من ذاهبٍ بلا إياب من الأهل والأحباب في رحلاتٍ متتابعة إلى الدّار الآخرة.
وبعد: أيّها المسلمون، في الأعصار المتأخِّرة من تاريخ أمّتنا وقبل بضعةِ عقود كانت الأمّة في مجملِها تعيش غفوَة في دينها وإعراضًا عن قرآنها وسنّة نبيّها وانقطاعًا من تاريخها. لقد كان المسلم المستقيمُ على دينه في أكثرِ ديار المسلمين يعيش غربةً في وطنِه ووحشَة بين أبناء جلدتِه لغربة الدين، وذلك في ظلِّ الهزيمة الشّاملة للمسلمين أمام الاستعمار، والذي لم يكنِ الاحتلال العسكريّ أخطرَ أسلحته، بل الفكريّ والثقافيّ، ومحاولة إقناعِ المسلمين بأنّ الإسلامَ قد انتهى عصره، وأنّ التغريب هو حتميّة التاريخ، وانخدع بذلك بعض أبناء المسلمين، فيمَّموا فكرَهم ومنهجهم جهةَ الشرق والغرب, حتى تطبَّعت بعض ديار المسلمين وانطبع أهلُها على نظام حياةٍ بعيد عن الإسلام.
ولقد كانَ المأزِق الحقيقيّ للأمّة أن صار الإسلام بين عجزِ علمائه وجهلِ أبنائه، وهذه سنّة الله في الأمَم إذا ابتعدَت عن كتاب ربها ومنهاجه، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]. حتى إذا احلولك الظّلام وأرخَى سدولَه على الأرض أو كاد أذِن الله حينها بانفراج, ولعتمات الليل بنفَس وانبلاج، فشهِدت الأمة عودةً صادقة لجموعها وانعطافةً جادّة لشبابها، فوصَلوا من حبال دينِهم ما رثّ، وأحيَوا في نفوسهم ما دَرس، فعمِرت المساجد وأحيِيَت السنن، وأقبل الشباب أفواجًا لطلب العلم، وقامت فريضةُ الجهاد بعدما كانت غائبةً أو مغيّبة، وظهرت عودةٌ حميدة للدين في صفوف الأمّة رجالاً ونساءً، شيبًا وشبابًا، في كلّ أنحاء العالم, بحمد الله تعالى.
وبقدر ما استبشَر الصالحون والأخيارُ بهذه العودةِ العامّة للدين والتمسّك بحبل الله المتين بقدرِ ما أغاضت الصحوةُ قلوبَ الكافرين والمنافقين، فقالوا: نزوةٌ عمّا قليل تزول، أو تيّار سيذهب ويحول، وسعَوا في تثبيط شبابها ولمز شيوخِها، وتشويه سيرتها ومسيرها، وأصبح انتشارُ ركاب الإيمان غصَّة في حلوق الشانئين، ومشكلةً تؤرِّق الظالمين, إلاّ أنّ الله غالبٌ على أمره, ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون، فقامت على سوقِها واجتازت الحدودَ وتخطّت السدود، وأصبحت همًّا حقيقيًّا وخصمًا صعبَ المِراس لأعاديها، ولا خوفَ عليها فلدَيها من الأصالة والوَعد الإلهيّ بالتمكين ما يؤهّلها للبقاء بل للغلبة. وإنما الخطر المحدقُ والهمّ المقلق والخوف منها عليها, ومن شمالها على يمينها.
أيّها المسلمون، إنّ الإسلامَ كما يرزَأ بأعدائه وشانئِيه فإنّه يرزأ أحيانًا بأبنائه ومحبّيه، وذلك إذا جفَوا الصراطَ الأقوم، وحادوا عن السّبيل الأهدى، فإليكم ـ يا شباب الإسلام ـ ممَّن انتظرتهم الأمّة عقودًا في غفوَتها، فطلعوا نجومًا زُهرًا في صحوَتها، إليكم همسات مصحوبَة بدعواتٍ، وكلمَات بالحبّ مقرَّنات, من فؤادٍ أمضَّه ما يرى مِن تجاوزاتٍ ومخالفات، مما يمكن أن يعيقَ الخطى ويفرِح العدَا ويجعلَ بأسَ المسلمين بينهم.
نقِف مع الشّباب وقفةً أثارَها وأجاشها وهيَّج شجونها ما أفرَزته الأزمان المتأخّرةُ من اختلافٍ في المناهج والرّؤى واجتهادٍ من غير أهله وأحكامٍ ورؤى غير واضحة، يذكِي ذلك تقصيرٌ في الاستمداد من العلم الشرعيّ والعلماء وسعارٌ من المستفزِّين لهم بفِكرهم أوعملِهم أو تسلّطهم في ميدان الفسقِ أو الفكر المنحرِف, إضافةً إلى تسلّط الأعداء واحتلالِ الأراضي ونهبِ الثروات, ممّا أفرَز ردّةَ فعل لم تضبَط في بعض الأحيان بميزان العلم والعقل.
شبابَ الإسلام، إنّنا نرى أنّ الفصلَ في القضايا الكبار للشّعوب ومعالجةَ الشؤون المصيرية للأمَم عند أهل الأرض قاطبةً تكون من اختصاص علمائها وشأنِ كهولها, ممّن عركتهم الحياة وحنَكتهم التجارب. وفي غزوة بدر قال النبي لأصحابه: ((أشيروا عليّ أيها الناس)) ، فقام أبو بكر فتكلّم, ثم قام عمر فتكلّم, ثم قام المقداد بن عمرو فتكلّم, ثم قام سيّد الأنصار سعد بن معاذ فتكلّم رضي الله عنهم أجمعين [1]. مع أنّ في الصحابة شبابًا يدكّون الجبال بعلمِهم وفروسيّتهم وفضلهم.
لكنّ ذلك توارى لدَينا في واقعنا المعاصر، فأصبح الحديث عن تلك القضايا ومعالجةُ تلك الشؤون كلأً مُباحًا للشبّان والشّيب والعالمِ والجاهل, بل تجِد من يتقحَّم في مسائلَ لو عرَضت للفاروق لجمع لها أهلَ بدر, وأصبح الحديث عن القضايا الشرعيّة ومصائِرِ الأمّة مَيدانًا للعوام في الشريعة والصحافيين, وقد قال النبي في الاصطفاف للصّلاة: ((لِيَلني منكم أولو الأحلامِ والنهى)) [2].
فقضايا كبرى كاستعداءِ بعضِ الأمم وجرّ الأمة إلى مواجهاتٍ غيرِ متكافئة وتحديد ساحِ المعارك كلّ ذلك ممّا يجب أن تقفَ عندَه جُرأة الشّباب وإقدامهم, وينتهي دونها بحثُهم واجتهادهم, ويكلوا الأمرَ فيها للعلماء الربانيّين الذين شابت لحاهم في الإسلام, وهم بعدَ ذلك معذورون أمامَ الله كما يعذَرون في التاريخ. نعم، التاريخ الذي نقل إلينا أنَّ إيقاف زحفِ التّتر كان بتوجيه وحكمةِ العلماء الربانيين، وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, فاقرؤوا التاريخ.
لقد آن للأمّة أن تقتنعَ أنّ الحديثَ في المصائب والبثَّ في القضايا الكبرى ليس لكلِّ أحد, فليس بالضّرورة لمن برَع في فنّ الوعظ والتأثير مثلاً أن يحسِن الخوض في تلك الشؤون, وليس لمن أكرمه الله بالبلاء في دروب الجهاد أن يحتكرَ توجيهَ الأمّة في هذه القضايا.
إنّنا كما نذود عن تلك القضايا الجاهلين بالدّين الكاشحين عنه والشانئين أهلَه فإنّنا أيضًا نذود المحبّين له الراغبين في نصرتِه إذا توارَى العلم والحِلم خلفَ حجبٍ من العواطِف وقلّة التجارب، إذا نأت عن الموقف الشرعيّ الصحيح, وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ?لأمْنِ أَوِ ?لْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، وَلاَ تَسُبُّواْ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ فَيَسُبُّواْ ?للَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108].
شبابَ الإسلام، أبناءَه ومحبّيه، إنّ شريعةَ الإسلام كما جاءت بالسّيف والرّمح فقد جاءت بالرّفق والنّصح، وكما جاءت بمنازلةِ العدوّ فقد جاءت بالصّبر على بلائه والكفِّ عن إيذائه، ليسَ لذاتِه ولا كرامة، بل لمصلحة الإسلام والمسلمين، في مواطنَ تُعمَل فيها الأدلة ويعرِفها الراسخون في العلم.
ولقد اقتِيد أبو جندَل رضي الله عنه يَرسُف في قيوده، يسوقه مشرِك من أمامِ النبيّ وهو يصيح: أأُرَدّ أُفتَن؟ وأغير الخلق يرى ويصبِر؛ لأنّه يعلم أنّ العاقبة خير, وهو ما حصل كما في صحيح البخاري [3].
وقبل ذلك كان الإسلام في فترتِه الأولى حين بدأ يشبّ ويترعرَع بين الحِجر ودارِ ابن الأرقم، كان أتباعه القِلّة يتعرّضون للأذى والبَطش، ولم يُؤمَر أحدٌ منهم بالردّ, وإنما بالصبر، فكانت الخِيَرة في اتّباع هذا الأمر، حتى حمِد الصحابة عاقبتَهم وقوِيت شوكتُهم.
إنّ مراعاةَ حالِ المسلمين قوّةً وضعفًا قدرة وعجزًا ظهورًا وانحسارًا معتبرةٌ في جرَيان الأحكام أو النّهيِ والإلزام والتّأثيم وعدمِه, ونحن بحاجةٍ إلى إعدادٍ وبناء وصبر ودعاء وعودة أقوى والتجاء، وأمام الشبابِ كثيرٌ من الواجبات والمسؤوليات في تسلسُل تقتضيه السّنَن الربانيّة وتوجيهِ النّصوص الشرعية, حتى تستعيدَ الأمّة صدارتها وتأخذَ مكانها الرّياديّ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَ?صْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ?لَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [غافر:77].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنّة، ونفعنا وإيّاكم بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقول قولي هَذا، وأستغفِر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين مِن كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الجهاد والسير، باب: غزوة بدر (1779) عن أنس رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه مسلم في الصلاة (432) عن أبي مسعود رضي الله عنه.
[3] صحيح البخاري: كتاب الشروط (2734) بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي من اعتصَم بحبلِه وفّقه وهداه, ومن اعتَمد عليه حفِظه ووقاه, أحمَده سبحانه وأشكره، وأُثني عليه وأستغفِره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له ولا نعبُد إلاّ إياه، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله ومصطفاه, صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبِه والتّابعين, ومن سارَ على نهجِه وهداه, وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، دعوةٌ إلى شبابِ الأمّة وعِماد مستقبلها. يا غرّةً في جبين الدّهر, ويا دُرّةً في جيدِ الأمّة, دعوةٌ صادِقة إلى الكتاب والسنة بفهمِ السلف الصالح, دعوة إلى العلم الشرعيِّ وإلى العلماء الربانيين.
إنّ وجودَ المثيرات واستفزازَ الظالمين مع الحميّة والغيرةِ للدّين ليست عذرًا لمخالفة الشريعة أو الخروج عن السنّة في معالجة الأحداث والقضايا. إنّ الله تعالى تعبّدنا باتّباع شريعته وسنّته، لا باتّباع الهوى ولا بالاجتهاد المخالفِ للنصّ، وفي صلح الحديبية كما في البخاري لمّا عاهد النبي كفارَ مكة على أمورٍ منها: أن يعودَ مِن غيرِ عُمرة إلاّ في العامِ القابل, وأن يردَّ من أتاه مسلمًا من مكّة إلى أهل مكّة, وأن لا يردّوا من أتاهم مرتدًّا, فلم يُعجب ذلك عمرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه، وقال للنبي : ألسنَا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟! فلِم نعطِي الدنيّة في دينِنا؟! وجادل في ذلك, ثم ذهب لأبي بكرٍ الصدّيق رضي الله عنه، فقال له مثل ذلك, حتى قال له أبو بكر: إنّه لرسول الله، وليس يعصي ربَّه, وهو ناصره, فاستمسِك بغرزه، فواللهِ إنّه على الحقّ، إلى أن تبيّنت العاقبةُ أنّ الخير كلَّه كان فيما أمضاه النبي ، قال عمر بعد ذلك: فعملتُ لذلك أعمالا [1] ، أي: من الصالحات، لعلّ الله أن يكفّرَ عن مجادلتَه تلك.
إذًا لا مجالَ للاجتهاد مع النصّ، ولو كان في ذلك غبنٌ في الظاهر أو ألمٌ في الباطِن، فإنّ الخيرَ كلَّ الخير في اتّباع الدليلِ واطِّراح ميلِ النّفوس.
أيّها المسلمون، وإذا غابَ العلم الشرعيُّ أو غيِّب تحوّلت الطاقات إلى كوارِث, ولستُ مدَّعيًا أنّ ما ذكرته هو السبب الوحيد فيما ذكر, ولكنّ الإيراد للتّنبيه على عِظم وأهمّيّة مرتبةِ العلم الشرعيّ في التأثير في المواقف. ولما جادلَ ابنُ عبّاس رضي الله عنهما الخوارجَ بالعلم رجع منهم ثلاثة آلاف في موقفٍ واحد.
وهاكم ـ رعاكم الله ـ قصّة يتجلّى فيها موقفُ العلم إزاءَ العاطفة رواها البخاري رحمه الله, وذلك عندما توفِّي النبيّ وماج الناس بين مصدِّق ومكذّب, والعاطفة تقتضي الرّغبةَ في عدم التصديق، حتى قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجدِ يهدّد ويتوعد من يقول: إنّ رسول الله قد مات, وذلك لهولِ الفاجعة وعِظم المصيبة، فجاء أبو بكر رضي الله عنه وعمرُ يكلّم الناس فقال: اجلِس يا عمر، فأبى عمر أن يجلسَ، فأقبل النّاس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أمّا بعد: من كان منكم يعبد محمّدًا فإنّ محمّدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت، قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ?لرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ?نقَلَبْتُمْ عَلَى? أَعْقَـ?بِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى? عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ?للَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي ?للَّهُ ?لشَّـ?كِرِينَ [آل عمران:144]، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: والله، لأكنَّ الناسَ لم يعلموا أنّ الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقّاها منه الناس، فما أسمعُ بشرًا إلا يتلوها، قال عمر: والله، ما هو إلا أن سمعتُ أبا بكر تلاها فعُقِرت حتى ما تُقِلنّي رجلاي, وحتى أهويتُ إلى الأرض حينَ سمعتُه تلاها، علمتُ أنّ النبيّ قد مات. رواه البخاري [2].
قال ابن حجر: "وفي الحديث قوّةُ جأش أبي بكر وكثرة عِلمه، وانظر كيفَ سارع عمر بالرّجوع وتخلّى عن تلك العاطفةِ عندما بلغه النصّ الشرعيّ الفاصل".
[1] أخرجه البخاري في الشروط، باب: الشروط في الجهاد... (2734).
[2] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب: مرض النبي ووفاته (4454) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(1/2877)
ذم الكبر
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق, مكارم الأخلاق
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
1/7/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية أعمال القلوب. 2- خطورة الكبر. 3- الكبر وأثره في الأمم السابقة. 4- أضرار الكبر. 5- منشأ الكبر. 6- أقسام الكبر. 7- فضل التواضع وأثره. 8- أحقّ الناس بالتواضع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، فالتقوى في مخالفة الهوى، والشقا في معارضةِ الهدى.
أيّها المسلمون، صلاحُ ابن آدم في الإيمان والعملِ الصالح، والسّعيُ في إصلاح القلب أفضلُ من نوافلِ العبادات، وأعمالُ القلوب في الثواب والعقاب كأعمالِ الجوارح، يثاب على الموالاة والمعاداة في الله، وعلى التوكّل والعَزم على الطاعة، ويُعاقَب على الكِبر والحسَد والعُجب والرّياء، وكلّما ازداد العبد تواضعًا وعبوديّة ازداد إلى الله قربًا ورفعة.
وأصل الأخلاقِ المذمومة كلِّها الكبر والاستعلاء, به اتَّصف إبليس فحسَد آدم واستكبر وامتنع من الانقياد لأمر ربه، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـ?ئِكَةِ ?سْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى? وَ?سْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة:34]. وبه تخلّف الإيمان عن اليهود الذين رأَوا النبيَّ وعرفوا صحَّة نبوّته، وهو الذي منع ابنَ أبيّ بن سلول من صِدق التسليم، وبه تخلَّف إسلام أبي جهل، وبه استحبَّت قريشٌ العمى على الهدى، قال سبحانه: إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ ?للَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات:35]. ودعا سليمانُ عليه السلام بَلقيس وقومَها إلى نبذِ الاستعلاء والإذعان: أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ [النمل:31].
وهو سببٌ للفُرقة والنزاع والاختلافِ والبغضاء, قال جلّ وعلا: فَمَا ?خْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ?لْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [الجاثية:17]، وبسببِه تنوّعت شنائِع بني إسرائيل مع أنبيائِهم بين تكذيبٍ وتقتيل, أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم ?سْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87]. وهو مِن أوصافِ أهلِ النّفاق، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ?للَّهِ لَوَّوْاْ رُءوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ [المنافقون:5].
وعُذِّبت الأمَم السالفة لاتّصافِهم به, قال تعالى عن قومِ نوح: وَ?سْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَ?سْتَكْبَرُواْ ?سْتِكْبَارًا [نوح:7]، وقال عن فرعونَ وقومه: وَ?سْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَـ?هُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـ?هُمْ فِى ?لْيَمّ فَ?نظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لظَّـ?لِمِينَ [القصص:39، 40]، وقال عن قومِ هود: فَأَمَّا عَادٌ فَ?سْتَكْبَرُواْ فِى ?لأَرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ?للَّهَ ?لَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِئَايَـ?تِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت:15].
المستكبِرون هم أعداءُ الأنبياءِ وأتباعِهم, قَالَ ?لْمَلاَ ?لَّذِينَ ?سْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يـ?شُعَيْبُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [الأعراف:88]. وموسى عليه السّلام استعاذَ بالله منهم، قال جلّ وعلا: وَقَالَ مُوسَى? إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ ?لْحِسَابِ [غافر:27].
المتكبِّر متَّبع لهواه، ينظر إلى نفسه بعينِ الكمال وإلى غيره بعينِ النّقص، مطبوعٌ على قلبِه: لا يقبَل ما لا يَهوى, كَذَلِكَ يَطْبَعُ ?للَّهُ عَلَى? كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35]. واللهُ تعالى يبغضه, إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18].
المتَّصف بالكبر مصروفٌ عن الاعتبارِ والاتّعاظ بالعبر والآيات، سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَـ?تِي ?لَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ [الأعراف:146]. والمستكبِر عن الحقّ يبتَلى بالانقياد للباطل، وقد تعجَّل له العقوبة في الدنيا, فقد شُلَّت يَدُ رجلٍ في عهدِ النبوة بسبَب الكبر، يقول سلمة بن الأكوع: أكَل رجل عند النبيّ بشماله, فقال له: ((كُل بيمينك)) ، قال: لا أستطيع، قال: ((لا استَطعتَ)) ، ما منعه إلا الكبر، قال: فما رفعَها إلى فيه. رواه مسلم [1]. وقد خسفتِ الأرض بمتكبِّر, يقول النبي : ((بينما رجلٌ يمشِي في حلّةٍ تعجِبه نفسُه، مرجِّلاً رأسَه يختال في مشيته، إذ خسف الله به, فهو يتجَلجَل في الأرض إلى يوم القيامة)) متفق عليه [2]. وفي الآخرة يعامَل بنقيض قصده, فمن ترفَّع عن النّاس في الدّنيا يطؤه النّاس بأقدامِهم في الآخرة، يقول المصطفى : ((يحشَر الجبّارون والمتكبِّرون يومَ القيامة في صوَر الذرِّ يطؤهم النّاس بأرجلهم)) رواه الترمذي [3] ، قال في نوادر الأصول: "كلّ من كان أشدَّ تكبّرًا كان أقصرَ قامّةً في الآخرة، وعلى هذا السبيل كلّ من كان أشدَّ تواضعًا لله فهو أشرَف قامَةً على الخلق" [4].
ومَن حمَل في قلبِه ولو شيئًا يسيرًا مِن الكبر حرُم عليه دخول الجنة، يقول النبي : ((لا يدخل الجنةَ من في قلبه مثقالُ ذرّة مِن كبر)) رواه البخاري [5]. والنار دارٌ لهم, أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْمُتَكَبّرِينَ [الزمر:60]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ألا أخبِركم بأهلِ النّار؟ كلّ عُتُلٍّ جوّاظٍ مستكبرٍ)) متفق عليه [6] ، ويقول النبي : ((احتجّت الجنّة والنّار، فقالت النّارُ: فيّ الجبّارون والمتكبِّرون، وقالت الجنّة: فيّ ضعفاء النّاس ومساكينهم)) رواه مسلم [7].
أيّها المسلمون، الكبرياء من خصائصِ الربوبيّة لا ينازَع فيه, ومن اتّصف به من المخلوقين عذّبه الله, يقول النبيّ في الحديث القدسي: ((قال الله عزّ وجلّ: العزُّ إزاري، والكبرياء ردائي، فمن ينازعُني في واحدٍ منهما عذّبته)) رواه مسلم [8]. والله جلّ وعلا هو المتكبِّر, قال سبحانه عن نفسه: ?لْعَزِيزُ ?لْجَبَّارُ ?لْمُتَكَبّرُ [الحشر:23].
والإسلامُ حمى جنابَ الكبرياء والعظمة لله، وحرّم كلَّ طريق ينازَع الربُّ في كبريائه، فمنَع لبسَ الذهبِ والحرير للرجّل لكونهما مدعاةً للكبر والخيَلاء، وتوعّد المسبلَ إزاره بالعذاب, فقال عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة لا يكلّمهم الله يومَ القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم)) قالها ثلاثًا, قال أبو ذرٍّ: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: ((المسبِل والمنّان والمنفِق سلعتَه بالحلف الكاذب)) رواه مسلم [9]. ونهى عن ميل الخدّ والإعراضِ به تعاظمًا على الآخرين، ولم يأذَن بمِشية الخيَلاء تبخترًا في غير الحرب، قال جلّ وعلا: وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى ?لأرْضِ مَرَحًا [لقمان:18]، ونهى عن التشدّق في الكلام اعتزازًا, قال عليه الصلاة والسلام: ((وإنّ أبغضَكم إليّ وأبعدَكم منّي يومَ القيامة الثرثارون والمتشدِّقون والمتفيهقون)) رواه الترمذي [10].
فانزَع عنك رداءَ الكبر والتعاظم، فإنهما ليسا لك، بل هما للخالق، والبَس رداءَ الانكسار والتواضع، فما دخل قلبَ امرئٍ شيءٌ من الكبر قطّ إلا نقَص من عقلِه بقدر ما دخل من ذلك أو أكثر. ومنشأ هذا مِن جهلِ العبدِ بربّه وجهله بنفسه، فإنّه لو عرف ربَّه بصفاتِ الكمال ونعوت الجلال وعرف نفسَه بالنقائص والآفاتِ لم يستعلِ ولم يأنف، يقول سفيان بن عيينه رحمه الله: "مَن كانت معصيّته في الكبرِ فاخشَ عليه، فإبليس عصى متكبِّرًا فلُعِن" [11].
والعذاب يقع على من تغلغَل ذلك في قلبه، وتكون خفّته وشدّته بحسَب خفّتها وشدّتها، ومن فتحها على نفسه فتح عليه أبوابًا من الشرور عديدة، ومن أغلقها على نفسه فتِحَت له بإذن الله أبوابٌ من الخيرات واسعة.
والكبر المبايِن للإيمان لا يدخُل صاحبه الجنّة، كما في قوله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60]. ومِن الكبر ما هو مبايِن للإيمان الواجِب, بل كبرُه يوجِب له جحدَ الحقّ واحتقارَ الخلق, يقول النبي : ((لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقالُ ذرّة من كبر)) ، قالوا: يا رسول الله، إنّ الرجلَ يحبّ أن يكونَ ثوبه حسنًا ونعله حسَنة، قال: ((الكبر بطرُ الحقّ وغَمط الناس)) رواه مسلم [12].
ولا تفخر على أحدٍ فدنياك زائلة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((حقٌّ على الله أن لا يرتفِع شيءٌ من الدّنيا إلا وضعه)) رواه البخاري [13].
أيّها المسلمون، في التّواضع رفعةُ الدنيا والآخرة، يقول : ((ما تواضَع أحدٌ لله إلاّ رفعه)) رواه مسلم [14]. وهو من أخلاق الأنبياء وشِيَم النبلاء، موسى عليه السلام رفع الحجرَ لامرأتين أبوهما شيخٌ كبير، وداود عليه السلام كان يأكل من كَسب يده، وزكريّا عليه السلام كان نجّارًا، وعيسى عليه السلام يقول: وَبَرًّا بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم:32]، وما مِن نبيّ إلاّ ورعى الغنم، ونبيّنا كان رقيقَ القلب رحيمًا خافضَ الجناحِ للمؤمنين ليّن الجانب لهم، يحمِل الكلَّ ويكسِب المعدوم، ويعين على نوائبِ الدّهر، وركب الحمارَ وأردفَ عليه، يسلّم على الصبيان، ويبدأ من لقيَه بالسلام، يجيب دعوةَ من دعاه ولو إلى ذراعٍ أو كُراع، ولما سئِلت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي يصنَع في بيته؟ قالت: يكون في مهنة أهله ـ يعني: خدمتهم ـ، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. رواه البخاري [15].
التواضعُ سبَب العدلِ والأُلفة والمحبّة في المجتمع، يقول : ((إنّ الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخَر أحدٌ على أحَد, ولا يبغيَ أحدٌ على أحد)) رواه مسلم [16]. المتواضعُ منكسِر القلب لله، خافضٌ جناحَ الذلّ والرحمة لعباده، لا يرى له عند أحدٍ حقًّا, بل يرى الفضلَ للناس عليه، وهذا خلقٌ إنما يعطيه الله من يحبّه ويقرّبه ويكرمه.
وبعد: أيّها المسلمون، فأكرَم التواضعِ بعد حقّ الله التواضعُ في جنبِ الوالدين ببرّهما وإكرامِهما وطاعتِهما في غير معصِية، والحنوّ عليهما والبِشْر في وجهِهما والتلطّف في الخطابِ معهما وتوقيرهما والإكثَار من الدّعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما، قال جلّ وعلا: وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:24]. والاستنكافُ عن أوامِرهما والاستكبارُ عليهما والتأفّف من قضاء حوائجِهما ضربٌ من الكبر والعقوق متوعَّدٌ صاحبُه بدخول النار.
وتواضع للدّين ولا تعارِضه برأي أو هوًى، ولا تعرِض عن تعلّمه والعمَل به، ومن أسدَى إليك نُصحًا فاقبَله واشكُر قائله، ومن أمرك بمعروفٍ أو نهاك عن منكرٍ فامتثِل لرشده, فالحظوة في التواضعِ للطّاعة، يقول الفضيل رحمه الله: "التّواضع أن تخضعَ للحقّ وتنقاد له" [17] ، قال رجل لمالك بن مغول: "اتّق الله"، فوضَع خدّه على الأرض [18].
والمعلّم والمتعلِّم يتواضعان لبعضهما مع توقيرِ المعلّم، ولقد كان شيخ المحدّثين أبو موسى المدينيّ يقرِئ الصبيانَ القرآن في الألواح مع جلالةِ قدرِه وعلوِّ منزلته.
وتواضَع للمَرضى بعيادتهم والوقوفِ بجانبهم وكشفِ كربَتهم وتذكيرِهم بالاحتساب والرّضا والصبرِ على القضاء، وألِن جانبَك لذوي الفقر والمسكَنة، وتصفّح وجوهَ الفقراء والمحاويج وذوي التعفّف والحياءِ في الطلب, وواسِهم من مالك، وتواضَع لهم في حسَبك، يقول بشر بن الحارث: "ما رأيتُ أحسنَ من غنيّ جالسٍ بين يدَي فقير" [19].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: تِلْكَ ?لدَّارُ ?لآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا في ?لأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الأشربة (2021).
[2] صحيح البخاري: كتاب اللباس والزينة (2088) عن ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه.
[3] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2492) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ولفظه : ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذّرّ في صور الرجال، يغشاهم الذّلّ من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمّى بُولَسَ، تعلوهم نار الأنيار، يسقَون عصارة أهل النار طينة الخبال)). وأخرجه أيضًا بهذا اللفظ أحمد في المسند (2/179)، والحميدي في المسند (2/272)، والبخاري في الأدب المفرد (557)، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2025). واللفظ الذي ذكره الخطيب أخرجه البزار عن جابر رضي الله عنه بنحوه، وأشار المنذري في الترغيب (4/208) لضعفه، وقال الهيثمي في المجمع (10/334): "فيه القاسم بن عبد الله العمري وهو متروك"، وحكم عليه الألباني بالوضع في ضعيف الترغيب (2090).
[4] نوادر الأصول (1/225).
[5] بل هو في صحيح مسلم: كتاب الإيمان (91) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[6] صحيح البخاري: كتاب التفسير، باب: قوله تعالى: عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (4918)، صحيح مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2853) من حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه.
[7] صحيح مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2846) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بمعناه، وأخرجه أيضًا البخاري في التفسير، باب: قوله تعالى: وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ (4850)، واللفظ الذي ذكره الخطيب عند أحمد في المسند (3/79) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[8] صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب (2620) عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما بلفظ: ((العز إزاره والكبرياء رداؤه فمن ينازعني عذبته)).
[9] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (106) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[10] أخرجه الترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في معالي الأخلاق (2018) من حديث جابر رضي الله عنهما وقال: "هذا حديث حسن غريب". وله شاهد من حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه عند أحمد (4/193)، والطبراني في الكبير (22/221)، وصححه ابن حبان (482ـ الإحسان ـ)، وقال الهيثمي في المجمع (8/21): "رجال أحمد رجال الصحيح"، والحديثان كلاهما في صحيح الترغيب (2897، 2662).
[11] أخرجه أبو نعيم في الحلية (7/272)، وانظر: صفة الصفوة (2/232-233)، وتهذيب الكمال (11/191)، وسير أعلام النبلاء (8/461).
[12] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (91) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[13] صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب: ناقة النبي (2872) من حديث أنس رضي الله عنه.
[14] صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب (2588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[15] صحيح البخاري: كتاب الأذان، باب: من كان في حاجة أهله فأقيمت الصلاة فخرج (676).
[16] صحيح مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
[17] أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/91).
[18] أخرجه الطبراني في الصغير (222)، والبيهقي في الشعب (6/301).
[19] أخرجه البيهقي في الشعب (6/298).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إِحسانه، والشّكرُ له عَلى توفيقِه وامتنانه، وأشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ نبيّنا محمّدًا عبدُه ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آلِه وأصحابه.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، الله يحبّ تواضعَ العبد عند أمرِه امتثالاً، وعند نهيه اجتنابًا، والشّرفُ يُنال بالخضوع والاستكانة لله والتواضعِ للمسلمين ولينِ الجانب لهم واحتمالِ الأذى منهم والصّبر عليهم، قال جلّ وعلا: وَ?خْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:88]. كلّ ذلك مع التشاغلِ بتلاوةِ كتابِ الله والنّظر في الأحاديث, مع حسنِ الخلقِ وبَذل المعروف وكفّ الأذى وترك الغيبة والنميمة، وعامِلِ الناسَ معاملةَ إيثار لا استئثار، والمتواضعُ من إذا رأى أحدًا قال: هذا أفضل مني، يقول الشافعي رحمه الله: "أرفعُ الناس قدرًا من لا يرى قدرَه، وأكبر النّاس فضلاً من لا يرى فضلَه" [1]. وإذا أنعَم الله عليك بنعمةٍ فاستقبِلها بالشّكر والابتسامَة، قال عبد الله بن المبارك: "رأسُ التواضعِ أن تضَع نفسَك عند من هو دونك في نعمةِ الله حتى تعلِمَه أن ليس لك بدنياك عليه فضل" [2].
ثمّ اعلَموا أنَّ الله أمرَكم بالصلاة والسلام على نبيه فقال في محكَم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم على نبيّنا محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البيهقي في الشعب (6/304).
[2] أخرجه البيهقي في الشعب (6/298).
(1/2878)
تصدق على نفسك – بدع رجب
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
1/7/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
11- من رحمة الله بهذه الأمة أن نوع لها طرق الخيرات. 2- يثاب المسلم على كل عمل أخلص فيه سواء كان من العبادات البدنية أو القلبية. 3- فضائل وثواب: الشهادتان، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج، الصدقة، مساعدة المكروب، الشفاعة الحسنة، تربية الأبناء، الإحسان على اليتيم، الإصلاح بين الناس. 4- النية الصالحة في الخير تقوم مقام فعله إذا عجز عنه. 5- فضيلة شهر رجب المحرم لا تبرر إحداث عبادات خاصة بهذا الشهر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، إنّ مِن رحمةِ الله بِهذه الأمّة أن نوّع لها طرَقَ الخيرَات، ويسّر لها ذَلك، ورتّب على هَذه الأعمالِ الصّالحَة ثوابًا عظيمًا في الدّنيا والآخرَة.
أيّها المسلم، فأنتَ عَلى خيرٍ في أقوالك وأعمالك الصّالحَة، بل أعمالُ القلوبِ تُثاب عليها، نُطقُ اللّسان عملُ الجوارحِ كلّ ذلك تثابُ عليه بأنواعٍ من الأعمال الصّالحة، لو عجزتَ عن نوعٍ قدرتَ على النوع الآخر، ومَن وفِّق لاستكمال الخير فذاك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
يقول ربّنا جلّ وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?رْكَعُواْ وَ?سْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَ?فْعَلُواْ ?لْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77]، ويقول ربّنا جلّ وعلا: فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى? الله مَرْجِعُكُمْ [المائدة:48]، ويقول ربّنا جلّ وعلا: وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133].
أيّها المسلم، فواجباتُ الإسلام سواء الواجباتُ العينيّة أو الكفائيّة أو الأمور المستحبّة كلُّ هذه الأعمالِ يُثاب العبد عليها على فعلِها مع النيّة الصالحة، وكلّما حسُنت النيّة وعظم القصدُ زاد الثواب من ربّنا جلّ وعلا: مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160]، ذاك فضل الله على هذه الأمّة المحمّديّة، فاشكروا اللهَ على نعمتِه، وتسابَقوا لفعلِ الخير لعلّكم تفلحون.
أيّها المسلم، أركانُ الإسلام الخمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسول الله وإقامُ الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحجّ بيت الله الحرام، هذه هي أركان الإسلام، دعائم الإسلام، لا يصحّ إسلام عبدٍ إلا باستكمالِ هذه الأركان كلّها.
فأوّلها تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا رسول الله، كلمة التّوحيد: "لا إله إلا الله" هي أعلى شعَب الإيمان، كما قال : ((الإيمانُ بِضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول: لا إله إلا الله)) [1]. كلمةُ التّوحيد من قالها في يومٍ عشرَ مرّات كان كمَن أعتقَ أربعةً من ولد إسماعيل، من قالها في يومٍ مائةَ مرّة كان له عَدل عشرِ رِقاب وكُتِبت له مائة حسنة ورُفِعت له مائَة دَرجة وحطّت عنه مائة خطيئة. من صلّى على نبيّنا صلاةً واحِدة صلّى الله عليه بِها عشرًا.
((الصلواتُ الخمس والجُمعة إلى الجمعة ورَمضان إلى رمضانَ كفّارة لما بينهنّ ما اجتُنبت الكبائر)) [2] ، في الحديث الآخَر: ((مثَل الصلواتِ الخَمس كمثل نَهر غمرٍ بباب أحدِكم، يغتسل منه كلّ يوم خمسَ مرّات، هل يبقى من دَرَنه شيء؟)) قالوا: لا يا رسول الله، قال: ((فكذلك الصلوات الخمسُ، يمحو الله بهنّ الخطايا والسيئات)) [3].
أيّها المسلم، أداؤك للزكاة ركنٌ من أركانِ دينك، ومع أدائِك لها فلك مِن الله الثوابُ العظيم، خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَو?تَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ [التوبة:103]، وما نَقص صدقةٌ مِن مال، بل تزِده بل تزده.
صومُك لرمضان وقيامك لليلِه مِن أسباب تكفير الذّنوب ورفعِ الدّرجات، ((من صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدّم من ذنبه)) [4] ، ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدم من ذنبه)) [5] ، ((الصوم لي وأنا أجزي به)) [6].
حجُّك لبيت الله، ((من حجَ البيتَ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبِه كيوم ولدته أمّه)) [7].
أيّها المسلم، وكلّ واجباتِ الإسلام فإنّها صدقة منك على نفسك وثوابٌ مدّخر لك يوم لقاء ربك.
أمرُك بالمعروف ونهيُك عن المنكر صدقة منك على نفسك، كما قال : ((وأمرُك بالمَعروف صدقة ونهيُك عن المنكر صدقة)) [8]. برّك بوالديك وإحسانُك إليهما صدقةٌ منك على نفسك مع كونِه أمرًا شرعيًّا واجبًا عليك. صلتُك لرَحمِك عملٌ صالح وإحسانٌ منك إلى نفسك مع أنّه أمر مطلوب منك شرعًا، ((من أحبّ أن ينسَأ له في أثره ويبسَط له في رزقه فليصِل ذا رحمِه)) [9].
أيّها المسلم، تفريجُ كَرب المكروب وهمِّ المهموم وقضاؤك لحاجة أخيك كلُّها أعمال صالحة، صدقةٌ منك على نفسك، وثوابٌ مدَّخر لك يوم القيامة، ((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربةً من كرَب الدّنيا فرَّج الله عنه كربةً من كُرب يومِ القيامة، ومن ستر مسلمًا في الدّنيا ستره الله في الدّنيا والآخرة)) [10].
أخي المسلم، عيادتُك للمريض واتّباعك للجنازة ونصرُك للمظلوم وإفشاؤك السّلامَ وإجابة دعوة أخيك وإبرار قسمِه إن أقسَم أعمالٌ صالحة وهي حقوق للمسلم على المسلم، ولها ثوابٌ عند الله.
أخي المسلم، معاشرتُك لامرأتِك مع النيّة الصالحةِ عملٌ صالح وصدَقة منك على نفسك، ولذا يقول : ((وفي بُضع أحدِكم صدقة)) ، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكون له فيها أجر؟! قال: ((أرأيتُم لو وضعَها في الحرام كان عليه وزر؟! فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) [11].
أخي المسلم، شفاعتُك لأخيك عند احتياجِه إلى شفاعتِك عمل صالحٌ وصدقة منك على نفسك، مَّن يَشْفَعْ شَفَـ?عَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا [النساء:85]، وفي الحديثِ: ((اشفَعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسانِ نبيِّه ما شاء)) [12].
أيّها المسلم، كلُّ هذه الأعمالِ الصالحة متى عمِلتَها بنيّة صادقةٍ فأبشر مِن الله بالثّواب العظيم، إن عاجلاً أو آجلاً، وقد يجمَع الله لك بين ثوابَي الدّنيا والآخرة.
أخي المسلم، نفقتُك على البناتِ وإحسانك إليهنّ صدقةٌ منك على نفسك، ((من عال جاريتَين حتّى تبلغَا كنتُ أنا وهو في الجنّة كهاتين)) [13]. إكرامُك اليتيمَ وإحسانك إليه عملٌ صالح، وفي الحديثِ عنه : ((أنا وكافِل اليتيمِ في الجنّة كهاتين)) [14].
أيّها المسلم، نفقتُك على زوجتِك وعلى ولدِك مع النيّة الصالحةِ صدقةٌ منك على نفسِك، يقول لسعدِ بن أبي وقّاص: ((إنّك لن تنفقَ نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلاّ أجِرت عليها حتى ما تضع في فِي امرأتِك)) [15] ، وفي الحديث لمّا عدّ النبيّ الدنانيرَ ذكر أفضلها: ((دينارًا أنفقَه المسلمُ على ولده)) [16].
أيّها المسلم، تربيتُك للأولادِ وعنايتك بأخلاقِهم وأعمالِهم إلى أن يستقيموا على الخَير ويسلُكوا الطريق المستقيمَ صدقة منك على نفسك وعملٌ صالح يجري لك بعدَ موتِك، في الحديث: ((إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُه إلاّ من ثلاث: صدقةٍ جارية أو علم يُنتفع به أو ولد صالحٍ يدعو له)) [17].
أيّها المسلم، إنفاقُك من مالك الطيّب مع النيّة الصالحة ثوابه عظيمٌ وإن قلّت النفقة، في الحديث عنه : ((من تصدّق ولو بعَدل ثمرةٍ من كسبٍ طيّب، ولا يقبَل الله إلا الطيّب، فإنّ الله يتلقّاها بيمينه فيربِّيها لأحدِكم كما يربّي فلوَّه حتى تكونَ مثلَ الجبل العظيم)) [18] ، والله يقول: مَّثَلُ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَ?للَّهُ يُضَـ?عِفُ لِمَن يَشَاء وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].
أخي المسلم، حلمُك على الجاهلِ وإعراضُك عن السّفيه وتحمُّل ذلك [فيه] ثواب عظيمٌ، ?دْفَعْ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ?لَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ [فصلت:34، 35]، خُذِ ?لْعَفْوَ وَأْمُرْ بِ?لْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ ?لْجَـ?هِلِينَ [الأعراف:199].
إماطتُك الأذى عن طريق المسلمين صدقةٌ منك على نفسِك كما في الحديث: ((وتميط الأذى عن الطّريق صدقة)) [19]. إصلاحُك بين الخصمَين ولا سيّما الأقرباء وسعيُك في التوفيق بينهم وتضييقِ شقّة الخِصام بينهم صدقةٌ منك على نفسك، وفي الحديث: ((أن تعدلَ بينَ اثنين صدقة)) [20].
أيّها المسلم، النبيّ لمّا ذكر فضلَ إعتاق الرّقاب ومن عجز عنها قال: ((تعينُ صانعًا أو تصنع لأخرق)) [21] ، فجعل إعانةَ المسلم العاجزِ عن بعض أموره صدقة منك على نفسك.
أخي المسلم، نيّتك الصادقةُ في قلبك تبلّغك مبلغَ الأعمال مبلغَ العاملين، يقول يومَ تبوك: ((إنّ بالمدينةِ أقوامًا ما سِرتم مسيرًا ولا نَزلتم وادِيًا إلاّ كانوا معكم؛ حبَسهم العذر)) [22] ، ولذا قال الله: وَلاَ عَلَى ?لَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ?لدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ [التوبة:92]. ولمّا ذكر رسول الله مَن أعطاه الله المالَ والعلمَ فهو يعمَل في مالِه بعلمِه، يتّقي فيه ربَّه، ويصِل فيه رحمَه، ويعلم لله فيه حقًّا واجبَا، وأنّ هذا بأعلى المنازل، ذكرَ الآخرَ الذي أعطاه الله العلمَ ولم يعطِه المال، فهو يتمنّى مالَ الأوّل ليعمَل مثلَ عمله، قال النبي : ((فهو بنيّتِه، فهما في الأجر سواء)) [23].
والله لا ينظر إلى صوَرِنا وأموالِنا ولكن ينظُر إلى قلوبِنا وأعمالِنا، فكم مِن قلبٍ متَّقِد بالخيرِ حريصٍ على كلّ خير لا يمنعُه سوى عجز ماليّ أو عجز بدنيّ، والله يعلم ما انطوَت عليه قلوبُ العباد، فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [محمد:21].
أيّها المسلم، فميادينُ الخير كثيرة وطرُق الخير عديدة، فإيّاك أن تزهدَ في القليل، فمن أعطى القليلَ أعطى الكثير، في الحديثِ يقول : ((لا تحقرِنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقَى أخاك بوجهٍ طليق)) [24] ، وقال: ((كلّ معروفٍ صدقة)) [25] ، وفي الحديث عنه : ((أربعون خصلةً، أعلاها مَنيحة العنز، من عمل بواحدةٍ منها تصديقًا لثوابها ورجاءً لمَوعدها لأدخله الله الجنَة)) [26] ، ((ولا يهلِك على الله إلا هالك)) [27].
فاستبِقوا الخيراتِ، وتنافسوا في الأعمالِ الصّالحات، وربُّنا يقول وهو أصدق القائلين: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ?لنَّاسُ أَشْتَاتًا لّيُرَوْاْ أَعْمَـ?لَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:6-8].
بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل مرّت بكلبٍ يلهَث عند بئر، فنزلت وملأت موقَيها من الماء، فأسقَت الكلبَ، فشكر الله لها فغَفر لها، قالوا: يا رسول الله، ألنا في البهائم من أجر؟ قال: ((إنّ في كلّ كبدٍ رطبة أجر)) [28].
فسارِع إلى فعل الخير، واغتنِم أيَّ عمل صالح تقدِر عليه، فلن يضيعَ عند الله شيء، أعمالٌ صالحة مدَّخرة، فاحرِص على التزوّد من صالح العمل، أسأل اللهَ أن يعينَ الجميعَ على كلّ خير، وأن يهديَنا صراطه المستقيم، وأن ييسّر لنا فعلَ الخيرات، ويعينَنا عليها فضلاً منه وكرَمًا، والله ذو الفضل العظيم.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان، باب: أمور الإيمان (9)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها (35) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه مسلم في الطهارة (233) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، باب: الصلوات الخمس كفارة (528)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا (667) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[4] أخرجه البخاري في الإيمان، باب: صوم رمضان احتسابا من الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (760) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الإيمان، باب: تطوع قيام رمضان من الإيمان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (759) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في التوحيد، باب: قول الله تعالى: يريدون أن يبدلوا كلام الله (7492)، ومسلم في الصيام، باب: فضل الصيام (1151) عن أبي هريرة، وعند مسلم: عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.
[7] أخرجه البخاري في الحج، باب: قول الله تعالى: فلا رفث (1819)، ومسلم في الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1350) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان (720) عن أبي ذر بنحوه.
[9] أخرجه البخاري في الأدب، باب: من بسط له في الرزق بصلة الرحم (5986)، ومسلم في البر والصلة، باب: صلة الرحم (2557) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في المظالم، باب: لا يظلم المسلم المسلم (2442)، ومسلم في البر والصلة، باب تحريم الظلم (2580) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه.
[11] أخرجه مسلم في الزكاة، باب: أن اسم الصدقة يقع على كل نوع (1006) عن أبي ذر رضي الله عنه نحوه.
[12] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: التحريض على الصدقة والشفاعة فيها (1432)، ومسلم في البر والصلة، باب: استحباب الشفاعة فيما ليس بحرام (2627) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[13] أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب: فضل الإحسان إلى البنات (2631) عن أنس رضي الله عنه بنحوه.
[14] أخرجه البخاري في الأدب، باب: فضل من يعول يتيما (6005) عن سهل بن سعد رضي الله عنه، ومسلم في الزهد والرقائق، باب: الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم (2983) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[15] أخرجه البخاري في الإيمان، باب: ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة (54)، ومسلم في الوصية، باب: الوصية بالثلث ( 1628) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[16] أخرجه مسلم في الزكاة، باب: فضل النفقة على العيال والمملوك (994) عن ثوبان رضي الله عنه بنحوه.
[17] أخرجه مسلم في والوصية، باب: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[18] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: الصدقة من كسب طيب (1410)، ومسلم في الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها (1014) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[19] أخرجه البخاري في الجهاد، باب: من أخذ بالركاب ونحوه (2989)، ومسلم في الزكاة، باب: أن اسم الصدقة يقع على كل نوع (1009) واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[20] أخرجه البخاري في الجهاد، باب: من أخذ بالركاب ونحوه (2989)، ومسلم في الزكاة، باب: أن اسم الصدقة يقع على كل نوع (1009) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[21] أخرجه البخاري في العتق، باب: أي الرقاب أفضل؟ (2518)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الإعمال (84) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[22] أخرجه البخاري في الجهاد والسير، باب: من حبسه العذر عن الغزو (2839) عن أنس رضي الله عنه، ومسلم في الإمارة، باب: ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر (1911) عن جابر رضي الله عنه.
[23] أخرجه أحمد (4/230، 231)، والترمذي في الزهد، باب: ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر (2325)، وابن ماجه في الزهد، باب: النية (4228) من حديث أبي كبشة الأنصاري رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وهو في صحيح سنن الترمذي (1894).
[24] أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب: استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء (2626) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[25] أخرجه البخاري في الأدب، باب: كل معروف صدقة (6021) عن جابر رضي الله عنه، ومسلم في الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع (1005) عن حذيفة رضي الله عنه.
[26] أخرجه البخاري في الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب فضل المنيحة (2631) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[27] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة (131) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[28] أخرجه البخاري في المساقاة، باب: فضل سقي الماء (2363)، ومسلم في السلام، باب: فضل سقي البهائم المحترمة وإطعامها (2244) عن أبي هريرة رضي الله عنه، لكن فيه أن رجلا بينا يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش... أما قصة البغي فليس قول النبي : ((إنّ في كلّ كبدٍ رطبة أجر)) ، وقد أخرجها البخاري في أحاديث الأنبياء (3467)، ومسلم في السلام (2245) من حديث أبي هريرة أيضا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيّها المسلم، طرُق الخير عديدة والأعمال الصّالحة كثيرة، والموفَّق من وفّقه الله لفعل الخير.
أخي المسلم، وعندما تعجز عن الخير، وتضعُف نفسك عنه، إمّا عجزًا أو كسلاً، فاحرِص أن تكفَّ عن النّاس أذاك، احرِص على أن يسلمَ الناس من شرّ لسانك ومن شرّ يدك، احرص أن لا تكونَ عونًا للإجرام وأهله، فالنبيّ لمّا ذكر طرقَ الخيرِ لأحدِ الصّحابة ويبدِي عندَ كلّ طريقٍ عجزَه، قال: ((تمسِك عن الشّرّ، فذاك صدقة منك على نفسِك)) [1] ، فإذا عجزتَ عن فعل الخيرات فلا تعجَز من أن تكفَّ عن فعلِ السيئات وتمتنع من أذى المسلمين، فـ ((المسلِم من سلِم المسلمون من لسانه ويدِه، والمؤمن من أمِنه الناس على دمائهم وأموالهم)) [2] ، فكفُّك الأذى وامتناعُك عن الأذى وإعراضك عن إلحاقِ الضّرر بالمسلمين صدقةٌ منك على نفسك، فإمّا خيرًا تفعله، وإمّا تكفّ عن الشرّ، وتترك الناسَ وشأنَهم، وتشتغِل بما ينفعُك، وتلهو بذلك عن تتبّع عيوبِ النّاس والاشتغال بما يضرّهم أو السّعي بينهم بالنّميمة أو اغتيابهم أو رميهم بما هم برآء منه، فأمسك لسانَك عمّا لا ينفع، ((وهل يكبّ الناسَ في النار على وجوهِهم ـ أو قال: ـ على مناخِرهم إلا حصائدُ ألسنتهم)) [3]. وكم كلمةٍ قالت لصاحبها: دعني، وكم من كلمة أوبَقت صاحبها في عذاب الله.
أيّها المسلم، هذا شهرُ رجب أحدُ الأشهر الحرم، هذا الشّهر هو أحد الأشهر الحرم التي قال الله فيها: إِنَّ عِدَّةَ ?لشُّهُورِ عِندَ ?للَّهِ ?ثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَـ?بِ ?للَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ?لسَّم?و?ت وَ?لأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة:36]، وقول النبيّ: ((ورجبُ مضَر الذي بين جمادَى وشعبان)) [4].
ليس لهذا الشهر خصوصيّةٌ بعمرةٍ تؤدَّى فيه، ولا بصيامِ بعض أيّامه، ولا بإحياءِ بعض لياليه، ولا بصدقةٍ لأجل الشهر، كلّ هذه الأمور لا أصلَ لها في الشّرع، فلا يشرَع لنا أن نعتقدَ أنّ عمرةً في رجب لها مميّزات عن غيرها، ولا أن نعتقدَ أن صيامَ بعضه أو كلِّه أو أحد [أيامه] له فضل على غيره، ولا نعتقد أنّ قيامَ بعض ليالي الشّهر أو ليلة أو كلّ لياليه لها فضل، ولا أنّ صيامَ بعض أيامه له فضل، فلا صيامَ لأيّ يوم من رجب متميّز عن غيره، ولا قيام أي ليلة من ليالي رجب متميّزة عن غيرها من الليالي، ولا عمرة في رجب، ولا صدقة في رجب. كلّ هذه الأمور لا دليلَ عليها من كتاب الله ولا من سنّة رسول الله ، ولو كان خيرًا لسبقنا إليه محمّد وصحابتُه الكرام.
إذًا فمن خصَّ رجب بعمرةٍ فيه أو خصَّه بصيام بعضِ أيامه أو خصَّه بإحياء بعض لياليه أو خصَّه بصدقةٍ فيه زاعمًا أنّ لها فضلاً عن سائر الشهور، فنقول: هذا من البِدع التي ما أنزل الله بها مِن سلطان.
واعلَموا ـ رحمَكم الله ـ أنّ أحسَنَ الحديثِ كِتاب الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمّد ، وشرّ الأمورِ محدثاتُها، وكلّ بدعةٍ ضلالَة، وعَليكم بجمَاعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعَة، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصَلّوا ـ رحِمكم الله ـ عَلى نبيّكم محمّد كمَا أمرَكم بذلك ربّكم، قالَ تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك عَلى عبدِك ورَسولِك مُحمّد, وارْضَ اللهمَّ عن خلفائِه الرّاشدين...
[1] أخرجه البخاري في العتق (2518)، ومسلم في الإيمان (84) عن أبي ذر رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه أحمد (2/379)، والترمذي في الإيمان (2627)، والنسائي في الإيمان (4995) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (180)، والحاكم (22)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2118)، والجزء الأول منه في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو وأبي موسى وجابر رضي الله عنهم.
[3] أخرجه أحمد (5/231)، والترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (2616)، وابن ماجه في الفتن، باب: كف اللسان في الفتنة (3973) من حديث معاذ رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (2/447)، والألباني في صحيح سنن الترمذي (2110).
[4] أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: ما جاء في سبع أرضين (3197)، ومسلم في القسامة، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (1679) عن أبي بكرة رضي الله عنه.
(1/2879)
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه
العلم والدعوة والجهاد, قضايا في الاعتقاد
الاتباع, التربية والتزكية
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
8/7/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الطريق إلى الله واحد, وطرق الباطل مختلفة. 2- كل سبيل يوصل إلى رضوان الله فهو من الطريق إليه. 3- من رحمة الله بعباده أن نوع لهم سبل الخير الموصلة إليه. 4- من ذاق حلاوة الإيمان ثم استبدلها بشهواته أعرض الله عنه وشقي في الدنيا والآخرة. 5- إذا أحب الله عبدًا أشرقت له دنياه وأخراه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عباد الله، اتّقوا الله وراقبوه، واذكروا أنّكم موقوفون بين يديه، يَوْمَ يَنظُرُ ?لْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [النبأ:40]، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ?لإِنسَـ?نُ مَا سَعَى? [النازعات:35]، يوم يتذكّر الإنسان وأنّى له الذّكرى.
أيّها المسلمون، إنّه إذا كانت سبلُ الباطل وطرقُه كثيرةً لا تكاد تحصَر فإنّ الطريقَ إلى الله تعالى في الحقيقة واحدٌ لا تعدّدَ فيه، وهو صراطه المستقيم الذي نصبَه موصِلاً لمن سلكه إليه وإلى رضوانِه وجنّاته، كما قال سبحانه: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]. فوحّد سبيلَه لأنّه في نفسه واحدٌ لا تعدّدَ فيه, وجمع السّبل المخالفةَ له لأنّها كثيرة متعدِّدة، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسندِه والدارميّ في سننه بإسناد حسَن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنّ النبيّ خطَّ خطًّا مستقيمًا ثمّ قال: ((هذا سبيل الله)) ، ثم خطّ خطوطًا عن يمينه وعن شماله ثمّ قال: ((هذه السبل، على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه)) ، ثمّ قرأ: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ الآية [1].
فالطّريق إلى الله ـ أيّها الإخوة ـ واحد؛ لأنّه سبحانه الحقّ المبين، والحقّ واحد مرجعُه إلى واحد، وأمّا الباطل والضّلال فلا ينحصِر، بل كلّ ما سواه باطل، وكلّ طريقٍ إلى الباطل فهو باطل.
وأمّا ما يقع في كلامِ أهل العلم من أنّ الطريق إلى الله متعدِّدة متنوّعة وأنّ الله جعلها كذلك لتنوُّع الاستعدادات واختلافها رحمةً منه وفضلاً فهو قولٌ صحيح أيضًا، لا ينافي وحدةَ الطريق إليه, وبيان ذلك ـ كما قال العلاّمة الإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله ـ أنّ الطريق واحدةٌ جامعة لكلّ ما يرضي الله، وما يرضيه متعدِّد متنوّع، فجميع ما يرضِيه طريقٌ واحد، ومراضيه متعدّدة متنوّعة بحسَب الأزمان والأماكِن والأشخاصِ والأحوال، وكلّها طرقُ مرضاته، فهذه هي التي جعَلها الله سبحانه برحمتِه وحكمتِه كثيرةً متنوّعة جدًّا، لاختلافِ استعدادِ العباد وقابليّاتهم, ولو جعلها نوعًا واحدًا مع اختلافِ الأذهانِ والعقول وقوّة الاستعدادات وضعفِها لم يسلكه إلا واحدٌ بعدَ واحد، ولكن لما اختلفت هذه الاستعدادات تنوّعت الطّرق، ليسلكَ كلّ امرئٍ إلى ربّه طريقًا يقتضيه استعداده وقوّته وقبولُه.
ومِن هنا يُعلَم تنوّع الشرائع واختلافها مع رجوعِها كلِّها إلى دينٍ واحد، مع وحدَة المعبودِ ووحدةِ دينِه، ومنه الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسولَ الله قال: ((الأنبياء إخوةٌ لِعَلاّت، أمّهاتهم شتى ودينهم واحد)) [2] ، فأولاد العلاّت من كان والدهم واحدًا وأمّهاتهم متعدّدة، فشبَّه صلوات الله وسلامه عليه دينَ الأنبياء بالأبِ الواحد، وشبّه شرائعهم بالأمّهات المتعددة، فإنها ـ أي: هذه الشرائع ـ وإن تعدّدت فمرجعها لأبٍ واحد.
وإذا تقرّر هذا فمن النّاس من يكون العلم والتّعليمُ سيِّد عملِه وطريقه إلى الله، قد وفّر عليه زمانَه مبتغيًا به وجهَ الله، فلا يزال كذلك عاكفًا على طريق العلم والتعليم, عامِلاً بما علِم, حتى يصِل من تلك الطريق إلى الله، أو يموت في طريق طلبِه، فيرجَى له الوصول إلى مطلبِه بعد مماته, كما قال سبحانه: وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَـ?جِرًا إِلَى ?للَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ?لْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ?للَّهِ الآية [النساء:100].
ومِن النّاس من يكون الذّكر وتلاوةُ القرآن سيّدَ عمله، هو الغالبُ على أوقاتِه، قد جعله زادَه لمعادِه ورأسَ ماله لمآله، فمتى فتر عنه أو قصّر رأى أنّه قد غبِن وخسِر.
ومن النّاس من يكون سيّد عمله الصلاة، فمتى قصّر في وردٍ منها أو مضى عليه وقتٌ وهو غير مشغولٍ بها أو مستعدّ لها أظلم عليه قلبه وضاق صدره.
ومن النّاس من يكون طريقه الإحسانَ والنفع المتعدّي، كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثةِ اللّهفان وأنواع الصّدقات، قد فتِح له في هذا وسلك منه طريقَه إلى ربّه.
ومن النّاس من يكون طريقه الصومَ، فهو متى أفطر تغيّر قلبه وساءت حاله.
ومنهم من يكون طريقه الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، قد فتح الله له فيه, ونفَذ منه إلى ربِّه.
ومنهم من يكون طريقه الذي نفَذ منه الحجَّ والاعتمار.
ومنهم الجامعُ لتلك المنافِذ، السالِك إلى الله في كلِّ واد، الكادِح إليه من كلِّ طريق، فهو قد جعل وظائفَ عبوديّته قبلةَ قلبِه ونصب عينه، يؤمّها أين كانت، ويسير معها حيث سارَت، قد ضرَب مع كلّ فريقٍ بسهم، فأين كانت العبوديّة وجدتَه، إن كان علم وجدتَه مع أهله، أو جهاد وجدتَه في صفوفِ المجاهدين، أو صلاة وجدتَه في القانتين، أو ذكرٌ وجدتَه في الذّاكرين، أو إحسان وجدتَه في زمرةِ المحسنين، أو محبّة ومراقبة وإنابةٌ إلى الله وجدتَه في زمرة المحبّين المنيبين، يدين بدين العبوديّة أنَّى استقلّت ركائبُها، ويتوجّه إليها حيثُ استقرّت مضارِبها، لو قيل له: ما تريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفّذَ أوامرَ ربي حيث كانت، وأين كانت، جالبةً ما جلبت، مقتضيةً ما اقتضت، جمعتني أو فرّقتني، ليس لي مرادٌ إلاّ تنفيذُها والقيام بأدائها, مراقبًا له فيها، عاكفًا عليه بالرّوح والقَلب والبدَن، قد سلّمتُ إليه المبيع منتظِرًا منه تسليمَ الثّمن، إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ [التوبة:111].
فهذا ـ يا عباد الله ـ هو العبد السالكُ إلى ربّه، النافذ إليه حقيقةً نفوذًا يتّصل به قلبُه، ويتعلّق به تعلّقَ المحبِّ التّامّ المحبّةِ بمحبوبه، فيسلوَ به عن جميع المطالبِ سواه، فلا يبقى في قلبِه إلاّ محبّة الله ومحبّةُ أمره، فكان عاقبةَ ذلك أن قرّبه ربّه واصطفاه، وأخذ بقلبه إليه وتولاّه في جميع أموره، في دينه ومعاشه، وتولّى تربيتَه أحسنَ وأبلغ ممّا يربّي الوالد الشفيقُ ولدَه، فإنه سبحانه المقيمُ لكلّ شيء من المخلوقات، طائعِها وعاصيها، فكيف تكون قيّوميّته بمن أحبّه وتولاّه, وآثره على ما سواه, ورضيه به من دون النّاس ربًّا وحبيبًا ووكيلاً وناصرًا ومعينًا وهاديًا، فلو كشِف الغطاء عن ألطافه وبرّه وصنعِه له من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبُه محبّة له وشوقًا إليه وشكرًا له.
ومَن ذاق شيئًا من ذلك وعرف طريقةً موصِلة إلى الله ثمّ تركها، وأقبل على إراداتِه وراحاته ولذّاتِه ونزواته وقع في آثارِ المعاطب، وأُودع قلبُه سجنَ المضايق، وعذِّب في حياته عذابًا لم يعذَّب به أحد من العالمين، فحياته عَجز وغمّ وحزن، وموته كدَر وحَسرة، ومعادُه أسفٌ وندامة، قد فرَط عليه أمره، وتشتّت عليه شمله، يستغيث فلا يُغاث، ويشتكي فلا يُشكى، قد رحَلت أفراحه وسرورُه مدبِرةً، وأقبلت آلامه وأحزانه وحسراتُه، قد أبدِل بأُنسه وحشة, وبعزّه ذلاً، وبغناه فقرًا، ذلك بأنّه عرف طريقَه إلى ربّه ثمّ تركها، ناكبًا عنها، مكِبًّا على وجهه، فأبصر ثمّ عمي، وعرف ثم أنكر, وأقبل ثم أدبَر، ودعِيَ فما أجاب، وفتِح له فولّى ظهرَه الباب، قد ترك طريقَ مولاه وأقبل بكلّيّته على هواه، فلو نال بعض حظوظه وتلذّذ براحاته فهو مقيّدُ القلبِ عن انطلاقه في فسيح التّوحيد وميادين الأنس ورياض المحبّة وموائد القرب، قد انحطّ لإعراضه عن إلهه الحقِّ أسفلَ سافلين، وإعراضُ الكون عنه إذ أعرض عن ربّه حائلٌ بينه وبين مرادِه، فهو قبرٌ يمشي على الأرض، روحُه في وحشةٍ من جسمه، وقلبُه في ملالٍ من حياته، يتمنى الموتَ ويشتهيه ولو كان فيه ما فيه، حتى إذا جاءَه الموتُ على تلك الحال ـ عياذًا بالله من ذلك ـ فلا تَسَل عمّا يحلّ به من العذاب الأليم لوقوع الحجاب بينه وبين مولاه الحقّ, فهذه عاقبةُ إعراضِه وإيثار شهوتِه وشطحاتِه على مرضاةِ ربّه.
فمن أعرض عن الله بالكلّيّة ـ يا عباد الله ـ أعرض الله عنه بالكلّيّة، ومن أعرض الله عنه لزِمه الشقاء والبؤسُ والنّحس في أعماله وأحوالِه، وقارَنه سوء الحالِ وفساده في دينِه ومعاشه.
فالمحروم كلّ المحروم إذًا هو من عرف الطريقَ إليه ثمّ أعرض عنها، أو وجد بارقةً من حبّه ثمّ سلِبها، ولم ينفذ إلى ربّه منها، لا سيّما إذا مال بتلك الإرادة إلى شيء من اللّذّات المحرمة، أو انصرف بجملتِه إلى الشّطحات والنّزوات، عاكفًا على ذلك ليلَه ونهارَه وغدوَّه ورواحه، هابطًا من الأوجِ الأعلى إلى الحضيض الأدنى، ثاويًا في سجنِ الهوى، مقيمًا في أسرِ العدوّ، هائمًا في أودية الحيرة [3].
وصدق سبحانه إذ يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى? وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذ?لِكَ أَتَتْكَ ايَـ?تُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذ?لِكَ ?لْيَوْمَ تُنْسَى? [طه:124-126].
نفعني الله وإيّاكم بهديِ كتابه وبسنّة نبيّه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه, إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (1/435), وسنن الدارمي (202)، وأخرجه أيضا البزار (1694، 1718، 1865)، والنسائي في الكبرى (6/343)، وأبو نعيم في الحلية (6/263)، وصححه ابن حبان (6، 7)، والحاكم (2938، 3241)، والقرطبي في تفسيره (7/137)، وقال الهيثمي في المجمع (7/22): "فيه عاصم بن بهدلة، وهو ثقة، وفيه ضعف"، وصححه الألباني في شرح الطحاوية (810).
[2] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء, باب: قول الله: واذكر في الكتاب مريم... (3443), ومسلم في الفضائل (2635).
[3] طريق الهجرتين (1/278-283) بتصرف واختصار.
_________
الخطبة الثانية
_________
إنّ الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسِنا وسيّئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله, صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا عباد الله، إنّ الله إذا أقبل على عبدِه السالكِ إليه استنارت حياته، وأشرقت ظلمَاته، وظهر عليه آثارُ إقباله من بهجةِ الجلال ونضرة الجمال, وتوجّه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبّة والموالاة؛ لأنهم تبعٌ لمولاهم سبحانه، فإذا أحبّ عبدَه أحبّوه، وإذا والى وليًّا والَوه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشّيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((إنّ الله تعالى إذا أحبَّ عبدًا دعا جبريلَ فقال: إني أحبّ فلانًا فأحبَّه، فيحبّه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إنّ الله تعالى يحبّ فلانًا فأحبّوه، فيحبّه أهل السماء، ثم يوضَع له القبول في الأرض)) [1].
ويجعلُ الله قلوبَ أوليائه تفِد إليه بالودّ والمحبّة والرّحمة، وناهيك بمن يتوجّه إليه مالكُ الملك ذو الجلال والإكرام بمحبّته، ويقبل عليه بأنواع كرامتِه، ويلحَظ إليه الملأ الأعلى وأهلُ الأرض بالتّبجيل والتّكريم, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
فاتقوا الله عباد الله، واعمَلوا على كلِّ ما تبلغون به محبّة الله بإخلاصِ العمل لله ومتابعة رسول الله.
واذكروا على الدوام أن الله قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام فقال في أحسن الحديث وأصدق الكلام: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة...
[1] أخرجه البخاري في بدء الخلق, باب: ذكر الملائكة (3209), ومسلم في البر والصلة والآداب (2637).
(1/2880)
السبيل إلى محبّة الجليل
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الألوهية, فضائل الأعمال
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
8/7/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المرء مع من أحبّ. 2- عظم منزلة المحبة. 3- أسباب محبة الله تعالى: تدبر القرآن، التقرب بالنوافل، دوام الذكر، تقديم محابّ الله ورسوله، التعبد بأسماء الله وصفاته، تأمل نعم الله، انكسار القلب لله، التعبد وقت النزول الإلهي، مجالسة الصالحين، البعد عن المعاصي. 4- ضرورة اتباع النبي لنيل محبة الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسِي بِتقوى الله عزَّ وجلّ، فلا سعادةَ إلاّ في تَقواه، ولا فلاحَ ولا فَوز ولا نجاةَ إلاّ في اتّباع هديه وشريعتِه.
معاشرَ المسلمين، جاءَ في الصّحيحين عن أنسِ بن مالك رضي الله عنهما قال: جاءَ رجلٌ إلى رسول الله فقالَ: يا رسولَ الله، متى الساعة؟ فقالَ رسولُ الله : ((ما أعددتَ لها؟)) ، فكأنّ الرجلَ استكانَ، ثمّ قال: يا رسولَ الله، ما أعددتُ لها مِن كثيرِ صلاةٍ ولا صَوم ولا صدَقة، ولكنّي أحبّ اللهَ ورسولَه، فقال : ((فأنتَ مَع من أَحببتَ)) ، وفي روايةٍ: قال أنس: فما فرِحنا بعدَ الإسلام فرحًا أشدَّ من قول النبي : ((فإنّك مع من أحببتَ)) [1] ، وفي صحيح مسلم عن أنس أنه قال: فأنا أحبُّ الله ورسولَه وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكونَ معهم وإن لم أعمل بأعمالهم [2].
قال الإمام ابن القيّم رحمه الله عن هذه المحبّة العظيمَة: "هي المنزلةُ التي فيها تنافَس المتنافِسون، وإليها شخَص العاملون, وإلى أمَلِها شمّر السّابقون, وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمِها تروَّح العابدون، وهي قوتُ القلوب وغذاء الأرواح وقرّة العيون، وهي الحياة التي مَن حُرِمها فهو في جملةِ الأموات، والنور الذي من فقَده فهو في بحارِ الظّلمات، والشفاءُ الذي من عدِمه حلّت بقلبِه جميعُ الأسقام، واللَّذَّة التي من لم يظفَر بها فعيشُه كلّه همومٌ وآلام، تاللهِ لقد ذهَب أهلها بشرفِ الدّنيا والآخرة؛ إذ لهم مِن معيَّةِ محبوبهم أوفرُ نصيبٍ" انتهى من كلامه رحمه الله [3].
معاشرَ المسلمين، ولنيلِ منزلةِ هذه المحبّة وللفوز بهذه السّعادة ذكر العلماءُ أسبابًا لتحصيلها وطرُقًا كثيرةً للفوز بها. أصول هذه الأسباب وقواعِد هذه الطرُق مردُّها ما تتشنَّف أسماعنا به وما تصغِي آذانُنا إليه:
أوّل هذه الأصول قراءةُ القرآن بتدبُّرٍ مع الفهمِ لمعانيه والتعقُّل لأسرارِه وحِكَمه، ولهذا فإنَّ رجلاً مِن أصحاب نبيّنا استجلبَ محبّة الله بتلاوة سورةِ الإخلاص, فظلّ يردِّدها في صلواته، فلمّا سُئل عن ذلك قال: إنها صِفة الرحمن, وأنا أحبُّ أن أقرأَها، فقال النبيّ : ((فأخبروه أنَّ الله يحبّه)) رواه البخاري [4].
الأصلُ الثاني ـ عباد الله ـ التقرُّب إلى الله جلّ وعلا بالنّوافل بعد الحرصِ العظيم على الالتزامِ بالواجباتِ والوقوفِ الجازمِ عندَ الحدود والفرائِض, فرسولنا يحكي عن ربِّ العزّة جلّ وعلا أنّه قال: ((من عَادَى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليّ عبدِي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه, ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه, فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصِر به، ويدَه التي يبطِش بها، ورجلَه التي يمشي بها, ولئن سألني لأعطينَّه, ولئن استعاذني لأعيذنَّه)) رواه البخاري [5].
وثالث هذه الأصول ـ معاشر المؤمنين ـ دوامُ ذكر الله جلّ وعلا على كلّ حالٍ، ذكرٌ باللسان والقلب والعمل, فربّنا جلّ وعلا يقول: فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، ونبيّنا يقول: ((إنّ الله عزّ وجلّ يقول: أنا معَ عبدي ما ذكرَني وتحرّكت بي شفتاه)) رواه ابن ماجه بسند صحيح [6] ، ويقول المصطفى وهو سيّد الذاكرين: ((سبق المفرِّدون)) ، قالوا: يا رسول الله, ومن المفرِّدون؟ قال: ((الذّاكرون الله كثيرًا والذّاكرات)) رواه مسلم [7].
ورابع هذه الأصول إيثارُ محابِّ الله جلّ وعلا ومحابِّ رسوله على محابِّ النّفس عندَ غلبات الهوى, والتسنُّم إلى محابِّه عزّ وجلّ وإن صعُب المرتقى, فيؤثِر العبد رضَا الرّحمن عزّ وجلّ على رِضا غيره وإن عظُمت فيه المحن وثقلت فيه المُؤَن وضعُف عنه الطّول والبدن، يقول ابن القيم رحمه الله: "إيثار رضا الله جلّ وعلا على غيره هو أن يريدَ العبد ويفعلَ فيه مرضاتِه ولو أغضب الخلقَ, وهي درجة الإيثار, وأعلاها للرّسل عليهم صلوات الله وسلامه, وأعلاها لأولي العزمِ منهم, وأعلاها لسيّد الخلقِ محمّد " انتهى [8]. وذلك ـ يا عباد الله ـ لا يكون ولا يتحقّق إلا بثلاثة أمور: أوّلها قهرُ هوى النفس، وثانيها مخالفةُ الهوى، وثالثها مجاهدةُ الشّيطان وأوليائه.
وخامس هذه الأصول ـ أيها المسلمون ـ أن يطالعَ القلب أسماءَ الله وصفاتِه, وأن يشاهدَها ويعرِفها, ويتقلّب في رياض هذهِ المعرفة، فمَن عرف اللهَ جلّ وعلا بأسمائه وصفاتِه وأفعالِه التي أثبتها الوحيَان كما اعتقدَه رسول الله وصحابتُه ومن تبعهم بإحسان اعتقادًا كما جاءَت في النصوص من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تمثيلٍ ولا تكييفٍ ولا تأويل أحبَّه الله جلّ وعلا وأكرَمه وأرضَاه, فربّنا جلّ وعلا يقول مرغِّبًا ونَادبًا عبادَه: وَللَّهِ ?لأسْمَاء ?لْحُسْنَى? فَ?دْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، وثبت عن المصطفى أنّه قال: ((إنّ لله تسعةً وتسعين اسمًا، من أحصاها دخل الجنة)) [9].
سادس هذه الأصول ـ إخوةَ الإسلام ـ مشاهدةُ برِّ الله جلّ وعلا بعباده وإحسانه عليهم, والتعرُّف على آلائه ونعَمِه الظاهرةِ والباطنَة, فإنها داعيةٌ إلى محبّته سبحانه، فالإنعام والبرُّ واللّطف معاني تسترقّ مشاعرَ الإنسان, وتستَولي على أحاسيسِه, وتدفَعه إلى محبّة مَن يُسدي إليه النّعمةَ ويوصِل إليه المعروفَ, ولا منعِم على الحقيقةِ ولا محسنَ إلاّ الله, هذه دلالةُ العقلِ الصّريح والنّقل الصّحيح، فالمحبوبُ في الحقيقة عندَ ذوي البصائر هو الله جلّ وعلا, والمستحِقّ للمحبّة كلّها هو سبحانه وبحمده, وغيرُه فمحبوبٌ فيه عزّ وجلّ. والإنسانُ بالطّبع يحبّ من أحسنَ إليه ولاطَفه وواسَاه وأعانه على جميع أغراضِه وأهدافه. إذا عرَف الإنسانُ هذا حقَّ المعرفة علِم أنّ المحسنَ إليه هو الله جلّ وعلا, وأنَّ أنواعَ الإحسان لا يحيط بها حصرٌ، وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?لإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [الأنعام:34]، وحينئذٍ إذا انطلقَ المسلم مِن هذا المنطلَق فإنّه حريٌّ بالتّوفيق للقيام بواجِب الشّكر لله جلّ وعلا باللّسان والقلبِ والعمل, ويفوز حينئذٍ بكلّ خير ويسعَد بكلّ عاقبةٍ حميدة, فربّنا جلّ وعلا وعد بالمزيد لمن شكره: لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، ونبيّنا يقول: ((عجبًا لأمرِ المؤمن! إنّ أمره كلَّه له خير, وليس ذلك إلا للمؤمن, إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاءُ صبَر فكان خيرًا له)) رواه مسلم [10] ، وفي الحديث أيضًا: ((إنّ الله ليرضَى عن العبدِ يأكلُ الأكلةَ فيحمده عليها, ويشرَب الشّربةَ فيحمَده عليها)) رواه مسلم [11].
سابع هذه الأصول ـ وهو من أعجبِها وأعظمها ـ انكسارُ القلب بكلّيّته بين يدَي الله عزّ وجل, والتذلّل له سبحانه, والخشوعُ لعظمته بالقول والبدَن، قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون:1، 2]، ويقول عن خيرِ الخلقِ: إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبا [الأنبياء:90].
ثامن هذه الأصول تحيُّن وقتِ النزول الإلهيّ لمناجاتِه جلّ وعلا وتلاوةِ كلامِه والتأدُّب بآدابِ العبوديّة بين يدَيه, ثمّ ختمُ ذلك بالاستغفار والتّوبة النّصوح إليه سبحانه, فربّنا جلّ وعلا يقول عن صَفوة الخلقِ: تَتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]. فأصحاب اللّيل هم أشرفُ أهلِ المحبّة؛ لأنّ قيامَهم في اللّيل بين يدَي الله جلّ وعلا يجمع لهم جلَّ أسباب المحبّة وأصولها, ولهذا فلا عجَب أن ينزلَ أمينُ السّماء جبريل عليه السلام على أمينِ الأرض محمّدٍ ويقول له: واعلَم أنّ شرَفَ المؤمن قيامُه بالليل, وعزَّه استغناؤه عن النّاس. حديث صحيح [12]. يقول الحسنُ البصريّ: "لم أجِد من العبادة شيئًا أشدّ من الصلاة في جوف اللّيل", فقيل له: ما بال المتهجِّدين من أحسنِ النّاس وجوها؟! فقال: "لأنهم خَلَوا بالرّحمن، فألبسهم من نوره" [13] ، نسأل الله من فضله.
وتاسع هذه الأصول محبّة الصّالحين والسّعيُ إلى القُرب منهم ومجالستهم، فرسول الله يقول في الحديث الصّحيح: ((قال الله عزّ وجلّ: وجبت محبّتي للمتحابّين فيّ, وجبت محبّتي للمتجالسين فيّ, وجبت محبّتي للمتزاورين فيّ)) [14] ، وفي حديثٍ صحيح عن النبيّ : ((أوثقُ عرى الإيمان الحبُّ في الله والبغض في الله)) [15].
عبادَ الله، وآخر هذه الأصول البعدُ عن كلِّ سببٍ وطريق يحول بينَ القلبِ وبين اللهِ جلّ وعلا, وذلك لا يتحقّق ولا يكون إلاّ ببُعد المسلمين والمؤمنين وبُعد مجتمعاتهم عن أنواعِ السيّئات وألوانِ المحرّمات وصوَر الموبقات، فالقلوبُ إذا فسَدَت فلن تجدَ فائدةً فيما يصلِحها من شؤون دنياها, ولن تجدَ نفعًا أو كسبًا في أخراها، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما سمعنا، أقول هذا القول، وأستَغفر الله لي ولكم ولسَائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الآداب، باب: علامة حبّ الله عز وجل (3688)، ومسلم في البر والصلة والآداب، باب: المرء مع من أحب (2639).
[2] صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب: المرء مع من أحب (2639)، وهي في البخاري أيضا في الموضع السابق ذكره.
[3] مدارج السالكين (3/6-7).
[4] صحيح البخاري: كتاب التوحيد، باب: ما جاء في دعاء النبي (7375) عن عائشة رضي الله عنها، وأخرجه أيضا مسلم في صلاة المسافرين، باب: فضل قراءة قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (813).
[5] صحيح البخاري: كتاب الرقاق، باب: التواضع (6502) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] سنن ابن ماجه: كتاب الأدب، باب: فضل الذكر (3792) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (2/540)، وعلقه البخاري في كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ بصيغة الجزم، وصححه ابن حبان (815)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (3059).
[7] صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: الحث على ذكر الله تعالى (2676) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] مدارج السالكين (2/299).
[9] أخرجه البخاري في التوحيد، باب: ((إن لله مائة اسم إلا واحدا)) (7392)، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها (2677) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] صحيح مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب: المؤمن أمره كله خير (2999) عن صهيب رضي الله عنه.
[11] صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب (2734) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[12] أخرجه الطبراني في الأوسط (4278)، والسهمي في تاريخ جرجان (83)، وأنو نعيم في الحلية (3/253)، والقضاعي في مسند الشهاب (746)، والبيهقي في الشعب (10541)، وصححه الحاكم (7921)، ووافقه الذهبي، وحسنه المنذري في الترغيب (1/243)، والهيثمي في المجمع (10/219)، وقال في موضع آخر (2/253): "فيه زافر بن سليمان وثقه أحمد وابن معين وأبو داود، وتكلم فيه ابن عدي وابن حبان بما لا يضر"، وقال عنه الحافظ: "صدوق كثير الأوهام"، وللحديث شواهد وقد حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (831).
[13] انظر: إحياء علوم الدين (1/355، 4/412).
[14] أخرجه مالك (6711) في الموطأ: كتاب الجامع، باب: ما جاء في المتحابين في الله، وأحمد (5/233، 247)، وصححه ابن حبان (575)، والحاكم (7314)، وابن عبد البر في التمهيد (21/125)، وابن القيم في تهذيب السنن (14/22)، وهو في صحيح الترغيب (2581، 3018).
[15] روي هذا الحديث من عدة طرق، فأخرجه الطيالسي (783)، وابن أبي شيبة (7/80)، وأحمد (4/286) وغيرهم عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (1/90): "فيه ليث بن أبي سليم ضعفه الأكثر". وأخرجه الطبراني في الكبير (11/215) من طريق حنش عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال الألباني: "هذا سند ضعيف جدًا، حنش متروك". وأخرجه الطيالسي (376)، وابن أبي شيبة (10492)، والطبراني في الكبير (10531) وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/480)، وتعقبه الذهبي بأن فيه عقيلا الجعدي قال عنه البخاري: "منكر الحديث"، وقال أبو حاتم في العلل (1977): "ونفس الحديث منكر، لا يشبه حديث أبي إسحاق، ويشبه أن يكون عقيل هذا أعرابيًا". وأخرجه الطبراني في الكبير (10357) من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده ابن مسعود. قال الألباني في السلسلة الصحيحة (998، 1728): "فالحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن على الأقل، والله أعلم".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله على إحسانِه، والشّكر له توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لاَ إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشَأنه، وأشهَد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسولُه الداعي إلى رضوانه، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فهي وصيّة ربِّنا جلّ وعلا للأوّلين والآخرين.
معاشرَ المسلمين، إدراكُ محبّة الله للعبد منزلةٌ عظيمة ومِنّة جسيمة وسعادةٌ أبديّة وحياة طيّبة زكيّة, فعلى العبدِ الموفَّق السعيُ لنيلها بكلِّ طريقٍ محمّديٍّ ونهج نبويٍّ من سيرةِ وسنّة المصطفى , صحّةً في الاعتقاد وسلامةً في التعبُّد وإحسانًا في الأخلاق، وجملةُ ذلك في تحقيق الإيمانِ الصّحيح ومزاوَلة التّقوى لله جلّ وعلا سرًّا وجهرًا: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:62، 63].
ألا وإنَّ من مقتضيَات محبّة الله جلّ وعلا الإكثارَ من الصّلاة والتّسليم على النبيّ المصطفى.
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيّدنا ونبيّنا وحبيبنا محمّد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الراشدين والأئمّة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن جميع الصحابة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهمَّ أعِزّ الإسلامَ والمسلمين، اللهمّ أذِلّ الكفرَ والكافرين...
(1/2881)
الإحسان في أداء الحقوق
فقه
الديون والقروض
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
8/7/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمر الله تعالى عباده بتوثيق الحقوق. 2- مِن أكل أموال الناس بالباطل جحد الحقوق والمماطلة في أدائها. 3- وجوب أداء الحقوق إلى أصحابها. 4- كيف يصنع إذا لم تكن الحقوق واضحة بين المتخاصمين؟ 5- وقوف النبي مع من له الحق ومع من عليه الحقّ. 6- أخذ العبرة من قصة المقترض والخشبة. 7- من علامات كمال الإيمان حسن المعاملة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، إنّ اللهَ جلّ وعلا أمَر المؤمنين بأن يوثِّقوا البيوعَ فيما بينهم؛ إمّا بالكتابة: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَ?كْتُبُوهُ [البقرة:282]، وأمر بالإشهاد: وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ [البقرة:282]، وأمر أن توَثَّق الحقوق بالرّهان لا سيّما في السفر: وَإِن كُنتُمْ عَلَى? سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَـ?نٌ مَّقْبُوضَةٌ [البقرة:283]. ثمّ إنّه تعالى أمَر بأمر آخرَ فوقَ هذا كلّه فقال: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ?لَّذِى ?ؤْتُمِنَ أَمَـ?نَتَهُ وَلْيَتَّقِ ?للَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283].
أيّها المسلم، فإذا أمِنكَ أخوك على حقٍّ بينك وبينه لم يكُن هناك كتابةٌ ولا رهون ولا إِشهاد, ولكنّه أمِنك واطمأنّ لإيمانك وصدقك, فإيّاك أن تخونَه, وإيّاك أن تسِيء ظنَّه بك, وإيّاك أن تكذِب, فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ?لَّذِى ?ؤْتُمِنَ أَمَـ?نَتَهُ وَلْيَتَّقِ ?للَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283], ليسدِّد الحقوقَ, ليوفِ ما عليه من الحقوق, ليبرئ ذمّتَه من حقوق الآخرين.
أيّها المسلم، إنَّ حقوقَ النّاس مبنيّة على المشاحّةِ والمضايَقَة, فلا يحلّ مالُ امرئٍ مسلم إلاّ بطيبة من نفسه, والأصلُ حرمة أموالِ المسلمين, ((إنّ دماءَكم وأموالَكم عليكم حرام)) [1] ، والله يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُمْ بِ?لْبَـ?طِلِ [النساء:29].
فمِن أكلِ أموال النّاس بالباطل جحودُ الحقّ الواجبِ عليك, فتجحَد ما في ذمّتك, وتنكِر ما عليك من حقّ. ومِن أكل أموال النّاس بالباطل وظلمِهم أن تماطلَ في الوفاء, فلا تعطي حقوقَهم بطمأنينة نفس، لكن تماطِلهم عسى أن يرضَوا منك باليسير, ويقتنِعوا منك باليَسير, فيسقِطوا بعضَ ما عليك رجاءَ أن يحوزوا البقيّةَ, فيسترجعوا أموالهم بجزءٍ منها مقابلَ مماطلتِك وظلمك وتأخيرك للوفاء. إذًا ما أخذتَ مِن هذا فإنّك أخذتَه بغير حقّ ظلمًا وعدوانًا، إذ الواجبُ عليك أن تسدّدَ الحقَّ الواجبَ عليك, وأن تؤدّي ما في ذمّتك عن طوعٍ واختيار, في الحديث: ((مَن أخذَ أموالَ النّاس يريد أداءَها أدّى الله عنه, ومن أخَذها يريد إتلافَها أتلفَه الله)) [2].
أيّها المسلم، فما في ذمّتِك مِن حقوق فأدِّها عن طيبِ نفس وعن رِضا نفس, لا تجحَد, لا تماطِل بالوفاء, لا تضارَّ صاحبَ الحقّ, لا تُلجئه إلى شكايةٍ ورفع للجهات المختصّة, لا تتعِبه وتشغله حتى يتعبَ منك, وربما ترَك حقَّه عجزًا عن مطالبتِك, فتظنّ أنّ ذلك مباحٌ لك, والله يعلم أنّه حرامٌ عليك, إذ الواجبُ أن تؤدّيَ الحقَّ بطيب نفس واختيار, هذا إذا كنتَ قادرًا ولا عذرَ لك، والنبيّ يقول: ((مَن كان لَه عندَ أخيه مَظلمةٌ من مالٍ أو عرض فليتحلَّل منه اليوم قبلَ أن لا يكونَ دينار ولا دِرهم، إن كان له حسناتٌ أخِذ من حسناته, وإن قضيت الحسنات قبل أن يُقضى ما عليه أخِذ من سيئاتِ صاحبه فحُمل عليه)) [3].
أيّها المسلم، فأبرِئ ذمّتَك من حقوق العباد, وأدِّها أداءً كاملاً, ولا عذرَ لك إلاّ أن تكونَ معسِرًا عاجِزًا عن التّسديد، فالله يقول: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى? مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، أمّا إن كنتَ قادرًا فأدّ الحقَّ فورًا, والنبيّ يقول: ((مطلُ الغنيّ ظلم, يحِلّ عرضَه وعقوبتَه)) [4].
أيّها المسلم، أدّ أثمانَ المبيع، وأدِّ أجرةَ العينِ المستأجرة, كلّ هذه واجبٌ أداؤها, وواجب تسليمُها والمبادرةُ بذلك.
أيّها المسلم، البعضُ من النّاس لدَيه قدرةٌ على التحايُل والمراوغة، إذا توجّه الحقّ عليه حاولَ بكلّ وسيلةٍ أن يؤخِّر الوفاء بعللٍ واهية وأكاذيبَ وأباطيل, يماطِل بصاحب الحقّ ويتعبه ويعييه, ليلجَأ إلى الخصومة، أو يتعبَ ويكلّ ويعجز فيترك حقَّه عجزًا لا سماحة من نفسه، ولكن عجزًا عن المطالبة, وكلّ هذا لا يبرئُك من حقوق النّاس ولا يعفيك من الواجِب عليك.
أيّها المسلم، أمّا إن كانتِ الحقوق غيرَ واضحةً للجميع بأن يكونَ الأمر مشتبِهًا وحقوقًا متداخِلة، قد لا يستطيع الشّخصان أن يخلِّصا حقَّ كلٍّ من الآخر، فالنّبيّ قد أرشدنا إلى الطّريق السويّ في ذلك, فتروي أمّ سلمة زوجُ النبيّ أنّ شخصين اختصَما إلى النبيّ في مواريثَ دارِسة بينهما ليس لأحدِهما بيّنه, فقال لهم النبيّ : ((إنّكم تختصمون إليّ, وإنما أنا بشر, ولعلّ بعضَكم ألحن بحجّته من الآخر، فأقضي له بنحوٍ مما أسمع, فمن فضيتُ له بشيء من حقّ أخيه فلا يأخذْه, فإنما أقطعُ له قطعةً من النّار يحملها [إسطامًا] على عنقه يومَ القيامة)) ، فبكى الرّجلان, وقال كلٌّ منهما: حقّي لأخي, فقال : ((أمّا أنا فاذهَبا واقتسِما وتوخّيا الصّوابَ واستهِما, وليحلِّل كلٌّ منكما صاحبَه)) [5] ، فأرشَدَهما النبيّ إلى هذا الطّريق الذي تبرَأ به الذّمم؛ مواريثُ مندرِسة لا يعلَم كلٌّ ما له من الآخر، أمَرَهم النبيّ أن يتوخَّيا الصواب, ويفعَلا قدرَ ما يظنّا أنّ ذلك هو الحقّ, ثمّ يجريا بينهما قرعةً، فمن خرجت له القرعةُ فله ذلك النّصيب, ثمّ يقتسمان, ويحلِّل كلّ منهما صاحبَه, حتى تكون النفوس مطمئنّة وراضية، هكذا حكمُ رسول الله , وهذان الرّجلان عندما وعظَهم النبيّ بهذه الموعظةِ العظيمة بكيا إشفاقًا من الله وخوفًا من الله، هكذا حالُ أهل الإيمان.
أيّها المسلم، فلا يحلّ لك المضارّة لصاحب الحقّ ليصالحَك عن التنازل عن حقّه بشيء لأجلِ الإضرار, إنما الصّلح لو كان الأمر مجهولاً, لو كان الأمر غيرَ واضح, أمّا الأمور الواضحة والحقوق الجليّة التي لا إشكالَ فيها فواجبُ المسلم أن يؤدّيَ ما عليه, وأن لا يضارّ بأخيه المسلم, فمطلُ الغنيّ ظلمٌ يحلّ عرضَه وعقوبته, والله يقول: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ?لَّذِى ?ؤْتُمِنَ أَمَـ?نَتَهُ وَلْيَتَّقِ ?للَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283].
فتقوى الله واجبٌ بين العباد في تعاملِ بعضِهم مع بعض, فلا عدوانَ ولا ظلمَ ولا فِرار من الحقوق, ولكن أداءٌ ووفاء, ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِ?لْعُقُودِ [المائدة:1]، هذا أمرُ الله أن نوفي بالعقودِ؛ عقودِ البيع عقودِ الإجارات كلّ عقودٍ بيننا مما أباحَ الشرع التعاقدَ بها فواجبُنا أن ينفِّذَ كلّ منّا العقدَ الذي التزمَ به؛ لأنّ هذا هو المطلوبُ من المسلمين، أن يكونَ الصدق والوفاء فيما بينهم خلقًا سائرًا وعملاً صالحًا, هكذا الإيمان الصّادق.
أسأل الله أن يوفّقني وإيّاكم لصالح القولِ والعمل, وأن يعينَنا على أنفسِنا ويكفيَنا بحلالِه عن حرامِه وبطاعته عن معصيتِه وبفضلِه عمّن سواه.
أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه, إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الحج، باب: الخطبة أيام منى (1741)، ومسلم في القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها (2387) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في المظالم والغصب، باب: من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له (2449) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] هذا النص مركَّب من حديثين: الأول قوله : ((مطل الغني ظلم)) أخرجه البخاري في الحوالات (2287)، ومسلم في المساقاة (1564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والثاني قوله : ((ليُّ الواجد يحِلّ عرضه وعقوبته)) علقه البخاري في الاستقراض، باب: لصاحب الحقّ مقال، ووصله أحمد (4/389)، وأبو داود في الأقضية، باب: في الحبس في الدين وغيره (3628)، والنسائي في البيوع، باب: مطل الغني (4689، 4690)، وابن ماجه في الأحكام، باب: الحبس في الدين والملازمة (2427) من حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (5089)، والحاكم (4/102)، ووافقه الذهبي، وحسنه الحافظ في الفتح (5/62)، والألباني في الإرواء (1434).
[5] أخرجه أحمد في المسند (6/320)، وأبو داود في الأقضية، باب: في قضاء القاضي إذا أخطأ (3583)، وأبو يعلى (6897، 7027)، والدارقطني (4/238)، والبيهقي في الكبرى (6/66، 10/260) من حديث أم سلمة رضي الله عنها بنحوه، وصححه ابن الجارود (1000)، والحاكم (7033)، وحسنه الألباني في تخريج أحاديث المشكاة (3696)، وانظر: الإرواء (1423، 1621).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، رسول الله يحثّ المسلمين على الصّدقِ في تعاملِهم، رسول الله لا يلزِم أهلَ الحقوق أن يتنازلوا عن حقوقِهم، لا يلزِمهم التنازلَ عن حقوقِهم, بل يكون موقفُه مع صاحبِ الحقّ لا مع من عليهِ الحقّ فقط, وإنما موقفه مع صاحبِ الحق ليعطَى حقَّه، ومع من عليه حقّ لينظّم كيفَ يؤدّي الحقّ, أمّا أن يفرَض على صاحب الحقّ أن يتنازلَ عن شيء من حقّه فإنّ هذا لم تأتِ به السنّة, فحقوق النّاس هم أولى بها, ولا يحلّ مال امرئٍ مسلم إلا بطيبةٍ من نفسه.
أيّها المسلم، قد تلجَأ أحيانًا للمُماطلة, وقد تستعين بمحامٍ لكي يماطِل بصاحبِ الحقّ ويظلم صاحبَ الحقّ، كلّ هذا من التّعاون على الإثم والعدوان, الواجبُ الإنصاف وإعطاءُ الناس حقوقَهم, وأن لا يظلَم من له الحقّ ولا من عليه الحقّ.
اسمع إذًا سنّةَ محمّد , اسمَع عدالتَه، اسمَع موقفَه مع من له الحقّ ومن عليه الحقّ؛ لتعلمَ أنّ شريعتَه شريعةُ العدل والحقِّ والإنصاف، يروي جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري رضي الله عنه أنّ أباه استُشهد يومَ أحد, وكان على أبيه دينٌ, فاستمهَل الغرماءَ فلم يمهِلوا, وأراد أن يعطيَهم ثمرَ حائطِه مقابلَ حقِّهم فأبَوا, فأتى النبيّ ، فقال له: ((إني آتيك غدًا)) , فأتى النبيّ حائطَه وطافَ فيه وبرَّك فيه, ثمّ قال: ((جُدَّ لهم)) ، فجدَّ لهم ثلاثين وَسقًا من التّمر وبقيَ له سبعةَ عشر وسقا.
فرسول الله لم يفرِض على الغرماءِ التنازلَ لما أبَوا أن يتنازلوا عن حقّهم لم يفرِض عليهم شيئًا مِن ذلك, ترك الأمرَ لهم, وفي بعض الألفاظ عن جابر أنّ يهوديًا كان له على أبي جابر ثلاثون وسقًا مِن تمر، فكلّمه جابر أن يعطيَه ثمرةَ حائطه ويتنازَل عن الباقي فأبى, فكلّم رسولَ الله أن يشفَع له, فكلّم النبيّ اليهوديّ فأبى, أبى أن يتنازلَ عن حقّه, فالنبيّ لم يلزِم ذلك اليهوديَّ بالتنازل, ولم يفرض عليه التواضعَ عن حقّه, وإنما أتى لحائطِ جابر فطاف فيه وأمره أن يجدَّ، فجدّ ثلاثين وسقًا، فأعطاه حقَّه كاملاً, وبقي لجابر بقيّة من ذلك [1].
إذا نظر المسلم إلى هذا علِم العدالةَ في الشريعة، وأنّ أهلَ الحقوق لا يظلَمون ولا يحمَلون على ما لا يريدون, وأنّ الأمرَ بيد صاحبِ الحقّ فهو أحقّ بماله، إن شاء تنازل وإن شاء استوفى حقَّه كاملاً. إذا كنتَ في أوّل الأمر أخذتَ ماله واستفدتَ منه أتريد أن تضارّه في القضاء, لماذا ما رتّبتَ أمرَك عندما أردتَ الأخذ من حقوق الناس؟
أمّا إذا تحمّلت حقوقَ الناس أردتَ المماطلة والمراوغةَ حتى ينقِّصوا من الحقوقِ, وحتى يرضَوا بإسقاطِ النّصف في سبيل النّصف الباقي، لا, حقوقُ الناس واجبٌ أداؤها, واجب تسديدُها, حرامٌ المماطلة بها, حرام المضارّة بأهلِ الحقوق, حرام المضارّة بأهل الأملاك, واجبٌ الوفاء سواء كانت قيمةَ مبيعات أو قيمةَ أجور أو غير ذلك, كلّ هذه الحقوق واجبٌ على المسلم أن يؤدّيَها بطيبِ نفسٍ حتى يكونَ من الصّادقين، فعلامة الإيمان الصادقِ أن يكون المسلم ذا وفاءٍ وقيام بالحقّ وتسديدٍ للحقّ دون أيّ مماطلة.
قصّ علينا نبيّنا قصّةً من أخبار بني إسرائيل من أخبار الماضين, وما قصّه مما هو صحيحٌ إليه فهو خبر صدقٍ عن محمّد , ملخّص هذه القصّة: ((أن رجلاً فيمن قبلنا استدَان من رجلٍ ألفَ دينار, فقال له مَن عنده الدنانير: أبغني كفيلاً, قال: كفى بالله كفيلاً, قال: أبغِني شهيدًا, قال: كفَى بالله شهيدًا, فأعطاه ألفَ دينار على أن يسدِّدها بعدَ عام، وقدّر ذلك الشّهر وذلك اليومَ الذي يكون فيه السّداد. لما مَضى عام كامل وجاءَ اليوم الذي هو موعِد السّداد خرج ذلك الرجل بألف دينار ليجِد مركبًا لعلّه أن يوصلَه إلى صاحبِ الحقّ فيعطيَه حقّه في وقته, فما وجدَ سفينةً يركبها ـ ما وجد مركبًا بحريًا يسير عليه ـ , فلمّا انقضى ذلك اليومُ وهو يراقِب عسى مركَبا بحريًّا يوصله إلى مكانِ صاحب الحقّ, فأيس من ذلك, فأخذ خشبةً ونجرها، وجعل فيها الألفَ الدّينار وصحيفةَ العقد، وزجّها وختمها، وألقاها في البحر, وقال: اللهمّ إنّ فلانًا طلب مني كفيلاً فرضيَ بك كفيلاً, ورضيَ بك شهيدًا, وهذا حقُّه فأسألك أن توصلَه إليه. قال: وخرج ذلك الرجل في ذلك اليومِ يرتقِب الموعدَ الذي وعده صاحبه, فما وجد أحدًا جاء, وإنما رأى خشبةً قد ألقِيت على ساحلِ البحر, فأخذها من بابِ أنها حطبٌ لأهله, فلمّا نشرها إذا الصحيفَة والألفُ الدينار موجود فيها, فأخذ حقَّه ألف دينار, وأخذَ صحيفتَه, وحمِد الله, وأثنى على صاحب الحقّ أنه أوصلَ حقَّه في يومه. ثم إنّ من عليه الحقّ بعد أيّام وجد مركبًا فسار عليه، وجاء بالألف الدينار إلى صاحبه، فقال: إني أعتذر فقد أخّرت الوفاءَ لأني ـ والله ـ ما وجدتُ مركبًا أسير عليه، قال: ألم تبعث لي خشبةً فيها ألف دينار وصحيفة؟! قال: يا أخي، والله ما وجدتُ مركبًا أسير عليه، قال: اعلم أنّ الله قد قضى عنك ما عليك, وأنّ تلك الخشبةَ التي ألقيتَها في البحر ما زال الرّيح بها حتى ألقتها على السّاحل, فأخذتها وأخذتُ نصيبي, فارجِع راشدًا بما معك, فجزاك الله خيرًا)) [2].
لا شكّ أنها قصّة أخبرنا بها نبيّنا ، ليبيِّن لنا فضلَ الأمانة وأداء الحقوق وحسن التعامل بين المسلمين، نسأل الله أن يجعلنا وإيّاكم ممن عمِل بشرع الله وتأدّب بآداب الله وأدّى الحقوق الواجبة ولم يخن ولم يماطل ولم يتعِب صاحبَ الحق, هذا هو المطلوب منّا في تعاملنا, وهو الذي يمليه علينا إيماننا بالله ورسوله, فحسن المعاملة بين المسلمين دليلٌ على الإيمان الصّادق، وأمّا سوء المعاملة وظلمُ العباد فإنها نقصٌ في حقّ الإنسان, فلا يغرّنّك ـ يا أخي ـ مجرّدُ محافظتك على الطاعة مع خيانة الأمانة وظلمِ النّاس والتّعدّي عليهم، فالإيمان الصادقُ يدعوك إلى الصّدق والأمانةِ والوفاء، قال بعض السلف: "والله، ما سبقهم أبو بكر بكثرةِ صلاة ولا بكثرةِ صيام، ولكن بإيمان وقر في قلبه". فالصّادق في صلاتِه وصيامِه وتعبّده هو الذي يعطِي الناسَ حقوقَهم ويوفي الناسَ حقوقَهم بلا مماطلة, وأما من يتظاهر بالخير ويتظاهر بالصّلاح ولكن عند المعاملة لا تجد شيئًا، فهذا دليلٌ على النّقص في الدّيانة, نسأل الله السلامةَ والعافية, وأن يجعلَ إيماننا صادقًا ظاهرًا وباطنًا, إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخير الهديِ هديِ محمّد ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعَة، ومن شَذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد امتثالا لأمر ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في المغازي، باب: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ (4053) نحوه.
[2] علقه البخاري في الحوالات، باب: الكفالة في القرض والديون بالأبدان وغيرها عن أبي هريرة رضي الله عنه، ووصله في البيوع، باب: التجارة في البحر (2063).
(1/2882)
مناسك الحج
فقه
الحج والعمرة
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
8/12/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تهنئة الحجيج بمقدَمهم. 2- من ذكريات البيت العتيق. 3- حقيقة الحج. 4- إتمام النسك. 5- من دروس الحج. 6- ذكر الله تعالى ودعاؤه في الحج. 7- الدعوة والتعليم في الحج. 8- مقصد الوحدة في الحج. 9- صفة الحج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ?لسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2]. وتقرّبوا إلى الله بطاعتِه لنيلِ ثوابِه، واجتنِبوا أسبابَ سخطه وعِقابه.
وبعد: حجّاجَ بيت الله، هنيئًا لكم وصولُكم بيتَ الله الحرام وشروعُكم في الحجّ وأركانِه العِظام، في وقتٍ تهفو إليه أفئدةُ الملايين من المسلمين، فبشرى لمن حجّ ابتغاءَ رضوان الله، بُشرَى لكم فالمولى يُغدِق عليكم الرحماتِ ويقول لكم غدًا في عرفات: انصَرفوا مغفورًا لكم.
يا لها من بُشرى حينَ يستشعِر الحاجّ قولَ المصطفَى : ((من حجَّ فلم يرفث ولم يفسُق رجع من ذنوبه كيوم ولدَته أمّه)) رواه البخاريّ ومسلم [1]. يا لها من منحةٍ تطرَب لها النفوسُ المؤمنة، وتهونُ في سبيلها كلُّ المتاعب والصِّعاب.
حجّاجَ بيتِ الله الحرام، جِئتم صادقين مُلبِّين، استجابةً لدعوةٍ لم ينقطِع صَداها عبرَ القُرون، وَأَذِّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ [الحج:27]. جئتم في حَضرة هذا البيتِ العتيق الذي بناه نبيّان كريمان: إبراهيمُ وإسماعيل عليهما السلام، إبراهيمُ الذي صدَع بالتوحيد ونبذِ الشركِ حتى أُلقي في النار، فأنجاه الله ونصَره، وإسماعيلُ الذي استسلَم لربِّه وأسلَم عُنقَه للذّبح، فأنجاه الله ورفَع قدرَه. نبيّان كريمان وهبا حياتهما لله حتى اللّحظاتِ الأخيرة في النار وفي الذّبح. إذًا هذا البناءُ المعظَّم كعبةُ الله رمزُ التوحيد، ورمزُ الاستسلامِ لله في شرعِه وقدَره واتِّباع أمره ونهيه وامتثال حُكمِه. وهذا هو طريق النّصر الذي سلكَه الأنبياء والرسلُ وأتباعُهم؛ توحيدٌ وطاعة وسنّة واتباع، فَ?جْتَنِبُواْ ?لرّجْسَ مِنَ ?لأوْثَـ?نِ وَ?جْتَنِبُواْ قَوْلَ ?لزُّورِ حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ [الحج:30، 31].
أيّها المسلمون، ضيوفَ الرحمن، إنّ مناسكَ الحجّ ليسَت مجرّدَ رسومٍ تُؤدَّى وأماكنَ تُؤتَى، بل الحجُّ مدرسةٌ وتربية وتاريخٌ وذكريات وعبادةٌ خالِصة تُفيض على الحاجّ نورَ الإيمان وثمرةَ العبادة. حين يسعى الحاجّ بين الصفا والمروة ويشتدّ سَعيًا في بطنِ الوادي يستحضِر الذُلَّ والفاقةَ لربّ العالمين، ويشعر أنّ حاجتَه وفقرَه إلى خالقِه كحاجةِ وفقر هاجرَ أمِّ إسماعيل في ذلك الوقتِ العصيب والكَرب العظيم؛ تسعَى لاهثةً مشفِقة وجِلةً تطلبُ الغوثَ من الله. يتذكَّر أنّ مَن كانَ يطيع اللهَ كإبراهيمَ عليه السلام فإنّ الله لا يضيعُه ولا يضيعُ ذرّيّتَه وأهله ولا يردّ دعاءَه.
أيّها الحاجّ الكريم، وأنتَ إذ أكرمَك الله تعالى بحجِّ بيتِه ويسَّر لك فاجتهِد رعاك الله في إتمامِ نُسُكك امتثالاً لقول الله تعالى: وَأَتِمُّواْ ?لْحَجَّ وَ?لْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]. وإتمامُه يكون بالإخلاصِ لله عزّ وجلّ والحِرص على اتِّباع السنة والاقتداءِ بالنبيّ الذي قال: ((خذوا عني مناسكَكم)) [2] والإتيانِ بشرائطِ الحجّ وواجباته كاملةً، كما ينبغي السؤالُ عن الأحكام الشرعية قبلَ الشروع في العمل، فكم حاجٍّ يعبُد الله على جهلٍ، لا يتعلّم ولا يسأل، وهذا تهاونٌ بالنّسك، وكم من مُستفتٍ لو كان قبل العمل لزال عنه الحرَج، كما أنّ تتبُّع الرُّخَص والتهاونَ في أداء المناسك خذلانٌ ونَقص، فاتّقوا الله وأتمّوا الحجّ والعمرةَ لله.
ومن إتمام النسُك البعدُ عمّا يشوبه ويُنقصه، فالجدالُ والمراء والرفَث والفسوق والكِبر على عبادِ الله منهيّ عنها في القرآن، والبعدُ عنها مشروطٌ للقبول والغُفران، ?لْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـ?تٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ?لْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ?لْحَجّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ?للَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? وَ?تَّقُونِ يأُوْلِي ?لألْبَـ?بِ [البقرة:197]. كما لا يجوز أن يُحوَّل الحجّ إلى ما ينافي مقاصدَه، فلا دعوةَ إلاّ إلى الله وحدَه، ولا شعارَ إلاّ شعار التوحيد والسنّة، ولا يحلّ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤذيَ مسلمًا أو يروّع آمنًا أو يصرفَ الحجَّ لما يخالف سنةَ سيّد المرسلين ، وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].
في الحجّ ـ يا عبادَ الله ـ تربيةُ النّفوس على جُملٍ من معاني الخير ومكارم الأخلاق، كالصّبر والتحمّل والعَفو والصّفح والنفَقة والبذل والإحسان وتعليمِ الجاهل والدعوة إلى الخير ونفع المسلمين، وإنما شُرعت الطاعات والقُرُبات لعبادةِ الله تعالى، وفيها تهذيبُ النّفوس وتزكيتُها وترويضُها على الفضائِل وتطهيرها من النقائص وتحريرُها من رقِّ الشّهوات والرقيُّ بها لأعلى المقامات والكرامات.
في الحجّ تعلمُ أنّ ما كنتَ تراه ضروريًّا ترَف الدّنيا أنّه ليس بضروريّ، وأنه يُمكِن الاستغناء عنه، وأنّ تفاخرَ الناس وتعاليَ بعضهم على بعض هي مظاهرُ زائفة لأنّك اليومَ ترى الناسَ سواسية كما سيكون يومَ القيامة، فتقودك هذه المواقف والتأمّلات إلى أن تتغيّر نظرتُك للحياة، فتتعاملَ مع الدنيا بمقدار ما تستحقّه دون مبالغةٍ أو زيد. وكما اجتمعَ المسلمون اليومَ في مقصدِهم ومسيرتهم فإنّ هذا دليلٌ على إمكان اجتماع كلمتهم واتِّحاد صفّهم ووحدتهم، وهو المأمول بإذن الله عزّ وجلّ.
أيها المسلمون، وفودَ الرحمن، وذكرُ الله تعالى سمةٌ بارزةٌ في الحجّ، فهو إعلانٌ للتوحيدِ الذي هو شعار الحجّ: "لبّيك اللهم لبّيك، لبّيك لا شريكَ لك لبّيك، إنّ الحمد والنعمةَ لك والملك، لا شريك لك". وفي سُنن أبي داود والترمذيّ أن النبيَّ قال: ((إنما جُعل الطوافُ بالبيت وبين الصفا والمروة ورميُ الجمار لإقامة ذكر الله)) صححه الحاكم ووافقه الذهبي [3].
بل إنّ المتأمِّل في آيات الحجّ يجدها مقرونةً بذكر الله، كقوله سبحانه: وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُود?تٍ [البقرة:203]، وكقوله: فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَـ?تٍ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ عِندَ ?لْمَشْعَرِ ?لْحَرَامِ [البقرة:198]، وكقوله: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـ?سِكَكُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ [البقرة:200]. فعُجّوا بالتكبير وبذكر الله يرفعِ الله درجاتكم ويحطّ خطيئاتكم.
الحجّ تلبية وتكبير وذكرٌ لله ودعاءٌ وتضرّع، فالرابح من تضرّع لربّه وناجاه، وخضَع وتذلّل لمولاه دون أن يضيعَ وقته فيما لا يَنفع.
ولقد كان للنبيِّ مواطنُ يكثر فيها من الدعاء، حريٌّ بالمسلم الحرصُ عليها. منها يومُ عرفة، وبالأخصّ آخر النهار، وبعدَ صلاة الفجر بمزدلفة حتى يُسفِر جدًّا، وبعدَ رميِ الجمرة الأولى وبعد رمي الجمرة الثانية من أيام التشريق، وكذا الدعاء فوق الصفا والمروة.
فالله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
لقد كان النبيّ يبرز للناس ويقول: ((خذوا عني مناسككم)) [4] ، فيعلّم الجاهل، ويجيب المستفتي. ألا وإن هذا الهديَ النبويّ منارٌ لطلبة العلم ليبصِّروا الناسَ بدينهم، ويرشدوهم للحقّ، ميسِّرين رافقين. إنّ الحجَّ فرصةٌ لأهل العلم لتوجيه مئاتِ الألوف من الأمّة لما ينفعهم، ومن أراد التوفيقَ فليلزَم هديَ النبيّ وسنته الذي قال كما في صحيح البخاري: ((إنّ الدينَ يُسر، ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدلجة)) [5].
ومِن مقاصدِ الإسلام العظيمة توحيدُ كلمة المسلمين وجمعُ قلوبهم ولمُّ شملهم، وفي الخيف من مِنى قال النبيّ : ((نضّر الله امرأً سمع مقالتي فبلَّغها، فربّ حاملِ فقهٍ غير فقيه، وربّ حامل فقهٍ إلى من أفقهُ منه، ثلاث لا يُغَلّ عليهن قلبُ مؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإنّ دعوتهم تحيط من ورائهم)) رواه ابن ماجة بسند صحيح [6].
هذه بعضُ القبساتِ من الحجّ، حريٌّ بالمسلم أن يستنيرَ بها ليكون حجّه مبرورًا، ولينالَ الفوزَ الكبير الذي أخبر عنه النبيّ بقوله: ((من حجّ هذا البيتَ فلم يرفث ولم يفسُق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه)) رواه البخاري ومسلم [7] ، وفي صحيح مسلم أنّ النبيَّ قال: ((العمرةُ إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحجّ المبرور ليس جزاء إلا الجنة)) [8].
جعل الله حجَّكم مبرورًا، وسعيَكم مشكورًا، وذنبكم مغفورًا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُود?تٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ?تَّقَى? وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَ?عْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه مِن الآيات والذّكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفِر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلِمات من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الحج (1521، 1820)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1350) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وليس عندهما قوله: ((من ذنوبه)).
[2] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).
[3] أخرجه أحمد (6/64، 75، 138)، وأبو داود في المناسك (1888)، والترمذي في الحج (902) عن عائشة رضي الله عنها، وصححه ابن الجارود (457)، وابن خزيمة (2738)، والحاكم (1685)، وقال النووي في المجموع (8/56): "إسناده كله صحيح إلا عبيد الله فضعفه أكثرهم ضعفا يسيرا"، وأورده الألباني في ضعيف سنن أبي داود (410).
[4] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).
[5] صحيح البخاري: كتاب الإيمان، باب: الدين يسر (39) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] سنن ابن ماجه: كتاب المناسك، باب: الخطبة يوم النحر (3056) عن جبير من مطعم رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (4/80، 82)، والدارمي في العلم (1/74-75)، وأبو يعلى (7413)، والطبراني في الكبير (2/126-127)، والحاكم (1/87)، قال البوصيري في الزوائد: "هذا إسناد فيه محمد بن إسحاق وهو مدلس، وقد رواه بالعنعنة، والمتن على حاله صحيح"، وله شاهد من حديث زيد بن ثابت ومن حديث أنس بن مالك ومن حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، وأورده الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2480).
[7] صحيح البخاري: كتاب الحج (1521، 1820)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1350) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وليس عندهما قوله: ((من ذنوبه)).
[8] صحيح مسلم: كتاب الحج (1349) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري أيضا في الحج (1773).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا طيّبًا كثيرًا، خلَق كلَّ شيء فقدّره تقديرًا، وجعَل الليلَ والنهار خِلفةً فمن أراد أن يذَّكَّر أو أراد شكورًا، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه وسلّم تسليمًا كثيرًا، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصَح الأمة، وجاهَد في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين.
وبعد: أيها المسلمون، فهذا هو يوم التروية الثامن من ذي الحجة، وفي ضحاه يُحرم مريدُ الحجّ، ثم يذهب إلى منى، فيصلّي بها الظهر في وقتها قصرًا، والعصرَ في وقتها قصرًا، والمغربَ في وقتها، والعشاء في وقتها قصرًا، ويبيت بمنى تلك الليلة، فإذا صلّى بها الفجرَ وطلعت شمسُ اليوم التاسع توجّه إلى عرفات، وصلّى بها الظهرَ والعصر جمعًا وقصرًا، ثم يقف على صعيدِ عرفات مكثِرًا من ذكر الله تعالى، متذلِّلاً بين يدَيه، يسأله خيرَي الدنيا والآخرة، ويلحّ في الدعاءِ والرّجاء في ذلك الموقفِ العظيم، فإنّ الحجَّ عرفة كما قال النبيّ [1] الذي قال أيضًا: ((خير الدعاء دعاءُ يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير)) [2].
في ساحة الغفران في عرفات تخشَع القلوب، وتذرِف العيون، تُسكَب العَبَرات، وتُقال العثَرات، وترفع الدرجات، ويباهي الله بالحجّاج ملائكةَ السماء ويقول سبحانه: انظُروا إلى عبادي، أتوني شُعثًا غُبرًا ضاحين من كلّ فجّ عميق، أُشهدكم أني غفرتُ لهم.
ومَن لم يكن حاجًّا فيُستحَبّ له صيامُ يوم عرفة محتسِبًا أن يكفّرَ الله عنه السنة الماضيةَ والباقية، كما قال ذلك النبيّ في الحديث الذي رواه مسلم [3] ، فما من يومٍ أكثر عتيقًا من النار من يوم عرفة، مخرّج في الصحيحين [4].
فإذا غربت الشمسُ انصرف إلى مزدلفة بسكينةٍ ووقار، وصلّى بها المغربَ والعشاء جمعًا، ويقصر العشاء، ويبيت بها تلك الليلة، ويصلّي بها الفجر، ويكثِر من ذكر الله ومن الدّعاء حتى يُسفِر جدًا، ثم ينصرف إلى منى قُبيلَ طلوع الشمس، ويجوز للضَّعفة من النساء والصبيانِ ونحوهم الانصراف من مزدلفة بعد نصف الليل، ويتحقَّق ذلك بغياب القمر.
فإذا وصَل الحاجّ إلى منى رمَى جمرةَ العقبة بسبع حصَيَات متعاقبات، يُكبّر مع كلّ حصاة، ثم ينحَر الهدي إن كان عليه هدي، ثم يحلِق رأسه أو يقصّره، والحلقُ أفضل، ثم يتوجّه للبيت الحرامِ إن تيسّر له يومَ العيد وإلا بعده، فيطوف طوافَ الإفاضة، ثم يسعَى بين الصفا والمروة، فإن كان قارنًا أو مفرِدًا وقد سعَى قبل الحجّ بعد طواف القدوم فيكفيه سعيُه ذلك، ومن قدّم شيئًا أو أخّر شيئًا من أعمالِ يومِ النحر فلا حرج عليه.
ثمّ يعود إلى منى، ويبيت بها ليالي أيامِ التشريق، ويرمي الجمارَ الثلاث في كلّ يوم بعد الزوال، ثم إن شاء تعجّل في يومين، وإن شاء تأخّر لليوم الثالثَ عشر، والتأخّر أفضل، ثم لا يبقى عليه إلا طواف الوداع عندما يريد السفر من مكّة.
واتّقوا الله فيما تأتون وتذَرون، وأخلِصوا لله في عملكم وقصدِكم، واتّبعوا الهُدى والسنة، واجتنبوا ما يخرم حجّكم أو ينقصه، وعليكم بالرِّفق والسكينة والطمأنينة والشفَقة والرحمة بإخوانكم المسلمين، سيما في مواطن الازدحام كأثناء الطواف ورمي الجمار وعند أبواب المسجِد الحرام، واستشعروا عِظمَ العبادة وجلالة الموقف.
[1] أخرجه أحمد (4/309)، وأبو داود في المناسك، باب: من لم يدرك عرفة (1949)، والترمذي في الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج (889)، والنسائي في الحج، باب: فرض الوقوف بعرفة (3016)، وابن ماجه في المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع (3015)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (468)، وابن خزيمة (2822)، وابن حبان (3892)، والحاكم (1/463)، وهو في صحيح سنن الترمذي (705).
[2] سنن الترمذي: كتاب الدعوات، باب: في دعاء يوم عرفة (3585) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وله شواهد من حديث علي وأبي هريرة رضي الله عنهما. قال الألباني في السلسلة الصحيحة (1503): "وجملة القول: أن الحديث ثابت بمجموع هذه الشواهد، والله أعلم".
[3] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1162) عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في كتاب الحج (1348) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(1/2883)
أسرار الحج
فقه
الحج والعمرة
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
8/12/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشوق إلى بلد الله الحرام. 2- فضل الحج. 3- منافع الحج وعِبَره. 4- فضل يوم عرفة والدعاء فيه. 5- الذكر في الحج. 6- الناجح في مدرسة الحج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حقَّ التقوى، فتقوى الله نِعمَ الزاد، وهي النجاة يوم المعاد.
أيّها المسلمون، تتوالى مواسمُ الخيرات محفوفةً بفضلِ الزّمان وشرَف المكان، أفئدةُ المسلمين تهفو لبيتٍ معمور، يتّجهون إليه كلَّ يوم في صلاتهم، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ [البقرة:144]. وأنظارُهم تتطلّع لبقاعٍ مباركةٍ تتجدّد فيها العِبر والعظات، قال سبحانه: فِيهِ ءايَـ?تٌ بَيّنَـ?تٌ [آل عمران:97].
الأمنُ والأمان في ربوعِه بأمانٍ من الله، قال جلّ وعلا: وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِنًا [آل عمران:97]. نفعُه متعدٍّ للحاضر والباد، لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ [الحج:28]. الأرزاق إليه دارّة، والنِعم حوله متوالية، قال جلّ وعلا: أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا يُجْبَى? إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء رّزْقًا مّن لَّدُنَّا وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص:57].
ركابُ الحجيج مُيمِّمةٌ بيتَ الله العتيق، منكسرةً في رحابِه، راجيةً موعودَ الله وجزيلَ نواله، مستقبلةً طاعةً من أجلّ العبادات وركيزة من دعائم هذا الدين.
حجّ بيت الله الحرام بابٌ رحبٌ لحطِّ الأوزارِ والآثام، يقول عليه الصلاة والسّلام لعمرو بن العاص عند إسلامه: ((أما علمتَ أنّ الإسلامَ يهدِم ما كان قبله، وأنّ الهجرةَ تهدم ما كان قبلها، وأن الحجّ يهدم ما كان قبله؟!)) رواه مسلم [1].
فيه غسل أدرانِ الخطايا والرزايا، يقول النبي : ((من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجَع كيوم ولدته أمه)) متفق عليه [2]. ثوابُه جناتُ النعيم، يقول المصطفى : ((الحجّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)) رواه مسلم [3].
في الحجّ منافع وعبر وفوائد؛ التجرُّد من المخيط تذكُّرٌ بلباس الأكفَان بعد الرحيل، وفيه إرشادٌ إلى التواضع ونبذ الكبرياء، الجمع كلُّه إزارٌ ورداء، الرأس خانعٌ للدّيان، هيأته الخضوع والاستكانة للرحمن.
إخلاص العمل لله وإفرادُه بالعبادة شعار الحجّ وبه افتتاح النُسُك: "لبيك اللهم لبيك". فيها إعلان التوحيد ونبذِ الشرك: "لبّيك لا شريك لك لبيك". فيها تذكيرٌ بإسداءِ النعَم والثناءُ على المنعِم: "إن الحمد والنعمة لك". ومن لبّى في بلد الله الحرام كان إلى التزامِ نداء الله بعد حجّه واستجابته لأوامرِه بعد أداء نُسُكه أقرب.
وفي رؤيةِ بيتِ الله المعمور مشهدٌ لإخلاص الأعمال لله. الخليلُ وابنُه يرفعان أشرفَ معمور، ومع هذا يسألان الله قبول العمل وعدمَ ردّه، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْر?هِيمُ ?لْقَوَاعِدَ مِنَ ?لْبَيْتِ وَإِسْمَـ?عِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [البقرة:127]. يقول الحسن البصريّ: "المؤمن جمع إحسانًا وشفقة، والمنافق جمع إساءةً وآمنًا" [4].
وواجبٌ على الحاجّ إخلاصُ أعمال الحجّ وغيرها لله، فلا يريدُ بعمله رياءً ولا سُمعة ولا مباهاة ولا مفاخرة، بل طلبُ رضا الله وتكفير السيئات.
وللطواف وقعٌ على القلوب ومهابةٌ في النفوس في بساطِ بيت الله الآمن، فلا موطنَ على الأرض يُتقرَّب فيه إلى الله بالطواف سِوى ما حول الكعبة المشرّفة.
وفي تقبيلِ الحجر الأسودِ حسنُ الانقياد لشرع الله وإن لم تظهر الحكمة، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (والله، إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضرّ، ولولا أني رأيتُ رسولَ الله يقبّلك ما قبّلتُك) متفق عليه [5].
وفي مناسكِ الحجّ درسٌ في التقيُّد بالسنّة وحسنِ الاتباع، يقول النبي : ((خذوا عني مناسككم)) [6]. فعلى المسلمِ اتباعُ المصطفى في كلّ قربة واقتفاءُ أثره في كلّ طاعة، وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ [الحشر:7].
أيّها المسلمون، يومُ عرفةَ يومٌ أغرّ، هو ملتَقى المسلمين المشهود، يومُ رجاءٍ وخشوع وذلٍّ وخضوع، يومٌ كريم على المسلمين، يقول شيخ الإسلام: "الحجيجُ عشيةَ عرفة ينزل على قلوبهم من الإيمانِ والرحمة والنور والبركة ما لا يمكن التعْبير [عنه]" [7].
أفضلُ الدعاء دعاء ذلك اليوم، يقول ابن عبد البر: "دعاءُ يوم عرفة مُجابٌ كلُّه في الأغلب" [8]. والإكثار فيه من كلمة التقوَى مع مفهوم مدلولها ومعانيها خيرُ الكلام، يقول النبيّ : ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمدُ وهو على كل شيء قدير)) رواه الترمذي [9].
يومٌ يكثُر فيه عُتَقاءُ الرحمن ويباهِي بهم ملائكتَه المقرّبين، يقول : ((ما مِن يوم أكثر من أن يُعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟)) رواه مسلم [10]. قال ابن عبد البر: "وهذا يدلّ على أنهم مغفور لهم؛ لأنه لا يباهي بأهل الخطايا والذنوب إلا من بعد التوبة والغفران" [11].
فكن مُخبِتًا لله في ذلك اليوم، متواضعًا خاضعًا لجنابه، منكسِرًا بين يديه، طامِعًا في كرمِه، راغبًا في وعده، راهبًا من وعيده.
واجتماعُ الناس في عرفة تذكيرٌ بالموقف الأكبرِ يومَ الحشر لفصل القضاء بين الخلائق ليصيروا إلى منازلهم؛ إمّا نعيم وإما جحيم.
والدعاءُ عظيمُ المكانة رفيعُ الشأن، يرفع الحاجّ إلى مولاه حوائجَه، ويسأله من كرمه المتوالي، فتقيّد بشروطِه، وتمسّك بآدابه، واحذَر من الوقوع في شيء من موانع إجابته، وتحرَّ الأوقات والأمكنةَ الفاضلةَ لقبوله، وتوجَّه إلى الله بقلبك امتثالاً لأمره في قوله: فَ?دْعُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ [غافر:14]. وارفع له سؤلَك، وناجِه بكروبِك، وأيقِن بتحقيق الإجابة، وألحَّ على الكريم في الطلب، ولا تيأس من تأخُّر العطاء، ففي التأخير رحمةٌ وحكمة، وهو الخلاق العليم، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [يس:82].
ونُسُك النَّحرِ عبادةٌ محضةٌ لله، يتقرّب بها المسلمون لربِّهم من هديٍ أو أضحية، لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ [الحج:37].
وفي وضع النواصي بين يدَي ربِّها حَلقًا أو تقصيرًا استسلامٌ لهيمَنة الله وخضوعٌ لعظمتِه وتذلّلٌ لعزّته، والذكر وسيلةٌ لحياة القلب وتهذيبِ النفوس وتزكية الفؤاد، وإقامةُ ذكر الله والإكثارُ منه في المشاعر مقصَد من مقاصد أداءِ تلك الشعيرة وأرجَى لقبولها وأصدقُ في إخلاص فِعلها، قال تعالى: لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ [الحج:28]، وقال جل وعلا: فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَـ?تٍ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ عِندَ ?لْمَشْعَرِ ?لْحَرَامِ [البقرة:198]، وقال جلّ جلاله: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـ?سِكَكُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200]، وقال سبحانه: وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُود?تٍ [البقرة:203].
فصاحبْ ذكرَ الله في سائر حجِّك، فشعائرُ الحجّ شُرِعت لذلك، يقول النبي : ((إنما جُعل الطواف بالبيت والسعيُ بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)) رواه الترمذي [12].
وأقربُ الحجيج عند الله منزلةً أكثرهم له ذكرًا، يقول ابن القيم: "أفضل أهلِ كلِّ عمل أكثرهم فيه ذكرًا، فأفضل الصُّوَّام أكثرُهم ذكرًا لله في صومِهم، وأفضل المتصدّقين أكثرُهم ذِكرًا لله، وأفضل الحجّاج أكثرهم ذكرًا" [13].
وإذا انقضَى الحجّ فأكثِر من الاستغفار، فهو ختامُ الأعمال، والاستغفار يُخرج العبدَ من العمل الناقص إلى العمل التامّ، ويرفع العبدَ من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل.
ومَن أحسنَ في حجِّه وابتعد عن نواقصه عادَ منه بأحسن حال، وانقلب إلى أطيب مآل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ [الحج:27].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج (121) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الحج (1521، 1820)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1350) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] صحيح مسلم: كتاب الحج (1349) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا البخاري في الحج (1773).
[4] رواه الطبري في تفسيره (18/32)، والطبراني في الأوسط (1/183)، قال الهيثمي في المجمع (9/76): "إسناده حسن".
[5] صحيح البخاري: كتاب الحج، باب: ما ذكر فيه الحجر الأسود (1597)، صحيح مسلم: كتاب الحج، باب: استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف (1270).
[6] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنهما بلفظ: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).
[7] مجموع الفتاوى (5/374).
[8] التمهيد (6/41).
[9] سنن الترمذي: كتاب الدعوات، باب: في دعاء يوم عرفة (3585) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وله شواهد من حديث علي وأبي هريرة رضي الله عنهما. قال الألباني في السلسلة الصحيحة (1503): "وجملة القول: أن الحديث ثابت بمجموع هذه الشواهد، والله أعلم".
[10] صحيح مسلم: كتاب الحج (1348) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[11] التمهيد (1/120).
[12] سنن الترمذي: كتاب الحج (902) عن عائشة رضي الله عنها، وهو أيضا عند أحمد (6/64، 75، 138)، وأبي داود في المناسك (1888)، وصححه ابن الجارود (457)، وابن خزيمة (2738)، والحاكم (1685)، وقال النووي في المجموع (8/56): "إسناده كله صحيح إلا عبيد الله فضعفه أكثرهم ضعفا يسيرا"، وأورده الألباني في ضعيف سنن أبي داود (410).
[13] الوابل الصيب (ص104).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليمًا مزيدًا.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، مَن فاز بمغنَم الحجّ حقيقٌ به أن يعودَ إلى بلدِه بحالٍ زاكية صالحةٍ مطمئنّة، مليئة بالإيمان والتقوى، نفسُه قويمةُ السّلوك، ذاتُ عزيمةٍ قويَّة في الطّاعَة وإقبالٍ على الربّ.
ومن أمَارة الرّضَا والقبولِ فِعلُ الحسنةِ بعدَ الحسنة، وإذا انقلَب الحاجّ إلى ديارِه فليكُن فيها قدوةً بالصلاح والاستقامة والدعوةِ إلى الله على بصيرةٍ والتمسّك بالدين.
ورحيلُك مِن المشاعر تذكيرٌ لك بالرّحيل من هذه الدّار، فأنت في سفَر سيعقبُه سفر إلى قبرك، فتزوّد من هذه لتلك، يقول ابن القيم رحمه الله: "الناسُ منذ خُلِقوا لم يزالوا مسافرين، وليسَ لهم حَطٌّ عن رحالهم إلا في الجنة أو النار" [1].
فاغتنِم مواسمَ العبادة قبل فواتها، فالحياةُ مغنم، والأيام معدودة، والأعمارُ قصيرة.
ثمّ اعلموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيّه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم على نبينا محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] الفوائد (ص190).
(1/2884)
ماذا بعد الحج؟!
فقه
الحج والعمرة
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
15/12/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العبودية. 2- رحلة الحج. 3- إحسان الظن بالله. 4- المحافظة على الأعمال الصالحة. 5- علامة الحج المبرور. 6- الحج مظهر من مظاهر التوحيد. 7- أثر الحج. 8- نداء للغافلين. 9- التذكير بالموت. 10- الوصية باتباع سنة خير البرية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله فإنَّ تقواه أربحُ بضاعة، واحذروا معصيتَه فقد خاب عبدٌ فرَّط في أمرِ الله وأضاعَه, ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
أيّها المسلمون، إنَّ عبادةَ العبد لربّه هي رمزُ خضوعِه ودليلُ صدقِه وعنوان انقيادِه، شرفٌ ظاهر وعِزّ فاخِر. العبوديّة أشرفُ المقامات وأسمى الغايات وأعلى المراتب والدرجات.
أيّها المسلمون، في الأيّام القليلة الخالية قضى الحجّاج عبادةً من أعظم العبادات، وقربةً من أعظم القربات، تجرَّدوا لله من المخيط عند الميقات، وهلَّت دموعُ التّوبة في صعيدِ عرفات على الوجَنات، خجلاً من الهفَوات والعثَرات، وضجَّت بالافتِقار إلى الله كلّ الأصوات بجميع اللُّغات، وازدلفت الأرواح إلى مزدلفةَ للبيات، وزحفت الجموع بعد ذلك إلى رمي الجمرات، والطواف بالكعبة المشرَّفة، والسعي بين الصفا والمروة، في رحلةٍ من أروع الرحلات، وسياحةٍ من أجمل السياحات، عادوا بعدَ ذلك فرحين بما آتاهم الله من فضلِه, قُلْ بِفَضْلِ ?للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، خيرٌ من الدنيا وأعراضِها وأغراضها التي ما هي إلا طَيف خيال، مصيره الزوالُ والارتحال، ومتاعٌ قليل، عرضةٌ للآفات، وصَدَف للفَوات. فهنيئًا للحجّاج حجُّهم، وللعُبَّاد عبادَتهم واجتهادهم، وهنيئًا لهم قولُ رسول الهدى فيما يرويه عن ربِّه جلّ وعلا: ((إذا تقرَّب العبد إليَّ شبرًا تقرّبت إليه ذراعًا، وإذا تقرّب مني ذراعًا تقرّبت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيتُه هرولة)) أخرجه البخاري [1].
حجّاجَ بيت الله الحرام، اشكُروا الله على ما أولاكم، واحمَدوه على ما حبَاكم وأعطاكم، تتابَع عليكم بِرّه، واتَّصل خيره، وعمَّ عطاؤه، وكمُلت فواضله، وتمّت نوافله, وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل:53], وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?للَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل:18].
حجّاجَ بيتِ الله الحرام، ظُنّوا بربِّكم كلَّ جميل، وأمِّلوا كلَّ خيرٍ جزيل، وقوّوا رجاءكم بالله في قبولِ حجِّكم ومحوِ ما سلف من ذنوبكم، فقد جاء في الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: أنا عند ظنِّ عبدي بي)) أخرجه الشيخان [2] ، وعن جابر رضي الله عنه أنّه سمع النبيَّ قبل موته بثلاثة أيّام يقول: ((لا يموتنَّ أحدكم إلاّ وهو يُحسن الظنَّ بالله عزّ وجلّ)) أخرجه مسلم [3].
أيّها المسلمون، يا مَن حجَجتم البيتَ العتيق، وجئتُم من كلِّ فجٍّ عميق، ولبّيتم من كلِّ طرف سَحيق، ها أنتم وقد كمُل حجكم وتمّ تفثكم، بعد أن وقفتم على هاتيكَ المشاعر، وأدّيتم تلك الشعائر، ها أنتم تتهيّؤون للرجوع إلى دياركم، فاحذَروا من العودة إلى التلوُّث بالمحرّمات والتلفُّع بالمعرّات والتِحاف المسَبَّات, وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـ?ثًا [النحل: 92]، امرأةٌ حمقاءُ خرقاء ملتاثة العقل، تجهد صباحَ مساء في معالجة صوفها، حتى إذا صار خيطًا سويًّا ومحكَمًا قويًّا عادت عليه تحلُّ شُعيراته، وتنقُض محكماتِه، وتجعله بعد القوّة منكوثًا، وبعد الصّلاح محلولاً، ولم تجنِ من صنيعها إلاّ الإرهاقَ والمشاقّ، فإيّاكم أن تكونوا مثلَها، فتهدِموا ما بنَيتم، وتبدِّدوا ما جمَعتم، وتنقُضوا ما أحكمتم.
حجَّاج البيت العتيق، لقد فتَحتم في حياتِكم صفحةً بيضاء نقيّة، ولبستم بعد حجّكم ثيابًا طاهرة نقيّة، فحذارِ حذار من العودة إلى الأفعال المخزِية والمسالك المردِية والأعمال الشائنة، فما أحسنَ الحسنة تتبعُها الحسنة، وما أقبحَ السيئة بعدَ الحسنة.
أيّها المسلمون، إنّ للحجِّ المبرور أمارة ولقبوله منارة، سئل الحسنُ البصريّ رحمه الله تعالى: ما الحجّ المبرور؟ فقال: "أن تعودَ زاهدًا في الدّنيا، راغبًا في الآخرة" [4]. فليكن حجُّكم حاجزًا لكم عن مواقع الهلَكَة، ومانعًا لكم من المزالِق المتلِفة، وباعثًا لكم إلى المزيد من الخيرات وفِعل الصالحات. واعلموا أنّ المؤمن ليس له منتَهى من صالح العمَل إلاّ حلول الأجل.
أيّها المسلمون، ما أجملَ أن يعودَ الحاجُّ بعد حَجِّه إلى أهله ووطنِه بالخُلُق الأكمَل، والعقلِ الأرزَن، والوَقار الأرصَن، والعِرض الأصوَن، والشيَم المرضيّة، والسجايا الكريمة. ما أجملَ أن يعودَ الحاجّ بعد حجّه حَسنَ المعاملةِ لقِعاده، كريمَ المعاشرة لأولادِه، طاهرَ الفؤاد، ناهجًا منهجَ الحقّ والعدل والسّداد، المضمَر منه خيرٌ من المُظهَر، والخافي أجملُ من البادي. وإنّ من يعود بعد الحجّ بتلك الصفاتِ الجميلة هو حقًّا من استفاد من الحجّ وأسراره ودروسِه وآثاره.
أيّها المسلمون، إنّ الحاجَّ منذ أن يُلبِّي وحتى يقضي حجَّه وينتهي فإنّ كلَّ أعمال حجِّه ومناسكه تعرِّفه بالله، تذكّره بحقوقِه وخصائص ألوهيَّته جلّ في علاه، وأنّه لا يستحقّ العبادةَ سواه، تعرِّفه وتذكِّره بأنّ الله هو الأحَد الذي تُسلَم النفس إليه، ويوجَّه الوجهُ إليه، وأنّه الصمَد الذي له وحدَه تصمد الخلائقُ في طلب الحاجات والعِياذ من المكروهات والاستغاثة عند الكربات، فكيف يهون على الحاجّ بعد ذلك أن يصرفَ حقًّا من حقوق الله من الدعاء والاستغاثةِ والاستعانَة والذّبح والنّذر إلى غيره؟! وأيُّ حجٍّ لمن عادَ بعد حجّه يفعل شيئًا من ذلك الشِّرك الصريح والعمَل القبيح؟!
أيّها المسلمون، أيُّ حجٍّ لمن عاد بعد حجِّه يأتي المشعوِذين والسّحرة، ويصدِّق أصحابَ الأبراج والتنجيم وأهل الطِّيَرة، ويتبرّك بالأشجار، ويتمسَّح بالأحجار، ويُعلِّق التمائم والحروز؟! أيُّ حجٍّ لمن عاد بعد حجِّه مضيِّعًا للصّلاة، مانعًا للزّكاة، آكلاً للرِّبا والرّشا، متعاطيًا للمخدِّرات والمسكرات، قاطعًا للأرحام، والغًا في الموبقات والآثام؟!
حجاجَ البيت العتيق، يا من امتنَعتم عن محظوراتِ الإحرام أثناءَ حج بيت الله الحرام، إنّ هناك محظوراتٍ على الدوام وطولَ الدّهر والأعوام، فاحذَروا إتيانها وقربانها، يقول جلّ في علاه: تِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [البقرة: 229].
أيّها المسلمون، من لبَّى لله في الحجّ مستجيبًا لندائه كيفَ يلبِّي بعدَ ذلك لدعوةٍ أو مبدأ أو مذهَب أو نداءٍ يناهض دينَ الله الذي لا يُقبَل من أحد دين سواه؟! من لبِّى لله في الحجّ كيف يتحاكم بعد ذلك إلى غير شريعتِه، أو ينقاد لغير حكمِه، أو يرضى بغير رسالته؟! من لبَّى لله في الحجّ فليلبِّ له في كلّ مكان وزمان بالاستجابة لأمره أنَّى توجَّهت ركائبه، وحيث استقلَّت مضاربُه، لا يتردَّد في ذلك ولا يتخيَّر، ولا يتمنّع ولا يضجَر، وإنما يذِلّ ويخضع ويطيع ويسمَع.
يا عبدَ الله، يا مَن غابت عنه شمسُ هذه الأيّام ولم يقضِها إلا في المعاصي والآثام، يا من ذهبت عليه مواسمُ الخيرات والرّحمات وهو منشغلٌ بالملاهي والمنكَرات، أما رأيتَ قوافل الحجّاج والمعتمرين والعابدين؟! أما رأيتَ تجرُّدَ المحرمِين وأكفَّ الرّاغبين ودموعَ التائبين؟! أما سمعتَ صوتَ الملبّين المكبِّرين المهلّلين؟! فما لك قد مرّت عليك خيرُ أيام الدنيا على الإطلاق وأنت في الهوى قد شُدَّ عليك الوثاق؟!
يا من راح في المعاصي وغَدا، يقول: سأتوبُ اليومَ أو غدا، يا مَن أصبحَ قلبه في الهوى مبدَّدًا، وأمسَى بالجهل جلمدًا، وبالشهوات محبوسًا مقيَّدًا، تذكَّر ليلةً تبيتُ في القبر منفرِدًا، وبادِر بالمتابِ ما دمتَ في زمن الإنظار، واستدرِك فائتًا قبلَ أن لا تُقالَ العِثار، وأقلِع عن الذنوب والأوزار، واعلَم أنَّ الله يبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليل، ويبسط يدَه بالليل ليتوب مسيءُ النهار.
ويا من تقلَّبتَ في أنواعِ العبادة، الزَم طريقَ الاستقامة، وداوِم العملَ فلست بدار إقامة، واحذَر الإدلاء والرّياء فرُبّ عملٍ صغير تعظِّمه النّية، ورُبَّ عملٍ كبير تصغِّره النية، يقول بعض السلف: "من سرّه أن يكمُل له عمله فليحسِن نيته".
وكن على خوفٍ ووجَل من عدَم قبولِ العمل، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألتُ رسول الله عن هذه الآية: وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، فقلتُ: أهُم الذين يشرَبون الخمر ويسرِقون؟ فقال رسول الله : ((لا يا بنتَ الصديق، ولكنّهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدّقون وهم يخافون أن لا تقبَل منهم، أُوْلَئِكَ يُسَـ?رِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَهُمْ لَهَا سَـ?بِقُونَ [المؤمنون:61] )) أخرجه الترمذي [5].
فاتّقوا الله ـ عبادَ الله ـ في كلّ حين، وتذكَّروا قولَ الحقِّ في الكتاب المبين: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنّة، ونفعني وإيّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب التوحيد، باب: ذكر النبي وروايته (7536) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في الذكر والدعاء، باب: الحث على ذكر الله تعالى (2675) نحوه.
[2] صحيح البخاري: كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ (7405)، صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب: الحث على ذكر الله تعالى (2675) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] صحيح مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت (2877).
[4] انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/408).
[5] سنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة المؤمنون (3175)، وأخرجه أيضا أحمد (6/205)، وابن ماجه في الزهد (4198)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2537).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي آوى مَن إلى لُطفه أوى، وأشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له داوى بإنعامِه من يئس من أسقامه الدّوا، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، من اتّبعه كان على الخير والهدى، ومَن عصاه كان في الغواية والردى، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله فإنّ تقواه أفضلُ زاد، وأحسنُ عاقبةٍ في معاد، واعلموا أن الدنيا مضمار سباق، سبَق قومٌ ففازوا، وتخلَّف آخرون فخَابوا، فرحِم الله عبدًا نظر فتفكَّر، وتفكَّر فاعتَبر، وأبَصر فصَبر، ولا يصبِر على الحقّ إلاّ من عرف فضلَه، ورجا عاقبته، إِنَّ ?لْعَـ?قِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49].
عباد الله، أنتم في الدنيا أغراضُ المنايا، وأوطان البلايا، أنتم الأخلافُ بعد الأسلاف، وستكونون الأسلافَ قبل الأخلاف، فاغتنِموا زمنَكم، وجاهدوا أنفسَكم، فإنّ المجاهدة بضاعة العُبَّاد ورأسُ مال الزُهَّاد ومدارُ صلاح النفوس، وسدِّدوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدّلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا.
أيّها المسلمون، يا مَن قضَيتم حجَّكم، وأنعَم الله عليكم بالوصول إلى المدينة النبوية طابةَ المستطابة، تذكّروا وأنتم تَطؤون هذه الأرضَ المباركة أنها الأرضُ التي وطِئتها أكرمُ قدمين، والبلدة التي عاش عليها سيّد الثقلين نبيّنا محمّد. فاللهَ اللهَ في تعلُّم سنّته، ومعرفة سيرته، والسّير على طريقته، واتّباع هديه، واقتفاء منهجه، ولن يتحقَّقَ لكم ذلكَ الهدف المنشود إلا بالاستعانة الإله المعبود, وَمَن يَعْتَصِم بِ?للَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى? صِر?طٍ مّسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].
حجَّاجَ بيتِ الله العتيق، ليكُن حجّكم أولَ فتوحِكم، وتباشيرَ فجركم، وإشراق صبحكم، وبدايةَ مولدِكم، وعنوانَ صدق إرادتِكم، تقبَّل الله حجَّكم وسعيَكم، وأعاد الله علينا وعليكم هذه الأيّام المباركة أعوامًا عديدة وأزمنةً مديدة، والأمّة الإسلامية في عزّة وكرامة ونصرٍ وتمكين ورفعة وسؤدَد.
اللهمَّ تقبَّل من الحجّاج حجَّهم، اللهمّ تقبّل من الحجّاج حجَّهم وسعيَهم، اللهمّ اجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، اللهمّ تقبّل مساعيَهم وزكِّها، وارفع درجاتهم وأعلِها، اللهم بلّغهم من الآمال منتهاها، ومِنَ الخيرات أقصاها، اللهمّ اجعل سفرهم سعيدًا، وعودَهم إلى بلادهم حميدًا، اللهمّ هوِّن عليهم الأسفار، اللهم آمنهم من جميع الأخطار، اللهمّ احفَظهم من كلّ ما يؤذيهم، وأبعِد عنهم كلَّ ما يضنيهم، اللهمّ واجعل دَربهم دربَ السلامة والأمان والراحةِ والاطمئنان، اللهمّ وأعدهم إلى أوطانهم وأهليهم وذويهم ومحبِّيهم سالمين غانمين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم وتقبّل منهم إنّك أنت السميع العليم، واغفر لهم إنك أنت الغفور الرحيم...
(1/2885)
مِن أجلِ حجّ سالم وسليم
فقه
الحج والعمرة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
15/12/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تهنئة الحجاج بإتمام المناسك. 2- الإكثار من الدعاء وذكر الله تعالى بعد قضاء المناسك. 3- سمة المشقة والنصب في الحج. 4- الثبات بعد الحج. 5- حادث التزاحم على جمرة العقبة يوم العيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فهي الزّاد وعليها بعدَ الله المعوَّل والاعتماد، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].
حجّاجَ بيتِ الله الحرام، لقد منَّ الله عليكم بأداءِ هذا النسُك المبارك، فوقفتًم بعرفة، وبتُّم بمزدلفة، ورميتم الجمار، ونحرتم الهديَ، وتطوَّفتم بالبيت العتيق، وعِشتم لياليَ وأيّامًا تنهلون من مورِد العمل الصالح والنسك المشروع، فهنيئًا لكم هذا الأداء، وهنيئًا لكم حضورُ تلك العرصات المباركة. إنها لنعمة تستدعي الشكرَ للمنعِم المتمثِّلَ في الإكثار من ذكره والتوجّهِ إليه بالدعاء وحدَه لا شريك له، عملاً بقولِه تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـ?سِكَكُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِنْ خَلَـ?قٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِي ?لدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ?لآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ [البقرة:200، 201]، هكذا أمَر الله بذكره عندَ انقضاء المناسك، لأنّ أهلَ الجاهلية الأولى كانوا يقِفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعِم ويحمِل الحمالات ويحمل الديات، ليس لهم ذكرٌ غير فعال آبائهم، فأنزل الله على رسولِه هذه الآية.
ثمّ أرشدَ سبحانه إلى دعائهِ في هذه الآية بعدَ كثرةِ ذِكره لأنّه مظنّة الإجابة، كما أنّه سبحانه ذمَّ من لا يسألُه إلاّ في أمر دنياه وهو معرضٌ عن أمر آخرتِه، فقال جلّ وعلا: فَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِنْ خَلَـ?قٍ [البقرة:200]، وسببُ هذا الذمّ ما كان يفعله بعض أهلِ الجاهلية من الأعرابِ حينما يجيئون إلى الموقف فيقولون: اللهمّ اجعَله عامَ غيثٍ وعامَ وِلادٍ حسن، لا يذكرون من أمرِ الآخرة شيئًا، فأنزل الله هذه الآية.
ثمّ يمدَح بعد ذلك من جمَع بين أمرَي الدنيا والآخرة، فيقول: وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ?لآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ [البقرة:201]، وهذه الدّعوة جمعت كلَّ خير في الدنيا وصرَفت كلَّ شرّ، فشملت هذه الدعوةُ العافيةَ والرزق الواسع والعلم النافعَ والعمَل الصالح والثناء الجميل، فإنّ كلّ ذلك من الحسنة في الدنيا، وأما الحسنةُ في الآخرة فهي دخولُ الجنة، والنظر إلى وجهِ الباري جلّ شأنُه، والأمن من الفزع، وتيسير الحساب، وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة.
وأمّا قولهم: وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ فهو يقتضي تيسيرَ أسبابه في الدنيا مِن تحكيم شرعِ الله في واقعِ الحياة واجتناب ما حرّم الله وترك الشبهات وما يريب، قال بعض السلف: "مَن أُعطي قلبًا شاكرًا ولسانًا ذاكرًا وجسدًا صابرًا فقد أوتي في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة ووُقي عذابَ النار".
وهذه الدعوةُ ـ حجّاجَ بيت الله ـ كانت أكثرَ ما يدعو بها النبيّ ، كما صحَّ الخبر بذلك عند أحمد في مسنده [1] ، وقد جاء عند مسلم في صحيحه أنّ رسولَ الله عادَ رجلاً من المسلمين قد صار مثل الفرخ، فقال له رسول الله : ((هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟)) قال: نعم، كنت أقول: اللهمَّ ما كنتَ معاقبي به في الآخرة فعجِّله لي في الدنيا، فقال رسول الله : ((سبحانَ الله، لا تطيقه ـ أو لا تستطيعه ـ، فهلاّ قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)) ، قال: فدعا الله فشفاه [2].
أيّها الحجاج، الحجّ إلى بيت الله الحرام فيه سمةُ المشقّة والنصب، لأنّه سفر من الأسفار المتنوّعة، والسفرُ في حدّ ذاته مبنيّ على المشقّة وركوب الأخطار، بل لقد وصفَه النبيّ بقوله: ((السّفرُ قطعةٌ من العذاب، يمنع أحدَكم طعامَه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمتَه فليعجِّل إلى أهله)) رواه البخاري ومسلم [3].
ولقد اجتمَع في هذا النسكِ العظيم مشقّتان، الأولى منهما مشقّة السفر، والثانيةُ مشقّة أنساك الحجّ المبنية على البعد عن الترفُّه كتقليم الأظافر وقصِّ الشعر ومسِّ الطيب وتغطيةِ الرأس ولبس المخيط، وغير ذلك ممّا يُعدّ جانبًا من جوانب المشقّة والنصَب التي يعظُم الأجر بعِظمِها كما قال النبيّ ذلك لعائشة رضي الله عنها [4]. يضاف إلى ذلك أنه مظِنّة للتّزاحم والتدافع ووقوع شيءٍ من التضرّر مع تلك الجموعِ الغفيرة التي تتقاطر إلى رميِ الجمار وهي أحواضٌ صغيرة، لا تعدُّ شيئًا في مقابِل هذه الجموعِ المتكاثرَة، ممّا يستدعي الأناة والرفقَ والهدوء والتعاونَ لدى الحجّاج المثمِرةَ اليسرَ والسهولة والتّمام على الوجه الأكمَل، فالمزاحمة والاقتتالُ حالَ أداءِ بعض الأنساك كتقبيل الحجر الأسود أو رمي الجمار أو سدِّ الطرُقات في المسجد الحرام وممرّات المشاعر كلُّ ذلك مدعاةٌ لحدوث الخلَل ووقوع الإرباك في صفوف النسّاك، وقد سُمع من النبيّ التوجيهُ الكريم حينما أرشد الفاروقَ رضي الله عنه إلى عدَم مزاحمة الناس عند الحجر الأسود، فإن وجد فرجةً وإلا فليستقبِله ويكبِّر ولا يزاحم. رواه الطبراني وغيره [5].
ألا فاتّقوا الله معاشرَ الحجاج، وعليكم بالاستقامةِ على الطاعة والتوبة بعد الحجّ وإتباع السيئة الحسنة، فإنّ من علامةِ قبول العمَل وحبّ الله ورضاه عن الحاجّ والمعتمر أن يواصلَ الطاعة بالطاعة.
فاحذر ـ أيّها الحاج ـ من النكوصِ عن العمل الصالح والتوبةِ النصوح، ولتحرِص على أن تكونَ قدوة صالحةً في أهلك وعشيرتك وبني قومك، فإنّ الله جلّ وعلا يقول: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصل:30-32].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه كان غفّارًا.
[1] مسند أحمد (3/101) عن أنس رضي الله عنه، وأخرجه البخاري في الدعوات (6389)، ومسلم في الذكر والدعاء (2690).
[2] صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء (2688) عن أنس رضي الله عنه.
[3] صحيح البخاري: كتاب الحج (1804)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1927) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في كتاب الحج (1787)، ومسلم في كتاب الحج (1211) عن عائشة رضي الله عنها.
[5] أخرجه عبد الرزاق (5/36)، وأحمد (1/28)، والبيهقي في الكبرى (5/80)، وهو مرسل جيد كما قال ابن كثير في إرشاد الفقيه (1/334)، وقواه الألباني في مناسك الحج (38).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: فيا أيّها الناس، ويا حجّاجَ بيت الله الحرام، إنّ من المسلَّم واقعًا أنّ التزاحمَ والتدافع في الأماكنِ الصغيرة والأوقاتِ الضيّقة مظنّة ولا شكّ للأخطار، وما وقع في يومِ العقبة من وفيّات فهو مبنيٌّ على التفريطِ في مثل ما ذكرنا من الرّفق والهدوء والسكينة وعدم الاستعجال وأخذِ السّعَة فيما فيه سعَة، وإلا فإن من قَضوا نحبَهم في ذلك اليوم كانوا على خاتمةِ خير نحسبها كذلك، لأنَّهم ماتوا محرِمين، ومن مات محرِمًا فإنه يبعَث يومَ القيامة ملبيًّا، لقول النبيّ في الرجل الذي وقصته ناقته وهو محرِم فمات: ((اغسِلوه بماءٍ وسِدر، وكفِّنوه في ثوبَيه، ولا تمسّوه بطيب، ولا تخمِّروا رأسَه، فإنّه يُبعَث يومَ القيامة ملبيًّا)) رواه البخاري ومسلم [1].
فاللهمَّ ارحَم موتى العقبَة، وارفَع درجاتهم في المهديّين، واخلُفهم في عقِبِهم في الغابرين، واغفِر لنا ولهم أجمعين.
ثمّ إن كان لنا من تعليقٍ على تلك الواقعةِ فهو في الأمور التّالية:
الأمرُ الأول: أنّ ما وقَع يومَ العقبةِ لا يرجِع سببُه إلى النّاحيةِ الشرعيّة أو قصورِ الفتوى في ذلك، وإنما يرجع إلى تزاحُم الناس وتدافعهم وقلّة الوعي لديهم، وإلاّ فأهلُ العلم قد بيّنوا أن وقتَ العقبة يبدأ من طلوع فجر يومِ العيد إلى فجرِ يوم الثاني، وأجازوا الرميَ قبلَ فجرِ يوم العيد بعدَ منتصَف الليل للظّعن والضّعَفة. وممّا يؤكِّد ما ذكرنا أنّ وقتَ الرمي في يوم النّفر الأوّل أضيقُ منه في يومِ العقبة، ومع ذلك لم يحصُل في ذلك اليومِ مثلُ الذي حصَل يومَ العقبة.
الأمرُ الثاني: أنّ على العلماء وأهلِ الفتوى إعطاءَ أمور المناسك شيئًا من جهودِهم وأوقاتهم وأبحاثهم، وعليهم أن يجمَعوا في فتواهم بينَ معرفةِ الدليل الشرعي ومعرفة الواقعِ والحال الجغرافيّ بالنسبة لعرصات المناسك، فإنّه كما تقرّر في القواعد والأصول أنه لا بدّ أن يجمَع العالم بينَ أدلّة الأحكام وأدلّة وقوعِ الأحكام، وصاحبُ الفتوى إذا لم يكن مدرِكًا لجغرافية المناسك إدراكًا جيّدًا فإنّ ذلك مظنّة للقصور في الفتوى، كما صار مثلُ ذلك لبعض علماءِ بعضِ المذاهب حينما رأوا السعيَ بين الصفا والمروة أربعةَ عشر شوطًا، وذلك لأنهم لم يكتَب لهم الحجّ إلى بيت الله الحرام، وقد ذكر ابنُ القيّم رحمه الله كلامَ ابن حزم في غلَطه في الرمل وأنّه يشرَع في الأشواط الثلاثة الأولى في السعي، فيقول ابن القيّم: "سألتُ شيخَ الإسلام عن ذلك فقال: هذا من أغلاط ابن حزم، وهو لم يحجَّ رحمه الله" [2].
كما أنّه يجِب على العلماءِ وطلبة العلم أن لا تكونَ فتاواهم في الحجّ مبنيةً على ردود الأفعال أو تأثُّرًا بكثرةِ الطّرح الصّحفي والمجالسي، كلاّ، بل لا بد أن تكونَ نابعةً عن فقهٍ وفهم وتروِّي وإدراكٍ للحجم الذي ستطالُه الفتوى لأنها تعمُّ جميعَ الحجّاج بلا استثناء، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وعِلمُ المناسك أدقُّ ما في العبادات" [3].
الأمر الثالث: أنّ مثلَ هذه المسائل تستدعي شحذَ الهمم في نفوس القاصدين للنُسُك بأن يتعلّموا أحكامَه ويتعرّفوا على أماكنه وعرصاتِه وكيفية التعامل معها، من خلال السُّبُل التوعويّة في بلَد الحاجّ قبل قدومه إلى مكّة، ما يساعد على إحسان التعامُل مع المناسك بالوجهِ اللائق، وهذا أمرٌ مُلقَى على عاتِق المؤسّسات والبعثات ذات الاختصاص، إضافةً إلى ما تقوم به جهاتُ الاختصاص في توعيّة الحجّاج إبّانَ الحجّ نفسه.
الأمر الرابع: أنّه لا يمكن أن تستقلَّ الفتوى بالحلول لبعضِ نوازل موسمِ الحجّ دون الرجوع إلى النواحي التنظيمية والتطبيقية والهندسية، فالتنظيم وحدَه لا يكفي، والفتوَى وحدها لا تكفي، والكمال كلّ الكمال في توافُق الفتوى الشرعية مع الجهات التنظيمية، مع عدم إغفال حال الوعيِ لدى الحاجّ، والله الموفّق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأنْعَـ?مِ فَإِلَـ?هُكُمْ إِلَـ?هٌ و?حِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشّرِ ?لْمُخْبِتِينَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ?لصَّـ?بِرِينَ عَلَى? مَا أَصَابَهُمْ وَ?لْمُقِيمِى ?لصَّلَو?ةِ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [الحج:34، 35].
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد...
[1] صحيح البخاري: كتاب الحج (1851)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1206) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[2] زاد المعاد (2/231).
[3] منهاج السنة النبوية (5/497).
(1/2886)
عرفة والعيد
فقه
الحج والعمرة
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
8/12/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطبة رسول الله في عرفات. 2- فضائل يوم عرفة. 3- صيام يوم السبت. 4- بعض أحكام الأضحية. 5- الحج مؤتمر إسلامي عالمي لدراسة أحوال الأمة المسلمة. 6- الإنفاق في سبيل الله قد يفضل حجة النافلة. 7- جوانب من المؤامرة على فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اليوم هو اليوم الثامن من ذي الحجة، توجّه فيه الرسول إلى منى، فصلّى بها الظهرَ والعصر والمغرب والعشاء والفجر، وعندما ارتفعت شمس اليوم التاسع توجه للوقوف بعرفات، وألقى هناك خطابه المشهور حيث قال فيه: ((أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا)) ، ثم حرم الثأر والربا، ثم قال في نهاية الخطاب: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد، ألا فليبلغ الحاضر منكم الغائب)).
عباد الله، يوم عرفة يوم عظم الله أمره، ورفع على الأيام قدره، وأنزل فيه قوله تبارك وتعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].
من فضائله أن الله تبارك وتعالى يباهي بالحجيج الملائكة، ويعمهم بالمغفرة، إنه يوم التجلي، يوم الرحمة، يوم من أيام الله الخالدة، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه أن النبي قال: ((ما من يوم يعتق الله فيه من النار أكثر من يوم عرفة)) ، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يعتقنا ويعتق رقاب آبائنا وإياكم جميعا من النار.
وأما ما يختص من الذكر فيه، فمنه التكبير بعد الصلوات المفروضات، وتبدأ من فجر يوم عرفة إلى عصر اليوم الثالث من أيام التشريق، فهذه ثلاث وعشرون فريضة، تكبرون بعدها وتقولون: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، لله الحمد، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله العظيم وبحمده بكرة وأصيلاً.
وأما ما ورد من الأذكار عن المصطفى فيه فقوله عليه الصلاة والسلام: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)).
وتذكروا ـ يا عباد الله ـ أن صومه مستحب لغير الحاج، أما الحاج فلا يستحب له صومه، ليتقوى على الدعاء، ولأنه ضيف الله تبارك وتعالى، وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، أرأيت صيام يوم عرفة؟ قال: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والباقية)).
ومن هنا فيا أيها المؤمنون، يستحب صيام هذه الأيام من ذي الحجة، ولا مانع من صيام يوم عرفة إذا صادف يوم السبت، فالنية هي صيام يوم عرفة، وليس إفراد يوم السبت، وإذا جمع المسلم معه يوماً قبله فهذا أفضل كما ذكر الأئمة في كتبهم رحمهم الله، فقد قال الإمام النووي في كتابه (المجموع) ما نصه: "يكره إفراد يوم السبت بالصوم، فإن كان قبله أو بعده معه لم يكره، ومعنى النهي أنه يكره السبت للصيام، لأن اليهود يعظمونه".
واعلموا ـ عباد الله ـ أن ابن عباس رضي الله عنه وناس من أصحاب رسول الله بعثوه إلى أم المؤمنين أم سلمة يسألها: أي الأيام كان رسول الله أكثر صياماً لها؟ قالت: يوم السبت والأحد، فرجعت إليهم فأخبرتهم، فكأنهم أنكروا ذلك، فقاموا بأجمعهم إليها، فقالوا: إنا بعثنا إليك هذا في كذا وكذا، فذكر أنك قلت كذا وكذا، فقالت: صدق، إن رسول الله أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد، وكان يقول: ((إنهما يوما عيد للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم)). فيتبين من هذا ـ يا عباد الله ـ أنه لا كراهة من صوم يوم عرفة إذا صادف يوم السبت، ويستحب صيام يوم الجمعة معه، وهو الأفضل، والله أعلم.
واعلموا ـ أيها المسلمون ـ أن من السنة إحياء ليلة يوم النحر [1] ، ويومها من أفضل الأيام عند الله، شرعه الله إظهاراً لشعائره، وإعلاء لذكره، وابتهاجاً بأداء طاعته عند البيت الحرام، فاحمدوا الله تبارك وتعالى على نعمة دينكم وأداء عبادتكم من قبل حجاجكم، فضحّوا بعد صلاة العيد كما أمركم ربكم بقوله: فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ [التكاثر:2]، أي: فصل لربك صلاة عيد الأضحى، وانحر الأضحية عقب الصلاة.
ويحسن هنا أن نذكركم أن صلاة عيد الأضحى ستقام بإذن الله تبارك وتعالى في المسجد الأقصى المبارك في الساعة السابعة وخمس دقائق تقريباً إن شاء الله.
يحسن أيضاً أن ننبه على بعض الأمور الفقهية التي تتعلق بالأضحية، فلا يجوز ذبحها إلا بعد صلاة العيد لقوله : ((من ذبح قبل الصلاة فليعد ضحيته، ومن ذبح بعد الصلاة فقد أدى السنة)).
ويستحب أن تقسم الأضحية إلى ثلاثة أقسام: قسم لك ولأهل بيتك، وقسم للفقراء والمساكين، وقسم تهدي منه أصدقاءك، وإذا أردت أن تعطي الفقراء من الأضحية فأعطهم أفضل الأقسام الثلاثة.
فنبينا عليه الصلاة والسلام جيء له بكبشين أملحين أقرنيين، فقال: ((اللهم هذا عن محمد وآل محمد)) ، وذبح الثاني وقال: ((اللهم إن هذا عن فقراء المسلمين)) ، فلا تحزنوا أيها الفقراء، فقد ضحى عنكم البشير النذير.
ودخل النبي آخر النهار بيته، وسأل زوجته السيدة عائشة رضي الله عنها: ((كم بقي من الأضحية؟)) فقالت: تصدقنا بها كلها، ولم يبقَ إلا ذراعها، أتدرون ماذا قال لها النبي ؟ قال لها: ((بل كلها بقي إلا ذراعها، يا عائشة)) ، أي: كلها عند الله باقية إلا ذراعها التي سنأكلها.
وتذكروا ـ أيها المؤمنون ـ أن الحج مؤتمر سياسي كبير، ولذلك كان أمير المؤمنين عمر في موسم الحج يجمع حكام الأقاليم، ويعقد معهم مؤتمراً يناقش فيه أحوال الأمة، يناقشهم في حل قضاياهم، فلماذا لا يجتمع حكام الأمة عند جبل عرفات ويناقشون قضايا المؤمنين على مائدة القرآن؟! لماذا لا يجتمع علماء المسلمين لحل مشكلاتهم في بيت الله الحرام؟!
ونشير هنا لأمور، أن أهم ما تمتاز به فريضة الحج هو أنه فريضة سنوية لمؤتمر إسلامي عام، يتدارس المسلمون فيه أحوال الأمة المسلمة، ويتخذون من القرارات ما تلتئم به جراحها، لكن هذا المعنى لم يعدّ له وجود في هذه الأيام.
ومما يؤسف له أننا نسير على مبدأ التوفير وهو الحج مرة واحدة في العمر لمن استطاع إليه سبيلاً، لكن بعضنا تحولت الفريضة لديه إلى هواية وتجارة، يحرص على إشباعها مراراً وتكرراً، ومثل هذا السلوك يسّر لشركات السياحة فرصة كبيرة للمتاجرة، وبعضها لعمليات نصب واحتيال، ومثل هؤلاء الحجاج لم يعرفوا فقه الحج، فإن ما ينفق على حج ـ غير الفريضة ـ أولى به أن ينفق في أوجه الخير، ومنها صلة الأرحام ومساعدة الفقراء والمساكين والمحتاجين وأُسر اليتامى والشهداء.
فهذا هو الإمام الجليل ابن المبارك كان في طريقه إلى الحج، فأبصر امرأة تبحث في كومة قمامة، فأناخ الناقة، وسألها عما تبحث، فأجابت: أبحث عما يسدّ رمق أيتامي الجياع، فتأثر وأعطاها ما معه من مال، وعاد أدراجه من حيث جاء، ولم يخرج لأداء فريضة الحج في ذلك العام. هذا هو فقه الإسلام، إن بعض الحجاج الهواة يستغلون لقب الحاج في التغطية على سلوكياته التي يرفضها الإسلام، وربما يخدع بلقبه البسطاء والعامة، ونسي أن عُمْر الخديعة قصير.
الحج ـ يا عباد الله ـ عبادة ربانية، سلوك وخلق، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، يعود صاحبه من هناك زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة.
اللهم أحينا على سنة نبينا، وتوفنا على ملة حبيبنا، واحشرنا في زمرته يا رب العالمين،. اللهم اشملنا بشفاعته، وأوردنا حوضه، واسقنا بيده الشريفة شربة ماء هنيئة، لا نظمأ بعدها أبداً.
عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة. فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] الأحاديث في استحباب قيام ليلة العيد لم يثبت منها شيء، ولذا فالتحقيق أنه لا يشرع قيام ليلتي العيد، والله تعالى أعلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله على ما مضى، وليس لنا إلا التسليم والرضا والقبول بالقضا، ثم الصلاة والسلام على النبي المصطفى، والآل الحنفا، والأتباع المستكملين الشرفا. ونشهد أن لا إله إلا الله أمر المؤمنين بطاعته، ونهاهم عن معصيته، اللهم صلّ وسلم وبارك وأنعم على هذا النبي الأُمي، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، افتحوا آذانكم جيداً، فلطالما حذرنا من علياء هذا المنبر الشريف من الخطر الذي يهدد مدينة القدس، لقد تحدثنا مراراً عن الجدار العنصري الذي أصبح أمراً مسلّماً به، وكل الأصوات المنادية بالتوقف عن استكمال مراحله النهائية تضيع أرداج الرياح، أمام صمت إسلامي مذهل، وعجز عربي خانع، ودعم وتواطؤ أمريكي قذر، وتحدثنا عن مأساة شعبنا المسلم من استمرار سياسات التصفيات والاغتيالات والاجتياحات في مدن الضفة الغربية وقطاع غزة، وأما الهدم الجماعي للمنازل وبخاصة في رفح فحدث عنه ولا حرج، ولم نسمع حتى الاحتجاج من قبل الأمة الإسلامية والأمة العربية بمشارق الأرض ومغاربها على ذلك.
مرة أخرى نقولها: القدس في خطر، السياسة المبرمجة الهادفة إلى طمس الهوية الإسلامية العربية لمدينتنا المقدسة، لقد نجح أعداؤكم في عزل القدس جغرافياً عزلاً تاماً عن باقي مناطق الضفة الغربية، وبات الدخول والخروج منها مرهوناً باجتياز الحواجز العسكرية الدائمة ونقاط التفتيش المتنقلة.
ونشير إلى أمور: سياسة الإذلال المتعمد، بهدف تهجير المقدسيين من مدينتهم، التوقيف الإجباري اليومي لمئات الفلسطينيين من أبناء القدس، كهولاً وشباباً طلاباً وعمالاً نساء وأطفالاً للتحقيق والتدقيق في هوياتهم الشخصية، وإجبار أصحاب السيارات بتسليم مفاتيح سياراتهم حتى يقوموا بتسديد ضرائب التلفاز أو الأرنونة بصورة إجبارية مذلة، سياسة الإذلال أمام مبنى الداخلية والتأمين الوطني وإجبار الناس على الانتظار للوقت الطويل، والذي من خلاله تجد النفوس المريضة الفرصة سانحة للابتزاز ببيع الأدوار، انتشار ظاهرة سرقة الأراضي الخاصة وتزوير الأوراق الرسمية الخاصة بالعقارات، وتمليك العقارات لغير المسلمين في داخل البلدة القديمة وخارجها، سياسة تحرير مخالفات السير العشوائية لمئات السيارات وبخاصة القادمين إلى المسجد الأقصى المبارك، حتى يقللوا ويضعفوا مجيء المصلين إلى مسجدهم، سياسات ظالمة يجب على العالم بأسره أن يسمعها حتى يعرف مدى معاناة أبناء القدس، فمزيدا من الثبات ـ يا أهلنا ـ مزيدا من الصبر حتى يأتي الله بأمره.
عباد الله، صفقة تبادل الأسرى بين حزب الله وإسرائيل تؤكد حقيقة هامة، وهي أن الحق يلزمه قوة تدافع عنه، كما أن الصفقة تؤكّد وحدة العقيدة التي أثبتها حزب الله في الإصرار على إطلاق سراح مئات الفلسطينيين والعرب من سجون الاحتلال.
فإلى كل المعتقلين الذين تم الإفراج عنهم نقول: هنيئا لكم، والحمد لله على سلامتكم بعودتكم إلى أهلكم سالمين، وندعو الله تبارك وتعالى من علياء هذا المنبر الشريف ومن هذه الرحاب الطاهرة من أرض الله العلي القدير من هذه الأماكن المقدسة أن يفرج الكرب عن باقي الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال الظالمة.
أيها المؤمنون، تنبهوا جيداً للمخاطر المحدقة بكم، واعملوا جاهدين على بعث الحياة الإسلامية وتطبيق منهج الله تبارك وتعالى، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
(1/2887)
ماذا بعد الحج؟!
فقه
الحج والعمرة
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
15/12/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العبودية. 2- رحلة الحج. 3- إحسان الظن بالله. 4- المحافظة على الأعمال الصالحة. 5- علامة الحج المبرور. 6- الحج مظهر من مظاهر التوحيد. 7- أثر الحج. 8- نداء للغافلين. 9- التذكير بالموت. 10- الوصية باتباع سنة خير البرية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله فإنَّ تقواه أربحُ بضاعة، واحذروا معصيتَه فقد خاب عبدٌ فرَّط في أمرِ الله وأضاعَه, ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
أيّها المسلمون، إنَّ عبادةَ العبد لربّه هي رمزُ خضوعِه ودليلُ صدقِه وعنوان انقيادِه، شرفٌ ظاهر وعِزّ فاخِر. العبوديّة أشرفُ المقامات وأسمى الغايات وأعلى المراتب والدرجات.
أيّها المسلمون، في الأيّام القليلة الخالية قضى الحجّاج عبادةً من أعظم العبادات، وقربةً من أعظم القربات، تجرَّدوا لله من المخيط عند الميقات، وهلَّت دموعُ التّوبة في صعيدِ عرفات على الوجَنات، خجلاً من الهفَوات والعثَرات، وضجَّت بالافتِقار إلى الله كلّ الأصوات بجميع اللُّغات، وازدلفت الأرواح إلى مزدلفةَ للبيات، وزحفت الجموع بعد ذلك إلى رمي الجمرات، والطواف بالكعبة المشرَّفة، والسعي بين الصفا والمروة، في رحلةٍ من أروع الرحلات، وسياحةٍ من أجمل السياحات، عادوا بعدَ ذلك فرحين بما آتاهم الله من فضلِه, قُلْ بِفَضْلِ ?للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، خيرٌ من الدنيا وأعراضِها وأغراضها التي ما هي إلا طَيف خيال، مصيره الزوالُ والارتحال، ومتاعٌ قليل، عرضةٌ للآفات، وصَدَف للفَوات. فهنيئًا للحجّاج حجُّهم، وللعُبَّاد عبادَتهم واجتهادهم، وهنيئًا لهم قولُ رسول الهدى فيما يرويه عن ربِّه جلّ وعلا: ((إذا تقرَّب العبد إليَّ شبرًا تقرّبت إليه ذراعًا، وإذا تقرّب مني ذراعًا تقرّبت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيتُه هرولة)) أخرجه البخاري ( [1] ).
حجّاجَ بيت الله الحرام، اشكُروا الله على ما أولاكم، واحمَدوه على ما حبَاكم وأعطاكم، تتابَع عليكم بِرّه، واتَّصل خيره، وعمَّ عطاؤه، وكمُلت فواضله، وتمّت نوافله, وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل:53], وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?للَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل:18].
حجّاجَ بيتِ الله الحرام، ظُنّوا بربِّكم كلَّ جميل، وأمِّلوا كلَّ خيرٍ جزيل، وقوّوا رجاءكم بالله في قبولِ حجِّكم ومحوِ ما سلف من ذنوبكم، فقد جاء في الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: أنا عند ظنِّ عبدي بي)) أخرجه الشيخان ( [2] ) ، وعن جابر رضي الله عنه أنّه سمع النبيَّ قبل موته بثلاثة أيّام يقول: ((لا يموتنَّ أحدكم إلاّ وهو يُحسن الظنَّ بالله عزّ وجلّ)) أخرجه مسلم ( [3] ).
أيّها المسلمون، يا مَن حجَجتم البيتَ العتيق، وجئتُم من كلِّ فجٍّ عميق، ولبّيتم من كلِّ طرف سَحيق، ها أنتم وقد كمُل حجكم وتمّ تفثكم، بعد أن وقفتم على هاتيكَ المشاعر، وأدّيتم تلك الشعائر، ها أنتم تتهيّؤون للرجوع إلى دياركم، فاحذَروا من العودة إلى التلوُّث بالمحرّمات والتلفُّع بالمعرّات والتِحاف المسَبَّات, وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـ?ثًا [النحل: 92]، امرأةٌ حمقاءُ خرقاء ملتاثة العقل، تجهد صباحَ مساء في معالجة صوفها، حتى إذا صار خيطًا سويًّا ومحكَمًا قويًّا عادت عليه تحلُّ شُعيراته، وتنقُض محكماتِه، وتجعله بعد القوّة منكوثًا، وبعد الصّلاح محلولاً، ولم تجنِ من صنيعها إلاّ الإرهاقَ والمشاقّ، فإيّاكم أن تكونوا مثلَها، فتهدِموا ما بنَيتم، وتبدِّدوا ما جمَعتم، وتنقُضوا ما أحكمتم.
حجَّاج البيت العتيق، لقد فتَحتم في حياتِكم صفحةً بيضاء نقيّة، ولبستم بعد حجّكم ثيابًا طاهرة نقيّة، فحذارِ حذار من العودة إلى الأفعال المخزِية والمسالك المردِية والأعمال الشائنة، فما أحسنَ الحسنة تتبعُها الحسنة، وما أقبحَ السيئة بعدَ الحسنة.
أيّها المسلمون، إنّ للحجِّ المبرور أمارة ولقبوله منارة، سئل الحسنُ البصريّ رحمه الله تعالى: ما الحجّ المبرور؟ فقال: "أن تعودَ زاهدًا في الدّنيا، راغبًا في الآخرة" ( [4] ). فليكن حجُّكم حاجزًا لكم عن مواقع الهلَكَة، ومانعًا لكم من المزالِق المتلِفة، وباعثًا لكم إلى المزيد من الخيرات وفِعل الصالحات. واعلموا أنّ المؤمن ليس له منتَهى من صالح العمَل إلاّ حلول الأجل.
أيّها المسلمون، ما أجملَ أن يعودَ الحاجُّ بعد حَجِّه إلى أهله ووطنِه بالخُلُق الأكمَل، والعقلِ الأرزَن، والوَقار الأرصَن، والعِرض الأصوَن، والشيَم المرضيّة، والسجايا الكريمة. ما أجملَ أن يعودَ الحاجّ بعد حجّه حَسنَ المعاملةِ لقِعاده، كريمَ المعاشرة لأولادِه، طاهرَ الفؤاد، ناهجًا منهجَ الحقّ والعدل والسّداد، المضمَر منه خيرٌ من المُظهَر، والخافي أجملُ من البادي. وإنّ من يعود بعد الحجّ بتلك الصفاتِ الجميلة هو حقًّا من استفاد من الحجّ وأسراره ودروسِه وآثاره.
أيّها المسلمون، إنّ الحاجَّ منذ أن يُلبِّي وحتى يقضي حجَّه وينتهي فإنّ كلَّ أعمال حجِّه ومناسكه تعرِّفه بالله، تذكّره بحقوقِه وخصائص ألوهيَّته جلّ في علاه، وأنّه لا يستحقّ العبادةَ سواه، تعرِّفه وتذكِّره بأنّ الله هو الأحَد الذي تُسلَم النفس إليه، ويوجَّه الوجهُ إليه، وأنّه الصمَد الذي له وحدَه تصمد الخلائقُ في طلب الحاجات والعِياذ من المكروهات والاستغاثة عند الكربات، فكيف يهون على الحاجّ بعد ذلك أن يصرفَ حقًّا من حقوق الله من الدعاء والاستغاثةِ والاستعانَة والذّبح والنّذر إلى غيره؟! وأيُّ حجٍّ لمن عادَ بعد حجّه يفعل شيئًا من ذلك الشِّرك الصريح والعمَل القبيح؟!
أيّها المسلمون، أيُّ حجٍّ لمن عاد بعد حجِّه يأتي المشعوِذين والسّحرة، ويصدِّق أصحابَ الأبراج والتنجيم وأهل الطِّيَرة، ويتبرّك بالأشجار، ويتمسَّح بالأحجار، ويُعلِّق التمائم والحروز؟! أيُّ حجٍّ لمن عاد بعد حجِّه مضيِّعًا للصّلاة، مانعًا للزّكاة، آكلاً للرِّبا والرّشا، متعاطيًا للمخدِّرات والمسكرات، قاطعًا للأرحام، والغًا في الموبقات والآثام؟!
حجاجَ البيت العتيق، يا من امتنَعتم عن محظوراتِ الإحرام أثناءَ حج بيت الله الحرام، إنّ هناك محظوراتٍ على الدوام وطولَ الدّهر والأعوام، فاحذَروا إتيانها وقربانها، يقول جلّ في علاه: تِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [البقرة: 229].
أيّها المسلمون، من لبَّى لله في الحجّ مستجيبًا لندائه كيفَ يلبِّي بعدَ ذلك لدعوةٍ أو مبدأ أو مذهَب أو نداءٍ يناهض دينَ الله الذي لا يُقبَل من أحد دين سواه؟! من لبِّى لله في الحجّ كيف يتحاكم بعد ذلك إلى غير شريعتِه، أو ينقاد لغير حكمِه، أو يرضى بغير رسالته؟! من لبَّى لله في الحجّ فليلبِّ له في كلّ مكان وزمان بالاستجابة لأمره أنَّى توجَّهت ركائبه، وحيث استقلَّت مضاربُه، لا يتردَّد في ذلك ولا يتخيَّر، ولا يتمنّع ولا يضجَر، وإنما يذِلّ ويخضع ويطيع ويسمَع.
يا عبدَ الله، يا مَن غابت عنه شمسُ هذه الأيّام ولم يقضِها إلا في المعاصي والآثام، يا من ذهبت عليه مواسمُ الخيرات والرّحمات وهو منشغلٌ بالملاهي والمنكَرات، أما رأيتَ قوافل الحجّاج والمعتمرين والعابدين؟! أما رأيتَ تجرُّدَ المحرمِين وأكفَّ الرّاغبين ودموعَ التائبين؟! أما سمعتَ صوتَ الملبّين المكبِّرين المهلّلين؟! فما لك قد مرّت عليك خيرُ أيام الدنيا على الإطلاق وأنت في الهوى قد شُدَّ عليك الوثاق؟!
يا من راح في المعاصي وغَدا، يقول: سأتوبُ اليومَ أو غدا، يا مَن أصبحَ قلبه في الهوى مبدَّدًا، وأمسَى بالجهل جلمدًا، وبالشهوات محبوسًا مقيَّدًا، تذكَّر ليلةً تبيتُ في القبر منفرِدًا، وبادِر بالمتابِ ما دمتَ في زمن الإنظار، واستدرِك فائتًا قبلَ أن لا تُقالَ العِثار، وأقلِع عن الذنوب والأوزار، واعلَم أنَّ الله يبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليل، ويبسط يدَه بالليل ليتوب مسيءُ النهار.
ويا من تقلَّبتَ في أنواعِ العبادة، الزَم طريقَ الاستقامة، وداوِم العملَ فلست بدار إقامة، واحذَر الإدلاء والرّياء فرُبّ عملٍ صغير تعظِّمه النّية، ورُبَّ عملٍ كبير تصغِّره النية، يقول بعض السلف: "من سرّه أن يكمُل له عمله فليحسِن نيته".
وكن على خوفٍ ووجَل من عدَم قبولِ العمل، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألتُ رسول الله عن هذه الآية: وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، فقلتُ: أهُم الذين يشرَبون الخمر ويسرِقون؟ فقال رسول الله : ((لا يا بنتَ الصديق، ولكنّهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدّقون وهم يخافون أن لا تقبَل منهم، أُوْلَئِكَ يُسَـ?رِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَهُمْ لَهَا سَـ?بِقُونَ [المؤمنون:61] )) أخرجه الترمذي ( [5] ).
فاتّقوا الله ـ عبادَ الله ـ في كلّ حين، وتذكَّروا قولَ الحقِّ في الكتاب المبين: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنّة، ونفعني وإيّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
( [1] ) صحيح البخاري: كتاب التوحيد، باب: ذكر النبي وروايته (7536) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في الذكر والدعاء، باب: الحث على ذكر الله تعالى (2675) نحوه.
( [2] ) صحيح البخاري: كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ (7405)، صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب: الحث على ذكر الله تعالى (2675) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
( [3] ) صحيح مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت (2877).
( [4] ) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/408).
( [5] ) سنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة المؤمنون (3175)، وأخرجه أيضا أحمد (6/205)، وابن ماجه في الزهد (4198)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2537).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي آوى مَن إلى لُطفه أوى، وأشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له داوى بإنعامِه من يئس من أسقامه الدّوا، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، من اتّبعه كان على الخير والهدى، ومَن عصاه كان في الغواية والردى، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله فإنّ تقواه أفضلُ زاد، وأحسنُ عاقبةٍ في معاد، واعلموا أن الدنيا مضمار سباق، سبَق قومٌ ففازوا، وتخلَّف آخرون فخَابوا، فرحِم الله عبدًا نظر فتفكَّر، وتفكَّر فاعتَبر، وأبَصر فصَبر، ولا يصبِر على الحقّ إلاّ من عرف فضلَه، ورجا عاقبته، إِنَّ ?لْعَـ?قِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49].
عباد الله، أنتم في الدنيا أغراضُ المنايا، وأوطان البلايا، أنتم الأخلافُ بعد الأسلاف، وستكونون الأسلافَ قبل الأخلاف، فاغتنِموا زمنَكم، وجاهدوا أنفسَكم، فإنّ المجاهدة بضاعة العُبَّاد ورأسُ مال الزُهَّاد ومدارُ صلاح النفوس، وسدِّدوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدّلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا.
أيّها المسلمون، يا مَن قضَيتم حجَّكم، وأنعَم الله عليكم بالوصول إلى المدينة النبوية طابةَ المستطابة، تذكّروا وأنتم تَطؤون هذه الأرضَ المباركة أنها الأرضُ التي وطِئتها أكرمُ قدمين، والبلدة التي عاش عليها سيّد الثقلين نبيّنا محمّد. فاللهَ اللهَ في تعلُّم سنّته، ومعرفة سيرته، والسّير على طريقته، واتّباع هديه، واقتفاء منهجه، ولن يتحقَّقَ لكم ذلكَ الهدف المنشود إلا بالاستعانة الإله المعبود, وَمَن يَعْتَصِم بِ?للَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى? صِر?طٍ مّسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].
حجَّاجَ بيتِ الله العتيق، ليكُن حجّكم أولَ فتوحِكم، وتباشيرَ فجركم، وإشراق صبحكم، وبدايةَ مولدِكم، وعنوانَ صدق إرادتِكم، تقبَّل الله حجَّكم وسعيَكم، وأعاد الله علينا وعليكم هذه الأيّام المباركة أعوامًا عديدة وأزمنةً مديدة، والأمّة الإسلامية في عزّة وكرامة ونصرٍ وتمكين ورفعة وسؤدَد.
اللهمَّ تقبَّل من الحجّاج حجَّهم، اللهمّ تقبّل من الحجّاج حجَّهم وسعيَهم، اللهمّ اجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، اللهمّ تقبّل مساعيَهم وزكِّها، وارفع درجاتهم وأعلِها، اللهم بلّغهم من الآمال منتهاها، ومِنَ الخيرات أقصاها، اللهمّ اجعل سفرهم سعيدًا، وعودَهم إلى بلادهم حميدًا، اللهمّ هوِّن عليهم الأسفار، اللهم آمنهم من جميع الأخطار، اللهمّ احفَظهم من كلّ ما يؤذيهم، وأبعِد عنهم كلَّ ما يضنيهم، اللهمّ واجعل دَربهم دربَ السلامة والأمان والراحةِ والاطمئنان، اللهمّ وأعدهم إلى أوطانهم وأهليهم وذويهم ومحبِّيهم سالمين غانمين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم وتقبّل منهم إنّك أنت السميع العليم، واغفر لهم إنك أنت الغفور الرحيم...
(1/2888)
أسياف النبي
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد, فقه
القتال والجهاد, الولاء والبراء, قضايا فقهية معاصرة
وجدي بن حمزة الغزاوي
مكة المكرمة
22/1/1423
المنشاوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم الأزمة التي يمر بها المسلمون. 2- الحرب عقدية. 3- لماذا تغييب الإسلام عن ساحة النزاع؟ 4- سيوف النبي. 5- أحوال أهل الأرض مع الإسلام. 6- لا تُبتغى العزة عند أعداء الله وأعداء الرسل. 7- خطر المظاهرات ومفاسدها.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد: فإنه لا يخفى عليكم ـ معاشر المؤمنين ـ ما يمرّ به المسلمون في أنحاء العالم عمومًا، وفي أرض المقدس قبلتنا الأولى خصوصًا، وأسوأ ما في هذه الأزمة ـ معاشر المؤمنين ـ أنها تتمّ على يد أحفاد القردة والخنازير، أولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير.
وهذه الحرب ـ معاشر المؤمنين ـ بين أطرافها الثلاثة، بين اليهود والنصارى والمسلمين، هي حربٌ عقدية دينية عند كل طرف من هذه الأطراف، ولكن مع الأسف الشديد ـ معاشر المؤمنين ـ يفخر الطرفان الأوّلان بأنها حرب دينية وينطلقون من معتقداتهم، ويحاول الطرف الثالث بمن يقوده من أذناب لهم لِتهميش هذا الدافع العظيم، ويجعلونها حربًا بين العرب وإسرائيل، ويسمونها قضية الشرق الأوسط، والله عز وجل يقول في محكم التنزيل: وَلِيَدْخُلُواْ ?لْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا [الإسراء:7]، فبيّن جل وعلا أن النصر لا يكون إلا لمن أراد المسجد، وأراد هذه القبلة المباركة، لا يطمع في أرض ولا حدودٍ ولا سياسةٍ ولا إقامة دولة، وإنما هاجسُه أن يدخل المسجد كما دخله الفاروق وأصحابه أول مرة، وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا.
نعم معاشر المؤمنين، الحرب عقدية بين أطرافها، فاليهود يعتقدون كما في عهدهم القديم المحرَّف أن هذه الأرض أرض الميعاد، ويعتقدون أن نسل إسماعيل عبيدٌ سرمديون لهم إلى قيام الساعة، وأما النصارى فيعتقدون أن من واجبهم أن يساندوا اليهود، وهذا مذكور في كتبهم المقدسة، لذلك يقدّم النصارى ما مقداره أربعة عشر مليون دولار يوميًا لليهود معوناتٍ لهم، وهذا أمر بيِّنٌ لا يستحيون منه معاشر المؤمنين، مذكور في صُحُفهم وكتبهم ونشراتهم.
وأما الذي يهمنا نحن المؤمنين، وفي هذا البلد المقدس المبارك، الذي يهمنا ـ معاشر المؤمنين ـ أن نعرف لماذا يُغيَّب هذا الدين العظيم عن هذه القضية؟ لماذا دائمًا يغيَّب الإسلام عن قضية المسجد الأقصى؟
إن الإسلام يُغيَّب عمدًا؛ لأنهم جميعًا يعلمون هم وأذنابهم قبل كل شيء أن الحلَّ الأمثل لهذه القضية، بل الحل الأوحد لها كما يقول جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فلم ينادِ العرب، ولم ينادِ الناس جميعًا، وإنما نادى المؤمنين: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قَاتِلُواْ ?لَّذِينَ يَلُونَكُمْ مّنَ ?لْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لْمُتَّقِينَ [التوبة:123].
فهم يعلمون ـ معاشر المؤمنين ـ أنه لا حلَّ لهم في دين الإسلام وعند المسلمين إلا واحد من السيوف الأربعة التي بُعث بها النبي ، أتدرون ما السيوف الأربعة؟! يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: بُعِثَ النبي بأربعة أسياف: سيف للمنافقين فقال جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ جَـ?هِدِ ?لْكُفَّارَ وَ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?غْلُظْ عَلَيْهِمْ [التحريم:9]، وسيف للمشركين عمومًا فقال جل وعلا: فَإِذَا ?نسَلَخَ ?لأشْهُرُ ?لْحُرُمُ فَ?قْتُلُواْ ?لْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ [التوبة:5]، وأما السيف الثالث فهو لقتال أهل البغي، فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى? ?لأُخْرَى? فَقَـ?تِلُواْ ?لَّتِى تَبْغِى حَتَّى? تَفِىء إِلَى? أَمْرِ ?للَّهِ [الحجرات:9]، وأما السيف الرابع ـ معاشر المؤمنين ـ وهو الذي يخافونه ويعلمون أنه مسلّط عليهم موعود أهلهُ وحاملوه بالنصر المبين على عبدَة الصليب وإخوانهم من القردة والخنازير، فهو السيف الذي يقول جل وعلا عنه: قَـ?تِلُواْ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَلاَ بِ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ?لْحَقِّ مِنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ حَتَّى? يُعْطُواْ ?لْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَـ?غِرُونَ [التوبة:29]. فهذه أسياف أربعة بُعث بها النبي وقال: ((جعل رزقي تحت ظل رمحي)).
من أجل ذلك ـ معاشر المؤمنين ـ يُغيَّب الإسلام، فهذه الحالة التي يعيشها المسلمون لا تحتمل مفاوضات ولا سلام، وإنما ليس لها إلا سيف المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الذي ينبغي على كل مسلم أن يعتقده، وإن لم يستطعه في هذه الأيام نظرًا لتكالب الأعداء وتكالب حلفائهم وأذنابهم، فلا أقلّ من أن يعتقد المؤمن أنه لا خلاص له ولا لأمته إلا بقتال الكفار وجهادهم، فإن الله عز وجل قد أذن لنا بذلك فقال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـ?تَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ?للَّهَ عَلَى? نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39]، فالله جل وعلا وعد هذه الأمة بالنصر المبين على أعدائه الملاعين.
ثم اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ بأن أحوال أهل الأرض من المشركين والكفار مع الإسلام لا تخرُج عن ثلاثة أمور: إما أن يُسلموا ويدخلوا في دين الله أفواجًا، فحينها يكونون إخوة لنا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإما ـ وهذه هي الحالة الثانية ـ وإما سيفٌ من أحد هذه السيوف الأربعة، وإما ـ وهي حالتهم الثالثة ـ أن يدفعوا الجزية عن يدٍ وهو صاغرون، ويبقوا تحت حكم الإسلام، وتحت رايته، وتحت ظله، لا يحيدون عنه قيد أنملة.
هذا حكم الله معاشر المؤمنين، وهذا شرعه، وهذا ما ارتضاه لأمته، ولا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحيد عن هذا المعتقد، فضلاً عن أن يُولي وجهه شطر البيت الأبيض أو الأحمر، فإن الذي يستمع ـ معاشر المؤمنين ـ إلى المسلمين الذين أكرمهم الله عز وجل بهذا الدين المبارك وهذه العقيدة وهذا الركن المبارك وهو الجهاد في سبيل الله، ثم يستمع إليه وهو يناشد المجتمعات الدولية، وهو يناشد أعداء الله من اليهود والنصارى ليُشفَق عليه وعلى عقيدته ويخشَى عليه أن ينقض دينه نقضًا، وأن يبطل صلاته وصيامه وحجه وزكاته؛ لأن التعلق بهؤلاء ورجاء الأمل منهم مخالف لعقيدة المؤمنين جملة وتفصيلاً.
فاعلموا هذا معاشر المؤمنين، ولا أقل من أن يتمنى الرجل منكم الشهادة في سبيل الله، فيكرمه الله منزلة الشهداء، وإن مات على فراشه بين أهله، ذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الحديد:21].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك ومنّك وكرمك يا أرحم الراحمين.
ثم أما بعد: معاشر المؤمنين، فتتفاوت ردود أفعال المسلمين عمومًا حينما يرون هذه النكبات وهذه المصائب تنزل بإخوانهم في جميع بقاع العالم على مرأى ومسمع من الجميع، وقد ظهر في الآونة الأخيرة أسلوبٌ انتشر حتى في بعض الدول التي لم تعرفه من قبل، يظن أهله أنه حلّ يقوم به المغلوب على أمره، وهذا الحل ـ معاشر المؤمنين ـ خطره جدُّ عظيم على أمتنا، رأيتُ من الواجب التنبيه عليه، وهو المظاهرات والحشود الحاشدة التي تخرج فيها الجماهير في كل مكان، يحرقون الأعلام، ويهتفون ويسبّون ويشتمون، هذا الأمر يفرح به الكثير، ويظنونه مظهرًا من مظاهر الرجولة والغيرة على الدين والعرض، والواقع ـ معاشر المؤمنين ـ أنه يخدم الأعداء أكثر مما يتوقع أولئك المتحمسون المخلصون، وذلك للأوجه التالية:
أولاً: أن هذه المظاهرات تنفّس عن حنق وحقد أصحابها، فإذا خرج الرجل وسبَّ وشتم ظنّ أنه قد أدى ما عليه، وليس هذا صوابًا ولا صحيحًا، فلا تبرأ ذمته، ولا ينتهي دوره بالسب واللعن والشتم وحرق الأعلام وما شابه ذلك، بل عليه أن يُعد نفسه للجهاد في سبيل الله، وأن يصلح حاله مع ربه جل وعلا، فإن الله جعل للنصر شروطًا لا يمكن أن يتحقق النصر أبدًا إلا إذا تحققت هذه الشروط: إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]. ونصرة الله تكون بنصرة دينه وشرعه والالتزام بأمره واجتناب نهيه، فمن لم يمتثل أمر الله ويجتنب نهيه ما نصر الله، ومن لم ينصر الله لا نصْرَ له، لذلك يعجب الرجل وهو يرى السفلة من القوم من المطربين والفنانين يتقدمون هذه المظاهرات، وما علموا أن ما أصابنا من ذل وضعف إنما هو بسبب فسادهم، وبسبب فسقهم وإضلالهم للشباب والشابات في كل مكان، فكانوا كمثل من يقتل رجلاً ثم يشيّع جنازته، فهذه الهتافات والمظاهرات ـ معاشر المؤمنين ـ تضلّل أصحابها، وتقنعهم بأنهم قاموا بدور فعّال وما قاموا بشيء أبدًا.
ثانيًا: هذه المظاهرات ـ معاشر المؤمنين ـ والهتافات تريح أعداء الله، إذ إنهم يعلمون أن هذا هو منتهى ما يحصل من الشعوب الإسلامية، يحرقون عشرين علمًا، ويتظاهرون لساعتين أو ثلاثة، ثم يعودون إلى أسواقهم ودورهم وأهلهم، أما لو سكت المسلمون وأعدوا للعدو عدته، فإنه يقلق أيما قلق، ويعلم أن عدوه متنبه له، لذلك لا نجد أحدًا ممن يحارب المسلمين، لا نجده يتظاهر، ولا يهتف، لا يقول: الويل للمسلمين والدمار للمسلمين، ولا يحرق أعلامهم، بل يحرق دولهم ودورهم وديارهم بفعله لا بقوله، وبأسلحته لا بهتافاته، فهذه المظاهرات ـ معاشر المؤمنين ـ تخدير عظيم للأمة، لذلك يسمح بها أصحاب الأنظمة الضالة، يسمحون بها، ويسمحون لشعوبهم بالخروج، حتى يشعروا أنهم قد أدوا ما عليهم.
ومن الأسباب التي يتبين بها خطأ هذا المسلك ما يحصل فيها أحيانًا من حرق للأعلام ووطئها بالأقدام، والله عز وجل نهى عن سب آلهة المشركين مع أنها آلهة باطلة، وكل ما سوى الله من معبود فهو باطل، وأصحابه مشركون، مع ذلك ينهانا ربنا جل وعلا عن سب آلهتهم، حتى لا يسبوا الله عدوًا بغير علم، فكيف لو اجتاظ اليهود غضبًا وكذلك أعوانهم من النصارى فوطئوا علم "لا إله إلا الله" بأقدامهم، وحرقوه في ميادينهم، من يحمل هذا الإثم على عاتقه؟! ومن الذي دفعهم لهذا الفعل معاشر المسلمين؟!
فالواجب إذًا على كل مؤمن غيور أن يعلم أنه مطالب بوضع بذرة النصر التي لا بد منها، والتي لا يتحقق النصر إلا بها، وهي إصلاح حاله مع الله عز وجل، فجُلُّ هؤلاء المتظاهرين إذا تظاهروا بعد العصر فلعلهم فوَّتوا الظهر والعصر، وإن تظاهروا بعد العشاء لعلهم فوتوا المغرب، وهذا ما يشاهد، يقفون لساعات طويلة، فأين الصلاة التي هي عمود الدين؟! وأين ترك المنكرات والمحرمات والموبقات التي يتلبسون بها؟!
فاعلموا ـ معاشر المؤمنين ـ إن كان يؤلمكم ما يمر به إخوانكم، وإن علمتم أنكم الكبش الذي يليه، فاعلموا أنه لا خلاص لنا إلا بالتوبة النصوح إلى الله عز وجل، وترك ما حرم الله تبارك وتعالى، وإعداد النفس وتمنيتها بالشهادة في سبيل الله، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث بهذه الشعيرة المباركة التي هي ذروة سنام الإسلام، ولا يوقِف مَن وصفهم الله بأنهم أحرص الناس على حياة إلا سيفٌ من سيوف المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فكن أحدَ هذه السيوف يا عبد الله.
نسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وترفع فيه راية الجهاد خفاقة أبدًا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/2889)
أسباب الذل وطريق الخلاص
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, قضايا دعوية
وجدي بن حمزة الغزاوي
مكة المكرمة
28/1/1423
المنشاوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضعف المسلمين في هذا العصر. 2- تشخيص أسباب الضعف والهوان. 3- وصف العلاج وطريق الخلاص.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد: فإن الذي يتأمل أحوال المسلمين ـ معاشر المؤمنين ـ ويرى ما بهم من ذلة وهوان على الناس في هذه الأيام ليعجب كيف يسلّط الله عز وجل الكافرين وعُبَّاد الصليب على أهل لا إله إلا الله وعلى أهل التوحيد.
واعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ بأن هذا الأمر وهذا الواقع الذي يعيشه المسلمون في كل مكان إنما هو سنة كونية وعقاب رباني بيّنه لنا نبينا صلوات ربي وسلامه عليه، وذكر أسبابًا ثلاثة إذا وقعت فيها الأمة فإنه يصيبها من الذل والهوان ما لا يعلمه إلا الله عز وجل.
والذي يرى أحوال الأمة في هذه الأيام ـ معاشر المؤمنين ـ وما بها من ذل ويتأمل حديث النبي يزداد إيمانه بالله، ويزداد إيمانه بأن المصطفى مَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم:3، 4]، ويزداد إيمانه أن لا سبيل إلى العودة إلى عز الأمة ومجدها إلا بالتمسك بالنصيحة التي بينها النبي بعد أن ذكر الأسباب التي تسلط على هذه الأمة ذلاً لا ينزعه إلا الله عز وجل.
يقول في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينتزعه عنكم حتى تعودوا إلى دينكم)).
فبين النبي ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ أسبابا ثلاثة إذا وقعت فيها الأمة سلط الله عليها ذلاً لا ينتزع أبدًا حتى ترجع الأمة إلى دينها.
أما الأمر الأول والسبب الأول: ((إذا تبايعتم بالعينة)) وهو بيان بأن الأمة إذا وقعت في البيوع المحرمة ولم تراع الحلال والحرام فإن هذا أول أسباب الذل والهوان من الله عز وجل.
((إذا تبايعتم بالعينة)) فما معنى العينة معاشر المؤمنين؟ هي بيع من البيوع المحرمة، وصورتها أن يشتري الرجل سلعة بثمن مؤجّل ثم يبيعها على نفس البائع بثمن حاضر، فهذا نوع حرَّمه النبي ، وهو منتشر في هذه الأيام في كل مكان وفي كل بقعة على وجه الأرض، ومثال ذلك ما يحصل في معارض السيارات مثلاً، يشتري الرجل سيارة بثمن مؤجل، يشتريها بالتقسيط، ثم يبيع السيارة على نفس هذا البائع بثمن نقد يستلمه حالاً، هذه هي العينة وهي أشد من الربا إذا وقعت وانتشرت بين المسلمين، وهذا هو الحال.
وليس الأمر ـ معاشر المؤمنين ـ بيانا بأن هذا هو السبب الوحيد، بل هو دليل ومؤشر على أن الناس يقعون في البيوع المحرمة، وهذا من أعظمها ومن أشدها لِما فيه من التحايل والتلاعب، وكأن الذي يقع فيه لا يستحضر أن الله هو السميع العليم، وأنه يعلم السر وأخفى جل وعلا، وما أكثر البيوع المحرمة التي تنتشر في مجتمعات المسلمين، وما أكثر بيوع الغرر التي يقع فيها المسلمون في هذه الأيام، بل لقد أصبح التأمين على الحياة وعلى الممتلكات أصبح لازما على المسلمين في كثير من الأقطار، لا يسعهم إلاَّ أن يقعوا في هذا النوع المحرم من العقود بقوة السلطان وقوة النظام.
((إذا تبايعتم بالعينة)) فما أكثر وقوع الأمة في أنواع البيوع المحرمة كما رأيتم معاشر المؤمنين.
((وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع)) ، وهذه كناية عن الركون إلى آلات الحرث ووسائلها، والرضا بالدنيا ووسائل التجارة، وما يعود منها على العبد من ربح ورزق، فيركن إلى ذلك العبدُ ويرضى به، وليس في هذا ذم للكسب والعمل، بل هو ذم للركون المطلق إلى الدنيا وزينتها وإلى الحرث وزينته، هو ذم لمن يرضى بهذا عن غيره من الأعمال الصالحة، كالجهاد في سبيل الله مثلاً، كما سيأتي معنا.
والذي يتأمَّل أحوال أمتنا معاشر المؤمنين، لا أقول الذي يتأمل أحوال عامتهم، بل الذي يتأمل أحوال علمائهم وطلاب العلم منهم، يرى أنهم من التجار، ومن المتسابقين على الاستثمار ومزاحمة أهل الدنيا في دنياهم، فإذا كان هذا حال أهل الفضل من هذه الأمة، أخذٌ بأذناب البقر ورضًا بالزرع والحرث، فما بالكم بمن هم دونهم من سائر الناس؟!
((وتركتم الجهاد)) ، هذا هو السبب الثالث معاشر المؤمنين، الجهاد ذروة سنام الإسلام، بل عده بعض أهل العلم الركن السادس من أركان الإسلام.
الجهاد ـ معاشر المؤمنين ـ ليس عملاً كغيره من الأعمال الصالحة يثاب العبد على فعله ولا يعاقب على تركه، الجهاد واجبٌ أوجبه الله على هذه الأمة، يقول جل وعلا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ [البقرة:216]، كُتِبَ عَلَيْكُمُ أي: فرض عليكم، كما قال جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، وهنا قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ، فلم يكتبه على الذين من قبلنا، وإنما كتبه الله عز وجل على هذه الأمة، وكان من سنة الله أنه يهلك الأمم التي تكذّب بالأنبياء والمرسلين، ويرسل عليها عذابًا يستأصلها ويذهب بها، ولكنه جل وعلا لم يجعل ذلك في أمة المصطفى بل أمرها بالجهاد وقال: قَـ?تِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ ?للَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التوبة:14]، فعذاب الكفار ـ معاشر المؤمنين ـ والمنافقين والصليبيين لا يكون إلا على أيدي الخلَّص من المؤمنين.
كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ، تكرهونه لما فيه من المشقة، ولما فيه من الكلفة، ولما فيه من الألم والتضحية، وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216]، والله عز وجل يعلم ما يصلح دينكم وأخراكم، ويعلم الخير لكم في الدنيا والآخرة، وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ.
فالجهاد ـ معاشر المؤمنين ـ فريضة على هذه الأمة، ينبغي أن يعلم ذلك ويؤمن به كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا)) وفي رواية: ((حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإن قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله)) ، ويقول جل وعلا: وَقَـ?تِلُوهُمْ حَتَّى? لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ [الأنفال:39]، فأمر الله عز وجل بقتال أهل الأرض حتى لا تكون فتنة، والمراد بالفتنة هنا الشرك والكفر، أي: قاتلوهم حتى لا يبقى كفر ولا شرك على وجه الأرض، ويكون الدين أي: كل الدين لله عز وجل على ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين.
هذه الأمور معاشر المؤمنين، وفي مقدمتها ترك الجهاد من أعظم أسباب الذل والهوان، والأمة ـ أيها المؤمنون ـ لم تترك الجهادَ فحسب، وإنما زادت على ذلك أمرًا لم يكن يخطر على بال مسلم، فضلاً عن مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر، زادت الأمة على ترك الجهاد حربًا له ولأهله، واستهزاءً به وبأهله، فالمجاهدون اليوم يوصَفون بأشدّ العبارات استهزاءً وسخرية وانتقاصًا وتضليلاً لدورهم وواجبهم الذي يقومون به ويرفعون به الإثم عن كل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر، المجاهدون الأبطال ـ معاشر المؤمنين ـ أصبحوا اليوم إرهابيين حتى في الإعلام الإسلامي، بل وحتى على ألسنة بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة، جعلوا المجاهدين الذين نذروا أنفسهم وأرواحهم وأموالهم في سبيل الله عز وجل، جعلوهم مشوِّهين لصورة هذا الدين بزعمهم، ومتى كان هذا الدين حسنًا في أعين الكافرين حتى شَوَّهه هؤلاء المجاهدون الأبطال؟! متى كان الكفرة والصليبيون ينظرون إلى ديننا نظرةً حسنة حتى جاء هؤلاء فشوَّهوا تلك الصورة الحسنة كما يزعمون؟!
المجاهدُ ـ معاشر المؤمنين ـ يحلِّلون اندفاعاته في هذه الأيام فيقولون: إنها نتيجة عن الإحباط الذي يعيشه، نتيجة عن الضغوط النفسية التي يعيشها هؤلاء الشباب، فقرروا أن يتخلصوا من أرواحهم، ويذهبوا إلى الجهاد، وما علم أولئك أنهم يقولون كفرًا، فالمجاهد إنما يرجو ما عند الله عز وجل، وللمجاهدين في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة كما بين السماء والأرض كما أخبر النبي ، الذي يقاتل ابتغاء مرضاة الله، الذي يقاتل ابتغاء الفردوس الأعلى، يسمَّى مُحبَطًا، ويسمَّى مريضًا نفسيًا، يندفع تحت ضغوط نفسية، ومع علم هؤلاء المرضى أنه ما من أحد يرى النعيم المقيم يوم القيامة إلا ورضي بما قسمه الله له، وأحب أن يبقى خالدًا فيها مخلدًا إلا المجاهد الذي استشهد في سبيل الله، فإنه يتمنى أن يعود إلى الدنيا فيقاتل فيقتل في سبيل الله، ثم يعودُ إلى الجنة لما يرى من النعيم والمنزلة والمكانة التي أعدها الله عز وجل للمجاهدين، والتي أعدها الله عز وجل لمن باعوا أنفسهم رخيصة لإعلاء كلمة الله.
يقول النبي : ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذُلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ثم أما بعد: معاشر المؤمنين، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما ترك من أمر يقربنا إلى الجنة وإلى رضوان الله عز وجل إلاَّ بينه ودلَّنا عليه، وما ترك من أمر يقرب العبد إلى جهنم وغضب المولى إلاَّ حذّر ونهى عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
ولما ذكر النبي نصحًا للأمة أسبابَ ذلها بين للأمة العلاج من هذه الأمراض جميعًا، فقال : ((لا ينزعه الله عنكم)) ، وفي قوله: ((لا ينزعه الله)) أن هذا الذل لا يمكن أن ينزعه إلاَّ الذي سلطه علينا، فإذا أرادت الأمة أن تتخلص من ذلها فينبغي عليها أن تتخلص منه بعزة، وتستغيث ربها، ولا تيمّم وجهها شطر المجتمع الدولي، ولا شطر المجالس المتآمرة على الإسلام والمسلمين.
وإن العبد أيها المؤمنون، إن العبد منا ليحزن وهو يرى إخوانه المسلمين إذا أصابهم ما أصابهم لجؤوا إلى المجتمع الدولي، وطالبوا بتحكيم القرارات الدولية، ويحفظون أرقامها كما يحفظ الرجل منا السورة من القرآن، ويحفظون بنودها كما يحفظ الرجل منا السورة من القرآن، وكأن تلك القرارات وحي منزل من السماء، وما علموا أن التشبث بها واللجوء إليها من أعظم أسباب ذلهم وهوانهم على الناس.
((لا ينزعه الله عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)) فبين النبي العلاج الشافي والأوحد في هذه المعضلة معاشر المؤمنين، حتى ترجع الأمة إلى دينها.
الرجوع إلى الدين يكون كافة، ?دْخُلُواْ فِي ?لسّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]، ولا يكون بالرجوع إلى جزئيات من هذا الدين، وإنما يكون الرجوع بالكلية إلى شرع الله عز وجل ابتداءً وإلى أمره ونهيه انتهاء، فإذا لم ترجع الأمة إلى شرع الله عز وجل وتتحاكم إليه وترضى به فلتبشر بالذل والهوان إلى أن يشاء الله عز وجل.
هذا أمر كوني شرعي قدَّره الله عز وجل أيها المؤمنون، لا يمكن أن يتخلف أبدًا حتى ترجع الأمة إلى دينها. والعجيب ما يراه العبد من مغالطات تميِّع هذه القضية، وتنزع عنها ثياب الإسلام، وتنزع عنها ثياب الشرع، وتجعلها قضية بين العرب وإسرائيل، وبين العرب وأعدائهم من الصليبيين، يريدون أن يخرجوا من الصراع ـ معاشر المؤمنين ـ أمةَ مليار وثلاثمائة مليون، إذا علموا أن هذه القبلة هي حق لكل مسلم، وأنها لا تكون إلاَّ بالسيف الذي بُعث به النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا كما يقول: ((بعثت بالسيف بين يدي الساعة، وجعل الذل والهوان على من خالف أمري)) ، فالذل والهوان ـ معاشر المؤمنين ـ على كل من يترك شرع ربه ودين ربه، وعليه أن يعود إليه جملة وتفصيلاً، وكلكم يرى ويشاهد تلك القنوات التي تَبثّ لنا ما يقع على إخواننا المسلمين من تنكيل وقتل وتدمير لبيوتهم وممتلكاتهم، ثم بعد أن ينتهي ذلك البثّ إذا بهم يعودون إلى غيّهم وإلى فسقهم ويبثّون الفجور والغناء والخنا والرذيلة بين أبناء المسلمين، فأمةٌ كهذه لا غرابة ولا عجب أن يتغلب عليها أحفاد القردة والخنازير.
فإياكم والعاطفة أيها المؤمنون، إياكم والهتافات التي لا تنفع، والتجمهرات التي لا تقدم ولا تؤخر، وكما بينت في الخطبة السابقة خطر تلك المظاهرات، فإن الرجل منا إذا نظر إلى أحوال أهلها يزداد بصيرة بأنها من عمل الغرب وتأييده وشرعه، فبالأمس القريب خرجت مظاهرات في إحدى الدول يتقدَّمها أشدّ الناس عداءً للإسلام والمسلمين، يتقدّمها أصحاب المجالس التشريعية الذين يشرّعون مع الله عز وجل، يتقدمها النواب ورجال البرلمانات الذين هم واقعون في أشد أنواع الشرك والمعاصي والمنكرات، يهتفون باسم الأقصى، وما ذلك إلا لتخدير الشعوب وتخدير أبناء المسلمين.
فاعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ بأن ما نحن فيه لا يزول إلا بالكتاب أي: بشرع الله، وبالسيف الذي بُعث به خير خلق الله نبينا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، عودوا إلى ربكم، واتقوا ربكم عز وجل، امتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه، وعليكم بالأمر العتيق.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعز الإسلام والمسلمين...
(1/2890)
وفي السماء رزقكم
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الربوبية
وجدي بن حمزة الغزاوي
مكة المكرمة
3/4/1423
المنشاوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قضية مسلَّمة. 2- الرزق بيد الله تعالى وحده. 3- الرزق يطلب العبد كما يطلبه الأجل. 4- قسمة الأرزاق مفروغ منها. 5- الذي تولى قسمة الأرزاق هو العليم الخبير. 6- أثر الإيمان بأن الله هو الرزاق في حياة الناس.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد: فحديثا اليوم ـ معاشر المؤمنين ـ عن أمر يُقلقُ كلَّ من خلقه الله من البشر إلا من رحم الله عز وجل، يتقاتل عليه الناس ويتنافسون، من أجله يسرق السارق وتزني الزانية ويرتشي المرتشي، بل ويَقتل الرجل أخاه، ويقاطع قرابتَه وذوي رحمه، هذا الأمر الذي يتقاتل الناس عليه ـ معاشر المؤمنين ـ حسمه ربّ العالمين وجعله لنفسه جل وعلا.
ذلكم ـ أيها المؤمنون ـ هو أمر الرزق، فما أكثر ما يتقاتل الناس على أرزاقهم، ويتنافسون في طلب أمرٍ فرغ الله عز وجل منه وقضاه. وهذه قضية هامة ينبغي للعبد المؤمن أن يعتقدها وأن يفهم أربعة أصول فيها، فإذا استقرَّت هذه الأصول الأربعة في قلب المؤمن فإنه يطمئن ولا يجزع على أمر قد فرغ الله عز وجل منه.
أما الأصل الأول ـ معاشر المؤمنين ـ فهو أن الله عز وجل تكفَّل بأرزاق العباد، ولم يجعلها عند أحد من خلقه، فلا يُطلب الرزق إلاَّ منه جل وعلا، وأقسم على ذلك بنفسه الكريمة جل وعلا فقال: وَفِى ?لسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبّ ?لسَّمَاء وَ?لأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:22، 23]، فبين جل وعلا أن رزق العباد جميعًا، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، كل أرزاقهم عنده جل وعلا في السماء، ثم أقسم على هذه الحقيقة فقال: فَوَرَبّ ?لسَّمَاء وَ?لأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ أي: هذا الذي أخبر جل وعلا عنه، مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ أي: كما أنكم تنطقون لا تشكون في هذه الحاسة التي وهبكم الله إياها وهي من أوضح الحواس كما يقول أهل العلم، فلو كان الرجل نظره ضعيفًا لا يدرك الناس ذلك، ولو كان شمه معدومًا لا يدركون ذلك، ولو كان حسه معدومًا لا يدركون ذلك أيضًا، لكنه لو لم يكن فصيحًا منطلقَ اللسان لأدركوا ذلك من أول كلمة، فالنطق أوضح الحواسّ، فضرب الله مثلاً بهذه الحقيقة، وأنها حق واضح لا مِرية فيه، مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ، لا تشكون في نطقكم، وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه إذا أقر أحدًا أو قرره قال: (والله، إنه لحق مثلما أنك ها هنا). فهذا قسم من الله عز وجل لعباده بأن الأرزاق عنده وحده جل وعلا، فليطمئن قلب العبد المؤمن.
وثاني هذه الأصول التي ينبغي أن يعرفها العبد المؤمن أن الرزق نفسَه هو الذي يطلبُك وليس العكس، يقول : ((إنَّ الرزق ليطلب صاحبه أكثر مما يطلبه أجله)) ، الناس لا شكّ عندهم أنهم سيموتون وأن آجالهم آتية، الرزق يطلبك أكثرَ مما يطلبك أجلك كما أخبر الذي لا ينطق عن الهوى صلوات ربي وسلامه عليه.
وفي الحديث الصحيح: ((إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل أجلَها وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته)). إنّ روح القدس جبريل أوحى إلى النبي حقيقةً بينها له ربه جل وعلا بأن نفسًا مهما كانت لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعبَ رزقها كاملاً كما قسمه الله جل وعلا، فلا يحملنّك ـ أيها المؤمن ـ استبطاء الرزق أي: تأخره أحيانًا أن تطلبه بمعصية الله، فإن ما قسمه الله يأتي دون معصية. ولذلك كان بعض أهل العلم يقسِم أنه لو صبر السارق لرُزق ما سرَقَه؛ لأنه كتب له أن يستمتع بهذا المال، ولو صبر المرتشي لجاءه ما أخذه بالحرام، فالذي تعيش منه وتأكله قُسِم لك، والأمر إليك إما أن تطلبه بالحرام وإما أن تطلبه بالحلال كما قسمه جل وعلا لك.
وأما الأصل الثالث ـ معاشر المؤمنين ـ فهو أن هذه الأرزاق قسمها رب العالمين وفرغ منها، فحينما يستكمل أحدنا في بطن أمه أربعة أشهر ويُخلَّق يرسل الملك فيؤمر بكتابه أربع، أولها بكتابه رزقه ثم أجله ثم عمله ثم شقيٌ أم سعيد، فيكتب الله عز وجل أرزاق العباد ويقسمها لهم، وهذا أمر فرَغ الله عز وجل منه، وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ?للَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60]. وكان بعض الصالحين قد أصابهم جوعٌ وعطش شديد فبعثوا أحدهم يسأل بعضَ أصحابهم رزقًا طعامًا وشرابًا، فلما وصل باب داره فإذا به يسمع الرجل يقرأ: وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ?للَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ، فوقف الرجل وقال: والله، إني وأصحابي أكرم على الله من الدَّواب، فرجع ولم يسأل، وحينما وصل إليهم وجد عندهم رزقًا حسنًا أرسله الله عز وجل إليهم.
فهذه الأرزاق ـ معاشر المؤمنين ـ قسمها الله عز وجل وكتبها لعباده حتى الدواب التي تدب في الأرض، بل حتى إبليس اللعين كتب الله رزقه، وفي الحديث الصحيح أن إبليس قال: يا رب، كل خلقك بينت رزقه ففيم رزقي؟ هذا الذي كفر بالله ولعنه الله وطرده يسأل: أين رزقي؟ فهل حرمه الله الرزق؟! وهل منعه الله الرزق؟! بل قال الله له كما في الحديث الصحيح: ((رزقك فيما لم يُذكر اسمي عليه)) ، فكل طعام وكل شراب لا يُذكر اسم الله عليه فهو رزقٌ رزقه الله إبليس، لذلك في الحديث الصحيح أن الرجل إذا دخل بيته فسمى قال الشيطان لأصحابه: فاتكم المبيت، وإذا أكل وسمى قال: فاتكم العشاء، وأما إذا أكل ولم يسم، قال: أدركتم العشاء، وأحيانًا يدرك المبيت والعشاء، بل ويكون له نصيب من أهل الرجل أيضًا إن لم يسم الله عز وجل.
فرزق إبليس ـ معاشر المؤمنين ـ كتبه الله عز وجل، فينبغي على العبد المؤمن الذي يَقلَق على رزقه والذي يرتكب الحرام من أجل الرزق، ويسعى دون تفكر ولا ورع ولا تقوى أن يضع هذا الحديث نصب عينيه، إبليسُ الذي لعنه الله وقال له: فَ?خْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الحجر:34]، رجمه الله عز وجل وأبعده عن رحمته قال: ((رزقك فيما لم يذكر اسمي عليه)).
ثم اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ بأن خاتمة هذه الأصول أن يعلم العبد المؤمن أن هذه الأرزاق قسمها الله بعلمه وحكمته ولطفه بعباده، فلم يقسمها على الخلق بمعيار التقوى ولا الصلاح، وإلا لكان أغنى الخلق أحبُّهم إليه وسيدهم جميعًا نبينا صلوات ربي وسلامه عليه، فهذه الأرزاق قال الله عنها: وَلَوْ بَسَطَ ?للَّهُ ?لرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى ?لأَرْضِ وَلَـ?كِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ [الشورى:27]، أي: هو جل وعلا خبير بعباده بصير، يعلم ما يصلحهم، ولذلك كان المصطفى يُقسم لأصحابه ويخبرهم: ((والله، ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسها الذين من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم)) ، فوالله ما الفقر يخشاه النبي على أصحابه، وإنما يخشى عليهم أن تفتح عليهم الدنيا. فلا تجزعن ـ يا عبد الله ـ إن رأيت عبدًا وسع الله عليه في رزقه، فهذا المال فتنة عظيمة، لن تزول قدم هذا العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أمرين يتعلقان بالمال، لا يسأل عن شيء مرتين وسؤالين سوى هذا المال: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟
فهذا الأمر ـ معاشر المؤمنين ـ وهو أن الله يقسم الأرزاق بعلمه وخبرته، فهو الخبير البصير العليم اللطيف بعباده، يجعل قلب المؤمن مطمئنًا، فلا ينظر إلى رجل وسع الله عليه، ويقول: كيف يؤتي الله هذا الفاسق الفاجر من أموال الدنيا؟! وتقول العامة كلمةً كفريه: يُعطي الحَلَقَ لمن لا أُذُن له، وكذَبوا، بل إن العليم الخبير يعطي من يشاء ويرزق من يشاء بغير حساب، فوسَّع على فرعون وهامان، ثم جعل مصيرهما النار وبئس القرار.
فتقسيم الأرزاق ـ أيها المؤمنون ـ بعلم الله وحكمته، وكم من رجل صالح، بل وكم من طالب علم كان من الأتقياء الصالحين فوسع الله عليه في رزقه ففتن، وأصبح من أهل العقارات، وترك العلم، وترك طلب العلم والدعوة إلى الله عز وجل، وكم من رجل فقير دائم الدمعة، منيب إلى ربه عز وجل، لا تفوته صلاة في المسجد، يسارع إلى مرضات الله. فالفقر ـ عباد الله ـ قد يكون أحيانًا خيرًا لهذا العبد لو كان يعلم، فتضييق الرزق يكون أحيانًا لصالحك، وتوسعته يكون فيه فساد عريض لهذا العبد لو علم.
أسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقني وإياكم غنى القلب، فإن غنى القلب أعظم الغنى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ثم أما بعد: معاشر المؤمنين، فإن الإيمان عند أهل السنة قول وعمل، فقد يؤمن الإنسان ويصدق بهذه الأصول الأربعة، وهي أن الرزق عند الله عز وجل، وأن الرزق يطلب صاحبه أكثر مما يطلبه أجله، وأن أرزاق العباد قد قسِّمت، وأن الذي تولى هذه القسمة هو العليم الخبير اللطيف جل وعلا، ولكن حياته وسلوكه يتنافى مع هذه الأصول التي آمن بها، فتراه يتعامل بالربا ويقول: إن تركتُ الربا بارَت تجارتي، فكيف يكون هذا العبد مؤمنًا بهذه الأصول وأنَّ ما كتبه الله له يطلبه أكثر مما يطلبه أجله؟!
فكما أنه لا بد لكل نفس أن تذوق الموت في ساعة محددة فكذلك الرزق الذي كتبه الله لك لا بد وأن تناله متى ما كتبه الله، يتعامل بالربا وهو يؤمن بأن الله هو الرزاق! ويرتشي وهو يؤمن بأن الله هو الرزاق! وربما يبيع أو تبيع عرضها وشرفها وهي تؤمن بأن الله عز وجل هو الرزاق! وقد يبيع البعض المحرمات مما حرمه الله عز وجل حرمة بينة واضحة وهو يؤمن أن الله هو الرزاق! وإلا قل لي بربك: ما الذي يدفع مثلاً أصحاب الأموال وأصحاب البقالات إلى بيع الدخان وما حرم الله من مجلات خليعة ونحوها وهم يؤمنون بقوله جل وعلا: وَفِى ?لسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ؟!
فهذه الأصول ـ معاشر المؤمنين ـ ليست نظريات تُتلى، ولكنها عقيدة ينبغي أن ينطلق منها العبد المؤمن، وينبغي أن نرى أثرها على حياته وفي تعاملاته وفي تجارته وفي عمله وفي كل شؤون حياته، فالإيمان قول وعمل.
واعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ بأن الله عز وجل قد رغب الخلق في الرزق بتقواه جل وعلا فقال سبحانه: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، فبين جل وعلا أن تقوى الله أي: الورع والتقوى والبعد عن الحرام سبب عظيم في حصول الرزق، يرزقه جل وعلا من حيث لا يحتسب ومن حيث لا يدري.
أسأل العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/2891)
مسيرة الإصلاح
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
22/12/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توديع عام واستقبال عام. 2- ضرورة الأمة للمحاسبة. 3- التحديات التي تواجهها الأمة. 4- ظاهرة الغلو. 5- مرجعية أهل الإسلام. 6- طعن الغلاة والجفاة في علماء الأمة. 7- ضرر الغلوّ والجفاء على مسيرة الإصلاح. 8- أدب الإصلاح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتقوا الله رحمَكم الله، وخُذوا من دُيناكم بقدرِ محياكم، ودبِّروا أمرَ عُقباكم بقدرِ مثواكم، الدّينا دارُ عُبور وجِسر مرور، طوبى لمن قلبُه عَقول، ولسانه مَعقول، حصائدُ الألسنةِ تزرَع العداوة، يَقُولونَ مُنكرًا منَ القَولِ وزُورًا، ويُوحي بَعضهُم إِلى بَعضٍ زُخرُفَ القَول غُرورًا، فاتقوا الله رحمكم الله، وقولوا قولاً سديدًا، يصلِح لكم أعمالَكم ويغفِر لكم ذنوبكم.
أيّها المسلمون، حجَّاجَ بيت الله، الأعمارُ تُطوى والآجال تقضَى والأجيالُ تفنى والموعِد يوم البعثِ والنشور، والمغبونُ من لم يعرِف ربّه إلاّ في أيّامٍ معلومة أو ساعاتٍ معدودة ثمّ يعود إلى غيِّه وغفلته.
معاشرَ الإخوةِ والأحبّة، ولئن ودَّع المسلمون مواسمَ الخير من ذي الحجَّة فها هُم في وداعِ عام هجريٍّ ليستقبلوا عامًا غيرَه، فحقٌّ عليهم الوقفةُ الصادقة مع النفسِ والأوضاع والأحوالِ والمتغيِّرات، محاسبةً ومساءلة ومعالجة واستصلاحًا.
أيّها المسلمون، حجّاجَ بيت الله، في استقبالِ عام وتوديع آخَر يكون التوقُّف والنَّظر والتدبُّر، فأوضاع الأمّة وأحوالُ العالم بين الآلامِ والآمال والخُطَط والتطلُّعات، بين أنّات الشاكِي ودموع الباكي والجناح المهيض [1].
أمّة الإسلام، إنّ عالم ـ اليوم يعيش محطّاتٍ تاريخيّةً فاصلة، تأتي أمّة الإسلام في قلبها وبؤرَتها. إنّ العالم يعيش متغيِّراتٍ وتقلّبات تحتِّم على الأمّة أن تتوقَّف لتحاسب نفسَها وتراجعَ مسيرتها. إنّ الأمّةَ مدعوّةٌ وبقوّة للمراجعة والنّظر مليًّا في ماضيها القريب وما حدث على مدَار نصفِ قرنٍ أو يزيد لتميِّز الخبيثَ من الطيِّب، بل لقد تكشَّفت للأمَّة مخطّطاتٌ أسفَرت عن وجهِها وكشفَت عن توجُّهها. إنّ أمّةَ الإسلام وهي محاصَرة بالعنفِ والوحشيّة والتسلُّط من قبَل أعدائها في فلسطين وبقاعٍ أخرى من ديَارها وخارج ديارها، هذا الحصارُ يستدعي وقفةً جادّة عميقة من التأمُّل والمراجعة لكي تفكِّر ماذا تصنَع وكيف تتدبّر، كيف تفاوِض وكيف تحاوِر وكيف تواجه. وفي الوقتِ ذاته على الأمّة أن تراجعَ علاقاتها مع شعوبها وحكوماتها وقياداتها وأنظِمتها، علاقاتها بتأريخها ومستقبَلها وتوازناتها الداخليّة والخارجيّة.
معاشرَ الإخوة، حجّاج بيت الله، لا يخفى ما تواجهُه الأمّة في ديارها ودينِها من تحدّيات صعبَة وضغوط خارجيّة وسلوكيّات إرهابيّة لزعزعةِ الأمنِ وهزّ الثّوابت والتشكيك في القدرات، حتى تكلَّمت الرّويبضةُ وبرز الذين في قلوبهم مرَض ممّن يسارعون ويقولون: نخشى أن تصيبَنا دائرة، ممّا يستدعي الالتفاف الجادّ الصّادقَ نحو سدِّ الثغرات وتأكيدِ التلاحُم أمام أهداف المغرِضين وتكالُب الأعداء.
إنّ البلادَ في الحوالِك من الليالي والعصيبِ من الظروفِ هي أحوجُ ما تكون إلى جهودِ أبنائها مِن العلماء والخبَراء والسّاسَة والمجرّبين من خبراءِ العصر وفُقهاء النوازل ليدرَؤوا عنها بإذن الله عواديَ الزمن.
أيّها المسلمون، والحديثُ حديثُ محاسبة والموقفُ موقف نظرٍ في العلاج وتلمُّسٍ للإصلاح. يتحدّث العالم عن الغلوّ، بل لقد ابتُلي بالغلوِّ بشكلٍ صارخ في آثار مرعِبة ونتائجَ مخيفة. والغلوُّ تأريخه قديمٌ وآثاره في الماضي كذلك عظيمة، ولكن مع الأسَف فإنّ الإنسانيّةَ لم تشهَد في عصرٍ من عصورِها خطرَ الغلوِّ كما تشهَده في هذا العصر الذي باتت فيه الظلاميّة والتعصّبُ يسجّلان امتدادًا في العالم بالرّغم ممّا أفرزته حضارةُ العصر من تقدّمٍ في التقنيات والمخترَعات والمكتشَفات، بل إنّ مِن المفارقاتِ أنّ بعضَ الدولِ التي تسيطِر على أحدَث وأشرَف ما أنتجَه العقل البشريّ من أسلحةِ التدمير تتميّز بقدرٍ كبير من التعصُّب والغلوّ في فرض فِكرها ومبادِئها ممّا يصوِّر الخطر المحْدقَ بالبشريّة.
إنَّ الغلوَّ والتعصّب ليس هو عدوّ الآخر، ولكنّه قبل ذلك عدوُّ نفسه. الغلوّ في الغالب ينتهي بصاحبِه إلى التناقضِ بين سلوكه ومبادئِه، بل إلى الاضطرابِ في معاييره وانتقائيّته في تصرّفاته وأحكامه. وإنّ من الجليِّ الواضح أنَّ الغلوَّ والتعصّب يفضَح ثغراتِ المتعصّبين والغلاة.
إنّ الإشكاليّةَ في أجواء التعصّب هي في سرَيان روحِ قابيل العدوانيّة؛ لم يُتقبَّل منه قال: لأقتلنَّك، فالغالي المتعصِّب لمّا لم يكن له القبولُ ولا الرّضا امتشَقَ سيفّ القوّة، فالقوّة والقهرُ والتسلُّط هي المتحكِّمة عند المتعصِّب في جميع أنشطةِ الحياة وميادينها الثقافيّ والتربويّ والاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ.
أيّها الإخوةُ المسلمون، معاشرَ الحجّاج، وفي حديثِ المحاسبَة والإصلاحِ والعلاج على جميعِ أفراد الأمّة ولا سيّما أهل العلم والصّلاح والرأيِ والمسؤوليةِ أن يفقَهوا دروسَ الماضي وعِبرَ العصر. إنّ منَ الحكمة والدّروس المستفادةِ تجاوزَ سلبيّات الماضي والبعدَ عن مجالات الجدَل الكلاميّ والتظيراتِ المحلِّقة التي لا تعالج الواقعَ ولا تمسّ المشكلات.
معاشرَ المسلمين، مرجعيّة أهلِ الإسلام كتابُ الله وسنّة رسوله محمّد ، وهذه المرجعيّة لا تتمثّل في النصوص فحسب، بل في كيفيّة إعمالِ هذه النصوصِ وشَرحها والاجتهادِ في دلالاتها والاستنباطِ منها، وهذه هي وظيفةُ المختصّين من أهل العلم بشرع الله.
إنَّ الواجبَ على كلّ مسلمٍ التزامُ شرع الله وتحقيقُ العبوديّة له سبحانه كما قال عزّ شأنه: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. كما يجب على كلِّ مسلم التسليمُ لحكمِ الله وحكمِ رسوله محمّد كما قال جلّ وعلا: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:65]، وقوله سبحانه: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، وقوله عزّ شأنه: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].
إنّ نهجَ الإصلاح يقتضي تثبيتَ المرجعيّة العلمية واحترامَها وحفظَ حقِّها، فهذا سبيلُ الفلاح، وهو سبيل سلامةِ المنهج والاستقرار الفكريّ. بأهل العلم تبرأ الذمّةُ وتُنصح الأمّة ويقطَع الطريق على من يريدُ تجاوزَ أمور الشرع سواءً في جانب الإفراط أو جانب التفريط. بالمرجعيّة العلميّة وحفظِ حقِّها ومقامِها تتَّضح الأحكام وتستقرّ الأوضاعُ وتطمئنّ النفوس ويُعرَف الشرعُ وتحفَظ الحقوق للأمّة والأفراد ولولاة أمورِ المسلمين.
إنَّ من نهج الإصلاح وصوابِ الطريق احترامَ أهل العلم ومعرفةَ مكانتهم والحفاظَ على منزلتِهم والرجوعَ إليهم في مسائلِ الدين صغيرها وكبيرِها، والحذر كلَّ الحذَر من إقصاءِ المرجعيّة الدينيّة الشرعيّة والاستهانة بالتخصُّص العلميّ الشرعيّ.
ومَع الأسف فإنّ هذا الإقصاءَ وقعَ فيه الفريقان: فريقُ الغلاةِ وفريق الجفاة، أمّا الغلاةُ مِن التكفيريّين والتفجيريّين فلم يقدِموا على أفعالهم الآثمةِ إلاّ بعد أن قضَوا خطواتٍ نحوَ إقصاء العلماء وتجهيلِهم واتِّهامهم بأنواعِ التهَم الباطلة، وكذلك فعَل الجفاة، فوقَعوا في استنقاصِ العلماء من بابٍ آخر واتِّهامهم بعدَم معرفة الأحوال والمتغيِّرات والمستجدّات.
يجب إدراكُ الخطورةِ حين تتوافَق أفكارُ الغلاةِ مع أفكارِ الجفاة على نَسف المرجعيّة العلميّة وإقصائها والتشكيك في أهليّتها وكفاءتها.
أمّةَ الإسلام، والأمّة تراجع نفسَها وتنظر في طرقِ الإصلاح وأساليبِ العلاج وتحذر مكرَ الأعداء يجب أن تنظرَ في داخلها، فكلا الفئتَين الغلاة والجفاة أعداءٌ للإصلاح.
إنّ مسيرةَ الإصلاح يمكن إيقافُها بإحدى طريقتين: إمّا بوضع عقبةٍ أمامها، وهذا ما يفعله الغلاة المتنطِّعون أهلُ الإفراط، وقد خاطبَ كتاب الله عزّ وجلّ هذا الصّنفَ بقوله سبحانه: قُلْ يَـ?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ ?لْحَقّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء ?لسَّبِيلِ [المائدة:77]، وإمّا بصرفِ المسيرةِ عن مسارِها الصّحيح، وهذا ما يفعله الجفاة وأهلُ التفريط، وقد خاطبهم القرآن الكريم بقوله سبحانه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12]، المفرِّطون الجفاةُ يستغلّون شطَط الغلاةِ لمحاربة هويّة الأمّة والتشكيك في قطعيّاتها وثوابتها باسم محاربة الغلوّ.
إنّ مؤدَّى كلٍّ من الغلوّ والجفاء هدمُ الأمة وإهلاكها والتّمكين لأعدائها وتحقيقُ التنازُع ونشرُ الخلاف وتحقّق الفشَل وذهاب الريح.
إنّ على الأمّة أن تقاومَ التفريطَ كما تقاوم الإفراطَ، وأن يُردَع الجفاةُ كما يُردَع الغلاة، فالمتشدّدون يؤدّون بالمجتمع إلى الجمود، والمفرّطون يحوّلون المجتمعَ إلى مسخٍ منزوعِ الهويّة.
وبعد: أيّها المسلمون، فإنّ المصلحين مطمئنّون بحمد الله إلى أنّ السوادَ الأعظمَ من الأمّة هم أهلُ الوسط الذين لا تنطلي عليهم تحريفاتُ الغالين ولا تخرّصات المبطلين.
وفّق الله الجميعَ لما يحبّه ويرضاه، وهدى للتي هي أقوم، وأصلح النفوسَ والأحوال، إنه سميع مجيب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ?لْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ?لْفَسَادِ فِى ?لأرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَ?تَّبَعَ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ?لْقُرَى? بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:116، 117].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أي: الكسير.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي جعَل في دينِ الإسلام صلاحَ الخليقة في دنياها، وبه حسنُ العاقبة في أخراها، أحمده سبحانه أرشدَ النفوسَ إلى هُداها، فألهمها فجورَها وتقواها، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـ?هَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـ?هَا [الشمس:9، 10]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رضينا به ربًّا وإلهًا، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله أرفعُ الخلقِ قدرًا وأعظمهم جاهًا، صلّى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه سلامًا كثيرًا لا يتناهى، والتّابعين ومن تبِعهم بإحسان ما أضاءت شمس بضحاها.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، إنّ حديثَ الإصلاح والعلاج يجبُ أن يكونَ صحيحًا صريحًا حازمًا، ولكن يكون هادئًا متأنّيًا عاقلاً غيرَ متعجّلٍ ولا متسرِّع، يستبطنُ النيّة الحسنةَ والتفاؤلَ والتفاعُل والتسامُح والعملَ بروح الجماعَة والابتعادَ عن النزعات الفرديّة والعصبيّة الضيّقة، مع تقديرِ المحقّ المحسِن وتأييدِه وتنبيهِ المخطِئ وتقويمه.
على المصلِحين والمفكّرين وأهلِ الرأي التزامُ العدلِ والإنصاف والرحمةِ والتسامُح والرقيّ في الأتباع عن أجواءِ التشنُّج والتسفيهِ والتجهيل، مع حفظِ الحقّ في الاختلافِ والسائغِ والتعبير عن الرأيِ ووجهةِ النظَر بأدبٍ وعِفّة وسلامةِ قلبٍ ولسان وحُسن طويّة.
وحينما يكون الإصلاحُ والمراجعة فإنّ نهجَ التسامُح وضمان حريّة الرأي في حدود ضوابطِ الشرع لا يتنافى ولا يتعارَض مع إبداءِ النّصح والتنبيهِ على الأخطاءِ والمنافسة في الرأي. فعلى أهلِ العلم إرشادُ الضالّ وبيان الحقّ وتصحيحُ الأخطاء من غير إساءةِ ظنّ بالمخطئ، وإذا أحجَم القادرون الأكفَاء نزلَ بالسّاحة من لا يحسِن الورودَ والصّدور.
يجب التبيُّن والتحقّق والتحرّي والمصداقيّة والتفريق بين الحقائقِ والشائعات، فإلقاءُ الكلام على كواهِنه في القضايا الكبرى والمسائلِ المصيريّة باسم الإصلاح وحريّة الرأي من غير علمٍ ولا أهليّة يعيق الإصلاح، بل إنّه يفسِد ولا يصلِح.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الأنفال:1].
ثمّ صلّوا وسلِّموا على نبيّكم محمّد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربّكم، فقال عزّ قائلاً عليمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين...
(1/2892)
الاستقامة
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
22/12/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سعادة العبد. 2- ثواب المعتصمين بالله تعالى. 3- فضل الاستقامة وحقيقتها. 4- أساس الاستقامة. 5- بشارة المستقيمين. 6- أحوال العبد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ أيّها المسلمون ـ حقَّ التقوى، فتقوى الله عُدّةٌ للشدائد في الآخرة والأولى، وموجبةٌ لرِضا الجليل الأعلى، ييسِّر الله بها الأسبابَ، ويدفع بها العذاب.
عبادَ الله، إنّ سعادةَ الإنسان أن يحافظَ على فطرتِه التي فطره الله عليها، فلا يدَعُها تنحرِف عن الصراط المستقيم، ولا يتركها تفسُد بالشهواتِ ولا بالشّبهات، ولا يمكِّن من نفسِه الشياطينَ من الإنسِ والجنّ يصدُّونه عن سبيل الله ويوردونه مواردَ الهلاك والخزيِ والموبقات، بل يحتَمي بعزِّ الله وقدرتِه، ويتوكَّل على خالقه، ويعتصِم بدينه القويم، قال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ ?للَّهِ ?لَّتِى فَطَرَ ?لنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ?للَّهِ ذَلِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الروم:30]، وقال تعالى: وَمَن يَعْتَصِم بِ?للَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى? صِر?طٍ مّسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].
أيّها المسلمون، أتدرُون ماذا أعدَّ الله للمعتصمِين بالله المستقيمين على دينِه من الأجر، وماذا آتاهم من الذخر؟ إنّ الله تعالى يبيِّن ذلك في قوله: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ خَـ?لِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأحقاف:13، 14].
فالاستقامةُ هي الاعتصامُ بكتاب الله تعالى وسنَّة رسولِ الله. والاستقامة سعادةُ الإنسان وفلاحُه ونجاحُه وفوزُه ونجاته وعدّته لشدَّته، وما أشدَّ حاجتَنا نحن المسلمين إلى الاستقامة، وما أعظمَ افتقارَنا إليها خاصَّةً في هذا العصر الذي اشتدّت فيه المحنُ وكثُرت فيه الفِتن، ليصلح الله أعمالَنا ويقيمَ على الطاعة أحوالنا، وليحسنَ في الأمور كلِّها عاقبتَنا ومآلنا.
والاستقامةُ أعظمُ ما منّ الله [به] على العباد، وهي وحدَها الزادُ ليوم المعاد.
أمرَ الله بالاستقامة في غير ما آية من كتابه، فقال تعالى: فَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112]، وقال تعالى: وَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ ءامَنتُ بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ مِن كِتَـ?بٍ وَأُمِرْتُ لأَِعْدِلَ بَيْنَكُمُ ?للَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَـ?لُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـ?لُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ?للَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ ?لْمَصِيرُ [الشورى:15].
وتفسيرُ الاستقامةِ هي الثباتُ على دين الله ولزومُ الصراط المستقيم، فلا ينحرِف العبدُ مع الأهواء والشهواتِ والبدَع المُضلّة. الاستقامة هي تعظيمُ أوامِر الله تعالى بالمسارعةِ إلى امتثالها. والاستقامةُ هي تعظيم نواهي الله بالبُعد عنها واجتنابها، قال تعالى: ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَـ?تِ ?للَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ [الحج:30].
الاستقامةُ هي المحافظةُ على الطاعات، فلا يأتي بعملٍ يبطلها ولا ينقصُها. الاستقامة هي أن يُحدِث لكلّ ذنب توبةً نصوحًا. الاستقامة هي عبادةُ الله بما شرَع الله تعالى وبما شرع رسولُ الله وبُغضُ البدَع والبعدُ عنها والتحذير منها. الاستقامة هي عملُ الطاعات مع الإخلاصِ لله عزّ وجلّ والخوف أن لا تُقبَل. الاستقامةُ هي التمسُّكُ بسنة المصطفى وتعظيمُها ونشرها وكراهةُ ما يضادُّها.
والاستقامةُ بَدؤها ومنتهاها تحقيقُ التوحيد لربّ العالمين. روى ابن جرير في تفسيره عن سعيد بن عمران قال: قرأتُ عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه هذه الآية: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ [فصلت:30]، قال: (هم الذين لم يشركوا بالله شيئًا) [1]. ثمّ روى من حديث الأسود بن هلال قال: قال أبو بكر رضي الله عنه في هذه الآية قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ : (فلم يلتفتوا إلى إلهٍ غيره) [2] ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ : (على شهادة أن لا إله إلا الله) [3] ، وقال أبو العالية: " ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ أخلصوا له الدينَ والعمل" [4].
وما أعظمَ وأجلَّ تفسيرَ السلفِ للاستقامة بتحقيق التوحيدِ لله تعالى، بإفرادِ الله عزّ وجلّ وتخصيصه بالدعاء والاستغاثة والاستعانة والاستعاذة، والتوكُّلِ والرغبةِ والرهبة والرجاءِ والذَّبح والنذرِ والسجودِ والركوع، وغير ذلك من أنواع العبادة التي لا تكون إلاّ لربّ العالمين.
والاستقامةُ نهاية الغاياتِ وأعظمُ الوصايا وأجلُّ العطايا، عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلامِ قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: ((قل: آمنت بالله ثم استقم)) رواه مسلم [5]. وكان الحسن البصري رحمه الله يقول: "اللهمّ أنت ربّنا، فارزقنا الاستقامة" [6].
وقد جعل الله ثوابَ الاستقامة أعظمَ الثواب، وأمّن صاحبَها من العذاب، فقال عزّ وجلّ: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصلت:30-32]. الله أكبر، ما أجلَّ هذا التكريم، وما أوسعَ هذا النعيم.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: " تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ ، قال مجاهد: عند الموت، أَلاَّ تَخَافُواْ أي: ممّا تُقدمون عليه من أمر الآخرة، وَلاَ تَحْزَنُواْ على ما خلَّفتموه من أمر الدنيا من ولدٍ وأهل ومال أو دَين، فإنّا نخلفُكم فيه، وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ ، فيبشِّرونهم بذهاب الشرّ وحصول الخير، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ أي: تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار: نحن كنَّا أولياءَكم أي: قرناءَكم في الحياة الدنيا، نسدِّدُكم ونوَفِّقكم ونحفَظكم بأمر الله، وكذلك نكون معكم في الآخرة؛ نؤنِس منكم الوحشةَ في القبور وعند النفخةِ في الصور، ونؤمِّنكم يومَ البعثِ والنشور، ونجاوِزُ بكم الصراطَ المستقيم، ونوصلكم إلى جنَّات النعيم، وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ أي: في الجنة من جميع ما تختارون ممَّا تشتهيه النفوس وتقرّ به العيون، وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ أي: مهما طلبتُم وجدتم وحضَر بين أيديكم كما اخترتُم، نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ أي: ضيافةً وعطاءً وإنعامًا من غفور لذنوبكم رحيم بكم" [7].
قال الله تعالى: وَقُلِ ?عْمَلُواْ فَسَيَرَى ?للَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى? عَـ?لِمِ ?لْغَيْبِ وَ?لشَّهَـ?دَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] جامع البيان (24/114). وعزاه في الدر المنثور (7/321-322) أيضا لعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور ومسدد وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[2] جامع البيان (24/115)، وأخرجه أبو نعيم في الحلية (1/30)، وصححه الحاكم (3648). وعزاه في الدر المنثور (7/322) أيضا لابن راهويه وعبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن مردويه.
[3] رواه البيهقي في الأسماء والصفات (ص134).
[4] انظر: تفسير ابن كثير (4/100).
[5] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (55).
[6] أخرجه ابن جرير في تفسيره (24/115).
[7] تفسير القرآن العظيم (4/100).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على فضلِه وإحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى جنّته ورضوانه، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أمّا بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
أيّها المسلمون، إنّ أحسنَ أحوالِ العبد أن يُتبعَ الحسنةَ حسنةً بعدها مع البُعد عن السيئات، قال الله تعالى: فَمَا أُوتِيتُمْ مّن شَىْء فَمَتَـ?عُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَمَا عِندَ ?للَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى? لِلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَ?لَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـ?ئِرَ ?لإِثْمِ وَ?لْفَو?حِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ وَ?لَّذِينَ ?سْتَجَابُواْ لِرَبّهِمْ وَأَقَامُواْ ?لصَّلو?ةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى? بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ وَ?لَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ ?لْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ [الشورى:36-39].
وهذه الحال منزلةُ المقرَّبين السابقين للخيرات التاركين للمحرَّمات، ثمّ دون هذه المنزلةِ أن يتبعَ العبدُ السيئةَ الحسنةَ كما أمر الله بذلك، قال الله تعالى: وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ طَرَفَىِ ?لنَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ ?لَّيْلِ إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذكِرِينَ [هود:114]، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((اتّق الله حيثما كنتَ، وأتبِع السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالقِ الناسَ بخلقٍ حسن)) [1]. فإذا وَفّق اللهُ العبدَ لفريضةٍ وعملِ طاعة فيتبع الحسنة حسنةً، ويتبع السيئةَ حسنة.
وأسوأُ أحوال العبدِ أن يُتبع السيئةَ سيئةً بعدها ولا يحاسبُ نفسَه ولا يخاف ربَّه ولا يفكّر في توبَة، فمن رضي لنفسِه بأسوأ الحالات وشرِّ الصفات ونزولِ الدركات خسِر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
فكن ـ يا عبدَ الله ـ ممّن سلك سبيلَ النجاةِ وعمل لأخراه، وأصلَح دنياه بطاعةِ مولاه، وتذكّر الموتَ وكرباتِه وما يكون بعدَه من الأهوال، وأعِدَّ لذلك اليوم أفضلَ ما تقدِر عليه من الأعمال، وإنّ أجلَ الله لآت، وما أنتم بمعجزين.
عبادَ الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيِّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد...
[1] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة (1987)، والدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان عن وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به، وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395)، ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين" ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2655، 3160).
(1/2893)
وهذا البلد الأمين - الأضحية
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الحج والعمرة, الذبائح والأطعمة, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
1/12/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل مكة. 2- خصائص مكة. 3- تعظيم البيت وحرمته. 4- فضل العشر من ذي الحجة. 5- فضل الأضحية وبعض أحكامها. 6- نصائح لأصحاب حملات الحج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جل جلاله في كتابه العزيز: وَإِذْ جَعَلْنَا ?لْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَ?تَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْر?هِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى? إِبْر?هِيمَ وَإِسْمَـ?عِيلَ أَن طَهّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَ?لْعَـ?كِفِينَ وَ?لرُّكَّعِ ?لسُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْر?هِيمُ رَبِّ ?جْعَلْ هَـ?ذَا بَلَدًا آمِنًا وَ?رْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ?لثَّمَر?تِ مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى? عَذَابِ ?لنَّارِ وَبِئْسَ ?لْمَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْر?هِيمُ ?لْقَوَاعِدَ مِنَ ?لْبَيْتِ وَإِسْمَـ?عِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ رَبَّنَا وَ?جْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ ?لتَّوَّابُ ?لرَّحِيمُ رَبَّنَا وَ?بْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَـ?تِكَ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ?لعَزِيزُ ?لحَكِيمُ [البقرة:125-129].
معشرَ المسلمين، بيتُ الله الحرام أفضلُ بُقعةٍ على وجه الأرض، اختارها الله من بين سائر البقاع، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [القصص:68]. اختاره الله حرمًا لنبيّه وموضعًا لأداء نُسُكِه، وأوجب على المسلمين على كلّ مسلم قادر زيارةَ هذا البلد الأمين في عُمره مرّة، زيارتَه والطواف به، وألزم المسلمين احترامَه، فلا يدخلونه إلا خاضعين متذلِّلين متجرّدين من لباس الدنيا تعظيمًا لهذا البيت، فجعل أداءَ النسُك ركنًا من أركان الإسلام، فمن أتاه حاجًّا أو معتمرًا فلا يدخله إلا محرمًا من المواقيت التي حدّدها الشارع لذلك.
أيها المسلم، جعل الله هذا البيتَ مثابةً للناس، مثابةً لهم بمعنى: يثوبون إليه ويقصدونه ولا يقضون منه وطَرًا، كلما أتوه [تأكّد] تعلُّق قلوبهم به وازدادت محبتهم له، وجعله الله آمنًا، مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْنًا ، جعله الله حرمًا آمنًا، وأوجب على كلّ مسلم احترامَ أمن هذا البلد، أوجب على كلّ مسلم أن يحترم أمن هذا البلد وأن يعرفَ لهذا البلد مكانه وفضله، فهو حرم الله، مهوى أفئدةِ المسلمين، فلا بدّ أن يكون حرمًا آمنًا، فأوجب الله احترام أمنه، وجعل ذلك دينًا يَدين العبد بذلك لربه، أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءامِنًا وَيُتَخَطَّفُ ?لنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]، أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا يُجْبَى? إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء [القصص:57]. والخليل عليه السلام عندما فرغ من بناء البيت سأل الله لهم هذه النعمة فقال: رَبِّ ?جْعَلْ هَـ?ذَا بَلَدًا آمِنًا وَ?رْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ?لثَّمَر?تِ [البقرة:126]، فسأل الله لهم الأمنَ قبل أن يسأله لهم الرزقَ، ولهذا جاء أمنُه عامّا للإنسان والحيوان وحتى الطير، يقول صبيحة اليوم الثاني من أيام الفتح خاطبًا في الناس مبيِّنًا لهم فضلَ هذا البلد الأمين: ((إن الله حرم هذا البلد يومَ خلق السموات والأرض، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحلَّ القتالُ فيه لأحد قبلي، ولم يحلّ لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضَد شوكه، ولا ينفَّر صيده، ولا تُلتَقط لُقطته، ولا يُختلى خلاه)) [1] ، وفي لفظ قال: ((وإن أحدٌ ترخّص بقتال رسول الله فقولوا: إن الله أحلَّها لنبيه ساعةً من نهار، ثم عادت حرمتُها كما كانت)) [2].
هكذا الإسلام يُعظِّم أمنَ هذا البيت، ويوجب على المسلم احترام أمنه، ويخبرنا ربنا تعالى أن من همّ في هذا البيت بمعصية فإن الله يُعاجله بالعقوبة بمجرّد همّه وإن لم يفعل: وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ فمجرّدُ إرادة الإلحاد فيه بالظلم والعدوان فيه فإنّ الله يذيقه العذابَ الأليم، ذلك أنّه أخلّ بأمن هذا البلدِ الأمين. وقد جعل الله أمنَ هذا البلدِ وقصدَه بالحجّ والعمرةِ سببًا لقيام الناس وأمنِهم من العذاب العظيم: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ [المائدة:97]، فما دام هذا البيت يُزار حجًّا وعمرة فالخلق في أمان من العذاب العظيم؛ لأنّ وجودَ هذا البيت في أمن واستقرار سببٌ لأمن العالم كلِّه.
أيّها المسلمون، لقد خصّ الله هذا البيتَ بخصائص عظيمة، فأوّل خصيصة له أنّ الله جل وعلا افترض على كلّ مسلم قادر زيارته والطوافَ به، فليس على بقعة الأرض موضعٌ يُشرع أن يُطاف به إلا بيت الله الحرام، ولا موضعٌ يُشرع تقبيله أو استلامه وتُحَطُّ الخطايا والأوزار إلا الحجر الأسود والركن واليماني، فإن الحجر الأسود يُشرَع تقبيله مع الإمكان أو استلامه، والركن اليماني يُشرع استلامُه، وما سوى ذلك فلا يجوز، إذ الطواف بقبورِ الأولياء والأنبياء ونحوهم شركٌ أكبر وذنب لا يُغفَر، لأنه طواف وعبادةٌ لغير الله، أما طواف المسلمين ببيت الله فهي عبادة لله، فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـ?ذَا ?لْبَيْتِ ?لَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش:3، 4].
من خصائص هذا البلد الأمين أنه أول بيت وُضع في الأرض لعبادة الله، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لّلْعَـ?لَمِينَ فِيهِ ءايَـ?تٌ بَيّنَـ?تٌ مَّقَامُ إِبْر?هِيمَ [آل عمران:96، 97].
ومن خصائص هذا البلد الأمين أنه قبلةٌ للمسلمين في عموم الأرض، وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، فهو قِبلة المسلمين في أيّ بقعة من بقاع الأرض.
ومن خصائصه أنّه خير أرض الله وأحبُّ أرض الله إلى الله، لما أراد النبيّ الهجرةَ من مكّة إلى المدينة وقف قليلاً عند الحزوَّرة وقال: ((والله، إنّك لخير أرض الله، وإنّك أحبّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منك ما خرجت)) [3] ، وفي لفظ قال: ((ما أطيبَك وما أحبَّك إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منكِ ما سكنتُ بلدًا غيرك)) [4] صلوات الله وسلامه عليه.
ومن خصائص هذا البلد الأمين أن الصلاة فيه مضاعفةٌ بمائة ألف صلاة فيما سواه، يقول : ((صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاةٌ في المسجد الحرام خير من صلاة في مسجدي بمائة مرة)) [5].
أيها المسلمون، ومن خصائصه أنّ الله افترض زيارته على المسلم في عمره مرّة إن كان قادرًا، وما سواه فإنّ زيارته مستحبّة أو مباحة، أمّا البلد الأمين فمُختصّ بوجوب الزيارة في العمُر مرّة؛ لأن ذلك أحد أركان الإسلام.
أيها المسلمون، ومن خصائص هذا البلد الأمين أنّ العمرةَ أو الحجّ سبب لحطّ الخطايا ومحو السيئات ومضاعفة الأجور، يقول : ((العمرة إلى العمرة مكفِّرات لما بينهنّ، والحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) [6] ، وقال أيضًا: ((تابعوا بين الحجّ والعمرة، فإنما ينفيان الفقر والذنوبَ كما ينفي الكير خبثَ الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور جزاء سوى الجنة)) [7].
أيّها المسلم، إنّ هذه الخصائص لبيت الله الحرام خصائص شرعية، فهو بلد الله، أقسم الله به في كتابه العزيز: لاَ أُقْسِمُ بِهَـ?ذَا ?لْبَلَدِ [البلد:1]، وَهَـ?ذَا ?لْبَلَدِ ?لأَمِينِ [التين:3]. هي أم القرى فلها على كلّ القرى تميُّز، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءانًا عَرَبِيًّا لّتُنذِرَ أُمَّ ?لْقُرَى? وَمَنْ حَوْلَهَا [الشورى:7].
أيّها المسلم، فاعرف لهذا البلد أمنَه، واعرف له فضله، واحترم أمنَه، وإياك والإلحادَ فيه، اقصده حاجًّا أو معتمرًا ابتغاء وجه الله، وتقرّب إلى الله فيه بصالح العمل، واعرف أن مكانه مكانٌ عظيم ذو فضل وشرف، فإياك والإخلالَ بذلك بمعاصي الله القوليّة أو الفعليّة، وأعظمها الشرك بالله ودعاء غيْر الله وقصد غير الله وتعلّق القلب بغير الله، فكلّ ذلك مما ينافي إسلامَك. إن هذا البيت أقيم على توحيد الله، وأُسِّس على عقيدة التوحيد الخالصة لله جل وعلا. إنّ الله تعالى اختار هذا البلدَ الأمين ليكون منطلقًا لرسالة خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه، فهو وُلد بمكة، وبُعث بها، وأقام بها حتى أذن الله له بالهجرة إلى المدينة، ومع هجرته إلى المدينة بقي لهذا البيت مكانتُه، وبقي له فضله، فعلى المسلم أن يحترمَ ذلك ويعلم أن أيّ سيئة في الحرم فهي مضاعفة في قدرها، فحسنة بالحرم لها فضلها، وسيئة بالحرم لها عقوبتُها تناسب حالها.
فعَلى المسلم تقوى الله، وعليه أن يتقي الله ويعلمَ لهذا البلد أمنَه وحرمتَه، ويقف عند حدّه، ولا يسمح لنفسه بسوء في ذلك البلد الأمين، فإن هذا لا يصدر إلا عمّن في قلبه مرض ونفاق، أما المؤمن الذي يخاف الله ويرجوه فيعرف لهذا البلد أمنَه واحترامه، ويعلم أنه من أشرف البقاع وأفضلها، لا يليق فيه الظلم والعدوان، ولا انتهاك حرمته ولا الإخلال بأمنه ولا ترويع حاجّه ومعتمره، بل يعلم أنّ هذا من الكبائر، من العظائم الدالّةِ على أنّ في قلبه مرضًا، وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، فكيف تعرِّض نفسَك لعذاب الله وأنت تدري وتعلم فضلَ هذا المكان؟! أسأل الله أن يوفّق الجميع لما يحبّه ويرضاه.
وإنّ من نِعم الله على المسلمين في هذه الأزمنة المتأخرة أن هيّأ لهذا البلد من يقوم بخدمته، ويحمي أمنَه، ويرعى شؤونه بأمرٍ ما سبق للعالم بعد العهود الأولى وبعد الخلفاء الراشدين، من هذه النعمة العظيمة، فالحرم ولله الحمد آمن مطمئنّ، رغدًا سخاءً، توفّرت فيه النعم والخيرات والأمنُ والاستقرار والقيام بالواجب، فوفّقَ الله القائمين عليه لكلّ خير، وأعانهم على كلّ خير، وأدام على هذا البلد أمنه واستقراره وطمأنينته.
فالمسلم هكذا يحترم أمنَ هذا البيت، منطلقا من إيمانه بالله وإيمانه برسول الله وقبوله لشرع الله، فالأمن لهذا البلد الأمين واحترامه وتقديره أمر مطلوبٌ من المسلم، ولهذا روى مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي قال: ((لا يحلّ حمل السلاح بالحرم)) [8] ، فنهى النبيّ عن حمل الأسلحة في الحرم لأنّ حملها ربّما يُسبِّب شرًّا، فنهى عن ذلك لتبقى واحةَ أمان واطمئنان واستقرار كما أراده الله. فعظّموا ما عظّم الله لعلّكم تفلحون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الحج (1834)، ومسلم في الحج (1353) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[2] أخرجه البخاري في الحج (1832)، ومسلم في الحج (1354) عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (4/305)، والترمذي في المناقب (3925)، وابن ماجه في المناسك (3108) عن عبد الله بن عدي رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب صحيح"، وصححه ابن خزيمة كما في الفتح (3/68)، وابن حبان (3708)، والحاكم (4270)، وابن حجر (3/67)، وهو في صحيح سنن الترمذي (3082).
[4] أخرجه الترمذي في المناقب (3926)، والطبراني في الكبير (10/267، 270)، والبيهقي في الشعب (3/443، 444) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (3709)، والحاكم (1787)، وهو في صحيح سنن الترمذي (3083).
[5] أخرجه أحمد (4/5)، وعبد بن حميد (521)، والبزار (425 ـ الزوائد ـ)، والبيهقي في الكبرى (5/246) عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، واختلف في رفعه ووقفه، وصححه ابن حبان (1620)، وقال ابن عبد البر في التمهيد (6/26): "هو حديث ثابت لا مطعن فيه لأحد"، وقال (6/23): "من رفعه أحفظ وأثبت من جهة النقل، وهو أيضا صحيح في النظر لأن مثله لا يدرك بالرأي، ولا بد فيه من التوقيف، فلهذا قلنا: إن من رفعه أولى"، وحسنه النووي في شرح صحيح مسلم (9/164)، وصححه القرطبي في تفسيره (9/372، 19/21)، والمنذري في الترغيب (2/139)، وقال الهيثمي في المجمع (4/4-5): "رواه أحمد والبزار والطبراني، ورجال أحمد والبزار رجال الصحيح". وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد وجابر وجبير بن مطعم وعائشة وميمونة رضي الله عنهم.
[6] أخرجه البخاري في العمرة (1773)، ومسلم في الحج (1349) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه أحمد (1/387)، والترمذي في كتاب الحج، باب: ما جاء في ثواب الحج والعمرة (810)، والنسائي في كتاب الحج، باب: فضل المتابعة بين الحج والعمرة (2631) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حسن صحيح غريب"، وصححه ابن خزيمة (2512)، وابن حبان (3693)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (1200). وفي الباب عن ابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد الله وعمر بن الخطاب وعامر بن ربيعة رضي الله عنهم.
[8] صحيح مسلم: كتاب الحج (1356) نحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عباد الله، إنّكم في هذه الأيامِ في أيام عشر ذي الحجّة، تلك الأيامُ المباركة، وتلك الأيام المفضّلة، وتلك الأيام التي فيها الخير الكثيرُ والعطاء الجزيل من ربّ العالمين، فعظّموا هذه الأيامَ رحمكم الله، عظموها كما عظَّمها ربكم، وكما عظَّمها نبيّكم ، فالله يقول: وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأَنْعَامِ [الحج:28]، والأيام المعلومات هي أيام عشر ذي الحجة.
هذه العشر تشتمل على يومين: يوم عرفة وهو ركن أساسيّ من أركان الحج، وتشتمل على يوم النحر وهو يوم عظيم من أيام الله.
يقول نبيّكم : ((ما من أيّام العمل الصالح أحبّ إلى الله فيهنّ من هذه الأيام)) ، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) [1].
فأكثروا ـ رحمكم الله ـ فيها من ذكر الله، من تسبيحه وتكبيره وتحميده والثناءِ عليه، وتقرّبوا إلى الله بما يرضيه من صالح العمل، فصيامها سنّة، والإكثارُ من طاعة الله في هذه الأيام من تلاوة القرآن من نوافل العبادة من بذل المعروف من تفريج كرب المكروبين والتيسير على المعسرين وإعانة المحتاجين والملهوفين، فإن ذلك عمل صالح لمن وفّقه الله.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ من سنة نبيّكم أن المسلم إذا أراد أن يذبَح أضحيةً عن نفسه أو تبرّع بأن يذبحها عن مسلم من أقاربه أو غيره أن السنةَ له أن لا يأخذ من أظافره ولا من شعره شيئًا حتى يضحّي، تقول أم سلمة: إنّ النبيَّ قال: ((إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحّي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره)) [2]. قال بعض العلماء: "إنّ الأضحية فيها تكفيرٌ للذنوب، فلعلّ التكفير يعمّ جميع أجزاء البدن"، ومهما كان فالمهمّ أن نبيَّكم نهاكم عن ذلك، وهو خاصّ بمن يذبح الأضحيةَ عن نفسه، أو يذبحها تبرّعًا عن غيره، أما من يذبحها وكيلاً فلا يتعلّق به الحكم، وأما المضحَّى عنهم فلا يتعلّق بهم الحكم، إنما يتعلّق بالمضحِّي نفسه الذي ذبح أضحية أو تبرّع بها عن غيره.
وكما هو مستقرّ لدى المسلمين أن الأضحية عبادةٌ لله وشعيرة من شعائر الإسلام، دلّ على فضلها كتابُ الله وسنة نبيّه ، يقول الله جل وعلا: وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأنْعَـ?مِ [الحج:34]، ونبيّنا حافظ على الأضحية مدّة بقائه في المدينة كما أخبر بذلك عبد الله بن عمر [3] ، وهو كان يُعلن هذه السنةَ ويعلي شأنَها، فأخبرنا أنس رضي الله عنه أنه إذا صَلّى أُتي بكبشين أقرنين، فوضع رجله على صِفاحهما يسميّ ويكبّر ويذبحهما بنفسه [4] ، إعلانًا لهذا الشعيرة ورفعًا من منزلتها.
أيّها المسلم، سنة محمّد في الأضاحي سنةٌ فيها الاعتدال والوسطية، يقول أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: كان الرجل منا في عهد النبي يضحّي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون، ثم تباهى الناس فصاروا كما ترى [5]. فسنة محمد أن تُعلَن هذه الشعيرة، فيضحّي الرجل عن نفسه وأهل بيته بشاة واحدة تكون مجزئة، ولا حاجة إلى تعدّدها عن فلان وفلان، أمّا وصايا الأموات السابقة فهذه تنفّذ لأن الأصلَ فيها الجواز، لكن الابتداء السنةُ صاحبُ البيت وراعي البيت يذبح أضحيةً واحدة، يقول: اللهم تقبّلها منّي ومن آبائي وأمهاتي وأولادي وبناتي ومَن في بيتي، فتكفيهم شاةٌ واحدة عن الجميع، ليس الهدف كثرة لحمها، ولكن الهدف التقرّب إلى الله، لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ [الحج:37].
ولا تؤَدَّى السنّة بالتصدّق بقيمتها؛ لأن إراقة دمها أمرٌ مقصود للشارع، فإخراج قيمتها لا أصلَ له.
وهناك أمر مهمٌّ آخر هو أن بعض المسلمين في قلبه عاطفة خير وحبّ للخير ولمنفعة المسلمين، فربّما أرسل بأضاحيه وبقيمتها إلى غير بلده لتُراق هناك، يقول: هم أحقِّ منا وأحوج، نعم، عاطفةٌ طيّبة، لكن ـ يا أخي ـ هذه عبادة خاصّة، ينبغي أن تشرِف عليها وأن تتأكّد من ذبحها، وإذا أردتَ التبرّع بالخير فباب الخير مفتوح لك، لكن الأضحية شعيرة من شعائر الإسلام، يجب المحافظةُ عليها، وأن يشعُر الأجيال بها، وأن ينقلها خلفُنا عن سلفنا، حتى تُحيَى هذه السنة، وتُحيَى هذه العبادة، فنبيّكم حافظ عليها، يضحّي بكبشين: أحدهما عن محمد وآل محمد، والثاني عمّن لم يضحِّ من أمّة محمد، فصلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين. يحيي هذه السنة، ويذبحها في المصلَّى، رفعًا لشعيرتها وإشعارًا للناس بأهمّيّتها، فلا تغفلوا عنها رحمكم الله، والأمر يسير شاةٌ واحدة عن الرجل وأهل بيته كثروا أم قلّوا.
إخواني، كلَّ عام تعلن حملات الحجّ برامجَها وأحوالها وماذا ستقدّمه للحجاج معها، ولكن للأسف الشديد بعد انقضاء الموسم كلٌّ يذكر عن حملته ما فيها من نقصٍ وما فيها من قصور وما فيها من إخلال بما التزموه للحجيج، وليعلم هؤلاء أن هذه أمانة اؤتُمنوا عليها فليتقوا الله فيها، ولا يقولوا للناس شيئًا ويخالفوه، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِ?لْعُقُودِ [المائدة:1]، فالعقد واجبٌ الوفاء به، فمتى نشرتَ برنامجَك وحالتك وماذا ستقدّم للحجيج فالتزم بما قلتَ نصًّا، وأما أن تعطِيَ الناس كلامًا ثم تخالفه في الواقع من غير خجلٍ ولا حياء فلا يجوز لك، إمّا تخصم من هذه التكلفة قدرَ ما أخللتَ به وقدر ما تساهلتَ به، وإلا فالواجب الالتزام، وليحذر المسلمون الكذب والخيانةَ والخديعة، تخدع الناس وتنشر لهم شيئًا، فإذا انتهى الموسم كلٌّ يذكر عن هذه الحملة وما أخلّت به وما قصّرت فيه، ويعتذرون أحيانًا بأن يحمّلوا هذه لغيرهم ويقولوا كذا وكذا إلى آخره، والله يعلم أن كثيرًا منهم غير صادق فيما يقول، فليتقوا الله، وليحرصوا على إكمال نُسُكهم معهم، ولا يحملنّهم الطمع أن يخلّوا بمناسكهم أو يخِلّوا بما التزموا به من الشروط، فالمؤمنون صادقون فيما يقولون، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
فليحذر أربابُ الحملات ما كانوا عليه في كثير من الأعوام من الإخلال بما التزموا به والتقصير فيما قطعوه على أنفسهم، ليتقوا الله وليؤدّوا الواجب، وإذا قصّروا وأخلّوا فليدفعوا لمن معهم مقابلَ ما أخلّوا به، وأما أن يتساهلوا بذلك ويحمّلوا أخطاءهم غيرَهم وكأنهم خارجون من كلّ المسؤولية هذا أمر لا يليق بالمسلمين.
أسأل الله أن يوفّقني وإياكم لصالح القول والعمل، وأن يوفّقنا لما يحبّه ويرضاه، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتُها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في كتاب العيدين (969) عن ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
[2] أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي (1977).
[3] أخرج أحمد (2/38)، والترمذي في الأضاحي (1507) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أقام رسول الله بالمدينة عشر سنين يضحي، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وفي إسناده الحجاج بن أرطاة مدلس وقد عنعن، ولذا أورده الألباني في ضعيف سنن الترمذي (261).
[4] أخرجه البخاري في الأضاحي (5554، 5564، 5565)، ومسلم في الأضاحي (1966) بنحوه.
[5] أخرجه مالك (1050)، والترمذي في الأضاحي (1505)، وابن ماجه في الأضاحي (3147)، والطبراني في الكبير (4/137)، والبيهقي (9/268)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في الإرواء (1142).
(1/2894)
عدوان الاحتلال الإسرائيلي
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
22/12/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العبرة من الزلازل. 2- إحصائية عن قتلى وجرحى الانتفاضة. 3- صور من عدوان الاحتلال الإسرائيلي. 4- فرية البيان اليهودي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة القمر: إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَـ?هُ بِقَدَرٍ وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ و?حِدَةٌ كَلَمْحٍ بِ?لْبَصَرِ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَـ?عَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر:49-51]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، لقد شعر أهل فلسطين أولَ أمس بالزلزال الذي أصاب منطقة بلاد الشام، ومِن لطف الله العليّ القدير أن جاء الزلزال خفيفًا بالنسبة للزلازل التي أصابت إيران وتركيا، وسبق أن تعرضت لهذا الموضوع حين دمّر الزلزال مدينة بام الإيرانية قبل أربعين يومًا تقريبًا، وقلنا في حينه بأن الزلازل وغيرها من الظواهر الطبيعية هي بيد الله الواحد القهار خالق الكون والإنسان والحياة، والله الذي يسيرها وينظمها، فيقول في سورة يونس: هُوَ ?لَّذِى يُسَيّرُكُمْ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ [يونس:22]، ويقول في سورة الكهف: وَيَوْمَ نُسَيّرُ ?لْجِبَالَ وَتَرَى ?لأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَـ?هُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف:47]، ويقول في سورة الأنبياء: وَهُوَ ?لَّذِى خَلَقَ ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَـ?رَ وَ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء:33]، ويقول في سورة يس: لاَ ?لشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ ?لقَمَرَ وَلاَ ?لَّيْلُ سَابِقُ ?لنَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، وغيرها من الآيات الكريمة التي تؤكد قدرة الله عز وجل في تسيير الكون وتنظيمه.
أما العلوم التقنية والتكنولوجيا فمهمتها الكشف عن الظواهر الطبيعية في الكون من الزلازل والبراكين والمدّ والجزر والفيضانات والخسوف والكسوف، ولا يزال الإنسان يكتشف كل يوم أمور جديدة في هذا الكون الرحيب، ولكن يستحيل على العلم أن يوقف هذه الظواهر، كما يستحيل عليه أن يمنع وقوعها وحدوثها.
أيها المسلمون، عودة إلى الزلزال الذي أصاب منطقة بلاد الشام أولَ أمس لنقول: إن الله العلي القدير كان لطيفًا بعباده، فلم تقع خسائر تذكر، ولم يقتل أحد نتيجة هذا الزلزال، ويعتبر هذا الزلزال إنذارًا أول للمسلمين ولغير المسلمين للاتعاظ، فهل اتعظ الاحتلال من هذا الزلزال؟! هل ارتدع عن أعماله الإجرامية من القتل والتدمير؟! ماذا حصل في حي الشجاعية في غزة أول أمس؟! إن مجزرة حي الشجاعية أسفرت عن ستة عشر شهيدًا وخمسة وستين جريحًا، فالاحتلال هو الزلزال الذي ابتلينا به.
فمنذ اندلاع الانتفاضة المباركة في شهر أيلول سبتمبر من العام 2000م استشهد ما يزيد عن أربعة آلاف شخص من الرجال والنساء والأطفال والمواليد الجديدة، وأمس وضعت امرأة مولودها على حاجز ضاحية البريد، ولم تتمكن سيارة الإسعاف من الوصول إلى المستشفى بسبب الحواجز العسكرية التي أعاقت تحرك سيارة الإسعاف، وأما الجرحى فقد زاد عددهم على ستين ألف شخص، وقد أدى ذلك إلى تيتّم الأطفال وترمل الزوجات وثكل الأمهات وتشتيت العائلات.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن ما يقوم به جيش الاحتلال ضد أهلنا المرابطين هو حرب إبادة مبرمجة بدعم من أمريكا وتأييد دولي وصمت عربي، إن أحد المسئولين في سلطة الاحتلال ينفي أن تكون هذه الحرب حرب إبادة، إذًا ماذا تكون؟! إنها فعلاً وعلى أرض الواقع هي حرب إبادة، لقد طالت البشر والشجر والحجر، إن المجازر بحق شعب فلسطين المرابط هي مستمرة وبشكل يومي بحجة محاربة الإرهاب.
أما ما يقوم به الاحتلال فليس إرهابًا!! وإنما هو دفاع عن النفس كما يزعم ويدعي!! فنحن في عصر انقلبت فيه المفاهيم والمعايير والأحكام والموازين، والويل للضعيف.
ونؤكد بأن السبب المباشر لدائرة العنف على الساحة الفلسطينية هو وجود الاحتلال، ولن يؤدي البطش الاحتلالي إلى السلام المزعوم، وإن الهدف من القتل والاغتيال والتدمير والاجتياح هو فرض الاستسلام. إن شعبنا الفلسطيني المؤمن لن يرضخ ولن يستسلم ولن يقبل الدنية والمذلة والضيم والظلم، لأنه شعب أبيّ صاحب حق شرعي.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن السلطات المحتلة ماضية في إقامة الجدار الفاصل العنصري وبخاصة حول مدينة القدس، وهذا ما صرح به أحد المسئولين في هذه السلطة، لتصبح هذه المدينة سجنًا كبيرًا ومعزولة عن سائر المناطق المجاورة لها، وما يحصل اليوم يدل على ذلك، وهل الجدار الفاصل سيحل المشكلة؟! هل سيعطي الاحتلال شرعية لاحتلاله؟! هل ستنتفي الصفة الإسلامية عن مدينة القدس درة فلسطين والعالم الإسلامي؟!
إن مدينة القدس مصانة ومحفوظة في القرار الرباني وبوجهها الحضاري، وهي في قلوب مئات الملايين من المسلمين، هكذا علمتنا دروس التاريخ عبر الأجيال في أرض الإسراء والمعراج، فإن ترابها مجبول بدم الصحابة والعلماء والشهداء، وكل حجر فيها ينطق بتاريخ الحكام والولاة والقادة العظام.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إننا من على منبر المسجد الأقصى المبارك نحمل السلطات المحتلة مسؤولية ما يجري على الساحة الفلسطينية بعامة، وبحق مدينة القدس بخاصة، والله يمهل ولا يهمل، ولن تهدأ المنطقة إلا بإنهاء الاحتلال، وإذا اعتبر الشعب اليهودي بأن العنف ضد الشعب الفلسطيني هو الوسيلة الناجعة لأمنه واستقراره فإنه يكون واهمًا، وعليه أن يدرك هذا الشعب اليهودي بأن الحكومة الإسرائيلية التي انتخبها لن تجلب له إلا الفقر والرعب وعدم الاستقرار، وفي المقابل فإن المجازر بحق أهل فلسطين والحصارات المحيطة بهم لن تزيدهم إلا تصميمًا وإرادة من أجل الوصول لحقهم الشرعي السليم.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]. ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله ألعلي العظيم.
جاء في الحديث الشريف: ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)) ، صدق رسول الله.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلاة وسلام دائمين عليه إلى يوم الدين. اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المصلون، نقدم التهاني لإخوتنا الذين عادوا من الديار الحجازية، نقول لهم: حج مبرور، وسعي مشكور، وذنب مغفور، وتجارة لن تبور إن شاء الله، وندعوهم ـ كما ندعو أنفسنا ـ أن يحافظوا على هذه العبادة بالتزام أوامر الله واجتناب نواهيه، والحمد الله على سلامتكم.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، قبل أيام تم توزيع بيان على أجهزة الفاكس والبريد الإلكتروني والعادي صاغته جهة يهودية مجهولة لدينا، أي أن البيان دون توقيع، ولكن في آخر البيان رقم الهاتف ورقم الفاكس وصندوق البريد، فهذه الجهة ليست مجهولة لدى الشرطة، لأن البيان مذيل برقم الهاتف والفاكس ورقم صندوق البريد كما قلت، والبيان موجه إلى مسلمي فلسطين هكذا عنوان البيان: "موجه إلى مسلمي فلسطين بمغادرة أرضهم"، التي سماها البيان بأرض إسرائيل، ويؤكد البيان المزعوم بأن فلسطين هي للشعب اليهودي وحدهم، وأن الله قد منحهم هذه الأرض حسب قولهم، وقد سبق لعدد من الحاخامين اليهود أن صرحوا بهذه المزاعم.
هذا وقد تضمن البيان المزعوم عدة افتراءات ومغالطات منها:
أولاً: أورد البيان عبارة من التوراة نصها: "إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان"، وهذا إقرار بأن فلسطين هي للكنعانيين، أي أن الكنعانيين العرب كانوا أقدم من اليهود في فلسطين، ثم إن اليهود لم يكونوا مالكين لفلسطين، إنما مجرد عبور ومرور.
ثانيًا: إن إسرائيل أي يعقوب عليه السلام قد استقر في مصر، ولم يكن أصلاً في فلسطين، وإنما كان في بلاد بدوية قاحلة، والأغلب أن يكون في صحراء سيناء، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة من سورة يوسف، يقول الله سبحانه وتعالى على لسان يوسف: وَقَدْ أَحْسَنَ بِى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ ?لسّجْنِ وَجَاء بِكُمْ مّنَ ?لْبَدْوِ [يوسف:100]، وفلسطين لم يسبق أن كانت من البادية.
ثالثًا: إن البيان السام الذي وزع استخدم عددًا من الآيات الكريمة من القرآن الكريم في غير موضوعها وأساء في فهمها.
رابعًا: إن المسلمين في فلسطين لهم جذران أساسيان، الجذر الأول تاريخي يمتد للكنعانيين واليبوسيين، وهذا الجذر التاريخي يسبق تاريخ اليهود، أما الجذر الآخر هو الجذر الديني العقدي المرتبط بمعجزة الإسراء والمعراج.
إذًا من الذي يرحل؟ إننا نحن المسلمين متجذّرون هنا، ولن نرحل، وإن هذه البيانات المزعومة العدوانية تنم عن عنصرية وتعصب وحقد، إذا كانت السلطات المحتلة معنية بالاستقرار والأمن عليها أن تلاحق هؤلاء المتطرفين الذين يزوِّرون التاريخ ويثيرون الفتن والضغائن، ولسنا كمسلمين خائفين من هذه الافتراءات والتخريفات، كما لسنا عاجزين عن الرد عليها بكتب ومؤلفات، فالفكر الإسلامي فيه الزخم والقوة والجرأة والحصانة، وسبق أن قام أعداء الإسلام عبر التاريخ بالتزوير والتضليل، ولم يؤثر على الإسلام كدين، والله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر:9]، وإن المسلمين هم حراس هذه الأرض التي تضم رفاة وقبور الصحابة والتابعين والمجاهدين منذ الفتح العمري، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
(1/2895)
عيد الأضحى 1424هـ
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
10/12/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة الأمة في هذا العصر إلى التمسك بمبادئ الإسلام. 2- عظم مقاصد خطبة الوداع. 3- مبدأ حفظ الدماء والأموال والأعراض. 4- تحريم الربا. 5- تقرير مبدأ العقوبات. 6- صيانة المرأة والحرص على كرامتها. 7- ذم العصبية والعنصرية. 8- حقوق الإنسان في الإسلام. 9- الوصية بالتمسك بالكتاب والسنة. 10- مشروعية الأضحية وبعض أحكامها. 11- من آداب العيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشرَ المسلمين، إنّ الأمّة اليومَ في حاجةٍ عظيمة للمبادئ التي تعالج واقعَها وللأصول التي تحلّ مشكلاتها وللقيَم التي ترسم لها الخطّة الناجحةَ لمحاربة التحدّيات التي تواجهها والمخاطر التي تحيط بها.
ومِن هذا المنطلَق فإنّ ضرورةَ المسلمين اليومَ كبيرةٌ في مثل هذه المناسبة للمراجعة الجادّةِ والتبصُّر الصادق في وثيقةٍ تأريخية عظيمة، صدرت من رجلٍ عظيم في يومٍ عظيم. إنها خطبةُ الوداع التي تعرِض للأمة أعلى القيَم، وتمدّها بمقوّمات الخير والصّلاح لبناء الحاضِر والمستقبل، وتعطيها أُسُسَ الفلاح ومبادئَ النّجاح.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
إخوةَ الإسلام، خطبةُ الوداع جاءت تذكِّر الأمّة في كلِّ حين بأسباب الحياةِ المثلى، وتبصِّرها بسُبل الوقاية من الشرور والفتَن، وهو تحقيقُ منهج الإسلام في هذه الحياة عقيدةً وشريعة، حُكمًا وتحاكمًا، عملاً وسُلوكًا، يقول في هذه الخطبة: ((أوصيكم ـ عبادَ الله ـ بتقوى الله، وأحثُّكم على طاعته)) [1].
أمّةَ الإسلام، وفي مضامين هذه الوثيقةِ أصلٌ مهمّ تقوم عليه سعادة الناس، وتصلح به حياتهم، إنه مبدأ حفظِ النفوس والأموال والأعراض، يقول في هذه الخطبة: ((أيّها الناس، إنّ دماءكم وأموالَكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) [2].
إنها المقاصد العامّة والمصالح الكلّية التي جاءت الشريعةُ برعايتها والحفاظِ عليها وبناء الأحكام على وفقها وجعلها غايةً مستقرّة في تشريعاتها، ممّا حدَا بأحدِ المستشرقين أن يقول: "لو طبّق المسلمون تعاليمَ دينهم وحرصوا عليها عملاً فإنّ دُورَ الشرطةِ والمحاكم والسجون ستُغلق؛ لأنه لم يبقَ لها عملٌ، وبذلك يوجد المجتمع المسلم الذي رسم الإسلام معالمَه" انتهى.
خطابٌ عالميّ يصدُر من سيّد العالمين محمّد عليه أفضل الصلاة والتسليم، يتضمّن محاربةَ كلِّ تصرّفٍ يترتّب عليه ترويعُ الآمنين وإخافة المسلمين. خطابٌ يتضمّن في مشمول معانيه الحرصَ التامَّ من دين الإسلام على حفظ النفوس أن تهدَر والأموال أن تضيّع والأعراض أن تنتهَك.
إنه خطابٌ كالسّيف ضدّ كلِّ تهمةٍ تُوجَّه للإسلام بأنه دينُ إرهابٍ وإرعاب، فأين المنصفون؟! وأين المتبصِّرون؟!
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
معاشرَ المسلمين، في موقفِ الوداع يُعلن المصطفى حكمَ الإسلام الأبديَّ في قضيةٍ خطيرة من قضايا الاقتصاد، إنها قضيّة الربا، فيقول عليه أفضل الصلاة والسلام: ((وإنّ ربا الجاهليّة موضوعٌ، وإنّ أوّلَ ربًا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلّب)) [3]. سياسةٌ نبويّة لصيانة الاقتصاد من الهلاك والدمار، ولحماية المجتمعات من الشرور والأضرار، وذلك بتَحريم الربا بمختلف صُوَره ومهما كان نوعُه وقدره.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
معاشرَ المسلمين، إنّه في الوقتِ الذي يُصدر الإسلام وصاياه النيّرةَ يتَّضح للعالم بعد قرونٍ بالتجارب الواقعية والكتابات المتعدّدة والإحصاءات الدقيقةِ الصادرة من أساطين الاقتصاد العالمي أنّ النظامَ الربويّ ليس هو العاجز على توفير الاقتصاد النامي المستقرِّ فحسب، بل إنّه عنصرٌ مدمِّر لشروط ودعائم الاقتصاد ونموِّه واستقراره، فأين المدركون؟! وأين هم المتَّعظون؟!
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلمون، وتقرِّر هذه الخطبةُ التوديعيّة لزومَ إصلاح النفوس وتهذيبها وحماية الجماعة وأفرادها، فيجيء الإعلانُ المؤكِّد لمبدأ العقوبات في الإسلام، قال : ((والعمدُ قوَد)) [4].
إنّه حرصٌ من التشريع الإسلاميّ لا مثيل له في القضاء على الخطر والمنعِ من الشرّ والضرر، حدودٌ تزجر الناسَ وتردعهم، وتصلح أحوالهم وشؤونهم، حسمٌ لباب الفساد، وإصلاحٌ لأحوال العباد؛ لتقوم حياةٌ كريمة وعيشٌ مطمئنّ مستقرّ، وَلَكُمْ فِي ?لْقِصَاصِ حَيَو?ةٌ يأُولِي ?لألْبَـ?بِ [البقرة:179].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أمّةَ الإسلام، المرأة في الإسلام شقيقةُ الرجال في إقامة الحياة على خيرِ حال، علاقتها به علاقةُ مودّةٍ ورحمة وسَكَنٍ وطمأنينة، يقول في خطبة الوداع: ((فاتّقوا الله في النّساء، فإنّكم أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله)) [5] ، ولئن حكى التاريخ تحقيرَ العصور الجاهليّة الأولى للمرأةِ وسلبَها حقوقها وكرامتَها فإنّ الحالَ اليومَ أسوأُ [منه] في حضاراتِ غير الإسلام، فهي في نظراتهم لا تعدو أن تكونَ مصيَدةً للآذان يُتنافَس فيها بالبغي والعدوان، أو أن تكونَ عاملاً لاهثًا ومنتِجًا راكضًا بلا رحمة ولا إحسان، أمّا المرأة في الإسلام فلها الشأنُ العظيم، حقوقها محفوظةٌ مُصَانة، تعيش كريمةً مُصانة عُضوًا مشَرّفا وعنصرًا فعّالا في إقامة حياةٍ سعيدة ومجتمع طاهر نزيه، تمارس مسؤولياتها وفقَ الحِشمة والآداب، مستوعِبةً المفيدَ من الجديد، محافظةً على نفسها، لها ميادينها ومجالاتُها في الخير والعطاءِ والبذل والفداء، وحينئذ تجني لأمّتها ولنفسها الثمراتِ الخيّرة، ولمجتمعها القطوفَ الزّاهرة، مجتنبةً الويلاتِ التي يعاني منها المستسلِمات لصرخاتِ التحرير الكاذبة الماكرة والدعوات الخادعة السافرة.
أيّها المؤمنون، أعداءُ الإسلام حريصون على أن تنهجَ المسلمة السبُل العوجاءَ والأفكار الهوجاء، قال أحدهم: "لن تستقيمَ حال الشّرق ما لم يُرفَع الحجابُ عن وجه المرأةِ ويعطَّ به القرآن"، وقال آخر: "إنّ التأثير الفكريَّ الذي يظهر في كلّ المجالات ويقلب المجتمعَ الإسلاميّ رأسًا على عقب لا يبدو في جلاءٍ أفضل بما يبدو في تحرير المرأة" انتهى. وهذا ليس بمستغرَبٍ على من مبادؤُه مهلِكة ومقاييسه فاسِدة، ولكن المستغرَب أن يتأثّر بذلك ذوو أفهامٍ سقيمة أو نوايا خبيثة، فتجدهم يتّجهون لمِثل تلك الدعوات، وينادون في ديار الإسلام بمثل تلك الصيحات. ألا فليت هؤلاء وغيرهم يدركون ما أدركه عقلاء القومِ ويستبصرون ما استبصروه من العواقب الوخيمةِ والآثار المدمّرة لمثل تلك التوجّهات، فترى أولئك منذرين نادمين على أرجاءِ حاضرتهم الهابطة التي أوردتهم الموارد.
تقول إحدى كاتباتهم: "إنّ الاختلاطَ الذي يألفُه الرجال وقد طمعَت فيه المرأة بما يخالف فطرتَها، وهنا البلاء العظيم على المرأة... إلى أن قالت: أما آن لنا أن نبحثَ عمّا يخفِّف ـ إذا لم نقل: عمّا يزيل ـ هذه المصائب؟!"، وتقول أخرى: "ألا ليتَ بلادَنا كبلاد المسلمين، فيها الحشمة والعفافُ والطّهارة، تنعَم المرأة بأرغد عيش، تعمل كما يعمَل أولادُ البيت، ولا تُمسُّ الأعراض بسوء" انتهى.
ألا وقد استبان الأمرُ وانكشف الحال، فواجبُ مَن انبهر بهذه المبادئ الزائفة والشعارات المرَونقَة واجبهُ النظرُ المنصِف والتفكُّر الدقيق، ليعلم ما جرّته تلك المفاهيمُ الزائفة من عواقبَ وخيمة على الفرد والمجتمع في كثيرٍ من العالم اليوم.
وإنّه لحريٌّ بالمسلمين التمسّكُ بخصائصهم الدينيّة والثقافية والاجتماعيّة أمامَ طغيان الثقافات الأخرى ومفاهيمها في قضية المرأة وغيرها، وذلك باختيار الهدي الإلهي ومبادئ التشريع الرباني وإظهار الاعتزاز بتلك الخصوصية وتطبيقها والالتزام بها، فذلك كافلٌ لها بموقع مشرِّفٍ في كلّ المجالات وشتّى الميادين.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
إخوةَ الإسلام، جاء الإسلامُ والناسُ تموج بهم صراعاتُ الأجناس والألوانِ والطبقات، فأشرق نورُه، وجمع بين تلك المختلِفات على مبدأ المساواة بين النّاس، لا تفاضُلَ فيه إلاّ باعتبار التقوى التي تنطرِح معها كلّ نزعةٍ عنصريّة عصبية أو قومية، يقول المصطفى في خطابه التوعيديّ: ((إن ربّكم واحدٌ، وأباكم واحد، كلّكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، لا فضلَ لعربيّ على عجميّ ولا لعجميّ على عربيّ ولا لأحمر على أسود ولا لأسودَ على أحمر إلا بالتقوى)) [6]. فهل يستيقِن المسلمون اليومَ أنّ التفرُّقَ والتشرذُم الحاصِل والذلّ والهوان الواقع إنما هو بسببِ القوميّات العرقيّة والأحزاب الفكريّة والمشارِب المتعدّدة؟! فكم جرّت على الأمّة الإسلاميّة من ويلاتٍ وويلات، ودمّرت مصالحَ ومقدَّرات، ونبيّ الأمّة يقول: ((ليس منا من دعا إلى عصبيّة أو قاتل على عصبيّة أو مات على عصبيّة)) [7].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
معاشرَ المسلمين، وفي ظلِّ هذا التشريع فحقوق الإنسان وكرامتُه في الإسلام محفوظة مُصانة، ليست شعارًا عامّا فحسب، بل هي نظامٌ تشريعيّ داخلٌ في البناء العقديّ والأخلاقيّ والاجتماعيّ، قال أحد المنصفين من كبار القانونيّين بعد زيارةٍ لبلاد الحرمين حفظها الله، قال بصفتِه مسيحيّا: "أعلنُ أنّ حقوقَ الإنسان في القرآن بعد أن سمعتُها ورأيتُ الواقعَ في تطبيقها تتفوّق بلا شكّ على ميثاق حقوقِ الإنسان" انتهى.
ومن هنا فما المبادئُ التي تدعو لحقوقِ الإنسان اليومَ إلا في الميزان المرجوح أمامَ نظرة الإسلام، ذلكم أنها مبادئ تقوم في غالبِ مفاهيمها على مصالحِ القويّ وإهدارِ الجانب الأخلاقيّ وإقصاء الدين عن الحياة والدعوة للحرية التي سيماها الانفلاتُ نحوَ الرذيلة والفساد وفي محيط إهدار الفضائل والأخلاق بمقاييسَ عصريةٍ مادية تأباها الفِطر الإنسانية والتشريعات الإلهية، بل إنّ هذه المبادئَ التي تدعو إليها هيئاتٌ ومؤسّسات تتّسِم باختلاف المفاهيم وازدواج المعايير عند الحكم والتقويم بحَسب المصالح المكانية والاختلافات البشريّة والدينيّة، وإلاّ فأينَ هي من حمايةِ حقوق الأفراد في كثير من بقاع ديارِ المسلمين؟! وأين هي من حقوق بعض شعوب المؤمنين؟!
أيّها المسلمون، وتُختَم كلمات الوداع من نبيّ الأمّة وهو يفارقها بوَصيّة تضمَن لها السعادة والرفعةَ والنصرَ والعزّ، إنها وصيّة الالتزام بالتمسك بالوحيين والاعتصام بالهديين، قال : ((تركتُ فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا بعدي: كتابَ الله)) [8]. تمسُّكٌ بهما في شتَّى الجوانب، واعتصامٌ بهما في جميع الأحوال، عقيدةً وعملاً، شريعةً وتحاكمًا.
ألا فليكن التنظيمُ في حياة المسلمين على وفقهما، وليُنهَج في ديار المسلمين الإصلاحُ في ضوء مذهبهما، نظامُ حياةٍ كامل، ودستور إصلاح شامِل، فالتأريخ الإسلامي في المدّ والجزر والنصر والهزيمة والقوّة والضعف برهانٌ ساطع على أن العزّةَ والسؤدَد والرخاءَ والازدهار يكون للمسلمين يومَ يكون أمرهم على الوحيين وشؤونُهم وفقَ الهديين.
وفّق الله المسلمين جميعًا للعمل بكتابه وتحكيم شريعته.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
[1] أخرج مسلم في العيدين (885) عن جابر رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله الصلاةَ يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئا على بلال، فأمر بتقوى الله وحثّ على طاعته. الحديث.
[2] أخرجه البخاري في العلم (67)، ومسلم في القسامة (1679) عن أبي بكرة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري في الحج (1739) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[3] أخرجه مسلم في الحج (1218) عن جابر رضي الله عنه بنحوه.
[4] أخرجه ابن أبي شيبة (5/436)، والدارقطني (3/94) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1986)، وهو في السنن بمعناه. وله شاهد من حديث عمرو بن حزم رضي الله عنه، قال الحافظ في التلخيص (4/21): "رواه الطبراني وفي إسناده ضعف"، وقال الهيثمي في المجمع (6/286): "رواه الطبراني وفيه عمران بن أبي الفضل وهو ضعيف". تنبيه: لم أقف على ما يدلّ أنه قال ذلك في خطبة الوداع، والله أعلم.
[5] أخرجه مسلم في الحج (1218) عن جابر رضي الله عنه.
[6] أخرجه أحمد (5/411) عن أبي نضرة عمن شهد خطبة النبي في وسط أيام التشريق بنحوه، وليس فيه: ((كلّكم لآدم، وآدم من تراب)) ، قال الهيثمي في المجمع (3/266): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2700). وأخرجه الطبراني في الأوسط (4749) عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري مرفوعا. وأخرجه أبو نعيم في الحلية (3/100)، والبيهقي في الشعب (4/289) عن أبي نضرة عن جابر رضي الله عنه مرفوعا، قال البيهقي: "في هذا الإسناد بعض من يجهل". وفي الباب عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم.
[7] أخرجه أبو داود في الأدب (5121)، وابن عدي في الكامل (3/146) عن عبد الله بن أبي سليمان عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، قال المنذري في المختصر (8/19): "قال أبو داود في رواية ابن العبد: هذا مرسل، عبد الله بن أبي سليمان لم يسمع من جبير. هذا آخر كلامه. وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن المكي، قال أبو حاتم الرازي: مجهول"، ولذا ضعفه الألباني في غاية المرام (304). ويشهد له ما أخرجه مسلم في الإمارة (1848) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: ((ومن قتل تحت راية عمية يغضب للعصبة ويقاتل للعصبة فليس من أمتي)).
[8] أخرجه مسلم في الحج (1218) عن جابر رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا لا ينفد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحَد الصمد، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله أفضلُ من تعبّد، اللهمّ صلِّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تعبّد.
أما بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ بتقوى الله، فإنها سعادةُ الأبرار وقوامُ حياةِ الأطهار، تمسَّكوا بوثائقها، واعتصموا بحقائقها.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
عبادَ الله، الأضحيةُ مشروعةٌ بأدلّة الشريعة المتنوّعة، فضلُها عظيم وأجرُها كبير. تتأكّد مشروعيتُها لمن كان غنيًّا وعلى ثمنِها مقتدِرًا، روى ابن ماجه بسند حسَن عن النبيّ : ((من كان له سعةٌ ولم يُضحِّ فلا يقربَنَّ مصلاّنا)) [1].
والشاةُ تجزئ عن الرجُل وأهلِ بيته من الأمواتِ والأحياء.
ومَن كان عنده وصايا وجب عليه تنفيذُها سواءً بسواءً حَسبَ المنصوص.
ولا يجزئ للأضحية إلاّ ما كان سليمًا من العيوب، فلا تجزئ العوراءُ البيّنُ عوَرها، وهي ما نتأت عينُها أو انخسفت، ولا تجزئ العرجاءُ البيّن ضلعُها، وهي التي لا تستطيع المشيَ مع السَّليمة، ولا تجزئ المريضةُ البيِّنُ مرضُها بحيث يظهرُ أثرٌ في أحوالها أو فساد لحمها، والعجفاء التي لا تُنقي، وهي الهزيلة التي لا مُخَّ فيها، ثبت ذلك عن المصطفى في حديث البراء [2]. وقال أهل العلم: ويلحق بهذه العيوب ما كان مثلَها أو أشدّ.
ولا بدّ أن يكتمل السنُّ المعتبَر في الأضاحي؛ ففي الإبل ما تمّ له خمسُ سنين، وفي البقر ما تمّ له سنتان، وفي المعز سنةٌ، وفي الضأن نصفُها.
ووقتُ الأضحية المعتبرَ من بعد صلاةِ العيد، والأفضلُ بعد انتهاء الخطبة، فقد ثبت عن النبيّ [أنّه] صلّى ثم خطب ثم نحر [3]. ويستمرّ الذبحُ إلى آخر أيّام التشريق، يوم العيد وثلاثة بعده.
فكُلوا وتصدّقوا واهدوا. والسنّة ـ أيها المسلمون ـ أن يذبحَ المسلم الأضحيةَ إن كان محسِنًا للذبح، وإلاّ فليشهَدْ ذبحَها.
إخوةَ الإيمان، في الأعياد تُظهر الأمُم زينتَها، وتعلن سرورَها، وتسرِّي عن نفسها ما يصيبها من مشاقّ الحياة ولأوائها، ومِن هنا شُرع للمسلمين عيدُ الفطر والأضحى، لا عيدَ في الإسلام غيرهما، ينعَم فيهما المسلمون، ويبتهجون لهوًا طيِّبًا مباحًا، وتعبُّدًا صالحًا حميدًا، قال : ((أيّام التشريق أيّامُ أكلٍ وشرب وذكرٍ لله تعالى)) [4].
والحذَر الحذَر أن تكون الأعيادُ موسمًا يُعَبُّ فيه من اللهو عَبًّا، بلا تحرُّز من حرام أو تباعُد عن باطل، فذلك ينافي تعاليمَ الإسلام، ويضادُّ مقاصدَه من الأعياد وغيرها.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلمون، أفضلُ ما لهجت به ألسنتُنا بعد ذكر الله الإكثارُ من الصلاة والسلام على النبي المصطفى.
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك نبيّنا محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الراشدين...
[1] سنن ابن ماجه: كتاب الأضاحي، باب: الأضاحي واجبة هي أم لا؟ (3123) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (2/321)، والدارقطني (4/285)، والبيهقي (9/260)، والحاكم (4/231-232)، وقد اختلف في رفعه ووقفه، قال البيهقي (9/260): "بلغني عن أبي عيسى الترمذي أنه قال: الصحيح عن أبي هريرة موقوفًا"، وممن رجح الوقف أيضًا المنذري في الترغيب (2/155)، وصححه الألباني في التعليقات الرضية (3/126) مرفوعا وموقوفا.
[2] أخرجه أحمد (4/284، 301)، والترمذي في الأضاحي، باب: ما لا يجوز من الأضاحي (1497)، وأبو داود في الضحايا (2802)، والنسائي في الضحايا، باب: العجفاء (4369، 4370، 4371)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: ما يكره أن يضحى به (3144)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (907)، وابن خزيمة (2912)، وابن حبان (5889)، والحاكم (1/467)، وهو مخرج في إرواء الغليل (1148).
[3] أخرجه البخاري في العيدين (985)، ومسلم في الأضاحي (1960) عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في الصيام (1141) عن نبيشة الهذلي رضي الله عنه.
(1/2896)
رمضان شهر الصبر
الإيمان
الجن والشياطين
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
18/9/1410
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أنواع الصبر. 2- الرضا بقضاء الله وقدره وجزاؤه عند الله. 3- المصائب ابتلاء وامتحان من الله للعبد. 4- تمني الموت عند نزول المصيبة. 5- الجزع والانتحار. 6- نماذج من الصبر على البلاء. 7- أهمية خلق الصبر لمخالط الناس. 8- من جزاء الصبر في الدنيا العلو تحقيق الأهداف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، فإن رمضان شهر الصبر، فالذي يصوم رمضان وهو منضبط، انضباطاً تاما شهراً كاملاً، لابد أن يخرج من هذا الشهر، وقد اكتسب صفة الصبر، فالذي صبر عن الحرام، وصبر عن الأكل والشرب وجَدَّ في صلاة التراويح والقيام، وصبر على كف اللسان والجوارح عن ما نهى الله عنه، أقول فالذي صبر على هذه الأمور، ولا يخرج من رمضان رجلاً صبوراً، فقد فاته خير كثير وحرم نفسه فرصة عظيمة جداً لاكتساب هذه الصفة، وهي صفة الصبر، والتي هي من أخلاق الأنبياء والرسل.
الصبر له مجالات كثيرة في حياة الإنسان، وهناك مجالات كثيرة تحتاج من المسلم أن يكون صبوراً فنريد من الذي يخرج من رمضان، الصبر على ضبط النفس عن الضجر والجزع عند حلول المصائب الدنيوية له، ومسّ المكاره.
نريد من الصائم بعد رمضان الصبر على ضبط النفس عن السأم والملل، عند تكليفه بالقيام بأعمال تتطلب الدأب والمثابرة، نريد صبراً، وضبطاً للنفس عن الغضب والطيش عندما تثيره بعض الأمور، التي تدفعه للطيش بلا حكمة ولا اتزان في قوله أو عمله، نريد من الخارج من رمضان، صبراً عن الخوف، لدى مثيرات الخوف في النفس، حتى لا يجبن الإنسان في المواضع التي تتطلب الشجاعة. نريد صبراً عن الطمع، لدى مثيرات الطمع التي تحول بين الإنسان وبين مراد الله عز وجل، المطلوب صبراً عن الاندفاع وراء أهواء النفس وشهواتها وغرائزها، حكما كان هذا الاندفاع لا خير فيه. نريد صبراً، في تحمل المشقات والآلام الجسدية والنفسية، فالذي يصبر أيها الإخوة، يكون له أجر عظيم عند الله عز وجل، ويكفيك في فضل الصبر، قول الله عز وجل: إِنَّمَا يُوَفَّى ?لصَّـ?بِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
عباد الله، لقد وجه الإسلام، المؤمنين إلى الرضى بقضاء الله وقدره، فيما يصيب المسلم من المصائب التي تجلب عليه الآلام، وتورثه المتاعب والأكدار، وأبان للمؤمنين، أن حكمة الابتلاء في ظروف الحياة الدنيا، قد تقضي بأن يكون الابتلاء بالمكاره والمؤلمات، لكنه عز وجل وعد الصابرين بالأجر العظيم، والثواب الجزيل إذا صبروا رضى بقضاء الله، وطاعة له، وابتغاء مرضاته قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لاْمَوَالِ وَ?لاْنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].
فبعد أن ذكر الله عز وجل بأن المصائب التي قد تصيب الإنسان في نفسه أو جسمه أو ماله، أو نقص في رزقه وبأن كل هذا للابتلاء، بشَّر عز وجل الصابرين بأمرين محبوبين عظيمين، الأمر الأول أن عليهم صلوات من ربهم، والأمر الثاني أن عليهم من ربهم رحمة، وقال سبحانه وتعالى في آية أخرى: فَإِلَـ?هُكُمْ إِلَـ?هٌ و?حِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشّرِ ?لْمُخْبِتِينَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ?لصَّـ?بِرِينَ عَلَى? مَا أَصَابَهُمْ وَ?لْمُقِيمِى ?لصَّلَو?ةِ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [الحج:34، 35].
أيها المسلمون، إذا علم المؤمن أن الله يمتحنه بالمصائب ليختبر مقدار صبره، ورضاه عند ربه، وليكتب له الأجر العظيم عنده، فإنه يجد نفسه مدفوعاً لتحمل المصائب بصبر، ورضي عنه الله، فكيف إذا علم العبد بأن الله يثيبه إضافة على ذلك، فيكفر عنه ذنوبه وخطاياه بالمصائب التي تصيبه إذا هو صبر عليها.
روى البخاري ومسلم عن أبى سعيد وأبى هريرة رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولاهم ولا حَزَن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يُشاكُها إلا كفر الله بها من خطاياه)).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فقلت: يا رسول الله إنك توعك وَعْكاً شديداً، قال: ((أجل، إنى أُوعَك كما يوعك رجلان منكم)) ، قلت: ذلك بأن لك أجرين؟ قال: ((أجل، ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى، شوكة فما فوقها، إلا كفر الله بها سيئاته، كما تَحُطُّ الشجرة ورقها)) رواه البخاري.
أيها المسلمون، حين يعلم المؤمن أن صبره على المصائب والآلام مكفر لسيئاته، ورافع لدرجاته ويسجل له مع كل شعور بألم أجر، عند الله تعالى، يرى أنه في خير عظيم، ويرى نفسه في سوق تجارة رابحة أضعافاً مضاعفة، لذلك فالمؤمن لا يتمنى الموت ليتخلص من مصائبه وآلامه، لأن المؤمن يعلم أن طول أجله فرصة له ليزيد من حسناته إن كان من المحسنين، وليتوب ويصلح من حاله إن كان من المسيئين.
روى البخاري في صحيحه، عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتمنى أحدكم الموت، إما محسناً فلعله يزداد، وإما مسيئاً فلعله يَسْتَعْتِب)) ، ومعنى يستعتب: أي يرجع عن الإساءة، ويطلب الرضى بالتوبة والندم والاستغفار.
وفي رواية لمسلم من حديث أبى هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنينَّ أحدكم الموت ولا يَدْعُ به من قبل أن يأتيَه، إنه إذا مات انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً)).
ولذلك يا عباد الله، فقد فَقِه الصحابة رضي الله عنهم هذا المفهوم، لذلك لم يدعُ خَبَّاب بن الأرت رضي الله عنه على نفسه بالموت، مع أنه وصل إلى حالة رأى فيها أن الموت أحب له من الحياة، روى البخاري في صحيحه، عن قيس بن أبى حازم قال: دخلنا على خباب بن الأرت رضي الله عنه نعوده، وقد اكتوى سبع كيَّات، فقال: إن أصحابنا الذين سلفوا مضَوا ولم تنقصهم الدنيا، وإنا أصبنا مالا نجد له موضعاً إلا التراب، ثم قال: ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به.
وهذه هي التربية الإسلامية، من شأنها أن ترفع معنويات المسلمين في الحياة، وتشد عزائمهم وتنفي السام والضجر عن نفوسهم وقلوبهم، وتضع بينهم وبين الطريق التي تنحدر بكثير من الناس إلى الانتحار، سداً منيعاً.
أما من ترك الإيمان بالله واليوم الآخر وكَفَر بالمفاهيم الإسلامية العظيمة، تولد في نفسه السأم والضجر من الحياة، عند أول ضُرٍّ يمسه، ومع تتابع الأحداث والمصائب مرة بعد مرة، تتكثف في نفسه ضغوط قاتلة، لا تجد لها منفذاً تتنفس منه، لأن المتنفس الوحيد، لا يأتي إلا عن طريق الإيمان بالله واليوم الآخر، والرضى بقضاء الله وقدره، ومراقبة الأجر العظيم الذي أعده الله للصابرين، وبعد أن تتوالى المصائب على الإنسان دون أن تجد متنفساً سليماً، تحدث حالة الانفجار النفسي، وهذا الانفجار ينتهى به إلى الانتحار، أو إلى الجنون، أو إلى الجريمة البشعة، أو إلى إدمان المسكرات والمخدرات، وفي كل ذلك شر مستطير وبلاء كبير. أما المؤمنون، فهم من هذا البلاء في عافية والحمد الله، وبلاد المسلمين هي أسلم البلاد وأنقاها من جرثومة هذا الوباء، وذلك سر الوقاية العجيبة التي يصنعها الإيمان والصبر.
عباد الله، أسوق نموذجاً من أروع الأمثلة التي تضرب في الصبر على البلاء. يحكى الله عز وجل لنا قصة بطولة فريدة من بطولات الصبر، مقدمها ولد ووالده، في امتحان رباني عجيب لهما، هما النبيان الرسولان الصابران إسماعيل وأبوه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام:
يكلف الله إبراهيم في رؤيا منامية، أن يذبح ولده إسماعيل، فيتجه بصبر عجيب لطاعة أمر ربه، فيقول لابنه إسماعيل، ي?بُنَىَّ إِنّى أَرَى? فِى ?لْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ [الصافات:102]، أي أمرني ربي بذبحك في رؤيا منامية، ورؤيا الأنبياء حق تثبت بها الأحكام التكليفية، فيقول الابن البار لأبيه، المطيع لربه: ي?أَبَتِ ?فْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء ?للَّهُ مِنَ ?لصَّـ?بِرِينَ وأسلما أمرهما إلى الله صابرين وشرعا في تنفيذ التكليف، ذابح ومذبوح، فلما علم الله طاعتهما، وصدق إسلامهما وتسليمهما، أنزل لهما كبش الفداء وتوقف أمر ذبح الوالد لولده، وتم الذبح للكبش.
وفي عرض القران لهذه القصة إشارة بفضيلة خلق الصبر، على تنفيذ أمر الرب، مهما كان قاسياً ومكروهاً للنفس، وتوجيه لإعداد الأنفس للصبر على المكاره، والمصائب المرتقبة والإقدام عليها بشجاعة وبطولة، يقول الله تعالى في سورة الصافات، في معرض ذكر قصة إبراهيم مع قومه فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَـ?هُمُ ?لاْسْفَلِينَ وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى? رَبّى سَيَهْدِينِ رَبّ هَبْ لِى مِنَ ?لصَّـ?لِحِينِ فَبَشَّرْنَـ?هُ بِغُلَـ?مٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ?لسَّعْىَ قَالَ ي?بُنَىَّ إِنّى أَرَى? فِى ?لْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَ?نظُرْ مَاذَا تَرَى? قَالَ ي?أَبَتِ ?فْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء ?للَّهُ مِنَ ?لصَّـ?بِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَـ?دَيْنَـ?هُ أَن ي?إِبْر?هِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ?لرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ [الصافات:98-105].
فهذه يا عباد الله، من أروع القصص التي تضرب للصبر، وقد أثبت إسماعيل عليه السلام بالتطبيق العملي ما أعلنه بقوله: سَتَجِدُنِى إِن شَاء ?للَّهُ مِنَ ?لصَّـ?بِرِينَ فكان ذا حظ عظيم من الصبر، حينما سعى هو أبوه لتنفيذ أمر الله عز وجل.
أقول فهل يستفيد الصائمون من هذه القصة وغيرها، ويواصلون طريق الطاعة لله، وامتثال أمره، والمحافظة على الصلوات في المساجد ومواصلة قراءة القران بعد رمضان، ويصبرون على هذه الطاعة ليس في رمضان فقط ولكن طول حياتهم حتى يلقوا ربهم.
أسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذلك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لألوهيته وربوبيته وسلطانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وعلى أصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: عباد الله، حين نتأمل في المجالات التي تحتاج إلى صبر في حياة الإنسان، يتبين لنا، أن الصبر ضرورة حياتية لكل عمل نافع، فكسب الرزق يحتاج إلى صبر، ومعاملة الناس تحتاج إلى صبر، والقيام بالواجبات والمطلوبات الدينية يحتاج إلى صبر، والكف عن المحرمات والمكروهات يحتاج إلى صبر، والجهاد في سبيل الله يحتاج إلى صبر، ومقارعة شدائد الحياة ومقاومة مكارهها وتحمل تكاليفها، يحتاج إلى صبر، وهكذا سائر الأعمال التي يمارسها الإنسان في حياته، فهي تحتاج إلى صبر، فمن الأدلة التي تدل على أن القيام بالواجبات الدينية يحتاج إلى صبر قول الله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً رَّبُّ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَ?عْبُدْهُ وَ?صْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:64، 65].
ومما يدل على أن مخالطة الناس والتعامل معهم من الأمور التي تحتاج إلى صبر، قول الله تعالى: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً [الفرقان:20].
ومن الأدلة على أن الجهاد في سبيل الله يحتاج إلى صبر عظيم، لما فيه من تعرض للتضحية بالنفس قول الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، وقول الله تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَ?ثْبُتُواْ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]، وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:46].
ومما يدل على أن الدراسة والبحث العلمي في الظواهر الكونية، وكذلك الاجتهاد لاستخراج أحكام الشريعة من مصادرها، أمور تحتاج إلى دأَب طويل، وصبر جميل قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ ?للَّهَ يُولِجُ ?لَّيْلَ فِى ?لنَّهَارِ وَيُولِجُ ?لنَّهَارَ فِى ?لَّيْلِ وَسَخَّرَ ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى إِلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ ?للَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ذَلِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ?لْبَـ?طِلُ وَأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْعَلِىُّ ?لْكَبِيرُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ?لْفُلْكَ تَجْرِى فِى ?لْبَحْرِ بِنِعْمَتِ ?للَّهِ لِيُرِيَكُمْ مّنْ ءايَـ?تِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَـ?تٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان:29-31].
كذلك يا عباد الله، من الأمور التي تحتاج إلى حظ عظيم من خلق الصبر، كظم الغيظ وإخماد جذوة الغضب، والدفع بالتي هي أحسن، قال الله تعالى: وَلاَ تَسْتَوِى ?لْحَسَنَةُ وَلاَ ?لسَّيّئَةُ ?دْفَعْ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ?لَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ [فصلت:34، 35]، وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ?لشَّيْطَـ?نِ نَزْغٌ فَ?سْتَعِذْ بِ?للَّهِ إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [فصلت:36].
فمن الملاحظ أيها الإخوة في المعاملات الاجتماعية بين الناس، أن بعضهم قد يسيؤون إلى إخوانهم إساءات مختلفة في ألسنتهم، في أيديهم، في غير ذلك من جوارحهم، في تصرفاتهم المالية أو غير المالية، والإساءة قد تمس النفس، أو تمس العرض والشرف، أو تمس المال والمتاع، أو تمس الأهل والعشيرة، أو تمس أي حق من الحقوق، فالله تعالى يأمر المؤمن في هذه الآية الكريمة أن يدفع السيئة التي يأتيه من أخيه بالخصلة التي هي أحسن. كم للدفع بالتي هي أحسن من ثمرات اجتماعية عظيمة، منها تحويل العبد المجابِه بما يسوء ويؤذي، إلى نصير مُدافِعٍ وصديق حميمٍ فَإِذَا ?لَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ فما أحوج المربين والموجهين إلى هذا الخلق العظيم، بل ما أحوج كل إنسان إليه، إنه أحد المظاهر الاجتماعية لخلق الصبر.
أيها المسلمون، إن خلق الصبر من أحق الصفات التي يجب أن يتحلى بها من يتصدرُ الناس، أيا كانت هذه الصدارة، لأن الذي لا يصبر لا بد أن يفشل ويسقط عن مرتبته، يقول الله تعالى في سياق الكلام عن قصة يوسف عليه السلام: قَالُواْ أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـ?ذَا أَخِى قَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ ?للَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ?لْمُحْسِنِينَ [يوسف:90].
وقال عن موسى عليه السلام: وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى ?لْكِتَـ?بَ فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ مّن لّقَائِهِ وَجَعَلْنَـ?هُ هُدًى لّبَنِى إِسْر?ءيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِئَايَـ?تِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:23، 24].
وقال تعالى في سورة الأعراف إثباتاً لهذه السنة الاجتماعية البشرية: وَأَوْرَثْنَا ?لْقَوْمَ ?لَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـ?رِقَ ?لأرْضِ وَمَغَـ?رِبَهَا ?لَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ ?لْحُسْنَى? عَلَى? بَنِى إِسْرءيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ [الأعراف:137].
(1/2897)
مسجد الضرار ومؤامرات المنافقين
الإيمان
نواقض الإيمان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
26/4/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صفات المنافق. 2- خطورة النفاق والمنافقين على المجتمع المسلم. 3- المنافقون يبنون مسجد الضرار، ورسول الله يهدمه. 4- مؤامرات أبو عامر الفاسق على الإسلام. 5- صور جديدة من الضرار. 6- الدروس المستفادة من القصة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله: النفاق من اللُّوثات الخبيثة، والأمراض المعنوية الخطيرة التي يعاني منها الإسلام على مر الأيام والدهور بمرارة، وهو انحراف خلقي خطير في حياة الفرد والجماعة، إذ يقوم بعمليات الهدم الشنيع، والتفتيت الفظيع للمجتمع من الداخل، وصاحبه آمن مستأمن، لا تراقبه الأعين، ولا تطيف بذكره الألسن، ولا تحسب حساباً لمكره ومكائده الأنفس.
النفاق ـ يا رعاكم الله ـ: سلوك مركب في الفرد، يرجع إلى عناصر خلقية متعددة، أولها: الكذب، وثانيها الجبن، وثالثها الطمع في حطام الدنيا الفاني، ورابعها الإعراض عن الحق وجحوده، وتلك بمجموعها تمثل شبكة شيطانية عنيدة، يصعب التعامل معها، والحذر منها. ترى الواحد منهم يعيش بين الناس بلسانين، وتتلون نفسه بلونين، يقود نفسه بزمام الشيطان إلى الرذائل والمحرمات، فإذا همت بالمعروف قال لها: مهلاً!
وتبرز خطورة النفاق والمنافقين على المؤمنين: في تدبير المؤتمرات، وحبك الدسائس، والمشاركة فيها، والاستجابة لمروجيها، لأنهم قوم خونة، لا تصفو مودتهم لأحد، ولا يسلم من أذاهم بشر، قد صدق فيهم قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((تجدون من شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)) رواه مسلم.
ترى أحدهم يتقلب بين الأفراد والجماعات، لا يُدرى مع من يأمن، ولا من يخالط ويرضى، منطبقاً عليه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((مثل المنافق كمثل الشاة العائِرَة بين الغَنَمَين، تَعِيُر إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة)) رواه مسلم.
?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لْمُنَـ?فِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ ?للَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ هُمُ الْفَـ?سِقُونَ وَعَدَ الله الْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْمُنَـ?فِقَاتِ وَ?لْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَـ?لِدِينَ فِيهَا هِىَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ ?للَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [التوبة:67، 68].
عباد الله، ومن أبرز المخططات النفاقية التي سجلها القرآن الكريم وصمة عار على جبين المنافقين إلى يوم القيامة: مخطط مسجد الضِّرار، التي دبرها المنافق" أبو عامر الراهب" مع فريق من "المنافقين" من جهة، ومع "الروم" من الجهة الأخرى، بقصد القضاء على المسلمين سراً وهم غافلون. كان" أبو عامر الراهب "خَزرجياً من أهل يثرب، وقد "تنصر قبل الإسلام"، وكان ذا مكانة في قومه، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وبنى (مسجد قباء) أول مسجد أُسِّسَ على التقوى، ورأى هذا المنافق تجمع المسلمين فيه، وظهور أمرهم أعلن عداءه الأكيد للرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وأخذ يؤلب عليه من استطاع صده عن الإسلام من قومه.
غير أن هذا المنافق لم يظفر بما يريده داخل المدينة، فخرج منها إلى مكة محرضاً المشركين فيها على محاربة المسلمين، بعد أن شرقت نفسه بانتصار المسلمين في (غزوة بدر الكبرى).
وكان قد حلف ليحاربن محمداً مع كل من يحاربه. وقال لمشركي مكة: إن لي أنصاراً في يثرب، إذا رأوني لم يختلف عليَّ منهم رجلان.
فخرج مع المشركين في غزوة أحد، وكان في أول جيشهم، ليستحث قومه الذين في صفوف المسلمين على طاعته، وخذلان الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه رضي الله عنهم. لكنهم لم يستجيبوا له بعد أن شرفت نفوسهم بالإسلام، ونعمت قلوبهم ببرد الطاعة وحلاوة الإيمان. فرجع إلى مكة مع المشركين ممتلئاً غيظاً وحقداً على المسلمين، الذين فرقوا بينه وبين قومه بزعمه.
وما برح هذا المنافق يدبر الخطط، ويحيك المؤامرات ضد المسلمين حتى فتح الله مكة على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح الطائف، فانضم هذا المنافق إلى قبائل هَوازن وثَقيف ومن معهم يقاتل المسلمين. ولكن الله جل شأنه نصر المسلمين في حُنين، فيئس "أبو عامر الراهب" من الاعتماد على قوات الشرك داخل الجزيرة، وقلبه يغلي كراهية وبغضاً للإسلام والمسلمين.
فقرر أن يستعين على المسلمين بهرقل الروم في الشام فهرب إليه، واتفق معه على أن يرسل معه جنداً لحرب محمد وأصحابه، في عملية انقضاض ماكرة خبيثة على عاصمة الإسلام والمسلمين. وفي سبيل إحكام هذه المؤامرة، ولتكون حملة شرسة خاطفة لا يتنبه لها أحد، أخذ أبو عامر يُراسل خلصاءه من المنافقين في المدينة سراً بما اتفق عليه مع قيصر الروم، ويأمرهم بالاستعداد بكل ما استطاعوا من قوة وسلاح، وأن يبنوا قاعدة سرية في ضاحية المدينة، لا يشعر المسلمون لما يراد منها.
تمثلت هذه القاعدة في مسجد يبنيه المنافقون، ويجتمعون فيه، متخذين لإقامته المبررات الكافية أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يأذن لهم بإقامته. وفي سبيل تنفيذ هذه المؤامرة الماكرة اجتمع اثنا عشر منافقاً، وقرروا إقامة مسجدهم هذا قريباً من مسجد قباء، وقد تم بناؤه بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجهز للسفر إلى (تبوك)، لغزو الروم. فلما فرغوا من بنائه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: يا رسول الله! إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه. فقال صلى الله عليه وسلم: ((إني على جناح سفرٍ، وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله لأتيناكم فصلينا لكم فيه)).
وخرج المصطفى صلى الله عليه وسلم بالمسلمين إلى تبوك، دون أن يصلي لهم في مسجدهم هذا، وبينما هو عائد من تبوك، راجع إلى المدينة، وقد انهكته مؤامرات المنافقين الذين رافقوه في غزوة تبوك، نزل عليه الوحي يخبره بمؤامرة المنافقين، وحال المسجد الذي بنوه في المدينة، وينهاه عن الصلاة فيه، قائلاً سبحانه وتعالى: وَ?لَّذِينَ ?تَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لّمَنْ حَارَبَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ?لْحُسْنَى? وَ?للَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـ?ذِبُونَ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى ?لتَّقْوَى? مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُطَّهّرِينَ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى? تَقْوَى? مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى? شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَ?نْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ?لَّذِى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:107-110].
فلما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أصحاب مسجد الضرار، فسألوه أن يأتي مسجدهم ويصلي لهم فيه، فدعى نفراً من أصحابه، وأمرهم أن ينطلقوا إلى المسجد الظالم أهلُه فيهدموه ويحرقوه، فانطلقوا حتى أتوه، فهدموه وحرقوه. وانكشفت مكيدة المنافقين، وتم وأدها في مهدها، وتوقفت مكائد المنافق أبي عامر الراهب، ثم هلك في "قنسرين" من أرض الشام، إلى جهنم وبئس القرار.
أيها المسلمون، لقد بنى المنافقون مسجد الضرار إضراراً بالمسلمين، وتفريقاً بينهم، وقصدوا من خلاله مباهاة أهل الإسلام، وتقوية أهل النفاق، والإرصاد والتجميع لحرب الله ورسوله والمؤمنين، ولكن الله غالب على أمره، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ?للَّهُ وَ?للَّهُ خَيْرُ ?لْمَـ?كِرِينَ [الأنفال:30]. يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [التوبة:32].
إن مسجد الضرار الذي بناه المنافقون: هو بمثابة الأساس الخرب لكل مخطط، يُقصد من خلاله الإضرار بالمسلمين وإسلامهم إلى يوم القيامة، فإن الله سبحانه وتعالى قال: لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ?لَّذِى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:110]. أي: لا تزال الريبة والمكر والعداء للإسلام وأهله في نفوس المنافقين قائمةً، ما داموا على قيد الحياة، حتى يُقتلوا أو يتوبوا إلى الله، توبة تتقطع لها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم وعدوانهم للإسلام وأتباعه.
وإن مسجد الضرار الذي بناه المنافقون في الصدر الأول ما يزال اليوم يتخذ في صور شتى من الوسائل الماكرة التي يتخذها أعداء الإسلام لحرب المسلمين، وتفريقهم، وتشويه صورة الإسلام في نفوسهم، عبر وسائلهم المختلفة، فقنوات البث المباشر الناشرة للرذيلة يعد وكراً من أوكار الضرار، والمجلات الفاتنة الفاضحة، والجرائد المنحرفة الضالة، والكتب الهدامة، صور جديدة لمسجد الضرار، وقوالب مختلفة لمسجد الضرار، يقوم عليها علمانيون وحداثيون وإن تلبسوا باسم الإسلام، وافتتحوا أوكارهم بمقدماته، ونشرت بعض قيمه وأخلاقه، فهي تحمل في طياتها الفساد والانحلال والغزو الفكري المركز ضد عقيدة المسلمين، وتربيتهم وقيمهم وأخلاقهم، وإنما يتأكلون باسم الإسلام. وعلى شاكلتها كل محل ينشر الرذيلة، أو يبيع الفساد والخبث للمسلمين، كمحلات الفيديو ومحلات الأشرطة الغنائية، والأزياء الفاضحة، والمكتبات التي تروج للفساد والإفساد بين المسلمين، كلها صور متنوعة ومختلفة لمسجد الضرار. بل وكثير من المنظمات والأحزاب المنتمية للإسلام، والفرق الخارجة عنه إنّما هي صور مشكلة مزخرفة لمسجد الضرار.
ترفع لافتة الإسلام وتدعي الدفاع عنه وتتحدث باسمه، وتزعم أنها الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، وكلها في النار إلا من كان على مثل ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم، وما هي إلا وسائل فرقة وهدم للإسلام والمسلمين، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل، يذبح المسلمون على أيديهم في مشارق الأرض ومغاربها، ويمحق الإسلام بمخططاتهم، وتداس أوامره ونواهيه على أيديهم، ومع ذلك يزعمون أن الإسلام بخير، وأن المسلمين بأمن وأمان، لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون. قَاتَلَهُمُ ?للَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4].
بل إن مسجد الضرار معاشر المسلمين: ما هو إلا صورة جامدة للنفاق والمنافقين، فقد يتمثل ذلك المسجد في منافق يمشي بالنفاق بين الناس، يخذلهم ويثبطهم عن نصرة الإسلام والمسلمين، والدفاع عن كرامتهم، وحماية حقوقهم وينشر بينهم من الرذائل والموبقات ما تنهدم به مجتمعاتهم، وتفسد به أخلاقهم، كمروجي المخدرات، وبائعي الأفلام الخبيثة، والمجلات الفاضحة، والكذبة والنمامين والواشين ومن في حكمهم.
ولكن الفرج والغلبة للمسلمين، فإن التعبير القرآني الفريد في آيات مسجد الضرار، يرسم الصورة النهائية التي توضح بجلاء مصير كل وسيلة إضرار بالمسلمين تقام إلى يوم القيامة، ويكشف عن نهاية كل محاولة خادعة تخفي وراءها نية خبيثة ضد المسلمين وَلاَ يَحِيقُ ?لْمَكْرُ ?لسَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلاْوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43]. أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى? تَقْوَى? مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى? شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَ?نْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [التوبة:109].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن آيات مسجد الضرار اشتملت على عدد من التوجيهات الفريدة، التي يجب العناية بها، والحذر من نقيضها:
أولاً: أن اتخاذ المسجد الذي يقصد به الضرار بمسجد آخر قريب منه محرم، يجب هدمه إذا اطلع عن مقصود أهله.
ثانياً: أن كل وسيلة يحصل بها التفريق بين المؤمنين، هي من المعاصي التي يتعين تركها، وإزالتها. كما أن كل وسيلة يحصل بها جمع المسلمين، وائتلافهم يتعين اتباعها والأمر بها والحث عليه.
ثالثاً: النهي عن الصلاة في أماكن المعصية، والبعد عنها.
رابعاً: أن المعصية تؤثر في البقاع، كما أثرت معصية المنافقين في المسجد الذي بنوه، وكذلك الطاعة تؤثر في الأماكن، ولهذا كان لمسجد قُباء من الفضل ما ليس لغيره، فقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يزوره كل سبت، يصلي فيه، وحث على الصلاة فيه بقوله: ((من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة)) رواه ابن ماجه.
خامساً: أن كل عمل فيه مضارة لمسلم، أو فيه معصية لله تعالى، أو فيه تفريق بين المؤمنين، أو مساعدة لمن عادى الله ورسوله والمؤمنين فإنه محرم ممنوع منه، فليحذر كل مسلم من المشاركة بماله أو بجهده في شيء من ذلك، في شيء من الصور الجديدة التي ذكرتها أو غيرها لمسجد الضرار، فإنَّ كل من شارك بماله في باطل، أو باع أذى للمسلمين أو أعان على نشر فساد بينهم، أو عقد عقداً أو أجّر أجاراً فيه ضرر على المسلمين، فهو كالمنافقين الذين اتخذوا مسجد الضرار.
سادساً: أنه يجب هدم كل مكان يضر بالمسلمين، وينشر الفساد بينهم ويفرق جماعتهم، ويهدم أخلاقهم، لأن شره وفساده لا ينتهي إلا بهدمه والقضاء عليه، كما هدم صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار الذي قد يستغل للطاعة، لما تيقن من ضرره على الإسلام والمسلمين.
ألا فاتقوا الله تبارك وتعالى ـ أيها المسلمون ـ وصلُّوا وسلموا على من أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه في قوله عز من قائل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشراً)) رواه مسلم.
(1/2898)
أشهد أن محمداً رسول الله
الإيمان
الإيمان بالرسل
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
17/11/1416
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منة الله العظيمة علينا برسالة محمد. 2- محبة الصحابة البالغة للنبي. 3- محبة السلف
النبي. 4- وقفات مع حديث عن محبة الله للعباد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إنه أيها الأخوة لا ينقطع الثناء والشكر على من أسدل النعم والمنن على الناس، لا ينقطع التوقير والتبجيل في النفس ومشاعرها تجاه أولئك النفر الذين وهبوا حياتهم وأموالهم لتبليغ الدين ورسالة رب العالمين. وكلما علت منزلة الواحد من هؤلاء كلما كان أقرب للاصطفاء والاجتباء. وعلى رأس هؤلاء محمد هذا النبي الكريم الأمي، الذي أرسله الله على حين فترة من الرسل، أتى بالنور معه، والناس أحوج ما يكونون إليه، أتى بالهدى والناس أشد ما يكونون في الضلالة، أتى بالإيمان والناس أشد ما يكونون في الكفر. وأعظم الناس إدراكاً لعظيم الحاجة لهذا النبي هم صحبه الأول. أدركوا مدى الشقاء الذي كان سيلازمهم لولا بعثة هذا الرسول، فلقد أخرجهم من دركات الظلمات إلى النور التام، فدلهم على طريق الجنة، وحذرهم، فأخذ بُحجزهم عن النار وسبلها، أخرجهم من عبودية أهوائهم إلى عبودية رب العالمين، أعاد النفوس والفطر إلى وضعها الصحيح الذي خلقت له ومن أجله.
أيها المسلمون: لنسرح بخيالنا، مع الرعيل الأول، وكيف كانوا مع رسول الله ، وكيف عرف أولئك أن يأخذوا الإيمان والخلق والعبادة من نبيهم ومن هديه، فارتقوا في درجات سلم العبودية، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه.
أما نحن، فنقول:أشهد أن محمداً رسول الله لكن الفرق ستجده بعد قليل.
لما أدرك الصحابة نعمة بعثة الرسول بينهم، قام في قلوبهم من حبه الشيء العظيم، فعمر ذكره والثناء عليه قلوبهم ومجالسهم، ما أن يسمعوا بلالاً رضي الله عنه يردد من خلفه بصدق:"أشهد أن محمداً رسول الله" تخرج حارّة من قلوبهم فتترجم حية في واقع حياتهم، فهذا مهتم بأمر سواكه، وهذا مهتم بنعله، وهذا مهتم بوضوئه وطهوره، وهذا يصلح له دابته، وهذا يحفظ له ماله وقوته، وهذا يبادر إليه فيستضيفه، وهذا، وهذا، وتجاوز بهم الحب إلى أن يقتسموا شعره إذا حلقه ويتوضؤون بفضلة وضوءه، بل وما يتنخم ولا يتفل إلا ومدوا أيديهم في الهواء يتلقون أثراً من النبي. قال عروة بن مسعود القريشي: يا قوم، والله لقد وفدت على كسرى وقيصر والملوك فما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً والله ما يحدون النظر إليه تعظيماً له، وما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فيُدلك بها وجهه وصدره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه.
وها هم يرحلون في طلب حديثه وذكره وكلامه الشهور الطويلة من أجل تجديد العهد بحديثه، وجرسه في أسماعهم، وصداه في قلوبهم.
أيها المؤمنون، نعم لقد شهد أولئك النفر والصحب الكرام حق الشهادة أن محمداً رسول الله، فأحبوه صدق المحبة، كان الرجل منهم ما إن يخلو بأهله، فيذكر أنه قد يفترق عن حبيبه ورسوله في الآخرة، حتى يُرى أثر ذلك في وجهه فتصيبه الهموم والأحزان.. قالت عائشة جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إنك لأحب إليّ من نفسي وأحب إليّ من أهلي وأحب إليّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكُركَ، فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك، عرفت أنك إذا دخلت الجنة رُفعت مع النبيين، وإن دخلت الجنة رُفعت مع النبيين، وإن دخلتُ الجنة خشيت ألا أراك فلم يَرُدّ عليه النبي حتى نزل قوله تعالى: وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لَّذِينَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ?لنَّبِيّينَ وَ?لصّدّيقِينَ وَ?لشُّهَدَاء وَ?لصَّـ?لِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ذ?لِكَ ?لْفَضْلُ مِنَ ?للَّهِ وَكَفَى? بِ?للَّهِ عَلِيماً [النساء:69، 70].
وما فرح الصحابة فرحاً مثل فرحهم عندما جاء ذلك الأعرابي فقال: يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولمّا يلحق بهم، قال عليه الصلاة والسلام: ((المرء مع من أحب)) قال أنس: فأنا أحب النبي وأبو بكر وعمر.
نعم أيها الأخوة، بمثل هذا كان يحدث الرجل منهم نفسه، وذلك لتمام المحبة لهذا النبي ، كان الواحد منهم يحدث نفسه: هذه مجالسنا معه في الدنيا، فهل يا ترى نكون معه في الجنة؟هذا السؤال كان يشغل جانباً كبيراً من مشاعر وأحاسيس ووجدان أولئك المؤمنين الصادقين. لقد شهدوا حق الشهادة أن محمداً رسول الله. فأحبوه صدق المحبة، محبة أخرجتهم من ملذاتهم ومراداتهم إلى مراده هو، وما يأمر به وينهى عنه. فلم يبق في قلوبهم تعظيم لأحد، أو توقير فوق تعظيم وتقدير رسول رب العالمين. جادوا بأموالهم في سبيل دينه ودعوته، جادوا بأنفسهم في سبيل الذب عنه.
تجود بالنفس إذا ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود
كان الشيخ الهرم الكهل الذي فني وذهبت قوته وأقبل ضعفه، وذهبت صحته وأقبل مرضه، كان يتمنى أن لو كان شاباً يقاتل ويناضل عن رسول الله : ((يا ليتني أكون فيها جذعاً)).
أيها المسلمون، لا توجد منةٌ لإنسان مهما بلغ مثل منّة الرسول على هذه الأمة، فما من بيت إلا ونالته من بركة هذا النبي الكريم أشياء وأشياء. رُئي الإمام أحمد رحمه الله في المنام بعد موته، فسُئل عن حاله؟ فقال: لولا هذا النبي الكريم لكنا مجوساً، قال ابن رجب رحمه الله:وهو كما قال، فإن أهل العراق لولا رسالة محمد كانوا مجوساً، وأهل الشام ومصر لولا رسالته لكانوا نصارى، وأهل جزيرة العرب لولا رسالته لكانوا مشركين عباد أوثان".
وكان أيوب السخيتاني وهو من كبار التابعين يبكي كثيراً ويقول:لولا هذا النبي لكنا كفاراً.
وهذا عبيدة بن عمرو المرادي يقول له محمد بن سيرين: إن عندنا من شعر رسول الله شيئاً من قِبل أنس بن مالك، فقال: لأن يكون عندي منه شعرة أحبُّ إلي من كل صفراء وبيضاء على ظهر الأرض، قال الذهبي رحمه الله: وهذا القول من عبيدة هو معيار كمال الحب، وهو أن يؤثر شعرة نبوية على كل ذهب وفضة بأيدي الناس. ومثل هذا يقول هذا الإمام بعد وفاة النبي بخمسين سنة. وقد كان ثابت البُناني إذا رأى أنس أخذ يده فقبلها، ويقول: يدٌ مست يد رسول الله.
لقد كان حب النبي في قلوب الأمة ينبعث حيوية ويبث نوراً عظيماً فيها، لقد كان حباً لأمره ونهيه، لقد كان حباً شرعياً، وصل بهم إلى أعلى درجات الإيمان. لقد كان خالد بن معدان قّلما يأوى إلى فراشه إلا وهو يذكر شوقه إلى رسول الله وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار ثم يسميهم، ويقول: هم أصلي وفصلي، وإليهم يحن قلبي، طال شوقي إليهم.
عباد الله، ليس الصحابة والتابعون فحسب هم الذين أحبوا النبي فلقد أحبه كل شيء بالمدينة، الجذع الذي يخطب النبي عليه، يحن إلى حديثه شوقاً، ويُظل يُسمع له حنيناً في المسجد وبكاء، فينزل إليه رسول الله ويُسكته كما يُسكت الإنسان طفله.
ثم هذا أحد، يصعده النبي عليه الصلاة والسلام ومعه ثلة من أصحابه، فيرجف بهم فيقول: ((أثبت أحد)) ، ثم يقول: ((هذا جبل يحب النبي )) , أنا وأنت بعيدون عن مثل هذه المشاعر والأحاسيس، إنه والله الحرمان. إن هذا الذي أدركه الصحابة وأدركه التابعون، تجاه النبي جهله مع كل أسف عوام الناس وخواصهم في هذه الأيام، فأصبحوا لا يعرفون قدر عظيم المنّة عليهم بمبعث رسول الله وفضله على آحادهم وأفرادهم، وأنهم به قد أُخرجوا من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الشقاء إلى السعادة، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن النار إلى الجنة فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ي?أُوْلِى ?لأَلْبَـ?بِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ ?للَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءايَـ?تِ ?للَّهِ مُبَيّنَـ?تٍ لّيُخْرِجَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ مِنَ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ [الطلاق:10، 11].
أيها المؤمنون، لقد كانت محبة الرسول والثناء عليه وشكره كان ذلك كله شعاراً خالط باطن الأمة. وكان دثاراً ترتديه الأمة والمؤمنون طيلة حياتهم. عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)) رواه البخاري. وفي رواية عنده أنه حلف على ذلك فقال: ((فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده)).
وبوّب عليه النووي بقوله:باب وجوب محبة رسول الله أكثر من الأهل والولد والناس أجمعين.
وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للنبي : لأنت يا رسول الله أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال: ((لا، والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسي)) فيقول عمر مباشرة: فإنك الآن والله أحب إليّ من نفسي، فقال: ((الآن يا عمر)) رواه البخاري.
فنسأل الله جل وتعالى أن يرزقنا حبه وحب نبيه وأن يحشرنا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. إن الله سبحانه وتعالى، يصلي على النبي ويصلي كذلك على عباده المؤمنين الصادقين، فليست صلاته سبحانه وتعالى مختصة بالنبي، لا وإنما هي أيضاً للمؤمنين. والدليل قول الله تبارك وتعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ ?لَّذِى يُصَلّى عَلَيْكُمْ وَمَلَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ وَكَانَ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب:41-43]. فالله عز وجل من فوق سبع سماوات يصلي على المؤمنين. وكذلك ملائكته تصلي على المؤمنين، قال أهل العلم: والصلاة من الله ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى عند الملائكة. حكاه البخاري عن أبي العالية.
فيا عباد الله، هل استشعرت يوماً من الدهر هذه القضية، وهو أن الله يثني على عبده المؤمن في الملأ الأعلى، وماذا أعظم من أن يثني الله على عبده في الملأ الأعلى، يثني عليه بماذا؟ يثني عليه بصفاته الحميدة، يثني عليه بإيمانه الصادق، يثني عليه بنشره للخير بين الناس، يثني عليه ببذل ماله ونفسه وروحه ووقته رخيصة في سبيل الدعوة ودفع حركة الإصلاح، واستكثاره من الأعمال الصالحة فيحبه جل وتعالى بسبب هذه الخصال وغيرها، فإذا أحب الله عبداً من عباده، أثنى عليه وصلى عليه في الملأ الأعلى، ونادى جبريل وقال له: إني قد أحببت فلاناً فأحِبّه فيحبه جبريل، ثم ينطلق جبريل فينادى في أهل السماء: إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه فتحبه الملائكة كلهم أجمعون، هناك، حيث ما من موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك ساجد أو راكع، هؤلاء كلهم يحبون فلاناً، فيوضع له القبول في السماء، فإذا وضع له القبول في السماء، نادى منادٍ على أهل الأرض: إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل الأرض، ويوضع له القبول في الأرض.
أخي المسلم، هل استشعرت هذه المعاني، هل سألت نفسك يوماً: هل أنا ممن أعطي اسمه لجبريل لكي ينادى بأهل السماء بأن الله قد أحب فلاناً فيحبك أهل السماء ويوضع لك القبول هناك ثم يوضع لك القبول هنا.
هل أنت ممن بلغت بصفاتك الحميدة وخصالك الطيبة وعملك الصالح وبذل نفسك للدعوة والخير ونشرها بين الناس والتحمل في سبيل ذلك، أن يثنى عليك في الملأ الأعلى، هذه وقفة.
الوقفة الثانية، هذا الذي وضع له القبول في السماء ثم وضع له القبول في الأرض، ما معنى أن القبول قد وضع له في الأرض؟ معناه: أن هذا الإنسان إذا تكلم سُمع له، وإذا وجّه قبل توجيهه ونصيحته. وغيره يتكلم نفس الكلام لكن لا يؤثر في الناس، السبب أن الأول قد كتب الله له القبول في الأرض، والقبول في قلوب الناس، والثاني لم يكتب له، وهذه مسألة، لا أملكها أنا ولا أنت، وهذه مسألة لا تشترى بالمال ولا تمنح من الدولة، وإنما هي منحة إلهية ربانية من فوق سبع سماوات.
الناس تقبل على فلان ولا تقبل على فلان. الناس تحب فلان ولا تحب فلان.
أيها المسلمون، إن من كان هذا شأنه، ممن كُتب له القبول في الأرض، بعد أن كتب له القبول في السماء، لا يضره كل من في الأرض، وإن كاد له أهل الأرض، وآذوه، وإن حوصر ووضع في بطن حوت في ظلمات البحر، لماذا؟ لأن الله معه، لأن الله يثني عليه بنفسه في الملأ الأعلى، لأن الله يحفظه ويرعاه.
فمن أثنى الله عليه، ووضع له القبول، فلا يخشى شيئاً، والله جل وتعالى لا يثني ولا يصلي إلا على من استقامت سريرته وعلانيته، واستوى ظاهره وباطنه، ولا يمكن أن يجعل الله القبول لإنسان حتى يُقبل هو بقلبه على مولاه.
أخي المسلم، إذا رأيت رجلاً أو عالماً أو داعية مقبولاً عند الناس، تلهج ألسنةُ الناس بذكره، يرددون كلامه، يسمعون بقلوبهم قبل آذانهم فثق بأن حبل هذا الرجل موصول بالله جل وتعالى، وأن هذا قد يكون ممن كتب الله له القبول في الأرض.
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
فنسأل الله جل وتعالى أن يجعلنا من أهل ذكره، الذين هم أهله وخاصته.
كما نسأله أن نكون من الذاكرين له قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم.
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا واجمع بها شعثنا.
اللهم صل على محمد...
(1/2899)
بيوت لا تدخلها الملائكة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, الملائكة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
2/3/1411
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- هجر الملائكة بيوتنا سبب في كثير من مشاكلنا. 2- البيوت التي لا تدخلها الملائكة. 3-
صلة الرحم والتحذير من القطيعة. 4- عقوق الوالدين والتحذير منه. 5- اقتناء الكلاب. 6-
أكل مال اليتيم والمستضعفين من العمال والخدم. 7- معاقرة الرائحة الكريهة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، كثير من الناس يشتكي من عدم استقرار الأوضاع في بيته، قلة في البركة، وعدم استقرار النفس في المنزل، بعض الناس يقضي كثيراً من الوقت خارج البيت، هروباً منه، يحس بالضيق والانزعاج في منزله. ولهذا الانزعاج، وعدم الطمأنينة أسباب، ويمكننا التعرض لهذا الموضوع من عديد من الجوانب، لكن سأقف على جانب واحد منه، ربما تكون بقية الأمور مرتبطة بهذا الموضوع.
هذه القضية أيها الأخوة، والتي سببت الشكوى من البيوت، هو هجر الملائكة لبيوتنا.نعم، إن عدم دخول ملائكة الرحمة.الذين يطوفون بالرحمة والتبريك والاستغفار لبيوت المسلمين، لهو من أعظم الأسباب في شكوى كثير من الناس.من عدم الاستقرار والطمأنينة في البيوت.
وعندما نقول بهجر الملائكة لبيوتنا، فإننا نقصد ملائكة الرحمة، وإلاّ فإن ثمة ملائكة لا يخلو منهم بيت، كأولئك الذين لا يفارقون ابن آدم، لأنهم مأمورون بإحصاء أعمال بني آدم، وكتابتها.وكذلك ملائكة الموت.
فأقول أيها الإخوة، هل فكر أحد منا في هذه المسألة، هل طرأت هذه القضية في بيته، أو عندما يشتكي ولا تستقر نفسه في منزله، هل طرأ عليه، بأن هجر الملائكة لبيته من أعظم الأسباب في ذلك، ولعل هذه القضية ينقلها إلى صلب الموضوع الذي أريد أن أتكلم فيه.وهو ما هي الأسباب، وما هي الأمور التي لو حصلت في بيت المسلم، خرجت الملائكة منها، ما هي البيوت التي لا تدخلها الملائكة، من بيوت المسلمين؟. فنقول أولاً: بيت قاطع الرحم. اعلموا رحمكم الله، فإن الملائكة لا تتنزل على القوم فيهم قاطع الرحم أو ولقد تعهد ربنا سبحانه وتعالى، بوصل من وصل رحمه، وقطع من قطعها. فكن حريصاً أخي المسلم، إذا أردت أن لا تخرج الملائكة من بيتك، وأن تطمئن في منزلك، أن تصل رحمك، وتزور أهلك ورعيتك، وتتعهدهم بما يصل شئونهم، وتقضي لهم حاجاتهم، حتى تنال رضى ربك ورحمته، ودعاء الملائكة لك.عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الملائكة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم)).
إن صلة الرحم ـ أيها الأخوة ـ بين المسلمين. من الأسس التي يبني عليها الإسلام، لذلك نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ذلك فيقول: ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك)) ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرؤوا إن شئتم)) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:22، 23].
ويا أخي المسلم، يكفيك زاجراً أن قاطع الرحم تحرم عليه الجنة، فعن أبي موسى رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة)) ، وذكر منهم: ((قاطع رحم)). وروى مسلم في صحيحه، عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يدخل الجنة قاطع)). فانتبهوا رحمكم الله لأرحامكم، يا من تشكون من القلق في بيوتكم، فإن لقطع الأرحام سبباً في ذلك. والله المستعان.
البيت الثاني من البيوت التي لا تدخلها الملائكة والذي يكون بيته وبالاً وشقاء عليه، بيت العاق لوالديه.أيها المسلمون. إن ملائكة الرحمة، لا تدخل بيتاً ترتكب فيه كبيرة من الكبائر، وأي كبيرة أعظم من عقوق الوالدين، كيف تريدون أن يهنأ في بيته من يعق والديه، كيف تريدون أن يرتاح في منزله ولا يصيبه الشقاء والضنك من يعق والديه، ولطالما أوصى ربنا تبارك وتعالى بالوالدين خيراً، وَوَصَّيْنَا ?لإِنْسَـ?نَ بِوَالِدَيْهِ [العنكبوت:8]، وقد أوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات)) ، وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قلنا بلى يا رسول الله قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين)) ، وكان متكئاً فجلس، فقال: ((ألا وقول الزور وشهادة الزور)).
عليك ببر الوالدين كليهما وبر ذوي القربى وبر الأباعد
ولا تصبحن إلا تقياً مهذباً عفيفاً ذكياً منجزاً للمواعد
فيا أيها المضيع لآكد الحقوق، والمعتاض عن بر الوالدين العقوق، الناسي لما يجب عليه، الغافل عما بين يديه، بر الوالدين عليك دين وأنت تتعاطاه باتباع السنين، تطلب الجنة بزعمك، وهي تحت أقدام أمك، حملتك في بطنها تسعة أشهر كأنها تسع حجج، وكابدت على الوضع ما يذيب المهج، وأرضعتك من ثديها لبناً، وأطارت لأجلك وسناً، وغسلت بيدها عنك الأذى. وآثرتك على نفسها. وإن أصابك مرض أو شكاية أظهرت من الأسف فوق النهاية. ولو خيرت بين حياتك وموتها. لطلبت حياتك بأعلى صوتها. هذا وكم عاملتها بسوء الخلق مراراً، فدعت لك بالتوفيق سراً وجهاراً، فلما احتاجت عند الكبر إليك، جعلتها من أهون الأشياء عليك. فشبعتَ وهي جائعة. ورويت وهي ظامئة، وقدمت عليها أهلك وأولادك بالإحسان، وقابلت أياديها بالنسيان وصعب عليك أمرها وهو يسير، وطال عليك عمرها وهو قصير، وهجرتها ومالها سواك من نصير، هذا ومولاك قد نهاك عن التأفيف. وعاتبك في حقها بعتاب لطيف، ستعاقب في دنياك بعقوق البنين، وفي أخراك بالبعد من رب العالمين، يناديك بلسان التوبيخ والتهديد، ذ?لِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ ?للَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـ?مٍ لّلعَبِيدِ [الحج:10].
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله في الوالدين.فإن حقهما من أعظم الحقوق، وعقوقهما من أكبر الكبائر والآثام.واسمعوا رحمكم الله إلى نصيحة هذا الشاعر، حيث يوجه الأبناء تجاه والديهم فيقول:
قضى الله أن لا تعبدوا غيره حتما فيا ويح شخص غير خالقه أما
وأوصاكم بالوالدين فبالغوا ببرهما فالأجر في ذاك والرحما
فكم بذلا من رأفة ولطافة وكم منحا وقت احتياجك من نعما
وأمك كم باتت بثقلك تشتكي تواصل ومما شقها البؤس والغما
وفي الوضع كم قاست وعند ولادها مشقا يذيب الجلد واللحم والعظما
وكم سهرت وجدا عليك جنوبها وأكبادها لهفا بجمر الأسا تحمى
وكم غسلت عنك الأذى بيمينها حنواً وإشفاقاً وأكثرت الضما
فضيعتها لما أسنت جهالة وضقت بها ذرعا وذوقتها سما
وبت قرير العين ريان ناعما مكبا على اللذات لا تسمع اللوما
وأمك في جوع شديد وغربة تلين لها مما بها الصخرة الصما
أهذا جزاها بعد طول عنائها لأنت لذو جهل وأنت إذاً أعمى
اللهم إنا نسألك أن توفقنا في بر والدنيا وأن تجمعنا وإياهم في جناتك يا رب العالمين.
البيت الثالث من البيوت التي لا تدخلها الملائكة بيت فيه كلب. روى البخاري في صحيحه حديث أبي طلحة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة)) ، إن دين الإسلام دين نظافة وطهارة، والدين الكريم يرشدنا إلى أضرار اقتناء الكلاب ويحذر من لعابها وينهى عن اقتنائها إلا لفائدة مرجوه مثل وجوده في زراعة أو حراسة يقول الحافظ بن حجر رحمة الله تعالى: قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تدخل الملائكة بيتاً)) ظاهرة العموم أي جميع الملائكة وقيل: يستثنى من ذلك الحفظة فإنهم لا يفارقون الشخص في كل حالة، والمراد بالبيت المكان الذي يستقر فيه الشخص سواء كان بيتاً أو خيمة أو غير ذلك وقد ذكر العلماء أسباباً في امتناع الملائكة من دخول البيت الذي فيه الكلب، فقيل لكونها نجسة، وقيل لكونها من الشياطين، وقيل لأجل النجاسة التي تتعلق بها.
فاتقوا الله أيها المسلمون، حافظوا على بيوتكم، صونوها مما يبعد ملائكة الرحمة عنكم حتى لا تشقوا في بيوتكم وحتى لا ينقص أجركم فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث ابن عمر عند مسلم وغيره: ((من اتخذ كلباً إلا كلب زرع أو كلب صيد ينقص من أجره كل يوم قيراط)) وفي رواية أخرى عند مسلم: ((من اقتنى كلباً ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم)).
وبذلك يتضح أيها الأخوة أنه طالما لا توجد منفعة محققة لاقتناء الكلاب فيجب على المسلم ألا يدخلها بيته تقليداً لعادات الكفار حتى يفوز هو وأهل بيته بصحبة ملائكة الرحمة.
اللهم أرنا الحق حقاً.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب لواء الحمد يوم الدين صلى الله عليه وسلم، وبارك عليه وعلى آله وعلى أصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: وأما البيت الرابع من البيوت التي لا تدخلها الملائكة فهو بيت آكل مال اليتيم وآكل أموال الناس ظلماً وعدواناً.
اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن ملائكة الرحمة أبعد ما تكون من الرجل الذي يتعدى على أموال اليتامى والفقراء والمحتاجين، فيأكلها عليهم، لقد توعد الله عز وجل الذين يأكلون أموال الناس واليتامى ظلماً بعقابين، كل منهم أشد من الآخر، الأول: أنهم سيدخلون النار وبئس المصير قال الله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْو?لَ ?لْيَتَـ?مَى? ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء:10]، يقول بعض العلماء: أكل مال اليتيم مجلب لسوء الخاتمة، والعياذ بالله.
ولقد نبه الله تعالى على تأكد حق الأيتام والمساكين ومزيد الاعتناء بهم بقوله تعالى: وَلْيَخْشَ ?لَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَـ?فاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ?للَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9]، ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أكل أموال اليتامى واعتبر ذلك من المهلكات فعن أبي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)).
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ في أكل أموال ليست أموالكم، اتقوا الله أن يدخل جوفكم أموالاً لا تملكوها، فكل لحم نبت من حرام فالنار أولى به.
يامن حملكم الله عز وجل حقوق غيركم فاتقوا الله فيهم، جاءني رجل منذ أيام وهو من أهل هذا المسجد يشتكي صاحب العمل الذي يعمل عنده وصاحب العمل أيضاً من رواد هذا المسجد، وذكر لي قصته، وكيف أنه لا يعطيه حقه كاملاً وإذا ما طالب بحقه أو أحد العمال الآخرين هددهم بالخروج بلا عودة وأنا أعلم أن هذه القصة ليست الوحيدة فكثير ممن يستقدمون الأيدي العاملة إلا من رحم ربي لا يوفونهم حقهم، فاتقوا الله أيها المسلمون، يا من بأيديكم حقوق غيركم، انتبهوا واحذروا أكل أموال المساكين بغير حق، لا تتصور أنك تملك المحلات وتملك الأموال فالله عز وجل يغير حال الناس بلحظات، وما أحداث الكويت عنا ببعيد، ثم اعلم يا صاحب العمل أن المظلوم مستجاب الدعوة يقول عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة تستجاب دعوتهم الوالد والمسافر والمظلوم)) وورد في الحديث أيضاً أن دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه.
فكيف بك لو رفع هذا العامل إلى الله عز وجل ثم لقي دعاؤه باباً مفتوحاً في السماء، وافقت ساعة إجابة، فاتقوا الله يا من بأيدكم أموال غيركم، واعلموا بأن الدنيا لا تبقي لأحد، ووالله لن تأخذ معك من مالك إلا قيمة كفنك، تذكروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الراحمون يرحمهم الله تعالى)) ، ((ارحموا من في الارض يرحمكم من في السماء)).
البيت الخامس من البيوت التي لا تدخل الملائكة بيت فيه روائح كريهة.
فقد ورد في غير ما حديث بأن: ((الملائكة تتأذى بما يتأذى منه بنو آدم)). وفي رواية: ((تتأذى مما يتأذى منه الإنس)).
فكل رائحة كريهة تنفر الملائكة وتبعدهم، فكن حريصاً أخي المسلم أن يكون بيتك نظيفاً طيباً، وكذلك يجب أن تكون رائحتك طيبة حتى تصحبك الملائكة فلقد أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم بالتطيب ورغبنا فيه وحثنا عليه.
أيها المسلمون، كثير من الناس لا يبالي بهذه القضية، تجد رائحة بيوتهم عفنة نتنة ومن أكثر الروائح التي يلوث بها المسلمون بها بيوتهم رائحة الدخان الخبيثة، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نقرب الثوم والبصل إلا بعد طبخها لما له من رائحة كريهة تتأذى منها الملائكة، فإن رائحة الدخان أشد أذى من رائحة الثوم والبصل فضلاً عن أن أكل الثوم والبصل لا ضرر فيه من الناحية الصحية بل فيهما فوائد كثيرة، بعكس الدخان الذي كله مضرة نسأل الله العافية.
ومما تتأذى منه الملائكة رائحة البول المنتقع فإن البول إذا ترك مدة في المنزل ظهرت منه رائحة خبيثة كريهة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ثم علل بقوله: ((إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه بول منتقع)).
عباد الله، إن البيوت لها حرمة في دين الإسلام، وهناك الكثير والكثير من الآداب الشرعية التي تنقصنا معرفتها تجاه منازلنا، ولعل ما ذكرته لكم طرفاً منها فاتقوا الله عباد الله وانتبهوا لما سمعتم، فإن مفارقة الملائكة لبيوت المسلمين يعتبر شقاء على أهله ومصاحبة الملائكة للإنسان من أجلِّ نعم ورحمة الله عز وجل على عباده.
وللحديث بقية لعلنا نكملها في المرات القادمة إن شاء الله تعالى.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه..
اللهم إنا نسألك رحمة..
(1/2900)
شرح حديث كيف أنت يا عبد الله
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
30/10/1415
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نص الحديث. 2- كثرة الحثالة في آخر الزمان. 3- ماذا يصنع المسلم إذا فشت المنكرات وكثرت الحثالة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: بين فترة وأخرى، نختار حديثاً من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ونقف عنده، وسبق أن ذكرنا، بأن كل حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم يناسب أن يكون موضوع خطبة أو محاضرة أو درس يقدم للناس. فمن كلامه يمكن أن يتعرف الناس على واقعهم، ومقدار القرب والبعد عما يريده الله منهم.
حديثنا، هذا اليوم، هو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في مسند الإمام أحمد وبسند صحيح، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف أنت إذا بقيت في حثالة الناس؟)) قال: قلت: يا رسول الله، كيف ذلك؟ قال: ((إذا مَرِجت عهودهم وأماناتهم، وكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه)) ، قال قلت: ما أصنع عند ذاك يا رسول الله؟ قال: ((اتق الله عز وجل وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بخاصتك وإياك وعوامهم)).
ومن عجيب فقه الإمام البخاري رحمه الله تعالى أنه أورد هذا الحديث تعليقاً في كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره.
ورواية الإمام أبي داود في كتاب الملاحم.
قال: ((كيف بكم وبزمان، أو يوشك أن يأتي زمان، يغربل الناس فيه غربلة، تبقى حثالة من الناس. قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه)) ، فقالوا: كيف بنا يا رسول الله، فقال: ((تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم وتذرون أمر عامتكم)).
وفي رواية: قال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة فقال: ((إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا)) ، وشبك بين أصابعه، قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فِداك؟ قال: ((الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة)).
أول نقطة في هذا الحديث العظيم، ينبغي الوقوف عنده: قوله: ((كيف أنت إذا بقيت في حثالة من الناس؟)).
الحثالة: هي التي في آخر الإناء.
والحثالة: هو الرديء من كل شيء، فحثالة التمر هو أردؤه، وما لا خير فيه. وكذلك الحثالة من الناس، هم أراذل الناس وشرارهم وسفلتهم، وهم الذين لا خير فيهم.
نعم أيها الأحبة، إن فئة من الناس قد يصلون، إلى هذا الأمر، الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، حثالة من الناس. ولا أظنك أخي المسلم، محتاج إلى كبير جهد، لكي تجد بعض أفراد هذا الصنف من الناس، ومع كل أسف، فإن هذه الحثالة بدأت تنمو، وتزداد، وتتكاثر، حثالة في كل طبقة.وحثالة في كل ناحية، هذه الحثالة لا يهمها أمر الناس، لا يهمها إصلاح وضع، ولا يهمها إزالة خطأ، ولا يهمها نشر وعي وخير بين الناس، لأنهم حثالة، يعيشون لبطونهم، ويعيشون لشهواتهم ولا يهمهم إلا أنفسهم، المهم أن يبقى ويأكل ويشبع ويجمع وما سوى ذلك، فليس في تفكيره، كم أيها الأحبة ممن نعرف وممن لا نعرف بهذه الصفة. لا تهتم الواقع، ولا يؤلمها آلام الغير، ولا تكترث لأحد، ينام ملء عينه، ويأكل ملء بطنه، ويضحك ملء فمه، وبعد ذلك فليحصل ما يحصل إذا كثر هذا الصنف من الناس في مجتمع أو بلد أو أمة، فإن هذا مؤذن بخطر المسلم، لا ينبغي له أن يعيش لنفسه فحسب، فهذه عيشة الحيوانات والبهائم.
الأصل في المسلم، أن يعيش لغيره، لأنه لا ينظر فقط إلا عمر هذه الحياة الدنيا بل هو يعتقد بأمور وقضايا وراء هذا العالم المحسوس.الحثالة من الناس هم الذين يعيشون لأنفسهم ولا يفكرون إلا في ذواتهم لا يهمهم لو زاد المنكر، ولا يهمهم كذلك لو نقص الخير، لا يحزنون لو مات عالم، ولا يفرحون لو ولد عالم، الحثالة من الناس لا يتفاعلون مع أحداث الأمة، لا يقلقون لتغريب، ولا ينزعجون بتطبيع، فاحذر أخي المسلم أن تكون من هذه الحثالة، فإنك ما خلقت لتكون حثالة، وما أصبحت مسلماً وانتسبت إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم لتكون من حثالة الناس، بل الذي يطلبه منك الإسلام، أن تنظف المجتمع من الحثالة، لا أن تبقى معها، وتسير في ركابها.
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من حال هذه الحثالة فقال: ((قد مرجت عهودهم وأماناتهم ـ أي اختلفت وفسدت ـ، لا عهد لهم ولا أمانة)).
وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم الحال الذي يصل إليه الناس إذا فسد العهد، وفسدت الأمانة، بالاضطراب والتشابك وتعقد الأمور، فشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه لكي يعطي تصوراً للواقع الذي تصل إليه الأمة، وأي سوء لواقع ولوضع لا يعرف فيه الأمين من الخائن، ولا يعرف البر من الفاجر، ولا الصالح من الكالح، أي مصيبة لوضع، تكثير فيه الخيانات، وتضعف فيه العهود على مختلف الطبقات والمستويات ويكثر فيه القيل والقال، يصل الحال إلى حد التشابك، التشابك في التصورات، والتشابك في الرؤية، والتشابك في معرفة العلاج لكثير من صور الخيانات ونقض العهود كيف يكون حال الأمة إذا أصبحت الخيانة هي السلعة الرائجة، وكيف حال مجتمع، يقدم فيه الخائن، ويؤخر الأمين.
حقاً: إنها لمأساة، ما أسوأه من حال، وما أفسده من وضع، ولهذا خاف الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن يدرك ذلك الوضع، وحُق له أن يخاف، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المخرج والحل، وماذا يصنع عند ذاك. وفي رواية قال: فقمت إليه فقلت: (كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟) وهذا هو المطلوب من المسلم، أن يسأل أهل العلم، وأن يأخذ بآراء أهل الخبرة والفقه في الأمور، وأن يلجأ إلى العلماء في حال الفتن، واشتباك الأمور، ولا ينفرد هو برأيه وعقله.فماذا كان العلاج النبوي لذلك الصحابي الجليل حول مرج العهود والأمانات والتشابك والاضطراب في حال الناس.
قال صلى الله عليه وسلم: ((اتق الله عز وجل وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بخاصتك وإياك وعوامهم)) ، إن هذه الوصفة النبوية، اشتملت على خمس فقرات، كل فقرة، تحتاج إلى خطبة مستقلة.
فأولاً: قال: اتق الله عز وجل.
والتقوى في مثل هذه الحالات هي العاصم بأمر الله عز وجل، التقوى: وصية الله للأولين والآخرين، وهل تظن أخي المسلم، أن من يحمل التقوى، تختلط عهودهم، هل من يحمل التقوى تحصل منه خيانة، لنفسه أو لدينه، أو لبلده، التقوى ليست كلمات تردد، ولا تسابيح تعد. التقوى أخي المسلم أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
التقوى هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل.
التقوى هي العاصم إذا تداعت الخطوب وادلهمت الأمور، وضاقت المسالك: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً [الطلاق:2]، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4]، إذا اشتبكت الأمور بالتقوى هي الفرقان يِـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ?للَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29].
ثم قال صلى الله عليه وسلم بعدما أكد على مسألة التقوى قال: خذ ما تعرف ودع ما تنكر. نعم خذ ما تعرف، والذي لا تعرف أو فيه شك فهذا دعه.
ما هي مشكلة الأمة الآن من حثالة الناس، المشكلة أن هذه الحثالة لا تتورع فيما تأخذ، ولا تتقي الله فيما تأخذ، هدفها الأخذ، شيء من الحلال، والباقي والغالب نسأل الله العافية من الحرام.
وهذا أخي المسلم، أحد النتائج المترتبة على المجتمع الذي قد اختلط وفسد فيه عهود الناس وأماناتهم، إذا قَلّت الأمانة عند الناس، أو انعدمت عند البعض الآخر، فإنه لا يتورع حينئذٍ فيما تأخذ وفيما تدع، كم في المجتمعات من أبرياء ومساكين، يشتكون أنهم قد سلبت حقوقهم، وأخذت أموالهم.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى خذوا ما تعرفون، ودعوا ما تنكرون، وإياكم ثم إياكم من مواطن الشبهات، والقضايا المشكوك فيها، وما أكثرها في هذا الزمان، فكل لحم من السحت فالنار أولى به.
وأغلب الناس إنما يؤتون من باب المشتبهات وهي القضايا والأمور التي لا يتضح فيها الحلال من الحرام.ولهذا جاء التحذير النبوي من الخوض في مثل هذه الأمور ففيما رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)).
اعلم كذلك أخي المسلم، بأن ما تأخذ وما تدع لا ينحصر في الأمور المادية، فحسب، بل كن على حذر حتى في القضايا والأمور المعنوية فلا تأخذ إلا ما تعرف ودع ما تنكر، بل ينبغي الحذر فيها أكثر من الحذر في الماديات في بعض الأحيان.
فلا تأخذ من الأخلاق والأفكار والتصورات والمعاني إلا ما تعرف أنه من شريعة رب العالمين، وما سواه فدعه لأنه منكر.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: ختم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصف العلاج لعبد الله بن عمرو بن العاص حال تشابك الأوضاع، واضطراب الأمور، وكثرة الفتن بقوله: ((وعليك بخاصتك وإياك وعوامهم)) وفي رواية: ((وعليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمر العامة)). وهذا كلام بليغ شامل دقيق من المصطفى صلى الله عليه وسلم يمكنك أخي المسلم أن تلحظ من خلاله عدة إشارات:
الإشارة الأولى: إنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن الأمة كلها أو أن المجتمع بأسره، يحصل له التشابك والاضطراب، وأن وصف الحثالة ينسحب على الجميع، هذا لا يمكن أبداً، هذا يفهم من قوله: ((وعليك بخاصتك)).
إذاً هناك بقية من أهل الخير والهدى يدعون إلى الأمر الأول الذي كان عليه عبد الله بن عمرو بن العاص، وهذه الثلة، هم الذين يقاومون الحثالة في كل مجتمع وينهون عن الفساد في الأرض، وفي مثل هؤلاء، جاء التوجيه النبوي لذلك الصحابي ولنا أيضاً، أن نقبل على هؤلاء الخاصة ونذر أمر العامة حال التشابك وحال الفتن، وحال اضطراب الأمور والأوضاع ثم من الذين يحددون لنا ما نأخذ وما ندع، هم هؤلاء الخاصة، الذين أرشد النبي صلى الله عليه وسلم راوي الحديث بأن يقبل عليهم، وأن يكون معهم، ويلتفت حولهم، ويسير في ركابهم بقوله: ((وعليك بخاصتك)).
الإشارة الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بأن هناك خاصة، فهناك خاصة للمؤمنين، وهناك خاصة لطلبة العلم، وهناك خاصة للدعاة، وهناك خاصة لأهل الخير والاستقامة كما أن هناك خاصة لأهل الشر والفساد، وهناك خاصة للمجرمين وهكذا، لكن كما تلاحظ في الحديث بأن توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص أن يكون قريباً من الصنف الأول، وهم الخاصة من المؤمنين، والخاصة من أهل الدين والعلم والدعوة والخير والهدى، لكي ينتفع بعلمهم، ولكي يزداد إيماناً بالجلوس معهم، ولكي يعينوه على نفسه حال تشابك الأمور، واضطراب الأوضاع وكثرة الفتن.
إن هؤلاء الخاصة هم الذين يقيمون الحجة على العالمين.
إن هؤلاء الخاصة، يجدون من الروح والسعادة والإيمان مالا يجده غيرهم.
إن هؤلاء الخاصة الذين أرشد النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله أن يقبل عليهم هم زبدة أهل الأرض، وهم طيبها، وهم مصدر الخير والبركة والأمن، وأما العوام فهم تبع لهم.
ثم إن هؤلاء الخاصة وإن كانوا قلة في عددهم لكنهم كثرة بإيمانهم وبإخلاصهم وصدقهم ودعوهم قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِئَايَـ?تِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].
الإشارة الثالثة: ((ودع عنك أمر العامة)). فليس كل ما عند العامة صحيح وصواب ولا تنخدع بالكثرة، فإن الصواب يعرف من الكتاب والسنة، لا مما عليه العامة، وبهذا تعلم فساد بعض الاصطلاحات الشائعة عند الناس كقولهم: الموت مع الجماعة رحمة، أو إذا كان كل الناس وكل المجتمع وكل البلد أو كل الأهل يفعلون كذا فأنا واحد منهم، هذا ليس بصواب، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ودع عنك أمر العامة)).
وفي المقابل جاء التوجيه بالإقبال على الخاصة.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا...
(1/2901)
علاقة المسلم مع جيرانه
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
18/2/1414
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أنواع الجيران. 2- وصاة النبي بالجار. 3- رعاية الجار والتحذير من أذيته. 4- مفارقات عجيبة في بني الإنسان ونظرة في هدي النبي. 5- الإحسان إلى الجار الكافر. 6- استطراد في حاجة المسلمين إلى الجهاد. 7- ذكر بعض حقوق الجار. 8- بعض أحوال السلف مع الجيران.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: قال الله تعالى: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً وَبِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْجَارِ ذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْجَارِ ?لْجُنُبِ وَ?لصَّـ?حِبِ بِ?لجَنْبِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُكُمْ [النساء:36].
يأمر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة بالإحسان إلى الجار، الجار ذي القربى والجار الجُنُب.
وَ?لْجَارِ ذِى ?لْقُرْبَى? هو الذي يجمعك به مع الجوار آصرة النسب أو الدين، والجار الجُنُب هو الذي لا يجمعك به صلة من نسب أو دين، فكل من جاورك بالسكن فله عليك حقٌ، وهو الجوار.الذي نفقده كثيراً في زماننا هذا، وذلك بسبب طغيان الماديات عليها، والتي أثرت حتى على أخلاقنا، وسلوكنا، ومن بينها أخلاقيات الجار مع الجار، الذي نادى به الإسلام كثيراً من خلال توجيهات القرآن الكريم، ومن خلال كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)).
يا لها من منزلة كريمة عالية، يمنحها الإسلام للجار على لسان الروح الأمين جبريل عليه السلام، الذي ما فتئ يؤصِّلها ويؤكدها للرسول صلى الله عليه وسلم حتى حسب أنها سترفعه إلى درجة القرابة فتجعله وارثاً مثلهم.
وتبلغ بعد ذلك وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بالجار حداً من الأهمية والخطورة، يجعل الإحسان إليه: والتنزه عن أذاه علامة من علامات الإيمان بالله واليوم الآخر، ونتيجة حتمية من نتائجه الحسان، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره)) وفي رواية البخاري: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)).
الأذية محرمة بكل صورها وأشكالها، وهي مع الجار أشد، فلابد للمسلم أن يكون سمحاً مع الناس ومع جيرانه أكثر، حسن المعشر، لطيف المعاملة، لا يمنعه من الاستفادة حتى من بيته إذا احتاج الجار إلى شيء من ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره)).
تعهد جيرانك أخي المسلم خصوصاً المعسرين منهم من ذوي الحاجات، فلا يخلو حي من بعض البيوت الفقيرة، التي لا تملك ما يكفيها، تشتاق نفوسها ونفوس أولادهم الصغار، ما يشمونه من روائح الأطعمة الطيبة ممن حولهم من البيوت، وهم غير قادرين على تحصيله، وقد يكون من بينهم اليتيم البائس والأرملة المسكينة، والشيخ العاجز، خذ أخي المسلم بوصية المصطفى صلى الله عليه وسلم لأبي ذر كما في صحيح مسلم: ((يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)) وفي رواية: ((إذا طبخت مرقاً فأكثر ماءه ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف)).
لا تقل إن الناس اليوم بخير، والناس والحمد لله مستورو الحال، إن إحياء مثل هذه السنن والتواصي بمثل هذه الأخلاق، يحيي في المجتمع المسلم روح التواد والألفة، ويقرب الناس بعضهم إلى بعض، نخطئ نحن في هذه الأوقات، يمرض الجار ولا ندري عنه، يذهب ويسافر وربما يغيب أكثر من شهر ولا نشعر به، ولا نحس أن البيت المجاور يسكنه أحد أم لا، بل ربما مات الجار وصلي عليه ودفن في مقابر المسلمين ولا يعلم جاره بأن الجار قد توفي منذ فترة من الزمن، كل هذا أيها الإخوة وغيره، لأننا ابتعدنا عن تعاليم الدين في مثل هذه الأمور وغيرها.
المسلم أيها الإخوة، لابد أن يتأثر بجوع إخوانه المسلمين، سواء كان جاراً ملاصقاً جداره إلى جدارك، أو مسلماً ملاصقاً دولته لدولتك، أو أن يعيش في أي بقعة من العالم، فوق أي أرض وتحت أي سماء.
تعاليم الدين تأمرنا بالتأثر بجوع الآخرين، ومساعدة الآخرين، وإغاثة المنكوبين، ويجب علينا أن ننكر الأخلاقيات التي يتعامل بها الغرب مع البشر ومع الوجود الإنساني في كل مكان، في هذه القضية بالذات، وفي كل قضية بشكل عام.
أعلنت منظمة الأغذية والزراعة العالمية التابعة للأمم المتحدة، بأن هناك ما بين عشرين إلى مئة مليون شخص في أفريقيا وآسيا يواجهون احتمال الموت جوعاً، وهناك أماكن أخرى في العالم، يعاني فيها النوع الإنساني أوضاعاً من الجوع وخصوصاً المسلمين لا يعلم بها إلا الله.
وفي الوقت الذي يزحف فيه الجوع على آسيا وأفريقيا تجد العالم الآخر، عالم الغرب، عالم الأثرياء الذين يكونون 20 فقط من سكان العالم، ويستحوذون على 80 من الثروة العالمية يعمل أهله بجنون على الاحتفاظ بهذه الثروة. أحرقت البرازيل في عام 75م آلاف الأطنان من البن محافظة على مستوى سعره العالمي، ودفعت دول السوق الأوربية المشتركة خمسين مليون دولار لتدمير الأغذية والمنتوجات الزراعية الفائضة عن حاجتها لحفظ أسعارها مرتفعة. وتنفق أمريكا سنوياً، ثلاثة آلاف مليون دولار تعويضات على عدم إنتاج الأغذية لتبقى محتفظة بأسعارها العالمية، ويقتل المزارعون الأمريكيون عشرات الألوف من العجول ويدفنونها في الأرض محافظة على مستوى سعر اللحم في حين مات في العام نفسه عشرات الألوف من الجوع من أفريقيا وآسيا، بل وحتى في أمريكا الجنوبية.فأين منظمات حقوق الإنسان ـ زعموا ـ عن مثل هذه التصرفات البهيمية، أم أن هذه المنظمة لا يحترق قلبها إلا على الصومال لتجعل من نفسها وصية عليها.
فأقول: ما أبعد الفرق، وما بعد المسافة بين حضارة الإسلام للإنسانية والحضارة الغربية، فحضارتنا لم ترضَ للإنسان أن يتأذى بريح قدر جاره المثير لشهوة الطعام: ((يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)) قارن مع حضارة الغرب، بل حظيرة الغرب المادية التي تهدد ملايين الأنفس بالموت جوعاً.
فما أشقى الإنسانية اللاهثة وراء نظم المادية، شرقيها وغربيها، متخبطة في جاهلية، ظلمات بعضها فوق بعض.
نعود إلى موضوعنا، علاقة المسلم مع جاره. بعض الناس ـ وهذا من قصوره في العلم والفهم ـ تجده لا يحسن إلى جاره إذا كان غير مسلم، وهذا خطأ، لو كان جارك كافراً، فإن الإحسان إليه مطلوب، وأذيته محرمة، وهذا من سماحة دين الإسلام، والرسول عليه الصلاة والسلام، كان له جار يهودي وكان يعوده إذا مرض، وهذا عبد الله بن عمرو الصحابي الجليل تذبح له شاة، فيسأل غلامه، هل أهديت لجارنا اليهودي؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)).
ومن هنا كان أهل الكتاب يعيشون في جوار المسلمين، طوال القرون الماضية ومازالوا، آمنين مطمئنين على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، ومعتقداتهم، ينعمون بحسن الجوار وكرم المعاملة وحرية العقيدة، وكل هذا ليس بسبب ضعف أو خوف، بل قامت به الدولة الإسلامية حتى حين كانت أقوى دول العالم، في بعض فترات التاريخ، كان لأهل الذمة ولأهل الكتاب، حقوقهم محفوظة، وحسن المعاملة قائم. وهذا كما قلت ليس من جبن أو خور، لكن لأن تعاليم الدين هو الذي يأمرنا بهذا.
أما دين الكفار، وأما أخلاق الغرب، وأما نوايا دول أوربا وأمريكا، فإن لسان حالهم يخبرك عن واقعهم، إن ما تشهده أرض البلقان، في البوسنة، لأكبر شاهد على حقوق الجوار التي يعرفها الغرب، وعلى حقوق الإنسان الكاذبة التي ينادى بها.
إنهم لا يرضون لا بجوار المسلم، ولا بوجوده، ويسعون جادين لما يسمونه التطهير العرقي، أما عن جرائمهم على أرض فلسطين، فأكثر من أن تذكر وأوضح من أن يشار إليها.
_________
الخطبة الثانية
_________
اعلم أخي المسلم، بأن حق الجوار ليس بكف الأذى، بل باحتمال الأذى، تنزل عليك الأذية من جيرانك، فتحتملها، وتجعل مكانه خيراً يصيبهم منك، ابدأ أخي المسلم جارك بالسلام، وأَلِنْ له في الكلام، عُدْه إذا مرض، عزِّه في المصيبة، هنِّئه في الفرح، اصفح عن زلاته، ولا تطلع إلى داره، ولا تضايقه في وضع الخشب على جداره، ولا في صب الماء أمام بابه، ولا في طرح شيء في فنائه، ولا تسبقه بسيارتك إلى ظل جداره، ولا تتبعه النظر فيما يحمله إلى داره، واستر ما انكشف من عوراته، ولا تتكلم في حضرته ولا في غيابه، ولا تلق أذنك لتسمع كلامه، وغض بصرك عن زلاته، ولا تنظر إلى أهله وبناته، ولاحظ حوائج أهله في غيابه، إلى غير ذلك مما لا يخفى على مثلك.
أخي المسلم، إذا عرفت ذلك، فاعلم أن من توفيق الله جل وعلا بالإنسان وسعادته أن يكون جاره في بيته يشعر بالعطف واللطف عليه، والتقدير له والمحبة له، ومن قلة توفيقه أن يكون بين جيران يضمرون له الشر والعداوة ويدبرون له المكائد، فالشخص الذي بجانبه جيران سوء يعملون للإضرار به في نفسه أو ماله أو عرضه ويحوكون له العظائم والدواهي، مُنغّص عيشه لا يهنأ له بال، غير مرتاح، تجده قلقاً منهم، إن دخل أو خرج، تراه مقطب الوجه محزون النفس مكلوم الفؤاد، كل ذلك من جار السوء، إما من قِبل التسلط على أهله أو على أولاده، وإما بوضع أذية في طريقه أو بيته، أو بتعد على ملكه أو بتجسس عليه بدون مبرر وإما بنظر وتطلع عليه من نافذة أو باب أو سطح، وربما اضطر إلى بيع ملكه ومنزله من أجل جار السوء. كما قال ذلك الذي ابتلى بجار سوء.
يلومونني إن بعت بالرخص منزلي ولم يعلموا جاراً هناك ينغص
فقلت لهم كفوا الملام فإنما بجيرانها تغلو الديار وترخص
وقال آخر:
اطلب لنفسك جيراناً تُسر بهم لا يصلح الدار حتى يصلح الجار
أيها الأحبة في الله، كان السلف رحمهم الله يقدرون قيمة الجار، يروى أن إبراهيم بن حذيفة باع داره فلما أراد المشتري أن يُشهد عليه. قال: لست أشهد ولا أسلمها حتى يشتروا مني جوار سعيد بن العاص، وتزايدوا في الثمن قالوا: وهل رأيت أحداً يشتري جواراً أو يبيعه.
قال: ألا تشترون جوار من إن أسأت إليه أحسن، وإن جهلت عليه حلم، وإن أعسرت وهب، لا حاجة لي في بيعكم، ردوا عليّ داري فبلغ ذلك سعيد بن العاص، فبعث إليه بمئة ألف درهم.
وروى المدائني أنه باع جارٌ لفيروز دارَه بأربعة آلاف درهم فجيء بها فقال البائع: هذا ثمن داري فأين ثمن جاري؟ قال: ولجارك ثمن؟ قال لا أنقصه والله عن أربعة آلاف درهم، فبلغ ذلك فيروز فأرسل إليه بثمانية آلاف درهم وقال :هذا ثمن دارك وجارك والزم دارك لا تبعها.
فأين نحن من هؤلاء، لا نعرف قيمة الجار، ولا نراعى حقوق الجوار إلا من رحم الله، لو أوقف أحدنا سيارته بخطأ أو بغير خطأ قرب دار الجار ربما نزل بمطرقته على سيارة جاره، تأديباً له، كما بلغنا ذلك عن أحدهم.
قال علي بن أبي طالب للعباس: ما بقى من كرم إخوانك، قال الأفضال على الإخوان وترك أذى الجيران، ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((والله لا يؤمن والله لا يؤمن)) قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من لا يأمن جاره بوائقه، أي شروره وغوائله)).
وفي رواية مسلم: ((لا يدخل الجنة من لا يؤمن جاره بوائقه)).
فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من الذين يحسنون إلى جيرانهم وأن نتعاون معهم على البر والتقوى وأن يعرف كل منا حق جاره عليه وأن لا يؤاخذنا بتقصيرنا وتساهلنا وأن يتجاوز عنا أذيتنا لجيراننا إنه ولي ذلك والقادر عليه..
(1/2902)
خصائص هذه الأمة
الإيمان
الجن والشياطين
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن من تمام نعمة الله على البشرية أن ختم الديانات السابقة، بالحنفية السمحة، بملة الإسلام قال الله تعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].
وإن من تمام نعمة الله على أتباع هذا الدين، أنه عز وجل خص دينه بخصائص عظيمة جليلة، وأفرده سبحانه وتعالى بخيرات لم تكن في الأديان السابقة كاليهودية والنصرانية، نحب أن نقف مع شيء منها في جمعتنا هذه.
والمتأمل لهذه الخصائص يجد العجب العجاب من عظمة الإسلام وبهائه ورونقه وسموه، مما لا تزيد المسلم إلا تمسكاً بها، وارتباطاً واعتزازاً أيما اعتزاز.
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
أيها المسلمون، ومما لابد من معرفته في هذا الصدد، أن ما أصاب المسلمين من ذل وهوان ومسكنة، إنما سببه هو الابتعاد عن الدين، وأننا قد قلبنا له ظهر المِجن واستبدلناه بنفايات الغرب، حثالة أفكار المشركين وزبالتهم، التي لم تزدنا إلا ضعفاً، وقد نجح الغزو الفكري النصراني، بالتأثير على الكثرة الكاثرة من المسلمين، وأدى ذلك إلى انسلاخهم عن الإسلام.
وآثار هذا الغزو الفكري القبيح، أشهر من أن تذكر، وحسبك من ذلك أنك تجد أكثر شبابنا وأبناء جلدتنا الذين يتكلمون بألسنتنا، قد أقبلوا بوجوههم شطر الحضارة الغربية، بل قُلْ الحظيرة الغربية، وأشرأبت أعناقهم إليها، وتاقت نفوسهم إلى الانكباب عليها، ساعدهم في ذلك هوى متبع، وجهل عميق بالإسلام، وثمن بخس زهيد في طلب متاع الدنيا الفانية، الذي باعوا به عزتهم وكرامتهم وأمتهم.
ومع الأسف الشديد، فإن طلائع هذا الغزو وصل إلى مناهج التعليم في البلاد الإسلامية، وبدأ هذا الأخطبوط في مد أذرعه إلى هذا المعقل الحصين، فأفسد وأتلف، ويجب على الأمة الإسلامية وهي مسئولة ومحاسبة على ذلك عند الله سبحانه، أن تحفظ هذا المعقل من السقوط والتردي وأن تبرز للمسلمين حقيقة الإسلام وخصائصه، وكم هو غنيٌ بالحقائق والخصائص.
أيها المسلمون، ومع كل هذا المكر وهذا الكيد، فإن الله عز وجل حافظ دينه، ومعلٍ كلمته، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
وإن المتأمل في بعض خصائص هذه الأمة، يجد الروح والاطمئنان، وهذا هو المطلوب عند التعرض لبعض هذه السمات.
فأول سمات هذه الأمة، الخيرية قال الله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110].
فهذه الأمة، هي خير الأمم، وأكرم الأمم قاطبة عند الله عز وجل، كما جاء في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعاً: ((إنكم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله)) وفي رواية: ((نُكمل يوم القيامة سبعين أمة، نحن آخرها وخيرها)) فالله عز وجل، قد أكرمنا وجعل أمة محمد خير الأمم، خير الأمم في أعمالها، خير الأمم في أخلاقها، في منازلها في الجنة، في مقامها في الموقف، وهذه الخيرية ما جاءت إلا عن طريق الدين والشرع، فلأن دين هذه الأمة وشريعتها، أكمل الشرائع، اكتسبت هذه الأمة هذه الخيرية.
فلهذا لا غرابة من محاولة أعداء الدين من الخارج وأذنابهم العلمانيين من الداخل، أن يضعفوا تمسك الناس بالشريعة، عن طريق بث سمومهم وزبالة أفكارهم.
ثم إن خيرية هذه الأمة جاءت مِن تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ. فاكتساب الأمة للخيرية، لأنها أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكلما قوي هذا الجانب في الأمة، وحرصت الأمة على زيادة ودعم هذا الأمر، زاد ذلك وقوى من خيريتها على باقي الأمم، لكن إذا فرطت الأمة في الأمر بالمعروف وفرطت في النهي عن المنكر، حتى أدى ذلك إلى انتشار الرذيلة، وتفشي الأخلاق السيئة، فأين الخيرية على من سواهم. إذا صارت شوارعنا ومناهجنا وإعلامنا وأسواقنا وأخلاقنا واقتصادنا، كله يستقي من نتن الغرب والشرق. فأين الخيرية إذن.
ولهذا يعلم المنافقون والعلمانيون الذين يندسون في صفوفنا، يعلمون جيداً، بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا مارس دوره الطبيعي، وبشيء من الحرية، فإنهم يعلمون جيداً أنه لا مُقام لهم في هذه الأرض، ولهذا يسعون جادين في التضييق على أصحابها، بكل سبل التضييق وسحب صلاحياتها، كل هذا من جانب، ومن جانب آخر، يترأسون هم الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.
فخيرية هذه الأمة، بدينها وشرعها، وإلا لو تساوينا معهم في المعصية، لكانت الغلبة لهم علينا بالقوة المادية.
أيها المسلمون، ومن سمات هذه الأمة، أنها أمة الغيث، كما وصفها وشبهها الرسول بالمطر الذي ينتفع به الناس، قال عليه الصلاة والسلام من حديث أنس عن الترمذي وغيره: ((ومثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خيرٌ أم آخره)) فهذه الأمة، أمة الغيث لا يدري أوله خير أم آخره، لأن الغيث كله خير، وفي كله خير، في أوله وفي وسطه وفي آخره، فكل نوبة من نوبات المطر لها فائدة في النماء، لا يمكن إنكارها والحكم بعدم نفعها، بل إن كل حبة من حبات المطر له فائدته، فكذلك هذه الأمة، كل فرد من أفراد هذه الأمة ينفع، وكل إنسان بمقدوره أن يقدم الكثير لأمته ولدينه، لكن المشكلة أن هذا الشعود مفقود بين الناس اليوم، كل يقول: أنا فرد واحد، وأنا ضعيف الإمكانات، وماذا عساي أن أقدم، أمام قوى الشرق والغرب. ثم إني مشغول جداً بأعمال، ولديّ أطفال، وزوجة مريضة، وأنا الوحيد لوالديّ، فما أن أنتهي من مشكلة إلا وتتبعها أخرى، فنقول لك أيها المسلم: مع وجود كل هذه الأمور فيك، ومع قلة إمكاناتك وضعفها، ومع وجود المشاكل عليك فأنت فرد في أمة الغيث ،وأنت أحد حبات المطر، وبإمكانك أن تقدم بل الكثير.
وسأضرب لك الآن بعض الأمثلة وبعض الأشياء التي يمكنك أن تقدمها للأمة، لكن أولاً: لا بد من وجود هذا الشعور عندك، وأنك فرد مهم ولك دورك وبإمكانك أن تقدم.
فمقدورك أيها المسلم أن تقدم الدعاء، وهل يعجزك دعاء مخلص تطلقه في أي ساعة من ليل أو نهار مع وجود المشاكل عندك، ومع كثرة أعبائك وأولادك وأمراضك. لا أظن أن أحداً لا يمكن أن يقدم الدعاء للمسلمين، تدعو الله عز وجل بإخلاص وجد وحرص، أن يفرج همّ الأمة وأن ينقذها مما هي فيه. تخيل أن كل مسلم قدم هذا العمل، تخيل أن غالبية المسلمين رفعوا أيديهم إلى الله تعالى، وهم يجأرون إلى الله، بتضرع وتذلل، أن ينقذ المسلمين من اعتداءات الصرب النصارى مثلاً، أو من عدوان اليهود، أو من أية بلية حالة بالمسلمين.ألا يمكن أن يوجد في هذه الملايين من هو مستجاب الدعوة، فتلقى دعواته باباً مفتوحاً في السماء، فيكون فرج طائفة من المسلمين بسبب دعواته. يمكن هذا، لكن أين الأدعية المخلصة، ليل نهار. هذا عمل يمكنك أن تقدمه أيها المسلم.
عمل آخر، أن تكف نفسك عما حرّم الله، هذا عمل لو قدمه كل مسلم للأمة فكم من الخير سوف يعم، تخيل أن كل مسلم، وكل صاحب القدرات والإمكانيات كما يقول هو، تكفل لنا أن يحفظ نفسه عن فعل الحرام فهذا ترك الزنا، وذاك ترك شرب الخمر، والجميع ترك الكذب والغش والسرقة والاعتداء على الآخرين إلى غير ذلك مما حرم الله، كم تحصل الأمة، على خير لو كفّ كل مسلم شره عن الآخر.
هذا العمل، أتعجز ـ أيها المسلم ـ أن تقدمه لأمتك، هذا العمل ينفعك أنت أولاً، ولا يحملك وزره يوم القيامة، إضافة إلى الخير الذي سوف يعم، فمن الذي لا يستطيع أن يقدم هذا لدينه وأمته ولنفسه.
نريد منك أيها الأخ الكريم، أن تؤيد المسلمين في قضاياهم العامة، تقف في صف مصالح الأمة، ولا تقف ضدها، كما يقف الآن، عدد غير قليل من المنافقين والعلمانيين، لصالح أسيادهم من دول الغرب الكافرة، وهم يحسبون على هذه الأمة، ويُعَدُّون فينا في إحصائيات السكان، هل وأنت مشغول في قضاياك الخاصة وهمومك الداخلية، هل يمنعك هذا من أن تقف مع العلماء المخلصين، والدعاة الناصحين وهم يقدمون النصح للأمة، لا نريدك أن تفعل شيئاً إذا كنت تقول لا أقدر على شيء، فقط أيد كلام العلماء، وقف في صف الدعاة والمصلحين، ولا تقف ضدهم، فهذا عمل كبير فهذا عمل كبير يمكنك أن تقدمه للأمة.
فلو أفتى العلماء بحرمة التصالح مع اليهود، نريدك أيها المسلم الذي تقول عن نفسك أنك ضعيف أن تقف في صف هذه الفتوى، لا ضدها.
لو تكلم الدعاة وتحرك المصلحون، وقدموا عملاً طيباً للأمة، إما جمع تبرعات أو توزيع كتيبات، أو أي عمل آخر، لا نريدك أن تتبرع، نريدك أن تؤيد هذه الأفكار الطيبة وتشجع عليها، ولا تقف ضدها أو تعترض عليها، أو تشوش عليها، ولتبق بعد ذلك مشغولاً في همومك ومشاكلك الخاصة وأعمالك الخاصة.
فهل وعينا هذه القضية أيها الإخوة، فأنت أيها الأخ الكريم، قطرة من غيث هذه الأمة، وكل قطرة كما أسلفنا تنفع بإذن الله، وبمقدورك أن تقدم الكثير، ولو أن تشارك المسلمين بمشاعرك الطيبة. فلا تحتقر نفسك، ولا تنقص من قيمتك، فكونك مسلماً، هذه لوحدها، أكبر نعمة، وفائدة عظيمة جداً لك ولغيرك، فما بالك لو أضيف معها القليل من العمل لخدمة هذا الدين.
فنسأل الله عز وجل أن يستعملنا في طاعته، وأن يجعلنا جنوداً لخدمة دينه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول ما سمعتم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: روى مسلم في صحيحه قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الله تعالى إذا أراد رحمة بأمةٍ من عباده قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطاً وسلفاً بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي، فأهلكها وهو ينظر، فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره)). انظروا إلى رحمة الله جل وعزبنا ياأهل هذه الأمة. الأمم السابقة كانت إذا خالفت أمر الله، وخالفت وعصت الرسول الذي أرسل إليها. أهلكها الله عز وجل وعذبها ونبيها ينظر إليها، أما هذه الأمة، فمن رحمة الله بنا، أن قبض رسوله.
وانظر إلى المخالفات التي تخالفها هذه الأمة عما جاء به رسول الله ، مخالفات على مستوى الأفراد، مخالفات على مستوى الشعوب، ومخالفات على مستوى الدول، ومخالفات على مستوى الأمة.
إنه ما من نبي من الأنبياء إلا ورأى عذاب قومه بعينه أو حصل لهم عذاب وهو حي بين ظهرانيهم.
فنوح عليه السلام قد دعا على قومه قال تعالى: وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى ?لأَرْضِ مِنَ ?لْكَـ?فِرِينَ دَيَّاراً [نوح:26]، فاستجاب الله له فأهلكهم جميعاً وشمل الهلاك ابن نوح قال سبحانه: وَنَادَى? نُوحٌ ?بْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ ي?بُنَىَّ ?رْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ ?لْكَـ?فِرِينَ قَالَ سَاوِى إِلَى? جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ ?لْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ ?لْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ?للَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ?لْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ?لْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ ي?أَرْضُ ?بْلَعِى مَاءكِ وَي?سَمَاء أَقْلِعِى وَغِيضَ ?لْمَاء وَقُضِىَ ?لأمْرُ وَ?سْتَوَتْ عَلَى ?لْجُودِىّ وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ [هود:42-44]، وقال سبحانه عن قوم هود: فَأَنجَيْنَـ?هُ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ ?لَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَـ?تِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ [الأعراف:72]، وقال جل وعلا عن قوم صالح: فَأَخَذَتْهُمُ ?لرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَـ?ثِمِينَ فَتَوَلَّى? عَنْهُمْ وَقَالَ يَـ?قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ ?لنَّـ?صِحِينَ [الأعراف:78، 79].
وقال سبحانه عن قوم لوط: فَأَنجَيْنَـ?هُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ?مْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ?لْغَـ?بِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا فَ?نْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لْمُجْرِمِينَ [الأعراف:83، 84]، وقال تبارك وتعالى عن قوم شعيب: فَأَخَذَتْهُمُ ?لرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جَـ?ثِمِينَ [الأعراف:91].
أما هذه الأمة، فمن تمام رحمة الله بها أن قبض نبيها قبلها، فجعله لها فَرَطاً وسلفاً بين يديها. جاء ملك الجبال إلى الرسول ، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك ـ وذلك عندما لم يقبلوا دعوته ـ وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت؟ إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين؟ فقال له رسول الله : ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً)). قال الله تعالى: وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ?للَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]. قال ابن عباس كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره قال: "كان فيهم أمانان: النبيُ ، والاستغفار، فذهب النبي ، وبقي الاستغفار".
الرسول قبض، وكان هو الأمان الأول لهذه الأمة من أن يعذبها الله، وبقي الثاني معنا، ألا وهو الاستغفار. فلو قصرنا في هذا فنسأل الله السلامة والعافية.
فنسأل الله عز وجل، أن يوفق الأمة إلى الاستغفار مما هي واقعة فيه، أن تستغفر من ولائها لغير الله، أن تستغفر من الربا الذي ينخر في اقتصادها، أن تستغفر من التقريب الذي يهدد مجتمعاتها، أن تستغفر من الظلم الواقع في غالب أرضها. رفع الأسعار، وهضم الحقوق. إسكات القول الحق أن يظهر للناس، مطاردة الصالحين في كل مكان. وإلا فعذاب الله لا محالة. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا...
(1/2903)
{وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
4/2/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تأثر الصحابة بالقرآن وغفلة غيرهم عن تدبره وحكمه. 2- معنى قوله: وبدالهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون. 3- استهانة الكثيرين بما يقترفونه من ذنوب ومعاصي. 4- تزيين الشيطان قبائح الأعمال والخصال. 5- خوف السلف من مكر الله. 6- أمن الخلف وقلة فقههم.
_________
الخطبة الأولى
_________
كم نمر على آيات كتاب الله العظيم قراءةً وسماعاً ودراسةً ولكن من الذي يستفيد من هذه الآيات.
إن من الفوارق العظيمة بيننا وبين جيل الصحابة رضي الله عنهم، أنهم كانوا إذا قرؤوا القرآن تأثروا به، وظهر هذا التأثر في عباداتهم وسلوكهم وأخلاقهم وزهدهم في الدنيا وإقبالهم على الآخرة، بهذا التدبر لكتاب الله صار جيل الصحابة رضي الله عنهم، صار جيلهم مضرب مثلٍ للمجتمع المثالي، إنه مجتمع العزة، ومجتمع الخضوع لله لا لغيره، مجتمع المحبة الصادقة، مجتمع الوضوح والصدق في التعامل.
إننا أيها الأخوة في الله نقرأ القرآن ونمر على آيات كان بعض السلف إذا قرأها مكث أياماً في بيته يزار، من شدة ما يجد من أثر هذه الآيات، كانوا يجدون شيئاً نحن لانجده اليوم إلا ما شاء الله، كانوا يستشعرون أن هذا الكلام إنما هو كلام الله، ليس كلام بشر، يا حسرتى على قوم من المسلمين إذا عظموا أحداً من البشر الضعفاء حفظوا كلامه ولامست عباراته سويداء قلوبهم، وتزيد الحسرة وتعظم البلية إذا كان هذا الكلام صادراً من عدو من أعداء الله أو داعية من دعاة الفساد.
أيها المسلمون، آية في كتاب الله تعالى، شابت منها رؤوس الأتقياء، وخفقت عند قراءتها قلوب الأولياء، وعند النظر إلى رسمها في المصحف، ساحت دموع الخائفين، وعند سماعها ارتعشت أجسام المعظمين لله تعالى.
لقد خاطب نوح عليه السلام قومه فقال: مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً [نوح:13]؟! أليس من توقير الله أن يُوقر كلامه، وتُعَظَّم آياته؟ بلى والله، ولكن أين المتعظون؟ وأين المعظمون في زمن استحكم فيه حب الدنيا وكراهية الموت؟، في زمن كثر فيه لبس الحق بالباطل، واستشرفت الدنيا للخاطبين لها.
عباد الله، الآية التي أشرنا إليها والتي هي وقفتنا في هذه الجمعة، وما أشدها على المتقين قوله تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ?للَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47]، ما أشده من موقف، وما أعظمها من مفاجأة حينما يظهر للانسان شيء لم يحسب له حساباً، هذا في الدنيا فما بالكم يا عباد الله بالآخرة؟.
هذه الآية ـ أيها المؤمنون ـ كانت تشتد على الخائفين، لأنهم علموا أن من العباد من يبدو له شيء لم يتوقعه مطلقاً، قال بعض السلف: كم موقف خزي يوم القيامة لم يخطر على بالك قط، ونظير هذا قول الباري جل وعز: لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَـ?ذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ ?لْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22].
قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى عن قول الله: وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ?للَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ قال: عملوا أعمالاً وحسبوا أنها حسنات فإذا هي سيئات.
فيا أيها العبد المؤمن، ها أنت اليوم حي، وغيرك قد مات، وأنت اليوم تقرأ القرآن، وقد يأتي يوم يحال بينك وبينه، وأنت اليوم تستطيع المراجعة والمحاسبة، وغيرك لا يستطيع، هل فكرت في يوم من الأيام كيف سيكون موقفك يوم العرض على الله؟
أيها المسلمون، إن منّا من يغترّ بأنه مسلم، ومنّا من إذا صلى ظن أنه ناجٍ لا محالة، ولا يعبؤ بفعل الحرام ولا بترك الواجب، وإن هذا الأمن من مكر الله ليس من صفات المؤمنين المتقين فإنه لا يأمن من مكر الله الا القوم الخاسرون.
أيها الأحبة، إن منّا من يعمل الذنب ثم يحتقره ويستهين به، فيكون ذلك الذنب سبباً في هلاكه كما قال تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ ?للَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، يقول أنس رضي الله عنه كما في صحيح البخاري: (إنكم تعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله من الموبقات) رضي الله عنك يا أنس، تقول هذا لقوم فيهم الصحابي وفيهم التابعي، فكيف لو رأيت حالنا يا أنس! كيف لو رأيت حال المتساهلين بأمر الله وأمر رسوله ! كيف لو رأيت الراضين ببث السموم في بيوتهم من خلال أجهزة الإعلام، وعبر القنوات الفضائية التي يبث فيها الزنا الصريح، والعهر والدعارة، بل وهناك برامج لتعليم هذه الأشياء لأبناء الشعوب التي تبث عليهم، ناهيك عن الشرك والزندقة والكفر بالله والذي يعرض في بيوت المسلمين المصلين! كيف لو رأيت يا أنس من يمر عليه الأسبوع والشهر ولم يصل الفجر في جماعة ولا في وقتها؟ اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى أعمالنا يا أرحم الراحمين.
هذه بعض الذنوب وغيرها كثير يحتقره الإنسان ويستهين به ويكون هذا الذنب سبباً في هلاكه وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ ?للَّهِ عَظِيمٌ [النور:15].
فتحسب أن الجلوس أمام الشاشة الملونة هيناً، وهو عند الله عظيم. ويحسب بعض الأسر أن ما يحصل عندهم من الاختلاط الداخلي الخاص، خصوصاً بين زوجات الأبناء هيناً، وهو عند الله عظيم. وتحسب أن إسبالك لثوبك هيناً وهو عند الله عظيم. وتحسب أن راتبك كله حلال، وقد دخله أشياء وأشياء وهي عند الله عظيمة. ويحسب كثير من الأسر ممن اعتادوا السفر إلى الخارج في عطلة الصيف هروباً من حر ورطوبة المنطقة، ونقصد بالخارج دول الكفار، والتي كلام العلماء فيها واضح بالحرمة، فيحسب أن هذا هيناً وهو عند الله عظيم. وتحسب وتحسب، وتحسب أن هذه الذنوب هينة وقد تكون هي السبب في هلاكك نسأل الله العافية، قال الله تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ?للَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ.
أيها الإخوة في الله، إن أعظم ما يجب أن نخشاه إن كنا عقلاء أن نكون ممن زين له سوء عمله فرآه حسناً، قال الله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِ?لاْخْسَرِينَ أَعْمَـ?لاً ?لَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]، يقول سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: لما حضرت محمد بن المنكدر الوفاة جزع فدعوا له أبا حازم، فجاء، فقال له ابن المنكدر الذي ينتظر الموت: إن الله يقول: وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ?للَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ فأخاف أن يبدوا لي من الله ما لم أكن أحتسب، فجعلا يبكيان جميعاً، فقال أهل ابن المنكدر لأبي حازم: دعوناك لتخفف، عليه فزدته جزعاً.
أيها العبد المؤمن، احذر أن تعجبك نفسك، أو تعجبك طاعتك أو عبادتك أو استقامتك، فقد قيل لسليمان التيمي: أنت أنت، ومن مثلك؟ فقال: مه لا تقولوا هذا، لا أدري ما يبدو لي من الله، سمعت الله يقول: وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ?للَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُون. الله أكبر، ما أعظم هؤلاء الرجال، وما أعمق فقههم لآيات التنزيل، وما أحوجنا إلى الاقتداء بهم.
تشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في كتابه، والعمل بشرعه، إنه جواد كريم، بر رؤوف رحيم.
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة في الله، قال الله تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ?للَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ إن من الذين يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، قومٌ عملوا أعمالاً صالحة ولكن كانت عليهم مظالم فظنوا أن أعمالهم الصالحة ستنجيهم، فجاء الحساب فبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون، حيث اقتسم الغرماء حسناتهم كلها ثم أخذ من سيئات الغرماء فوضعت في موازينهم فطرحوا في النار، ثبت عن النبي أنه قال: ((أتدرون من المفلس؟ إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)).
فيا أيها المسلمون، الحذر الحذر أن نكون ممن إذا خلا بنفسه صنع ما شاء، فلا يبالي بعين الله التي ترقبه. فقد جاء في سنن ابن ماجه عن ثوبان عن النبي أنه قال: ((إنَّ من أمتي يجيء بأعمال أمثال الجبال فيجعلها الله هباءً منثوراً)) سبحان الله كيف تصير الأعمال الصالحة التي مثل الجبال هباءً منثوراً، ذكر النبي : ((أنهم قوم من جلدتكم ويتكلمون بألسنتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)).
أيها الإخوة المؤمنون، إن كنا مؤمنين حقاً فهيا بنا نطبق على أنفسنا ميزان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وما هذا الميزان؟ يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف ان يقع عليه وأن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه فقال به هكذا).
فاسأل نفسك ـ يا عبد الله ـ هل أنت من الذين يرون ذنوبهم كالجبال أم من الذين يرونها كالذباب.
أيها الإخوة المؤمنون، بإمكاننا اليوم أن نبدأ في فك القيود وإبراء الذمم وأداء حقوق الله وحقوق خلقه قبل أن يأتي اليوم الذي لاينفع فيه ندم ولافِداء قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى ?لأرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوء ?لْعَذَابِ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ?للَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ [الزمر:47، 48].
إن أملنا بالله كبير وهو الرحمن الرحيم أن يدرك المسلمون خطورة ذلك اليوم العظيم وكيف يظهر للعبد فيه أمور لم يحسب لها حساباً.
ولكن لا تكن كثرة ذنوبك ايها العبد عائقاً عن الاستقامة على الجادّة فان رحمة الله قريب من المحسنين.
ذنوبي إن فكرت فيها كثيرة ورحمة ربي من ذنوبي أوسع
وما طمعي في صالح قد عملته ولكنني في رحمة الله أطمع
اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة...
اللهم آت نفوسنا تقواها...
اللهم آمنا في أوطاننا...
(1/2904)
وجاء حر الصيف
موضوعات عامة
مخلوقات الله
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
26/1/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحر آية من آيات الله الكونية التي تستحق الوقوف والتأمل. 2- حر الدنيا وزمهريرها إنما هو من فيح جهنم. 3- خوف السلف من النار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، إن الزمان بليله ونهاره، وشهوره وأعوامه آية من آيات الله تبارك وتعالى التي نصبها للعباد ذكرى وموعظة، بما أهلك الله فيها من القرون، وما دمر من الأمم المكذبة لرسله المبتعدة عن سبيله وشرعه. وكم ضرب الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز من الأمثال، وذكر من الآيات لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرى، بالريح العقيم، والطوفان، والجراد والقمل، والضفادع، والدم، آيات مفصلات.
ومع ذلك كله فإن كثيراً من الناس لا يزيدهم تعاقب الليل والنهار، وتتابع الشهور والأعوام إلا بعداً وإعراضاً عن الله غرَّهم الإمهال، وخدعهم التسويف والأمل، وما أوجد الله على أيديهم من وسائل مخترعة لتحقيق السعادة والراحة الدنيوية، يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ?لآخِرَةِ هُمْ غَـ?فِلُونَ [الروم:7].
عباد الله، واشتداد الحر هذه الأيام من جملة الآيات الكونية التي يخوف الله تعالى بها العباد، ويخطئ كثيراً من الناس عندما ينسبون شدة الحر أو البرد للشمس أوالشهور ويقول: إن تأثيراً لها في خلق الله، بل هي خلق من خلق الله تعالى جعلها مواقيت للناس، ليعلموا عدد السنين والحساب، هُوَ ?لَّذِى جَعَلَ ?لشَّمْسَ ضِيَاء وَ?لْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ?لسّنِينَ وَ?لْحِسَابَ مَا خَلَقَ ?للَّهُ ذ?لِكَ إِلاَّ بِ?لْحَقّ يُفَصّلُ ?لآيَـ?تِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِى ?خْتِلَـ?فِ ?لَّيْلِ وَ?لنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ?للَّهُ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ لآيَـ?تٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس:5، 6].
أيها المسلمون، من أين يأتي هذا الحر؟ لعل كثيراً من المسلمين تخفى عليهم هذه الحقيقة التي أخبرنا عنها الصادق المصدوق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهي أن هذا الحر الذي نجده في الصيف إنما هو من فيح جهنم، أعاذنا الله وإياكم منها، وهذا يدل على أن جهنم مخلوقة الآن، وهي تنتظر سكانها، نسأل الله العافية. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير)) وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم)) وإذا كان هذا الحر الشديد الذي يعيقك أخي المسلم عن أشياء كثيرة إنما هو نفس أُذن لجهنم أن تتنفس، فكيف بجهنم نفسها وقد ذكر الله عنها ما ذكر كقوله تعالى: إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ [الملك:7]، إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الفرقان:12]، وعلى الذين يهربون من هذا الحر الدنيوي أن يفكروا بعقولهم، فمن الغباء أن يهرب الإنسان من الأخف إلى الأشد، وصدق الله جل جلاله إذ يقول: وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى ?لْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81].
إذاً، اشتداد الحر في هذه الحياة إنما هو من نَفَس النار، من شدة حرها، يخوف الله تعالى به عباده، ويذكر به من يتذكر ليتعظوا وينزجروا عما هم فيه من غفلة وإعراض عن الله تعالى. ولذلك عباد الله ترونه يختلف من سنة إلى أخرى، ومن عام إلى آخر، وكل ذلك بقدر بعد العباد عن الله أو قربهم منه سبحانه، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]. فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10، 12].
أيها المسلمون، ما عبد الله عز وجل بمثل الخوف منه، من عقابه وناره وغضبه. قال أبو سليمان الدراني رحمه الله: "أصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله عز وجل، وكل قلب ليس فيه خوف لله فهو قلب خرب".
ولقد حذر الله عباده من النار، وكرر الوعيد بها، وضرب لها من الأمثال في كتابه العزيز وعلى لسان رسوله الأمين صلوات الله وسلامه عليه ما تشيب منه الولدان، وتتقطع منه القلوب والأفئدة، ولكن أين المعتبرون؟ وأين الخائفون من الله حق خوفه؟.
هل انتبهت من نومها القلوب الغافلة؟ وهل ثابت إلى رشدها النفوس السادرة؟ أين الخوف من النار الذي أخاف الملائكة المقربين كما في قول الحق سبحانه وتعالى: وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَـ?هٌ مّن دُونِهِ فَذ?لِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:29]. وأين الخوف من النار الذي لحق الأنبياء والمرسلين في قوله تعالى: ذ?لِكَ مِمَّا أَوْحَى? إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ?لْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هًا ءاخَرَ فَتُلْقَى? فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا [الإسراء:39]. وأين الخوف من النار الذي أقضّ مضاجع الصالحين كَانُواْ قَلِيلاً مّن ?لَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِ?لأَسْحَـ?رِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17، 18]. تَتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16].
ما أنذر العباد رعاكم الله بشيء أشر من النار، النار موحشة، أهوالها عظيمة، وأخطارها جسيمة، وعذابها أبداً في مزيد، كلما خبت زادها الله سعيراً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوى فيها سبعين عاماً ما تقضي إلى قرارها)) ، قال عمر رضي الله عنه وهو راوي الحديث: (أكثروا ذكر النار، فإن حرها شديد، وقعرها بعيد، وإن مقامها حديد).
عباد الله، إن الناس كلهم حريصون على راحة أنفسهم وأهليهم، يوفرون لهم الوسائل الواقية من الحر والبرد، وإذا ما اشتدت عليهم سموم الحر رأيناهم يتنقلون إلى المصائف والمنتجعات الباردة في أنحاء العالم، وكم هو عظيم الأسى عندما نرى أكثرهم لا يقيم وزناً لنار جهنم، ولا يعمل على وقاية نفسه ومن تحت يده منها، والله عز وجل قد خاطب عباده المؤمنين وحذرهم منها بقوله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
وإن من علامات الشقاوة العمل للدنيا والإعراض عن الآخرة.
تفر من الهجير وتتقيه فهلاً من جهنم قد فررتا
أيها المسلمون، إن هذا الحر ابتلاء من الله عز وجل لعباده المؤمنين من جهة وعقوبة للعاصين من جهةٍ أخرى، وقد ابتلى الله المؤمنين بالحر في غزوة تبوك، وفيها نزلت الآية: وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى ?لْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81]، فقد حاول المنافقون أن يعتذروا عن ترك الجهاد في سبيل الله لشدة الحر فقال الله: وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى ?لْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81]، أما كون هذا الحر عقوبة، فهذا لا شك فيه عند من يفقه نصوص الكتاب والسنة، فإن الله عز وجل يعاقب عباده بأشياء كثيرة مما يكرهون، قال الله تعالى: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، وبعض الجهلة من المسلمين يقولون كيف يعاقبنا الله بهذا الجو الحار، ونحن مسلمون مقصرون، وكثير من الكفار ينعمون بالجو البارد والخضرة والماء ورغد العيش، وقد تولى الله عز وجل بيان هذه الشبهة وكشفها في قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى? أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـ?كِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء حَتَّى? إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَـ?هُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ ?لْقَوْمِ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ وَ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأنعام:42-45].
ومن مظاهر كون هذا الحر عقوبة ما يحصل من موت كثير من الزروع والأشجار وموت بعض الأسماك وتلف بعض الآلات وإزهاق كثير من المرضى ممن لا يتحملون شدة الحر، وفوق ذلك كله الأموال الطائلة التي تنفق وتصرف لمقاومة الحر الشديد، لا سيما في الكهرباء.
ولا شك أيها الإخوة أن هذا يوجب علينا جميعاً سرعة الرجوع إلى الله والتوبة من كل المنكرات، فإن هذا الحر نذير خطر، وإن الله يمهل ولا يهمل، قال تعالى: ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ?لَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
عباد الله، إن هذا الحر له غاية مهما طالت أيامه، فبعد الحر يأتي الجو البارد، وهكذا الدنيا لا يدوم لها حال، وهذا أعظم تنبيه للمسلم كي يدرك أن الشيء لا يدوم في هذه الدنيا، فالدنيا حر وبرد، غنى وفقر، قوة وضعف، عز وذل، صحة ومرض، حياة وموت، ضيق وفرج، وفي هذا تنبيه للظالم أن ينتظر دوران الدائرة عليه، وتسلية للمكروب المبتلى الذي ينتظر فرج الله، وكثير من المسلمين اليوم في بقاع شتى يعيشون ظلماً واضطهاداً ولا يعلم مداه إلا الله، فلهم بشرى فإن الحال لا تدوم.
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
نفعني الله وإياكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: ومع حر الصيف يعاني الفقراء والمساكين معاناة عظيمة وأنت ـ يا عبد الله ـ تنعم بالهواء البارد في بيتك ومكتبك وسيارتك، يعيش بعض جيرانك أو القريبون منك تحت سموم الحر والفواتير الحمراء تلوح في أيديهم ليس لهم إلا الله عز وجل، فكيف يهنأ المسلم برغد العيش وكثير من إخوانه على هذه الحال، ولعل مما ندفع به سخط الله عنا أن نكثر من الصدقة لهؤلاء الفقراء.
وعلى جميع المسلمين أن يتقوا الله تعالى في إخراج الزكاة، فمن الملاحظ أن بعض التجار يفرطون في إخراج الزكاة إما بمنعها بالكلية أو بمنع بعضها أو بالتحايل في دفعها، وهذا مع كونه ذنباً عظيماً يوجب غضب الله، فإن الذي يذوق مررارته هم إخواننا المحتاجون الذين ابتلاهم الله بالفقر لا سيما الأيتام والأرامل وأصحاب الأعذار.
عباد الله، تصوروا لو انقطعت الكهرباء في هذه الأجواء وفي مثل هذه الأيام التي تصل فيها درجة الحرارة إلى الخمسين، فهل أدركنا نعمة الكهرباء أولاً، ثم إن الأصوات التي تدعو إلى الاقتصاد في الكهرباء أصوات ناصحة ولها مدخل شرعي لأن الإسراف مذموم، ولكن اعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أن خير ما تحفظ به نعمة الكهرباء، إنما هو طاعة الله والكف عن معصيته. فهل من شكر نعمة الكهرباء أن تستخدمها في الحرام؟ هل من شكر نعمة الكهرباء أن نشغل بها الدشوش والأجهزة المحرمة، وأن نسخر هذه النعمة في معصيته، وكيف يشكر النعمة مسلم جلس في غرفة مكيفة ينظر إلى محرم ويستمع إلى الحرام ويلوك بلسانه الحرام. نسأل الله الهداية للجميع..
وأخيراً ـ يا عبد الله ـ إنك ضعيف، جسمك ضعيف لا تغتر ببعض القوة والصحة التي تمر بها، لو أصابك فقط مرض الأنفلونزا لسقطت طريح الفراش لأيام، فأنت ضعيف لا تتحمل الحر ولا تستطيع أن تعيش في الحر. هل فكرت في نفسك إذا وضعت في قبرك وأهالوا عليك التراب ثم ردت عليك روحك وجاءك الحر الحقيقي هناك، وربما دخل عليك شيء من لفيح جهنم فماذا تفعل؟ لا نتحمل بعض الحر في الدنيا، فكيف بحرّ وضم وعذاب القبر؟ ثم هل فكرت إذا أصابك لفح الحر هنا في الدنيا أرض المحشر؟ والشمس ارتفاعها من رأسك قدر ميل، والخلائق يحطم بعضهم بعضاً، وهم يسبحون في عرقهم حسب أعمالهم، فمنهم من عرقه يصل إلى ركبتيه، ومنهم عرقه يصل إلى حقويه، ومنهم عرقه يصل إلى أذنيه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً. أين ذلك الحر مما لا نتحمله هنا في الدنيا، فأنت أنت ضعيف يا عبد الله، انتبه لنفسك واعمل لآخرتك، ولا تسرف في المعاصي، فإن العمر قصير والبدن ضعيف والنار محرقة.
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا...
(1/2905)
وجوب صلاة الجماعة
فقه
الصلاة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
7/10/1412
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب صلاة الجماعة وأدلة ذلك من الكتاب والسنة. 2- المعاملة مع المتخلف عن صلاة الجماعة. 3- دعوة للمحافظة على صلاة الجماعة. 4- تهاون المصلين في صلاة الجماعة. 5- فضل صلاة الجماعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله تعالى، واعلموا رحمكم الله أن مقام الصلاة في الإسلام عظيم، وقد نَوَّه الله بشأنها في كتابه الكريم، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي الفارقة بين المسلم والكافر، وهي عمود الإسلام.
أيها المسلمون، إن الحديث عن الصلاة، أمر ليس بالجديد عليكم وما من مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إلا وقد أخذ حظه من الصلاة، لكن الذي أريد أن أذكره لكم، وهو موضوع حديثنا في هذه الجمعة، هو وجوب صلاة الجماعة، ذلك لأن هناك من المسلمين، من لا يعتقد ولا يعلم بأن صلاة الجماعة واجبة، ويتصور أن صلاة الجماعة تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة فقط، وأن له الخيار بين أن يصلي في بيته، ويأخذ الدرجة أو يصلي في المسجد وينال السبع والعشرين درجة بفضل الله عز وجل.
يعتقد بعض المسلمين، أنه يجوز له أن يصلي في بيته، وهذا اعتقاد ومع الأسف لا أساس له من الصِّحة، وسيتضح لكم ذلك بما نسوقه لكم من الأدلة الشرعية المعتبرة من كتاب الله عز وجل، ومن السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن صلاة الجماعة واجبة، وأن الذي يصلي في بيته على خطر عظيم، ويُخشى عليه من بطلان صحة صلاته.
أيها المسلمون، صلاة الجماعة واجبة على الرجال، في الحضر والسفر، وفي حال الأمن وحال الخوف، وجوباً عينياً، والدليل على ذلك الكتاب والسنة، وعمل المسلمين قرناً بعد قرن، ومن أجل ذلك أقيمت المساجد، ورُتِب الأئمة والمؤذنون، وشُرِع لها النداء بأعلى صوت، "حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح" وقال تعالى آمراً نبيه أن يقيم صلاة الجماعة في حال الخوف: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ?لصَّلَو?ةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى? لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102].
والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، أمرُ لأمته، ما لم يدل دليل على خصوصيته به، فدلت هذه الآية الكريمة على وجوب صلاة الجماعة، حيث لم يرخّص للمسلمين في تركها في حال الخوف، فلو كانت غير واجبة، لكان أُولى الأعذار لتركها عذر الخوف، فإن صلاة الجماعة في حال الخوف، يُترك فيها كثير من الواجبات في الصلاة، مما يدل على تأكد وجوبها، وقد اغتُفِرت في صلاة الخوف، أمور كثيرة من تنقلات وحمل أسلحة، ومراقبة لتحركات العدو، وانحراف عن القبلة، كل هذه الأمور اغتفرت، من أجل الحصول على صلاة الجماعة، فهذا من أعظم الأدلة على وجوبها وتأكدها.
ومن الأدلة على وجوب صلاة الجماعة، قوله تعالى: وَأَقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ وَآتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَ?رْكَعُواْ مَعَ ?لرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، فأمر سبحانه وتعالى في هذه الآية: بإقامة الصلاة والركوع مع الراكعين، وهذا يعني فعلها مع جماعة المصلين، فدلت الآية على أن الصلاة لابد لها من جماعة تقام فيها، وقال تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ?لسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَـ?شِعَةً أَبْصَـ?رُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ?لسُّجُودِ وَهُمْ سَـ?لِمُونَ [القلم:42، 43]. فهولاء يعاقبهم الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، بأن يحول بينهم وبين السجود هناك، لأنه لما دعاهم إلى السجود في الدنيا في المساجد، أبَوْا أن يجيبوا الداعي.
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم إجابة الداعي، بما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يرخص له أن يصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه فقال: ((هل تسمع النداء بالصلاة)) ، قال: نعم، قال: ((فأجب)). فدل الحديث على أن الإجابة المأمور بها، هي الإتيان إلى المسجد لصلاة الجماعة، وقد قال غير واحد من السلف في قوله تعالى: وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ?لسُّجُودِ وَهُمْ سَـ?لِمُونَ أن معنى يُدعون، هو قول المؤذن حي على الصلاة حي على الفلاح.
أيها المسلمون المؤمنون، عباد الله، ومن الأدلة أيضاً على وجوب صلاة الجماعة، والتي لا تدع حجة لأحد بعد ذلك، أن يتخلف عنها، ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أثقل صلاة على المنافقين، صلاة العِشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْواً، ولقد هممت أن آمر الصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرِّق عليهم بيوتهم بالنار)).
فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المتخلفين عن صلاة الجماعة بالنفاق، وهذا أيضاً وصفهم في القرآن الكريم، كما قال تعالى عن المنافقين: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ يُخَـ?دِعُونَ ?للَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ قَامُواْ كُسَالَى? يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]، وقال تعالى عنهم: وَلاَ يَأْتُونَ ?لصَّلَو?ةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى? وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَـ?رِهُونَ [التوبة:54]. ثم هدد النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك المتخلفين عن صلاة الجماعة، بأن يحرق عليهم بيوتهم بالنار، وهذه عقوبة شنيعة، فوصفهم بالنفاق أولاً، وهددهم بالتحريق بالنار ثانياً، ولم يمنعه من ذلك عليه الصلاة والصِّيام، إلا ما في البيوت من النساء والذرية، الذين لا تجب عليهم صلاة الجماعة، مما يدل دلالة صريحة، على عظم جريمة المتخلف عن صلاة الجماعة، وأنه مستحق لأعظم العقوبات في الدنيا والآخرة.
عباد الله، من الأدلة أيضاً على وجوب صلاة الجماعة، ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات، حيث ينادى بهن، فإنهن من سنن الهدى، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سُنن الهدى، فإنهن من سُنن الهدى، وإنكم لو صليتم في بيوتكم، كما يصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو أنكم تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطُّهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتُنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به، يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف.
هذا ما قاله عبد الله بن مسعود عن مكانة صلاة الجماعة، عند صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكمهم على من تخلف عنها، إن الصحابة كانوا يعتبرون المتخلف عن صلاة الجماعة منافق معلوم النفاق، ينبذونه ويهجرونه، أما نحن وفي زماننا هذا، فالمتخلف عن الصلاة، أخ عزيز لدينا، نكرمه ونخالطه ونعاشره، وكأنه ما ارتكب جريمة، ولا عصى الله ورسوله، وهذا إذا ما دل على شيء، فإنه يدل ـ والله المستعان ـ على أن ميزان الصلاة لدينا خفيف، وأمرها هين. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فاتقوا الله أيها المسلمون، يا من ضيِّعتم الصلاة مع الجماعة، ورضيتم بالتفريط والإضاعة، لقد خسرتم ـ وربِّ الكعبة ـ فضائل كثيرة، وحُرِمت أنفسكم خيراتٍ عظيمة، عصيتم الرحمن، وأرضيتم الشيطان، لقد ظلمتم أنفسكم أعظم الظلم، حيث حرمتموها ثواب الله، وعرضتموها لعقابه، وأخرجتموها عن جماعة المسلمين وموطن الأمان، إلى مواطن الهلكات والمخاوف.
يا من تُدعى إلى المسجد فلا تجيب، ويُطلب منك الحضور فتغيب، سوف تندم مع النادمين يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ?لسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَـ?شِعَةً أَبْصَـ?رُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ?لسُّجُودِ وَهُمْ سَـ?لِمُونَ.
وما ذلك اليوم منك ببعيد، فانتبهْ لنفسك وتبْ إلى ربك، وحافظْ على الصلاة مع الجماعة، ولا يغرُّك كثرة المخالفين من الناس، والمعرضين فَ?صْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ?لَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ [الروم:60].
يا من تسمعون الأذان، وتقعدون بعد ذلك في بيوتكم، أو في أسواقكم، وتتركون الصلاة مع الجماعة، إن لم تتوبوا إلى ربكم، فستكونون من الذين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون، وستفتضحون أمام الله وأمام خلقه، يا من تتخلفون عن صلاة الجماعة، إن الرسول صلى الله عليه وسلم، همّ أن يحرِّق على المتخلفين عن صلاة الجماعة، تلك البيوت التي تؤويهم عن أداء هذا الواجب العظيم، فيذهب الحريق بنفوسهم وأموالهم، عقاباً لهم على ترك هذه الشعيرة، وهذه يا عباد الله عقوبة غليظة، لا تكون إلا على جريمة عظيمة، إنه لو أحرق بيتاً على من فيه بالنار، لفزع الناس من ذلك فزعاً شديداً، ولو فَعل ذلك صلى الله عليه وسلم بمن يترك الجماعة، لكان جزاؤه شرعاً.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله في أنفسكم، واتقوا الله في أولادكم، ممن وجبت في حقهم صلاة الجماعة، إن القضية جد خطيرة، إن التخلف عن صلاة الجماعة ـ يا عباد الله ـ ليس بالأمر الهين عند الله عز وجل، وقد ذهب بعض العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، إلى عدم صحة الصلاة في البيت لمن ليس له عذر. فوالله الذي لا إله إلا هو، إن هذا العدد الذي أمامي الآن، وغالبهم من سكان هذا الحي، لو حافظوا على صلاة الجماعة، لضاقت بنا المساجد، ولضاقت مساجد المنطقة كلها، ولكن مع الأسف لا يجتمعون إلا في الجمعة ورمضان. فلا أدري ما عذر هؤلاء؟ ما عذرك يا من تسمع النداء، وقد يكون المسجد إلى جانب بيتك، وأنت صحيح البدن، آمن من الخوف، ثم لا تحضر لصلاة الجماعة، هل أنت لم تسمع الآيات والأحاديث، أو سمعتها وقلت: سمعنا وعصينا.
أيها المسلمون، إن حالتنا اليوم مع الصلاة حالة سيئة، خَفَّت قيمتها لدينا، وتساهلْنا في شأنها، وصار التخلف عنها أمراً هيناً، بل أمراً عادياً.
أيها المسلمون، إذا كانت هذه حالتنا مع الصلاة، وهي أعظم شعيرة في الإسلام، فكيف حالنا مع باقي شرائع الإسلام، ما حالنا مع باقي تعاليم الدين، والله المستعان.
تجد ـ والعياذ بالله ـ الأسرة الكبيرة في البيت، لا يحضر منها إلى المسجد إلا بعض الأفراد، وبعض البيوت لا يحضر منها أحد، والمصيبة أن الذين يحضرون لا ينكرون على المتخلفين، وقد يكونون من أولادهم الذين كُلِّفوا بأمرهم بها، وضربهم عليها، فأنت ترى البيوت والأسواق، مكتظة بالناس، ولا ترتاد المساجد منهم إلا الأفراد، والغالبية رضُوا بأن يكونوا مع الخوالف، رضوا بالعقوبة، رضوا بوصف النفاق، فيالها من خسارة، لا تشبهها خسارة الأرواح والأموال.
فاتقوا الله عباد الله، توبوا إلى ربكم من قبل أن تحل بكم نقمته، وأنتم لا تشعرون، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?قَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِىَ ?للَّهِ وَءامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ ?للَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى ?لأَرْضَ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء أُوْلَئِكَ فِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [الأحقاف:31، 32]. وقال سبحانه: وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ طَرَفَىِ ?لنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ?لَّيْلِ إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذكِرِينَ وَ?صْبِرْ فَإِنَّ ?للَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ?لْمُحْسِنِينَ [هود:114، 115]. وقال تعالى: قُل لّعِبَادِىَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ يُقِيمُواْ ?لصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلانِيَةً مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَـ?لٌ [إبراهيم:31].
بارك الله لي..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، إن شأن صلاة الجماعة في الإسلام عظيم، ومكانتها عند الله عالية، ولذلك شرع الله بناء المساجد لها، فقال سبحانه: فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ?للَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ [النور:36]، وأول عمل بدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، بناءُ المسجد، لأداء الصلاة فيه، وشرع الله النداء لصلاة الجماعة، من أرفع مكان، وبأعلى صوت، وعينت لها الأئمة، وكان صلى الله عليه وسلم يتفقد الغائبين، ويتوعد المتخلفين، وشهد الله لمن يحافظ على صلاة الجماعة في المساجد بالإيمان، حيث يقول سبحانه: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـ?جِدَ ?للَّهِ مَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَأَقَامَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَى? ?لزَّكَو?ةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ?للَّهَ فَعَسَى? أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ?لْمُهْتَدِينَ [التوبة:18].
إن صلاة الجماعة يا أخي المسلم، تفضل على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، فأي فضل أعظم من هذا، إنه لو قيل للناس: إن المساهمة في التجارة الفلانية، يكسب فيها الدرهم الواحد، سبعاً وعشرين درهماً، لاقتتلوا على المساهمة فيها، طمعاً في هذا الربح العاجل الزائل، الذي قد يحصل وقد لا يحصل، وأما المساهمة في التجارة الرابحة بالأعمال الصالحة، التي ربحها مضمون، وخيرها معلوم، فلا يتقدم لها إلا الأفراد، والأكثر كما قال الله تعالى فيهم: بَلْ تُؤْثِرُونَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا وَ?لأَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [الأعلى:16، 17].
أيها المسلمون، إن المصلي مع الجماعة، يخلص من أسر الشيطان وشره، ويدخل في جماعة المسلمين، فيبتعد عنه الشيطان، والذي يترك صلاة الجماعة، يستحوذ عليه الشيطان، قال صلى الله عليه وسلم: ((ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة، إلا قد استحوذ عليهم الشيطان)) رواه النسائي. فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية.
أيها المسلمون، إن صلاة الجماعة فيها تعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقف المسلمون فيها صفاً واحداً، خلف إمام واحد، بين يدي الله عز وجل، كالبنيان المرصوص، وتظهر قوة المسلمين واتحادهم في صلاة الجماعة، اجتماع كلمة المسلمين، وائتلاف قلوبهم، وتعارفهم، وتفقد بعضهم لأحوال بعض.
في صلاة الجماعة ومظهرُ التعاطف والتراحم، ودَفْعُ الكبر والتعاظم، وفيها تقوية الأخوة الدينية. في صلاة الجماعة، يقف الكبير إلى جانب الصغير، والغني إلى جانب الفقير، والقوي إلى جانب الضعيف، والحاكم إلى جانب المحكوم، لا فضل لأحد على أحد، إلا بالتقوى، مما تظهر به عدالة الإسلام، وحاجة الخلق إلى الملك العلام. في صلاة الجماعة، تؤخذ منها الدروس الإيمانية، وتسمع فيها الآيات القرآنية، فيتعلم بها الجاهل، ويتذكر الغافل، ويتوب المذنب، وتخشع القلوب، وتقرب من حضرة علام الغيوب.
صلاة المسلم في جماعة، أقرب إلى الخشوع وحضور القلب والطمأنينة، وإن الإنسان ليجد الفارق العظيم بين ما إذا صلى وحده، وإذا صلى مع الجماعة.
صلاة المسلم في جماعة، تجعله في عداد الرجال الذين مدحهم الله ووعدهم بجزيل الثواب في قوله سبحانه: يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِ?لْغُدُوّ وَ?لاْصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـ?رَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَإِقَامِ ?لصَّلَو?ةِ وَإِيتَاء ?لزَّكَو?ةِ يَخَـ?فُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ?لْقُلُوبُ وَ?لاْبْصَـ?رُ لِيَجْزِيَهُمُ ?للَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ وَ?للَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:36-38].
أيها المسلمون، قد يتساءل البعض، ما مناسبة الكلام الآن وفي هذا الوقت عن صلاة الجماعة ووجوبها. ولعل الجواب واضح ومعروف، وهذا الذي جعلني أذكر بهذا الموضوع الآن. وهو هذه الظاهرة السيئة التي نراها ونشاهدها في مساجدنا عموماً، وفي كل عام. وهو حرص الناس وإقبالهم على المساجد، والمحافظة على صلاة الجماعة في رمضان، ثم الانقطاع والعودة إلى ما كانوا عليه قبل رمضان.
وهذه والله حالة سيئة ووضع سيئ، أن يشرع الإنسان ويقبل على عبادة ثم ينقطع عنها.
يا من كنت تحضر معنا في رمضان، والآن لا نراك فإن الخطاب موجه إليك.
إذا كنت يا أخي لا تعتقد بوجوب صلاة الجماعة، فها أنت قد سمعت الأدلة القولية والفعلية من الكتاب والسنة، التي قد قَرَعْتُ بها أذنيك طوال الخطبة الأولى والثانية، على وجوب صلاة الجماعة، فلا حُجة لك بعد اليوم بل بعد الآن أمام الله عز وجل. وإذا كنت تعتقد بوجوب صلاة الجماعة ولا تبالي، فهذه مصيبة أعظم من أختها. وإذا كنت لا تخاف ولا تخشى ولا يهمك ارتكاب الحرام، لأن ترك صلاة الجماعة مع القدرة عليه فعل محرم، فأنت محل إساءة الظن الآن، من أنك ترتكب محرمات أخرى، لأن الذي يضيع الصلاة فهو لما سواها أضيع. ولقد ذهب بعض العلماء إلى أن الذي لا يحضر الصلاة، ولا يرى مع الجماعة في المسجد، فإن الأصل فيه إساءة الظن.
أيها الأخ الكريم، يا من كنت تحضر معنا في رمضان ولا نراك الآن، فإن الكلمة موجهة إليك بالأخص.
كنت أتساءل حينما كنا نصلي الفروض في هذا المسجد طوال شهر رمضان، وخصوصاً صلاة المغرب، فأرى هذه الجموع من المصلين، وقد ازدحم بهم المسجد، وكنت أقوم في بعض الأيام وأعد الصفوف. ثم أقول من أين قدم هؤلاء الرجال ؟ هل نزلوا من السماء، أم نبتوا من الأرض؟ فأتأمل في وجوههم، فإذا بهم أناس من سكان هذه الحارة، ومن المجاورين لمسجدنا. لم ينزلوا من السماء ولم ينبتوا من الأرض، فأبحث عنهم هذه الأيام فلا أجدهم.
لكني ويعلم الله بأني ما أعددت هذه الكلمات إلا لإبراء ذمتي أمام الله عز وجل، وتقديم النصيحة الواجبة. ولتكون أيضاً حجة على من سمعها أمام ربه بأن الدعوة قد بلغته.
ثم ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة.
(1/2906)
الغناء
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
12/1/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار الغناء من وسائل الشيطان في الإغواء. 2- أدلة تحريم الغناء من الكتاب والسنة.
3- أقوال السلف في ذم الغناء. 4- غناء اليوم أشد تحريماً من الغناء بالأمس. 5- دور وسائل
الإعلام في نشر هذا المنكر. 6- التغني بآيات من القرآن كفر. 7- بعض ألفاظ المغنيين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن المعركة بين إبليس وجنوده من الجن والإنس وبين المؤمنين دائمة لا تتوقف، وإنها معركة نعيشها كل يوم، لا بل كل ساعة، وكل دقيقة، لقد أقسم إبليس يوم أن لعنه الله وأهبطه إلى الأرض أن يشن حرباً لا هوادة فيها عليكم وأن يجند لها كل من استطاع أن يغويه من عباد الله، وقد اتخذ لأجل ذلك وسائل وطرقاً كاد بها بني آدم، فمن مكايد عدو الله ومصايده، التي كاد بها من قلّ نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين: سماع الغناء بالآلات المحرمة، الذي يصد القلوب عن القرآن ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان.
الغناء عباد الله، كتاب الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية الزنا واللواط، وهو رسول العاشقين الفسقة لينالوا ما يريدون، وهو سبيل تسلط الفسقة من الجن على الإنس، وهذا الغناء الذي أصبحت لا تكاد تجد من نجا منه إلا من عصم الله، بل لربما رأيت الأب يعلم طفله أو طفلته الغناء وألفاظه ويشجعهم على هذا الفعل الذميم مع الأسف الشديد، هذا الغناء قد جاء له في الشرع وعند أهل العلم بضعة عشر اسماً: من ذلك: اللهو، واللغو، والباطل، والزور، والمكاء، والتصدية، ورقية الزنا، وكتاب الشيطان، ومنفث النفاق في القلب، والصوت الأحمق، والصوت الفاجر، وصوت الشيطان، ومزمار الشيطان، والسمود، وهو الغناء بلغة حِميَر. أسماؤه دلت على أوصافه، تباً لذي الأسماء والأوصاف أما اسمه الأول: وهو اللهو، فقد جاء في قوله الله تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى? عَلَيْهِ ءايَـ?تُنَا وَلَّى? مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان:6، 7]. قال ابن مسعود : (والله الذي لا إله غيره هو الغناء)، يرددها ثلاث مرات، وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه الغناء، وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما، وهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم الذين فسروا لهو الحديث بالغناء شهدوا الوحي والتنزيل، فهم أعلم الناس بكلام الله، أما كيف يكون الغناء ملهياً فأنت لا تجد أحداً غنى بالغناء وسماع آلاته، وتابع ما يصدر عن ذلك المغني أو تلك المغنية، إلا وفيه ضلال عن الهدى علماً وعملاً، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء، وقد جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما تقول في الغناء، أحلال هو أم حرام؟ فقال له: (أرأيت الحق والباطل إذا جاءا يوم القيامة، فأين يكون الغناء)، فقال الرجل: يكون مع الباطل، فقال له ابن عباس: (اذهب فقد أفتيت نفسك).
والغناء: رقية الزنا ومن أقوى جنوده، ففيه الدعوة إلى الموعد، والدعوة إلى الجلوس والخلوة مع المحبوب، والغرام والعشق، والصداقة، والتأوه والتأسف لفراق المحبوب والدعوة إلى التهتك والسفور وغير ذلك مما لا يخفى عليكم ضرره وفحشه وإسفافه، قال الفضيل بن عياض: الغناء رقية الزنى، وقال يزيد بن الوليد: يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل المسكر، فإن كنتم ولابد فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزنى.
والنساء هن أكثر من يتأثر بالغناء من جهة الصوت والأنغام، ومن جهة معنى الكلمات. وربما يورث ذلك أن تحب الفتاة ذلك المغني ومن ثم تجد صورته وأغانيه لا تفارقها، فأي فتنة في الدين أعظم من هذه، فلعمر الله، كم من حرة صارت بالغناء من البغايا.
والغناء: ينبت النفاق في القلب كما قال ذلك ابن مسعود ، فالغناء والقرآن لا يجتمعان في القلب أبداً لما بينهما من التضاد، فالقران ينهى عن اتباع الهوى ويأمر بالعفة، وترك الشهوات، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك بل ويحسنه. أليس الغناء يهيج النفوس إلى الشهوات، فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح، أليس هو الذي يسوق النفوس إلى وصل كل امرأة وصبي ؟ فهو والخمر رضيعا لبان، وفي تهيجهما على القبائح فرسا رهان، فإنه صِنْو الخمر ورضيعه ونائبه وحليفه، وخدينه وصديقه، عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذي لا يفسخ، وأحكم بينهما شريعة الوفاء التي لا تنسخ، وأكثر ما يورث الغناء عشق الصور، واستحسان الفواحش.
أيها المسلمون، لقد حذر نبينا من سماع الغناء واتخاذ آلات اللهو والمعازف قال : ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) رواه البخاري. ومعنى ((يستحلون الحِرَ)) : أي الزنا، والمعازف هي آلات اللهو كلها، ولا خلاف بين أهل اللغة في ذلك، ولو كانت حلالاً لما ذمهم على استحلالها، ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر والحرير. وعن علي قال: قال رسول الله : ((إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء)) قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: ((إذا كان المغنم دولاً، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، وأطاع الرجل زوجته وعقّ أمه، وبر صديقه وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأُكرم الرجل مخافة شره، وشربت الخمور، ولبس الحرير، واتخذت القيان، ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا ريحاً حمراء وخسفاً ومسخاً)).
وقد أفتى علماء الأمة والمحققون من أهل العلم قديماً وحديثاً بتحريم سماع الغناء.
فهو حرام حرمة بينة، لا تخفى إلا على من ختم الله على قلبه أو عقله، عياذاً بالله.
وغناء اليوم، أشد حرمة من غناء الأمس من أوجه عديدة، كل وجه منها يكفي لردع من كان في قلبه مثقال ذرة من حياة وإيمان وخوف من العزيز الجبار.
فمن ذلك: أنه اقترن بالمعازف: والمعازف حرّمها رسول الله ، بل وقرنها مع محرمات معلومة من الدين بالضررة كالزنا وشرب الخمر، فقال : ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحرَ والحرير والخمر والمعازف)) رواه البخاري.
ومنها: أنها على الصورة التي وصفها النبي وأخبر أن ظهورها مؤذن بحلول العذاب والنقم كالخسف والمسخ والقذف، فقال : ((يكون في أمتي قذف ومسخ وخسف!!)) قيل: يا رسول الله متى ذلك؟ قال: ((إذا ظهرت المعازف وكثرت القيان وشربت الخمر)) رواه ابن ماجه وسنده صحيح، فتأمل رحمك الله هذا النص المحكم الواضح: سيعاقب الله أمة المصطفى بما عاقب به الأمم من قبلنا، بالقذف بحجارة من السماء وبالمسخ قردة أو خنازير أو الخسف، تخسف الأرض وتكثر الزلازل، متى يكون ذلك؟! يكون إذا ظهرت المعازف، ومعنى ظهورها أي انتشارها وكثرتها، فها هي آلات المعازف لا تكاد تحصى عدداً، وها هي معاهد العزف ومدارسه في أنحاء العالم الإسلامي، وها هن المغنيات المائلات المميلات يحترفن الغناء، ولم يبق إلا تحقق الوعيد بالخسف والمسخ والقذف، اللهم لا تؤاخذنا بما يفعل السفهاء منّا.
ومنها: أن غناء اليوم يدعو في مجمله للغرام والحب والعشق وكل ما يفضي إلى الزنا وإثارة الغرائز وتحريك الشهوات، لا سيما عند النساء، وقد ثبت أنهن رقيقات يتأثرن بالصوت الحسن، فكيف إذا اقترن الصوت الحسن بالمزامير والمعازف، وقد قال : ((يا أنجشة رويدك، رفقاً بالقوارير...)).
وتأمل قول فاجرة من أشهر أهل الغناء عندما قالت في أحد أغانيها:
ما أضيَع اليوم الذي مر بي من غير أن أهوى وأن أعشق
فها هي كوكبتهم تتحسر على اليوم الذي يضيع دون هوى أو عشق.
ومنها: اقتران غناء اليوم بالتصوير الفاضح، للبغايا والمومسات، فما من مطرب إلا ويترنح حوله نفر من الراقصات، وما من مطربة إلا وحولها نفر من الرجال يتراقصون ويتمايلون، فمن يجيز يا أمة الإسلام مثل هذا الاختلاط والسفور والرقص وتعرية النحور؟!
هذه الأوجه ثابتة في الغناء الذي يكون في الأماكن العامة والحفلات المفتوحة للعوام من الناس. وأما الحفلات الخاصة، التي يحضرها سفلة القوم من الظالمين والفاسقين، فحرمتها آكد وأظهر، لأنه لا يخلو غالباً من شرب الخمور والمسكرات والمخدرات، فلا يحلو الغناء إلا به ولا يحصل الطرب بدونه فهما توأمان متلازمان.
ومنها: إنفاق الأموال الطائلة، في هذه المعصية، فالمطربون يتقاضون أجوراً باهظة بمئات الآلاف، نعم، مئات الآلاف لا عشراتها، لا سيما في الحفلات الخاصة، ويسهم منظمو هذه الحفلات بدفع هذه الأجور وكذا جماهير الحضور.
وهذا سفه وتبذير، والمولى عز وجل يقول: إِنَّ ?لْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْو?نَ ?لشَّيَـ?طِينِ [الإسراء:27].
أيها المسلمون، هذه حرمات الله عز وجل، فلا تعتدوها، وهذه حدوده فلا تتجاوزوها. وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون!!.
عباد الله، لقد ابتلي كثير من المسلمين بسماع الموسيقى، وأشربت قلوبهم حب الغناء، وارتفعت أصوات المغنين والمغنيات، الأحياء منهم والأموات، في كل مكان، وتساهل الناس في هذا الأمر، وصار سماع الغناء جزء اًمن حياتهم، ولا ينكر ارتفاعه في الأسواق والمطاعم والأماكن العامة، وامتلأت البيوت به، وكل هذا أيها الأحبة، مؤذن بشرّ والله المستعان. فقد جاء الوعيد لمن فعل ذلك بالمسخ والقذف والخسف، كما سمعتم في الحديث.
إن المتأمل لواقع الناس اليوم، يرى أن هذه الأمة إن لم يتداركها الله برحمته، فإنها مقبلة على فتن عظيمة، لقد أحب الناس اللهو والعبث والمرح، نزعت الجدية من حياتهم، نسوا أننا أمة مجاهدة، أمة صاحبة رسالة، تكالب علينا الأعداء من كل جانب، نُهبت أموالنا، اغتصبت أراضينا، سُرقت خيرات الأمة، ومازلنا نرقص ونغني، تعجب أحياناً من رجل كبير في السن يتمايل مع أصوات المعازف، فكيف بالشاب المراهق.
إن مما عوّد الناس على سماع الغناء، وجعلها عادية في حياتهم وسائل الإعلام الخبيثة المسموعة والمرئية، وزاد الطين بِلةً، محطات البث المباشر والقنوات الفضائية، وقد خصص منها محطات كاملة، تبث وعلى مدى 24 ساعة، برامج كلها رقص وغناء، بشكل فاضح ساقط، والبنت تنظر وتسمع، والولد، والزوجة، والبيت كله يتربى على هذا، أتظنون أيها الأحبة أننا لا نحاسب حساباً عسيراً على هذا، والله الذي لا إله إلا هو سنحاسب.
فيا أخي الكريم، يا من ابتلي في نفسه وفي بيته بهذه المعصية بادر بالتوبة فإن ربك غفور رحيم وهو القائل: نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الحجر:49]، بادر بالتوبة الصادقة واعلم أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إذا كان الغناء محرماً في دين الإسلام، ويزداد حرمة إذا اقترن بالمعازف والتصوير والخمر وغيرها مما سمعتم، فكيف يكون حرمته إذا وصل الأمر إلى الاستهزاء بآيات الله، أو التغني بالقرآن والعياذ بالله.
لقد نقلت وسائل الإعلام في الأيام الماضية نبأ أحد المغنيين الذين غنوا بآيات من القرآن، وقد عدّ العلماء بأن التغني بالقرآن من الاستهزاء بآيات الله، وقد أجمعت الأمة على أن من استهزأ بشيء من الشرع إما بكتابة أو كلام أو غناء أو ما شابه ذلك، أن ذلك ردة صريحة وكفر مخرج من الملة، ولو لم يعلم صاحبه أن ما فعله من الكفر قال الله تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ [التوبة:65، 66].
أيها المسلمون، إن مثل هذا العمل ينبغي أن لا يمرر بسهولة، لا من المكان الذي غني فيه هذا الفاجر، ولا من قبل العلماء، ولا حتى من قبل كل من له غيرة على دين الله عز وجل. فحين يأتي أراذل البشر وأسافل الخلق في هذا الزمان ويستخفّون بحرمة كلام الله وصفة من صفاته ويجعلونه كسائر كلام البشر ويتخذونه للغناء والطرب ثم يَسْلَمون من العقوبة والردع وإقامة حكم الله فيهم، فهذا يفتح باب التلاعب بالشريعة والطعن في الذات الإلهية وصفاته والاستهانة بأعظم شيء يفتخر به المسلمون، وهو كتاب ربهم. وإذا كانت العقوبة الدنيوية من السجن وغيره تطبق على من سب ملكاً أو حاكماً أو أميراً بحق وبغيره، ولا تتناول المستهزئ بكتاب رب العالمين وبصفة من صفاته، فهذا من أعظم المحرمات وأكبر الكبائر. إنا لنخشى بغض الطرف عن هؤلاء المستهزئين بآيات الله أن تصل الأمور إلى حد قول الشاعر:
يقاد للسجن من سب الزعيم ومن سب الإله فإن الناس أحرار
وحينئذٍ فلا تفرح بالعيش في ظل الفساد وتفلت الأمور وخروجها عن طورها.
وليُعلم أن الله سبحانه وتعالى مزق ملك الأكاسرة كل ممزق وأزال ملكهم لما سخروا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بكتاب الله سبحانه وتعالى، وليعلم بأن الساكتين عن إقامة حد الله تعالى وهم قادرون على ذلك، أنهم على خطر عظيم، ويخشى أن يكونوا مثلهم لقول الله سبحانه وتعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى ?لْكِتَـ?بِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَـ?تِ ?للَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى? يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ [النساء:140].
أيها المسلمون، هذه ليست هي المرة الأولى والتي نسمع فيها أن فاجراً غنى بالقرآن، فقد سبق هذا أناس وأناس، فهذا أحدهم اقتبس آية من سورة طه فقال: رحمن يا رحمن، يا من فوق عرشه مستو، وآخر غنّى بالتين والزيتون وقل يا أيها الكافرون، وثالث غنى بسورة تبت، ورابع كان يتربص بالطائفات الغافلات وهنّ في حالة الإحرام بين الركن والمقام فيغني ويقول:
قف بالطواف ترى الغزال المحرما لبى الحطيم وعاد يقصد زمزما
والمصطفى يقول: ((الحجاج والعمّار وفد الله دعوه فأجابهم وسألوه فأعطاهم)). فانظر كيف يتعرض الفساق والفجار لوفد الرحمن بالغزل والمجون وبقية أبيات الأغنية فاضحة فاجعة، يغازل المرأة المحرمة بين الركن والمقام وعند الملتزم بكل بجاحة واستخفاف، ثم نجد من يسمي هذا المجون والفجور فناً ورسالة! نعم، إنها رسالة، ولكنها رسالة شيطانية إبليسية، رسالة لإفساد الأخلاق والدين، رسالة لإثارة الشهوات والغرائز. قال الله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ [النور:19]. وهناك من غنى مستخفاً بالموت والقبر، فهذا مطرب مشهور يقول في أحد أغنياته:
أوصي أهلي وخلاني حين أموت يضعو في قبري ربابة وعود
نعوذ بالله من الخذلان.
أيها المسلمون، إن في هذا لمؤشر إلى هذا العفن الفني، وإلى هذا الجو الموبوء والمشبوه الذي يعيشه معظم المغنيين والمغنيات، وأنه لا يسلم من الخمر والزنا والفجور والدعارة، حتى وصل الأمر بالاستهزاء برب العالمين والعياذ بالله. فلا ندري بماذا سيبرر أصحاب الفن، ووسائل الإعلام مثل هذه الألفاظ في الأغاني وأخيراً: أنت أيها المسكين، يا من تتساهل في سماع مثل هذه الكفريات بحجة أنه غناء وفن ولهو، اعلم أن دينك وتوحيدك على خطر عظيم، فانج بنفسك وتب إلى الله قبل أن يأتيك الموت وأنت على هذه الحالة.
(1/2907)
إبراهيم عليه السلام (2)
سيرة وتاريخ
القصص
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
5/2/1409
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- هجرة إبراهيم عليه السلام إلى أرض الشام. 2- نجاة سارة من فرعون. 3- عظم الهجرة
على النفوس. 4- هاجر وابنها في رحاب البيت العتيق. 5- زيارة إبراهيم ابنه إسماعيل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، نواصل معكم قصة نبي الله خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وصلنا معكم في الجمعة الماضية، أنه بعد ما كسر إبراهيم عليه الصلاة والسلام الأصنام وحطمها جميعها إلا كبيرهم، وعلم القوم بأن إبراهيم هو الذي فعل هذا أجمعوا على حرقه عليه الصلاة والسلام بالنار، فأوقدوا له تلك النار العظيمة وألقوه فيها، ولكن رحمة الله عز وجل وقدرته على كل شيء سلب النار خاصية الإحراق، فكانت برداً وسلاماً على إبراهيم.
خرج عليه الصلاة والسلام من النار سالماً معافى والقوم ينظرون إليه عندها أيقن القوم أنهم عاجزون عن قتل خليل الرحمن أو حتى زحزحته عن عقيدته التي يدعو إليها، وعندها وقف طاغوتهم النمرود حائراً لا يدري ماذا يفعل بعد أن عجزت نيرانهم المتأججة عن التهام ظفر من أظفار إبراهيم عليه السلام أو حتى حرق قطعةٍ صغيرة من ملابسه.
وأيقن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن جذور الشرك عميقة وعميقةٌ جداً في قلوب قومه وعقولهم، لقد أقام عليهم الحجج الدامغة، ورأوا معجزات تبهر العقول فما زادهم ذلك كلهُ إلا إصراراً على الباطل وإعراضاً عن الحق ولم يعد ينفع معهم أو فيهم النصح والموعظة، إذاً لا فائدة من بقاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام في أرض جرداء قاحلة لا تمسك ماء ولاتنبت كلأً، وبين قومٍ يستعجلون عذاب الله ويزهدون برسله وأنبيائه، عندها جاء أمر الله سبحانه وتعالى وأمره بالهجرة، أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأن يهاجر ومن معه من المؤمنين إلى الأرض المباركة كما قال سبحانه وتعالى: وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَـ?هُمُ ?لاْخْسَرِينَ وَنَجَّيْنَـ?هُ وَلُوطاً إِلَى ?لأرْضِ ?لَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَـ?لَمِينَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـ?قَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَـ?لِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ ?لْخَيْر?تِ وَإِقَامَ ?لصَّلو?ة وَإِيتَاء ?لزَّكَو?ةِ وَكَانُواْ لَنَا عَـ?بِدِينَ [الأنبياء:70-73].
هاجر الخليل عليه الصلاة والسلام كما هاجر نوحٌ قبله وكما هاجر محمداً صلى الله عليه وسلم بعدهما، أخرج البخاري في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أن ورقة بن نوفل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أومخرجي هم)) ، قال: نعم، لم يأتِ رجلٌ قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك لأنصرنك نصراً مؤزراً.
تخلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن وطنه وعن رفاق صباه كما تخلى عن أقرب الناس إليه من أهله وقومه، وفر بدينه عليه الصلاة والسلام في أرض الله الواسعة وليس معه من المسلمين إلا ابن أخيه لوط عليه الصلاة والسلام وزوجه سارة، وهؤلاء الثلاثة إبراهيم ولوط وسارة هم جماعة المسلمين في ذلك الوقت، وليس على وجه الأرض من يذكر الله تعالى غيرهم.
وفي هذا عبرةٌ ـ يا عباد الله ـ لمن يعول على الكثرة، ويقول بأن المسلمين قلة، وأن أعداءهم كثير، فهذا عذر غير مقبول في حقل العمل الإسلامي، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام، خرج من قومه وليس معه إلا زوجه وابن أخيه فصار يتنقل بأرض الله تعالى داعياً إلى الله غير مكترث بالقلة، فهذا هو الواجب على كل مسلم، سار إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومن معه حتى وصلوا إلى أرض حرّان في بلاد الشام، وكان أهلها يعبدون الكواكب من دون الله، فدعاهم إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام إلى توحيد الله وعدم الإشراك به فلم يستجيبوا له، وبعد أن مكث في حرّان ما شاء الله له أن يمكث، ثم بعدها رحل إلى أرض بيت المقدس وما والاها ثم ارتحل بعد ذلك إلى مصر.
وهناك جرت له قصة مع ملك مصر وقد ذكر هذه القصة الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وملخصها أن هذا الملك أعجب بزوجة إبراهيم عليه السلام فأمر جنوده فسلبت منه، وكان هذا ابتلاء آخر لنبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فأدخلها الطاغوت إلى قصره ثم حاول قبحه الله هتك عرضها والاعتداء على شرفها، وهي لا تملك قوةٌ تدافع بها عن نفسها، ويبيت زوجها خليل الرحمن لائذاً بكنف الله سبحانه وتعالى لا يدري ماذا يصنع ولا يدري ماذا يفعل.. يصلي ويدعو ربه عليه الصلاة والسلام، وهل له وسيلة أخرى غير الدعاء في مثل هذه المواقف، ولكن الله سبحانه وتعالى جلت قدرته الذي نجى إبراهيم من النار حفظه كذلك من وصمة العار، فعادت إليه سارة عزيزة شريفة وقد جاء في الحديث أنه كلما حاول الاقتراب منها ويتناولها بيده أُخذ بأمر الله سبحانه وتعالى وقدرته، حاول ذلك مراراً، عندها علم أنه لن يصل إليها، فلما رأى منها ما رأى أعطاها جارية قبطية هاجر، فمكث إبراهيم عليه الصلاة والسلام في مصر ما شاء الله له أن يمكث، ثم غادرها راجعاً إلى أرض بيت المقدس ومعه من الأنعام والعبيد والمال ما لا يحصى، وبعد ذلك رزقه الله سبحانه وتعالى ذرية صالحة فما من نبي بعث بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا كان من ذريته وما من كتاب نزل من السماء على نبي من الأنبياء من بعده إلا نزل على واحد من نسله وعقبه.
ونعمُ الله سبحانه وتعالى التي أنعمها على إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام تذكرنا بهجرة المسلمين إلى الحبشة وما لاقوه عند النجاشي من إكرام وحرية وأمن مما دعى الصحابي الجليل عبد الله بن الحارث بن قيس أحد المهاجرين إلى القول برسالة بعثها إلى إخوانه المقيمين في مكة يقول فيها رضي الله تعالى عنه:
يا ركباً بلغني عني مغلفةً من كان يرجو بلاغ الله والدين
كل امرئ من عباد الله مضطهد ببطن مكة مقهور ومفتون
إنا وجدنا بلاد الله واسعة تنجي من الذل والمخزاة والهون
فلا تقيموا على ذل الحياة وخزيٍ في الممات وعيبٍ غير مأمون
ما أشد بعد المصلحين اليوم في فهم معاني هذه الأبيات والتأسي بإبراهيم عليه الصلاة والسلام في هجرته وغربته عن وطنه وأهله، لقد كانت الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في غربة إبراهيم عليه السلام عن وطنه وأهله هي من أهم القضايا التي عالجها كتاب الله سبحانه وتعالى، فلم يتعلق قلبه عليه الصلاة والسلام بالأرض التي ولد فيها ولا على التراب الذي نشأ فيه، فكيف بنا ـ يا عباد الله ـ ويا دعاة الإسلام لو فارق الشخص الوطن الذي يحنو إليه لعارض مؤقت جلس يكتب الرسائل والقصائد التي تعبر عن حبه لوطنه وحنينه إليه، فكيف بكم ـ يا عباد الله ـ لمن كان يقاتل من أجل تحرير الأرض ومن أجل التراب، لاشك أن هذا نوع من أنواع الشرك بالله التي ما بعث إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا لمحاربته، فيجب أيها الدعاة وأيها المصلحون أن تبقى العقيدة أهم من التراب والطين والوطن، وأغلى من الأهل والعشيرة والقوم، وأن تكون ثقتهم بالله سبحانه وتعالى أقوى من أن تزعزعها الأهواء والمحن وما يغلق في وجوههم في أرض قد يفتح سبحانه وتعالى لهم في أرض أخرى فقال عز من قائل في هذا المقام: وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى ?لأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَـ?جِراً إِلَى ?للَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ?لْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ?للَّهِ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [النساء:100].
أيها المسلمون، عاد إبراهيم عليه الصلاة والسلام من مصر إلى أرض فلسطين ومعه زوجه والجارية هاجر وكانت نفس إبراهيم عليه الصلاة والسلام ترغب في ولد، فدعى الله سبحانه وتعالى أن يهبه ولداً صالحاً كما قال سبحانه: رَبّ هَبْ لِى مِنَ ?لصَّـ?لِحِينِ [الصافات:100]، وكأن زوجه سارة شعرت بما يجول في خاطر زوجها فقالت له: إن الله حرمني الولد فأرى أن تتزوج جاريتي هاجر لعل الله أن يرزقك منها ولداً وكانت سارة قد تقدمت في السن وكانت عقيماً لا تلد ولا يرجى أن ترزق بولد.
تزوج إبراهيم عليه الصلاة والسلام بهاجر فولدت له إسماعيل، وبعد أن رزق إبراهيم بإسماعيل بدأت هاجر تتيه عجباً وتعتز بهذا الولد مما أثار الحسرة والغيرة في نفس سارة فطلبت من إبراهيم عليه الصلاة والسلام إقصاءهما عن وجهها.
استجاب إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى رغبتها لأمر يريده الله سبحانه وتعالى فأوحى الله إلى إبراهيم أن يأخذهما ويذهب بهما إلى مكة، وكان إسماعيل يومئذٍ رضيعاً، اصطحب إبراهيم الغلام وأمه هاجر وسار بهما سيراً طويلاً، إلى أن أمره الله سبحانه وتعالى بالتوقف في أرض خلاء بعيدةٍ عن العمران في المكان الذي سيبني فيه البيت الحرام. أنزل إبراهيمُ هاجر وطفلها في المكان المقفر الذي ليس فيه ماء ثم تركها وقفل راجعاً، تبعته هاجر عليها الصلاة والسلام وهي ملتاعة وقالت: إلى أين تذهب؟ ولمن تتركنا في هذا الوادي الموحش المقفر؟ وهو يمضي في سبيله لا يلتفت إليها، عندئذٍ قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم قالت:إذاً لا يضيعنا الله عز وجل ثم رجعت إلى المكان الذي وضعها إبراهيم فيه مع ولدها.
انطلق إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقلبه منفطرٌ أسىً على فراق زوجته وولده لكن مشيئة الله عز وجل فوق مشيئة العبد فاستسلم لربه وقفل راجعاً وهو يبتهل لربه ويدعوا بهذه الكلمات التي قصها الله علينا في كتابه رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ?لْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ فَ?جْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ?لنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَ?رْزُقْهُمْ مّنَ ?لثَّمَر?تِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى? عَلَى ?للَّهِ مِن شَىْء فَى ?لأرْضِ وَلاَ فِى ?لسَّمَاء [إبراهيم:37، 38].
بار الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من المواعظ والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، امتثلت هاجر إلى أمر الله عز وجل وتحلت بالصبر ومكثت تأكل من الزاد وتشرب من الماء الذي تركه لها إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى أن نفذ كله، فعطشت وعطش ابنها معها وجعلت تنظر إليه وهو يتلوى من الظمأ، لم تحتمل هذا المشهد المؤلم وهبت قائمة، وسارت هائمة على وجهها، تعدو وتهرول وتكاد تفقد وعيها، صعدت هاجر مكاناً مرتفعاً يعرف بالصفا، فنظرت لعلها ترى ماءً، فلم تر شيئاً، فهبطت وسعت سعي الإنسان المرهق، حتى أتت مكاناً مرتفعاً آخر يعرف بالمروة فنظرت فلم تر شيئاً ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئاً فعلت ذلك سبع مرات، ثم لما أشرفت أخيراً على المروة، سمعت صوتاً فتلفتت فإذا بملك من الملائكة عند موضع بئر زمزم، فبحث بجناحه حتى ظهر الماء وقيل في رواية أخرى أن إسماعيل عليه السلام كان يفحص بقدميه الأرض فنبع الماء من تحتها والله أعلم بالصواب وكله حاصل بأمر الله عز وجل وإرادته.
رأت هاجر هذا المشهد المثير فغمرها الفرح والسرور ثم جعلت تغرف من الماء وتسقي ولدها وتروي نفسها، ولما نبع الماء اجتذب الطير إليه وكان قوم من قبيلة جُرهم يسيرون قرب هذا المكان فرأوا الطير تحوم حوله ثم سأل بعضهم بعضاً: إن هذا الطير ليحلق على ماء فهل علمتم أن بهذا الوادي ماءً قالوا: لا، فأرسلوا أحدهم يستطلع الخبر فرجع يزف إليهم بشرى وجود الماء فجاؤوا إلى هاجر فقالوا: لو شئت كنا معك نوانسك، والماء ماؤك، فرحبت بهم، فاستوطنوا بجوارها حتى شب إسماعيل عليه الصلاة والسلام ثم تزوج بعد ذلك بإمرأة جرهمية وتعلم العربية منهم.
أيها المسلمون، ترك إبراهيم عليه الصلاة والسلام ولده إسماعيلُ في مكة، ولكنه لم ينسه ولم يغفل عنه بل كان يزوره من حين إلى آخر، وفي إحدى هذه الزيارات رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام في منامه أن الله يأمره بذبح ولده إسماعيل، ورؤيا الأنبياء حق ـ يا عباد الله ـ لأنها بمثابة الوحي من الله، لذلك عزم إبراهيمُ على تنفيذ أمر الله ولم يثنه عن عزمه أن إسماعيل ابنه الوحيد وأنه أصبح في سن الشيخوخة، وهذا ما يقصه الله علينا في كتابه بقوله تعالى: وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى? رَبّى سَيَهْدِينِ رَبّ هَبْ لِى مِنَ ?لصَّـ?لِحِينِ فَبَشَّرْنَـ?هُ بِغُلَـ?مٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ?لسَّعْىَ قَالَ ي?بُنَىَّ إِنّى أَرَى? فِى ?لْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَ?نظُرْ مَاذَا تَرَى? قَالَ ي?أَبَتِ ?فْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء ?للَّهُ مِنَ ?لصَّـ?بِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَـ?دَيْنَـ?هُ أَن ي?إِبْر?هِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ?لرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَـ?ذَا لَهُوَ ?لْبَلاَء ?لْمُبِينُ وَفَدَيْنَـ?هُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى ?لاْخِرِينَ سَلَـ?مٌ عَلَى? إِبْر?هِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ?لْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَـ?هُ بِإِسْحَـ?قَ نَبِيّاً مّنَ ?لصَّـ?لِحِينَ [الصافات:99-112].
أي امتحان يا عباد الله أصعب من هذا، يؤمر خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام بذبح ولده وكان وحيده آنذاك، إن هذا أيها الأخوة من أعظم الحوادث وأجلها في تاريخ التضحيات، وبالأخص إذا نظرنا إليهما من الزوايا التي أحيطت بهذه التضحية فإبراهيم عليه الصلاة والسلام الحريص على الذرية والذي رزق ولداً في سن الشيخوخة، هذا الولد الذي هو مهجة قلبه وأمل حياته ووارث اسمه يأمره الله أن يضحي به ليمتحن إيمانه ويرى مبلغ استجابته لأمره سبحانه وتعالى ودرجة طاعته حدث إبراهيم ولده في هذا الشأن الخطير ويكاد قلبهُ لينخلع من الحزن فيجيبه إسماعيل عليه السلام بقوله: يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين.
إن اللسان أيها الأخوة ليعجز عن وصف مضمون هذا القول الذي يتمثل فيه الرضا التام بتضحية النفس في سبيل الله تضحية من وجهين تضحية الوالد بولده وتضحية الابن بنفسه، هذه هي أرفع صور الإيمان وأجلها في تاريخ الإنسانية، فليس الإيمان ـ يا عباد الله ـ ادعاءات تلوكها الألسن، وليس الإيمان تسلية للأحزان لفترة ما، وليس الإيمان نظرية من النظريات يغوص العقل في كشف خفاياها، بل الإيمان هو الاندماج الكلي في إرادة الله سبحانه وتعالى التي تتركز في العمل بوصايا الله وأوامره، والتضحية بكل غالٍ ونفيس في سبيله.
ما أحوجنا إلى هذا الدرس في هذا الزمن الذي أصبح فيه المال والولد والزوجة يستأثرون بحب الإنسان الذي يؤثرهم على كل شيء حتى أصبحوا له معبودات من دون الله، وما أحقر الإنسان ـ يا عباد الله ـ إذا تعلق بزينة الحياة الدنيا الفانية وترك الحقيقة الخالدة التي هي مصدر وجوده ومصدر استمرار حياته.
أيها المسلمون، قدم إبراهيمُ يوماً إلى مكة وأتى بيت إسماعيل فلم يجده، ووجد امرأته، وكانت تجهل أنه والد زوجها فسألها إبراهيم عن إسماعيل فأخبرته أنه خرج يصطاد ثم سألها عن حالهم فقالت: نحن في شدة وضيق وشكت إليه سوء الحال ثم قال لها إبراهيم: هل عندك ضيافة من طعام وشراب فقالت: لا، ليس عندي وما عندي أحد.
ولما لقي منها إبراهيم من البخل وعدم الرضا بقسمة الله سبحانه وتعالى قال لها: إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام وقول له فليغير عتبة بابه.
انطلق إبراهيمُ عليه السلام وجاء الزوج وكأنه آنس أن أمراً حدث خلال غيابه فقال: هل جاءكم أحد؟ فقالت نعم جاءنا شيخ كبير صفته كذا وكذا وسألني عنك فأخبرته بالواقع، فقال لها: هل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، وطلب مني أن أقول لك أن تغير عتبة بابك، فقال إسماعيل: ذاك هو أبي وقد أمرني أن أفارقك فالحقي بأهلك.
ثم طلقها عليه الصلاة والسلام وتزوج امرأة أخرى، غاب إبراهيم عن إسماعيل بعض الزمن ثم أتاه بعد فترة فلم يجده كذلك، ووجد امرأته الجديدة، فاستقبلته ورحبت به فسألها إبراهيم: هل عندك ضيافة قالت:نعم فضيفته وأكرمته ثم سألها عن حالهم فقالت: نحن بخير وسعة والحمد لله، وأثنت على الله سبحانه وتعالى، فقال لها إبراهيم: إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام، وقولي له أن يثبت عتبة بابه.
ثم انصرف عليه الصلاة والسلام، رجع إسماعيل بعد زمن إلى منزله في المساء فأخبرته زوجته بمجيء شيخ كبير في غيبته ووصفت له هيئته وأخبرته بوصيته له فقال لها إسماعيل عليه السلام: إنه أبي وقد أمرني أن احتفظ بك وأن لا أفارقك، فلازمها إسماعيل طوال حياته وكانت أماً لأبنائه.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى فيه بملائكته المسبحة بقدسه وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه فقال عز من قائل عليم حكيم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك ومنّك وكرمك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركنين واحم حوزة الدين وانصر عبادك الموحدين اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين واغفر اللهم للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تصنعون.
(1/2908)
إبراهيم عليه السلام (1)
سيرة وتاريخ
القصص
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
28/1/1409
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نشأة إبراهيم عليه السلام في القرآن. 2- إبراهيم يواجه عبدة الأوثان. 3- أدب إبراهيم مع
أبيه الكافر. 4- إبراهيم يحطم الأصنام. 5- محاكمة إبراهيم ونجاته من النار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: قصتنا لهذه الجمعة، سوف تكون مع خليل الله، إبراهيم عليه السلام ولد إبراهيم عليه السلام، كما ذكر ابن كثير بأرض بابل، وكانت ولادته بعد أن بلغ والده من العمر خمساً وسبعين سنة، وكان اسم والده آزر، كما جاء في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْر?هِيمُ لأِبِيهِ ءازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءالِهَةً إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [الأنعام:74]. وكان مولد خليل الرحمن، إبراهيم عليه السلام، في عهد النمرود، وكان النمرود حاكماً مستبداً جباراً، كانت رعيته تتقلب في دياجير الجهل والضلالة، كما كانوا يعبدون الحجارة الصماء، والتماثيل البكماء. وقد استخف النمرود بقومه، فنصب نفسه إلهاً لهم، ودعا الناس إلى عبادته، فأطاعوه.
وفي هذه البيئة الفاسدة، ولد خليل الرحمن، إبراهيم عليه السلام. وكان أبوه آزر، من ألد أعدائه، وكذلك كان أقرباؤه وأشقائه وأترابه وهذا يعني أنه كان غريباً بين أهله وذويه، ولما شب إبراهيم عليه السلام، تزوج بامرأة تسمى سارة، وكانت عقيماً لا تلد. وقد عُرف إبراهيم عليه السلام، منذ نعومة أظفاره بصائب رأيه ، وثاقب فكره، أن الله واحد أحد، ليس له شريك في الملك، وألقى الله في قلبه كره الأصنام، التي كان يعبدها قومه، لأنها لا تجلب لهم نفعاً ولا تدفع عنهم ضراً.
عباد الله، ابتعث الله إبراهيم عليه السلام بالرسالة، وهو في بابل، فقام بالواجب الذي أمره الله به خير قيام، وصبر على الأذى والابتلاء، وقابل التهديد والوعيد، بعزيمة أشد رسوخاً من الجبال، وعندما تأكد من إعراض قومه عن دعوته، هاجر في أرض الله الواسعة، يبذر بذور الإيمان في كل أرض تطؤه قدماه، فاستحق بصبره ورأيه، أن يكون أباً للأنبياء، وإماماً للأتقياء، وقدوة للموحدين الأمناء.
أيها المسلمون، ونظراً لأهمية الدور الذي قام به إبراهيم عليه السلام، فقد ذُكرت قصته في خمس وعشرين سورة، وفي ثلاث وستين آية من القرآن.
عباد الله، إن البيئة التي نشأ فيها إبراهيم عليه السلام، سيطر عليها تعدد الآلهة، ونصبت فيها التماثيل لعبادتها، لذلك عزم إبراهيم عليه السلام، على هداية قومه، وتخليصهم من هذه الأباطيل، وهذا ما يذكره الله لنا بقوله: وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إِبْر?هِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَـ?لِمِينَ إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَـ?ذِهِ ?لتَّمَـ?ثِيلُ ?لَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَـ?كِفُونَ قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عَـ?بِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ فِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ قَالُواْ أَجِئْتَنَا بِ?لْحَقّ أَمْ أَنتَ مِنَ ?للَّـ?عِبِينَ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ ?لَّذِى فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَى? ذ?لِكُمْ مّنَ ?لشَّـ?هِدِينَ [الأنبياء:51-56].
كان تعليل هؤلاء القوم لعبادتهم الأصنام، هو أنهم وجدوا آباءهم عابدين لها فاقتدوا بهم، فإبراهيم عليه السلام، أراد أن يحرر قومه من عبادة الأصنام، وما يستتبع ذلك من الاعتقاد بالخرافات والأساطير، قال تعالى: قَالَ أَفَرَءيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ ?لاْقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ ?لْعَـ?لَمِينَ ?لَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وَ?لَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَ?لَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ وَ?لَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ ?لدِينِ [الشعراء:75-82].
هذا هو إيمان إبراهيم عليه السلام يا عباد الله، إنه إيمان المستسلم لربه بكل جارحة من جوارحه، إنه الإيمان الذي ينزع من النفس همومها وأحزانها، ويسبغ عليها طمأنينة وسعادة، إنه الإيمان الذي يخلص النفس من الاستسلام للخرافات، فلا رازق ولا شافي، ولا محيي، ولا مميت، ولا غافر للذنب إلا الله رب العالمين.
أيها المسلمون، كان والد إبراهيم في مقدمة عابدي الأصنام، بل كان ممن ينحتها ويبيعها، وقد عزّ على إبراهيم فعل والده وهو أقرب الناس إلى قلبه، فرأى من واجبه أن يخصه بالنصيحة، ويحذره من عاقبة الكفر. ولكن بأي أسلوب خاطب إبراهيم أباه؟ لقد خاطبه بلهجة تسيل أدباً ورقة، مبيناً بالبرهان العقلي بطلان عبادته للأصنام، قال تعالى: وَ?ذْكُرْ فِى ?لْكِتَـ?بِ إِبْر?هِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً إِذْ قَالَ لاِبِيهِ ي?أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ي?أَبَتِ إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ ?لْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَ?تَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ي?أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ?لشَّيْطَـ?نَ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ كَانَ لِلرَّحْمَـ?نِ عَصِيّاً ي?أَبَتِ إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ ?لرَّحْمَـ?نِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَـ?نِ وَلِيّاً قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى ي?إِبْر?هِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ وَ?هْجُرْنِى مَلِيّاً قَالَ سَلَـ?مٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ وَأَدْعُو رَبّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا [مريم:41-48]. هذا كلام يهز أعطاف السامعين انظر كيف استهل إبراهيم كلامه عند كل نصيحة، بقوله: ي?أَبَتِ ، توسلاً إليه واستعطافاً لقلبه، مع استعمال الأدب الجم.
ومن ناحية أخرى يحاول إبراهيم أن يكسر بذلك الأسلوب الجذاب، حدة أبيه، حتى يستطيع أن يبلغه رسالة الله، وهذا أمر معلوم، فإن غالب الآباء هداهم الله، لا يمكن أن يقبل شيئاً من ولده لأنه يرى أنه أقل منه، وأنه خرج أساساً من صلبه، فلا يمكن أن يصل إلى مستواه، وهذا الذي كان يفكر فيه والد إبراهيم عليه السلام، ولا شك أن هذا، تفكير غير صحيح، فقد يكون الوالد صالحاً، ويخرج أولاده على غير صلاح الأب، والعكس أيضاً أمر وارد، فيكون الولد مهتدياً بنور الله عز وجل والأب يعيش، في ظلمة الجهل والهوى، كما كان حال إبراهيم مع أبيه، فحاول إبراهيم أن يقيم الحجة على أبيه وهو هادئ غير ثائر، بعد أن ناداه بذلك الأسلوب الموجب للحنان والعطف، ي?أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً. كيف تعبد يا أبت إلهاً لا يسمعك إذا ناديته، ولا يبصرك إذا اقتربت منه، ولا يجلب لك نفعاً أو يدفع عنك مكروهاً. ي?أَبَتِ إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ ?لْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَ?تَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً. لم يبدأ إبراهيم عليه السلام، حواره مع أبيه، بالحديث عن غزارة علمه، وقوة حجته، وشدة ذكائه، كما أنه لم يصف أباه بالجهل، ولو قال ذلك لكان صادقاً، وهذا ما يجب أن يتنبه إليه الأبناء، وهم يواجهون من هم أكبر منهم، سواء كانوا الآباء، أو من القرابات والأرحام، فإن طبيعة النفوس لا تقبل النصحية ممن هو أصغر منها، ولو كان على علم ودراية.
لكن كيف كانت مقابلة الوالد لولده إبراهيم لم يتقبل النصيحة، وصار يُهدد إبراهيم عليه السلام: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى ي?إِبْر?هِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ وَ?هْجُرْنِى مَلِيّاً [مريم:46]. لئن لم تنته يا إبراهيم عن ضلالك، وتعود عن باطلك، لأرمينك بالحجارة، وما عليك الآن إلا أن تخرج من داري وتعتزل مجالسي.
وهكذا طرد إبراهيم عليه السلام، من منزل أبيه، لأن ذلك الوالد، لم يرد الهداية، ولا يريد أن يكون ولده محافظاً على أوامر الله عز وجل أمامه، والأب يخالف الله، فأفضل حل أن يطرده ولا يراه أمامه.
بماذا قابل إبراهيم معاملة أبيه القاسية؟لم يقابل والده إلا بقوله سَلَـ?مٌ عَلَيْكَ. كما قال تعالى: قَالَ سَلَـ?مٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً [مريم:47]، أي لن يصلك مني أي مكروه، ولن ينالك مني أذى، بل أنت سالم من ناحيتي، وفوق كل هذا، سأدعو الله أن يغفر لك، مع أنك عاص له، بألا يعاقبك.
عندها خرج إبراهيم عليه السلام من عند أبيه، واعتزل القوم كلهم، كما قال سبحانه: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ وَأَدْعُو رَبّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا. اعتزل إبراهيم أباه وقومه، فكان لا يحضر في أفراحهم ولا أعيادهم ولا ندواتهم، ومع ذلك كان يدعو لأبيه في ظهر الغيب، عسى الله أن يهديه، ولكن هذه الدعوة لم تستمر، فبعد أن علم أن أباه لا يمكن أن يهتدي، وأنه سوف يلقى الله عز وجل وهو كافر، أمره الله عز وجل أن يتبرأ منه، قال تعالى: وَمَا كَانَ ?سْتِغْفَارُ إِبْر?هِيمَ لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْر?هِيمَ لاوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114].
أيها المسلمون، بعد ذلك، عزم إبراهيم عليه السلام، على تحطيم أصنام القوم، ورأى أنها هي الطريقة العملية، لإقامة الحجة عليهم، بأن هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع، فالبرهان العملي له في النفس البشرية وقع كبير، هو أشد أثراً من الوعظ والإرشاد.
تحين إبراهيم الفرصة المناسبة لتحقيق ما عزم عليه، حتى كان يوم عيد عندهم، خرج معهم إبراهيم عليه السلام، ثم انتهز فرصة غفلتهم، ورجع أدراجه نحو المكان الذي فيه أصنامهم، وكان قد صمم على تحطيمها، وصل إبراهيم عليه السلام إلى الهيكل الذي أقيمت فيه أصنامهم، وكان بعضها إلى جانب بعض، يتصدرها كبيرها، ورأى أمامها ما تركه القوم، قرباناً لها من الطعام والشراب، لتأكله في زعمهم، فخاطبها إبراهيم ساخراً، ألا تأكلون، فلما لم يجبه أحد، قال: ما لكم لا تنطقون، ثم انحنى عليها ضرباً بيده فكسرها كلها بفأس كان معه، وجعلها قطعاً صغيرة، أما الصنم الكبير فأبقاه ولم يكسره، وهو أكبر الآلهة عندهم، وعلق الفأس بيده ثم غادر الهيكل، قال سبحانه: فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَرَاغَ إِلَى? ءالِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِ?لْيَمِينِ [الصافات:90-93]، وجاء في آية أخرى: وَتَ?للَّهِ لاكِيدَنَّ أَصْنَـ?مَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:57، 58].
فإبراهيم عليه السلام، أراد بتحطيمه لهذه الأصنام أن يقيم دليلاً حسياً لقومه، على بطلان عبادة الأصنام، فلو كانت آلهة حقيقة لدافعت عن نفسها.
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، رجع القوم بعد أن احتفلوا بعيدهم، فرأوا ما حل بأصنامهم، فراعهم ذلك، وتساءلوا فيما بينهم عن الفاعل الذي نال من مقدساتهم، فقال بعضهم: سمعنا فتىً يذكر هذه الأصنام بسوء يسمى إبراهيم، كان من عادته أن يعيبها ويستهزئ بها، وهو الذي نظنه فعل بها هذا الفعل.
وصل الخبر إلى الحكام، فقالوا لجنودهم: أحضروه لنحاكمه على مشهد من الناس، جيء به عليه الصلاة والسلام، فسأله الحكام ءأَنْتَ فَعَلْتَ هَـ?ذَا بِئَالِهَتِنَا يإِبْر?هِيمُ [الأنبياء:62]، عندها وجد إبراهيم الفرصة سانحة ليبلغ قومه ويوصلهم إلى الحقيقة، فقال: فَاسْئَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ [الأنبياء:63]، عندها أدرك القوم، فأطرقوا رؤوسهم من الخجل، لكنهم بكفرهم وعنادهم عادوا إلى مجادلة إبراهيم قائلين، إنك تعلم أن هذه الأصنام لا تتكلم، فكيف تطلب منا أن نسألها، عندها برزت حجةُ إبراهيم مدوية مجلجلة، تقرع آذانهم، في مثل قوله تعالى: أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأنبياء:66، 67].
وبعد ما رأى القوم أنه لا يمكن مناظرة إبراهيم عليه السلام بالحجة، استخدموا القوة معه، فأصدروا حكمهم عليه بالموت حرقاً، كما قال تعالى: قَالُواْ حَرّقُوهُ وَ?نصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَـ?عِلِينَ [الأنبياء:68]، وهذا هو سلاح أهل الباطل، الذي يلجئون إليه دائماً في كل عصر، فأجمع القوم على إحراقه بالنار، ولكن أي نار، بنوا بنياناً شاهقاً، ووضعوا فيه كميات كبيرة من الحطب، شارك القوم كلهم في جمعها، قال تعالى: قَالُواْ ?بْنُواْ لَهُ بُنْيَـ?ناً فَأَلْقُوهُ فِى ?لْجَحِيمِ [الصافات:97]، قال ابن إسحاق: وجمعوا من الحطب، شهراً ثم أوقدوها، فاشتعلت النار واشتدت حتى إن الطائر ليمر بجنباتها فيحترق من شدة وهجها، وعندما أرادوا حرق إبراهيم عليه السلام، لم يستطيعوا الاقتراب من النار لشدة حرها، فوضعوه في المنجنيق، وألقوه من بعيد مكتفاً مغلولاً.
وفي تلك اللحظات كان إيمان إبراهيم بربه أشد رسوخاً من الجبال الرواسي، وكان ثقته بنصر الله وتأييده أقوى من الأرض ومن عليها، ولهذا لم يكترث لجماهيرهم المحتشدة، ونيرانهم الملتهبة، وكلماتهم النابية. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل). وقالها أيضاً رسولنا محمد ، حين قالوا: إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?ناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ فَ?نْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء [آل عمران:173، 174]. وكذلك إبراهيم انقلب بنعمة من الله وفضل لم يمسسه سوء.
فوالله إنها لكلمة نافعة في مواقف الضيق وعندما يشتد الكرب بالمسلم، لو قالها من قلب صادق موقن بنصر الله عز وجل حسبنا الله ونعم الوكيل. عندها نزلت رحمة الله عز وجل على نبيه، قُلْنَا ي?نَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـ?مَا عَلَى? إِبْر?هِيمَ [الأنبياء:69]، فسُلبت النار الخاصية التي أعطاها الله عز وجل وهي الإحراق، لتكون بأمره عز وجل برداً وسلاماً: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [يس:82].
خرج خليل الرحمن من النار سليماً معافى، وقومه يشاهدونه ولا يتعظون، لأن الله قد كتب عليهم الهلاك بكفرهم وعنادهم. وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَـ?هُمُ ?لاْخْسَرِينَ [الأنبياء:70].
ومن سنن الله أن ينصر رسله إذا بلغت الشدة بهم منتهاها، ويخذل أعداءه قال تعالى: حَتَّى? إِذَا ?سْتَيْئَسَ ?لرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّىَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ?لْقَوْمِ ?لْمُجْرِمِينَ [يوسف:110].
أيها المسلمون، نود أن نقف وقفة بسيطة، مع حرق نبي الله إبراهيم عليه السلام بالنار، فنختار لكم قصة الوزغ. روى البخاري في صحيحه، عن سعيد بن المسيب، عن أم شريك رضي الله عنها، أن رسول الله أمر بقتل الوزغ وقال: ((كان ينفخ على إبراهيم عليه السلام)) وفي رواية لأحمد، عن عائشة أن رسول الله قال: ((اقتلوا الوزغ فإنه كان ينفخ النار على إبراهيم)). قال: فكانت عائشة تقتلهن. وفي رواية أخرى لأحمد، أن امرأة دخلت على عائشة رضي الله عنها، فإذا رمح منصوب، فقالت: ما هذا الرمح؟ فقالت نقتل به الوزغ، ثم حدثت عن رسول الله : ((أن إبراهيم لما ألقي في النار، جعلت الدواب كلها تطفئ عنه إلا الوزغ، فإنه جعل ينفخها عليه)).
سبحانك يا رب، أي دين أعظم من هذا الذي هديتنا إليه ورزقتنا اتباعه، أية مشاركة وجدانية، تلك المشاركة التي أوجدها الإسلام بين أفراده. منذ آلاف السنين، وكلما رأى المسلمون وزغاً سارعوا إلى قتله، لأنه كان ينفخ النار على أبينا إبراهيم عليه السلام، ولأن عدو إبراهيم عدو لكل مسلم، وسيبقى المسلمون على ذلك، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فلا ود ولا مصالحة، مع أعداء الله ولو كانوا حيوانات صغيرة كالأوزاغ.
وقضية الوزغ وغيره، يعرفها خاصة المسلمين وعامتهم، فلو رأى فتى صغير في قرية نائية وزغاً، لسارع إلى قتله، لأنه رأى أهله يقتلونه، وسمع منهم، أنه كان ينفخ النار على خليل الرحمن عليه السلام.
ومن المحزن حقاً، أن هذه المشاركة الشعورية بين أعضاء الجسد الإسلامي الواحد، أصابها كثير من الضعف والفتور في زماننا هذا، فكم يصاب المسلمون، في أقاصي الأرض، بشتى المصائب، فلا يتحرك المسلمون برد هذه المصيبة أو الكارثة، بل ولا حتى التأثر القلبي، حتى هذا، نزع من قلوب المسلمون، وإن تأثروا، فيكون تأثرهم عابراً كسحب الصيف، ولهذا أصبحت عمليات إبادة المسلمين، في أي بقعة من الأرض، قضية لا تستحق اهتماماً.
(1/2909)
إبراهيم عليه السلام (3)
سيرة وتاريخ, فقه
القصص, المساجد
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
12/2/1409
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- هاجر وابنها في رحاب مكة. 2- جرهم سكن مكة في ضيافة هاجر وابنها. 3- بناء الكعبة
وتاريخ تجديد بنائها. 4- خراب الكعبة آخر الزمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: تتمة القصة نبي الله، خليل الرحمن، إبراهيم عليه الصلاة والسلام، نذكركم بآخر ما ذكرنا من قصة هذا النبي الكريم، وذلك بأن أسوق لكم حديث ابن عباس الطويل، الذي ذكره الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، قال ابن عباس: أوّل ما اتخذ النساء المنطق ـ وهو ما يشد به الوسط ـ من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقاً لتُعفى أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وابنها إسماعيل، وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت، عند دوحة ـ وهي الشجرة الكبيرة ـ فوق الزمزم، في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذٍ أحد، وليس بها ماء، فوضعها هنالك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاءٌ فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي، الذي ليس فيه أنيس ولا شيء، فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليهما فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا، قال: نعم، قالت إذاً لا يضيعنا، ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية ـ وهو الموضع الذي دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة منه ـ حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات، ورفع يديه فقال: رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ?لْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ فَ?جْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ?لنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَ?رْزُقْهُمْ مّنَ ?لثَّمَر?تِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37].
وجعلت أم إسماعيل، ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت، وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليه، ونظرت هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فذلك سعى الناس بينهما)).
نقف قليلاً مع قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فذلك سعى الناس بينهما)) فأي تكريم ـ يا عباد الله ـ لهاجر أكبر من أن يسعى الناس بين الصفا والمروة كل عام، كما كانت تسعى رضي الله عنها، وأية مشاركة شعورية ووحدة مصير، أعظم من أن يهرع المسلمون من كل فج عميق، ليعيشوا مع هاجر بقلوبهم وعواطفهم وحركاتهم.
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي: وخلدّ الله هذه الحركة الاضطرارية، التي ظهرت من امرأة مؤمنة مخلصة، فجعلها حركة اختيارية، يكلف بها أعظم العقلاء، وأعظم الفلاسفة والنبغاء، وأعظم الملوك والعظماء، في كل عصر، وفي كل جيل، فلا تم نسكهم إلا بالسعي بين هذين الجبلين، اللذين هما ميقات كل محب، وغاية كل مطيع، والسعي خير ممثل لموقف المسلم في هذا العالم، فهو يجمع بين العقل والعاطفة، وبين الحس والعقيدة.
أيها المسلمون، عوداً إلى نص الحديث يقول ابن عباس: (فلما أشرفت على المروة، سمعت صوتاً، فقالت: صه، تريد نفسها، ثم تسّمعت فسمعت أيضاً، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها، هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف).
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت)) أو قال: ((لو لم تغرف من زمزم، لكانت زمزم عيناً معيناً)) ـ أي ظاهراً جارياً على وجه الأرض ـ.
قال فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك، لا تخافوا الضيعة، فإن هذا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض، كالرّابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جُرهم، أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائراً عائفاً فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا، قال وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك، قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم.
قال ابن عباس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فألفى أم إسماعيل، وهي تحب الأنس، فنزلوا وأرسلوا أهليهم، فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شب فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل، يطالع تركته ـ أي يتفقد حال ما تركه هناك ـ فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت، خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت، نحن بشرّ، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له: يغيّر عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً فقال: هل جاءكم من أحد، قالت: نعم جاءنا شيخٌ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنّا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء، قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول غيرّ عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك فطلقها.
وتزوج امرأة منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، قال كيف أنتم، وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله عز وجل، فقال ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال :فما شرابكم ؟قالت: الماء، قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ولم يكن لهم يومئذٍ حبّ، ولو كان لهم دعا وما لهم فيه، قال فهما لا يخلو عليهما أحدٌ بغير مكة إلا لم يوافقاه، قال فإذا جاء زوجك فأقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال، هل أتاكم من أحد؟ قالت نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير، قال فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسك، ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبري نبلاً له، تحت دوحة قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا، كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد.
قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك، رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر ـ يعني المقام ـ فوضعه له. فقام عليه، وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [البقرة:127]، قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ )) انتهت رواية البخاري.
ويشير القرآن إلى بناء الكعبة بهذه الآيات البينات: وَإِذْ جَعَلْنَا ?لْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْناً وَ?تَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْر?هِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى? إِبْر?هِيمَ وَإِسْمَـ?عِيلَ أَن طَهّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَ?لْعَـ?كِفِينَ وَ?لرُّكَّعِ ?لسُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْر?هِيمُ رَبِّ ?جْعَلْ هَـ?ذَا بَلَدًا آمِنًا وَ?رْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ?لثَّمَر?تِ مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى? عَذَابِ ?لنَّارِ وَبِئْسَ ?لْمَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْر?هِيمُ ?لْقَوَاعِدَ مِنَ ?لْبَيْتِ وَإِسْمَـ?عِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [البقرة:125-127].
أيها المسلمون، بنى إبراهيم عليه السلام، بيت الله، وارتفع البناء، ومازالت أفئدة الناس تتلهف إلى هذا البناء، منذ أن بُنيَ وحتى اليوم، وفي هذا حكمة عجيبة أيها الأخوة، الله أعلم بها، فليس هناك بناء على وجه الأرض، تشتاق إليه القلوب، وتتلهف لمشاهدته مثل الكعبة، وكلما زاد الإنسان الطواف به، وكلما زاد النظر إليه، زاده ذلك شوقاً، وما خرج مسلم صادق الإيمان من مكة، إلا وقلبه متعلق بهذا البناء، لا يدري هل يعود إليه أم لا، ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: ((اجعلوا آخر عهدكم بالبيت)).
أيها المسلمون، عباد الله، وها نحن نرى المسلمين، يتواردون إلى مكة من كل فج عميق، وينطلقون في حشد لم يعرف ولن يعرف التاريخ له مثيلاً، في العدد والنظام، ووحدة المشاعر والهدف، وجميعهم يرددون بصوت واحد: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك". مئات الألوف من الناس، يقفون يوم التاسع من ذي الحجة، في كل عام في أرض عرفات، يقفون وقد خلعوا ملابسهم إلا لباس الإحرام، وأقبلوا على الله داعين ملبين. وتتحرك هذه الجماهير المحتشدة كلها من عرفات، قبل غروب الشمس، كما تتحرك من مزدلفة بعد صلاة الفجر، وكل شيء في هذه الشعائر يذكرها بإبراهيم وإسماعيل ومحمد عليهم أفضل الصلاة والسلام وأتم التسليم.
فعندما يطوفون بالبيت العتيق، يتذكرون من بناه، وكيف كان إبراهيم وإسماعيل يدوران حول البيت، ويرددان رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ. وعندما يسعون بين الصفا والمروة، يتذكرون سعي هاجر الحزينة وهي تبحث عمن يغيثها، وينقذ ابنها من الهلاك. وعندما يشربون من زمزم، يتذكرون كيف فجر الله هذا الماء، ومنّ به على عبده ونبيه إسماعيل عليه السلام. وعند رمي جمرات العقبة، يتذكرون كيف اعترض الشيطان إبراهيم عليه السلام، ليفتنه بمعصية، أو يُدخل على حجه شبهة، وكيف رماه الخليل بالحجارة طرداً له وقطعاً لأمله. وعند ذبح الهدي، يتذكرون إسماعيل الذبيح، وكيف فداه الله بكبش عظيم. إن الحج بمناسكه وأركانه، يتجلى فيه منتهى الانقياد لله، وغاية الاستسلام والإذعان لله، وفيه يجدد المسلمون العهد من أجل أن يعودوا خير أمة أخرجت للناس.
فنسأل الله أن يعيد لهذه الأمة خيريتها إنه ولي ذلك والقادر عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن من معتقد أهل السنة والجماعة، أن بيت الله، هذا الذي تشاهدونه، وتطوفون به، وتحجون وتعتمرون إليه، سوف يهدم في آخر الزمان، ولاشك أن هذا أمر لا يتوقعه مسلم صادق في إسلامه، لشدة حبه وتعلق قلبه بالحرم، لكن كما هو مقرر عندنا، لو صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد من الإيمان به، سواء تصورناه أم لم نتصوره، وهناك عدد من الأحاديث الصحيحة التي أخبرت بهدم الكعبة في آخر الزمان.
كيف لو استعرضنا تاريخ الكعبة، وأنها قد تعرضت للهدم والغزو عدة مرات، فلا يستبعد أن تهدم في آخر الزمان أيضاً.
فأول مرة هدمت فيها الكعبة بعد أن بناها إبراهيم عليه السلام، كانت في زمن قريش في الجاهلية، قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات تقريباً، وكان عمره آنذاك خمساً وثلاثين سنة، أرسل الله عز وجل سيلاً عظيماً فهدمها، فتشاورت قريش واجتمعت وأجمعت على عمارتها، وكان بمكة رجل قبطي نجار، فسوى لهم ذلك، وبنوها ثمانية عشر ذراعاً، حتى أتوا على موضع الحجر، واختلفوا أي قبيلة تضعه، حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم بينهم، والقصة معروفة لديكم.
ثم بقى البناء على ما هو عليه من زمن قريش حتى تولى عبد الله بن الزبير إمارة الحجاز، فهدمت للمرة الثانية في زمنه، والسبب هو الخلاف الذي بين عبد الله بن الزبير، ويزيد بن معاوية رحمهما الله تعالى، فأرسل يزيد جيشاً بقيادة الحصين بن نمير السكوني، لقتال ابن الزبير، فتحصن عبد الله بن الزبير في المسجد حول الكعبة، ونصب فيها خياماً يستظلون بها من الشمس، لكن الحصين، نصب المنجنيق على الأخشبين، وصار يرمي على ابن الزبير وأصحابه. وكانت أحجار المنجنيق تصيب الكعبة، فوهنت لذلك، وتخرقت كسوتها، ثم إن رجلاً من أصحاب ابن الزبير أوقد ناراً في بعض الخيام، والمسجد يومئذٍ صغير، فهبت ريح شديدة، والكعبة مازالت على بناء قريش من اللبن والحجارة فطارت شرارة من تلك النار، وتعلقت بكسوة الكعبة فاحترقت، فازداد التصدع في جدارها فبعد ما توقف القتال، استشار عبد الله بن الزبير في هدم الكعبة وبنائها من جديد، فأبى عليه أغلب الناس، وكان أشد الناس إباءً عليه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقال له: دعها على ما أقرها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم وتبنى، فيتهاون الناس بحرمتها، ولكن إرقعها، فقال ابن الزبير، والله ما رضي أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه، فكيف أرقع بيت الله. واستقر رأيه على هدمها، وأن يعيدها على قواعد إبراهيم عليه السلام، فلما كان يوم السبت الخامس عشر من جمادى الآخرة، سنة أربع وستين، أمر بهدمها، فلم يجرؤ أحد على ذلك، وخرج أهل مكة مخافة أن ينزل بهم عذاب وخرج ابن عباس إلى الطائف، فلما رأى ابن الزبير ذلك، علا بنفسه وأخذ المعول وجعل يهدمها، ثم صعد معه الناس وهدموها وأعاد بناءها على قواعد إبراهيم، وأدخل الحجر في البيت.
ثم لما تولى عبد الملك بن مروان الخلافة، وكان يعلم أن الحجر في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كان خارج البيت، وأن ابن الزبير قد أدخلها ضمن البيت، فقال: هذه بدعة، ابتدعها ابن الزبير، ما عهدنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهدم الكعبة من جديد، وأخرج الحجر خارج البيت، والله المستعان. مع أن الأصل أن يكون الحجر داخل البيت، كما بناها إبراهيم عليه السلام، ولكن قريش أخرجت الحجر، لأنه قصرت بهم النفقة والمال الذي جمع لبنائها بعدما هدمها السيل لم يكف لبنائها كاملاً، فاضطروا لإخراج الحجر.
ثم لما تولى الخلافة المهدي أو أبوه المنصور، استشار العلماء في هدمها مرة رابعة ليعيد بناءها إلى ما كان صنعه ابن الزبير، فقال له الإمام مالك رحمه الله تعالى، إمام دار الهجرة: لا تفعل، ومنع الخليفة من ذلك وقال: إني أكره أن يتخذها الملوك ملعبة، يبنى هذا، ويهدم هذا، فتركها على ما هي عليه، فبقيت على وضعها تلك حتى وقتنا هذا.
عباد الله، أما عن غزو البيت، ومحاولة الاعتداء عليه، وأخذ كنوزه، فكثيرة جداً، ولا يتسع هذا المقام لذكره كله، ولكن نذكر طرفاً منه. فأول محاولة في عهد أبي طالب في الجاهلية، وقصة أصحاب الفيل، وجيش أبرهة المعروف، وكيف أن الله عز وجل حمى بيته، وأرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول.
واعتدى أيضاً القرامطة على بيت الله، في زمن أميرهم أبي الطاهر سليمان بن أبي سعد، فدخل مكة المشرفة، فقتل من الحجاج كثير، ثم أمر القرمطي لعنه الله، أن تدفن القتلى ببئر زمزم فدفنوا بها، ودفن كثير منهم في أماكنهم في أزقة مكة وشعابها، حتى في المسجد الحرام وهدم القرمطي قبة زمزم، وأمر بقلع باب الكعبة، ونزع كسوتها عنها، وفرقها بين أصحابه، ثم أمر بقلع الحجر الأسود وأخذوه معهم إلى بلادهم، وكانوا يسكنون منطقة الأحساء حالياً، حتى قيض الله عز وجل مملوكاً تركياً، في زمن الخليفة القائم بأمر الله، فاستنقذ الحجر الأسود من أيدي القرامطة، وافتداه منهم بخمسين ألف دينار، بذلها حتى ردوه إلى مكة.
عباد الله، وأما عن خراب وهدم الكعبة في آخر الزمان، فقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، أنه في آخر الزمان، يخرج رجل من الحبشة وهو الذي يهدمها. ففي ما رواه الإمام أحمد في مسنده، عن عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يخرب الكعبة ذو السويقتين في الحبشة، ويسلبها حليها، ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه، أصيلعاً أفيدعاً، يضرب بمسحاته ومعوله)). وفي البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كأني أنظر إليه أسود أفحج، ينقضها حجراً حجراً، يعني الكعبة)).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة)) وإنما سمى ذو السويقتين لصغر ساقيه، لرقتهما.
أيها المسلمون، وقد يسأل سائل فيقول، كيف يهدم الكعبة، وقد جعل الله مكة حرماً آمناً؟ والجواب على ذلك، أن الله يجعل مكة آمناً إلى قرب يوم القيامة، وقبيل يوم القيامة، يأتي هذا الجيش ويهدمها بأمر الله عز وجل. هذا ما قرره النووي.
فنسأل الله عز وجل، بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجنبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
(1/2910)
اتق الله حيثما كنت
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى التقوى. 2- التقوى بين الدعوة والحقيقة. 3- وصايا السلف بتقوى الله. 4- جزاء
المتقين. 5- صفات المتقين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، فإن تقوى الله تعالى خير زادٍ يُتزود به للدار الآخرة، وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ?للَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? وَ?تَّقُونِ يأُوْلِي ?لالْبَـ?بِ [البقرة:197].
وهي وصية الله تعالى للأولين والآخرين من خلقه، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ وَكَانَ ?للَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً [النساء:131]. فاتقوا الله رحمكم الله، اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، باجتناب نواهيه، واتباع أوامره.
أيها الناس، التقوى وصية عظيمة من الله تعالى لعباده، وهي في حقيقتها:العمل بالتنزيل، والخوف من الجليل سبحانه، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل والقدوم على الله يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
والتقيُّ من عباد الله مرهف الضمير، دائم الخشية، سريع الإنابة، يسير في سبيل الله ويتقي أشواك الطريق المهلكة، فؤاده موصول بمولاه، وجل من الشهوات والرغائب، بعيد عن المطامع والدنايا.
عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، أو غيرك. قال: ((قل آمنت بالله ثم استقم)) رواه مسلم.
وهذه العبارة البليغة ممن أُوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم تفسير للتقوى على حقيقتها الشرعية، وهي أن يؤمن الإنسان بالله سبحانه وتعالى إلهاً وخالقاً، وربّاً ومدبراً، ثم يستقيم على منهج الله السوي، ويلتزم بصراطه المستقيم اتباعاً للأوامر، واجتناباً للنواهي، وبُعداً عن المحرمات.
أيها المسلمون، يقول الحق سبحانه وتعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]. فهل اتقى الله حق تقاته من انتهك محارمه وضيّع أوامره ونواهيه؟ وهل اتقى الله حق تقاته من ضيع شبابه في غير طاعة الله سبحانه؟ وصرف عمره في معصية الله، دون أن يقدم لنفسه ما يخلصها من عذاب الله ويدخلها الجنة برحمة الله؟ وهل اتقى الله حق تقاته من كسب المال من الحرام والغش والخداع، وأنفقه في الحرام؟ وهل اتقى الله حق تقاته من أضاع الأمانة، ولم يقم بالمسئولية الملقاة على عاتقه نحو الله سبحانه أو نحو أهله ومن تحت يده؟
إن التقوى في حقيقتها ليست ادعاء مجرداً عن الحقيقة والانتماء، وإنما هي شعور يختلج في الصدر، فيظهر على الجوارح من خلال العمل الصالح والخوف والخشية من الله سبحانه، والاستعداد ليوم القدوم على الله.
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
فتقوى الله خير الزاد ذخرا وعند الله للأتقى مزيد
ليكون حجاباً بينه وبين الحرام، فإن الله سبحانه قد بين لعباده ما يصيرهم إليه فقال عز وجل: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7، 8].
عباد الله، إنَّ التقوى كما وردت في عبارات السلف الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ هي: أن يعمل الإنسان بطاعة الله، على نور من الله، يرجو ثواب الله، وأن يترك معصية الله، على نور من الله، يخاف عقاب الله.
يوضح ذلك ما قاله الحق سبحانه وتعالى في محكم كتابه: وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى? رَبّهِمْ ر?جِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَـ?رِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَهُمْ لَهَا سَـ?بِقُونَ [المؤمنون:60، 61].
وأعظم ما تكون التقوى إذا خلت النفس مع ربها، وطغت عليها شهواتها، وانفرد بها شيطانها، فتذكرت عالم السر والنجوى الذي يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويرى نياط عروقها ومكانها، وخافت من نار تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى، الذي كذب وتولى، فآثرت هداها على هواها، وعادت إلى ربها، وذكرت أمر خالقها، وَسَيُجَنَّبُهَا ?لأَتْقَى ?لَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى? [الليل:17، 18]. عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)).
ومن وصايا بعض السلف لبعض: "أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك، ورقيبك في علانيتك، فاجعل الله من بالك على كل حال، في ليلك ونهارك، وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك".
إن الله سبحانه وتعالى أهل أن يُخشى ويُتقى، ويُهاب ويُعظم في صدور عباده، حتى يعبدوه ويطيعوه لما يستحق من الإجلال والإكرام، وصفات الكبرياء والعظمة وقوة البطش وشدة البأس.
وإن التقوى هي المحرك للمؤمن، والباعث للمتواني على القيام بالتكاليف الشرعية التي افترضها الله على العباد، فكم من أعمال وواجبات تضعف عنها النفوس الضعيفة، وتستثقلها القلوب المريضة ما حمل المؤمن على القيام بها، والعناء من أجلها، والصبر عليها إلا التقوى والمحاسبة.فأصحاب القلوب النقية تهونُ عندهم الدنيا، وتصغر في أعينهم كبارُ مصائبها، ويتحملون العذاب والمشاق في سبيل المحافظة على إيمانهم، وسلامة تقواهم.
سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، فقال: ((تقوى الله، وحسن الخلق)).
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (ليس تقوى الله بصيامِ النهار، ولا بقيام الليل، والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رُزِقَ بعد ذلك خيراً فهو خيرٌ إلى خير).
وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أوصيك بتقوى الله فإنها رأس الأمر كله)).
أيها المسلمون، كم للتقوى من ذكر في كتاب الله، وكم علق عليها من خير، ووعد عليها من ثواب، وربط بها من فلاح، وانعقد عليها من كرامة، فإن الله سبحانه وتعالى مع المتقين بنصره وتأييده، وتوفيقه وهدايته، ومن كان الله معه فمن يضره؟! إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّ?لَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128].
إن استجلاب الخيرات، وتنزل البركات لا يكون إلا بالإيمان الصادق بالله تعالى المقرون بالتقوى، وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ و?تَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ ?للَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [البقرة:103]، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ?للَّهَ بَـ?لِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ?للَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً [الطلاق:2، 3].
ولهذا كله فما زال السلف رضي الله عنهم يتواصون بالتقوى، ويتعاهدون بعضهم بالوصية بها. كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى رجل، فقال: "أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلاّ عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين".
وكتب بعضهم إلى صاحبه: "أوصيك بتقوى الله، فإنها أكرم ما أسررت، وأحسن ما أظهرت، وأفضل ما ادخرت، أعاننا الله وإياك عليها، وأوجب لنا ولك ثوابها".
عباد الله، وحين تتمكن التقوى من النفوس، وتتربع في سويداء القلوب تجعل صاحبها عبداً لله حقاً، إذا خلا بمحارم الله خاف الله تعالى واتقاه، وعظّمه أن يكون أهونَ الناظرين إليه.
عن ثوبان رضي الله عنه أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: ((لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً، فيجعلها الله عز وجل هباءً منثوراً)). قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جَلِّهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: ((أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)).
وإذا خلوت بريبةٍ في ظلمةٍ والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
يقول ابن رجب ـ عليه رحمة الله ـ موضحاً السبب المباشر وراء تلك الحياة الكريمة التي حققها السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان في القرون الماضية: "ما زالت التقوى بالصحابة حتى تركوا كثيراً من المباحات خشية أن تكون من المحرمات".
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيراً ما يقول: (والله إني لأخشى أن أكونَ ممن يُقال لهم يوم القيامة: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا، واستمتعتم بها، ثم يبكي حتى يَبُل الثرى).
وذكر البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان لأبي، ـ أبي بكر الصديق ـ غلام يأكل من خراجه، فجاءه ذات يوم بطعام، فأكل منه، فلما فرغ قال له الغلام: يا أبا بكر! أتدري من أي طعامٍ أكلت؟ قال: لا! قال: إني كنت تكهنت في الجاهلية، ولم أكن أحسن الكهانة، فأصبت مالاً، وإنَّ هذا الطعام من بقايا ذلك المال. فقام أبو بكر رضي الله عنه فأدخل يده في فمه، فقاء ما في بطنه كله مخافة أن يدخل جوفه حرام).
وذكر أهل السير أن امرأة كانت تغزل للناس، فجاءت إلى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله فسألته، فقالت: يا أبا عبد الله! إني امرأة أغزلُ للناس وأنسج لهم، وإني أغزل في الليل على ضوء السراج، فينطفئ أحياناً، فأغزل على ضوء القمر، فهل يلزمني أن أبين للناس ما غزلته على ضوء السراج، وما غزلته على ضوء القمر؟! فبكى الإمام أحمد من ورعِ المرأة، ثم سألها عن أهلها، فذكرت أنها أخت بشر الحافي رحمة الله على الجميع.
بمثل هذه النماذج الرائعة في الورع والتقوى، وتحقيق الخشية لله تعالى وفق ما أمر به سبحانه ساد السلف على العالم، يوم أن حققوا التقوى واقعاً ملموساً في حياتهم، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه. حتى ليصدق فيهم قول القائل:
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحاراً
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والحرب تقدف ناراً
كنا نرى الأصنام من ذهبٍ فنحطمها ونحطم فوقها الكفارا
فاتقوا الله عباد الله، واقتفوا آثار سلفكم الصالح، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أقول قول هذا وأستغفر الله تعالى فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: اتقوا الله واشكروه وأطيعوه وراقبوه، واعلموا أنكم ملاقوه، فكونوا مع المتقين.
عباد الله، المتقون ذوو نفوس تقية، وقلوب زكية، تتوقى الضلالة، وتجتنب سبل الغواية، يعظمون شعائر الله، فيأتون الحلال تقرباً إلى الله، وحباً في الخير، ويبتعدون عن الحرام امتثالا لأمر الله، وبغضاً لما حرم الله. ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32].
المتقون أبعد الناس عن الانخداع بنزغات الشيطان وتوهيمه، فإذا مسهم طائف منه تذكروا فإذا هم مبصرون. قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (ينادى يوم القيامة أين المتقون؟ فيقومون في كنف الرحمن، لا يحتجب منهم ولا يستتر. قالوا: ومن المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله العبادة).
وقال ابن عباس رضي الله عنه: (المتقون هم الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من السيئات والهوى، يرجون رحمته بالتصديق بما جاء به من البينات والهدى).
المتقون ـ يا عباد الله ـ قوم تنزهوا عن أشياء من الحلال المباح مخافة أن يقعوا في الحرام، فسماهم الله متقين. ولقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به البأس)).
وأصل التقوى، أن يعلم الإنسانُ ما يتقى ثم يتقيه. وفي صفات أهل الإيمان والتقوى يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (هم أهل الفضل، منطقهم الصواب، وملبسهم في اقتصاد، ومشيهم في تواضع، غضوا عن الحرام أبصارهم، ووقفوا على ما يستفاد أسمائهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كما نزلت في الرخاء، عَظُم الخالق في نفوسهم، فصَغُر ما دونه في عيونهم، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، مطالبهم في الدنيا خفية، وأنفسهم عما فيها عفيفة، صبروا أياماً قصيرة، فأعقبهم راحة طويلة، يصفُّون أمام ربهم، جاثون على الركب، يطلبون النجاة من العطب، لا يرضون من الأعمال الصالحة بالقليل، ولا يستكثرون منها الكثير، من ربهم وجلون، ومن أعمالهم مشفقون، يتحملون في الفاقة، ويصبرون في الشدة، ويشكرون على النعمة، قريب أملهم، قليل زللهم، الخير فيهم مأمول، والشر منهم مأمون).
أيها المسلمون، قد يُرى المتقي في هذه الحياة رث الثياب، خشن المنظر، ضعيفاً متضعفاً، فتزدريه العيون، وتحتقره النفوس، وهو من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [النمل:53].
ورُبّ أشعث أغبر ذي طمرين باليين لا يؤبه له، مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله تعالى لأبر الله قسمه.
المتقون، رضوا بالله تعالى رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، لا يأكلون الربا، ولا يستمعون الغناء، ولا يستحلون الرِشا، يطعمون الطعام، ويفشون السلام، ويصلون بالليل والناس نيام، ويصلون الأرحام طمعاً في دخول الجنة دار السلام.يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويخلصون النصيحة للمسلمين، يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، لا يستهينون بصغيرة من الذنوب، ولا يجترئون على كبيرة، ولا يصرون على خطيئة وهم يعلمون.
عباد الله، وإذا تحلى العبد بالتقوى اتصف بالإخلاص لله في كل عمل، وصدق الاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم، فصار جميل الخلق، طيب القول، منافساً في الخير، سباقاً إلى كل فضيلة، يعبد ربه عبادة من يوقن بالوقوف بين يديه، والعرض عليه، ويخشاه خشية من يعلم أن الله مطلع عليه ويراه أينما كان، وأنه سبحانه وتعالى يجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
وهناك جانب مهم يغفل عنه فئام من الناس، وهو أن كثيراً منهم يظن أن التقوى هي القيام بحقوق الله تعالى، والابتعاد عن معصيته فقط، ويُفرطون في حقوق الناس، وهذا جميل وحسن، ولكن التقوى الكاملة هي القيام بحقوق الله تعالى وحقوق الناس جميعاً.
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: "وكثيراً ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله، والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته إهمال حقوق العباد بالكلية أو التقصير فيها، والجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيز جداً، لا يقوى عليه إلا الكُمَّل من الأنبياء والأتقياء".
فاتقوا الله تعالى حق التقوى، حققوا التقوى واقعاً ملموساً في حياتكم، قوموا بحقوق الله تعالى وحقوق عباده على الوجه الذي يُرضي الله عنكم.
ثم صلوا ـ رحمكم الله ـ على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
(1/2911)
أخطاء بعض المصلين (1)
فقه
الصلاة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
10/11/1411
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث المسيء صلاته. 2- التنبيه على أخطاء بعض المصلين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لم ينته حديثنا بعد، عن اليهود وجرائمهم عبر التاريخ، لكن عرضت علي قضية، أرى أنها من الأهمية بمكان، لا تحتمل التأخير، وسوف يكون لنا عودة إلى اليهود في مرات قادمة إن شاء الله. هذه القضية يا عباد الله، هي أخطاء بعض المصلين هداهم الله في صلاتهم, فإن الصلاة كما لا يخفاكم أيها الإخوة شأنها عظيم في دين الإسلام، وميزانها جليل، ومنزلتها عند الله عالية، الصلاة مكيال، من وفاه وفي أجره من رب العالمين، ومن طفف فيه فقد علمتم ما قال الله في المطففين. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام فقال: ((ارجع فصل فإنك لم تصل)) ، فعل الرجل ذلك ثلاثاً، وفي كل مرة يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ارجع فصل فإنك لم تصل)) فقال والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا، فعلمني، فعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، وكيف تؤدى. الرسول قال لهذا الرجل: ((ارجع فصل فإنك لم تصل)) ، لأنه رأى عليه بعض الأخطاء، وبعض الأمور التي قد تركها فأخلت بصلاته، وكثير من المصلين هذه الأيام ومع الأسف لا يحسن أداء الصلاة تامة كاملة، كما يريدها رب العالمين، وكما صلاها رسولنا صلى الله عليه وسلم، وعلمنا ذلك بفعله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) فيقع كثير من المصلين في أخطاء، إما أنها تبطل صلاتهم بالكلية والعياذ بالله وإما أنها تنقص من أجورهم.
فهذه محاولة مني أيها الإخوة، جمعت فيها بعض الأخطاء التي يقع فيها المصلين، بعضها شاهدتها بنفسي في مسجدنا هذا، وغيره من المساجد، وبعضها نقل إلي أنها تقع من المصلين، فأحببت أن أفردها في خطبة خاصة. أسال الله عز وجل أن ينفعنا بها جميعاً. اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
فأولى هذه الأخطاء: ما يفعله بعض المصلين من الجهر بالنية عند ابتداء الصلاة والجهر بالنية بدعة يا عباد الله، لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به، ولا فعله صحابته من بعده، فبعض المصلين هداهم الله، يبدأ صلاته بقوله: "نويت أن أصلي صلاة الظهر فريضة الوقت أداء لله تعالى" إلى آخر ما يقول، فكل هذا بدعة وخطأ يجب تركه وعدم فعله. يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)).
خطأ آخر يقع فيه بعض المصلين، وهو قول بعضهم في دعاء الاستفتاح: ((ولا معبود سواك)) ، وهذه زيادة لم تثبت عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الصحيح أن يقول المصلي في دعاء الاستفتاح: ((سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك)) أما لفظة: ((ولا معبود سواك)) ، فهي خطأ في قولها، وهي أيضاً في نفس الوقت خطأ في معناها، لأن هناك أشياء تعبد من دون الله، كما قال تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98]. فكيف يقول المصلي: ((لا معبود سواك)).
ومن الأخطاء استناد بعض المصلين إلى جدار بجواره أو عمود خلفه وهو يستطيع القيام وليس له عذر مشروع في الاستناد فإن هذا الفعل لا يجوز في صلاة الفرض، لأن الواجب على المستطيع الوقوف معتدلاً غير مستنداً. أما في النافلة فلا حرج في ذلك، لأنه يجوز أداؤها قاعداً، فكان أداؤها قائماً مستنداًَ جائزاً من باب أولى.
ومما نود التنبيه عليه أيضاً أن بعض المصلين يخالف السنة في القراءة، فيصل الآية بالآية الأخرى، وربما وصل ثلاث آيات أو أكثر مع بعضها البعض بنفس واحد، خصوصاً إذا قرأ من قصار المفصل، وهذا أمر وإن كان جائزاً فهو خلاف السنة، فعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها، أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان يقطع قراءته: آية آية، بِسْمِ اللَّهِ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لرَّحِيمِ ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لرَّحِيمِ مَـ?لِكِ يَوْمِ ?لدّينِ [الفاتحة:1-4]) أخرجه أبو داود والترمذي.
ومن الأخطاء الشائعة أيضاً، التأمين بعد الإمام في قوله: وَلاَ ?لضَّالّينَ [الفاتحة:7]، فإن هناك جملة من الأخطاء، منها قول بعض المصلين: آمين ولوالدي وللمسلمين، فهذه زيادة لا أدري من أين أتوا بها، وهو خطأ ولا شك، ومنها مسابقة بعض المصلين هداهم الله الإمام في التأمين، فالإمام لا يزال يقول: وَلاَ ?لضَّالّينَ ، فيستعجل المأموم، ويبدأ قبل غيره بالتأمين، وهذا خطأ واضح، بل ويحصل فيه التشويش على غيره، والأعظم من هذا انه يفوت على نفسه أجراً كبيراً بسبب عجلته، وعدم معرفته بالسنة، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أمّن الإمام فأمنوا، فأنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)) ، والملائكة لا تأمِّن إلا بعد فراغ الإمام من قوله: وَلاَ ?لضَّالّينَ ، فتأملوا رحمكم الله عظم الأجر الذي يفوته على نفسه هذا المستعجل ((غفر له ما تقدم من ذنبه)) بسبب عدم معرفته بالسنة وبسبب استعجاله، وصدق الله حيث يقول: وَكَانَ ?لإِنْسَـ?نُ عَجُولاً [الإسراء:11].
ومن الأخطاء والتي كثيراً ما يقع بها الناس، عدم إقامة الصلب ـ وهو الظهر ـ في القيام والجلوس والركوع والسجود. فيلاحظ على بعض المصلين أن قيامه في صلاته غير مكتمل، فتارة يكون محدوباً ظهره، وتارة مائلاً جهة اليمين، أو جهة اليسار وهذا منهي عنه، فقد ورد النص الصريح على إقامة الصلب في القيام والجلوس عن الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((لا ينظر الله عز وجل إلى صلاة عبد لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده)) وأمر صلى الله عليه وسلم المسيئ صلاته بقوله: ((ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائماً فيأخذ كل عظم مأخذه)) ، وفي رواية: ((وإذا رفعت فأقم صلبك وارفع رأسك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها)) ، ثم قال: ((إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس إذا لم يفعل ذلك)).
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي فلمح بمؤخر عينه إلى رجل لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، فلما انصرف قال: ((يا معشر المسلمين إنه لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود)) ، فعلى كل منكم يا عباد الله أن يحرص على إقامة ظهره ما استطاع في صلاته لتسلم له صلاته، لأن عدم إقامة الظهر في الركوع والسجود نقص في الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: ((أسوء الناس سرقة، الذي يسرق من صلاته، قالوا يا رسول الله وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها وسجودها)).
أيها المسلمون، إني لأعلم أنه يدور في ذهن بعضكم الآن هذا السؤال، وهو كيفية إقامة الظهر في الصلاة، وكيف يقيم أحدنا ظهره في صلاته، لكي لا يقع في هذا الخطأ؟
الجواب: هو ما ثبت في سنن ابن ماجه وغيره أنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي ظهره في الركوع حتى لو صبت عليه الماء لاستقر، وقال صلى الله عليه وسلم للمسئ صلاته: ((فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتك وامدد ظهرك ومكن ركوعك)) رواه أحمد وأبو داود بسند صحيح.
اللهم تقبل منا صلاتنا، وثقل لنا موازيننا، ولا تضرب بها وجوهنا، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وناصر عباده المؤمنين، وخالق الخلق أجمعين، وأشهَدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين وصاحب لواء الحمد يوم الدين، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه، وعلى آله وعلى أصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: عباد الله، ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض المصلين أيضاً انتظارهم للإمام إن كان ساجداً حتى يرفع أو جالساً حتى يقوم، وعدم الدخول معه إلا إذا كان قائماً أو راكعاً. فإذا دخل المسجد وكان الإمام ساجداً مثلاً، فإنه يأتي إلى الصف ثم يقف حتى يرفع الإمام، فإذا قام دخل معه في الصلاة، وهذا تصرف خاطئ أيها الإخوة ومخالف للسنة، والصواب أن يدخل مع الإمام على أي حال كان عليه الإمام، قائماً أو راكعاً أو ساجداً أو جالساً، فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) رواه البخاري، قال ابن حجر: ويستدل به على استحباب الدخول مع الإمام في أي حالة وجد عليها.
وروى الترمذي عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام)) ، وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وجدتم الإمام ساجداً فاسجدوا، أو راكعاً فاركعوا، أو قائماً فقوموا، ولا تعتدوا بالسجود إذا لم تدركوا الركعة)).
ومن الأخطاء الشائعة أيضاً، والتي لا يراعيها بعض المصلين، هو عدم تمكين الأعضاء السبعة حال السجود، وهذا خطأ فاحش، وخلاف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى البخاري في صحيحه، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة أعضاء ولا يكف شعراً ولا ثوباً: الجبهة واليدين والركبتين والرجلين) والأخطاء التي تقع من الناس في هذا على أنواع: منها: أن بعض الناس إذا سجد رفع قدميه قليلاً عن الأرض، أو جعل أحدهما على الأخرى، وهذا خطأ، وهو في هذه الحالة لم يَصْدُق عليه أنه سجد على سبعة أعظم. ومن الناس من إذا سجد يكون أنفه على طرف البساط ويرتفع جبينه فلا يلامس الأرض، والبعض عكس هذه الحالة يضع جبينه على الأرض ويرفع أنفه، وكل هذا خطأ، ويكون السبب أحياناً في وقوع المصلي في هذا الخطأ، أنه يكون لابساً للعقال، فإذا سجد على طرف العقال ولم يكن قد رفعه أو وضعه، فيأتي طرف عقاله على الأرض، فيرتفع بذلك أنفه أو جبينه عن الأرض، وهو بهذه الحالة لم يسجد على الأعضاء السبعة التي أمر بها، وقد أفتى بعض العلماء بعدم صحة صلاة من لم يسجد على الأعضاء السبعة وهو قادر على ذلك، فانتبهوا لهذا الأمر يا عباد الله، واتقوا الله عز وجل في صلاتكم، فإنها عماد دينكم.
ومن الأخطاء أيضاً: أن بعض المصلين إذا فرغ من قراءة التشهد، والإمام لا يزال جالساً ولم ينته بعد، فإن المصلين يقعون في هذه الحالة في خطأين. فبعضهم، يقوم ويعيد التشهد مرة أخرى، ليقطع سكوته، ويكون بإعادته للتشهد قد فعل فعلا محدثاً في الصلاة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) ، والبعض الآخر: لا يعيد التشهد، بل يبقى ساكتاً حتى يقوم الإمام إذا كان في التشهد الأول، أو يسلم إذا كانت الأخرى. وهذا السكوت والصمت في الصلاة أيضاً خطأ. وإنما السنة في هذه الحالة والصواب، أن يتخير المصلي من الدعاء ما شاء، فلا يبقى ساكتاً، ولا يعيد التشهد، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قعدتم بين كل ركعتين فقولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله، وأشهَدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله، ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه)) رواه أحمد وغيره.
ومن الأخطاء أيضاً، ونجعل هذا آخر كلامنا في هذه الجمعة خشية الإطالة والسآمة ما ورد النهي عنه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد: قال: (نهاني خليلي صلى الله عليه وسلم عن ثلاث: عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب، فكل من فعل أحد هذه الثلاث فقد أخطأ والمراد بنقر الديك، هو السرعة في الصلاة وعدم الاطمئنان، ونقر السجود كنقر الديك وإقعاء الكلب هو إلصاق الإليتين بالأرض ونصب الساقين ووضع اليدين على الأرض فهذه الحركة منهي عنها في الصلاة، وتعد من الأخطاء الفاحشة، وقد جمع الشاعر الحركات المنهية عنها في الصلاة بقوله:
إذا نحن قمنا في الصلاة فإننا نهينا عن الإتيان فيها بستة
بروك بعير والتفات كثعلب ونقر غراب في سجود الفريضة
وإقعاء كلب أو كبسط ذراعه وأذناب خيل عند فعل التحية
اللهم وفقنا للعمل بكتابك...
(1/2912)
أخطاء بعض المصلين (2)
فقه
الصلاة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
17/11/1411
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض أخطاء المصلين قبل الصلاة. 2- بعض أخطاء المصلين أثناء الصلاة. 3- أخطاء المصلين المتعلقة بصلاة الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، نظراً لأهمية الموضوع الذي طرق في الأسبوع الماضي، وهي الأخطاء التي يقع فيها بعض المصلين في صلاتهم، ونظراً لأن هناك الكثير من الأخطاء، التي لم نتعرض لها في الأسبوع الماضي، فإننا نواصل في جمعتنا هذه، بعد توفيق الله عز وجل، جملة أخرى من الأخطاء، أسال الله عز وجل أن ينفعني وإياكم بها.
فمن الأخطاء التي يقع بها بعض المصلين أيضاً هو أنه يقوم إذا كان مسبوقاً لقضاء ما فاته قبل تسليم الإمام أو قبل انتهاء الإمام من السلام، وذلك أن المصلي أحياناً تفوته ركعة أو أكثر، فأول ما يشرع الإمام في التسليمة الأولى، يقوم ليأتي ما فاته، وهذا خطأ والصواب ألا يستعجل، بل ينتظر حتى يفرغ الإمام من التسليمة الثانية، عندها يقوم المسبوق ليقضي ما بقي عليه.
روى البخاري في صحيحه قوله عليه الصلاة والسلام: ((وإنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا..)) إلى آخر الحديث المعروف. وفي حديث آخر عند الإمام مسلم: ((أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالانصراف)) قال النووي: والمراد بالانصراف السلام، وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ومن سبقه الإمام بشيء من الصلاة فلا يقوم لقضاء ما عليه إلا بعد فراغ الإمام من التسليمتين.
ومن الأخطاء أيضاً، أن بعض المصلين هداهم الله يسرعون في الخطا عند الذهاب إلى المسجد، لاسيما إذا كان الإمام قبيل الركوع، أو ركع فيزيد في السرعة ليدركها مع الإمام، وهذا الإسراع أيها الإخوة، خطأ، بل هو منهي عنه، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون، وعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) رواه البخاري ومسلم.
ومن المخالفات والتي نعاني منها كثيراً، عدم تسوية الصف كما ينبغي، والبعض هداهم الله يتساهل في سد الفرج التي تكون بين المصلين، عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم)) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أقيموا صفوفكم وتراصوا)) وقال: ((أقيموا الصف في الصلاة، فإن إقامة الصف من حسن الصلاة)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من إقامة الصلاة)) أخرجها كلها الإمام البخاري في صحيحه.
وقال رحمه الله تعالى في صحيحه، باب أثم من لم يتم الصفوف، وساق بسنده عن بشير بن يسار الأنصاري عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، أنه قدم المدينة فقيل له: ما أنكرت منا منذ يوم عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما أنكرت شيئاً إلا أنكم لا تقيمون الصفوف).
فيا عباد الله، إذا كان أنس بن مالك ينكر على أولئك القوم في القرن الأول من القرون الفاضلة، ينكر عليهم عدم إقامة صفوفهم، فكيف لو رأى ما نحن فيه اليوم، من إخلال بالصلاة قبل الإخلال بالصف وغيرها فلا حول ولا قوة إلا بالله، ومن لم ينبهه هذا الحديث لأهمية وخطورة هذا الأمر، فليسمع حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من وصل صفاً وصله لله، ومن قطع صفاً قطعه الله)) رواه النسائي والحاكم.
ومن الأخطاء، بل تعد من المخالفات، إتيان المسجد بعد أكل الثوم أو البصل فعن عبد الله بن عمر رضى الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أكل من هذه الشجرة ـ يعنى الثوم ـ فلا يقربن مسجدنا)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا أو قال فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته)) وعن انس رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا ـ أو ـ لا يصلين معنا)) أخرجها جميعاً البخاري في صحيحه. وعن مسلم: ((فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)).
فاتقوا الله أيها المسلمون، لا تؤذوا عباد الله، ولا تؤذوا ملائكة الله، بفعل منهي عنه، وهو في نفس الوقت مخدش لصلاتكم، إن بعض المتلاعبين جعل أكل الثوم والبصل عذراً في عدم حضوره إلى المسجد، فتراه إذا قرب وقت الصلاة عمد إلى الثوم أو البصل فأكله ثم تعلل لعدم حضوره الصلاة بالنهي الوارد في ذلك، فلبئس ما قدمت لهم أنفسهم وبئس الفقه فقههم.
ومن أخطاء بعض المصلين أيضاً، التلفت في الصلاة، فالبعض يلتفت ويحرك رقبته والبعض يلتفت بتقليب عينيه، وكلاهما مخالف لما يجب أن يكون عليه حال المصلي من الخشوع، والنظر إلى موضع سجوده، عن عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها قالت: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة، فقال: ((هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)) أخرجه البخاري، وأخرج الترمذي والحاكم قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا صليتم فلا تلتفتوا، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يتلفت)) وأخرج أبو داود وغيره عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ولا يزال الله عز وجل مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه)) فاتق يا عبد الله في صلاتك، ولا تحرم نفسك هذه المنزلة، ولا تنقص من أجرك بسبب التفاتك.
ومن الأخطاء أيضاً، التنفل عند إقامة الصلاة فبعض المصلين، يكبر ليتنفل، فبعد التكبيرة مباشرة، تقام الصلاة، ويستمر في تنفله وتفوته تكبيرة الإحرام، وربما فاتته الركعة الأولى بكاملها، وهذا اجتهاد خاطئ منه، كان الأولى في حقه أن يقطع النافلة، ويدخل الصلاة مع إمامه من البداية، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)). والبعض يقع في خطأ من ناحية أخرى، وهو أنه إذا أقيمت الصلاة، وأراد أن يقطع النافلة ليدخل مع الإمام، قطع الصلاة بالتسليم وهو واقف، وهذه كثير ما يفعله الناس، وهو خطأ، ولم يثبت فيها سنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولأن التسليم لا يكون إلا في آخر الصلاة، فتحريمها التكبير وتحليلها التسليم، والصواب على من أراد قطع النافلة أن يقطعها من غير سلام ويخرج منها مباشرة ويدخل مع الإمام.
ومن الأخطاء أيضاً، ونجعلها آخر الأخطاء في هذه الخطبة، بل هو من المخالفات الفاحشة مسابقة الإمام، بل لقد ورد النهي الشديد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لمن يسبق إمامه كأن يرفع رأسه قبله، أو يركع أو يسجد قبله، روى البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل صورته صورة حمار)) حتى ذكر بعض أهل العلم أنه لا صلاة لمن فعل ذلك.
فاتقوا الله أيها المسلمون، يا من لا تنتبهون لهذه القضية هل تريدون تقريعاً أشد من أن الله عز وجل يجعل رأس من سبق إمامه كرأس الحمار، أو صورته كصورة حمار فتنبهوا رحمكم الله لهذا الأمر.
ويلحق بهذا الأمر، أو هذه المخالفة، مخالفة أخرى وإن كانت أقل منها وهي موافقة الإمام، فبعض المصلين هداهم الله يوافق إمامه، أي يرفع ويركع ويسجد معه، وهذا أيضا خطأ، فإن الإمام ما جعل إلا ليؤتم به، ولا يكون ذلك إلا بمتابعته، لا بمسابقته ولا بموافقته.
اللهم علمنا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه وأشكره على توفيقه وامتنانه وأشهد إن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لألوهيته وربوبيته وسلطانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى جنته ورضوانه فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وعلى أصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: عباد الله، نخصص هذه الخطبة لذكر بعض الأخطاء التي تخص يوم الجمعة وصلاة الجمعة والتي تقع من بعض المصلين.
فأول هذه الأخطاء: ترك الاغتسال يوم الجمعة، فبعض المصلين يتهاون في هذا الأمر، ولا يعطي أهمية خاصة ليوم الجمعة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)). وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل)). وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً، يغسل فيه رأسه وجسده)) متفق عليه.
ومن الأخطاء التي ترتكب يوم الجمعة، وهذا سبق لنا مراراً أن نبهنا عليه، وهو تخطي رقاب الناس، يبقى الرجل جالساً في بيته، ويحضر متأخراً، ثم يريد أن يكون في الصفوف المتقدمة ويريد أن يتساوى مع الذي سبقه إلى الجمعة بمدة من الزمن، هذا لا يمكن أبداً. عن عبد الله بن بسر رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اجلس فقد آذيت وآنيت)) حتى ذهب بعض العلماء إلى حرمة هذا الأمر لأنه من الظلم والتعدي لحدود الله، وأيضاً إيذاء للمصلين، واعتداء على حقوقهم.
ومن أخطاء الناس يوم الجمعة أن بعض الناس إذا دخل المسجد الجامع لأداء صلاة الجمعة ووجد المؤذن يؤذن الآذان الثاني، أخذ في متابعة الآذان ثم إذا فرغ من المتابعة، شرع في تحية المسجد، وقد شرع الخطيب في ابتداء الخطبة، وهذا بفعله ذلك، قد حرص على تحصيل السنة، لكنه فرط في استكمال الواجب على وجهه مع قدرته عليه، وذلك أن متابعة الآذان سنة، واستماع الخطبة واجب.
ومما يؤكد ذلك، أي أن الداخل إلى الجامع مأمور بأن يتفرغ لسماع الخطبة ما أمكنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوّز فيهما)) رواه مسلم، قال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى: " ((وليتجوز فيهما)) فيه مشروعية التخفيف لتلك الصلاة ليتفرغ لسماع الخطبة".
نسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يفقهنا في ديننا...
(1/2913)
أسباب ضعف الأمة وتفرقها
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
10/10/1413
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تبدل أحوال المسلمين من العز إلى الذل. 2- غربة الإسلام بين أهله اليوم. 3- حال
المسلمين اليوم مع الإسلام. 4- الانحراف العقدي أهم أسباب تخلف المسلمين وذلتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لقد كثرت الشبهات.وأطلت البدع برأسها، وتغير الحال وتبدل، وتمكن الكفار من رقاب المسلمين في كل مكان، وأصاب المسلمون ضعف وتفرقة، وعاد الأمر غريباً كما بدأ غريباً، فكانت الحيرة وكانت التساؤلات، ولا يشك أحد من الناس من تباعد الدنيا بصفة عامة والمسلمون بصفة خاصة عن دين الله، والبون شاسع والفارق كبير بين ما كان عليه سلفنا الصالح من عز ونصر وتمكين وما عليه المسلمون اليوم من ذل ومهانة وفشل وضياع.
وقد كتب عمر رضي الله عنه لأبي عبيده رضي الله عنه يوماً يقول له:إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما نطلب العز في غيره أذلنا الله، وقد استمرت هذه العزة الإيجابية في هذه الأمة جيلاً بعد جيل عندما استقامت على أمر ربها، حتى بعث هارون الرشيد: "إلى نقفور كلب الروم فإن الأمر ما ترى لا ما تسمع". وكان يحج عاماً ويغزو عاما وينظر إلى السحابة وكأنه يخاطبها يقول: "سيرى أينما شئت أن تسيري سيأتيني خراجك"، لقد تبدل الحال وتغير، وما ربك بظلام للعبيد، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، بدأت ومع الأسى تيارات غريبة في الأمة، فكيف لا يصيبها الضعف والتفرق، بدأت فئام من الأمة تعتقد بأن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم رجعية، والعمل بسنته تَزَمُّتْ. وبدأت أصوات تخرج في كل مكان، تسمى المتمسك بدينه أصولياً، فكيف يرجى حسن العاقبة في الآخرة ومصيرنا في الدنيا ظاهر معلوم، بل أصبحنا نعتز بكل معصية، ونشق الطريق لكل منكر.ونرى من يدعو إلى الكفر بعين مِلؤها غبطة، والمعترض على تحركات الكفر في ديار المسلمين، والمعترض على تغلغل النصارى في كل شيء، رجعياً أصولياً، يستحق الطرد أو الحبس لأنه يعوق المجتمع عن التقدم، ويحول دون طريقه إلى النهضة والمدنية.
أيها المسلمون، إذا كان الله لا يأخذنا بعذاب يفاجئنا، ونقمة تقضى علينا جميعاً، بسبب ما ترتكبه الأمة، فذلك بفضل رحمة الله علينا، ودعاء نبيه صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة أن لا يعمّها الله بعذاب، ولا يستأصل شأفتها وذلك لأن هذه الأمة، تحمل الأمانة الأخيرة، ولأنها أمل الإنسانية الأخيرة.
ما أعظم الفرق أيها الإخوة، بين أمسنا ويومنا، وما أعظم الفرق بين الإسلام ديناً، والمسلمين واقعاً. فيا له من دين لو أن له رجال. وما أجمله من دين، لو تمثله مجتمع. وما أحسنه من دين، لو طبق في واقع الناس.
لقد انفصلت بعض العقائد عن بعض، وبعض العبادات عن بعض، وتباعدت الدنيا عن الآخرة، والأرض عن السماء، وأصبح الدين في واد، والواقع في واد ثان، وحورب الإسلام بيد أبنائه، بعد أن كان وما يزال يحارب بيد أعدائه، واستبدل شرع الله بنظم وضعية، وقوانين كفرية، وأطلت البدع والشركيات برأسها، وابتلي المسلمون، وابتليت الأمة، ببعض علماء السوء، يلبسون على الناس أمر دينهم، ويفتون وهم أذناب وتبع لغيرهم، فأحلوا ما حرم الله، وحرموا ما أحل الله، فكانوا بمثابة قطاع الطريق إلى الله، وبالجملة فقد أصبح الإسلام غريباً وسط أهله وبنيه، وكأنه ينادى المسلمين من مكان بعيد من يوم بدر وأحد، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ?لرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ?نقَلَبْتُمْ عَلَى? أَعْقَـ?بِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى? عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ?للَّهَ شَيْئاً [آل عمران:144].
أيها المسلمون، إن المتأمل في واقع الأمة الإسلامية اليوم، يلاحظ كيف أنها وصلت إلى حالة سيئة، من ضعف ووهن وشتات واختلاف، ضعف في عقيدتها، وضعف في قوتها، وضعف في اقتصادها وضعف في قراراتها، وضعف في تسيير شئون نفسها، ثم ضعف في كل جانب من جوانبها، فأدى ذلك إلى تكالب أعدائها عليها، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، محاولين تحطيمها والإجهاز عليها، أما واقع المجتمع اليوم، مجتمع سيء، قد أصاب العلاقات الاجتماعية التي تربط أفراده، الضعف والوهن، والبعد عن منهج الله سبحانه وتعالى. كذلك أيها الإخوة، يجد المتتبع لواقع الأسرة، في الدول الإسلامية اليوم، التمزق والتباغض والتحاسد والانحلال، هو الذي أصاب أغلب الأسر اليوم.
أما بالنسبة للفرد، فقد تشوهت عقيدته، في كثير من الأمور، وحدث له قصور في الفهم، وضعف في شعوره بانتمائه للأمة الإسلامية. وجَهْل لكثير من أمور دينه، إلا من رحم الله عز وجل.
وهناك من أبناء المسلمين من وقع تحت تأثير الفكر المعادي للإسلام، الذي أوهم أبناء المسلمين أن السبيل الوحيد للخلاص من الفقر، والجهل والتخلف، هو التخلص من ربقة الإسلام، وأن تنهج الشعوب الإسلامية، نهج الغرب الكافر، في محاربة الدين، وتنحيته عن معترك الحياة.
إن المتفحص لكل ذلك يا عباد الله، ليشعر بالألم والحزن والمرارة لواقع المسلمين، ولكن الأمور لا يمكن أن تتغير بالأحزان والآلام والانفعالات، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، لكنا نقول بأن هذه الأحزان لعلها تكون بداية الوعي واليقظة، وبداية لطريق طويل في التصحيح والتغيير.
أيها المسلمون، إن الحديث عن أسباب ضعف المسلمين وتفرقهم حديث طويل، وطويل جداً، لأنه يحكي قصة أربعة عشر قرناً من الزمان، فلا يكفيه حديث جمعة. ولا جُمَع سنة كاملة، لكن بعد توفيق الله عز وجل، نحاول بين فترة وأخرى إبراز بعض النقاط الهامة والكبيرة. والتي نعتقد أنها من أبرز أسباب ضعف المسلمين وتفرقهم، ولا شك بأن البعد عن الدين هو السبب الرئيس.لكن هذا كلام عام يحتاج إلى تفصيل ولفهم كيف بعد الناس عن الدين، لا بد من تجزئة هذا السبب الكبير.
أيها الإخوة في الله، لقد عاش المسلمون في العصور الأولى متشبعين بروح الإسلام وتعاليمه، تربوا تربية صحيحة، أنارت بصيرتهم، وصقلت نفوسهم، وهذبت سلوكهم، ذلك أنهم أخذوا بتعاليم القرآن الكريم، وتأسوا بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفهموا الإسلام فهماً صحيحاً، وعملوا واجتهدوا في نطاق المنهج الرباني وحدوده. فاستطاعوا بذلك أن ينهضوا نهضة عظيمة في مدة وجيزة، فأقاموا حضارة زاهية ومجتمعاً متماسكاً قوياً، واستمر ذلك المجتمع بقوته وريادته ونوره المشع على أرجاء المعمورة، عدة قرون، ثم بدأ ذلك النور المشع ينحسر شيئاً فشيئاً، فعاش أبناء المجتمع في ليال سوداء قاتمة، وهم ضعفاء أذلاء، تفرقت الكلمة، وتصدع البنيان، وتداعت عليهم الأمم من كل حدب وصَوب، فذهبت الهيبة، وانهار كيان المجتمع، ولم يكن ذلك عن قلة، ولكن أصبحوا كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((غثاء كغثاء السيل)) فزحف المستعمر من كل مكان، لينهش من هذا الجسم المريض, وبدأ الاستعباد والذل والهوان، كل ذلك حدث عندما هانت الأمة على نفسها، حتى فقد المجتمع الإسلامي ثقته بنفسه، وأصبح الإسلام في نفوس أصحابه ألفاظاً بلا معنى، واتجه شرار المجتمع صوب المستعمر الآثم، يتبعون خطواته حذو القذة بالقذة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد في مسنده: ((ليحملن شرار هذه الأمة، على سنن الذين خلوا من قبلهم، أهل الكتاب، حذو القذة بالقذة)) وانقسم المجتمع إلى فئات ثلاث:
الفئة الأولى: انطفأ نور الإيمان في قلبها، فانصرفت عنه إلى نوع من الإلحاد، وشكت في صلاحية الإسلام للحياة، واعتقدت أن الأخذ بأسباب المدينة الغربية، والانغماس والاستمتاع بشهواتها هو كل الحياة. أما الإسلام في نظرها، فهو سبب التخلف والجمود والرجعية.
الفئة الثانية: اكتفت من الإسلام بالمظهر، اكتفت منه بالأحوال الشخصية، من زواج وطلاق.وصار الواحد منهم يؤدي بعض المظاهر من الصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر، وكذا الصيام وغيرها.
أما الفئة الثالثة: فهي المؤمنة، المتمسكة بجوهر الدين القابضة عليه كالقابض على الجمر، غريبة في وطنها، تصلح ما أفسد الناس، فهي محط الأمل وموضع الرجاء نسأل الله القدير أن يأخذ بيدها لتعيد الأمة إلى مجدها وعزها.
أيها المسلمون، وقبل ذكر بعض أسباب ضعف الأمة وتفرق كلمتها، فإن هناك سنة ثابتة في هذا الكون ذكرها الله تعالى في كتابه، تختص بهلاك ودمار الأمم، وسقوط الدول، وتخلخل المجتمعات، وهي قول الله جلا وعلا: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ?لْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].
يقول الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: "أمرنا أهلها بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها وذلك بمخالفتهم أمر الله وخروجهم عن طاعته، فحق عليها القول أي فوجب عليهم بمعصيتهم وفسوقهم فيها وعيد الله الذي أوعد من كفر به وخالف رسله من الهلاك بعد الإعذار والإنذار".
أيها المسلمون، إن هذه الآية الكريمة من سورة الإسراء تشير إلى أن مراحل الانحدار إلى الهاوية، يبدأ من انحلال وفساد القمة الاجتماعية في هيكل المجتمع.ففساد القمة نذير صارخ بإفساد المجتمع، وبالإضافة إلى ما ذكر، فإن الترف عامل من أقوى عوامل الانحلال، وأسرعها وأخبثها في انهيار المجتمع، إذ أنه يفتت روابطه.لأن الانغماس في واقع الشهوات وإشباع الغرائز المنهومة، يميت الشعور بالنخوة ويقتل الإحساس بالعزة والغيرة، ويجعل الرذائل مألوفة في هذه المجتمعات المنحدرة إلى هاوية الانهيار، بل يجعل الرذائل ميداناً للتنافس الفاجر.
إذا فسدت القمة ووقعوا في الترف، وصار الترف هو الغالب في طبقات المجتمع، فقل على هذا المجتمع: السلام، فلا يهتم أحد برفع رأسه إنكاراً لها، بل يجد المجتمع في كبرائه المترفين، من ينكر على من ينكر هذه الرذائل. وتصبح الفضائل الخلقية والقيم الروحية غرائب في نظر هذا المجتمع المنحل المتحلل، وعندئذِ تحق عليهم كلمة الله، ويحل بهذا المجتمع الضعف والتفرق. اكتفى بهذه المقدمة.
وسأبدأ في الخطبة الثانية، بالسبب الأول الذي أضعف المسلمين، وفرق بينهم.
اللهم علمنا ما ينفعنا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أهم وأول سبب في ضعف الأمة، وتفرق كلمتها هو: خلخلة العقيدة في قلوب الناس، وسوء فهم العقيدة في قلوب الناس، عدم صفاء المعتقد الصحيح، معتقد أهل السنة والجماعة، ثم التطبيق والممارسة الواقعية لهذا المعتقد لدى كثير من أبناء الأمة. فإذا كان ما في قلوب الناس له مشارب شتى فكيف الاجتماع والوحدة.
إن للعقيدة الصحيحة أهميتها في تربية الأفراد وتوجيههم فإذا رسخت العقيدة في قلب الإنسان، فإنها سرعان ما تنعكس على جوارحه، وعلى خلقه وسلوكه ومعاملاته، ولهذا لا غرابة أن كثيراً من الآيات والسور المكية عالجت موضوع العقيدة بجميع جزئياتها. ولقد تربى المجتمع الإسلامي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على العقيدة السليمة، التي حررت الإنسان من عبادة العباد، ونقلته إلى عبادة رب العباد.
إن العقيدة يا عباد الله، هي الأساس الذي يبنى عليها النظام الأخلاقي، وهي التي تكون الأساس الفكري لعقلية المسلم، والأساس النفسي لسلوكه.
ومن العقيدة تنبثق نظرته إلى الحياة الاقتصادية والحياة السياسية وغيرها، وكذلك أيها الإخوة فإن العقيدة لها تأثير كبير في علاقة أفراد المجتمع بعضه ببعض، سواء الفردية أو الجماعية، ألا تجد بأن هناك موظفين في مكتب واحد، ومن منطقة واحدة، لكنك تجد النفرة والتباغض بينهما، لأن الأول على عقيدة أهل السنة والجماعة، والأخر على عقيدة أخرى كعقيدة الرافضة مثلاً، وإن كانا يحملان نفس الجنسية.
إذاً العقيدة ـ أيها الإخوة ـ هي الأساس، وهي القاعدة وهي المنطلق لجميع تصورات، وتصرفات الإنسان، ولكن المتأمل في واقع المجتمع اليوم. يجد أن هذا المجتمع مختلف في صفاته وخصائصه عن المجتمع الإسلامي في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام.
ومن أهم الأسباب سوء فهم العقيدة عند متأخري هذه الأمة. حتى وصل الحال عند بعض أهل السنة، أنه لا يبالى في مصاحبة وموالاة والثقة بأبناء غير أهل السنة.
إلى هذا الحد وصل التسيب في اعتقاد كثير من المسلمين. وبعد ذلك كيف لا يكون سوء فهم العقيدة من أهم الأسباب في هدم كيان الأمة.
ومن الانحرافات العقائدية الخطيرة أيضاً والتي تهدد كيان الأمة.ما حصل في كثير من بلاد المسلمين. وإن كنا نحن ولله الحمد في هذه البلاد سلمنا من هذا الانحراف شيئاً ما، وهو الاستغاثة والدعاء عند القبور والأضرحة. وإيقادها بالسرج، والتمسح بها، وذبح القربات لها، واعتقاد أنها تنفع وتضر من دون الله، وهذا والله أعلم شائع في كثير من الدول الإسلامية، وهناك الملايين من المسلمين من يعتقد بهذه الأمور، فإذا أصيب بمرض أو جاءته مشكلة أو مصيبة، توجه إلى هذه القبور، بالدعاء والبكاء والتقبيل، ليشفى من مرضه أو لتحل مشكلته. أو لتعود إليه زوجته.
لا تتصوروا ـ يا عباد الله ـ أن هذه أمثلة مبالغ فيها، بل إنها واقعة، وأكثر من هذا. كثير من بلاد الشام ومصر وغيرها مننتشر فيها هذه الاعتقادات الفاسدة، وهناك المزارات تبنى وتشيد لأجل هذا.
فأين يأتى نصر الله، وأين يأتي تمكين الله لهذه الأمة، وكيف لا ينهدم كيانها وينهدم بناؤها، وهذا حال أبنائها.
تركوا الله عز وجل وتوجهوا إلى غيره، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "لا يجوز أن يتخذ شيء من القبور والآثار والأشجار والأحجار ونحوها، بحيث يرجى نفعه وبركته بالنذر له، والتمسح به، أو تعليق شيء عليه بل كل هذا من جنس الشرك".
وقال أيضاً: ومن أعظم الشرك أن يستغيث الإنسان برجل ميت عند المصائب، فيقول: يا سيدي فلان، كأن يطلب منه إزالة الضرر أو جلب النفع كما هو حال النصارى في المسيح وأمه، وأحبارهم ورهبانهم".
انحراف آخر في سوء فهم العقيدة، أيضاً منتشر في أوساط كثير من المسلمين. انحراف فهم القضاء والقدر.
كثير من المسلمين. عندما تأمل حال العالم الإسلامى ورأى الهزيمة والذل والإهانة للمسلمين من قبل أعدائهم، استسلم لهذا الواقع، وقال: هذا ما حصل إلا بقضاء الله وقدره.
وكذلك من رأى المنكرات والفواحش قد انتشرت في المجتمع، ورأى هذا الواقع السيئ من انحلال الشباب والشابات ووقوع كثير من الشباب في أسر المخدرات وفى أسر المغازلات والمعاكسات يئس من تغيير هذا الواقع السيء، ورماها على القضاء والقدر، ما حصل هذا في المجتمع إلا بقضاء الله وقدره. فترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترك الدعوة إلى لله، وترك النصح والإرشاد بحجة أن الله هو الهادي.
نقول نعم أيها الإخوة، لا يمكن أن يحدث شيء في الكون إلا بقضاء الله وقدره. لكن من سوء فهم العقيدة، أن تسلم لكل قضاء الله وقدره. اعتقد غالب الناس أن كل ما كان بقضاء الله وقدره يجب التسليم له. فنقول بأن هذا غير صحيح ولا يجوز أصلاً أن تسلم بكل ما قضاه الله وقدره. وسأضرب لذلك مثلاً: لو وقع أحدكم لا سمح الله، بجريمة زنا، فهل هذا الذي حصل منه ووقع فيه، بقضاء الله وقدر أم لا؟ لا شك أنه بقضاء الله وقدره. وحاشا أن يحصل شيء في الكون كله بغير إرادة الله عز وجل.
لكن السؤال؟ هل ترضى بأمر الزنا وتقول: حصل بقضاء الله وقدره. لا أتصور أن مسلماً عاقلاً سليم المعتقد يقول بهذا. لكن المطلوب في هذه الحالة أن نغير هذا القدر بقدر آخر وهو التوبة والاستغفار والإقلاع عن هذا الذنب. حتى التوبة لا يمكن أن تحصل منك إلا إذا قضاه الله وقدره.
فكيف بعد هذا يسلم بعض الناس لحال الواقع بحجة القضاء والقدر. يستسلمون للمنكرات ويستسلمون للانحرافات الموجودة بحجة القضاء والقدر، ولا شك أن هذا انحراف واضح في العقيدة، وسوء فهم للعقيدة الإسلامية الصحيحة.
انحراف آخر في العقيدة، أدى سوء فهم هذه القضية أيضاً إلى مفاسد كثيرة وحدث شرخ كبير في بناء الأمة، وهو عقيدة التوكل.
من الأمور التي أصابها تشويه أيضاً، مفهوم التوكل على الله، فقد فهم بعض أفراد المجتمع المسلم أن التوكل هو ترك الأخذ بالأسباب، مع أن هذا الأمر مخالف لدين الإسلام، ولو كان الأمر كذلك لطبقه سيد المتوكلين محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان يأخذ بجميع الأسباب، فيتخذ للنصر عدته، وللسفر زاده، وللمرض دواءه، ويحث الصحابة على العمل والسعي في طلب الرزق.
ومن انحرافات فهم التوكل أيضاً. عدم التوكل على الله عز وجل التوكل الحقيقي في كل الأمور. فكم من المسلمين من يعتقد بأن رزقه في يد رئيسه في العمل. تجد بعض الموظفين مثلاً يعمل عملاً مخالفاً للنظام. ولو سألته لماذا؟ قال: لأن الرئيس طلب مني ذلك، ولو قلت له كيف تطيع رئيسك في أمر محرم ولا يجوز ويخالف النظام، لقال لك: إذا لم أفعل ما طلب، فسوف يقطع عليّ العلاوة، أو يفصلني من الوظيفة فيقطع رزقي. فأين صدق عقيدة التوكل على الله عز وجل. لقد ضعف التوكل على الله سبحانه وتعالى عند غالب المسلمين إلا من رحم ربي في كل شيء، وفي كل جانب. كم من المسلمين ومن الدول الإسلامية من يثقون بقوة أمريكا ويتوكلون عليها أكثر من ثقتهم بقوة الله عز وجل وتوكلهم عليه! كم من الدول من تعتمد كما يقال على الدول العظمى أكثر من اعتمادها على الله عز وجل. فأين عقيدة التوكل أيها الإخوة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)).
ولو قمنا ـ أيها الإخوة ـ بالتفصيل والتتبع لكثير من جزيئات العقيدة، لوجدنا سوء الفهم فيها.
فكيف بعد هذا لا يكون سوء فهم العقيدة من أخطر وأهم أسباب ضعف الأمة وتفرق كلمتها. وليس هناك طريق ولا أمل للقضاء على هذا السبب إلا عن طريق العلم، لابد من تعلم العقيدة ودراسة العقيدة وفهم العقيدة، على الوجه الصحيح. لأن العقيدة هي أساس كل شيء، ولو اهتزت القاعدة، سقطت القمة ثم بعد ذلك سقط ممارستها وتطبيقها.
أسأل الله عز وجل أن يبصرنا في أمور ديننا ودنيانا وأن يأخذ بأيدينا، إنه خير مسئول.
اللهم من أراد المسلمين بسوء...
(1/2914)
استقبال عيد الأضحى
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الذبائح والأطعمة, المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
9/12/1411
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مفهوم العيد في الإسلام. 2- العيد وجراحات المسلمين. 3- أحكام صلاة العيد. 4- بعض
أحكام الأضحية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن الأمة الإسلامية، تستعد في هذه الأيام لاستقبال مناسبة عظيمة من مناسباتها، وهي عيد الأضحى المبارك. غداً بحول الله وقوته يكون أول أيام عيد الأضحى المبارك. وقد قيل: من أراد معرفة أخلاق الأمة، فليراقبها في أعيادها. إذ تنطلق فيه السجايا على فطرتها، وتبرز العواطف والميول والعادات على حقيقتها. والمجتمع السعيد الصالح، هو الذي تسمو أخلاقه في العيد إلى أرفع ذروة. وتمتد فيه مشاعر الإخاء إلى أبعد مدى، حيث يبدو في العيد متماسكاً متعاوناً متراحماً، تخفق فيه القلوب بالحب والود والبر والصفاء.
أيها المسلمون، إن العيد في دين الإسلام، له مفهومه الخاص، وله معناه الذي يخصه دون سائر الأديان ودون سائر الملل والنحل.
إن العيد في الإسلام أيها الأخوة، غبطة في الدين، وطاعة لله، وبهجة في الدنيا والحياة، ومظهر القوة والإخاء، إن العيد في الإسلام فرحة بانتصار الإرادة الخيرة على الأهواء والشهوات.
إن العيد في الإسلام، خلاص من إغواءات شياطين الإنس والجن، والرضا بطاعة المولى. والوعد الكريم بالفردوس والنجاة من النار.
إن العيد في الإسلام لا كما يتصوره البعض، انطلاقاً وراء الشهوات، وحلاً لزمام الأخلاق وتفسخاً على شواطئ البحر، وعرضات هنا وهناك. إن العيد في الإسلام، ليس فيه ترك للواجبات، ولا إتيان للمنكرات.
في الناس ـ أيها الناس ـ من تطغى عليه فرحة العيد، فتستبد بمشاعره ووجدانه، لدرجة تنسيه واجب الشكر والاعتراف بالنعم، وتدفعه إلى الزهو بالجديد، والإعجاب بالنفس حتى يبلغ درجة المخيلة والتباهي. والكبر والتعالي.
وما علم هذا أن العيد قد يأتي على أناس قد ذلوا بعد عز، فتهيج في نفوسهم الأشجان، وتتحرك في صدورهم كثير من الأحزان.
قد يأتي العيد على أناس، ذاقوا من البؤس ألواناً بعد رغد العيش، قد يأتي العيد على أناس تجرعوا من العلقم كؤوساً بعد وفرة النعيم، فاستبدلوا الفرحة بالبكاء وحل محل البهجة، الأنين والعناء.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله أيها المسلمون في عيدكم، لا تجعلوه أيام معصية لله، لا تتركوا فيه الواجبات، ولا تتساهلوا في المنكرات. لا يكن نتيجة عيدكم غضب ربكم عليكم. فإن غضب الله شديد، وعقوبة الله عز وجل، لا يتحملها الضعفاء أمثالنا.
اتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ في عيدكم، واجعلوه عيد عبادة لله، عيد طاعة، عيد توبة صادقة، عيداً ترتفع فيه أخلاق الأمة. عيداً نثقل فيه ميزان حسناتنا، عيداً نكفر فيه عن خطايا سابقة، ارتكبتها جوارحنا. قال الله تعالى: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53]. وقال سبحانه: وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحَاً ثُمَّ ?هْتَدَى? [طه:82]. وقال عز وجل: فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
أيها المسلمون، كذلك أيضاً يجب أن لا تُنسينا فرحة العيد أن هناك آلاماً وجروحاً في الأمة لم تلتئم بعد. هناك من أبناء الأمة الإسلامية أناس أبرياء مظلومون. سوف يدخل عليهم العيد، وما زالوا تحت وطأة الظلم والقهر والعدوان. كم من يتيم يبحث عن عطف الأبوة الحانية. ويتلمس حنان الأم. وأبوه قد ذهب وقطعت أوصاله بسبب رجم القنابل. وأمه لا يعلم مصيرها إلا الله. سوف يحل العيد بأمة الإسلام، وهناك من يرنو إلى من يمسح رأسه، ويخفف بؤسه. جاءنا العيد، وهناك الألوف من الأرامل اللاتي توالت عليها المحن فقدت زوجها، تذكرت بالعيد عزاً قد مضى تحت كنف زوج عطوف.
وفوق كل هذا أيها المسلمون، سوف يقدم العيد، ومازالت هناك أراضٍ للمسلمين مغصوبة، منها ما ترضخ تحت وطأة يهود. ومنها مازالت تفتك بها الشيوعية الحمراء.
فأي عيد هذا الذي نفرح فيه. وسهام الشر وسموم العدو يفتك في أجسامنا من كل ناحية. فحق على كل مسلم، حق على كل من في قلبه شعلة إيمان مازالت متوقدة، أن يتذكر كل هذا وهو يستقبل عيده. حق على كل مسلم أن يتذكر هؤلاء، فيرعى اليتامى ويواسي الأيامى، ويرحم أعزة قوم قد ذلوا. كم هو جميل أن تظهر أعياد الأمة، بمظهر الواعي لأحوالها وقضاياها. فلا تحول بهجتها بالعيد دون الشعور بمصائبها التي يرزح تحتها فئام من أبنائها. حيث يجب أن يطغى الشعور بالإخاء قوياً، فلا تنس أفغانستان ولا فلسطين، وأراضٍ للمسلمين أخرى منكوبة بمجاهديها وشهدائها. بأيتامها وأراملها. بأطفالها وأسراها. كم هو جميل أن نتذكر ونحن نستقبل العيد أن هناك الألوف من الأسر المنكوبة، من يقدم يد الإستجداء والمساعدة، بلقمة طعام، أو كساء لباس، أو خيمة غطاء. وفي المسلمين أغنياء وموسرون. ولكن مع الأسف، استغل النصارى هذه الحاجة الملحة عندهم، لسد جوعتهم، فقاموا بإطعامهم وكسوتهم مع تقديم جرعات لهم من النصرانية مع كل كأس ماء. أو كسرة خبز.
لقد نشط المبشرون النصارى، وكثفوا جهودهم في أوساط هذه الأسر الفقيرة، والمسلمون وأغنياء المسلمين في حالة يرثى لها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكم هو جميل كذلك. أن يقارن الاستعداد للعيد، لفرحته وبهجته، استعداداً لتفريج كربة، وملاطفة يتيم، ومواساة ثكلى. يقارنه تفتيش عن أصحاب الحوائج، فإن لم تستطع خيلاً ولا مالاً، فأسعفهم بكلمة طيبة وابتسامة حانية، ولفتة طاهرةٍ من قلب مؤمن.
إنك حين تأسو جراح إخوانك إنما تأسوا جراح نفسك، وحين تسد حاجة جيرانك إنما تسد حاجة نفسك، قال تعالى: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاِنفُسِكُمْ [البقرة:272]. وقال سبحانه: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ [فصلت:46]. أسأل الله أن نكون بهذا المستوى ونحن نستقبل عيدنا.
عباد الله، احرصوا رحمكم الله على صلاة العيد، فإنها من أعلام الدين الظاهرة. وإليكم شيئاً من أحكامها:
صلاة العيدين فرض كفاية، وقد ورد في القرآن الكريم الإشارة إليها في قول الله عز وجل فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ [التكاثر:2]، المشهور في التفسير أن المراد بها صلاة العيد.
وإن تركها أهل بلد قاتلهم الإمام عليه كالأذان لأنها من شعائر الإسلام الظاهرة وفي تركها تهاون بالدين.
ووقتها كوقت صلاة الضحى، مع ارتفاع الشمس قيد رمح إلى قبيل الزوال، فإن لم يُعلم بالعيد إلا بعد خروج الوقت صلوا من الغد قضاء، ويسن صلاة العيد في صحراء قريبة من البلد، ولو صُلي في جامع واسع فلا حرج، لكن السنة أن تصلى في الصحراء، وهو أفضل، ويسن الإمساك عن الأكل في عيد الأضحى حتى يصلي، ليأكل من أضحيته. بخلاف عيد الفطر فإن السنة أن يأكل قبل الخروج إلى الصلاة. لما روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن بريدة رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي.
ويستحب للإنسان أن يخرج على أحسن هيئة لما روى جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يَعْتَمّ ويلبس بُرْدَه الأحمر في العيدين والجمعة).
ويسن للذاهب لصلاة العيد، أن يخالف الطريق وذلك أن يذهب من طريق ويرجع من طريق آخر. هكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى العيد يرجع في غير الطريق الذي خرج فيه.
كذلك يسن للنساء حضور الصلاة، وإن كانت المرأة حائض فإنها تحضر لسماع الخطبة ولكن تعتزل المصلى، لحديث أم عطية رضي الله عنها قالت: (أُمرنا أن نُخرج العواتق والحيض وذوات الخدور. فأما الحيض فيعتزلن الصلاة) وفي لفظ: (المصلى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين).
وفق الله الجميع...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، اعتاد المسلمون الذين لم يكتب لهم الحج، أن يصوموا يوم عرفة، وأن يضحوا يوم العيد.
ولما كان هناك العديد من الأحكام التي تتعلق بالأضحية، والتي تخفى على بعض الناس. ولأن الأضحية سوف يبدأ وقتها غداً. كان لابد من تبيين بعض أحكامها.
الأضحية يا عباد الله، هو ما يذبح من بهيمة الأنعام أيام عيد الأضحى، بسبب العيد تقرباً إلى الله عز وجل، وهي من شعائر الإسلام المشروعة بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين. قال الله تعالى: فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ [التكاثر:2]، وقال سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]، وقال سبحانه: وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لاْنْعَـ?مِ فَإِلَـ?هُكُمْ إِلَـ?هٌ و?حِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ [الحج:34]. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين يضحي. رواه أحمد والترمذي
أيها المسلمون، ذهب جمهور العلماء إلى أن الأضحية سنة مؤكدة. وإن كان البعض يرى أنها واجبة كما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.
وذبح الأضحية ـ أيها الأخوة ـ أفضل من الصدقة بثمنها لأن ذلك عمل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ولأن الذبح من شعائر الله تعالى. فلو عدل الناس عنه إلى الصدقة لتعطلت هذه الشعيرة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "الذبح في موضعه أفضل من الصدقة بثمنه قال: ولهذا لو يتصدق عن دم المتعة والقران أضعاف أضعاف القيمة لم يقم مقامه وكذلك الأضحية".
عباد الله، يشترط في الأضحية ستة شروط:
الشرط الأول: أن تكون من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ضأنها ومعزها لقوله تعالى: وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لاْنْعَـ?مِ وبهيمة الأنعام هي الإبل والبقر والغنم.
فلو ضحى أحد بغزالٍ مثلاً فإنه لا يجزئ.
الشرط الثاني: أن تبلغ السن المحدود شرعاً. لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تذبحو إلا مُسِّنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن)) رواه مسلم.
والسن الذي حدده الشرع للإبل ما تم له خمس سنين، والبقر ما تم له سنتان، والغنم ما تم له سنة، فإن لم يجد فما تم له نصف سنة، وغير هذا لا يجزئ.
الشرط الثالث: أن تكون الأضحية خالية من العيوب كأن تكون عوراء أو عرجاء أو مريضة مرضاً بيناً أو هزيلة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل ماذا يُتقى من الضحايا فأشار بيده وقال: أربعاً، العرجاء البين ظلعها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقى. رواه مالك في الموطأ.
الشرط الرابع: أن تكون الأضحية ملكاً للمضحي فلا تصح أضحية المغصوب والمسروق ونحو ذلك.
الشرط الخامس: أن لا يتعلق بها حق للغير.
الشرط السادس: أن يضحي بها في الوقت المحدد شرعاً. وهو من بعد صلاة العيد يوم النحر إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق، وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة. فبذلك تكون أيام الذبح أربعة أيام، لا كما يتوهم البعض ويعتقد العامة أن الذبح لا يجوز إلا في يوم العيد فقط.
إذاً فأيام الذبح يوم العيد، والثلاثة الأيام التي بعدها وهي أيام التشريق.
أما من ذبح قبل الصلاة فإنه يعد من اللحم وليست أضحية. لما روى البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، وليس من النسك في شيء)).
ثم اعلموا كذلك ـ رحمكم الله ـ أن الأفضل من الأضاحي جنساً: الإبل ثم البقر ثم الضأن ثم المعز ثم سُبُع بدنة ثم سُبُع بقرة.
والأفضل منها صفةً: الأسمن الأكثر لحماً، الأكمل خلقة الأحسن منظراً. وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((كان يضحي بكبشين أقرنين أملحين)).
عباد الله، تجزئ الأضحية الواحدة من الغنم عن الرجل وأهل بيته ومن شاء من المسلمين. إذا نوى بها ذلك. لما في حديث عائشة عند مسلم. أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن ثم أمر بالسكين ثم قال: ((بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد)) ثم ضحى به صلى الله عليه وسلم.
ثم يشرع للمضحي أيها الأخوة، أن يأكل من أضحيته ويهدي ويتصدق، لقوله تعالى: فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْبَائِسَ ?لْفَقِيرَ [الحج:28]. والمختار أن يأكل ثلثاً ويتصدق ثلثاً ويهدي ثلثاً.
ويحرم أن يبيع شيئاً من الأضحية، لا لحماً ولا غيره من الجلد، يحرم عليه بيعه. ولا يجوز أن يعطى الجزار شيئاً منها في مقابلة الأجر، أو بعضها، لأن ذلك بمعنى البيع.
لكن لو أعطى الجزار شيئاً كهدية أو صدقة بعد إعطائه أجره كاملاً فله ذلك.
نسأل الله عز وجل أن يتقبل من المضحين ضحاياهم ومن الصائمين في هذا اليوم صيامهم. ومن الحجاج حجهم.
اللهم إنا نسألك رحمة...
(1/2915)
آفات اللسان (2)
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
3/1/1410
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من آفات اللسان النذر لغير الله. 2- من آفات اللسان دعاء غير الله والحلف بغيره تعالى.
3- من آفات اللسان الفتوى بغير علم. 4- من آفات اللسان فضول الكلام. 5- من آفات اللسان
مقاطعة المتحدث.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله نواصل حديثنا معكم أيها الإخوة، عن هذا اللسان، الذي هو من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة، فإنه صغير حجمه، عظيم طاعته وجرمه ثم إن هذا اللسان يا عباد الله، له خاصية لا توجد في سائر الأعضاء، فإن العين لاتصل إلى غير الألوان والصور، والأذن لا تصل إلى غير الأصوات، واليد لاتصل إلى غير الأجسام وكذلك سائر الأعضاء
أما اللسان، فهو رحب الميدان، ليس له رد، ولا لمجاله حد، له في الخير مجال واسع، وله في الشر مجال أوسع، فمن أطلق أيها الإخوة للسانه العنان، سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البوار، ويكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة
ومن خصائص اللسان أيضاً أيها الإخوة أنه لا يتعب وليس هناك مشقة في تحريكه بخلاف سائر الأعضاء فإنها سريعاً ما تتعب، ولهذا فإنه أعظم آلة استخدمها الشيطان في إغواء الإنسان.
أيها المسلمون وقفنا معكم في الجمعة الماضية، مع أول آفة من آفات اللسان، وهي الشرك بالله تعالى وذكرنا منها صورتين، الكذب على الله تعالى وعلى رسوله، والحكم بغير ما أنزل الله.
ومن صور الشرك أيضاً عن طريق اللسان النذر لغير الله تعالى قال تعالى: وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مّن نَّذْرٍ فَإِنَّ ?للَّهَ يَعْلَمُهُ [البقرة:270]، وروى البخاري في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من نذر أن يطيع لله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)) ولله الحمد فإننا لا نشاهد في هذه البلاد الكثير من هذا النوع من الشرك وإن كان يوجد، وذلك بالنذر للأنبياء أو الأولياء أو الصالحين حتى اتخذوهم آلهة من دون الله تعالى وحتى أصبحت قبورهم مساجد، فإن كثيراً من بلاد المسلمين تعم بها المصائب، وتجد التوجه إلى القبور بالذبح والنذر والدعاء حتى إنها أضحت في قلوبهم أعظم حرمة من بيوت الله عز وجل. والله المستعان.
ومن صور الشرك بالله تعالى أيضاً عن طريق اللسان، التوجه بالدعاء لغير الله تعالى، قال سبحانه: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ ?للَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ ?لظَّـ?لِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ [يونس:106، 107]، وقال عز وجل: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ ?للَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ [الأحقاف:5]، ومن صور الشرك بالله تعالى أيضاً عن طريق اللسان، الحلف بغير الله تعالى، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) وعنه أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)) وهذا الأمر نسأل الله العافية منه، منتشر بين بعض المسلمين، أن ألسنتهم تعودت ذاك، فإنك تسمع الحلف بالنبي، وتسمع الحلف بالكعبة، ومنهم من يحلف بالأمانة، أو بالشرف، أو بحياة أبيه وأمه، أو بأحد أبنائه، وكل هذا يا عباد الله ألفاظ شركية، يقذفها هذا اللسان، شعر به صاحبه أم لم يشعر.ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المسلمون، إذا كان هذا شأن الذي يحلف بغير الله، يقع في الشرك، فليس منه ببعيد ذلك الذي.يحلف بالله، وهو يعلم أنه كاذب في حلفه، جاء في حديث صحيح، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه في الأرض، وعنقه مثنية تحت العرش، وهو يقول: سبحانك ما أعظمك.فيرد عليه: لا يعلم ذلك من حلف بي كاذباً)) [السلسلة الصحيحة (15)].
وجاء في حديث ابن مسعود المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه، لقي الله وهو عليه غضبان)) قال: ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله عز وجل: إِنَّ ?لَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ?للَّهِ وَأَيْمَـ?نِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَئِكَ لاَ خَلَـ?قَ لَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ?للَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77]، وروى مسلم في صحيحه، عن أبي أمامة أياس بن ثعلبة الحارثي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة، فقال له رجل، وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال وإن كان قضيباً من أراك)) هل رأيتم ـ يا عباد الله ـ الذي يحلف بالله كذباً ولو على شيء يسير، وهو عود السواك، الذي في بعض الأحيان لا يكاد يساوي شيئاً، فإن جزاء هذا الحالف كاذباً أن يوجب الله له النار. ويحرم عليه الجنة. كل هذا بسبب هذا اللسان.
عباد الله، الآفة الثانية من آفات اللسان، الفتوى بلا علم قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَ?لإِثْمَ وَ?لْبَغْىَ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِ?للَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـ?ناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].
وهذه ـ يا عباد الله ـ آفة خطيرة، ترجع وبالها على المفتي وعلى المستفتي، المفتي يأخذ إثم الفتوى بلا علم، والمستفتي يزداد جهلاً على جهله، يقول عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر عند البخاري ومسلم: ((إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)).
وها نحن أيها الأخوة، نرى ونسمع، هذه الفتاوى العجيبة التي تشيع وتنتشر في المجتمع كانتشار النار في الهشيم
والعجيب في أمر الناس، أنهم يقبلون الفتوى في أمر الدين من أي شخص كان، لا يتحرون الورع والتقوى، فيمن يأخذون دينهم عنهم.
أسألكم أيها الأخوة، لو أن أحدكم أصيب بمرض ـ لا قدر الله ـ فهل يقبل الوصفة الطبية العلاجية المرضية من سباك أو من نجار، الجواب: لا، إن بعضكم من شدة حرصه، ومن شدة المحافظة على نفسه لا يثق حتى في الأطباء الموجودين في هذه البلاد، بل تجد البعض منكم لو أصيب بأي مرض، لسافر مباشرة وطلب العلاج في الخارج، حتى في الخارج تجده يسأل عن أفضل المستشفيات وعن أحسن الأطباء، هذا حال الناس بالنسبة لمرضى الأبدان.
أما حالهم بالنسبة لأمراض القلوب، وما يتعلق بالدين، فإن الغالبية من الناس لا يتحرون عمن يأخذون دينهم، كم شاهدت بنفسي أناساً يعملون أموراً تخالف شرع الله عز وجل، وإذا ما قمت تسأله عن مصدر هذا الفعل الذي يفعله، من أفتاك بهذا، تجده يقول لك: لقد سمعت الإذاعة الفلانية، أو قيل في المحطة الفلانية فهل كل من تكلم في الإذاعة كان أهلاً أن يفتي في شرع الله؟ وهل كل من ظهر على الشاشة في برنامج ديني، وصل إلى مرحلة تأهله بأن يفتي لعباد الله؟
فاتقوا الله أيها المسلمون، تأكدوا عمن تأخذون دينكم، لا تستفتوا إلا من تثقون بدينه وأمانته، فإن فتاوى الإذاعات والمحطات لا تسقط عنكم المسئولية أمام الله عز وجل، هذا بالنسبة لكم.
أما بالنسبة لنفس المفتي أو نفس المتحدث، فقد أوقعه لسانه في آفة خطيرة وهو القول على الله عز وجل بلا علم، ولقد قرأت مرة، أنه قد بلغ الأمر بخطيب أحد المساجد في الشارقة، أنه سأله شخصان يعملان في أعمال البناء والمقاولات، فسألوا هذا الخطيب عن بناء كنيسة، أي هل يجوز لنا أن نستلم مشروع بناء كنيسة فأجاب خطيبنا إن لم تجدا عملاً آخر غيره جاز، فإننا نسأل خطيبنا هذا، عن الأدلة التي استمد منها جوابه، أمن القرآن، أم من السنة، أم من أقوال الصحابة فإذا كانت هذه الأمور هي الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال.
وأفتى خطيبنا هذا، مرة أخرى بجواز العمل والتوظيف في البنوك الربوية، محتجاً لقوله أنه إذا تخلى عنها المسلمون استولى عليها الكفرة والملحدون، وفي هذا ضعف للمسلمين وإذلال، فمن الواجب أن يستولي عليها المسلمون فتسأل شيخنا هذا أليس السعي لتقوية المسلمين وإعزازهم وحمايتهم من الضعف والذل والهوان واجب، فالجواب بالتأكيد: نعم، فنقول له: فالعمل في البنوك الربوية وإدارتها واجب على المسلمين، سبحان الله لماذا لم يفكر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هذا التفكير فيقوموا بهذا الواجب خير قيام أو ما كان الاقتصاد والمال والتجارة له دور فعال في حياتهم وكيف فعلت بقوله تعالى: فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279].
ثم نقول لك يا شيخ، هاهم المسلمون قد فتحوا البنوك الربوية في بلادهم، وهاهم قد تسلموا إدارتها فأين العزة والقوة والمنعة؟ وقد تسلمت إدارتها الكوادر الوطنية كما يقال وأين انحدار الكفرة والملاحدة؟
لكن الأمر على عكس ما تقول فكلما زاد المسلمون بعداً عن منهج الله عز وجل وكلما زاد المسلمون مخالفة لتعاليم السماء كلما زادهم الله عز وجل ذلاً وهواناً ونكوصاً على أعقابهم.
وهذا هو واقع المسلمين اليوم بين شعوب الأرض لا قيمة لهم، ولا حساب لهم ولا وزن كل يدفعهم برجله، فلْتنفعهم البنوك الربوية وغيرها من المخالفات الشرعية الواضحة فاتقوا الله أيها المسلمون.
أعيد عليكم مرة أخرى لا تقبلوا الفتاوى من كل من هبّ ودبّ.
وإن هناك عدداً ممن هم بارزون على الساحة أو قل أبرزوهم على الساحة فلو أراحنا الله عز وجل من فتاويهم، لكان حال الناس أفضل من هذا، عدد ممن تقلدوا مراكز الصدارة وهم الذين غالباً ما يظهرون أمام الناس ولا تعرف الجماهير غيرهم، لما لعبه الإعلام من إبراز شخصياتهم للمجتمع، ومع الأسف هم الذين يديرون المجتمع في التحليل والتحريم.
فنسأل الله عز وجل أن يقينا شرهم وأن يجعلنا ممن يتحرون في دينهم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيماً لشأنه. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى جنته ورضوانه، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وعلى أصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: عباد الله، آفة ثالثة من آفات اللسان، وهي فضول الكلام والمقصود من فضول الكلام، أن يكون الرجل ثرثاراً يتكلم فيما يعنيه وما لا يعنيه، لكن غالب أحواله أنه يتكلم فيما لا يعنيه، وهذه صفة ذميمة في المرء، وآفة سيئة من آفات اللسان، فإنه كلما كان المرء صامتاً، ازداد وقاراً وهيبة عند الناس، وكلما أطلق الإنسان للسانه العنان كثرت زلاته وعثراته.
قال عطاء بن أبي رباح: إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام وكانوا يعدون فضول الكلام ماعدا كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر أو أن تنطق بحاجتك في معيشتك التي لابد لك منها، أتنكرون أن عليكم حافظين، كراماً كاتبين عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17، 18]، أما يستحي أحدكم إذا نشرت صحيفته التي أملاها صدر نهاره، كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه؟
أيها المسلمون، لا يمكن أن نحصر فضول الكلام، لكن الكلام المهم هو المحصور قال الله تعالى: لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـ?حٍ بَيْنَ ?لنَّاسِ [النساء:114].
فبين الله عز وجل أن غالب الكلام لا خير فيه: لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ والذي لا خير فيه العدول عنه أولى، لكنه استثنى سبحانه وتعالى عدداً من الكلام فقال: إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـ?حٍ بَيْنَ ?لنَّاسِ ، فهذه التي فيها خير، وغيرها لا خير فيها.
فاتقوا الله أيها المسلمون، لا يكن أحدكم كثير كلام قليل الأفعال، لا تتكلموا ـ أيها الإخوة ـ إلا فيما يعنيكم، فإن فضول الكلام عيب في الرجل، ولهذا من الحكمة أخي المسلم، أن تسمع ضعف ما تتكلم، فإن الله قد خلق لك أذنان وخلق لك لساناً واحداً فلا يكن كلامك أكثر من سماعك، بل لابد أن تسمع فوق ما تتكلم وإلا فلن تنجو من آفة فضول الكلام.
أيها المسلمون، آفه رابعة من عثرات هذا اللسان وسقطاته، وهي مقاطعة الكلام
فإن من الآداب الإسلامية أيها الإخوة أن يستمع المسلم لأخيه، حتى ينتهي من كلامه، وإن كان المتحدث يخالفك في الرأي فإذا ما انتهى من كلامه، تحدث الآخر ما شاء الله له أن يتحدث، أما ما يحصل من بعض الناس هداهم الله، وهذا يدل على سوء أدب في الكلام، وهو أنك تجد الرجل يتحدث فما إن يسمع الطرف الآخر شيئاً لم يصح عنده حتى قاطعه وبدأ هو في الكلام. إن هذا التصرف أيها الإخوة لا يأتي بخير، وفيه سوء أدب مع الآخرين إضافة إلى أنه آفة من آفات اللسان، إن المقصود من الحديث والكلام والنقاش أيها الإخوة هو التوصل للحق أو حل نزاع أو فض خلاف، ولكن مقاطعة الكلام لا تزيد النزاع إلا نزاعاً، ولا الإشكال إلا إشكالاً، جاء في الحديث الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه قال، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي أحداً من أصحابه فتناول أذنه ناوله إياها، ثم لم ينزعها حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها عنه، هكذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم يفعل مع أصحابه رضي الله عنهم، يناوله أذنه لأحدهم، وهذا يعني أنه كان يصغي السمع ثم لا ينزعها، ليقاطع المتكلم، حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها عنه أي هو الذي يسكت ثم يبدأ عليه الصلاة والسلام في الكلام.
ولا خلاف أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل وأجدى وأنفع من كلام غيره كلامه عليه الصلاة والسلام، أحسن وأصح ومقدم على كل كلام سوى كلام الله، ومع هذا لم يكن صلى الله عليه وسلم يقاطع أصحابه، وهو كما قال الله تعالى عنه: وَمَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم:3، 4].
أيها المسلمون، إن سلبيات مقاطعة الكلام كثيرة، لكن تكفيك سلبية عدم وصول الحق لكثير من المتكلمين والمتحاورين، ذلك لأن كلاً منهما، ربما يشعر أنه يحمل من الحجج والبراهين الساطعة، فيما لو قدر أن بينها لكان الحق معه ناصعاً.
وبهذه المقاطعة ـ أيها الإخوة ـ تقل الفائدة وتضيع الأوقات إضافة لما قد يحصل من المخالفات الشرعية.
عباد الله، تنبهوا لمثل هذه الأمور حافظوا على ألسنتكم، لا تحرقوا هذه الحسنات التي تتعبون في جمعها عن طريق اللسان، لا تتساهلوا في مثل هذه القضايا، فليحاول كل منكم أن لا يتكلم إلا فيما يعنيه، ولا يتكلم إلا في المهم، فإن إطلاق اللسان والثرثرة كما ذكرت لكم ليست من صفات عباد الله المؤمنين.
لا تغتروا بأوضاع غالب مجالس الناس، اليوم تحضر مجالس العامة ترى الجلوس بالساعات الطوال، وأطنان من الكلمات تخرج لو وزنتها وجدت أن غالبها لا ينفع، إذا لم يكن مشتملاً على الغيبة والنميمة.
ثم تجد سوء الأدب في الحديث، يقاطع بعضهم بعضاً، لا أحد يحترم كلام الآخر إلا من رحم ربي، وإذا قدر لكم حضور بعض هذه المجالس فلا تنسوا في نهاية المجلس ذكر كفارة المجلس، عسى الله عز وجل أن يمحو عنكم ما قد يكتبه الملكان عليكم.
ثم اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار.
(1/2916)
آفات اللسان (3)
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, الآداب والحقوق العامة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
10/1/1410
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من آفات اللسان الاستهزاء والسخرية. 2- المعيار الحقيقي للتفاضل بين الناس. 3-
الاستهزاء بالدين وشعائره كفر. 4- من آفات اللسان المزاح. 5- من مزاح النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، مازال حديثنا مستمراً معكم، عن آفات اللسان، وعثراته وزلاته وذلك لأهمية هذا الموضوع هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لغفلة كثير من الناس، عن هذه القضايا، وللوبال الذي يجره اللسان على صاحبه، إذا لم يحكم الإنسان ضبطه والتحكم به ناهيك عن الكبائر التي يقع فيها الإنسان بسبب لسانه.
فإتماماً لهذا الموضوع نذكر لكم الآفة الخامسة من آفات هذا اللسان، وهذه الآفة من الأمراض الاجتماعية المنتشرة وبكثرة في مجتمعاتنا، بعكس المجتمعات الكافرة وهو الاستهزاء والسخرية قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَى? أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء عَسَى? أَن يَكُنَّ خَيْراً مّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِ?لأَلْقَـ?بِ بِئْسَ ?لاسْمُ ?لْفُسُوقُ بَعْدَ ?لإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [الحجرات:11].
أيها المسلمون، في الحقيقة لا أعرف كيف أعلق على هذا الموضوع، لا أدري كيف يكون حديثي عن هذه الآفة الذميمة: الاستهزاء والسخرية بعباد الله، والعجيب في الأمر كما ذكرت لكم، أنك لا تكاد ترى هذا المرض منتشراً في الدول الكافرة، لا ترى أحداً يسخر من الآخر، أو يستهزئ به، والمسلمون هم أولى الناس بالتأدب بالآداب الشرعية. لكنك تجد أن هذا الأمر منتشر. وهذا لا يعني أن مجتمعات الكفرة أفضل من مجتمعاتنا، فليس بعد الكفر ذنب. لكن أقول بأن انتشاره بين المسلمين، إما على سبيل النكت، أو على سبيل إضحاك الآخرين.
فمن أمثلة ذلك تجد الواحد منا، لو تصرف أي تصرف غير صحيح سخر الآخر منه بقوله لا تكن هندياً، وهذه لفظة شائعة في مجتمعاتنا، سبحان الله، وكأن الله عز وجل ما خلق الشعب الهندي، إلا للسخرية ومضرب المثل في الغباء، وما علم هذا المسكين بأن لسانه أوقعه في صفة ذميمة إذا لم يكن وقع في كبيرة كالغيبة ونحوها.
أيها المسلمون، لقد وصل الحال في بعض الناس، أنهم يجلسون الساعات تلو الساعات في مجالسهم، والمجلس من أوله إلى آخره ضحك في ضحك، هذا ينكت على هذا، وذاك يسخر بهذا حتى أصبح هذا فناً من الفنون المحلية، وهذا الأمر غير مقتصر على الشباب فقط بل حتى كبار السن يمارسون هذا الفن حتى تخرج هواة ومحترفين في مجتمعاتنا في هذا الفن.
فاتقوا الله أيها المسلمون، لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ لا يستهزئ بعضكم ببعض ما يدريك أخي المسلم، أن ذلك الهندي أو غيره الذي سخرت منه، أو أنكت عليه، أن يكون عند الله عز وجل أفضل منك يقول عليه الصلاة والسلام في حديث البخارى: ((رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره)) أي: ما يدريك أن هذا الأشعث الأغبر، لكن لمنزلته عند الله عز وجل لو أقسم على الله لبر الله بقسمه، لمنزلته عنده سبحانه وتعالى، وقد احتقر إبليس اللعين آدم عليه السلام؛ لأن إبليس كان يرى نفسه أنه أفضل من آدم، فباء إبليس بالخسار الأبدي، وفاز آدم بالعز الأبدي وشتان ما بينهما. فكل من ينظر إلى نفسه بأنه أفضل من غيره فلابد أن يعلم بأن فيه خصلة إبليسية.
أيها المسلمون، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: ((بحسب امرئ من الشر احتقاره أخاه المسلم)). ويقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)).
أيها الأخوة، ليس للوطن قيمة، وليس للحسب ولا للنسب وزن، ولا يقاس أفضلية الناس بهذه الأمور، ولكن التقوى هو المعيار الحقيقي، إن أكرمكم عند الله اتقاكم، واسمعوا هذه القصة التي رواها الإمام البخاري في صحيحه لتدركوا هذه الحقيقة عن سهل بن سعد قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: ((ما رأيك في هذا؟)) فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع قال فسكت النبى صلى الله عليه وسلم ثم مر رجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما رأيك في هذا؟)) فقال يا رسول الله: هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال لا يسمع لقوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا)). هل سمعتم أيها الأخوة قوله عليه الصلاة والسلام: ((هذا خير من على الأرض من مثل هذا)). هذا الفقير الوضيع، الذى يراه الناس حقيراً لا قيمة له، كل يسخر به، كل ينكت عليه، ربما يكون عند الله عز وجل أفضل من أهل البلد كلهم؛ لكنها السخرية والاستهزاء بعباد الله التي أعمت القلوب والعيون عن رؤية هذه الحقيقة.
أيها المسلمون، لقد تطاول الناس في هذه القضية، وزادوا عن حدهم، فبعد أن تعود ألسنة بعض الناس على الاستهزاء دائماً وقع بعض الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله في أمر أعظم مما ذكرت لكم، وقعوا في أشد من الآفة والكبيرة وقعوا في الكفر المخرج عن الملة، وقعوا في الكفر الأكبر بسبب اللسان وعن طريق الاستهزاء والسخرية والنكت.
أتدرون كيف حصل هذا؟
حصل هذا باستهزاء وتنكيت بعض الناس في أمور الدين والشرع والسخرية ببعض ماجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلكم هو الأمر الخطير والشر المستطير أيها الإخوة.
أيها المسلمون، نسمع من بعض الناس وقد سمعت الكثير من هذا بنفسي في بعض مجالس العامة، تجدْ ينكت ويستهزئ باللحية، وتجد من يحاول إضحاك الآخرين عن طريق أمور معلومة من الدين بالضرورة.
أيها الأخوة، إن الاستهزاء بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أو ثوابه أو عقابه كفر بواح، يخرج فاعله من ملة الإسلام ويوجب عليه ـ إن مات عليه ـ الخلود في نار جهنم والعياذ بالله.
فاتقوا الله أيها المسلمون، لا تصل بكم النكت إلى هذا الحد، تتجاوزون فيه العباد حتى تصلوا إلى شرع الله عز وجل، فكما ذكرت لكم إن هناك مجالس للمسلمين في هذا الوقت يقع فيها الاستهزاء ببعض السنن، تجد بعض الناس لكي يجعل جو المجلس مرحاً ومضحكاً، ولكي يضحك الآخرين تجده يستهزئ ببعض الملتزمين أو تجده يستهزئ بشىء من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم ويكون بذلك قد خرج من الدين وهو لا يعلم، ويكون بهذا الاستهزاء كافراً كفراً أكبر يخرجه من الدين بالكلية، ويدخله في الكفر بالكلية والعياذ بالله والدليل على ما نقول قوله تعالى في سورة التوبة: قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ [التوبة:65، 66].
لقد تساهل بعض الناس إلى هذا الحد، فإذا كنت لا تريد أن تلتزم أنت بجميع أوامر الشرع، وإذا كنت يا عبد الله لا تريد أن تلتزم بسنن المصطفى صلى الله عليه وسلم فلا تعرض نفسك للخطر ولا ترمي نفسك للهلاك ولا ترمي نفسك للنار، كل ذلك بمجرد كلمات تقولها عن طريق هذا اللسان، لا تحسب لها حساباً من أجل النكت ومن أجل إضحاك الآخرين، فالمسألة جد خطيرة أيها الأخوة، ليست قضية إثم ومعصية، لكنها قضية خروج من الإسلام قضية خلود في نار جهنم.
أيها المسلمون، أسوق لكم سبب نزول الآية في سورة التوبة: قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لتدركوا فقط مجرد الكلمات التي قالها أولئك فكفروا بسببها ونزلت فيهم قرآناً يتلى إلى يوم القيامة. روى ابن جرير، وابن حبان في سبب نزول قول الله جل جلاله: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ قال: قال رجل في غزوة تبوك ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء فقال له عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه: كذبت، ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب عوف بن مالك ليخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد القرآن قد سبقه أي نزلت الآية المذكورة: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: وجاء ذلك الرجل الذي قال تلك المقالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب نتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق. يقول ابن عمر لكأني أنظر إليه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الحجارة لتنكب رجليه وهو يقول إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ ما يلتفت إليه ولا يزيده عليه.
فيا أيها المسلمون، اتعظوا وتذكروا واحذروا من السخرية والاستهزاء سواء كان ذلكم مما يوجب الخروج من دين الله أو مما يوجب معصية تخدش الإيمان وتجرحه، الجماعة الذين كانوا في غزوة تبوك أيها الإخوة كان عندهم إيمان فلما قالوا ما قالوا، فلما لم يحسبوا حساب هذا اللسان كفروا بمقالتهم لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بعد ماذا؟ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ وقال الله عز وجل نظراء لهم كفروا بكلمات قالوها: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ جَـ?هِدِ ?لْكُفَّـ?رَ وَ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?غْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِ?للَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ?لْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَـ?مِهِمْ [التوبة:73، 74]، فقد أثبت لهم إسلاماً وأثبت لأولئك إيماناً خرجوا منه بسقطة لسان صادرة عن قلب مريض والعياذ بالله.
يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)).
أسأل الله عز وجل أن يجنبنا وإياكم وجميع إخواننا المسلمين الوقوع في شيء من ذلك إنه ولي ذلك والقادر عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، آفة أخرى من آفات هذا اللسان، وهى الآفة السادسة وهو المزاح: ويعتبر المزاح الجهة المقابلة للسخرية والاستهزاء، لكنه في نفس الوقت من الآفات العظيمة للألسن، التي أصيبت بها أمتنا ولا نريد أن يفهم كلامنا خطأً وفي غير محله فيفهم بعضكم بأننا نحرم المزاح أو ننهى عنه.
إن المزاح مطلوب وهو من الأشياء التي تدخل الأنس والسرور في نفوس الآخرين إذا كان في محله وبصورة لطيفة، لكن المزاح الذي نحذر منه والذي يعتبر آفة من آفات اللسان هو المزاح في غير الحق فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمزح لكنه عليه الصلاة والسلام كان لا يقول إلا حقاً يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((إني لأمزح ولا أقول إلا حقا)). فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح، ولكنه لا يقول إلا حقاً، ولا ينطق إلا صدقاً أما المزاح الذي نحن نحذر منه، والذي هو الغالب على الناس، وذلك المزاح الذي دخل الشيطان منه على الصغير والكبير، على الذكر والأنثى، فإنهم حين يمزحون يسابق أحدهم الآخر للإتيان بكلمات تعجب الآخرين، فيها يشتد ضحكهم وعند هذه الأهداف الدنيئة يضيع الحق في نفوس هؤلاء فتنطق الأفواه بالكذب والباطل، وعندها يقعون في آفات اللسان، فمن أراد منكم المزاح أيها الإخوة فلا يقل إلا صدقاً وحقاً، وإلا فالسلامة لا يعدلها شيء. واسمعوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه: ((ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له ويل له)).
أيها المسلمون، إليكم طرفاً من مزاح رسول الله صلى الله عليه وسلم لتدركوا الفرق الشاسع بين مزاح الرعيل الأول ومزاحنا نحن عن أنس بن مالك رضي الله عنه: ) أن رجلاً استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: طلب أن يحمله معه فقال عليه الصلاة والسلام: ((إني حاملك على ولد الناقة)) فقال: يا رسول الله، ما أصنع بولد الناقة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((وهل تلد الإبل إلا النوق)). فهم الرجل من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه سوف يحمله على صغار ولد الناقة، وهذا كما هو معروف لا يحمل عليه لصغره لكن حتى الكبير من الإبل هي ولد الناقة فلم ينتبه الرجل لمراد قوله عليه الصلاة والسلام وقد كان صادقاً فيما يقول.
وعن الحسن رضي الله عنه قال: أتت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: ادع الله أن يدخلني الجنة. فقال عليه الصلاة والسلام: ((يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز)) قال: فولت تبكى. فقال: ((أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: إِنَّا أَنشَأْنَـ?هُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَـ?هُنَّ أَبْكَـ?راً عُرُباً أَتْرَاباً [المعارج:35-37] )) ، هكذا كان مزاحه عليه الصلاة والسلام خالياً من الكذب والخديعة والطعن في الناس.
أيها المسلمون، إن الإكثار من المزاح له مضار لاشك في ذلك قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: "اتقوا الله، وإياكم والمزاح فإنه يورث الضغينة ويجر إلى القبيح، تحدثوا بالقرآن، وتجالسوا به فإن ثقل عليكم فحديث حسن من حديث الرجال".
وقال عمر رضى الله عنه: (أتدرون لم سمي المزاح مزاحاً؟ لأنه أزاح صاحبه عن الحق). ويقول الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه الإحياء: "لكل شيء بذور، وبذور العداوة المزاح، ويقال المزاح مسلبة للنهي مقطعة للأصدقاء.
فإن قلت قد نقل المزاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فكيف ينهى عنه؟ فأقول ـ وهذا قول الغزالي ـ إن قدرت على ما قدر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو أن تمزح ولا تقول إلا حقاً، ولا تؤذي قلباً ولا تفرط فيه وتقتصر عليه أحياناً على الندور فلا حرج عليك فيه، ولكن من الغلط العظيم أن يتخذ الإنسان المزاح حرفة يواظب عليه ويفرط فيه" انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
أيها المسلمون، خلاصة القول في المزاح أن المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراط ويداوم صاحبة عليه ويورث الضحك وقسوة القلب ويشغل عن ذكر الله في مهمات الدين ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء ويورث الأحقاد ويسقط المهابة والوقار، فأما من سلم من ذلك فهو مباح والذي كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا النوع لمصلحة تطييب نفس المخاطب ومؤانسته وهو سنة مستحبة.
فاتقوا الله أيها المسلمون، تعلموا مثل هذه الأمور، ولا يكن مزاحكم مما تحصلون به على السيئات ويخرج عن مقصوده الذى شرع له.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
(1/2917)
آفات اللسان (4)
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, الكبائر والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
17/1/1410
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من آفات اللسان الغناء. 2- من آفات اللسان الحديث أثناء الخطبة. 3- من آفات اللسان
السباب. 4- من آفات اللسان اللعن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لم ينته حديثنا معكم، عن آفات اللسان، وما أدراك ما هي آفات اللسان.
أيها المسلمون، هناك آفات معينة، هي التي ينصب حديثنا عليها في هذا الأسبوع، لا يخطر في البال أنها من آفات اللسان، وذلك لأسباب معينة، إما لجهل الناس وعدم علمهم بهذه الآفة، أو لكثرة انتشارها، حتى تبلدت الأحاسيس، وطُمس القلب، ورُئي أن هذه الآفة من ضروريات الحياة، لا يمكن الاستغناء عنه.
فإتماماً للموضوع نذكر لكم إحدى هذه الآفات، التي عمت بها البلوى في مجتمعاتنا، ولا ينتبه غالب الناس أنها من آفات اللسان، وهي الآفة السابعة. الغناء.
نعم ذلكم الغناء الذي تطلقه ألسن المغنيين والمغنيات. نعم، ذلكم الغناء آفة من آفات اللسان والذي انتشر في بيوتنا وشوارعنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.حتى اعتاده الناس، ولم يروا فيه بأساً ولم يعرفوا أنها من آفات اللسان بل وصل الحال ببعض المسلمين، أنه يحس بضيق في نفسه، لو افتقده فترة من الزمن، يحس أنه قد فقد شيئاً ضرورياً، والبعض الآخر، وهذا ألعن من الأول، لا ينام إلا على نغمات الغناء المحرم.
انظروا ـ أيها الإخوة ـ إلى أي حال وصل إليه أبناء المسلمين، إلى أي درجة من سخافة العقول، وصل إليه شباب الأمة، بل حتى كبار السن عندنا، ولم تنجو منه حتى النساء.
والله أيها الإخوة، إن هذه الآفة، وهي الغناء، من أعظم الابتلاءات التي ابتليت بها أمتنا. لأن الغناء، يُحسن الكلام القبيح، ويزخرفه ويزينه في نفوس الناس، فيزداد قبوله، ويكثر الإقبال عليه، حتى إنك لترى الكبير والصغير، يغني بلسانه وقلبه، وجسمه يتمايل يمنة ويسرة، وقد سكر من الغناء، وثَمُل من الطرب، حتى إن المذاهب الهدامة، والعقائد الفاسدة، والأفكار النتنة، رُوّج لها عن طريق الغناء، فضلاً عن مختلف أنواع المعاصي والفسوق، الذي يصاحب الغناء غالباً، من زنا اللسان، المتمثل بوصف الخدود والنهود، وغير ذلك مما حرم الله عز وجل.
كما أن هذه الأغاني من أفضل الوسائل التي توصل إليها أعداؤنا، لحث الشباب على العشق والغرام، وإضاعة أعمارهم في الخسران والهلاك. يقول الله تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [لقمان:6].
جاء في تفسير الإمام ابن كثير، رحمه الله تعالى، عن غير واحد من السلف، أن المراد هو الغناء.
إضافة ـ أيها الإخوة ـ، لما يصاحب الغناء في هذا العصر من آلات العزف والطرب، حتى يطلب الغناء، ويُسَّر الناس بهذا الداء، غير سائلين عن حلال أو حرام، وهنالك من يقول:هو حلال لا شيء فيه.
أيها المسلمون، من الأدلة على تحريم آلات العزف والطرب، قوله عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ ـ وهو الفرج، كناية عن الزنا ـ والحرير والخمر والمعازف)). فقوله عليه الصلاة والسلام: ((يستحلون)) ، يدل على أن هذه الأشياء في الأصل محرمة. لكن هؤلاء استحلوها. ثم إنه قرن المعازف بالزنا والحرير والخمر، مما يؤكد على حرمتها.فهل يستطيع أحد أن يقول بأن الزنا والخمر حلال ،فكذلك المعازف ذكرت مع الزنا والخمر في نص واحد، ليدل دلالة واضحة على تحريمه. فلا أدري أيها الإخوة، لِمَ الغناء والطرب والانبساط في مجتمعاتنا الإسلامية، أهو للعز الذي يتمتع فيه المسلمون، أم للفتوحات التي يحققونها كل يوم. والله إن الواجب في حقنا، البكاء، ولكن أين القلوب التي تبكي، أين هي، لطالما شُغلت بالرقص والغناء.
على عدم البكاء أخي فابكِ فما جدوى الحياة وأنت لاه
وما طعم الحياة بلا أنين وما الدنيا بلا دمع وآه
أيها المسلمون، إن الحال الذي تعيشه أمتنا الإسلامية، من الذل والهوان، من الضياع والشتات، من الفرقة والتنازع. إن حال أمتنا الإسلامية، من التخلف في كل جانب. إن حال الأمة، من نقص في الكوادر الوطنية في جميع التخصصات. أهو حال أيها الإخوة، نُسَرُّ فيه ونغني ونرقص، ونفتح المعاهد لتخريج المتخصصين، في مجال الموسيقى المحرم. ليس هناك وقت للغناء، وليس هناك وقت للطرب، بل الواجب في حق الأمة أجمع، الجد والاجتهاد، لرفع الذل والهوان عن أنفسهم، ولا يكون لهم ذلك، إلا بتحقيق شرع الله في أنفسهم وفي غيرهم.
أيها المسلمون، كان في ما مضى، في عهد سلف الأمة، إذا قيل: المسلمون، إذا ذكر المسلمون، تذكرنا القادة الجهابذة، وعمالقة المسلمين في كل مجال. إذا قيل: المسلمون، تذكرنا، صلاح الدين، تذكرنا، شيخ الإسلام ابن تيمية، تذكرنا سعداً وخالداً، ونسيبة بن كعب، الخنساء، خديجة وغيرهم وغيرهم، مما نعجز أن نحصر ما قدموا للإسلام والمسلمين.
أما الآن، أما في زماننا هذا.
إذا قيل: المسلمون، فما ندري أي الشخصيات نقدم للعالم، أنقدم مخنثي المغنين والمغنيات، أم نقدم نماذج بنات المسلمين الذي يبيعون أعراضهن على خشبات المسارح، مقابل دراهم معدودة.
فاتقوا الله أيها المسلمون، طهروا بيوتكم من هذا الغناء الخليع، طهروا أسماعكم من هذا المحرم. لا تسخروا نعم الله عز وجل فيما يسخط الرحمن عليكم. إن هذه الأذن أخي المسلم. من النعم التي تحصى عليك، من الله جل جلاله. وقد قال الله تعالى: إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
وسوف يحاسبكم الله عز وجل على كل كلمة أرعيتها سمعك. ما يكون موقفك أمام الله عز وجل، إذا فتحت صحيفتك يوم القيامة، وإذا كل ما سمعته طوال حياتك، من سخافات كوكبة الشرق، والعندليب الأسمر. تنشر صحيفتك أمام الناس، وإذا كلمات الغناء أضعاف مضاعفة أمام القرآن وحديث المصطفى.
فاتقوا الله أيها الإخوة، قبل أن نندم في يوم لا ينفع فيه الندم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
آفة ثامنة، من آفات اللسان:وهذا مما قد لا يتفطن لها بعضكم، وتفوته. ألا وهو التكلم والإمام يخطب يوم الجمعة.
فإنها هذا أيها الإخوة، أمر منهي عنه، وقد يعرض صاحبه لفوات أجر الجمعة عليه. يقول عليه الصلاة والسلام، في الحديث الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ((من قال يوم الجمعة، والإمام يخطب: أنصت فقد لغا)).
إن يوم الجمعة ـ يا عباد الله ـ، له حرمة خاصة من بين سائر أيام الأسبوع. ولهذا يجب أن يكون له حرمة خاصة أيضاً في قلب كل مسلم.
لا بد أيها الإخوة، من احترام هذا اليوم، ومن جملة هذا الاحترام، عدم التكلم والإمام يخطب. ((من قال لصاحبه والإمام يخطب: أنصت فقد لغا)) ، ((ومن لغا)) كما جاء في حديث آخر: ((فلا جمعة له)). لم يعد ليوم الجمعة تلك الحرمة في قلوب المسلمين، كما ينبغي بل هو في حس بعضنا كسائر الأيام، بل تجدنا نجدّ ونعمل في باقي الأيام أكثر من يوم الجمعة، وكأن يوم الجمعة يوم للنوم فقط. تجد من يتأخر في الحضور للصلاة، وفي هذا حرمان عظيم له. وتجد من يأتي لاستماع الخطبة بثياب النوم، وفي هذا استهتار واضح. وتجد من يحضر في آخر الخطبة الثانية، ليدرك الصلاة فقط، وهذا قد كلف نفسه وأتعبها ولو أكمل نومه، لا أريد أن أقول لكان خيراً له. بل هو ضُرٌ له.
فاتقوا الله أيها المسلمون، عظموا ما عظم الله. وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32]، تنبهوا لهذا اللسان، فإن زلاته وعثراته لا تعد ولا تحصى. قيدوا هذا اللسان بلجام الشرع. ولا يطلق له العنان، قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم)).
بارك الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، نضيف آفة أخرى من آفات هذا اللسان، وتكون بذلك الآفة التاسعة، ألا وهو "السب".
إن إطلاق اللسان بالسب أيها الإخوة، فحش وبذاءة في الرجل، وهي صفة ذميمة قبيحة، إذا تعود لسان الرجل عليه، وهناك من تراهم، نسأل الله السلامة والعافية، السب عندهم ليس بشيء، تسمع ألفاظاً قبيحة، بين الرجل وأبنائه، بين الرجل وأهله، يستحي الإنسان السوي، أن يحدث بها نفسه. انتشر السباب بين المسلمين وفي بعض مناطقنا حتى وصل المجتمع إلى درجة التشبع ـ كما يقال ـ فتبلد الإحساس، حتى صار المدح والسب في حس هؤلاء القوم، سيان، لا يختلفان.
أيها الإخوة، قال الله تعالى: وَ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بِغَيْرِ مَا ?كْتَسَبُواْ فَقَدِ ?حْتَمَلُواْ بُهْتَـ?ناً وَإِثْماً مُّبِيناً [الأحزاب:58]. وجاء في حديث ابن مسعود المتفق عليه، قوله عليه الصلاة والسلام: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)). وروى البخاري في صحيحه من حديث سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنهما، أن رسول الله قال: ((أربى الربا شتم الأعراض)). وقال عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عمر الصحيح: ((إذا سبك رجل بما يعلم منك، فلا تسبه بما تعلم منه، فيكون أجر ذلك لك، ووباله عليه)).
عباد الله، إن سب المسلم إضافة إلى أنه آفة عظيمة من آفات اللسان، فهو حرام لا يجوز، يوجب الإثم على قائله، ولا يمحى عنك إلا بالتوبة والتحلل من الذي سببته.
أيها المسلمون، هناك أشياء أخرى يزل لسان المسلم، فيقوم بسبها، وهو يتصور أنه لا إثم عليه، ولا حرج عليه، وهي في الحقيقة من الأمور المنهي عنه فمن ذلك مثلاً النهي عن سب الدابة. روى مسلم في صحيحه، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال:بينما رسول الله في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة، فضجرت، فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله فقال: ((خذوا ما عليها، ودعوها فإنها ملعونة)) قال عمران: (فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد). فياله من دين عظيم، ينهى عن سب الدابة، دين يسعى لتنقية الفؤاد، دين يسعى لتنقية اللسان، وإن إنساناً تعود على سب الدابة. ليسير عليه أن يسب الناس، وإن إنساناً تعود على حفظ لسانه من سب الدابة، ليسير عليه أن يحفظه في كل ما يرضي الله تعالى.
ومما نهينا عن سبه أيضاً الريح. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله : ((لا تسبوا الريح، فإنها من روح الله تعالى، تأتي بالرحمة والعذاب، ولكن سلوا الله من خيرها، وتعوذوا بالله من شرها)).
ومن الأشياء المنهي عن سبها أيضاً الديك. فعن زيد بن خالد رضي الله عنه، أن رسول الله قال: ((لا تسبوا الديك، فإنه يوقظ للصلاة)) رواه أبو داود بسند صحيح.
ومما نهينا عن سبه أيضاً الدهر. روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي أنه قال: ((لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر)). والمراد بالدهر أيها الإخوة الزمان، وما يقع فيه من الحوادث والنوازل والمصائب. وقوله: ((إن الله هو الدهر)) ، أي أن الله فاعل لهذه الحوادث والنوازل وهو خالقها. لأن الدهر وما فيه مخلوق، من جملة مخلوقات الله عز وجل. وهذا يقع فيه بعض الناس هداهم الله، لو قدر الله ونزل به مصيبة، أو وقع في بلاء تجده يسب ويلعن الزمان، ويقول بأن الزمان الماضي كان أفضل من هذا الزمان ونحو هذا، وهذا أمر منهي عنه أيها الإخوة، لأن الزمان لا فعل له. وكأن هذا الرجل بسبه للدهر معترض على ما قدره الله عز وجل عليه.
هذا لا يليق بالمؤمن، ناهيك عن احتمال وقوع الإنسان، في الاعتراض على أقدار الله عز وجل والله المستعان.
ومما نهينا عن سبه أيضاً، الحمى أو المرض. وهذا أيضاً واقع من بعض الناس هداهم الله، لو أصيب بمرض، تجده يتذمر، ويسب المرض، لأنه لا يدرك ما وراء هذه الحمى. وأنها من نعم الله عز وجل عليه، لو صبر عليها واحتسب.
روى مسلم في صحيحه، عن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله دخل على أم السائب، فقال: مالك يا أم السائب؟ تزفزفين. قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم، كما يُذهب الكير خبث الحديد)).
وأيضاً ممن يحرم على المسلم سبه أيها الإخوة، الأموات. روى البخاري في صحيحه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله : ((لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)).
وأشد حرمة مما سبق كله ـ أيها الإخوة ـ هو سب الصحابة. يقول عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر: ((لعن الله من سب أصحابي)). وروى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهب، ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه)).
عباد الله، قد يستغرب بعضكم، أو قد يتساءل. وهل هناك أحد يسب الصحابة؟ هل هناك من يجرؤ على سب صحابة رسول الله ؟ نقول نعم. هناك طوائف في هذه الأمة، قد ابتليت بها أمتنا الإسلامية، ممن ينتسبون إلى الإسلام، وهم أبعد ما يكونون فيه، لم يسبوا الصحابة فقط، بل دينُهم سب الصحابة، يحتسبون الأجر على ذلك من الله جل جلاله. الرسول عليه الصلاة يقول: ((لعن الله من سب أصحابي)). فكيف بهؤلاء الضالين، بل الملاعين بنص حديث رسول الله ، الذين يسبون الصحابة بشكل عام. ويخصصون أنواعاً معينة من السب، لأبي بكر وعمر ومعاوية، رضي الله تعالى عنهم أجمعين. بل يجرؤون على ذلك، وقاحة منهم، ببث هذه الشتائم عبر إذاعاتهم. ألا ليت شعري، هل عرفوا هؤلاء المبتدعة من سبّوا، هل عرفوا مقام من سبوا، تعصباً لأفكارهم النتنة، وتأويلاتهم الشيطانية، سبوا صِديق هذه الأمة.الذي يقول عليه الصلاة والسلام في حقه: ((أحب الناس إليّ عائشة، ومن الرجال أبوها)). سبّوا أبا بكر، الذي قال له الرسول وهما في الغار: ((يا أبا بكر:ما ظنك باثنين الله ثالثهما)). سبوا أبا بكر رضي الله عنه، خليفة رسول الله ، وقد وزن بالأمة، فرجح عليها.
سبوا الفاروق، عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وقد قال فيه رسول الله : ((رأيت شياطين الإنس والجن فروا من عمر)). فرت الشياطين منه رضي الله عنه وهو حي، ولكن هؤلاء، شياطين الإنس، تشتمه الآن وتسبه لجبنها وضعفها بعد موته، إنها لا تقدر على المواجهة، مواجهة الرجال للرجال، وما ينالون بفعالهم هذه، سوى الهلاك والخسران إن شاء الله تعالى.
سبّوا معاوية رضي الله تعالى عنه، كاتب وحي رسول الله وقد دعا له عليه الصلاة والسلام فقال: ((اللهم اجعله هادياً مهدياً، واهد به)) رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
أيها المسلمون، هل تدرون ماذا يعني سب الصحابة؟ هل تعلمون ماذا يعني الطعن في الصحابة؟ أسألكم بشكل آخر؟ من الذي نقل إلينا الدين كاملاً عن رسول الله أليسوا هم الصحابة؟ كيف تعلمنا الصلاة؟ كيف تعلمنا الصيام؟ كيف تعلمنا الحج؟ أصول الدين وفروعه، من الذي نقله لنا، أليسوا الصحابة؟ فجاء من طعن في الصحابة، طعن في صدقهم وأمانتهم، وسبهم فوق كل هذا! ماذا يعني هذا؟ هذا يعني الطعن في الدين كله.
بمعنى آخر، إن جميع تفاصيل الدين التي نفعلها، غير صحيحة. ولهذا لا يُستغرب، إذا لم يصوموا مع المسلمين، لا يستغرب إذا خالفوا إجماع المسلمين في الطهارة والصلاة، وبقية أصول الدين وفروعه.
(1/2918)
آفات اللسان (7)
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
8/2/1410
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الكذب من أعظم آفات اللسان. 2- صور منتشرة من الكذب. 3- المجالات التي يباح فيها
الكذب. 4- كيفية علاج آفات اللسان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، لعل هذه الخطبة تكون آخر خطبة في سلسلة آفات اللسان، وإني لأعلم أن بعضكم قد ملّ من هذا الموضوع ويرى أننا قد أطلنا فيه بشكل زائد عن حده الطبيعي، فلو سألت من جاءه هذا الشعور سؤالاً، أنت لماذا تصلي، ولماذا تحرص على باقي أركان الإسلام، بل ما هو هدفك الأخير الذي تريد أن تصل إليه بعد هذه الدنيا؟
لا شك أن جواب جميع المسلمين واحد، وهو أن هدفه، تخليص هذه الرقبة من نار جهنم، كل الذي يتمناه كل مسلم، أن ينجو من النار، ويفوز بالجنة، من أجل ذلك هو يعبد الله عز وجل.
فماذا تقولون لو أخبركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الناس يكبون على مناخرهم في نار جهنم بحصائد ألسنتهم.
إن هذا اللسان أيها الأخوة، من أشد وأخطر الأشياء التي قد تعرض صاحبها لعذاب الله عز وجل.
يقول عليه الصلاة والسلام، حديث سهل بن سعد المتفق عليه: ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه، أضمن له الجنة)).
عباد الله، نختم هذه الآفات، بأعظم آفة من آفات اللسان، وهي آفة الكذب، وتكون بذلك الآفة السابعة عشر من آفات هذا اللسان قال الله تعالى: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وقال سبحانه: إِنَّمَا يَفْتَرِى ?لْكَذِبَ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَـ?تِ ?للَّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ ?لْكَـ?ذِبُونَ [النحل:105]، وقال تعالى: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ [البقرة:10]، وقال عز من قائل: وَيْلٌ لّكُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الجاثية:7]، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)) ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها: إذا أوتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)).
أيها المسلمون، هناك أمور لا يعدها الناس من الكذب، وذلك: إما لتهاونهم بها، أو لجهلهم، وهي تعتبر في الإسلام كذباً، وسوف يحاسب عليها صاحبها، أمام الله عز وجل يوم القيامة.
فمن هذه الأمور مثلاً، وهذا كثيراً ما يقع فيه الأباء والأمهات، مع أطفالهم الصغار، وهو دعوة الطفل الصغير لأخذ شيء، وليس مع الداعي شيء، تجد الأب أو الأم، لو أراد أن يأتيه ابنه الصغير قبض على يده، كأن في يده شيء، فيأتي الطفل يجري نحو أبيه، وإذا به يقع في فخ الأب، ولا شيء فيه، وهذا من الكذب ودليل هذا من الشرع حديث عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا وأنا صبي، قال: فذهبت أخرج لألعب، فقالت أمي، يا عبد الله تعال أعطيك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما أردت أن تعطيه؟)) قالت: أعطيه تمراً، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما إنك لو لم تعطيه شيئاً، كتبت عليك كذبة)).
فاتقوا الله أيها المسلمون، فلينتبه الآباء، ولتنتبه الأمهات إلى هذا، ولنرب أبناءنا على الإسلام ـ أيها الأخوة ـ، ولنغرس فيهم الصدق، وإيانا أن نكذب عليهم.
فإن مثل هذه التصرفات مع الأولاد، من أقوى الأساليب التي تجعلهم كذابين، والشاهد على ذلك أيها الأخوة أن هذا الصحابي الجليل عبد الله بن عامر، هو الذي روى لنا هذا الحديث بنفسه، ما جرى بينه وبين أمه، حين كان صغيراً، ولم ينس هذه الحادثة وبقيت عالقة في ذهنه، فما بالكم لو أن أمه قد كذبت عليه فعلاً، لا يمكن أن ينساها لأن الطفل شديد الحفظ، إضافة إلى أنه يتأثر بوالديه.
ومن الأمور أيضاً والتي لا يعدها الناس كذباً وهي من الكذب، التحدث بكل ما سمع، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)) وهذا أمر شائع يا عباد الله، أغلب الناس يتكلم ويحدث بكل ما سمعت أذناه، ويبرر لنفسه بقوله: هذا ما سمعته ولا أنقل سوى ذلك، هذا منهي عنه ـ أيها الإخوة ـ في دين الإسلام، فمثلاً: ماذا لو كان ما سمعه تهمة زنا مثلاً لرجل عفيف، أنت سمعت هذا الخبر ونقل لك، فهل يحق لك شرعاً، أن تحدث به في كل مجلس بحجة أنك سمعته، بل من منا يرضى لنفسه أن يتحدث عنه بمثل هذا؟
فاتقوا الله أيها المسلمون، لا تتحدثوا بكل ما تسمعون، فكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع.
أمر ثالث ـ يا عباد الله ـ منتشر واعتاده الناس ولا يعده الناس كذباً، وهو عين الكذب، ألا وهو التحدث بالكذب لإضحاك الناس فيقول عليه الصلاة والسلام من حديث معاوية رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له)).
أتدرون أين ينتشر هذا كثيراً، هذا منتشر ـ أيها الأخوة ـ في بيئة المسارح والتمثيليات الموبوءة، أغلب التمثيليات أيها الأخوة وغالب المسرحيات، عبارة عن قصة معينة وأحداث وأغلبها، بل جميعها كذب في كذب، قصص غير واقعية، وأحداث لا مجال للصحة فيها.
بعضكم يتصور أن هذه تمثيلية ليس القصد من ورائها إلا إدخال السرور في نفوس الناس، وما هي إلا ترويح للنفوس لكنها ليست كذلك في ميزان الشرع، إنها من التحدث بالكذب لإضحاك الناس، وهذا أمر محرم في دين الإسلام، فكم اشتهرت أسماء ويا للأسف من وراء هذه الكبيرة، وهي الكذب، كم أتلفوا الأموال، في هذه المسرحيات، وكلها معاصي نسأل الله السلامة والعافية، ينهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ويهدد بالويل عن فعل هذا القبيح، وهم يهنئونه ويبشرونه على نجاح الفيلم، أو المسرحية، فإلى الله المشتكى.
عباد الله، هناك بعض المجالات، أباح الشرع فيها للإنسان أن يكذب وهي في ثلاثة مواضع فقط:
الموضع الأول: الرجل يصلح بين الناس.
الثاني: الكذب على الأعداء للحفاظ على أسرار الجيوش الإسلامية.
الثالث: كذب الرجل على امرأته.
ودليل ذلك ما ثبت عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس فينمي خيراً ويقول خيراً)).
ولحديثها الآخر رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا أعده كاذباً: الرجل يصلح بين الناس، يقول القول لا يريد به إلا الإصلاح، والرجل يقول في الحرب، والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها)).
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم إنا نسألك أن تحفظ ألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
أكتفي بهذا القول وأستغفر لله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له تعظيماً لألوهيته وربوبيته وسلطانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وعلى أصحابه، وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد: عباد الله، نكون بذكر آفة الكذب قد انتهينا من هذه السلسلة، ولا أقول: قد أحصيت جميع عثرات اللسان وزلاته، لكن لعله أن تكون هذه أبرزها وأهمها.
وختاماً لهذا الموضوع نحاول أن نجمل بوصف بعض الأدوية علاجاً لهذا الداء فما من داء إلا له دواء، إلا الموت والهرم.
فأول علاج ـ أخي المسلم ـ لآفات اللسان معرفة عظمة الله تعالى وأسماءه وصفاته وأفعاله، إذ كلما عظم المسلم الله سبحانه وتعالى في قلبه حقيقة التعظيم عظم تبعاً لها حرماته عز وجل، وهو دواء ناجع للقلب لنبذ الشهوات والفسوق والعصيان.
ومن العلاج أيضاً أخي المسلم معرفة النصوص التي تبين ما أعد الله تعالى للمتقين من عباده في الجنة، فمن تفكر في الجنة وآمن بها كما يحب ربنا ويرضى فإنه سيؤثر نعيم الجنة على كل نعيم، ومن لم يعرف الجنة وما بها من نعيم، فإنه يبحث عن النعيم، فيدله الشيطان على آفات اللسان.
ومن العلاج أيضاً معرفة ما في القبر من عذاب ونعيم ففي قراءة النصوص المتعلقة بالقبر عبرة لأن ماذكر فيها من العذاب كان للردع عن الخوض باللسان بما يغضب الله سبحانه وما ورد عن النعيم في القبر يدفع المسلم للصبر عن الخوض بلسانه أو الإمساك عن الشر.
ومن العلاج ـ أيها الأخوة ـ معرفة الآيات والأحاديث التي تبين عذاب النار فإن من تفكر في النار وأحسن التفكير هانت عليه الدنيا وما فيها وحاسب نفسه على الكلمة قبل أن يخرجها لئلا يمسه من عذابها أو يناله من حرها.
ومن العلاجات المهمة أيضاً يا عباد الله تذكر الموت وقصر الأمل قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
وقال سبحانه: حَتَّى? إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ ?لْمَوْتُ قَالَ رَبّ ?رْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـ?لِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100]. والمتأمل المتدبر ـ يا عباد الله ـ للآيات والأحاديث التي تذكر الموت وقصر الأمل لا يمكن أن يسمح للسانه أن يقع في الآثام والخطايا لأنه يخشى أن يموت وهو يخوض في الباطل فهو يستحضر قوله عليه السلام: ((يبعث كل عبد على ما مات عليه)).
ومن علاج حفظ اللسان أيضاً أيها الأخوة الدعاء، إنه الملجأ العظيم الذي يلجأ العبد فيه لربه يدعوه ويبتهل إليه أن يحفظ لسانه ويتحرى الساعات المستجابة ويراعي آدابه داعياً بلسانه وقلبه، فمن أخلص لله في دعائه فإنه بإذن الله مهتد للحق، نائل ما أراد، ومن العلاج أيضاً الاشتغال بالطاعات كالعلم والتعلم، والصلاة، والصيام، والذكر، وقراءة القرآن إذ أن المشتغل بالعبادات والطاعات، يعظم عليه بعد التعود عليها أن يصرف أوقاته في سواها فهي تملأ فراغه وتسد السبل أمام تلبيس الشيطان للمعاصي وآفات اللسان.
ومن العلاج أيضاً الصمت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله عبداً قال خيراً فغنم، أو سكت عن سوء فسلم)). وقال عليه الصلاة والسلام: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال: ((أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)).
والمتدبر لهذه الأحاديث أيها الأخوة، يجد أن الصمت فيه النجاة والسعادة، ولم يقل عليه الصلاة والسلام عن المتكلم أنه ينجو لأن النجاة في الكلام مشروطة بالإخلاص لله في النية وأن يكون الكلام موافقاً للشريعة، فعليك بالصمت أخي المسلم فليس لك في النجاة مثله
ومن العلاج أيضاً اعتزال الناس والقعود في البيت، وذلك حين يحس الإنسان بضعف لسانه عند لقاء الناس ولا يقوى على حفظه، فعندئذ لا حل أسلم من اعتزالهم.
فاتقوا الله أيها المسلمون، استخدموا هذه العقاقير الشرعية، إذا أصبتم لا سمح الله بمرض آفات اللسان.
أيها المسلمون، لقد صدق من قال: ما لم أتكلم بالكلمة فأنا أملكها، فإن تكلمت بها ملكتني وقال ابن القيم رحمة الله تعالى: "من العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم والسرقة وشرب الخمر والنظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالاً، يزل بالكلمة الواحدة، أبعد مما بين المشرق والمغرب".
وقال أيضاً: "إن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كله".
وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم الله بذلك في كتابه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/2919)
آفات اللسان (5)
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
24/1/1410
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشعر المبذيء آفة من آفات اللسان. 2- الدعاء على الأبناء من آفات اللسان. 3- تعظيم
الكافر من آفات اللسان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله مازال الحديث عن اللسان، عن زلاته وعثراته وسقطاته.
أيها الإخوة كلما أردت أن أنهي هذه السلسلة وأتوقف ليكون الحديث عن موضوع آخر ظهرت لي آفات أخرى أرى أنها من الأهمية بمكان، وبعضها يكون من طامات ما في المجتمع فأرى أنه من الواجب التنبيه عليه.
ولا يخفى عليكم أيها الإخوة أن الآفات العظيمة والتي تعد من الكبائر لم نتعرض لها بعد مثل الكذب والغيبة والنميمة، وذلك ليس لعدم أهميتها، ولكن لأن هناك من الآفات ما لا تقل خطورة عنها يغفل عنها بعض الناس، ولأن هناك من الآفات مالا لاتصل لدرجة الكذب والغيبة فى الحرمة، لكن لا يدرك الناس أنها من عثرات اللسان وزلاته.
ولهذا رأيت أن أجعل آفات الكذب والغيبة من أواخر ما سوف نتكلم عليه إن شاء الله تعالى، وذلك ليكون التفصيل فيه أكثر، وليبسط فيه الكلام، فنضيف يا عباد الله، بعد هذه المقدمة آفة أخرى من آفات اللسان، وأيضاً يا عباد الله الآفات التي سوف نتناولها فى جمعتنا هذه هي أيضاً مما لا يتوقع بعضكم أنها من الآفات.
أيها المسلمون، ذكرنا من قبل تسع آفات، وبذلك تكون آفتنا هذه هي الآفة العاشرة، ألا وهو الشعر، نعم ذلكم الشعر الذي تطلقه ألسنة الشعراء، وهي من الأمور المنتشرة سواء كان ذلك بين العامة وهو ما يعرف بالشعر الشعبي، أو بين المتعلمين والمثقفين.
إن الشعر أيها الأخوة له سحره وتأثيره، فالشعر يأخذ عقول الناس وقلوبهم، ويستطيع الشاعر أن يصرف أصحاب القلوب المهزوزة إلى غير الهدى وهذا هو الغالب أيها الأخوة على الشعر فى هذا الزمان، جعلوا الشعر طريق الشرك والفسوق والعصيان، وكثيراً ما يكون الشعر فى ذكر النساء والحث على الزنا والفاحشة أو يكون الشعر فى مدح إنسان بما ليس فيه، وعظمت المصيبة أيها الاخوة لما صار فى الأشعار مادة الغناء، يرقص لها الناس على كافة المستويات يردد أحدهم الأبيات، دونما تفكر أو تدبر.
أيها المسلمون، لقد ذم الله تبارك وتعالى الشعراء بأنهم فى كل واد يهيمون خالفت أفعالهم أقوالهم مستثنياً سبحانه منهم المؤمنين حيث يقول تبارك وتعالى: وَ?لشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ ?لْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ [الشعراء:224-226]. روى البخاري ومسلم فى صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يمتلئ جوف رجل قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلىء شعراً)).
عباد الله، هناك نوع من الشعر ظهر فى الآونة الأخيرة وهو في الحقيقة ليست بشعر، أقرب ما يكون إلى محاولات الأطفال فى نظم الشعر، وذلك ما يسمى بالشعر الحر، سخافات، وهزل، لا ندري من أين دخل علينا، بعض من يريد أن يعد من الشعراء ولا يستطيع أن يضع قصيدة قوية بلغة العرب الفصحى يقوم بصف هذه الترهات جوار بعضها البعض، ووضعوا له قواعد وأصول على حد قولهم، وقالوا: إنها شعر، لكن يختلف عن الشعر الذي تقبله الفطر السليمة فسموه الشعر الحر.
وليت الأمر توقف عند هذا الحد أيها الأخوة، لعل أغلبكم قد سمع بالحداثة، هذا التيار الفكري الجديد، الذي يغزو مجتمعاتنا هذه الأيام، وهى إبعاد الدين عن واقع الحياة، وهو قبول كل حديث ونبذ كل قديم فكل ما كان قديماً فهو مرفوض، فمثلاً الحجاب قديم مرفوض، ستر المرأة لنفسها شىء قديم مرفوض، استعمال السواك عادة قديمة مرفوضة، الدين كله قديم، إذن لابد من الحداثة، هي العلمانية لكنها بثوب الحداثة.
هذا الفكر أيها الإخوة، روج له عن طريق الشعر الحر وفشى وانتشر فى المجتمع، وقد لاقت قبولا وذلك لأن قلوب أغلب الناس كانت مهيأة، لذلك سئمت الالتزام، تريد الانطلاق والتفلت من تكاليف الشرع، تريد الحرية، فتصورت أن الحرية تكون فى الشعر الحر، وما علمت أنها عبودية، عبودية لغير الله عز وجل. ولا يمكن أن يستنشق الإنسان الحرية الحقيقية، إلا في ظل الإسلام.
أيها المسلمون، تنبهوا لمثل هذه الألاعيب الشيطانية، لا ينطلي عليكم فكر الحداثة، فإن ليس كل حديث مقبول، وليس بصحيح أن كل قديم مرفوض ولا ينفع، هم أرادوا من هذه الفكرة، نبذ الدين، ولكن الله غالب على أمره، وأكثر الناس لا يعلمون.
عباد الله، هل أدركتم طرفاً من خطورة هذا اللسان، وما يمكن أن يجره على المجتمع. هذا من ناحية الشعر الحر، الذي أشغلوا الناس به، وهو في حقيقته يحوي الكفر في بعض الأحيان.
هناك أيضاً أيها الإخوة، لون آخر من ألوان الشعر، وما أكثر ألوانه، غالبه كلام فارغ لا ينفع، هذا أيضاً أشغلوا به بعض عباد الله، وهو ما يسمى بمضارب البادية، وغالبه لا يخلو من أصوات المعازف المحرمة.
أيها الإخوة، إن الإسلام لا يحرم الشعر، إذا كان شعراً نظيفاً نافعاً، وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث البخاري ومسلم: ((إن من الشعر لحكمة)). إذا كان الشعر ـ أيها الإخوة ـ يحتوي على حث الأمة على الجهاد في سبيل الله مثلاً، أو كانت قصائد وعظية خالية من الإفراط والتفريط، فهذا أمر لا شيء فيه، بل هو مطلوب.
ولا ننسى ـ يا عباد الله ـ جهاد شعراء الصحابة، وهم ينافحون عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن دين الإسلام، أمثال حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم. يقول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه كعب بن مالك عنه، عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل قد أنزل في الشعر ما أنزل فقال: ((إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده، لكأن ما ترمونهم به نضح النبل)).
أيها المسلمون، عباد الله، الآفة الحادية عشر من آفات اللسان، من الآفات المنتشرة كثيراً، وكثيرة جداً في مجتمعاتنا، وتطلقها الألسنة، حال الغضب وعدم التحمل، خصوصاً من النساء في البيوت، ألا وهو الدعاء على النفس أو الأولاد أو الأموال. بعض الناس هداهم الله، يصل به الحال في بعض الأحيان درجة من الغضب وعدم التحمل فيفقد توازنه، ويخرج عن طوره ويتكلم بلا شعور، تجده يخرج ألفاظ الشتم واللعن مصحوباً بالدعاء غالباً إما أن يدعو على نفسه، أو يدعو على أحد أولاده أو يدعو على أهله كلهم، وفى بعض الأحيان يدعو على حلاله وأمواله، لو تعكرت معه صفقة معينة، أو لم يوفق في بيع أو شراء. إنها آفة خطيرة أيها الإخوة.
ما يدريك أخي المسلم، وأنت تطلق هذه الدعوات على نفسك أو أولادك، أن تلقى باباً مفتوحاً، أو توافق ساعة إجابة، فيقبل الله عز وجل هذا الدعاء.
فكيف بك أخي المسلم، إذا هلك الولد، أو زال المال، أو احترق البيت.
وهذا إذا ما دل على شيء ـ أيها الأخوة ـ، فإنما يدل على عدم تقدير النعمة، فالأولى أن يشكر العبد ربه على نعمة الولد ونعمة المال لا أن يدعو بزوالها عنه.
فاتقوا الله أيها المسلمون، لا يصل بكم الغضب إلى هذا الحد، الرجل لابد أن يكون ضابطاً لإرادته، متزناً في جميع أحواله، الغضب نعم يحصل لكل أحد لكن لا يصل بكم ذلك إلى أمور لا تحمد عقباها. يقول عليه الصلاة والسلام فى الحديث الصحيح من حديث جابر رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجاب لكم)) ، ويقول عليه الصلاة والسلام من حديث أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تدعوا بالموت، ولا تتمنوه، فمن كان داعياً لابد، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)).
إليكم ـ أيها الإخوة ـ طرفاً من الأدعية التي تخرج من ألسنة الآباء والأمهات على أبناءهم، والتي هي منتشرة بكثرة عندنا لتدركوا خطورة هذه الآفة.
فمن هذه الأدعية مثلاً: (الله يلعنك) أو (الله يقطعك) أو(روح جاءك البلا) أو (الله ياخذك) أو (الله يغربلك) أو (روح عساك ما ترجع) وغيرها الكثير والكثير مما يعرفه بعضكم أفضل مني، ممن يمارسون هذه الآفة.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله في أنفسكم، واتقوا الله في أولادكم، واتقوا الله في أموالكم.
ولو قدر الله ووقعتم فى شيء من هذا فبادروا ـ أيها الإخوة ـ بالندم، واستغفروا الله عز وجل وصمموا على عدم العودة لمثل هذه الألفاظ وتنبهوا لألسنتكم وادعوا الله عز وجل أن يحفظ لكم أولادكم وأموالكم، وتقر بها أعينكم يوم القيامة فى مستقر رحمته عز وجل إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اكتفي بهذا القول وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، الآفة الثانية عشر من آفات اللسان، آفة تتعلق أيها الأخوة، بالولاء والبراء، تمس عقيدة المسلم، وفى هذا تكمن خطورة هذه الآفة، وهي مخاطبة الكافر بسيد ونحوه، وهذه بلية أيها الإخوة، يقع فيها المسلمون من موظفي الشركات، وذلك لأنهم أكثر تعاملاً مع الكفار من غيرهم، تجد المسلم إذا لقي الكافر سواء كان رئيسه فى العمل أو يعمل معه فى قسم واحد تسمع من الألفاظ التى يطلقها وتخرج من لسانه ألفاظ التحية والتقدير والاحترام حتى اعتاد اللسان على ذلك فكلمة السيد باللغة الإنجليزية أصبحت عادية ولا يدري هذا المسلم أن هذا لا يجوز.
أخي المسلم، إن الإيمان الذي تحمله بين جنبيك لابد أن تعتز به، أنت مسلم يا أخي ولك حرمة عند الله عز وجل فكيف تنقص من قدر نفسك وكيف تزل وتهين نفسك أمام كافر لا يساوي عند الله جناح بعوضة.
قد يكون مهندساً نعم، أو متخصصاً في أحد مجالات العمل التى أجهلها نعم لكن هذا لا يعني أن أنقص من كرامة نفسي وأذلها وأغضب الله عز وجل لأجل كافر أحقر من كلب ميت.
أيها الأخوة، لا أريد أيضاً أن يفهم كلامي خطأ، إن المعاملة الحسنة مطلوبة، حتى مع الحيوان، لكن الذي أقصده، هو إطلاق لفظ السيد على الكافر، والأخطر من هذا يا عباد الله، الميل القلبي، وهذا الذي يتعلق بعقيدة المسلم، عقيدة الولاء والبراء، وهذا والله حاصل وواقع من المسلمين هداهم الله.
والميل القلبي إن دل على شيء، فإنما يدل على الانهزامية النفسية عند هذا المسلم يقول الله عز وجل: وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ [هود:113]، فكيف بالذين كفروا.
يقول عليه الصلاة من حديث بريدة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تقولوا للمنافق: سيدنا، فإنه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم)).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((إذا قال الرجل للمنافق: يا سيدي، فقد أغضب ربه)).
ويدخل في هذا أيضاً، أصحاب العقائد الفاسدة المنحرفة، من ابتلينا بالتعامل معهم، إما من خلال ساعات العمل أو حال البيع والشراء، فهؤلاء أيضاً لا يجوز إطلاق لفظ السيد عليهم.
أيضاً أيها الأخوة لا يبدأ بالسلام، الكفار أو الباطنيون، ولو كنت في موضع لابد من إلقاء السلام فلا تقل السلام عليكم فإن هذا تحية المسلمين، والسلام يعنى الأمان، وهو اسم من أسماء الله عز وجل لا يُحيا به هؤلاء، ولكن لو اضطررت، فقل مثلاً: مرحباً، أو صباح الخير أو نحوها.
أيها المسلمون، الرسول عليه الصلاة والسلام يقول فى حق الرجل الذي يقول للمنافق يا سيدي، قال: ((فقد أغضب ربه)) ، فتأمل حالك أخي المسلم، ممن ابتليت بالتعامل مع هؤلاء كم مرة أغضبت ربك؟
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى لا تتهاونوا فى مثل هذه الألفاظ، لا تبدؤوهم بالسلام، لابد أن يكون التعامل، تعامل عمل فقط لا تتطور إلى أكثر من ذلك، فتشمل الزيارات والجلسات بل والمؤاكلة والمشاربة معهم.
هل تصدقون أيها الإخوة، أن من المسلمين من تجرأ على حرمات الله عز وجل أكثر من هذا، حتى أهلة ومحارمه، نسأل الله السلامة والعافية يجلسهم مع الكفرة، وتحصل بينهم المحادثات وتبادل الهدايا أين عقيدة الولاء والبراء.
أين التميز الذي لابد أن يحياه كل مسلم، أين الصدق والإخلاص مع الله عز وجل.
أيها الإخوة، نحن مطالبون أن نضايقهم حتى فى الطرقات، لا نوسع لهم الطريق كما كان حال الصحابة، وحال السلف الصالح رحمهم الله تعالى أما أن يصل الحال إلى هذه الانهزامية، إلى هذا الحد من الدناءة من بعض المسلمين، فهذا والله هو الذي يهدد كيان الأمة، وهذا والله هو الذل والخذلان بعينه.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أسأل الله عز وجل، أن يبصرنا في أمور ديننا وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه...
(1/2920)
الأمانة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمانة معنى كلي أكبر من حفظ المال. 2- صور من الأمانة مطلوبة من الإنسان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: من الأخلاق الاجتماعية التي تدل على سمو المجتمع وتماسك بنيانه، أن ينتشر بين أفراده: خلق الأمانة، ومن بواعث الشكوى والقلق وازدياد الخصومات والجرائم أن تكثر الخيانة في الناس، فلا يأمن صديق صديقه، ولا زوج زوجه، ولا أب ولده.
ولا أحد ينازع في أن الأمانة من ألزم الأخلاق للفرد والجماعة على السواء، وليست هذه الأمانة قياماً بحفظ المال الذي في نودعه عند الإنسان فحسب، فإن هذا أضيق معاني الأمانة، يقول الله: إِنَّا عَرَضْنَا ?لاْمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72]. وبديهي أن الأمانة هنا ليست حفظ المال فقط، فذلك ما لا يفيده نص الآية الكريمة، وإنما نستشعر أن المراد بالأمانة هنا شيء تأباه طبيعة العوالم كلها إلا الإنسان الذي أهّله الله لحمل هذه الأمانة والاتصاف بها، فأصح تحديد لهذه الأمانة في الآية هو: التزام الواجبات الاجتماعية وأداؤها خير أداء كما شرعها الله سبحانه وتعالى للناس.
والإنسان وحده من بين هذه العوالم كلها هو الذي يستطيع أن يتحكم في ميوله وغرائزه، فيخضعها لمقاييس الحق ويكون بين الناس وفياً بما التزم نحوهم من عهود، عاملاً على بث الطمأنينة في أوساطهم، فإن نكل بعد ذلك الواجب كان خائناً للأمانة عاملاً على الأذى، ظالماً لنفسه ولمجتمعه، جاهلاً بما تجره الخيانة عليه وعلى الناس من شر وفساد.
وعلى هذا.. أيها المؤمنون تكون الأمانة شاملة القيام بجميع التكاليف والالتزامات الاجتماعية والأخلاقية:
فالعقل لدى الإنسان أمانة إن عمل بمقتضاه ونظمه والمعرفة وعمل فيه بطاعة الله كان مؤدياً للأمانة خير أداء.
والجسم أمانة لديك فإن أنت غذيته وصححته ورفقت به ولم ترهقه كنت محسناً محافظاً على الأمانة.
وزوجك وولدك ووالداك وكل من تشترك معهم في أواصر القربى ويلزمك حفظهم والنصح لهم هم أمانة عندك، فإن رعيت حقوقهم وأسديت لهم الخير وأبعدت عنهم الأذى كنت قائماً بالأمانة أحسن قيام: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً.
وحق المجتمع عليك في نشر الخير فيه وإشاعة الطمأنينة أمانة تلزم بالوفاء بها، فإن لم تفعل كنت مسيئاً إلى الناس خائناً للأمانة.
الأمة في أيدي المسؤولين والحاكمين أمانة، فإن قاموا بما يجب عليهم نحوها من نصح ورعاية وصيانة لكرامتها وحريتها أو أقاموها على شريعة الله: كانوا أمناء أوفياء، ((الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته)) وإلا كانوا من أكثر الناس غشاً وخيانة ((من بات غاشاً لرعيته لم يجد رائحة الجنة)).
والدين أمانة في عنق علمائه، إن بينوه للناس وصانوه من التحريف والتلاعب كانوا أوفياء لأقدس ما في الحياة من معنى كريم، وإن لم يفعلوا كانوا مرتكبين لأبشع صور الخيانة: وَإِذْ أَخَذَ ?للَّهُ مِيثَـ?قَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَ?شْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187].
والعلم أمانة في نفوس العلماء، إن استعملوه في خير الإنسانية وكشفوا عن أسراره في هذا الكون بما يدل على قدرة الله كانوا أمناء أوفياء، وإن استعملوه فيما يشيع الذعر ويشقي الأمم ويشجع الطغاة على العدوان والإجرام ونشر الفاحشة بين الناس، كانوا خونة أشبه بالمجرمين، يلحق بهم العار وتحيق عليهم اللعنة: فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَـ?قَهُمْ لَعنَّـ?هُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ ?لْكَلِمَ عَن مَّو?ضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ [المائدة:13].
والمال في أيدي الناس أمانة، فإن أحسنوا التصرف فيه والقيام عليه وأداء الحقوق الاجتماعية فيه كانوا أمناء أوفياء، لهم الذكر الجميل في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، وإلا كانوا خونة ظالمين وسفهاء مبذرين: وَ?لَّذِينَ يَكْنِزُونَ ?لذَّهَبَ وَ?لْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ?للَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34]، إِنَّ ?لْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْو?نَ ?لشَّيَـ?طِينِ [الإسراء:27]، وهكذا.
أيها المؤمنون، نجد الأمانة تنظم شؤون الحياة كلها: من عقيدة وعبادة وأدب ومعاملة وتكافل اجتماعي وسياسة حكيمة رشيدة وخلق حسن كريم.
والأمانة بهذا المعنى وهذه الحدود، سر سعادة الأمم، ويوم كانت أمتنا من أصدق الشعوب والأمم في حمل هذه الأمانة والوفاء بها كانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس.
سرقت امرأة عربية في عهد الرسول فجاء أهلها يتشفعون لدى الرسول ليسقط عنها العقوبة ووسطوا في ذلك أسامة ابن زيد، فغضب عليه الصلاة السلام وقال: ((أيها الناس إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد، أما والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)) فهذه هي أمانة الحاكم في تنفيذ القانون على الناس جميعاً.
واستدان ابن عمر بن الخطاب من أبي موسى الأشعري حين كان والياً على الكوفة أموالاً من خزينة الدولة ليتاجر بها على أن يردها بعد ذلك كاملة غير منقوصة، واتجر ولد عمر فربح، فبلغ ذلك عمر فقال له: إنك حين اشتريت أنقص لك البائعون في الثمن لأنك ولد أمير المؤمنين، ولما بعت زاد لك المشترون في الثمن لأنك ولد أمير المؤمنين، فلا جرم أن كان للمسلمين نصيب فيما ربحت، فقاسمه نصف الربح، واسترد منه القرض وعنفه على ما فعل، واشتد في العقاب على أبي موسى لأنه أسرف من أموال الدولة ما لا يصح أن يقع مثله، وهذه أمانة الحاكم الذي يسهر على مال الأمة فلا يحابي فيه صديقاً ولا قريباً.
ويذكر التاريخ أن القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله كان من أكثر ملوك عصره توفيقاً في الفتوح والنصر وكان نصيبه من الغنائم كبيراً جداً وقفه كله مدارس ومستشفيات ومساجد مما لا يزال بعض آثاره باقياً حتى اليوم، ولم يترك لنفسه ولأولاده شيئاً من ذلك حتى قالوا: إنه حين مات، مات وهو من أفقر الناس رحمه الله، وهذه هي أمانة القائد الذي يأبى أن يتاجر بجهاده، ويرضى بالله وجنته وثوابه بديلاً.
ومر علي بن أبي طالب في المسجد فرأى واعظاً يعظ الناس، فقال له: أتعرف أحكام القرآن وناسخه ومنسوخه، فقال: لا، فقال علي، هلكت وأهلكت، ثم منعه من التحدث إلى العامة لئلا يفسد عليهم دينهم بجهله، وهذه أمانة في صيانة العلم وحفظ عقائد الناس من أن يفسدها الجاهلون.
أيها الأخوة المؤمنون، هذه بعض أحاديث الأمانة في مجتمع كانت فيه الأمانة خلقاً بارزاً يتعامل به الناس بعضهم مع بعض، واليوم وقد ارتفعت الشكوى من انحسار هذا الخلق الكريم، تخلى كثيرون عن أداء الأمانة التي كلفهم الله تعالى القيام بها، فهل تجدون علاجاً لذلك إلا أن يعود كل منا فيما جعله الله قيماً عليه ومسؤولاً عنه، يعود إلى القيام بهذه الأمانة كاملة، فيفيء كل منا إلى ربه ويرجع إلى ضميره ويذكر الجنة وما أعده الله للأولياء في أمانتهم من ثواب مقيم، وما أعده الله للخائنين في عهودهم من عذاب مقيم، وإن ذلك ليسير على الله أحيى قلبه بتعاليم دينه السمحة واستمع إلى رسوله: (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)).
فاللهم أحيي قلوبنا بنور معرفتك وأيقظ ضمائرنا بتعاليم شريعتك. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2921)
الإيمان بالجن (2)
الإيمان
الجن والشياطين
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لماذا خلق الله الجن. 2- إمكان تعذيب الجن في النار. 3- العداوة بن آدم والشيطان. 4-
بعض مكايد الشيطان وأطرقه في الغواية. 5- قدرة الشيطان على إيذاء الإنسان. 6- أساليب
الشيطان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، بدأنا في الجمعة الماضية حديثنا عن الجن وما يتعلق بهم، وذكرنا طرفاً من أوصافهم وقدراتهم التي أعطاهم إياها الله سبحانه وتعالى.
ثم تعرضنا بعد ذلك لبعض جوانب النقص والضعف عند الجن والشياطين، التي لو تعرف عليها الإنسان لاستطاع بعد توفيق الله عز وجل أن يتغلب على كثير من حيل وألاعيب الشيطان، وسوف نواصل في هذه الجمعة أيضاً الحديث عن بعض الأمور والأحوال المتعلقة بالجن.
أيها الأخوة، قد يتبادر سؤال إلى أذهان بعض الناس، وهو عن السبب من وجود الجن، ولماذا خلق الله عز وجل هذا العالم الغريب وجعل منهم هذه الصفات التي لا نستطيع إدراكها ومعرفة كنهها. فنقول: إن غاية خلق الجن هي نفس غاية خلق الإنس يقول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الطور:56]. فالجن على ذلك يا عباد الله مكلفون بأوامر ونواهي، فمن أطاع منهم رضي الله عنه وأدخله الجنة، ومن عصى وتمرد فله النار، ويدل على ذلك نصوص كثيرة. ففي يوم القيامة يقول الله مخاطباً كفرة الجن والإنس: يَـ?مَعْشَرَ ?لْجِنّ وَ?لإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَـ?تِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـ?ذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَـ?فِرِينَ [الأنعام:130]، والدليل على أنهم سيعذبون في النار قوله تعالى: قَالَ ?دْخُلُواْ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مّن ?لْجِنّ وَ?لإِنْسِ فِى ?لنَّارِ [الأعراف:38]، وقال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ?لْجِنّ وَ?لإِنْسِ [الأعراف:179]، وقال تعالى: لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ?لْجِنَّةِ وَ?لنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:119].
عباد الله، وهناك شبهة قد يوردها بعض الجهلة من الناس وهو قولهم: إنكم تقولون: إن الجن خلقوا من نار، ثم تقولون: إن كافرهم يعذب في نار جهنم فكيف تؤثر النار فيهم وقد خلقوا منها؟ فنقول رداً على هذه الشبهة: إن الأصل الذي خلقوا منه النار، أما بعد خلقهم فليسوا كذلك إذ أصبحوا خلقاً مخالفاً للنار.يوضح هذا أن الإنسان خلق من تراب، ثم بعد إيجاده أصبح مخالفاً للتراب ولو ضربت إنساناً بقطعة من الطين، ولو رميته بالتراب لآذاه، ولو دفنته فيه فإنه يختنق، فمع أنه خلق من تراب، إلا أن التراب يؤذيه، فكذلك الجن مع أنها خلقت من نار، فإن النار تؤذيها.
عباد الله، إن العداء بين الإنسان والشيطان عداء قديم، بعيد الجذور، يعود تاريخه إلى اليوم الذي شُكِّل الله فيه آدم قبل أن ينفخ فيه الروح، فأخذ الشيطان يطيف به ويقول: لئن سلطت عليّ لأعصينك، ولئن سلطت عليك لأهلكنك. ففي صحيح مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما صور الله آدم في الجنة، تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به، ينظر ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه خُلق خلقاً لا يتماسك، فلما نفخ الله في آدم الروح، وأمر الملائكة بالسجود لآدم، وكان إبليس يتعبد الله مع ملائكة السماء فشمله الأمر، ولكنه تعاظم في نفسه واستكبر وأبى السجود لآدم قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [ص:76]. لقد فتح أبونا آدم عينيه فإذا به يجد أعظم تكريم، يجد الملائكة ساجدين له، ولكنه يجد عدواً رهيباً يتهدده بالهلاك والإضلال. وطرد الله الشيطان من جنة الخلد بسبب استكباره، وحصل على وعد من الله بإبقائه حياً إلى يوم القيامة قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ?لْمُنظَرِينَ [ص:69، 70]، وقد قطع اللعين العهد على نفسه بإضلال بني آدم والكيد لهم: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِر?طَكَ ?لْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـ?نِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـ?كِرِينَ [الأعراف:16، 17].
وقوله هذا يصور مدى الجهد الذي يبذله لإضلال ابن آدم، فهو يأتيه من كل طريق ممكن. وقد أطال القرآن تحذيرنا من الشيطان لعظيم فتنته، ومهارته في الإضلال، ودأبه وحرصه على ذلك قال تعالى: يَـ?بَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ [الأعراف:27]، وقال تعالى: إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَ?تَّخِذُوهُ عَدُوّاً [فاطر:6]، وقال تعالى: وَمَن يَتَّخِذِ ?لشَّيْطَـ?نَ وَلِيّاً مّن دُونِ ?للَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً [النساء:119]، وعداوة الشيطان لا تحول ولا تزول، لأنه يرى أن طرده ولعنه وإخراجه من الجنة كان بسبب أبينا آدم، فلابد أن ينتقم من آدم وذريته من بعده: قَالَ أَرَءيْتَكَ هَـ?ذَا ?لَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:62].
عباد الله، وللشيطان أهداف كثيرة في غواية بني آدم وفي مقدمة ذلك: إيقاع العباد في الشرك والكفر، وذلك بدعوتهم إلى عبادة غير الله والكفر بالله وشريعته كَمَثَلِ ?لشَّيْطَـ?نِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَـ?نِ ?كْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء مّنكَ إِنّى أَخَافُ ?للَّهَ رَبَّ ?لْعَـ?لَمِينَ فَكَانَ عَـ?قِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى ?لنَّارِ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء ?لظَّـ?لِمِينَ [الحشر:16، 17].
ومن أهدافه أيضاً إذا لم يستطع تكفيرهم أن يوقعهم في الذنوب، فإنه لا ييأس، ويرضى بما دون ذلك من إيقاعهم في الذنوب والمعاصي، وغرس العداوة والبغضاء في صفوفهم، ففي سنن الترمذي وابن ماجه، بإسناد حسن، قال عليه الصلاة والسلام: ((ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبداً، ولكن ستكون له طاعة في بعض ما تحقرون من أعمالكم فيرضى بها)). وفي صحيح البخاري وغيره قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الشيطان قد آيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)) أي بإيقاع العداوة والبغضاء بينهم، وإغراء بعضهم ببعض، كما قال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ?لْعَدَاوَةَ وَ?لْبَغْضَاء فِى ?لْخَمْرِ وَ?لْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَعَنِ ?لصَّلَو?ةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ [المائدة:91].
وهو لا يكتفي بدعوة الناس إلى الكفر والذنوب والمعاصي بل يصدهم عن فعل الخير، فلا يترك سبيلاً من سبل الخير يسلكه عبد من عباد الله إلا قعد فيه يصدهم ويميل بهم. ففي الحديث: ((إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه. فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك، فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال، تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول، فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة، ويقسم المال، فعصاه فجاهد، فمن فعل ذلك، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، ومن قُتل، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة)) إلى آخر الحديث. ومصداق هذا الحديث في كتاب الله ما حكاه الله عن الشيطان أنه قال لرب العزة: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِر?طَكَ ?لْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـ?نِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـ?كِرِينَ [الأعراف:16، 17].
ومن أهداف الشيطان أيضاً يا عباد الله إفساد الطاعات. فإذا لم يستطع الشيطان أن يصدهم عن الطاعات. فإنه يجتهد في إفساد العبادة والطاعة، كي يحرمهم الأجر والثواب، فقد جاء أحد الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يُلبسها عليّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذلك شيطان يقال له خِنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثاً)) قال: ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني. رواه مسلم في صحيحه.
فإذا دخل العبد في صلاته أجلب عليه الشيطان يوسوس له، ويشغله عن طاعة الله، ويذكره بأمور الدنيا، ففي الصحيحين عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((فإذا قضى التثويب ـ أي الإقامة ـ أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه ويقول له: اذكر كذا، اذكر كذا، لِما لم يكن يذكر من قبل، حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى)) وهذا حاصل وكلنا يشعر بهذا إلا من رحم ربي. والشيء الذي نخلص إليه أن الشيطان يأمر بكل شر ويحث عليه وينهى عن كل خير، ويخوف منه، كما قال تعالى: ?لشَّيْطَـ?نُ يَعِدُكُمُ ?لْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِ?لْفَحْشَاء وَ?للَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً [البقرة:268].
عباد الله، وللشيطان أيضاً القدرة على إيذاء الإنسان الإيذاء البدني والنفسي.
فمن ذلك القدرة على أن يرى الإنسان في منامه أحلاماً تزعجه وتضايقه، فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرؤى التي يراها المرء في منامه ثلاثة، رؤيا من الرحمن، ورؤيا من الشيطان، ورؤيا حديث النفس. وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها، فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها، وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله، ولا يذكرها لأحد، فإنها لا تضره)). ومن إيذائه أيضاً، إحراق المنازل بالنار وذلك بواسطة بعض الحيوانات التي يغريها بذلك، ففي سنن أبي داود وصحيح ابن حبان بإسناد صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا نمتم فأطفئوا سرجكم، فإن الشيطان يَدُلُّ مثل هذه (الفأرة) على هذا السراج فيحرقكم)). أي أن الشيطان يحرك هذه الفأرة لتعبث بالسراج فيقع ويكون بسببه حرق المنزل.
ومن إيذائه أيضاً، إيذاؤه الوليد حين يولد يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم في صحيحه: ((كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها)) وفي صحيح البخاري أيضاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخاً من مس الشيطان غير مريم وابنها)) والسبب في حماية مريم وابنها من الشيطان استجابة الله دعاء أم مريم حين ولدتها كما قال تعالى: وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ ?لشَّيْطَـ?نِ ?لرَّجِيمِ [آل عمران:36]، ومن صور إيذاء الشيطان أيضاً لبني آدم مرض الطاعون فإنه من الجن كما جاء في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الطاعون وخز أعدائكم من الجن وهو لكم شهادة)). ولعل ما أصاب نبي الله أيوب كان بسبب الجن قال تعالى: وَ?ذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى? رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ ?لشَّيْطَـ?نُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [ص:41].
فنسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحفظنا وإياكم من الشيطان وجنوده. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـ?ئِكَةِ ?سْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَءسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا قَالَ أَرَءيْتَكَ هَـ?ذَا ?لَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً قَالَ ?ذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوفُورًا وَ?سْتَفْزِزْ مَنِ ?سْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى ?لاْمْو?لِ وَ?لأولَـ?دِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ إِلاَّ غُرُورًا إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـ?نٌ وَكَفَى? بِرَبّكَ وَكِيلاً [الإسراء:61-65].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، بعد أن تكلمنا عن أهداف الشيطان التي يحاول الوصول إليها في غواية الإنسان، فإنه للوصول إلى أهدافه له أساليب كثيرة، وسنحاول في هذه الخطبة بعد توفيق الله عز وجل، أن نتعرف على هذه الأساليب التي يسلكها، فهو لا يأتي إلى الإنسان ويقول له: اترك هذه الأمور الخيرة، وافعل هذه الأمور السيئة، كي تشقى في دنياك وأخراك، لأنه لو فعل ذلك فلن يطيعه أحد، ولكنه يسلك سبلاً كثيرة يغرر بها بعباد الله.
فأولى هذه السبل: تزيين الباطل فهو يظهر الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل، ولا يزال الإنسان يحسن له الباطل، ويكرهه بالحق، حتى يندفع إلى فعل المنكرات ويعرض عن الحق، كما قال اللعين لرب العزة: رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لازَيّنَنَّ لَهُمْ فِى ?لأرْضِ وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ?لْمُخْلَصِينَ [الحجر:39، 40].
فهذه الدعوات إلى الشيوعية والاشتراكية... يزعمون أنها هي المذهب التي تخلص البشرية من الحيرة والقلق والضياع والجوع، وهذه الدعوات التي تدعو إلى خروج المرأة كاسية عارية باسم الحرية، وتدعو إلى هذا التمثيل السخيف الذي تداس فيه الأعراض والأخلاق وتنتهك فيه الحرمات باسم الفن.
وتلك الأفكار المسمومة التي تدعو إلى إيداع المال في البنوك بالربا لتحقيق الأرباح، باسم التنمية، وتلك الدعوات التي تزعم أن التمسك بالدين رجعية وجمود وتأخر، والتي تسِمُ دعاة الإسلام بالجنون والعمالة لدول الشرق والغرب، كل ذلك امتداد لسبيل الشيطان الذي كاد به آدم منذ عهد بعيد، وهو تزيين الباطل وتحسينه وتقبيح الحق وتكريه الناس به قال تعالى: تَ?للَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى? أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ ?لشَّيْطَِّنُ أَعْمَالَهُمْ [النحل:63]. وهو والله سبيل خطر، لأن الإنسان إذا زين له الباطل حتى رآه حسناً، فإنه يندفع بكل قواه لتحقيق ما يراه حقاً، وإن كان فيه هلاكه قال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِ?لاْخْسَرِينَ أَعْمَـ?لاً ?لَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]، وهؤلاء يندفعون لصد الناس عن دين الله ومحاربة أولياء الله، وهم يظنون أنفسهم على الحق والهدى كما قال تعالى: وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ?لسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ [الزخرف:37]، وهذا هو السبب الذي من أجله آثر الكفار الدنيا وأعرضوا عن الآخرة كما قال تعالى: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [فصلت:25].
ومن سبل الشيطان أيضاً تسمية الأمور المحرمة بأسماء محببة، وهذا من تغرير الشيطان بالإنسان وتزيينه الباطل أن يسمى الأمور المحرمة التي هي معصية لله بأسماء محببة للنفوس، خداعاً للإنسان وتزويراً للحقيقة، كما سمى الشجرة المحرمة بشجرة الخلد، كي يزين لآدم الأكل منها كما قال تعالى: قَالَ يئَادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى? شَجَرَةِ ?لْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى? [طه:120]. يقول الإمام ابن القيم: "ومنه ورث أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحب النفوس مسمياتها، فسموا الخمر: أم الأفراح، وسموا أخاها بلقمة الراحة، وسموا الربا بالمعاملة، وسموا المكوس بالحقوق السلطانية"، وفي هذه الأيام يسمون الربا بالفائدة، ويسمون المسكرات بالمشروبات الروحية، وسموا الرقص والغناء والتمثيل فناً.
ومن أساليب الشيطان أيضاً، التدرج في الإضلال فهو كما عرفه الإمام ابن القيم أنه ملحاح بطيء، أي لا يزال يلح على العبد ولا يستعجل النتائج، وهو يسير بالإنسان خطوة خطوة، لا يكل ولا يمل، كما روضه على معصية ما، قاده إلى معصية أكبر منها، حتى يوصله إلى المعصية الكبرى فيوبقه ويهلكه، وتلك سنة الله في عباده أنهم إذا زاغوا سلط عليهم الشيطان وأزاغ قلوبهم فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ ?للَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5].
ومن أساليبه أيضاً إنساؤه العبد ما فيه خيره وصلاحه: ومن ذلك ما فعله بآدم فما زال يوسوس له حتى أنساه ما أمره به ربه وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى? ءادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه:115]، وقال صاحب موسى لموسى عليه السلام: فَإِنّى نَسِيتُ ?لْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ?لشَّيْطَـ?نُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف:63]، ونهى الله رسوله أن يجلس هو أو أحد من أصحابه في المجالس التي يستهزأ فيها بآيات الله، ولكن الشيطان قد يُنسى الإنسان مراد ربه منه فيجالس هؤلاء المستهزئين قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ ?لَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَـ?تِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى? يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ?لشَّيْطَـ?نُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ ?لذِّكْرَى? مَعَ ?لْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنعام:68]. وإذا تمكن الشيطان من الإنسان تمكناً كلياً فإنه ينسيه ربه بالكلية ?سْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ?لشَّيْطَـ?نُ فَأَنسَـ?هُمْ ذِكْرَ ?للَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَـ?نِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَـ?نِ هُمُ الخَـ?سِرُونَ [المجادلة:19].
ومن أساليب الشيطان أيضاً يا عباد الله التي من خلالها يوقع الإنسان في الشر، النساء وحب الدنيا. وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه ما ترك بعده فتنة أشد على الرجال من النساء، ولذلك أمرت المرأة بستر جسدها كله، وأمر الرجال بغض أبصارهم، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخلوة بالمرأة، وأخبر أنه ما خلى رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما. وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه النسائي في سننه بإسناد صحيح: ((المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان)).
ونحن اليوم نشاهد عظم فتنة خروج غالب النساء، كما وصفهن الرسول صلى الله عليه وسلم كاسيات عاريات، وقامت مؤسسات في الشرق والغرب، تستخدم جيوشاً من النساء والرجال، لترويج الفاحشة، بالصور المرئية، والقصة الخليعة أو الأفلام التي تحكي الفاحشة وتدعو لها. أما حب الدنيا، فهو رأس كل خطيئة، وما سفكت الدماء، وهتكت الأعراض، وغصبت الأموال، وقطعت الأرحام، إلا لأجل حيازة الدنيا، والصراع على حطامها الفاني، وحرصاً على متاعها الزائل.
اللهم إن أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين وصلوا وسلموا على إمامكم ونبيكم كما أمركم الله بذلك في كتابه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/2922)
الإيمان بالجن (1)
الإيمان
الجن والشياطين
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ماهية الجن. 2- بعض صفات الجن وأحوالهم. 3- قدرات الجن العظيمة. 4- قدرة
الشياطين على الإغواء والتزيين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، تكلمنا فيما سبق عن الإيمان بالملائكة، وأوردنا النصوص من الكتاب والسنة على إثبات ذلك.وتعرضنا لشيء من الآثار التي لابد وأن تؤثر على سلوك الفرد، لكي تؤتي العقيدة ثمارها في واقع الناس.
وهناك عالم غيبي آخر يجب أن نتكلم عنه في هذه الجمعة، وهو عالم الجن. وقد سمي الجن بهذا الاسم لاجتنانهم عن العيون أي استتارهم إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]، وقد أخبرنا الله جل وعلا أن الجن قد خلقوا من النار في قوله تعالى: وَ?لْجَآنَّ خَلَقْنَـ?هُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ?لسَّمُومِ [الحجر:27]، وقال تعالى: وَخَلَقَ ?لْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ [الرحمن:15]، وفي الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من نار، وخلق آدم مما وصف لكم)) وهذا الحديث يرد على الذين لا يفرقون بين الجن والملائكة.
والجن ـ يا عباد الله ـ يُشاهد ويُسمع ويتشكل في عدة أشكال وكثير من الناس في عهدنا وقبل عهدنا شاهد وسمع شيئاً من ذلك. وهناك بعض الأحياء من غير الإنس يرون الجن كالحمار والكلب. ففي مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود بإسناد صحيح عن جابر مرفوعاً: ((إذا سمعتم نباح الكلب، ونهيق الحمار بالليل، فتعوذوا بالله من الشيطان فإنهن يرون ما لا ترون)).
عباد الله، والشيطان الذي حدثنا الله عنه كثيراً في القرآن من الجن، كان يعبد الله في بداية أمره، وسكن السماء مع الملائكة، ودخل الجنة، ثم عصى ربه عندما أمره أن يسجد لآدم استكباراً وعلواً وحسداً، فطرده الله من رحمته.
والجن والشيطان ـ أيها الإخوة ـ يأكلون ويشربون، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأتيه بأحجار يستجمر بها وقال له: ((ولا تأتيني بعظم ولا بروثه)) ولما سأل أبو هريرة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن سر نهيه عن العظم والروثة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد نصيبين فسألوني الزاد، فدعوت الله لهن أن لا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعاما)). وفي سنن الترمذي بإسناد صحيح: ((لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن)).
وفي هذين الحديثين يا عباد الله نهي من الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يستنجى أحدنا بالروث والعظام لأنهما طعام إخواننا من الجن المسلمين بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم. وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن أن نفسد طعام الجن وذلك باستخدام الروث والعظام في الاستنجاء، فإفساد طعام الإنس يحرم من باب أولى. فما بالنا أيها الإخوة لا نبالي في هذه المسألة، وما بالنا لا نشكر نعم الله التي أغرقنا بها. لقد تساهل الناس في قضية إفساد الطعام إلى حد التفريط. فلا تحرموا أنفسكم نعم الله بأنفسكم، ولا تقابلوها بالكفر. لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، وخذوا العبرة بمن حولكم إِنَّ فِى ذ?لِكَ لَعِبْرَةً لاوْلِى ?لاْبْصَـ?رِ [النور:44].
عباد الله، وقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التشبه بالشيطان بالأكل والشرب وقد روى ذلك مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله)). فماذا نقول لبعض الناس هداهم الله الذين أبوا إلا أن يجعلوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم خلف ظهورهم، وأخذوا بسنة الشيطان اقتداءً في ذلك بما دخل علينا من عادات الكفار.
عباد الله، وقد يتوهم بعض الناس من أن الجن والشياطين لا يموتون، وهذا وهم فاسد لأنهم داخلون في قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى? وَجْهُ رَبّكَ ذُو ?لْجَلْـ?لِ وَ?لإكْرَامِ [الرحمن:26، 27]، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت، الذي لا يموت، والجن والأنس يموتون)). أما مقدار أعمارهم فلا نعلمها إلا ما أخبرنا الله عن إبليس اللعين أنه سيبقى حياً إلى أن تقوم الساعة: قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ ?لمُنظَرِينَ [الأعراف:14، 15]، أما غيره فلا ندري مقدار أعمارهم. والذي يجب على المسلم أن يقف في أمثال هذه المسائل على الكتاب والسنة. والجن أيها الأخوة يسكنون هذه الأرض التي نعيش فوقها، ويكثر تواجدهم في الخراب والخلوات، ومواضع النجاسات، كالحمامات والمزابل وقد جاءت الأحاديث التي تنهى عن الصلاة في الحمام، لأجل ما فيها من نجاسة، ولأنها مأوى للشيطان. ويكثر تواجد الشياطين يا عباد الله في الأماكن التي يستطيعون أن يفسدوا فيها كالأسواق. فقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه في ما يرويه مسلم في صحيحه قائلاً له: ((لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق، ولا آخر من يخرج منها، فإنها معركة الشيطان، وبها ينصب رايته)) فليحذر الذين يقضون جُلّ أوقاتهم في الأسواق من طلوع الشمس حتى غروبها أن لا يكونوا من الذين قد نصب لهم الشيطان رايته. وكذلك أيها الإخوة، فإن الشياطين تبيت في البيوت التي يسكنها الناس وهذا ليس بالغريب. ولكن الغريب أن يغفل الناس عما أرشدنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يُطرد الشيطان من بيوتنا. فقد أخبرنا المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام في غير ما حديث أن التسمية وذكر الله، وقراءة القرآن، خاصة سورة البقرة، وآية الكرسي منها تطرد الشياطين من البيوت. فهل تقرءون سورة البقرة في بيوتكم أيها الأخوة لطرد الشياطين فيها؟ أم أنكم نسيتم هذه السنة، وشغلتم بيوتكم بما يقرب الشيطان منها ويزيدها بياتا.
عباد الله، والشيطان كما هو مستقر في الأذهان أنه قبيح الصورة، وهذا حق، فإن الله عز وجل شبه ثمار شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم برؤوس الشياطين، لما علم من قبح صورهم وأشكالهم. كما قال تعالى: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ ?لْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ ?لشَّيَـ?طِينِ [الصافات:64، 65]. ومما يزيد الشيطان قبحاً في الصورة أنه له قرنان كما جاء ذلك في صحيح مسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرني شيطان)). وقد أعطى الجن أيها الأخوة قدرات لم يعطها البشر، وقد حدثنا الله في كتابه عن بعض قدراتهم فمن ذلك سرعة الحركة والانتقال فقد تعهد عفريت من الجن لنبي الله سليمان بإحضار عرش ملكة اليمن إلى بيت المقدس في مدة لا تتجاوز قيام الرجل من جلوس. قال الله تعالى: قَالَ عِفْرِيتٌ مّن ?لْجِنّ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ قَالَ ?لَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ ?لْكِتَـ?بِ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَـ?ذَا مِن فَضْلِ رَبّى [النمل:39، 40]. ومن قدراتهم أيضاً أنهم يصعدون إلى أماكن متقدمة في السماء، فيسترقون أخبار السماء ليعلموا بالحدث قبل وقوعه فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم، زيدت الحراسة في السماء وَأَنَّا لَمَسْنَا ?لسَّمَاء فَوَجَدْنَـ?هَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَـ?عِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ ?لأَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً [الجن:8، 9]. ومن قدراتهم أيضاً القيام بأعمال كثيرة تحتاج إلى ذكاء ومهارة، فقد أخبرنا الله في كتابه أنه سخر الجن لنبيه سليمان بقوله: وَمِنَ ?لْجِنّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ?لسَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَـ?رِيبَ وَتَمَـ?ثِيلَ وَجِفَانٍ كَ?لْجَوَابِ وَقُدُورٍ رسِيَـ?تٍ [سبأ:12، 13]. ومن قدراتهم أيضاً، القدرة على التشكل بأشكال الإنسان والحيوان، فقد جاء الشيطان المشركين يوم بدر في صورة سراقة بن مالك، ووعد المشركين بالنصر وفيه أنزل الله قوله تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَعْمَـ?لَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ?لْيَوْمَ مِنَ ?لنَّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ [الأنفال:148]، ولكن عندما التقى الجيشان وعاين الملائكة تتنزل من السماء ولى هارباً قال الله تعالى: فَلَمَّا تَرَاءتِ ?لْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى? عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ إِنّي أَرَى? مَا لاَ تَرَوْنَ إِنّي أَخَافُ ?للَّهَ [الأنفال:48].
وقد يتشكل الشيطان في غير صورة الإنسان كصورة بعض الحيوانات وخاصة الكلب الأسود، ولذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن مرور الكلب الأسود يقطع الصلاة وعلل ذلك بأن ((الكلب الأسود شيطان)) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "الكلب الأسود شيطان الكلاب، والجن تتصور بصورته كثيراً، لأن السواد جمع للقوى الشيطانية من غيره، وفيه قوة الحرارة".
عباد الله، والجن تتشكل بالحيات أيضاً ويظهر للناس، ولذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل حيات البيوت، خشية أن يكون هذا المقتول جنياً قد أسلم، ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن بالمدينة نفراً من الجن قد أسلموا، فمن رأى شيئاً من هذه العوامر فليؤذنه ثلاثاً، فإن بدا له بعد فليقتله، فإنه شيطان)).
بارك الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم)) وفي الصحيحين عن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته، ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبني (أي يردني) وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((على رسلكما إنها صفية بنت حيي)) ، فقالا: سبحان الله يا رسول الله، قال: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً)) ، أو قال: ((شيئا)).
عباد الله، ومع أن الجن والشياطين أعطوا كثيراً من جوانب القوة، إلا أن هناك الكثير من جوانب النقص والضعف فيهم قال الله تعالى: إِنَّ كَيْدَ ?لشَّيْطَـ?نِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76]. ولو حاول الإنسان التعرف على هذه الجوانب الضعيفة في الشيطان لاستطاع بعد توفيق الله عز وجل أن يتغلب عليه في حالات كثيرة، وسنعرض لبعض هذه الجوانب التي عرفنا الله ورسوله بها. فأولها أن الرب سبحانه وتعالى لم يعط الشيطان القدرة على إجبار الناس، وإكراههم على الضلال والكفر، قال تعالى: إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـ?نٌ وَكَفَى? بِرَبّكَ وَكِيلاً [الإسراء:65]. وقال تعالى: وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سُلْطَـ?نٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِ?لآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكّ [سبأ:21].
ومعنى ذلك أن الشيطان ليس له طريق يتسلط به عليهم، لا من جهة الحجة، ولا من جهة القدرة، والشيطان يدرك هذه الحقيقة: قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لازَيّنَنَّ لَهُمْ فِى ?لأرْضِ وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ?لْمُخْلَصِينَ [الحجر:39، 40]. وإنما يتسلط على العباد الذين يرضون بفكره، ويتابعونه عن رضا وطواعية قال تعالى: إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـ?نٌ إِلاَّ مَنِ ?تَّبَعَكَ مِنَ ?لْغَاوِينَ [الحجر:42]، وفي يوم القيامة يقول الشيطان لأتباعه الذين أضلهم وأهلكهم: وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـ?نٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَ?سْتَجَبْتُمْ لِى [إبراهيم:22]. وقال تعالى: إِنَّمَا سُلْطَـ?نُهُ عَلَى? ?لَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ?لَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:100]. والسلطان أيها الإخوة هو تسلطه عليهم بالإغواء والإضلال، وتمكنه منهم، بحيث يؤزهم على الكفر والشرك أي يحركهم ويهيجهم على المعاصي وغيره قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا ?لشَّيَـ?طِينَ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً [مريم:83]. وسلطان الشيطان على الناس ليس له فيه حجة وبرهان، وإنما استجابوا له بمجرد دعوته إياهم، لما وافقت أهواءهم وأغراضهم فهم الذين أعانوا على أنفسهم، ومكنوا عددهم من سلطانه عليهم بموافقته ومتابعته، فالله لا يجعل للشيطان على العبد سلطاناً حتى جعل له العبد سبيلاً إليه بطاعته ومتابعته، فجعل الله حينئذٍ له عليه تسلطاً وقهراً. وقد ذكر الإمام ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس هذه القصة الطريفة عن الحسن البصري رحمه الله تعالى: "وبغض النظر عن مدى صحتها إلا أنها تصور قدرة الإنسان على قهر الشيطان إذا أخلص دينه لله، وكيف يصرع الشيطان الإنسان إذا ضل وزاغ، يقول الحسن: كانت شجرة تعبد من دون الله، فجاء إليها رجل فقال لأقطعن هذه الشجرة، فجاء ليقطعها غضباً لله، فلقيه إبليس في صورة إنسان فقال: ما تريد، قال أريد أن أقطع هذه الشجرة التي تعبد من دون الله، قال: إذا أنت لم تعبدها فما يضرك من عبدها. قال: لأقطعنها، فقال له الشيطان: هل لك فيما هو خير لك، لا تقطعها ولك ديناران كل يوم، إذا أصبحت عند وسادتك، قال: فمن أين لي ذلك قال أنا لك، فرجع، فأصبح فوجد دينارين عند وسادته، ثم أصبح بعد ذلك، فلم يجد شيئاً، فقال غضباً ليقطعها، فتمثل له الشيطان في صورته، وقال: ما تريد، قال: أريد قطع هذه الشجرة التي تعبد من دون الله تعالى، قال: كذبت، مالك إلى ذلك من سبيل، فذهب ليقطعها، فضرب به الأرض، وخنقه حتى كاد يقتله، قال: أتدري من أنا، أنا الشيطان، جئت أول مرة غضباً لله، فلم يكن لي عليك سبيل، فخدعتك بالدينارين، فتركتها، فلما جئت غضباً للدينارين سُلطت عليك". وقد حدثنا الله في كتابه عن شخص أتاه الله آياته، فعلمها، وعرفها، ثم إنه ترك ذلك كله فسلط الله عليه الشيطان، فأغواه وأضله وأصبح عبرة تروى، وقصة تتناقل. وَ?تْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ?لَّذِى ءاتَيْنَـ?هُ ءايَـ?تِنَا فَ?نْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ?لشَّيْطَـ?نُ فَكَانَ مِنَ ?لْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـ?هُ بِهَا وَلَـ?كِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ?لأرْضِ وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ?لْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذ?لِكَ مَثَلُ ?لْقَوْمِ ?لَّذِينَ كَذَّبُواْ بِثَايَـ?تِنَا فَ?قْصُصِ ?لْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175، 176].
عباد الله، ولا يعني هذا أن الشيطان متمكن من الإنسان في كل حالاته. فإذا ما تمكن العبد في الإسلام، ورسخ الإيمان في قلبه، وكان وقافاً عند حدود الله فإن الشيطان يفرقه منه، ويفر منه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: ((إن الشيطان ليفرق منك يا عمر)) وقال أيضاً: ((إني لأنظر شياطين الجن والإنس فروا من عمر)) وليس ذلك خاص بعمر، فإن من قوي إيمانه يقهر شيطانه ويذله كما في الحديث: ((إن المؤمن لينصى شيطانه كما ينصى أحدكم بعيره في السفر)) ومعنى لينصى شيطانه: ليأخذ بناصيته، فيغلبه ويقهره، كما يفعل بالبعير إذا شرد ثم غلبه.
فنسأل الله عز وجل بأسمائه..
أن يعيننا على شياطين الجن والإنس إنه ولي ذلك والقادر عليه..
اللهم آمنا في أوطاننا..
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
(1/2923)
التنجيم وادعاء علم الغيب
التوحيد
نواقض الإسلام
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
26/3/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله وحده عالم الغيوب. 2- الرسل لا يعلمون من الغيب إلا ما أوحي إليهم. 3- ادعاء علم
الغيب كفر. 4- حال السحرة والكهنة والمشعوذين الذين يدعون معرفة الغيب. 5- اعتقاد
البعض بأن النجوم والكواكب أثراً على العالم. 6- انتشار التنجيم وصوره. 7- خطورة الذهاب
إلى العرافين وقراءة كتب وصحف التنجيم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الأخوة المؤمنون إن من المسائل الكبرى التي بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه أتم بيان وأوضحه أتم إيضاح، مسألة أن الله سبحانه وتعالى هو العالم بالغيب وحده، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم معلماً لجميع الخلق أنه لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب إلا الله وحده، فإنه هو المتفرد بذلك وحده لا شريك له قال تعالى: لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ و?لأرْضِ ?لْغَيْبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65]، وقال تعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ?لْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـ?تِ ?لأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59]، وقال سبحانه: وَللَّهِ غَيْبُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ?لأمْرُ كُلُّهُ فَ?عْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَـ?فِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود:123 ] ، وقد أخبر سبحانه أن مفاتح الغيب عنده وبينها بقوله: إِنَّ ?للَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ?لسَّاعَةِ وَيُنَزّلُ ?لْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لاْرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ ?للَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34].
أيها الإخوة المؤمنون، لقد نفي الله عز وجل عن كل أحد مهما علا قدره معرفته بالغيب إلا بما أطلعه الله عليه، فهؤلاء الملائكة الذين لا يعصون الله شيئاً، ويفعلون ما يؤمرون، الذين أخلصوا لعبادة الله، هؤلاء نفي الله عنهم علم الغيب، قال تعالى: وَعَلَّمَ ءادَمَ ?لاسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ?لْمَلَـ?ئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [البقرة:31]، ولما كان الملائكة على جانب عظيم من العبادة، والمعرفة بحقوق الرب، وما يجب له، وما يجوز عليه، ومعرفتهم كذلك بأنفسهم ومقاديرهم قَالُواْ سُبْحَـ?نَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ ?لْعَلِيمُ ?لْحَكِيمُ قَالَ يَاءادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم [البقرة:32، 33]، قال لهم بعد ذلك سبحانه وتعالى: أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ ?لسَّمَـ?وَاتِ وَ?لأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:33].
وهؤلاء الجن، بين سبحانه وتعالى أنهم لا يعلمون الغيب فقال تعالى في قصة موت سليمان عليه الصلاة والسلام: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ?لْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى? مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ?لْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ?لْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى ?لْعَذَابِ ?لْمُهِينِ [سبأ:14]، كانت الجن تعمل بين يدي سليمان عليه الصلاة والسلام ويظنون أنه حي وهو ميت قد فارقت روحه جسده وهم ينظرون إليه ويبصرونه، ومع ذلك لا يشعرون بأنه قد مات منذ زمان بعيد، وهم يكدحون ويتعبون خائفين منه وكان وضعهم تحت يد سليمان يجعلهم يحاولون أن يجدوا المخرج والملجأ مما هم فيه من العذاب المهين، وهذا يدل على استنفار كل قواهم وأعوانهم حتى يظفروا بخبر مثل خبر وفاة سليمان عليه الصلاة والسلام، ومع هذا فهم لا يشعرون بأن هذا الذي ينتظرون وفاته قد مات وفات، فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ?لْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ?لْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى ?لْعَذَابِ ?لْمُهِينِ فحتى الجن لا يعلمون، وإذا كانت الملائكة وهم الصالحون المنزهون لا يعلمون الغيب، فكيف بالجن وفيهم المردة والشياطين والفساق والضلال فمن باب أولى أن يحجبوا عن معرفة علم الغيب.
أيها الإخوة، وإذا كان الملائكة والجن لا يعلمون الغيب، فما هو شأن الإنس وهل يعلمون الغيب؟أم لا؟ هذا سؤال مهم؟
أيها الإخوة، إذا نظرنا في القرآن نجده لا ينفي علم الغيب عن الإنس فحسب، بل ينفيه تعالى عن خير خلقه، وهم رسله صلوات الله وسلامه عليهم، حتى الرسل لا يعلمون الغيب قال تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ ?للَّهُ ?لرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـ?مُ ?لْغُيُوبِ [المائدة:109]، وقال أول الرسل نوح عليه الصلاة والسلام نافياً عن نفسه علم الغيب عندما ظن فيه قومه أنه قد يعلم الغيب قال: وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ ?للَّهِ وَلا أَعْلَمُ ?لْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ [هود:31]، هذا أول الرسل ينفي عن نفسه علم الغيب، وهذا آخر الرسل صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله يقول: وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ?لْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ?لْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ?لسُّوء إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188]، وقال أيضاً: وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى? إِلَىَّ وَمَا أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ [الأحقاف:9]، فهذا حال الرسل أولهم وآخرهم ينفون عن أنفسهم معرفتهم بعلم الغيب ويقولون كلهم: لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـ?مُ ?لْغُيُوبِ [المائدة:109]، وحتى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نفي الله عنهم العلم بالغيب، ولم يطلعهم عليه، قال تعالى: مَّا كَانَ ?للَّهُ لِيَذَرَ ?لْمُؤْمِنِينَ عَلَى? مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى? يَمِيزَ ?لْخَبِيثَ مِنَ ?لطَّيّبِ وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ?لْغَيْبِ وَلَكِنَّ ?للَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء [آل عمران:179].
فهؤلاء الملائكة والجن والرسل وأتباع الرسل ينفي الله عنهم علمهم بالغيب، وينفونه هم عن أنفسهم، فإن من علامات الإيمان بالله وكتبه ورسله أن ينفي المؤمن عن نفسه علم الغيب الملائكة يتبرؤون من علم الغيب ولا يدعونه. فإذا كانت الجن والملائكة والإنس وعلى رأسهم الرسل لا يعلمون الغيب دل ذلك على تفرد الله سبحانه وتعالى بعلم الغيب، ولهذا تمدح سبحانه وتعالى نفسه بعلم الغيب واستئثاره به دون خلقه، واستثنى سبحانه وتعالى من ارتضاه من الرسل، فأطلعهم على ما شاء هو، لا ما شاؤوا هم، فأطلعهم على بعض غيبه بطريق الوحي إليهم، قال تعالى: عَـ?لِمُ ?لْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى? غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ?رْتَضَى? مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً [الجن:26، 27].
أيها الإخوة المؤمنون، ومع هذا الوضوح الذي جاءت به الآيات القرآنية في نفي علم الغيب عن المخلوقين حتى ولو كانوا ملائكة أو رسلاً، إلا أنه يوجد من أدعى علم الغيب، ولكل من ادعى علم الغيب فهو كافر بنص القرآن والسنة، والله عز وجل قد تفرد بمعرفة الغيب، فكل من نازعه فيه كان كافراً مشركاً، وادعاء علم الغيب ينافي التوحيد بالكلية، لأن التوحيد هو إفراد الله تعالى بما يختص به ومما اختص به علم الغيب فكل من نازعه فيه لم يكن موحداً بل يكون مشركاً كافراً، وقد عد العلماء الطواغيت وذكروا منهم من ادعى علم الغيب، فكل من ادعى علم الغيب فهو طاغوت، ويتخذ ادعاء علم الغيب صوراً وأشكالاً مختلفة، منها ما هو قديم، ومنها ما هو جديد مستحدث في هذا الزمان، فمن الذين يدعون علم الغيب الكهان، والعرافون، والمنجمون، والمشعوذون، وأصحاب الكشوفات بزعمهم، وينتشر كثير منهم في الأماكن العامة في بعض الدول وفي بعض مدن الألعاب فيكثرون في أماكن السيرك والألعاب البهلوانية والترفيه، وقد يظهر ادعاء علم الغيب على صورة لعب، وهي لعب شيطانية، كبعض اللعب التي راجت في بعض الأسواق قبل مدة قريبة، تخبر الإنسان بزعمهم عن اسمه وعن عدد أولاده، وماذا سيأتيه من أسئلة في الاختيار، وأرقام الآيات التي ستأتي في اختبار القرآن وهي لعبة شيطانية موكل بها بعض الجن، وقد تواتر أن كثيراً ممن استخدم هذه اللعبة قد أصيب بمس من الجان أو أصابه شيء في عقله، وهذا كله بسبب جريان الناس وراء معرفة الغيب!! والغيب لا يعلمه إلا الله، هذه عقيدتنا وإيماننا وإسلامنا، أن الغيب لا يعلمه إلا الله، فلم يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل، فضلاً عن ساحر أو منجم أو كاهن أو عراف، فكيف بلعبة تباع وتشترى في الأسواق.
ومن الطرق التي تنتشر أحياناً لمعرفة الغيب والمستقبل قوم من المشعوذين والمبتدعة يستخدمون حروف "أبجد هوز" ويؤلفون بين الأحرف ويخرجون بخرافات لا تحصى في هذا الباب، وقوم آخرون يظهر عندهم الخط على الرمل، وآخرون يظهر عندهم قارئة الفنجان، وقارئة الكف، وكل هؤلاء متلبسون بأحوال كفرية ونزعات شيطانية، والتلازم كبير بين الكفر وبين تلك الأعمال، وذلك لتضمنه ادعاء معرفة الغيب الذى تفرد به الله عز وجل، فكيف إذا انضاف إلى ذلك دعاء الجن وعبادتهم أو التلبس ببعض الأحوال الكفرية الأخرى، وقلّ أن يخلو أحد منهم من شىء من ذلك، وكلما ازداد الكفر في أرض وتمكن أهله كلما ازدادت هذه الادعاءات في معرفة علم الغيب، وكلما قوي الإيمان وأهله في أرض كلما انخنس هؤلاء المشعوذون والدجالون الخراصون.
أيها الأخوة المؤمنون، ومن أبواب ادعاء علم الغيب في هذا الزمان اتباع المنجمين، والتنجيم هو أساس صناعة الفلاسفة والدهرية فإنهم يعتقدون أن للنجوم تأثيراً وتصرفاً وأنه يمكن التعرف بحركاتها وأبراجها وسيرها في السماء على ما يحصل في الأرض من الحوادث ومن السعود والنحوس، والأفراح والأحزان، وهذا هو شرك قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإنهم كانوا يعبدون النجوم ويعتقدون تأثيرها عليهم، وأنه يمكن معرفة ما سيحصل للإنسان بتعلم منازل الفلك وأبراج النجوم، وهذا شرك خواص المشركين كما قال ابن القيم، وهو أقوى السببين في الشرك الواقع في العالم، فبنى لها عابدوها الهياكل والتماثيل والأصنام، فعبدوا الأصنام لزعمهم أنها متصلة بالنجوم والكواكب التي يعبدونها قال ابن القيم رحمة الله:" وهذا هو شرك خواص المشركين، وأرباب النظر منهم، وهو أقوى السببين في وقوع الشرك في العالم، أما السبب الثاني فهو عبادة القبور والإشراك بالأموات وهو أول شرك على وجه الأرض، وأهل هذا الشرك هم جمهور المشركين" قال ابن القيم: "وكثيراً ما يجتمع السببان في حق المشرك يكون قبورياً نجومياً".
وقد انتشرت صناعة التنجيم في العصر الحديث انتشاراً كبيراً، وأصبح التنجيم في أغلب صوره وسيلة من وسائل ابتزاز أموال الآخرين، وله وسائل ساعدت في نشره من ذلك:
الصحف والمجلات وغيرها من وسائل الاعلام وهذه من أوسع طرق نشر التنجيم، ويكون التنجيم عادة في هذه المجلات والصحف تحت عنوان "الأبراج" أو "أبراج الحظ" "الحظ والأبراج" ويرسمون بالقرب منها بلورة سحرية أو يقولون:حظك والنجوم، ويستخدمون في كتابتها طرق التمويه والكذب والخداع ويكتفون بالكلام المجمل لم يأخذون قال هذا القارىء شيئاً، فيعلقون قلبه بكلام عام مجمل يظن صوابه الجاهل، وتجد الجهلة من المسلمين مولعين بقراءة هذه الأبراج فيقول: أنا برجى كذا، وولدت في برج كذا، فما هو حظي، وماذا سيحصل لي؟فيقرأ هذه الأعمدة في الصحف والمجلات، وهذا حرام لا يجوز لا يجوز كتابتها، نشرها، قراءتها لأنها من أبواب الشرك، حتى لو قال: أقرأها وأنا أعلم أن ما فيها باطل، وإنما أتسلى، نقول: لا يتسلى مؤمن يؤمن بأن الله وحده هو الذي يعلم الغيب، بمثل هذا الشرك وأصبحت بعض الصحف والمجلات تنشر أرقاماً هاتفية للاتصال والسؤال عن الحظ وعن الأبراج بزعمهم، وهذا حرام لا يجوز، على المؤمن أن يحذر منه ويحذر منه من استطاع.
وطريقتهم في الصحف والمجلات في اكتفائهم بالكلام المجمل الذى لا تفهم منه شيئاً والذى يناقض بعضه بعضاً أحياناً يشبه طريقة المبتدعة في كتابتهم وسردهم لتنجيمهم، وإن صاغها محررو الجرائد والمجلات بأسلوب عصرى مبسط، وإلا فالطريقة هي.
ومما ينبغى التنبيه له قول بعضهم من حسن الطالع أن يكون كذا.. أو يحصل عمل فيقول من غير فكر ولا روية: هذا من شؤم الطالع.
ومن وسائلهم أيضاً نشر وبث البرامج التي تشرح أحوال هؤلاء المنجمين، وطرقهم في استكشاف الغيب والمستقبل، وهذا مما يؤثر على نفسية مشاهده، فيعتقد صدقهم، خصوصاً عندما يتربى الصغار على رؤية العراف والدجال وهو أمام بلورة أو مرآة يشاهد فيها ما يجرى في العالم، ويحصل هذا بكثرة في الأفلام التي تعرض للصغار، وهو من تعليم السحر والجبت والطاغوت يُعَلّمُونَ ?لنَّاسَ ?لسّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى ?لْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـ?رُوتَ وَمَـ?رُوتَ وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى? يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ [البقرة:102].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم.
أيها الإخوة المؤمنون، ومن وسائل نشر التنجيم، ومشاركة الله في علم الغيب نشر الكتب التي تعلم هذا الفن، وهي تخبر الإنسان بزعمهم بمستقبله وغيبه، وتنتشر هذه الكتب في هذا الوقت تحت عناوين، منها كتاب: "حظك اليوم ودليل الحيران في طالع الإنسان" وتصدر الآن بانتظام آلاف الكتب حول كيفية الاستفادة من التنجيم في مسائل المال والأعمال والسفر والزواج وغير ذلك، ولا يجوز بحال من الأحوال قراءة هذه الكتب أو شراؤها أو بيعها، والواجب إتلافها وحرقها.
ومن وسائلهم وجود معاهد تقوم بتعليم التنجيم، وإعطاء المتعلمين شهادات بذلك على تعلمهم الكفر، فما أحقر هذه الشهادات، لا تعطى لصاحبها إلا إذا تعلم الكفر وتفنن فيه.
ولهم وسائل وطرق عديدة غير هذه ((من اقتبس شعبة من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد)) قال ابن تيمية"فقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن علم النجوم من السحر وقد قال تعالى: وَلاَ يُفْلِحُ ?لسَّـ?حِرُ حَيْثُ أَتَى? [طه:69]، وهكذا الواقع فإن الاستقراء يدل على أن أهل النجوم، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
والمنجم من جنس الكهان والعرافين وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)) ، هذا إذا أتى إلى المنجم أو الكاهن أو العراف الذين يدعون معرفة الغيب، أو أن بيدهم ضر أو نفع، إذا أتاهم فسألهم فقط ((لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)) فإذا صدقهم فما حكمه؟ إذا صدق المنجمين وأبراج الحظ والنجوم، إذا صدق العرافين والكهان وكل من يدعى علم الغيب؟؟ هذا يكون كافراً بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) صلى الله عليه وسلم وإذا كان السائل بهذه الصورة فكيف بالمسؤول، لاشك في كفره وخروجه عن الملة بإدعائه لعلم الغيب.
أيها الإخوة المؤمنون، علينا أن نحذر أسباب الشرك والكفر خصوصاً هذه الأبواب الخطيرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أخوف ما أخاف على أمتي في آخر زمانها النجوم)) ومرة خرج عليه الصلاة والسلام من المدينة، فالتفت إليها فقال: ((إن الله قد برأ هذه الجزيرة من الشرك ولكن أخاف أن تضلهم النجوم)) فالحذر الحذر فإن الأمر خطير، وعلى المؤمن أن يحفظ عقيدته وإيمانه وماذا عنده أغنى من الإيمان والتوحيد فليحافظ المؤمن عليه وليعض عليه بالنواجز.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين اللهم انصر جندك وحزبك اللهم انصر عبادك المؤمنين الموحدين في كل مكان، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
(1/2924)
الثروة المبددة
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
23/2/1413
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية المال للإنسان. 2- الإنسان بفطرته يكره التعدي على الآخرين. 3- وقفة مع قوله : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم. 4- صور من تبديد الثروات والأموال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الأخوة في الله، يقولون إن المال عصب الحياة، ولا شك أن المال وسيلة العيش، وهو الأصل الذي يقوم عليه الحركة المعيشية، لهذا لا نستغرب حرص الإسلام على ضبط مصادر وموارد المال ثم تصريفه التصريف الشرعي السليم، سواءً على مستوى الفرد أو مستوى الأمة.
الإنسان بفطرته، يحب المال قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبّ ?لْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، والخير هو المال، فبعد أن خلق الله الإنسان في هذه الدنيا، وأكرمه أحسن تكريم، وقومه أحسن تقويم، كل هذا ليؤدى فيها ما خلق له، أكرمه عز وجل بشرع عظيم يرعى الحقوق، ويصون المصالح، ماديها ومعنويها، يرعى الدماء ويصون الأعراض ويحفظ الأموال، برعاية الله التي وضعها منهاجاً لعباده في الأرض في صيانة الأموال وحرمتها.
فالإنسان بفطرته لا يحب التعدي على ماله ولا يرضى بذلك، ولا يحب الإنسان بفطرته أن تبخس حقوقه، ويهضم كده وعرقه، ولهذا وغيره، جاء الإسلام بتشريع يصون فيه أموال الناس قال الله تعالى: وَ?لسَّارِقُ وَ?لسَّارِقَةُ فَ?قْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَـ?لاً مّنَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، ويقول جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُمْ بِ?لْبَـ?طِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـ?رَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ [النساء:29]، وقال عز وجل: إِنَّ ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْو?لَ ?لْيَتَـ?مَى? ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء:10]، ويقول سبحانه: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُم بِ?لْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ?لْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ ?لنَّاسِ بِ?لإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]، وقال عليه الصلاة والسلام في أكبر مجمع وأروع مشهد وهو واقف يخطب الناس بعرفات: ((أي يوم هذا؟)) إلى أن قال في آخره: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا في شهركم هذا)) وقال فيما رواه الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه)) وقال فيما اتفق عليه الشيخان: ((من ظلم شبراً من أرض طوقه من سبع أرضين)).
وبهذه النصوص وأمثالها، يعلم الجاهل ويتذكر الغافل أنه لا يجوز لمسلم أن يأخذ مال مسلم أو أن يستعمل مال مسلم سواء كان على مستوى الفرد، أو مستوى الجماعة إلا برضى وطيب نفس صاحبه، فلا يجوز استغلال أموال المسلمين العامة، ولا التصرف فيها بغير وجه شرعي وإلا صار الآخذ، والمستعمل غاشاً ظالماً متعدياً، على حرمات الله مستهدفاً لوعيده في قوله سبحانه: وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ عُدْو?ناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيراً [النساء:30].
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى يا من بيدكم أموال المسلمين، يا من بيدكم ثروات الأمة، احترموا وصونوا أموال وحقوق غيركم، احترام الحقوق والأموال الذي أمرتم به، وأنذرتم من أخذه، وحذرتم عاقبته احتراماً وصيانة لدينكم وأمنكم وأنفسكم.
ولا جرم أيها الأخوة، فإن ضياع جانب الأموال أو التساهل فيها أخذاً أو إعطاءً، يجر إلى ضياع جانب الدماء والأعراض، ولا قوة إلا بالله.ومن أجل ذلك جاءت نصوص تحريم وحماية الجميع متتالية في كتاب الله، وسنة رسوله مترابطة ترابط لبنات البناء المتشاد الذي إذا اهتزت إحدى لبناته حركت التي تليها.
أيها المسلمون، يقول الله تعالى في سورة النساء: وَلاَ تُؤْتُواْ ?لسُّفَهَاء أَمْو?لَكُمُ ?لَّتِى جَعَلَ ?للَّهُ لَكُمْ قِيَـ?ماً [النساء:5]، في هذه الآية الكريمة أمران وتنبيهان:
الأول: أن الله عز وجل جعل الأموال قياماً للناس ?لَّتِى جَعَلَ ?للَّهُ لَكُمْ قِيَـ?ماً فالأموال هي قيام للناس، تقوم وتَثْبُت بها منافعهم ومرافقهم، ولا يمكن أن يوجد في الكلام ما يقوم مقام كلمة قِيَـ?ماً ، ويبلغ ما تصل إليه البلاغة فشئون الناس لا تقوم إلا بالمال، الذي بيده السيولة النقدية كما يقال، في مقدوره أن يفعل الكثير، فيؤمِن الإنسان حاجياته عن طريق المال، ويتزوج الأعزب بواسطة المال، ويسافر ويذهب ويأتي ويجيء يستعمل في كل ذلك المال. إذاً لا خلاف في أن قيام حياة الناس، للمال فيه دور عظيم، هذا جانب وغالبه فيه خير ونفع، جانب آخر، وهو أنه قد يشتري بعض الناس، ذمم رجال عن طريق المال، تغريهم بالمال، فينطقون بما يريد، ويتكلمون بما يشاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الأمر الثاني في الآية: أن الله عز وجل نهى أن نؤتى السفهاء أموالنا، ولا تؤتوا السفهاء أموالكم. والسفه: هو الاضطراب في الرأي أو الفكر أو الخلق.
والسفيه في المال، المبذر الذي ينفقها فيما لا ينبغي ويسيء التصرف بها، فمثل هذا، لا يولى على الأموال ليتصرف فيها.
فكأن الآية تقول: إن منافعكم ومرافقكم الخاصة ومصالحكم العامة، لا تزال قائمة ثابتة، ما دامت أموالكم في أيدي الراشدين المقتصدين منكم، الذين يحسنون تثميرها وتوفيره، ولا يتجاوزون حدود المصلحة في إنفاق ما ينفقونه منها. فإذا وقعت أموال المسلمين، في أيدي السفهاء المسرفين، الذين يتجاوزون الحدود الشرعية والمعقولة، يتداعى ما كان من تلك المنافع سالماً. ويسقط ما كان من تلك المصالح قائماً.
لذا فيجب أن لا يتصرف في أموال المسلمين خصوصاً العامة منها، ولا يولى عليها إلا الحكيم العاقل الصالح.
وهذا ينطبق على مستوى الأفراد، وينطبق على مستوى الجماعات، وينطبق على مستوى الدول.
فماذا جرى لنا نحن المسلمين، كتاب الله عز وجل بيننا، ومنهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم، واضح وضوح الشمس، ومع ذلك، فنحن أشد الأمم إسرافاً، وتبذيراً وإضاعة للأموال وجهلاً بطرق الاقتصاد فيها، وتثميرها، وإقامة المصالح بها. وهذا الكلام على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الدول، فالفرد منا ينظر في واقع نفسه، تجد أنك تصرف الكثير هنا وهناك، في أشياء أنت تعلم جيداً أنه لا داعي لها. وكذلك الدول الإسلامية، تبذر كثيراً من أموالها في توافه، وسفاهات، وجزء غير قليل من شعوبها تموت جوعاً وعطشاً.تنفق الملايين في قضايا أشبه ما تكون بلعب الأطفال. حتى أصبحت الدول الكافرة، أفضل منا بكثير في تصريف أمورهم وإقامة مصالحهم.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، هناك قسم غير قليل من أبناء هذه الأمة، الأرض فراشهم والسماء لحافهم، كثير من المسلمين في أفريقيا وغيرها، يعانون ما يعانون، من الفقر والمرض، حتى صار بعضهم يجفف الدم ثم يأكله ونحن أفراداً وشعوباً ودولاً، نبدد هذه الأموال، وكأننا نعيش في كوكب، وإخواننا المسلمون يعيشون في كوكب آخر.
والله إن هذه الأمة تملك من الخيرات والثروات والكنوز أشياء خيالية، والله لو وزعت ثروات الأمة بالقسط والعدل على أبنائها، لما سمعت ولا شاهدت فقيراً. ولكن، لما خالفنا كتاب ربنا، وفرطنا في خيرات وثروات الأمة، وجعلناها في أيدي السفهاء، أصبحنا نرى ونسمع بهذه المآسي.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن هذه الأمة، كما قلت لكم، فيها من الأموال الشيء الكثير ولله الحمد، لكن ومع كل أسف ثرواتها مبددة.
ولكي تتضح الصورة في أذهانكم، أضرب لكم مثالين على تبديد ثروات الأمة، مثال على المستوى الفردي، ومثال على المستوى الجماعي، ولكي يكون المثال أكثر تأثيراً، وتدركون كمية التبديد الحاصل، أخاطبكم بلغة الأرقام كما يقال، لأنه أكثر واقعية.
وكلا المثالين، نشرا في مجلات في هذه البلاد:
المثال الأول: ما نشرته جريدة الشرق الأوسط، عن الملايين التي يبددها أبناء هذه الأمة، على التدخين، فنشرت المجلة هذه الإحصائية، وليكن الحديث عن واردات دول الخليج فقط من السجائر، هل تعلمون أيها الأخوة، أن أكثر من 400 مليون دولار سنوياً هي واردات دول الخليج من السجائر، وهذا يعني أنه سنوياً يدخل الخليج 20 مليار سيجارة، نصيب المملكة في هذا التبديد هو نصيب الأسد، المملكة لوحدها تستهلك 60 من هذه الكمية، ثم تليها الكويت 16 ثم دولة الإمارات 9 ثم سلطنة عمان 5 وأخيراً البحرين وقطر 3.5.
وأغلب السجائر التي تدخل دول الخليج كما نشرت الإحصائية هي الماركات البريطانية والأمريكية وبدون قيود.وأتصور أن هذا أمر لا يحتاج إلى تعليق لماذا الأمريكية بدون قيود فأين عقلاء قومي لوقف هذا التبديد لثروة الأمة، 400 مليون دولار سنوياً، تصرف من أموال الأمة، وعلى ماذا، على التدخين، ونحن لم نتكلم على ما يصرف على قضايا أخرى هذا فقط على التدخين، وليس من كل العالم الإسلامي، بل هذا نصيب دول الخليج فقط. وعليكم بعد ذلك أيها الأخوة، أن تتخيلوا المليارات التي تحرق من أموال المسلمين، وبدون فائدة.
المثال الثاني: ما نشر في مجلة الفرسان، عن حجم الإعانات التي تقدم للمؤسسات التابعة للأمم المتحدة، كالبنك الدولي للتعمير والتنمية، والمنظمة العالمية للصحة، وصندوق النقد الدولي، واليونسيف التي تدعي اهتمامها بأطفال العالم، وغيرها من المؤسسات هذه المؤسسات أيها الأخوة، تأتيها سنوياً دعم بمقدار 60 مليار دولار، والدول الإسلامية لها نصيب من المشاركة في هذا الدعم.
وياليتهم يشاركون، ثم يكون لهم جزء من الاستفادة، التي تنالها الدول الغربية، أموال المسلمين تدفع لهذه المؤسسات، والمستفيدون الكفار، فأين اليونيسيف عن أطفال المسلمين في إفريقيا، وأين مكتب الأمم المتحدة للتنسيق والإعانات في حالة الكوارث عن ما يجري الآن على أرض يوغسلافيا، والكوارث تتفجر هناك في كل لحظة.
ثم هذه الإعانات الضخمة التي تدفع، غالبها تنفق على موظفي الأمم المتحدة، ويتقاسمونها بينهم، ويُظن أنها تذهب لمساعدة المحتاجين. تذكر النشرة، أن موظفي الأمم المتحدة يبلغ عددهم 50 ألف شخص، وأبسط مرتب يتجاوز دخل وزير في إحدى البلدان الفقيرة، وتنقلاتهم تكلف سنوياً مائة مليون دولار. أما قسم العلاقات العامة فيستحوذ على 75 مليون دولار سنوياً، وكلها مصاريف لا تفيد المحتاجين بشيء، وكلها مصاريف ينفقونها على أنفسهم.
المنظمات التي تغيث العالم الثالث ـ زعموا ـ تختار دائماً العالم المتقدم مقراً لها. فمثلاً، منظمة التغذية الزراعية، مقرها روما التي لا تعاني من المجاعة في شيء، المنظمة العالمية للصحة فتحت مكاتبها في جنيف التي يتمتع سكانها بصحة جيدة، أما اليونسكو فقد اختارت الاستقرار في أحد أفخم الأحياء الباريسية.
وهذا يعني طبعاً أن هذه المنظمات تدفع مبالغ ضخمة للإيجار والهاتف والكهرباء والسيارات وتعويض مصاريف الإقامة لموظفيها، وكل هذه المبالغ تذهب إلى مؤسسات غربية كافرة، ومن أموال من، من أموال المسلمين غالبها.
فكيف لو استثمر المسلمون أموالهم، وأنفقوها على مصالحهم، ما من دولة إسلامية، إلا وهي تعاني ما تعاني، نقص في المستشفيات، نقص في المدارس، نقص في الطرقات المعبدة، قلة في الموارد المائية، الأغذية، الصحة، إلى كل الجوانب الأخرى، ثم بعد ذلك أموالنا تبدد هنا وهناك.
وصدق الله العظيم إذ يقول: وَلاَ تُؤْتُواْ ?لسُّفَهَاء أَمْو?لَكُمُ ?لَّتِى جَعَلَ ?للَّهُ لَكُمْ قِيَـ?ماً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ قَـ?رُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى? فَبَغَى? عَلَيْهِمْ وَءاتَيْنَاهُ مِنَ ?لْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِ?لْعُصْبَةِ أُوْلِى ?لْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْفَرِحِينَ وَ?بْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ?للَّهُ ?لدَّارَ ?لاْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ?لدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ?للَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ?لْفَسَادَ فِى ?لأرْضِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى? عِلْمٍ عِندِى أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ?للَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ?لْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ?لْمُجْرِمُونَ فَخَرَجَ عَلَى? قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ قَالَ ?لَّذِينَ يُرِيدُونَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا ي?لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَـ?رُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ وَقَالَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ?للَّهِ خَيْرٌ لّمَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ ?لصَّـ?بِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ?لأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ?للَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ?لْمُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ ?لَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِ?لاْمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ?للَّهَ يَبْسُطُ ?لرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ ?للَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ?لْكَـ?فِرُونَ تِلْكَ ?لدَّارُ ?لاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ?لأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَمَن جَاء بِ?لسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى ?لَّذِينَ عَمِلُواْ ?لسَّيّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [القصص:76-84].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
فنسأل الله عز وجل أن يصلح أحوالنا، كما نسأله عز وجل أن يعيننا بأن لا نؤتي السفهاء أموالنا إنه على كل شيء قدير.
(1/2925)
الحج فضله وآثاره
فقه
الحج والعمرة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
23/11/1413
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحج خامس أركان الإسلام. 2- أدلة وجوب الحج. 3- فضل عبادة الحج. 4- آثار الحج
على المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: الحج أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام ودعائمه الخمس، وفرض من فروضه دل عليه الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، وهو فرض عين على المكلف المستطيع مرة واحدة في العمر، ومن أنكر ذلك فقد كفر إلا إذا كان حديث عهد بالإسلام أو نشأ في بادية بعيدة عن العلم وأهله.
الأدلة من الكتاب:
1- قال تعالى: إِنَّ ?لصَّفَا وَ?لْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ ?للَّهِ فَمَنْ حَجَّ ?لْبَيْتَ أَوِ ?عْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ ?للَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].
2- وقال تعالى: وَأَتِمُّواْ ?لْحَجَّ وَ?لْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ?سْتَيْسَرَ مِنَ ?لْهَدْىِ [البقرة:196].
3- وقال تعالى: وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ?لله غَنِىٌّ عَنِ ?لْعَـ?لَمِينَ [آل عمران:97].
4- وقال تعالى: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لاْنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْبَائِسَ ?لْفَقِيرَ [الحج:27، 28].
فهذه الآيات صريحة في إيجاب الحج حيث قال تعالى: وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ وكلمة عَلَى إيجاب، وقال تعالى: وَمَن كَفَرَ أي ومن كفر بوجوب الحج، وقال تعالى: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ أي ادعهم ونادهم إلى حج البيت وقيل أعلمهم أن الله فرض عليهم الحج بدليل قوله تعالى: يَأْتُوكَ.
قال ابن العربي بعد سياقه للآية: " وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ [آل البيت:97]. قال علماؤنا: هذا من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب إذ قال العربي لفلان: عليّ كذا، فقد وكده وأوجبه، قال علماؤنا: فذكر الله الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب تأكيداً لحقه وتعظيماً لحرمته وتقوية لفرضه...".
الأدلة من السنة:
1- ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إلى ذلك سبيلا)).
2- ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا))، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم))، ثم قال: ((ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)) مسلم.
فهذه النصوص من السنة تدل دلالة قاطعة على وجوب الحج مرة واحدة في العمر، وأنه ركن من أركان الإسلام ومبانيه العظام التي لا يتم إسلام امرئ إلا به متى تحققت فيه شروط الوجوب وانتفت عنه موانع الأداء، فحري بالمسلم أن يبادر لإبراء ذمته وأداء ما عليه قبل أن تقول نفس: يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله، وقبل أن يندم، ولات ساعة مندم.
ولقد أفاض القرآن والسنة في فضل الحج ووردت فيه النصوص الكثيرة التي ذكرنا طرفاً منها فيما سبق ونذكر هنا ما لم نذكره هناك مما يختص في فضل الحج فنقول:
1- الحج يهدم ما قبله:
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (.. فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إبسط يمينك لأبايعك فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: مالك يا عمرو؟ قال: قلت أردت أن أشترط، قال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يغفر لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله...).
2- الحاج يعود بعد حجه كيوم ولدته أمه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)).
3- الحج أفضل الأعمال بعد الإيمان والجهاد:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((ثم جهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((ثم حج مبرور)) البخاري.
4- الحج أفضل الجهاد:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد؟ قال: ((لا لكن أفضل الجهاد حج مبرور)) البخاري.
5- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
ومن فضائل الحج أن الحجاج والعمار وفد الله إن سألوه أعطاهم، وإن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم، ونفقتهم في سبيل الله، وهي مخلوفة عليهم، وهم معانون في أداء النسك.
وأخيراً فإن الله يباهي بالحجاج ملائكته في صعيد عرفات ويتجلى لهم ويقول: انصرفوا مغفوراً لكم، إنه لفضل عظيم ونعمة كبرى أن ينصرف الحاج من هذا الموقف العظيم مغفوراً له وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء اللهم إنا نسألك من فضلك.
الحج هجرة إلى الله تعالى، استجابة لدعوته، وموسم دوري يلتقي فيه المسلمون كل عام على أصفى العلاقات وأتقاها، ليشهدوا منافع لهم على أكرم بقعة شرفها الله.
وعبادات الإسلام وشعائره تهدف كلها إلى خير المسلمين في الدنيا والآخرة، ومن هنا كان الحج عبادة يتقرب بها المسلمون إلى خالقهم، فتصفو نفوسهم ويلتقون على المودة يربط بينهم الإيمان رغم تباعد الأقطار واختلاف الديار.
والمتأمل في نصوص الكتاب والسنة الخاصة بالحج إذا جمع معها ما يلمسه في الواقع المشاهد خلال أداء فريضة الحج تتجلى له الأهداف التالية:
1- الحج امتثال لأوامر الله واستجابة لندائه:
الحج امتثال لأوامر الله واستجابة لتعاليمه تتجلى فيه الطاعة الخالصة والإسلام الحق وصدق الله العظيم: وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى ?للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ ?سْتَمْسَكَ بِ?لْعُرْوَةِ ?لْوُثْقَى? [لقمان:22].
2- الحج فيه تأسٍ بأبينا إبراهيم عليه السلام:
لقد أمر الله أبانا إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج وكتب الله لمن شاء من عباده أن يلبوا هذا النداء رجالاً أو ركباناً، ففي الحج اقتداء بالصالحين وتأسي بمن أمرنا الله أن نتأسى بهم ونجعلهم قدوة حسنة لنا، يقول تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْر?هِيمَ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ [الممتحنة:4]، إلى قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لأَخِرَ.. [الممتحنة:6].
3- الحج فيه ارتباط بمهبط الوحي:
الحج رحلة إلى الديار المقدسة مهبط الوحي ومتنزل التشريع، وكلما ارتبط المسلم بهذه البقاع الطاهرة كلما كان أقرب إلى الاقتداء بالرعيل الأول، الذين جاهدوا في سبيل الله وبلغوا شرعه إلى أنحاء المعمورة، وشتان بين مسلم يرتبط قلبه بمهابط الوحي ومنازل التشريع ومسلم يتعلق قلبه هنا أو هناك خلف عرض زائل أو قزم يتطاول، فكما أن الفرق شاسع بين الوسيلتين فكذلك في النتيجة.
4- في الحج إعلان عملي لمبدأ المساواة بين الناس:
تتجلى المساواة بأسمى صورها الواقعية في الحج، وذلك في صعيد عرفات حينما يقف الناس موقفاً واحداً لا تفاضل بينهم في أي عرض من أعراض الدنيا الزائلة بل التفاضل والفوز والفلاح بالتقى، يقول الحق تبارك وتعالى مؤكداً هذا المنهج السامي في الإسلام إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13]، ويقول تعالى: سَوَاء ?لْعَـ?كِفُ فِيهِ وَ?لْبَادِ [الحج:25].
5- في الحج تذكرة بيوم لقاء الله:
الحج يذكر المسلم بيوم لقاء الله وذلك إذا تجرد الحاج من ثيابه ولبى محرماً ووقف بصعيد عرفات، ورأى كثرة الناس ولباسهم واحد ويشبه الأكفان، فهنا تجول بالخاطر مواقف سيتعرض لها المسلم بعد وفاته فيدعوه ذلك للاستعداد لها وأخذ الزاد قبل لقاء الله.
6- في الحج توثيق لمبدأ التعارف والتعاون:
يقول الحق تبارك وتعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة:2]، ويتجلى تحقيق هذا المبدأ السامي في الحج حيث تتوثق الصلات ويقوى التعارف ويتم التشاور ويحصل تبادل الآراء، والتجارب والخبرات للسعي قدماً في النهوض بالأمة ورسم الطريق الأمثل لها لتتبوأ مكانتها القيادية على مر العصور والأجيال.
7- في الحج جمع للناس على مبدأ التوحيد:
في الحج تتجلى صورة التوحيد لدى المسلمين، فهم أولاء يتوافدون على الديار المقدسة ويجتمعون في أماكن محددة ويناجون رباً واحداً ملبين للنداء مذعنين للأمر منضوين تحت اللواء، يرفعون كلمة التوحيد ويعتصمون بالحبل المتين وصدق الله العظيم: إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92].
8- الحج مؤتمر سنوي للمسلمين:
وأخيراً فالحج مؤتمر سنوي عام للمسلمين يتدارسون فيه شئونهم وتجتمع فيه كلمتهم ويحنو فيه غنيهم على فقيرهم وتظهر فيه الوحدة الكبرى للمسلمين.
والذي أدى فريضة الحج في السنوات الأخيرة يلمس هذه الأهداف ماثلة للعيان فكم من أموال بذلت في سبيل الله وكم من تجارب تمت الاستفادة منها وكم من لقاءات جانبية تداول فيها المجتمعون ما يهم المسلمين في حاضرهم ومستقبلهم، وإذا كان هذا تحقق فعلاً بفضل من الله فإننا نأمل المزيد وندعو المسلمين لاستثمار هذا المؤتمر السنوي ليحصل الخير الوفير لأمة الإسلام في جميع ديار المسلمين.
فرض الله سبحانه وتعالى العبادات على عباده امتحاناً لطاعتهم وإظهاراً لعبوديتهم وشكرهم وتحقيقاً لمصالحهم في الدنيا والآخرة وقد أشار سبحانه وتعالى في محكم كتابه إلى طرف من هذه المصالح والمنافع، فعند ذكر الحج مثلاً أشار إلى منافعه العظيمة التي يشهدها الحجاج يقول تعالى: لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لاْنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْبَائِسَ ?لْفَقِيرَ [الحج:28].
قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: (منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة فرضوان الله تعالى، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات...).
ولكي تتضح الصورة لنا حول آثار الحج سنتحدث عنه من جانبين:
أحدهما: آثار الحج في حياة الأمة الإسلامية.
الثاني: آثار الحج فيمن أدى فريضته.
آثار الحج في حياة الأمة الإسلامية:
للحج آثار عظيمة على المجتمع المسلم في عقيدته ووحدته واقتصاده وجميع شئون حياته ومن أبرز آثاره في حياة الأمة الإسلامية ما يأتي:
1- وصل حاضر الأمة بماضيها:
من آثار الحج الظاهرة أنه يصل حاضر الأمة الإسلامية بماضيها ويربط الجيل الحاضر بالجيل الأول، وتاريخ البيت العتيق ضارب في أعماق الزمن منذ أن دعا أبونا إبراهيم عليه السلام وأرسل نداءه الخالد على مر الزمن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ.
2- سقوط الشعارات الزائفة:
من آثار الحج سقوط الشعارات الزائفة التي تجعل التفاضل بين الناس حسب أجناسهم وألوانهم ومكانتهم في الدنيا. ففي الحج تذوب تلك الفوارق، بل تسقط فتتحقق المساواة بين المسلمين رغم اختلاف أجناسهم وألوانهم وتباين ألسنتهم وتباعد بلادهم، الجميع من آدم وآدم من تراب إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13].
3- توحيد كلمة المسلمين:
من آثار الحج في حياة أمة الإسلام توحيد كلمة المسلمين وجمع شملهم تحت راية التوحيد، شعارهم المعلن هو التلبية ـ لبيك اللهم لبيك ـ وما ذاقت الأمة ما ذاقت من ويلات وحروب واستعمار وتخلف إلا بسبب تفرقها وتمزقها، والحج فرصة، وأيما فرصة للم الشمل وتوحيد الصف والوقوف بوجه العدو تحقيقاً لأمر الله وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103].
4- تبادل المنافع التجارية والتجارب الاقتصادية:
من آثار الحج في حياة الأمة الإسلامية تبادل التجارب والخبرات في المجال الاقتصادي وتنويع المنتوجات حسب العرض والطلب في السوق المالية في ديار الإسلام.
ولا شك أن هذا التجمع الكبير فرصة لبحث أوجه النقص لدى بعض البلاد الإسلامية ليتم التكامل مع بعض البلاد الأخرى، وهذا من المنافع التي أمرنا الله أن نشهدها في الحج، وقد أشار خير الأمة وترجمان القرآن إلى هذا المعنى في تفسيره للمنافع في الآية.
آثار الحج فيمن أدى فريضته:
1- تجديد ذكر الله:
من آثار الحج في حياة المسلم الذي يؤدي فريضته أنه يقوي صلة المحبة بينه وبين خالقه، وذلك عن طريق شعار الحج المعلن ـ لبيك اللهم لبيك ـ، فيها يجدد المسلم ذكر الله في مواقع ومواقف متعددة، يصحب ذلك خشوع وخضوع للخالق البارئ سبحانه وتعالى، والمسلم بهذه التلبية يطرح كل شواغل الحياة وصوارفها التي تمنعه من القرب من خالقه طاعة وامتثالاً وخشوعاً وخضوعاً وتذللاً وإجلالاً ـ لبيك اللهم، لبيك لا شريك لك لبيك ـ.
2- في أداء مناسك الحج يذكر المسلم اليوم الآخر:
الحج مظهر مصغر ليوم الحشر والعرض على الله. ولذا تفيض في نفس الحاج بواعث الشوق للقاء الله ويدفعه للعمل الصالح وينشط في مجالات الخير وتنهزم بواعث المعصية في نفسه ويبقى ذكر الموت وما بعده بين عينيه، وفي هذا من الآثار العظيمة على السلوك والأخلاق ما يلمسه كل حاج مع نفسه ومع الآخرين.
3- نيل رضوان الله ومغفرته:
من آثار الحج في حياة المسلم الحاج أنه يرجع إلى بلده بإذن الله نقياً من الذنوب؛ لأنه تعرض لمغفرة الله ورضوانه ووقف مع من وقف في بابه يدعو ويرجو راغباً راهباً، وقد وعد الله من حج ولم يرفث ولم يفسق بالمغفرة والرضوان جاء ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)).
4- يتعلم الحاج دروس التضحية والبذل:
من آثار الحج على المسلم الذي يؤدي هذه الفريضة أنه يتعلم دروساً في البذل والتضحية، ولذا كان الحج باباً من أبواب الجهاد، أليس الحاج يترك وطنه وأهله وأحبابه؟ أليس الحاج يبذل المال قربة لله؟ أليس الحاج يجهد نفسه ويخلع ثيابه ويتجرد من كل شيء طاعة لله وامتثالاً لأمره، وهذا لون من ألوان الجهاد بالمال والجهد والوقت.
5- الحج تدريب عملي للحاج على الصبر والطاعة:
من آثار الحج في حياة المسلم الذي يؤدي هذه الفريضة أنه يتدرب عملياً على الصبر بكل أنواعه: الصبر على مشقة الطاعة والصبر عما حرم الله والصبر على ما يصيب الحاج من المشقة والجهد والعنت وفقد المال وبعد الأهل والأحباب، وبهذا يتهيأ المسلم لمنازلة الأعداء وهو قوي الجانب ثابت الجنان لا يدخل الخوف إلى قلبه ولا يتسرب الهلع إلى نفسه لأن الإخلاص ملأ عليه سمعه وبصره فلا يصدر عنه إلا السمع والطاعة.
6- الحج نقطة تحول في حياة الحاج:
يزداد به خيراً وتقوى وصلاحاً، ولذا أشار القرآن الكريم إلى أنه ينبغي للحاج ألا ينسى مواقفه الضارعة في الحج وأن يستمر في تعلقه بربه وإنابته له. بقوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـ?سِكَكُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا... [البقرة:200].
والحاج الذي يبقى أثر الحج في نفسه ويعود منه وقد تحسن حاله واستقام أمره وأقبل على طاعة ربه، هو الذي يرجى أن يقبل حجه، فالله لا يقبل العمل إلا من المتقين إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
أيها المسلمون، الذين لم يعزموا على الحج هذا العام سواء ممن حج أو لم يحج سأقرأ عليكم حديثاً واحداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عسى أن يحرك الهمم، والذي تردد لعله يعزم.
يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتب الله لك بها حسنة ويمحو عنك بها سيئة، وأما وقوفك بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوني شعثاً غبراً من كل فج عميق يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني، فكيف لو رأوني، فلو كان عليك مثل رمل عالج أو مثل أيام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك، وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك، وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة. فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك)).
اللهم يسر على الحجاج حجهم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/2926)
الخشوع في الصلاة (2)
فقه
الصلاة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
26/11/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الخشوع روح الصلاة. 2- معنى الخشوع وكيفية تحصيله. 3- فضل الخشوع. 4- التحذير
من نقر الصلاة وإساءتها. 5- رفع الخشوع من أمة الإسلام وأحوال المسلمين في الصلاة.
6- أمور معينة على الخشوع. 7- التحذير من خشوع النفاق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون:1، 2].
عباد الله، الصلاة آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، لها في الدين المكانة العظمى، والأهمية الكبرى، هي الفاصل بين المسلمين والكافرين وهي العهد الذي بين المؤمنين، من تركها كفر، ومن حفظها وحافظ عليها، حفظ دينه وعصم دمه وحسابه على الله تعالى، ومن ضيعها وفرط فيها فهو لما سواها أضيع. الصلاة أولُ ما يحاسب عليه العبد من عمله، وهي آخر ما يفقد الناس من دينهم، والخشوع فيها من المطالب الشرعية النفيسة، والأمنيات الإنسانية العزيزة، فقد أخذ عدو الله إبليس العهد على نفسه بإضلال بني آدم وإغوائهم، وأهم مداخله عليهم إشغالهم عن صلاتهم حتى ترى المسلم يقوم في الصلاة مكبراً وينتهي منها مسلماً وربما لا يدري أخمساً صلى أم أربعاً.
الخشوع عباد الله، روح الصلاة ولبّها، صلاة بلا خشوع كالجثة الهامدة بلا روح.
الخشوع: حالة في القلب تنبع من أعماقه مهابةً لله، وتوقيراً له، وتواضعاً في النفس وتذللاً. الخشوع: يورث انكساراً بين يدي الرب، وحُرقةً من المعاصي والسيئات، لأن القلب إذا خشع سكنت خواطره، وترفعت عن الأمور الدنيئة همته، وتجرد من اتباع الهوى مسلكه، الخشوع: يجعل العبد ينكسر ويخضع لله، ويزول ما فيه من التعاظم والترفع، والتعالي والترفع، والتعالي والتكبر، وتلك درجات في قلوب الناس تتفاوت بتفاوت الإيمان في قلوبهم، وسيطرة الإسلام على نفوسهم.
الخشوع: هو السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع والخضوع، والحامل عليه: الخوف من الله ومراقبته في السر والعلن. فالخشوع هو قيام القلب بين يدي الله تعالى بالخضوع والذل. والأعضاء كلها تابعة للقلب فإذا فسد خشوعه بالغفلة والوساوس فسدت عبودية الأعضاء والجوارح.
أيها المسلمون، إن الخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرّغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذٍ تكون له راحةً وقرة عينٍ، كيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وجعلت قرة عبني في الصلاة)) رواه الإمام أحمد بسند صحيح.
لقد ذكر الله الخاشعين والخاشعات في صفات عباده المتقين الذين أعد الله لهم المغفرة والأجر العظيم، وأخبر سبحانه وتعالى عن أعظم فائدةٍ للخشوع، وهي تخفيف أمر الصلاة على العبد وجعلها عوناً له على الطاعة، وحفظ الجوارح عن الحرام والفواحش، قال الله تعالى: وَ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ?لْخَـ?شِعِينَ ?لَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـ?قُوا رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ ر?جِعُونَ [البقرة:45، 46].
وفي فضل الخشوع ووعيد تركه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((خمس صلوات افترضهنّ الله تعالى، من أحسن وضوءهنّ، وصلاتهنّ لوقتهنّ، وأتم ركوعهنّ وخشوعهنّ كان له على الله عهدٌ أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهدٌ، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه)) رواه أبو داود وهو صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين يُقبل عليهما بقلبه ووجهه)). وفي رواية: ((لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه)). وفي لفظٍ: ((إلاّ وجبت له الجنة)) رواه البخاري.
أيها المسلمون، لقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من نقر الصلاة، وعدم الخشوع فيها، لأن ذلك لا يُغني عن العبد شيئاً، فإن الإنسان ليس له من صلاته إلا ما عقل منها، ((وإن العبد ليصلي الصلاة ثم ينصرف منها ما يكتب له منها إلا عشرها، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها)) رواه الإمام أحمد وهو صحيح. وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي لا يتم ركوعه، وينقر في سجوده مثل الجائع يأكل التمرة والتمرتين لا يغنيان عنه شيئاً)) رواه الطبراني بإسناد حسن.
الخشوع ـ عباد الله ـ واجبٌ من واجبات الصلاة، عظيم شأنه، سريع فقده، نادرٌ وجوده، لا سيما في آخر الزمان مع فساد الأحوال، وقد ورد أن الخشوع أول ما يرفع من الأرض، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع، حتى لا ترى فيها خاشعاً)) رواه الترمذي وأحمد والدارمي. قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: ((أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون الصلاة، ورب مصلٍ لا خير فيه، ويوشك أن تدخل المسجد فلا ترى فيهم خاشعاً)).
الخشوع ـ عباد الله ـ ليس بإطالة الركوع والسجود، وليس الخشوع بخضوع المنكبين وحني الظهر، وإنما هو خضوع الجوارح بين يدي الله تعالى وخروج القلب عن التعلق بغير الله، واستحضار عَظمة الصلاة وعظمة من يقف العبد بين يديه، والتعقّل والتفهّم لكل حركةٍ وسكنةٍ في الصلاة، وإن كانت إطالة الركوع والسجود من صفات الخاشعين، لكنها وحدها ليست كافية ما لم تتوج بخضوع القلب وطمأنينة النفس.
إن كثيراً من الناس يتساءلون وحُق لهم أن يتساءلوا: ما بال بعض الناس يؤدون الصلاة فلا تأمرهم بمعروف ولا تنهاهم عن منكر وفحشاء، وقد قال الله سبحانه: ?تْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ ?لْكِتَـ?بِ وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ?للَّهِ أَكْبَرُ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].
الجواب في خلاصة وجيزةٍ: أنهم يؤدون صلاةً بلا روح، لا خشوع فيها ولا طمأنينة، قد استحوذ على نفوسهم الهوى والشيطان، فلم يروا من صلاتهم إلاّ أجساداً تَهوي إلى الأرض خفضاً ورفعاً، قلوبهم خاويةٌ، وأرواحهم بالدنيا متعلقةٌ، ونفوسهم بالأموال والأهلين مشغولةٌ، لا في ركوع يعتدلون، ولا في سجود يطمئنون، ولا بآية يتعظون.
لما سمع بعض السلف قول الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَأَنتُمْ سُكَـ?رَى? حَتَّى? تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ [النساء:43]، قال: "كم من مصلٍ لم يشرب خمراً، هو في صلاته لا يعلم ما يقول، قد أسكرته الدنيا بهمومها".
وقال آخر: "الصلاة كجارية تُهدى إلى ملكِ الملوك، فما الظنّ بمن يُهدى إليه جاريةً شلاّء، أو عوراء، أو عمياء، أو مقطوعة اليد أو الرجل، أو مريضة، أو دميمة، أو قبيحة، حتى يُهدي إليه جاريةً ميتةً بلا روح، فكيف بالصلاة يُهديها العبد ويتقرب بها إلى ربه تعالى، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، وليس من العمل الطيب صلاةٌ لا روح فيها".
فأين الخشوع عباد الله، ممن ينقر صلاته نقر الغراب، يتأمل في الجدران، ويهيم في الوديان، قلبه معلق بالدنيا، لا يُبرم حساباتِه ولا يقضي أشغاله، ولا يجهز خططه وأفكاره لأمور دنياه إلا وهو واقف بين يدي الله في الصلاة، فإذا سلّم الإمام من الصلاة خرج من المسجد مسرعاً كأنما أطلق سراحه من سجن طويل، لا يذكر الله بعد صلاته، ولا يستغفر لتقصيره فيها، فضلاً عن أن يأتي بسنن الصلاة ورواتبها.
ألا فاتقوا الله ـ عباد الله ـ في صلاتكم، واعلموا أن الخشوع سكونٌ واستكانةٌ وعزوف عن التوجه إلى العصيان والمخالفة في الصلاة وبعدها، والخاشعون والخاشعات هم الذين ذللوا أنفسهم وكسروا حدّتها وعوّدوها أن تطمئن إلى أمر الله وذكره، وتطلب حسن العاقبة، ووعد الآخرة، ولا تغتر بما تزينه الشهوات الحاضرة والملذات العابرة.
وإذا خشع قلب المصلي استشعر الوقوف بين يدي خالقه وعظمت عنده مناجاته، فمن قدّر الأمر حق قدره واستقرت في جنابه عظمة الله عز وجل، وامتلأ قلبه بالخوف، خشع في صلاته، وأقبل عليها بروحه، وسكنت جوارحه فيها، فاستحق الأجر، والثناء الجميل في الآخرة قال الله تعالى: إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـ?شِعِينَ [الأنبياء:90].
بارك الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: اعلموا رحمني الله وإياكم أن هناك أموراً تعين على الخشوع في الصلاة وهي عديدة، من أبرزها: تذكر الموت في الصلاة، وأن يعتقد المسلم أنه لن يصلي بعدها غيرها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه: ((اذكر الموت في صلاتك فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحريّ أن يحسن صلاته، وصلّ صلاة رجل لا يظنّ أنه يصلي غيرها)) رواه ابن ماجه وغيره بسند حسن.
ومما يعين على الخشوع أيضاً: تدبر الآيات المقروءة ومعرفة معاني ألفاظ الصلاة ما معنى: وَ?لْعَـ?دِيَـ?تِ ضَبْحاً فَ?لمُورِيَـ?تِ قَدْحاً [العاديات:1، 2]، لا تدري؟ ما معنى: ((التحيات لله والصلوات والطيبات؟)) لا تدري، ما معنى: ((وتعالى جدك؟)) لا تدري، هذه ألفاظ وتلك آيات أنت تقرؤها وتتلفظ بها ولا تعرف معناها، فمن أين يأتي الخشوع. إذن من العلاج معرفة معاني ألفاظ الصلاة وتدبر آيات القرآن.
ومما يعين على الخشوع في الصلاة: مدافعة الشواغل والموانع التي تصرف عن الخشوع، فلا يصلي في مكان مزعج أو أمام نقوش وتصاوير وألوان وكتابات، ولا يصلي بحضرة طعام يشتهيه، ولا يصلي وهو حاقنٌ أو يدافعه الأخبثان، أو قد غلبه النعاس، لأن هذه الأمور كلها صوارف وشواغل تحول بين المصلي وصلاته.
ومما يعين على الخشوع في الصلاة إن لم يكن في مقدمتها: هو أن تغير منهج حياتك، ويكون همك الدار الآخرة، وأن تسخر حياتك كلها لخدمة هذا الدين، يكون قيامك وقعودك وذهابك وإيابك في سبيل الله. كن من هذا الصنف من الناس ثم انظر هل تخشع أو لا تخشع. سيكون حتى خواطرك وشواردك في الصلاة خواطر شرعية. ولهذا ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ((والله إني لأجهز الجيش وأنا في الصلاة)). حدثوني من منا إذا قام يصلي صار يفكر في أمور دينية شرعية، قليل منا نسأل الله العافية.
وما المرء إلا حيث تجعل نفسه ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل
فلو كان هم الإنسان وحياته، الآخرة، والدعوة، والعبادة، والأعمال الصالحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتغيير واقع الناس، وإصلاح المجتمع، لو كان هذا هو همّ الواحد منا، لتغيرت صلاتنا وخشعت قلوبنا. مثل هذا الإنسان، حتى وهو في أعمال الدنيا، وهو في وظيفته يكون أحياناً شارد الذهن، فلو سألته في ماذا تفكر، لأجاب، أفكر في هموم المسلمون، أفكر في علماء المسلمين، أفكر في تسلط اليهود على المسلمين وغيرها من القضايا الشرعية التي تهم أصحاب الهمم العالية. كن من هذا الصنف تكن بإذن الله من الخاشعين.
أما وأنت تحشر نفسك مع عوام الناس يكون همك كهمهم، زوجة وبيت وعمل وسيارة، وغيرها من الأمور الحياتية المعيشية التي هي الشغل الشاغل للناس. أما وأنت تنازع طلاب الدنيا على الدنيا فمن أين يأتي الخشوع. ولقد صدق الشافعي رحمه الله عندما قال:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها
فما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها
عباد الله، وإذا كان الخشوع في الصلاة مطلوباً وواجباً من واجباتها فإن هناك نوعاً آخر من الخشوع حذّر منه السلف وهو خشوع النفاق. قال حذيفة رضي الله عنه: ((إياكم وخشوع النفاق، فقيل له: وما خشوع النفاق؟ قال أن ترى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع)). وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "كان يُكره أن يُرى الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه". ورأى بعضهم رجلاً خاشع المنكبين والبدن، فقال: يا فلان! فقال له: " الخشوع ها هنا، وأشار إلى صدره، وليس ها هنا، وأشار إلى منكبيه". ونظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شابٍ قد نكسّ رأسه فقال له: "يا هذا ارفع رأسك، فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب".
وقد فرق العلامة ابن القيم رحمه تعالى بين خشوع النفاق وخشوع الإيمان فقال: "خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء، فينكسر القلب لله كسرةً ملتئمةً من الوجل والخجل والحب والحياء، وشهود نعمة الله وجنايات العبد فيخشع القلب لا محالة، فيتبعه خشوعُ الجوارح، وأما خشوع النفاق فيبدو على الجوارح تصنعاً وتكلفاً والقلب غير خاشع" انتهى.
أيها الأحبة، لقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)) رواه مسلم.
اللهم ارزقنا الخشوع في قلوبنا وجوارحنا، اللهم اجعلنا ممن يخشع لك قلبه وسمعه وبصره ويده ورجله.
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، واجمع بها شملنا، ولم بها شعثنا، ورد بها الفتن عنا اللهم صل على محمد...
(1/2927)
الخشوع في الصلاة (1)
فقه
الصلاة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
6/4/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظاهرة قلة الخشوع في الصلاة. 2- خشوع النبي وأصحابه وتابعيهم في الصلاة. 3-
الخشوع صفة المؤمنين. 4- أثر الخشوع على سلوك المسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، هناك مشكلة يعاني منها كثير من الناس، وأكثر من يعاني من هذه المشكلة المصلون، نعم، إن الذين يصلون، ويحافظون على صلاتهم، في المساجد، يعانون هذه المشكلة أكثر وأكثر؛ لأن هذه القضية تتعلق بصلاتهم. ألا وهو الخشوع في الصلاة.
إننا نسمع كثيراً من الناس يشتكي من عدم خشوع قلبه في الصلاة، يشتكون من أنهم لا يتذكرون حوائجهم إلا إذا شرعوا في الصلاة، فماذا يا ترى السبب في هذه المشكلة. لماذا كان السلف الصالح، من الصحابة وتابعيهم يخشعون في صلاتهم، ولا نخشع نحن؟
إن أول سبب لهذه المشكلة "المعاصي" هذه المعاصي التي يرتكبها الناس، ويرون أنها بسيطة ويسيرة، هي سبب عدم اطمئنان القلب في الصلاة، كيف يجتمع في رجل يؤدي الصلاة في جماعة، في جميع أوقاتها، مع ارتكابه للمعاصي، وقد قال سبحانه وتعالى: إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، فما بال هذا لم تنهاه صلاته عن فحشائه ومنكره، وقد أكد سبحانه وتعالى: إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ.
إذاً فصلاته هذه، ليست هي الصلاة التي عناها سبحانه وتعالى، والتي هي الصلة بين العبد وربه، هي الخشوع والخضوع بين يدي الله، ومتابعة الإمام، وعدم موافقته أو مسابقته، الصلاة التي عناها الله عز وجل، هي الصلاة التي صلاها نبينا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم، وصلاها أصحابه من بعده، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وإليكم شيئاً من أخبار السلف الصالح، الذين اقتدوا بنبيهم صلى الله عليه وسلم، فقد ورد في الحديث عن أحد الصحابة أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباسطنا ويحادثنا، حتى إذا حانت الصلاة، فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه)، وليس أحد أعرف بالله من رسوله ونبيه.
وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أنه كان في صلاته، كأنه وتد من الثبات والخشوع، وكان إذا جهر فيها بالقراءة، خنقته عبرته من البكاء. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه إذا قرأ، لم يكد يٌسمع من خلفه من الشهيق والبكاء، وكان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، إذا قام إلى الصلاة، كأنه عود من الخشوع، وكان يسجد فتنزل الطيور على ظهره لا تحسبه إلاّ جذع حائط، وصلى يوماً في الحجر، فسقط أمامه حجر كبير، فلم يتحرك رضي الله عنه.
وكان علي رضي الله عنه، إذا حان وقت الصلاة، يضطرب ويتغير، فلما سئل رضي الله عنه، قال: لقد آن أمران أمانتي، عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها. وقال بن مهران، ما رأيت مسلم بن يسار وهما من التابعين، رضي الله عنهما، قال ما رأيته ملتفتاً في صلاته قط، والمقصود بالالتفات هنا، دوران البعد يميناً وشمالاً، ولقد انهدت ناحية من المسجد، ففزع أهل السوق لهدمها، وإنه لفي المسجد يصلي، فما تحول بعده عن موضع سجوده، رحمه الله تعالى.
هكذا كانت صلاة القوم، فهل تشبهها صلاتنا نحن اليوم، يأتي أحدنا إلى المسجد، وقلبه مشحون بمشاغل الدنيا، فيدخل المسجد جرياً على العادة، دون أن يشعر أنه دخل بيت جبار السماوات والأرض، بيت مالك يوم الدين، ولو دخل بيت مسئول، له مكانة في نفسه، لاضطرب، ولحسب ألف حساب للمقابلة، ولأحس بقلبه يعتصر، وأحضر كل حواسه، ونسي كل مشغلة ومشكلة، وحصر تفكيره في المقابلة وما يقال فيها، ثم يقف بين يدي ربه بعد ذلك، لاهياً غافلاً، فيؤدي حركات آلية، لا روح فيها ولا حياة، ثم ينصرف لا يدري ماذا صنع، ولا يدري ماذا دعا، فضلاً عن أن يدري ماذا قرأ الإمام، بل إن كثيراً منا، ليتذكر في صلاته ما نسيه قبلها، لأن قلبه وفكره يصولان ويجولان في الدنيا وفي مشاكلها، وما ذلك إلا لضعف الإيمان، وقلة اليقين، ولقد سئل بعض الصالحين، هل تذكر شيئاً في الصلاة، فقال وهل شيء أحب إلي من الصلاة، فأذكره فيها، سبحان الله، لقد أحب أولئك القوم صلاتهم، فشغلتهم عن دنياهم، وأحببنا دنيانا، فشغلتنا عن صلاتنا، تلك هي حقيقة الوضع ـ أيها الناس ـ حركات لا روح فيها، وصورة بلا حقيقة، ولم تكن الصورة يوماً من الأيام، في قوة الحقيقة، وإن انخدع بها الناظر من الناس، فالله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ولذلك انقطعت الصلة، بين هذه الصلاة، وبين السلوك في الحياة، لأنها كما قلنا، صورة الصلاة لا حقيقتها، وليس غريباً أن تجتمع صورة الصلاة مع المعصية، ومع الإثم والانحراف، أما إذا كانت الصلاة حقيقة حية، يبدأ الشعور بها عند البدء بالوضوء، فتشعر بهيبتها من القيام بين يدي ربك ومولاك، ثم تأتي إليها خاشعاً القلب ذاكراً، ثم تدخل بيت مولاك، بقلب راجف خائف، شاكراً لفضله، معترفاً بعظمته، معترفاً بكثرة معاصيك، ذاكراً تقصيرك في حقه، ثم تقف بين يديه خاضعاً، خاشع القلب والجوارح، فتقول: "الله أكبر" وتشعر نفسك فعلاً أنه أكبر من كل شيء، فلا ينصرف قلبك إلى غيره، ولا يلتفت إلى سواه، وتثبت عينيك في موضع سجودك، ثم تقرأ آياته بتدبر، وتفكر في معانيها، فتسأل عند آية النعمة، وتستعيذ عند آية العذاب والوعيد، ثم تركع وتسجد بذل وانكسار، داعياً متضرعاً، متذكراً فضله ونعمه التي لا تحصى، مقارناً ذلك بتقصيرك وتهاونك، وتستمر في صلاتك على هذا النحو.
فقد جاء عن مسلم بن يسار أنه إذا دخل في الصلاة لم يسمع حساً من صوت ولا غيره، تشاغلاً بالصلاة، وخوفاً من الله عز وجل.
وجاء عن أحد السلف أنه قال، لأن تختلف الخناجر بين كتفي أحب إلي من أن أتذكر في شيء من أمر الدنيا، وأنا في الصلاة.
لذلك استقامت حياة القوم وصلحت، وسيطرت عليهم صلاتهم تلك، في جميع حياتهم، فوجهتها إلى تقوى الله ومراقبته، فقدموا إرضاء ربهم على رغبات نفوسهم، وشهواتها، فكان مجتمعهم مضرب المثل، في النزاهة والنظافة والاستقامة، وحتى من كان مقيماً على منكر أو فاحشة، نهته صلاته الخاشعة وصدته مع ربه عن تلك الفاحشة.
فقد ورد، أن شاباً من الأنصار، ما ترك منكراً إلا وقد فعله، إلا أنه كان يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له فيه، فقال: ((أما إن صلاته ستنهاه يوماً)) ، ولم يلبث هذا الشاب طويلاً، حتى كان من أعبد الناس وأصلحهم.
عباد الله، وما أشد خوفي أيها الأخوة، أن ينطبق علينا قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليصلي الصلاة، لا يكتب له نصفها، ولا ثلثها، ولا ربعها، ولا خمسها، ولا سدسها، ولا عشرها)) وكان عليه الصلاة والسلام يقول: ((إنما يكتب للعبد من صلاته، ما عَقلَ منها)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن العبد إذا افتتح الصلاة، استقبله الله عز وجل بوجهه، فلا يصرفه عنه، حتى يكون هو الذي ينصرف، أو يلتفت يميناً وشمالاً)).
فرحم الله من أقبل على صلاته خاضعاً خاشعاً، ذليلاً لله عز وجل، خائفاً، داعياً. وجعل أكبر همه في صلاته لربه تعالى، ومناجاته إياه، وانتصابه قائماً. فإنك والله لا تدري هل تصلي الصلاة التي بعدها، أو يعاجلك الأجل قبل ذلك، وإنك والله لا تدري مع ذلك يا أخي، هل قبل الله منك صلاة قط أم لا. هل قبل منك حسنة قط أم لا، هل غفر لك سيئة قط أم لا، وأنت مع هذا تضحك بملئ فمك وتغفل، وقد جاءك اليقين، وإنك والله وارد على النار كما قال تعالى: وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى? رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً [مريم:71]، فلا أحد أحق بالبكاء والحزن منا، حتى يتقبل الله منا صلاتنا، ومع هذا يا عباد الله، والله لا ندري إذا أصبحنا هل نمسي، وإذا أمسينا هل نصبح، أنحن من الذين بشر بالجنة، أم بشر بالنار.
عباد الله، إن الله عز وجل بدأ بوصف المؤمنين الصالحين، بصفة الخشوع في الصلاة، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون:1، 2]، وقال تعالى: وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـ?نِتِينَ [البقرة:238]. وقال تعالى: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـ?ناً وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
وأن يجعلنا من الذين إذا صلوا، خشعت قلوبهم، وخشعت جوارحهم، وقبلت صلاتهم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، فقد آن الأوان أن نعود إلى الله، آن الأوان أن ننيب إلى الله، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ?للَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ?لْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ?لأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـ?سِقُونَ [الحديد:16].
عباد الله، لقد آن الأوان أن تنيب القلوب إلى خالقها، لقد آن الأوان أن تعود النفوس الشاردة إلى ربها، لقد آن الأوان أن نقف بين يدي الله وقفة أخرى، أن نقف بين يدي الله وقفة الخاشعين الخاضعين، أن نتوب إلى الله من كل ذنب وخطيئة، أن نكفر ما فات من اللهو والغفلة، أن نصلي صلاة حقيقية تنهانا عن الفحشاء والمنكر، صلاة حقيقية تخشع فيها قلوبنا للخالق العظيم، وتتأثر حياتنا بصلاتنا تلك، فننتهي عن الفحشاء والمنكر، وننتهي عن الزيغ والانحراف، ونذرف الدموع بين يدي ربنا في كل ركعة، وفي كل سجدة، وتخبت قلوبنا لخالقها، فوالله لا فائدة من الغفلة والبعد عن الله، ووالله ما فاز من ابتعد عن ربه، وما أفلح من ذهب بعيداً عن مولاه، فإن الذي يبتعد عن مولاه يتولاه الشيطان، يودي به إلى المهالك، ويودي به إلى طرق الهلاك والردى، إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، فلا نكن في مكان قاصي عن الله، ولنكن بين يديه في خشوع وخضوع، ولنكن بين يديه في ذلة وانكسار، نكبره ونحمده ونسبحه، ونعي ما نقول، ونفكر في ذكره، ونتدبر آياته، ماذا تعني، وعلى ماذا تدل، لننتهي عن الفحشاء والمنكر، يكفينا أيها الأخوة، يكفينا بعداً عن الله، ويكفينا شروداً عن منهج الله، فما لقينا في الحياة إلى الشقاء ولن نلقى في الآخرة إلا الهلاك، فلا سعادة في حياة يبتعد فيها المرء عن الله.
ويعتقد أنه سعيد بمال، أو سعيد بمنصب أو سعيد بأعوان، فسرعان ما يخبو ذلك النور، وسرعان ما يتلاشى ذلك السراب، ويبقى ذلك المسكين وحده، في قبر موحش، بين يدي الله، لا معين ولا نصير، إلا العمل الصالح، والصلاة الخاشعة الصادقة، ورحمة الله عز وجل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يتبع الميت إلى قبره ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله)).
لن يبقى معك يا أخي في هذا القبر الموحش، بين هذين الجدارين الضيقين، وبين أطباق التراب، إلا عملك الصالح، فإن كانت صالحة ومن أهمها صلاتك، فإن كانت خاشعة صادقة، فإنه يوسع لك في قبرك، وتكون لك روضة من رياض الجنة، وتلقى عملك الصالح، وإن أضعت صلاتك، فأنت لما سواها أضيع، فيضيق عليك قبرك، وتختلف أضلاعك، ويأتيك عذاب القبر، وبعدُ عذاب الجحيم والعياذ بالله.
فاتقوا الله عباد الله، حافظوا على صلاتكم لا تضيعوها، واخشعوا فيها، فهي لب الأعمال، وعمود الدين، ومنها تنطلق الصالحات، ومنها ينطلق سلوك الإنسان، فيصلح حياته، فإن كانت صالحة، صلح عمله، وإن كانت فاسدة فسد عمله.
فلنتق الله يا عباد الله، ولا يكن نصيبنا من صلاتنا، المشقة والتعب، والوقوف بين يدي الله، بدون خشوع وخضوع، فلا نجني من وراء ذلك عملاً صالحاً، ولا نجني من وراء ذلك أجراً عند الله، لأن الصلاة اللاهية الغافلة، لا يقبلها رب العالمين. فالله طيب لا يقبل من العمل إلا طيباً.
أيها المسلمون، لا أظن أنه بإمكاني في هذه العجالة أن أتعرض وأفصل كل الأسباب التي تؤدي للخشوع ولا ذكر جميع الموانع التي تمنع الخشوع. فبسط الموضوع يحتاج إلى وقت أطول من هذه الخطبة.
لكن أعطيك سبباً واحداً لو حققته أخي المسلم فستجد بإذن الله الخشوع وهو أن تغير منهج حياتك، ويكون همك الدار الآخرة، وأن تسخر حياتك كلها لخدمة هذا الدين، يكون قيامك وقعودك وذهابك وإيابك في سبيل الله. كن من هذا الصنف من الناس ثم انظر هل تخشع أو لا. سيكون حتى خواطرك وشواردك في الصلاة تكون خواطر شرعية. ولهذا ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (والله إني لأجهز الجيش وأنا في الصلاة).
حدثوني من منا إذا قام يصلي صار يفكر في أمور دينية شرعية، قليل منا نسأل الله العافية.
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل
فلو كان هم الإنسان وحياته الآخرة، والدعوة، والعبادة، والأعمال الصالحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تغيير واقع الناس، إصلاح المجتمع، لو كان هذا هو هم الواحد منا، لتغيرت صلاتنا وخشعت قلوبنا.
مثل هذا الإنسان، حتى وهو في أعمال الدنيا، وهو في وظيفته يكون أحياناً شارد الذهن، فلو سألته في ماذا تفكر، لأجاب، أفكر في هموم المسلمون، أفكر في علماء المسلمين، أفكر في تسلط اليهود على المسلمين وغيرها من القضايا الشرعية التي تهم أصحاب الهمم العالية.
كن من هذا الصنف تكن بإذن الله من الخاشعين. أما وأنت تحشر نفسك مع عوام الناس يكون همك كهمهم، زوجة وبيت وعمل وسيارة، وغيرها من الأمور الحياتية المعيشية التي هي الشغل الشاغل للناس.
أما وأنت تنازع طلاب الدنيا على الدنيا فمن أين يأتي الخشوع، ولقد صدق الشافعي رحمه الله عندما قال:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها
فما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها
اللهم...
(1/2928)
الزكاة
فقه
الزكاة والصدقة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
24/9/1412
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الزكاة ركن من أركان الإسلام. 2- الوعيد لمن بخل بالزكاة. 3- زكاة الحلي. 4- الزكاة
في العقارات والمنقولات. 5- زكاة المال المدان. 6- زكاة الأسهم والمستندات. 7- الأصناف
التي تستحق الزكاة. 8- مسائل متعلقة بإخراج الزكاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون الصائمون، لقد اعتاد غالب المسلمين، أن يؤدوا زكاة أموالهم، في شهر رمضان المبارك، فكان من المناسب، أن يكون حديثنا في هذه الجمعة، بعد توفيق الله عز وجل، عن هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، وهو ركن الزكاة.
أيها المسلمون، إن شرعية الزكاة ثابت في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع المسلمون على ذلك.
لقد قُرن الزكاة في غير ما آية من كتاب الله بالصلاة، في مثل قوله تعالى: وَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتُواْ ?لزَّكَو [الزمل:20]. وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)).
فمن جحد وجوب الزكاة، فقد كفر، ومن منعها بخلاً وتهاوناً مع اعتقاد وجوبها، كان من فسّاق هذه الأمة، وحكمه في الآخرة، أنه تحت المشيئة، إن شاء الله عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عز وجل، عذبه بالنار بقدر فسقه ثم أدخله الجنة. ومن أداها، معتقداً وجوبها، راجياً ثوابها، فليٌبْشر بالخير الكثير، والخلف العاجل والبركة، قال الله تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ?لرَّازِقِينَ [سبأ:39]. وقال تعالى: مَّثَلُ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَ?للَّهُ يُضَـ?عِفُ لِمَن يَشَاء وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، أدوا ما أوجب الله عليكم في أموالكم، التي رزقكم الله تعالى، فإن بعض المسلمين، تساهلوا في هذا الركن العظيم، إن بعض المسلمين لا يؤدون زكاة أموالهم والعياذ بالله، لقد أخرجكم الله يا عباد الله، من بطون أمهاتكم، لا تعلمون شيئاً، ولا تملكون لأنفسكم نفعاً ولا ضراً، ثم يسر الله لكم الرزق، وأعطاكم ما ليس في حسابكم، فقوموا أيها المسلمون بشكره، وأدوا ما أوجب عليكم، لتبرأ ذممكم، وتطهروا أموالكم واحذروا الشح والبخل بما أوجب الله عليكم، فإن ذلك هلاككم، ونزع بركة أموالكم.
أيها المسلمون المؤمنون، هؤلاء الذين بخلوا على الله عز وجل، ولم يؤدوا هذا المقدار البسيط، الذي أوجبه الله عليهم في أموالهم، ألم يقرأوا الوعيد بالنيران في كتاب الله عز وجل لمن بخل بما آتاه الله، قال الله عز وجل: وَلاَ يَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180]. وقال تعالى: وَ?لَّذِينَ يَكْنِزُونَ ?لذَّهَبَ وَ?لْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ?للَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى? عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى? بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـ?ذَا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية الأولى: ((من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته، مُثّل له شجاعاً أقرع ـ وهي الحية الخالي رأسها من الشعر، لكثرة سمها ـ مثل له شجاعاً أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بشدقيه، يقول: أنا مالك، أنا كنزك)) رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية الثانية: وَ?لَّذِينَ يَكْنِزُونَ ?لذَّهَبَ وَ?لْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ?للَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي فيها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فتكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد)) رواه مسلم.
فاتقوا الله أيها المسلمون: يا من تتهاونون في دفع زكاة أموالكم، تأملوا الحديث.. فوالله لا يحمى على الذهب والفضة، في نار كنار الدنيا، إنما يحمى عليها في نار أعظم من نار الدنيا، بتسعة وستين جزءاً.
أيها المسلمون، إنه إذا أحمي عليها، لا يكوى بها طرف من الجسم فقط، وإنما يكوى بها الجسم من كل ناحية، الجباه من الأمام، والجنوب من الجوانب والظهور من الخلف.
أيها المسلمون، إن هذا العذاب ليس في يوم ولا شهر ولا في سنة، ولكن في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
فيا عباد الله، يا من آمنوا بالله ورسوله، يا من صدّقوا بالقرآن، وصدقوا بالسنة، ما قيمة الأموال التي تبخلون بزكاتها، وما فائدتها، إنها تكون نقمة عليكم، وثمرتها لغيركم. إنكم لا تطيقون الصبر على وهج الحر أيام الصيف، فكيف تصبرون على نار جهنم، فاتقوا الله عباد الله، أدوا زكاة أموالكم، طيبة بها نفوسكم، تنجون من عذاب ربكم.
فبادروا بزكاة المال إن بها للنفس والمال تطهيراً وتحصيناً
ألم تروا أن أهل المال في وجل يخشون مصرعهم إلا المزكينا
فهل تظنون أن الله أورثكم مالاً لتَشْقَوا به جمعاً وتخزيناً
أو تقصروه على مرضاة أنفسكم وتحرموا منه معتداً ومسكيناً
ما أنتم غير أقوام سيسألكم إلهكم عن حساب المستحقينا
ولن تنالوا نصيباً من خلافته إلا بأن تنفقوا مما تحبونا
أيها المسلمون، لقد جاءت النصوص عامة مطلقة، في وجوب الزكاة في الذهب والفضة. ففي الذهب إذا بلغ عشرين ديناراً، وفي الفضة، إذا بلغت مائتي درهم، هذا هو نصاب الذهب والفضة، فما كان أقل منه فلا زكاة فيه، وما كان منه فأكثر، ففيه ربع العشر، ففي عشرين ديناراً نصف دنيار، وفي مائتي درهم خمسة دراهم.
وهذه الأوراق النقدية، التي تتعاملون بها، بدلاً من الذهب والفضة، لها حكم الذهب والفضة، فإذا بلغت ما يساوي ستة وخمسون ريالاً سعودياً من الفضة ففيها ربع العشر.
عباد الله، وأما حلي المرأة، من الذهب والفضة، إذا كانت تلبسه أو تعيره، فقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى، قديماً وحديثاً، في وجوب الزكاة فيه، وقد أمرنا الله عز وجل في حال الاختلاف، أن نرد الأمر للكتاب والسنة، فقال تعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ?للَّهِ وَ?لرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ ذ?لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59].
وإذا رددنا ذلك النزاع إلى الكتاب والسنة وجدنا الصواب، مع الذين قالوا بوجوب الزكاة فيه، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، ومعها بنت لها، وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أتؤدين زكاة هذا، قالت لا، قال أيسرك أن يسورك الله بها، سوارين من نار)) ، فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت هما لله ورسوله.
أيها المسلمون، ومما تجب فيه الزكاة أيضاً، عروض التجارة، وهي ما أعده الإنسان للبيع، والاتجار به، من حيوان وعقار وأثاث ومتاع وغير ذلك، كل شيء عندك للتجارة، فهو عروض تجارة، إذا حال عليها الحول، فقومه كم يساوي، ثم أخرج ربع عشر قيمته.
ومن عروض التجارة أيضاً، ما يكون عند الفلاحين، من الإبل والبقر والغنم، التي يربونها للبيع، فأما العقارات التي أعدها الإنسان له، ولا يريد بيعها، وإنما يريد أن يسكنها، فهذه ليس فيها زكاة، ولا زكاة فيما أعده الإنسان لبيته، من الأواني والفرش ونحوها، ولا فيما أعده الفلاح لحاجة الفلاحة، من المكائن والآلات ونحوها، وخلاصة ذلك أن كل شيء تعده لحاجتك أو للاستغلال، سوى الذهب والفضة، فلا زكاة فيه، وما أعددته للاتجار والتكسب، ففيه الزكاة.
عباد الله، أما بالنسبة للعقارات المعدة للإيجار فإن الزكاة في ربع العشر من قيمة الإيجار وليس من قيمة العقار نفسه، وإذا كان هناك أراضٍ عند أحد فإن كان يريدها للسكنى وينوي أن يبنيها ثم يسكنها فهذا لا زكاة عليها وإن بقيت لعدة سنوات.
وإذا كان يبيع ويشتري بها فحكمها حكم عروض التجارة، تقوم كل سنة ثم يزكى ربع العشر من قيمتها.
وإن كان لا يريدها للسكنى ولا يبيع ويشتري في الأراضي، لكن نوى أن يبنيها إما فلل أو شقق ثم يؤجرها، فهذا أيضاً لا زكاة فيها، حتى يبنيها، والزكاة تكون في ربع العشر من قيمة الإيجار فيما بعد متى حال عليها الحول.
وأما بالنسبة للديون التي عند الناس، فلا يجب عليك إخراج زكاتها حتى تقبضها، فإذا قبضتها، فإن كان الدين على مليء، وجب أن تخرج عنه زكاة كل السنوات الماضية، وإن كان على فقير لم يجب أن تخرج إلا عن سنة واحدة فقط، وإن أخرجت زكاة الدين قبل قبضه فلا بأس.
وأصحاب المزارع، هؤلاء أيضاً عليهم إخراج زكاة هذه الزروع والثمار، فإن كل ما يقتات ويدخر ففيه الزكاة قال صلى الله عليه وسلم: ((ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة)) وهذا هو نصاب زكاة الزروع، خمسة أوسق وهي قرابة الستمائة وخمسة وسبعون كيلو جرام، فمن ملك هذه الكمية فإن كان هو يسقيها ففيها نصف العشر، وإن كانت السماء والأنهار تسقيها ففيها العشر كاملاً قال صلى الله عليه وسلم: ((فيما سقت الأنهار والغيم العشور، وفيما سٌقي بالساقية نصف العشر)) رواه مسلم.
ولا يشترط الحول في زكاة الزروع والثمار وإنما زكاته مرة واحدة فقط وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141].
وأيضاً هذه الأسهم والمستندات التي بأيدي الناس هذه الأيام فإن فيها الزكاة.
فصاحب السهم مخير بين أن يزكي رأسماله كل سنة وإذا قبض الربح زكاة لما مضى أو لعام واحد على خلاف بين أهل العلم. وبين أن يسأل رأس كل حول عند قيمة أسهمه ويزكيها حسب ما يفيده به القائمون على الشركة أو المؤسسة التي ساهم فيها. وزكاتها زكاة النقدين إذا بلغت نصاباً ففيها ربع العشر.
أما السندات فهي ديون مؤجلة.
والصحيح من كلام أهل العلم وجوب تزكية الديون إذا كانت على موسرين فإذا حال الحول على الديون ومنها السندات زكاها كغيرها من الأموال الموجودة عنده. وإن آخر زكاتها حتى قبضها زكاها إذا قبضها لما مضى من السنوات.
وفقني الله وإياكم لمعرفة الحق واتباعه ومعرفة الباطل واجتنابه.
وهدانا وإياكم الصراط المستقيم. إنه جواد كريم. أقول ما سمعتم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها الناس: إن الزكاة لا تنفع، ولا تبرأ بها الذمة، حتى يخرجها الإنسان على الوجه المشروع، وحتى توضع في الموضع الذي وضعها الله فيه، وهم الأصناف الثمانية التي ذكرها الله في كتابه، في قوله تعالى: إِنَّمَا ?لصَّدَقَـ?تُ لِلْفُقَرَاء وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْعَـ?مِلِينَ عَلَيْهَا وَ?لْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى ?لرّقَابِ وَ?لْغَـ?رِمِينَ وَفِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60].
فهؤلاء ثمانية أصناف:
الأول: الفقراء، وهم الذين لا يجدون من كفايتهم، إلا شيئاً قليلاً دون النصف، فإذا كان الإنسان لا يجد ما ينفق على نفسه وعائلته نصف سنة، فهو فقير، فيعطى ما يكفيه وعائلته سنة.
الثاني: المساكين، وهم الذين يجدون من كفايتهم النصف فأكثر، ولكن لا يجدون ما يكفيهم سنة كاملة، فيكمل لهم نفقة السنة.
الثالث: العاملون عليها، وهم الذين يوكلهم الحاكم العام للدولة، بجبايتها من أهلها، وتصريفها إلى مستحقها، وحفظها، ونحو ذلك، فيعطون من الزكاة بقدر عملهم وإن كانوا أغنياء.
الرابع: المؤلفة قلوبهم، وهم رؤساء العشائر، الذين ليس في إيمانهم قوة، فيعطون من الزكاة، ليقوى إيمانهم، فيكونوا دعاة للإسلام وقدوة صالحة في قبائلهم.
الخامس: الرقاب، ويدخل فيها شراء الرقيق من الزكاة وإعتاقه، ومعاونة المكاتبين، وفك الأسرى من المسلمين.
السادس: الغارمون، وهم المدينون، إذا لم يكن لهم ما يمكن أن يوفوا منه ديونهم فهؤلاء يعطون من الزكاة، ما يوفون به ديونهم.
السابع: في سبيل الله، وهو الجهاد في سبيل الله، فيعطى المجاهدون من الزكاة ما يكفيهم لجهادهم.
الثامن: ابن السبيل، وهو المسافر الذي انقطع به السفر، فيعطى من الزكاة، ما يوصله إلى بلده.
فهؤلاء هم أهل الزكاة.
أيها المسلم، إذا أعطيت زكاتك شخصاً يغلب على ظنك أنه مستحق، فتبين لك فيما بعد أنه غير مستحق، أجزأت عنك، والإثم عليه، حيث أخذ ما لا يستحق.
ويجوز أيها الأخوة، أن تدفعها إلى أقاربك الذين لا تُنفق عليهم، إذا كانوا مستحقين لها، أي أحد الأصناف الثمانية.
ويجوز أن تدفعها لشخص محتاج للزواج، إذا لم يكن عنده ما يتزوج به.
ولا يجوز دفع الزكاة، في قضاء دين على ميت، ولا يسقط بها دين على معسر.
ولا يجوز كذلك صرف الزكاة في بناء المساجد، وإصلاح الطرق ونحوها.
أيها المسلمون، ولا زكاة في مال، حتى يحول عليه الحول، فلو تلف المال قبل تمام الحول أو نقص النصاب، فلا زكاة فيه، ولو مات المالك قبل تمام الحول، فلا زكاة عليه ولا على الورثة، فلو ورث الشخص مالاً فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول عنده.
أيها المسلمون، وهنا مسألتان، كثيراً ما يقع السؤال عنهما:
المسألة الأولى: أن بعض الفقراء، يكون أخرق، والأخرق هو الذي لا يحسن التصرف في ماله، فلو أعطي مالاً أفسده، فقد يقول المزكي، هل يجوز أن أشتري له بالزكاة، ما يحتاج إليه وأعطيها إياه، فالجواب أن ذلك لا يجوز، ولكن لك أن تقول له: اشتر حاجتك من السوق، فإذا اشترى، جاز لك أن تدفع عنه من الزكاة.
المسألة الثانية: أن بعض الناس هداهم الله ممن يخرجون زكاة أموالهم، لا يتحرّون عن من يدفعون إليهم الزكاة، وكأنها مسألة تخلص، يريد أن يخرجها ويتخلص منها، ويتصور أنه بفعله هذا تبرأ ذمته. أبداً، لا بد من التحري فيمن تعطيه هل هو مستحق أم لا.
ويدخل في هذا هو أن بعض الناس كان له عادة، أو العادة لوالده منذ القديم أنه كان يعطي الزكاة لفقير محتاج، وسار على هذه العادة عشرين سنة، ثم إن هذا الفقير أغناه الله، ومازالت العادة مستمرة. بل يتصور أن هذا من البر بأبيه الذي كان يعطي هذا، فهو يعطيه بعد أبيه. وهذا خطأ ظاهر أيها الأخوة. فإن هذا الذي استغنى الآن، لا يجوز دفع الزكاة له ولا تبرأ الذمة بدفعها إليه. ثم إن هذا الذي يقبلها ويأخذها حرام عليه لا يجوز له أن يقبلها.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه..
(1/2929)
الصديق
سيرة وتاريخ
تراجم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
23/1/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإنسان اجتماعي بفطرته. 2- تأثر المرء بصديقه. 3- الوصية بحسن اختيار الصديق.
4- صفات الصديق. 5- تحذير النبي من صديق السوء. 6- عاقبة الصداقة وآدابها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن من الأمور الجبلّية الفطرية التي فطر الله تعالى الإنسان عليها في هذه الحياة: الصديق، فلا بد للمرء في هذه الحياة من جلساء وأصحاب، يتحدث معهم، ويتحدثون معه، يبث إليهم همومه ويشكو إليهم أحزانه ويستشيرهم فيما يُلمّ به من ملمات وأمور.
فالمصاحبة مما حث الإسلام عليه، ورغّب في السعي إليه، والصداقة تدعيم للعلاقات الاجتماعية، وتقوية للمودات، وشدّ لأواصر الصلات.
الصديق عباد الله من ضرورات الحياة، وطبائع البشر، ومن ظنّ أنه يمكن أن يستغني عن صديق في هذه الحياة فمغرور، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)) رواه أبو داود والترمذي وصححه.
أيها المسلمون، والمرء في هذه الحياة على مشرب صديقه وجليسه، ولا يشك عاقل من الناس في أهمية الصداقة والمؤاخاة في حياة المسلم وأثرها على سلوكه وأخلاقه، فالأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.
أيها الأحبة، ومن أجمل ما قيل في تعريف الصديق ما قاله بعضهم: الصديق إنسان هو أنت إلا أنه غيرك. ومثل هذا القول قد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين أقطع طلحة بن عبيد الله أرضاً وكتب له بها كتاباً وأشهد فيه ناساً منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، فأتى طلحة بكتابه إلى عمر ليختمه له، فامتنع عمر، فرجع طلحة إلى أبي بكر مغضباً وقال: والله ما أدري أأنت الخليفة أم عمر ؟ فقال أبو بكر: بل عمر لكنّه أنا.
عباد الله، وقد جاءت وصايا السلف الصالح في الحث على اختيار الأصدقاء وانتقاء الأصحاب والأخلاء، ومن ذلك قول أحدهم: "اصحب مَن إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أصابتك فاقة جاد لك بماله، وإذا رأى منك حسنةً عدّها، وإن رأى سيئة كتمها وسترها، لا تخاف بوائقه، ولا تختلف طرائقه".
وصاحب إذا صاحبت حرّاً مبرّزاً يزين ويُزري بالفتى قُرناؤه
وقال لقمان لابنه وهو يعظه: "يا بني إياك وصاحب السوء، فإنه كالسيف المسلول، يعجبك منظره، ويَقبُح أثره، يا بني ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن: لا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا عند الحرب، ولا الأخ إلا عند الحاجة". وقيل لخالد بن صفوان: أي إخوانك أحب إليك؟ قال: "الذي يغفر زللي، ويقبل عِللي، ويسد خللي". وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "اصحب من ينسى معروفه عندك، ويذكر حقوقك عليه".
أيها المسلمون، لقد أصبحت الصداقة الحقة من غرائب الدنيا وعجائب الزمان وذلك لمّا بعد الناس عن المنهج الصحيح للروابط والعلاقات فيما بينهم، فأصبح اجتماعهم إلا من رحم الله من أجل الدنيا، يجتمعون عليها، ويتفرقون من أجلها، حتى إنه ليصدُق فيهم قول القائل:
ما في زمانك ما يعزُّ وجوده إن رمته إلا صديقٌ مخلصُ
والمسلم العاقل عباد الله يدرك أن الحصول على الصديق الوفيّ والخليل الحميم من أصعب الأشياء إن لم يكن من المستحيلات، ولذلك ينظر بعين البصيرة إلى أعمال وأخلاق من يريد صداقته، فمن رضي أعماله وأخلاقه صادقه، ومن سخط أعماله وأخلاقه ابتعد عنه. قال الأوزاعي رحمه الله: "الصاحب للصاحب كالرقعة للثوب، إن لم يكن مثله شانه".
أيها المسلمون، ولِما للصداقة من أهمية في حياة المسلم وتأثير على سلوكه فقد ذكر أهل العلم صفات، يجب على المسلم أن يختار صديقه وجليسه على وفقها: أولها: أن يكون ذا دين واستقامة، فإنّ ذا الدين يقف به دينه على الخيرات، ويجنبه المحرمات، مما يعود على صاحبه بالخير، وتارك الدين عدوّ لنفسه فكيف ترجى منه مودةُ غيره. قال أحد السلف: "اصطفِ من الإخوان ذا الدين والحسب والرأي والأدب، فإنه ردءٌ لك عند حاجتك، ويدٌ عند نائبتك، وأُنسٌ عند وحشتك، وزينٌ عند عافيتك".
فالإسلام معاشر الأخوة شرط ضروري للجليس الصالح والصديق الناصح، ولن يكون صديقاً ناصحاً من يكون على غير دينك، ولن يكون خليلاً وفياً من يخالفك في الاعتقاد، وكل صداقةٍ تُبنى على غير الإسلام فإن ضررها متيقنٌ منه قلّ أو كثر، وستنقلب هذه الصداقة إلى عداوة يوم تتبين الحقائق، وتزول الغشاوة عن العيون والبصائر ?لأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ?لْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]. ألا فليحذر من يصادقون بعض أهل البدع من الفرق الباطنية وغيرهم ويثقون بهم، وليحذر أيضاً من يصادق بعض النصارى ممن ابتلي بالعمل في الشركات فإن كل هؤلاء لا يؤمَن جانبهم.
يعطيك من طرف اللسان حلاوةً ويروغ منك كما يروغ الثعلب
الصفة الثانية: أن يكون عاقلاً، فإن العقل رأس المال، والصديق الأحمق يفسد أكثر مما يصلح، ويضر أكثر مما ينفع، لذا كان لا بد أن يكون الصديق صاحب عقلٍ موفور، وسلوك محمود، ومن الجهل صحبة ذوي الجهل والحماقة ممن لا تدوم صداقتهم، ولا تثبت مودتهم، وقديماً قيل:
احذر مودة ماذقٍ مزج المرارةَ بالحلاوةِ
يُحصي الذنوب عليك أيام الصداقةِ للعداوةِ
الصفة الثالثة: أن يكون محمود الأخلاق، مرضيّ الفعال، مؤثراً للخير، آمراً به، كارهاً للشر ناهياً عنه.
الصفة الرابعة: أن لا يكون فاسقاً، فإن الفاسق لا فائدة في صحبته، لأن من لا يخاف الله لا تؤمَن غائلته، ولا يوثق بصدقه بل يتغير بتغير الأغراض، ويتقلب بتقلب الزمان. قال أحد الفضلاء:
مجالسة السفيه سفاه رأيٍ ومن عقلٍ مجالسة الحكيم
فإنك والقرين معاً سواءٌ كما قُدَّ الأديمُ من الأديمِ
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم فإنهم زينٌ في الرخاء، وعدةٌ في البلاء، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره ولا تطلعه على سرّك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى).
أيها المسلمون، لقد حذّر المصطفى صلى الله عليه وسلم من مجالسة الأشرار ومصاحبة الأنذال، وحث على اختيار الصديق الصالح والجليس المؤمن لما له من نفع في الدنيا والآخرة، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)) رواه البخاري ومسلم.
عباد الله، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب للجليس الصالح مثلاً بحامل المسك فإنه أعظم من ذلك وأنفع، فهو إما أن يعلمك ما ينفعك في دينك ودنياك، أو يهدي لك نصيحة، أو يحذرك من معصية، أو يحثك على طاعة، أو يدعوك إلى مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، بقوله وفعله، وأقل ما تستفيده منه أن تنكفّ بسببه عن السيئات والمعاصي رعاية لحق الصحبة، ومنافسة في الخير، وترفعاً عن الشر، وهذه فائدة عظيمة لا توزن بشيء، وقديماً قيل: ما شيء أسرع في فساد الرجل وصلاحه من صاحبه.
قال عديّ بن زيدٍ رحمه الله:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
وصاحب أولي التقوى تنل من تقاهمُ ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي)) رواه أبوداود والترمذي.
عباد الله، إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا، زينةٌ في الرخاء، وعدّةٌ في الشدة، ومعونة على خير المعاش والمعاد، هم كما قيل: إن جالستهم نفعوا، وإن شاورتهم نصحوا، وهكذا تكون مصاحبة الأخيار أهل العلم والفضل والتقى والصلاح.
والصديق الفاسد والجليس السوء مما حذر الله تعالى منه ورسوله وقد ضرب له النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً بنافخ الكير، لأنه يؤذي جليسه على كل حال، فهو كالحداد الذي ينفخ في كيره ويضرب على محمى حديده، إذا لم يطر شيء من شرار ناره، وطائش قذائفه الملتهبة على ثيابك وجدت من حديده وناره وكل ما يحيط به ريحاً منتنة مؤذية، وهكذا من يصاحب الأشرار وأهل السوء والفحش والمعاصي عياذاً بالله، فهو إما أن ينساق معهم إلى مواقع الإثم ومواطن الريب فتمسه نار المعصية في الدنيا ويصلى نار جهنم في الأخرى، وإما أن يناله خبيث رائحتهم واقتباس سيرتهم فيجد ما يؤذيه من قول وعمل قال الله تعالى: وَمَن يَكُنِ ?لشَّيْطَـ?نُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً [النساء:38].
لا تصحب الكسلان في حاجاته كم صالح بفسادِ آخر يفسُدُ
عدوى البليد إلى الجليد سريعةٌ والجمر يوضع في الرماد فيخمُدُ
عباد الله، إن مصاحبة الأشرار سم ناقع، وبلاء واقع، فكم هلك بسببهم أقوام، وكم فسد بسببهم أقران، كم من شاب وفتى صغير أو كبير انحرف عن الطريق المستقيم، وضل عن الهدي القويم، وسلك سبيل الهوى والشيطان الرجيم بسبب صديق السوء، وجليس الضلالة الذي قاده إلى الخراب والهلاك، وأوقعه في الضلال والفساد خطوةً خطوة، حتى ترك الصلاة، واتبع الشهوات وفي المقابل كم من ضال تائهٍ قاده الجليس الصالح إلى مجالس الخير وحلقات الذكر فهداه الله على يديه وأصبح من عباد الله المتقين، ينافس في الخير ويُسابق في العمل الصالح.
ولا أدلّ على شدة تأثير الجليس على جليسه والصديق على صديقه مما رواه البخاري ومسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أمية وأبو جهل بن هشام فقال له: يا عم! قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله. فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب، فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فكان آخر الأمر أن قال: هو على ملة عبد المطلب. فمات على الشرك وأصبح حطب جهنم بسبب جلساء السوء ودعاة الضلالة.
فلنحذر عباد الله من مجالسة أهل الزيغ والفساد ولنتشبث بصداقة أهل الخير والاستقامة قال الله تعالى: وَ?صْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِ?لْغَدَاةِ وَ?لْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
بارك الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن الصداقة النافعة هي التي بنيت على تقوى الله تعالى ومرضاته، بعيداً عن مطامع الدنيا، وشهوات الحياة، فهذه الصحبة هي النافعة في الدنيا قبل الآخرة، لأنها سريعة الاتصال بطيئة الانقطاع قال الله تعالى: ?لأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ?لْمُتَّقِينَ ي?عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ?لْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ [الزخرف:67، 68]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) ، وذكر منهم: ((رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه)) متفق عليه. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء يوم القيامة لقربهم من الله تعالى ومجلسهم منه، هم قوم من أفناء الناس، من نزّاع القبائل، تصادقوا في الله وتحابوا فيه، يضع الله عز وجل لهم يوم القيامة منابر من نور، يخاف الناس ولا يخافون، هم أولياء الله عز وجل الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) رواه الحاكم وصححه.
أما صحبة الأشرار فإنها سريعة الانقطاع، بطيئة الاتصال، تورث الخزي في الدنيا قبل الآخرة، لأن الإنسان موسوم بسيما من قارب، ومنسوبٌ إليه أفاعيل من صاحب. ولقد ذكر الله تعالى حالهم يوم القيامة إذا تقطعت بهم السبل وغرّهم السراب اللامع والبريق الخادع، وهم يصطرخون في النار فَمَا لَنَا مِن شَـ?فِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء:100، 101]، قال الله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ ?لظَّـ?لِمُ عَلَى? يَدَيْهِ يَقُولُ ي?لَيْتَنِى ?تَّخَذْتُ مَعَ ?لرَّسُولِ سَبِيلاً ي?وَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ ?لذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِلإِنْسَـ?نِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
عباد الله، إن الناس على ثلاث طبقات: منهم من هو كالغذاء لا يستغنى عنه. ومنهم من هو كالدواء لا يحتاج إليه إلا زمناً معيناً. ومنهم من هو كالداء لا يحتاج إليه أبداً.
ثم اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن للصداقة آداباً، وللصحبة حقوقاً، فلا بد من النصيحة للصديق في السر والعلن، وتخفيف الأثقال عنه ومعاونته فيما ينوبه من حادثات الدهر، أو يناله من نكبات الحياة، فإن مراقبته في الظاهر نفاق، وتركه في الشدة لؤم وخسّة. وعليك بعد ذلك أن لا تُفرِطَ في حبه، بل تترفق وتقتصد، فإن الأيام دول، فقد يصير الصديق عدوّاً، والعدوّ صديقاً. قال عليّ رضي الله عنه: "أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما" رواه البخاري في الأدب المفرد.
ولا بد أيضاً من غض الطرف عن الزلات، والتجاوز عن الهفوات بقدر ما يحفظُ الصداقة، وتدوم معه العشرة، فإن من رام بريئاً من الهفوات سليماً من الزلات فقد رام مستحيلاً:
ومن يتتبع جاهداً كل عثرةٍ يجدها ولا يسلم له الدهر صاحبُ
ولله در القائل:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحداً أو صل أخاك فإنه مقارف ذنبٍ مرةً ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأيّ الناس تصفو مشاربه
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، واجمع بها شملنا، ولم بها شعثنا، ورد بها الفتن عنا اللهم صلِ على محمد...
(1/2930)
الطلاق وأحكامه
الأسرة والمجتمع, فقه
الطلاق, قضايا الأسرة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرص الإسلام على دوام العلاقة الاجتماعية. 2- سبل نزع الخلاف والشقاق بين الزوجين.
3- الطلاق هو الحل الأخير. 4- الطلاق السني. 5- أخطاء يقع بها الناس في مسألة الطلاق.
6- أسباب وقوع الطلاق. 7- الرجعة عن الطلاق وأحكامها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن الاتصال بين الرجل والمرأة عن طريق الزواج الشرعي والارتباط الأسري من أعظم نعم الله على بني آدم، لما يترتب على هذه العلاقة الشريفة من مصالح عظيمة منها: أنه سبب لغض البصر، وحفظ الفرج عمّا حرم الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج)) رواه البخاري ومسلم.
ومنها: حصول الراحة النفسية والسكن والأنس كما قال تعالى: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا [الروم:21]. ومن مصالح الزواج: الذرية التي بها بقاء النسل الإنساني وتكثير عدد المسلمين. فلهذه المصالح وغيرها في الزواج أمر الله به ووعد بترتب الخير عليه فقال عز وجل: وَأَنْكِحُواْ ?لايَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32].
ورغب سبحانه بالإبقاء على الزوجية ونهى عن كل ما يعرّضها للزوال، فأمر بالمعاشرة بالمعروف ولو مع كراهة أحدهما للآخر فقال سبحانه: وَعَاشِرُوهُنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المرأة خلقت من ضِلَع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء)) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: ((وكسرها طلاقها)) وإذا شعر الزوج بنفرة زوجته منه وبعدم انقيادها لحقه، فقد أمره الله أن يعالج ذلك بالحكمة واتخاذ الخطوات المناسبة فقال تعالى: وَ?للَّـ?تِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ?هْجُرُوهُنَّ فِى ?لْمَضَاجِعِ وَ?ضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً [النساء:34]. كل هذه الإجراءات يتخذها الزوج مع زوجته دون تدخل من أحد خارجي فإن استمر الشقاق فقد أمر الله تعالى بالتدخل بينهما لإصلاح الأمر، فقال جل شأنه: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَ?بْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَـ?حاً يُوَفّقِ ?للَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35]، فأمر سبحانه عند تطور الخلاف بين الزوجين بتشكيل هيئة للنظر في إزالته، تتكون من عضوين يتحليان بالإنصاف والعدل، أحدهما من أسرة الزوج، والثاني من أسرة الزوجة، يدرسان ملابسات الخلاف ويأخذان على يد المعتدي، وينصفان المعتدى عليه ويسويان النزاع. كل هذه الإجراءات لإبقاء عقد النكاح واستمرار البيت المسلم. فإن لم يُجدِ كل ما سبق وكان بقاء الزوجية ضرر على أحدهما بدون مصلحة راجحة، فقد شرع الله الفراق بينهما بالطلاق. فالطلاق هو آخر المراحل، وهو في مثل هذه الحالة رحمة من الله يتخلص به المتضرر ويتيح له الفرصة للحصول على بديل أحسن قال الله تعالى: وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ?للَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ وَكَانَ ?للَّهُ و?سِعاً حَكِيماً [النساء:130].
أيها المسلمون، إن الله شرع الطلاق حلاً أخيراً بعدما تفشل كل الحلول لحسم النزاع وبقاء بيت الزوجية، فهو كالدواء الذي يستعمل عند الحاجة ووفق طريقة خاصة رسمها الشارع، فإذا استعمل من غير حاجة أو استعمل على غير الطريقة المرسومة فإنه يضر كما يضر الدواء المستعمل على غير أصوله.
أيها الأحبة، كم تعاني المجتمعات التي تمنع الطلاق من الويلات والمفاسد والانتحارات وفساد الأسر، فالإسلام العظيم أباح الطلاق ووضع له ضوابط تحقق بها المصلحة وتندفع بها المفسدة، شأنه في كل تشريعاته العظيمة المشتملة على المصالح العاجلة والآجلة فالحمد لله على فضله وإحسانه.
لقد رسم الله للطلاق خطة حكيمة تقلل من وقوعه، المتمشي على تلك السنة الإلهية لا يتضرر به ولا يندم عليه، ويتجنب الآثار السيئة التي يقع فيها من أخل بها، فجعل للرجل أن يطلق المرأة عند الحاجة طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه ويتركها حتى تنقضي عدتها، ثم إن بدا له في تلك الفترة أن يراجهعا فله ذلك وإن انقضت عدتها قبل أن يراجعها بانت منه، ولم تحل له إلا بعقد جديد قال الله تعالى: ?لطَّلَـ?قُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـ?نٍ [النساء:229]، أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين فأنت مخير فيها ما دامت في عدتها فلك أن تردها إليك ناوياً الإصلاح والإحسان إليها، ولك أن تتركها حتى تنقضي عدتها وتطلق سراحها محسناً إليها.
وقال تعالى: يأيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ?لنّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، يعني طلقوهن وهن طاهرات من الحيض من غير أن يحصل جماع في هذا الطهر. فبين سبحانه في الآية الأولى العدد المشروع في الطلاق وهو طلقة واحدة. وبين في الآية الثانية الوقت الذي يجوز فيه الطلاق، وهو وقت الطهارة من الحيض بشرط أن لا يكون قد جامعها في هذا الطهر. فتبين بهذا أنه يحرم على الزوج أن يطلق زوجته ثلاثاً، لأن هذا يسد عليه باب الرجعة، وأنه يحرم عليه أن يطلقها وهي حائض، لأن هذا يطيل العدة على الزوجة، ويحرم كذلك تطليقها في طهر جامعها فيه، لأنها ربما تكون قد حملت فيشتد ندمه ويكثر الضرر. وبهذا يتبين أن الشارع أباح الطلاق في حال الحاجة إليه ووضع له نظاماً يجعله لا يقع إلا في أضيق الحدود، بحيث لا يحصل منه ضرر على أحد الطرفين.
وبهذا تعلم أن الطلاق الذي يقع على الوجه المشروع الذي شرعه الله ورسوله والذي يسميه العلماء الطلاق السني يكون بأن يطلقا طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه ويتركها حتى تنقضي عدتها.
والطلاق المحرم، يقع فيه كثير من المسلمين بسبب جهلهم بأحكام الطلاق، ويكون بأن يطلقها ثلاثاً بلفظ واحد أو يطلقها وهي حائض أو نفساء، أو يطلقها في طهر وطئها فيه ولم يتبين حملها. كل هذا يعد من الطلاق المحرم الذي يأثم فيه صاحبه لو فعله.
أيها المسلمون، إن الشيطان قد تلاعب ببعض العباد في مسألة الطلاق، وهم على أصناف: فبعضهم يطلق عند أدنى سبب، وعند أول إشكال فيضر بنفسه وبأهله وبأولاده، والبعض الآخر يجري الطلاق على لسانه بسهولة وبأدنى مناسبة فيستعمله بدلاً من اليمين ـ عليّ الطلاق كذا وكذا ـ فإذا انتقضت يمينه وقع في الحرج وصار يسأل عن الحلول التي تنقذه من هذا الطلاق الذي حلف به. وبعضهم لا يتورع عن الطلاق المحرم فيطلق زوجته بالثلاث دفعة واحدة، ثم يندم ويصير يبحث عمن يفتيه ويخلصه من هذا المأزق. وكل هذا بسبب تلاعب الشيطان ببني آدم.
أيها المسلمون، وألفاظ الطلاق تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ألفاظ صريحة: وهي الألفاظ التي لا تحتمل غير الطلاق كـ: طلقتك، أوأنتِ طالق، أوأنت مطلقة، أوتطلقين، ونحو هذه الألفاظ.
القسم الثاني: ألفاظ كنائية: وهي الألفاظ التي تحتمل الطلاق وغيره كأن يقول لها: أنت بائن، أو أنت حرة، أو إلحقي بأهلك، وما أشبه ذلك.
والفرق بين الألفاظ الصريحة وألفاظ الكناية في الطلاق: أن الصريحة يقع بها الطلاق ولو لم ينوه سواء كان جاداً أو هازلاً أو مازحاً لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة)) رواه الخمسة. وأما ألفاظ الكناية فلا يقع بها طلاق إلا إذا نواه نية مقارنة للفظه، فإذا لم ينو بها الطلاق لم يقع إلا في ثلاث حالات:
الأولى: إذا تلفظ بالكناية في حال خصومة بينه وبين زوجته.
الثانية: إذا تلفظ بها في حال غضب.
الثالثة: إذا تلفظ بها في جواب سؤالها له الطلاق.
ففي هذه الأحوال يقع الطلاق بالكناية ولو قال: لم أنوه، لأن القرينة تدل على أنه نواه، فلا يصدّق بقوله: لم لأنوه، والله أعلم.
عباد الله، إن لوقوع الطلاق أسباب كثيرة: منها: سوء اختيار الزوجين لبعضهما الآخر، وبعد فترة من الزواج تنكشف أمور وحقائق، لا حل ولا طريقة ولا مخرج إلا بالطلاق.
ومن الأسباب: إثقال كاهل الزوج بالتكاليف مما يجعله لا يتحمل أدنى زلة، وهذا من حكم الإسلام في تيسير المهور قال صلى الله عليه وسلم: ((إن أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة)) رواه الإمام أحمد.
ومن الأسباب: سوء العشرة بين الزوجين، وعدم قيام كل منهما بما أوجبه الله عليه للآخر، قال الله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ.
ومن أعظم أسباب الطلاق ما تبثه وسائل الإعلام من مخالفات شرعية ومغالطات واضحة من خلال تمثيليات ساقطة ومسرحيات هابطة تصور مشاكل مفتعلة حول تعدد الزوجات وحول تزويج كبير السن من الصغيرة وحول تزويج المتعلمات من غير المتعلمين، فمن سمع أو رأى هذه التمثيليات من النساء، وهن ناقصات عقل ودين زهدت إحداهن في زوجها الذي ترى أن هذه التمثيلية تنطبق عليها وعليه. ناهيك عن رؤية الرجال لنساء جميلات متزينات يظهرن على الشاشة بأبهى المفاتن مما يقلل شأن الزوجة في عين زوجها وهو طوال الليل ينظر إلى أجمل منها، فكل هذا من أعظم أسباب الطلاق، والسعيد من وعظ بغيره. ولا شك أن هذا العمل الذي تقوم به وسائل الإعلام يكون من التخبيب الذي حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم وتوعد من فعله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من خبب امرأة على زوجها)) رواه أبو داود والنسائي.
ومن أسباب كثرة الطلاق في أوقاتنا الراهنة، هذه الحملة المسعورة التي يوقد سعارها العلمانيون بشكل كتابات في الصحف والمجلات في موضوع المرأة، جل كتاباتهم يدور حول عمل المرأة ووظيفة المرأة وأن نصف المجتمع معطل وأنها مسلوبة الحقوق ومظلومة تحت وطأة التقاليد والأعراف البالية ونحو هذه الترهات التي أزكموا بها أنوفنا، وهم يرددون ما يقوله أسيادهم من علماني الغرب وديار الكفر حتى صاروت ذنباً لغيرهم ويظنون أن التقدم والتحضر يكون بهذه الطريقة، والذي يظن هذا هم البله منهم، أما الأذكياء فيعلمون كساد بضاعتهم لكنهم أصحاب شهوات جنسية وما زالوا يعيشون فترة المراهقة والواحد منهم قد جاوز الخمسين.
فنسال الله تعالى أن يكفينا شرهم، وأن يرد كيدهم في نحورهم..
نفعني الله وإياكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: كما أن الله شرع الطلاق رحمة بالعباد فقد شرع جل وتعالى الرجعة رحمة بعباده أيضاً. قال الله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذ?لِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَـ?حاً [البقرة:228]، وقال صلى الله عليه وسلم في قضية ابن عمر مع زوجته: ((مره فليراجعها)). وكما أن للطلاق شروطاً وقيوداً فكذلك الرجعة لا تصح إلا بشروط:
أولاً: أن يكون الطلاق دون ما يملك من العدد، فإن استوفى ما يملك من الطلاق لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
ثانياً: أن تكون المطلقة مدخولاً بها، فإن طلقها قبل الدخول فليس له رجعة، لأنها لا عدة عليها لقوله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ ?لْمُؤْمِنَـ?تِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49].
ثالثاً: أن يكون الطلاق بلا عوض، فإن كان على عوض لم تحل له إلا بعقد جديد برضاها، لأنها لم تبذل العوض إلا لتفتدي نفسها منه ولا يحصل مقصودها مع ثبوت الرجعة.
رابعاً: أن يكون النكاح صحيحاً، أما إن طلق في نكاح فاسد فليس له رجعة لأنها تَبِيْن بالطلاق.
خامساً: أن تكون الرجعة في العدة، لقوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذ?لِكَ [البقرة:228]، أي في حالة العدة.
سادساً: أن تكون الرجعة منجزة، فلا تصح معلقة، كما لو قال: إذا حصل كذا فقد راجعتك.
هذه ستة شروط لا بد من توافرها حتى تكون الرجعة شرعية وقد اشترط بعض العلماء شرطاً سابعاً: وهو أن يقصد الزوجان بالرجعة الإصلاح لأن الله تعالى يقول: إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَـ?حاً [البقرة:228]، وهذا مذهب شيخ الاسلام قال رحمه الله: "لا يمكّن من الرجعة إلا من أراد إصلاحاً وإمساكاً بمعروف".
أيها المسلمون، وتحصل الرجعة بلفظ: راجعت امرأتي، ونحو ذلك مثل: رددتها أو أمسكتها أو أعدتها وما أشبه ذلك. وتحصل الرجعة أيضاً بوطئها إذا نوى به الرجعة على الصحيح، ويسن أن يشهد على ذلك، لأن المرء عرضة للنسيان مع طول الوقت والزمان قال الله تعالى: وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مّنكُمْ [الطلاق:2].
والمطلقة الرجعية زوجة ما دامت في العدة، لها ما للزوجات من نفقة وكسوة ومسكن، وعليها ما على الزوجات من لزوم المسكن والطاعة، ويرث كل منهما الأخر إذا مات في العدة، وله السفر والخلوة بها.
وتنتهي وقت الرجعة بانتهاء العدة، فإذا طهرت الرجعية من الحيضة الثالثة لم تحل له إلا بنكاح جديد بولي وشاهدين عدول. وإذا استوفى ما يملك من الطلاق حرمت عليه حتى يطأها زوج غيره بنكاح صحيح قال الله تعالى: فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى? تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ ?للَّهِ [البقرة:230].
(1/2931)
العشر الأواخر من رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الدعاء والذكر, الصوم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
19/9/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفاوت أحوال الناس في رمضان. 2- دعوة لاغتنام العشر الأخير. 3- من عبادات العشر
الأخير القيام والدعاء. 4- الاعتكاف من عبادات العشر الأخير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فها هي أيام رمضان تسارع مؤذنة بالانصراف والرحيل، وها هي أيام العشر تحل لتكون الفرصة الأخيرة لمن فرط في أول الشهر، أو لتكون التاج الخاتم لمن أصلح ووفى فيما مضى.
أيها الأحبة، العشر الأخيرة من شهر رمضان سوق عظيم يتنافس فيه العاكفون وموسم يضيق فيه المفرّطون، وامتحان تبتلى فيها الهمم، ويتميز أهل الآخرة من أهل الدنيا، طالما تحدث الخطباء وأطنب الوعاظ وأفاض الناصحون بذكر فضائل هذه الليالي، ويستجيب لهذا النداء الحاني قلوب من خالط الإيمان بشاشتها، فسلكت هذه الفئة المستجيبة طريق المؤمنين، وانضمت إلى قافلة الراكعين الساجدين، واختلطت دموع أصحابها بدعائهم في جنح الظلام، وربك يسمع ويجيب، وما ربك بظلام للعبيد.
أما الفئة الأخرى فتسمع النداء وكأنه لا يعنيها، وتسمع المؤمنين وهم يصلون في القيام لخالقهم وكأنه ليس لهم حاجة بل كأنهم قد ضمنوا الجنة.
فهل يتأمل الشاردون؟ وهل يعيد الحساب المفرطون؟.
أيها المسلمون، هذه أيام شهركم تتقلص، ولياليه الشريفة تتقضَّى، شاهدة بما عملتم، وحافظة لما أودعتم، هي لأعمالكم خزائن محصنة، ومستودعات محفوظة، تدعون يوم القيامة: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ [آل عمران:30]، ينادي ربكم: ((يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)). هذا هو شهركم، وهذه هي نهاياته، كم من مستقبل له لم يستكمله؟ وكم من مؤمل يعود إليه لم يدركه. هلا تأملتم الأجل ومسيره، وهلا تبينتم خداع الأمل وغروره.
أيها المسلمون، إن كان في النفوس زاجر، وإن كان في القلوب واعظ، فقد بقيت من أيامه بقية. بقيةٌ وأي بقية، إنها عشره الأخيرة. بقية كان يحتفي بها نبيكم محمد أيما احتفاء. في العشرين قبلها كان يخلطها بصلاة ونوم فإذا دخلت العشر شمر وجد وشد المئزر. هجر فراشه، أيقظ أهله، يطرق الباب على فاطمة وعلي رضي الله عنهما قائلاً: ((ألا تقومان فتصليان)) يطرق الباب وهو يتلو: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه:132]، ويتجه إلى حجرات نسائه آمراً وقائلاً: ((أيقظوا صواحب الحجر، فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة)). كان النبي إذا بقي من رمضان عشرة أيام لا يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه.
أيها المسلمون، اعرفوا شرف زمانكم، واقدروا أفضل أوقاتكم، وقدموا لأنفسكم، لا تضيعوا فرصة في غير قربة.
إحسان الظن ليس بالتمني، ولكن إحسان الظن بحسن العمل، والرجاء في رحمة مع العصيان ضرب من الحمق والخذلان، والخوف ليس بالبكاء ومسح الدموع ولكن الخوف بترك ما يخاف منه العقوبة.
أيها الأحبة، قدموا لأنفسكم وجدوا وتضرعوا. تقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: يا رسول الله: أرأيت إن علمت ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال قولي: ((اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)).
نعم أيها الإخوة، الدعاء الدعاء. عُجُّوا في عشركم هذه بالدعاء. فقد قال ربكم عز شأنه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. أتعلمون من هم هؤلاء العباد؟ الخلائق كلهم عباد الله. ولكن هؤلاء عباد مخصوصون إنهم العباد من أهل الدعاء، عباد ينتظرون الإجابة، إنهم السائلون المتضرعون، سائلون مع عظم رجاء ومتضرعون في رغبة وإلحاح: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ.
إن للدعاء ـ أيها الإخوة ـ شأناً عجيباً، وأثراً عظيماً في حسن العاقبة، وصلاح الحال والمآل والتوفيق في الأعمال والبركة في الأرزاق.
أرأيتم هذا الموفق الذي أدركه حظه من الدعاء ونال نصيبه من التضرع والالتجاء يلجأ إلى الله في كل حالاته، ويفزع إليه في جميع حاجاته، يدعو ويدعى له، نال حظه من الدعاء بنفسه وبغيره، والداه الشغوفان، وأبناؤه البررة والناس من حوله كلهم يحيطونه بدعواتهم، أحبه مولاه فوضع له القبول، فحَسُن منه الخلق وزان منه العمل، فامتدت له الأيدي وارتفعت له الألسُن تدعو له وتحوطه، ملحوظ من الله بالعناية والتسديد، وبإصلاح الشأن مع التوفيق.
أين هذا من محروم مخذول لم يذق حلاوة المناجاة، يستنكف عن عبادة ربه، ويستكبر عن دعاء مولاه. محروم سد على نفسه باب الرحمة، واكتسى بحجب الغفلة.
أيها الإخوة، إن نزع حلاوة المناجاة من القلب أشد ألوان العقوبات والحرمان. ألم يستعذ النبي من قلب لا يخشع وعين لا تدمع ودعاء لا يسمع؟.
إن أهل الدعاء الموفقين حين يعُجُّون إلى ربهم بالدعاء، يعلمون أن جميع الأبواب قد توصد في وجوههم إلا باباً واحداً هو باب السماء. باب مفتوح لا يغلق أبداً، فتحه من لا يرد داعياً ولا يخيب راجياً. فهو غياث المستغيثين، وناصر المستنصرين، ومجيب الداعين.
أيها المجتهدون، يجتمع في هذه الأيام أوقات فاضلة وأحوال شريفة. العشر الأخيرة، جوف الليل من رمضان، والأسحار من رمضان، دبر الأذان والمكتوبات، أحوال السجود، وتلاوة القرآن، مجامع المسلمين في مجالس الخير والذكر، كلها تجتمع في أيامكم هذه. فأين المتنافسون؟ فاجتهدوا بالدعاء رحمكم الله سلوا ولا تعجزوا ولا تستبطئوا الإجابة.
فيعقوب عليه السلام فَقَدَ ولده الأول ثم فقد الثاني في مدد متطاولة، ما زاده ذلك بربه إلا تعلقاً: عَسَى ?للَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ?لْعَلِيمُ ?لْحَكِيمُ [يوسف:83]، ونبي الله زكريا عليه السلام؛ كبر سنه واشتعل بالشيب رأسه ولم يزل عظيم الرجاء في ربه حتى قال محققاً: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً [مريم:4]، لا تستبطئ الإجابة يا عبد الله فربك يحب تضرعك، ويحب صبرك، ويحب رضاك بأقداره، رضاً بلا قنوط، يبتليك بالتأخير لتدفع وسواس الشيطان، وتصرف هاجس النفس الأمارة بالسوء، وقد قال نبيك محمد : ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي)).
أيها الإخوة، ويجمل الدعاء وتتوافر أسباب الخير ويعظم الرجاء حين يقترن بالاعتكاف، فقد اعتكف رسول الله هذه الأيام حتى توفاه الله.
عجيب هذا الاعتكاف في أسراره ودروسه؟. المعتكف، ذكرُ الله أنيسه، والقرآن جليسه، والصلاة راحته، ومناجات الحبيب متعته، والدعاء والتضرع لذته.
إذا أوى الناس إلى بيوتهم وأهليهم، ورجعوا إلى أموالهم وأولادهم لازم هذا المعتكف بيت ربه وحبس من أجله نفسَه، ويقف عند أعتابه يرجو رحمته ويخشى عذابه، لا يطلق لسانه في لغو ولا يفتح عينه لفحش ولا تتصنت أذنه لبذاءٍ. سلم من الغيبة والنميمة، جانب التنابز بالألقاب، والقدح في الأعراض، ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة، استغنى عن الناس وانقطع عن الأطماع، علم واستيقن أن رضا الناس غاية لا تدرك.
في درس الاعتكاف انصرف المتعبد إلى التفكير في زاد الرحيل وأسباب السلامة، السلامة من فضول الكلام، وفضول النظر، وفضول المخالطة.
في مدرسة الاعتكاف يتبين للعابد أن الوقت أغلى من الذهب فلا يبذله في غير حق، ولا يشتري به ما ليس بحمد، يحفظه عن مجامع سيئة، بضاعتها أقوال لا خير في سماعها، ويتباعد به عن لقاء وجوه لا يسر لقاؤها.
أيها المسلمون، أوقاتكم فاضلة تشغل بالدعاء والاعتكاف، وتستغل فيها فرص الخير وإن من أعظم ما يرجى فيها ويتحرى ليلة القدر: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ [القدر:2]، من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.
ليلة خير من ألف شهر، خفي تعينها اختباراً وابتلاء، ليتبين العاملون وينكشف المقصرون، فمن حرص على شيء جدّ في طلبه، وهان عليه ما يلقى من عظيم تعبه. إنها ليلة تجري فيها أقلام القضاء بإسعاد السعداء وشقاء الأشقياء: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4]، ولا يهلك على الله إلا هالك.
فاتقوا الله رحمكم الله، واعملوا وجددوا وأبشروا وأملوا. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ وَ?لرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ سَلَـ?مٌ هِىَ حَتَّى? مَطْلَعِ ?لْفَجْر [سورة القدر].
نفعني الله وإياكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عظم شأنه ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره، عمّ امتنانه وجزل إحسانه، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس، أوصيكم بتقوى الله عز وجل فإن تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلفٌ: إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّ?لَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون [النحل:128].
أيها المسلمون، أيامكم هذه أعظم الأيام فضلاً وأكثرها أجراً، تصفو فيها لذيذ المناجاة، وتسكب فيها غزير العبرات، كم لله فيها من عتيق من النار؟ وكم فيها من منقطع قد وصلته توبته؟ المغبون من انصرف عن طاعة الله، والمحروم من حرم رحمة الله، والمأسوف عليه من فاتت فرص الشهر، وفرط في فضل العشر، وخاب رجاؤه في ليلة القدر، مغبون من لم يرفع يديه بدعوة، ولم تذرف عينه بدمعة، ولم يخشع قلبه لله لحظة. ويحه ثم ويحه أدرك الشهر. ألم يحظ بمغفرة؟ ألم ينل رحمة؟ يا بؤسه ألم تقل له عثرة؟ ساءت خليقته وأحاطت به خطيئته، قطع شهره في البطالة وكأنه لم يبق للصلاح عنده موضع، ولا لحب الخير في قلبه منزع. طال رقاده حين قام الناس؟ هذا والله غاية الإفلاس. عصى رب العالمين، واتبع غير سبيل المؤمنين؟ أُمر بالصلاة فضيعها، ووجبت عليه الزكاة فانتقصها ومنعها؟ دعته دواعي الخير فأعرض عنها، مسئولياته قصّر فيها، وقصّر فيمن تحت يديه من بنين وبنات يفرط في مسئولياته وقد علم أن من سنة نبيكم أنه يوقظ أهله. أما هذا فقد اشتغل بالملهيات وقطع أوقاته في الجلبة في الأسواق والتعرض للفتن. فاتقوا الله رحمكم الله وقوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة فإن الشقي من حرم رحمة الله.
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا..
اللهم تقبل منا الصيام والقيام وسائر الأعمال..
(1/2932)
الغيرة على الأعراض
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
26/6/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغيرة من الأخلاق الفطرية. 2- الغيرة عند العرب في الجاهلية. 3- الإسلام يؤكد على هذا
الخلق الرفيع. 4- نماذج من غيرة الصحابة. 5- ذهاب الغيرة من كثير من المسلمين. 6-
أسباب ضعف الغيرة. 7- شرائع إسلامية لصيانة المجتمع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: حديثي إليكم اليوم عن أمر يهم الرجل والمرأة، بل يهم الأسرة المسلمة، أمرٌ بدأنا نشاهد تناقصه وتلاشيه في بعض الأحيان، ألا وهو ضعف الغيرة على الأعراض. أمر يستحق النقاش والطرح بكل صراحة، لأن التساهل فيه يهدد المجتمع بأسره.
أيها المسلمون، لقد كان العرب في الجاهلية يعدون المرأة ذروة شرفهم، وعنوان عرضهم، ولذلك فقد تفننوا في حمايتها والمحافظة عليها، والدفاع عنها زوجة وأماً، ابنةً وأختاً، قريبةً وجارة، حتى يظل شرفهم سليماً من الدنس، ويبقى عرضهم بعيداً عن أن ُيمس. ولم يكن شيء يثير القوم كالاعتداء على نسائهم أو المساس بهنّ، ولذلك كانوا يتجشمون في الدفاع عنهنّ كل صعب، لقد كانت الغيرة تولد مع القوم وكأنهم رضعوها فعلاً مع لبان الأمهات.
وفي بيئة العرب التي قامت فيها الأخلاق على الإباء والاعتزاز بالشرف كان لابد للرجال والنساء من العفة ومن التعفف، لأن العدوان على العرض يجر الويلات والحروب، وكان لابد من الغيرة على العرض حتى لا يخدش.
والعفة شرط من شروط السيادة فهي كالشجاعة والكرم، وكان العرب أغير من غيرهم لأنهم أشد الناس حاجة إلى حفظ الأنساب، ولذلك قيل: كل أمة وُضعت الغيرة في رجالها، وُضعت الصيانة في نسائها. وقد وصل العرب في الغيرة أن جاوزوا الحد، حتى كانوا يئدون بناتهم مخافة لحوق العار بهم من أجلهنّ. وأول قبيلة وأدت من العرب قبيلة ربيعة، وذلك أنهم أُغِيرَ عليهم فنهبت بنت لأمير لهم، فاستردها بعد الصلح، وخُيّرَت على رضى منها بين أبيها ومن هي عنده، فاختارت من هي عنده، فغضب والدها وسن لقومه الوأد ففعلوه غيرةً منهم، وشاع الوأد في العرب بعد ذلك. حتى جاء الإسلام وحرمها وَإِذَا ?لْمَوْءودَةُ سُئِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8، 9].
ومن نخوة العرب وغيرتهم أنه كان من عادتهم إذا وردوا المياه أن يتقدم الرجال والرعاء، ثم النساء، حيث يغسلن أنفسهنّ وثيابهنّ ويتطهرن آمنات، ممن يزعجهنّ، فمن تأخر عن الماء حتى تصدر النساء فهو الغاية في الذل.
وقد أشاد الشعراء بعفة النساء وتمنعهنّ ووفائهنّ، قال علقمة بن عبدة:
منعمةٌ ما يستطاع كلامها على بابها من أن تزار رقيب
إذا غاب فيها البعل لم تفش سره وترضى إياب البعل حين يئوب
وكانوا يفخرون بغض البصر عن الجارات، ويعتبرون ذلك من العفة والغيرة على الأعراض، كان كشف الستر بجارح النظرات، وهتك الأعراض بخائنة الأعين، وفضح الأسرار باستراق السمع يترفع عنه كل عفيف، وما أجمل قول عروة ابن الورد:
وإن جارتي ألوت رياحٌ ببيتها تغافلتُ حتى يُستر البيت جانبه
وقول عنترة:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
أيها المسلمون، كان هذا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام حمد الغيرة، وشجع المسلمين عليها، ذلك أنها إذا تمكنت في النفوس كان المجتمع كالطود الشامخ حميةً ودفاعاً عن الأعراض.
إنها الغيرة يا عباد الله، الغيرة على الأعراض وحماية حمى الحرمات.
إن كل امرئٍ عاقلٍ، بل كل شهم فاضل لا يرضى إلا أن يكون عرضه محل الثناء والتمجيد، ويسعى ثم يسعى ليبقى عرضه حرماً مصوناً لا يرتع فيه اللامزون، ولا يجوس حماه العابثون.
إن كريم العرض ليبذل الغالي والنفيس للدفاع عن شرفه، وإن ذا المروءة يقدم ثروته ليسد أفواهاً تتطاول عليه بألسنتها أو تناله ببذيء ألفاظها، نعم إنه ليصون العرض بالمال، فلا بارك الله بمال لا يصون عرضاً.
بل لا يقف الحد عند هذا، فإن صاحب الغيرة ليخاطر بحياته ويبذل مهجته، ويعرض نفسه لسهام المنايا عندما يُرجم بشتيمة تُلوّث كرامته. يهون على الكرام أن تصان الأجسام لتسلم الأعراض. وقد بلغ ديننا في ذلك الغاية حين قال نبينا : ((من قتل دون أهله فهو شهيد)).
أيها المسلمون، بصيانة العرض يتجلى صفاء الدين وجمال الإنسانية، وبتدنسه ينزل الإنسان إلى أرذل الحيوانات بهيمية. يقول ابن القيم رحمه الله: "إذا رحلت الغيرة من القلب ترحَّلت المحبة، بل ترحل الدين كله".
ولقد كان أصحاب رسول الله من أشد الناس غيرة على أعراضهم، روي عن رسول الله ذأنه قال يوماً لأصحابه: ((إن دخل أحدكم على أهله ووجد ما يُريبُه أَشْهَدَ أربعاً)) ، فقام سعد بن معاذ متأثراً، فقال يا رسول الله: أأدخل على أهلي فأجد ما يُريبُني انتظر حتى أُشهد أربعاً؟ لا والذي بعثك بالحق!! إن رأيت ما يُريبُني في أهلي لأطيحنَّ بالرأس عن الجسد، ولأضربنَّ بالسيف، وليفعل الله بي بعد ذلك ما يشاء؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)) والحديث أصله في الصحيحين.
من حُرم الغيرة حرم طُهر الحياة، ومن حرم طُهر الحياة فهو أحطُّ من بهيمة الأنعام. ولا يمتدح بالغيرة إلا كرام الرجال وكرائم النساء.
إن الحياة الطاهرة تحتاج إلى عزائم الأخيار، وأما عيشة الدَّعارة فطريقها سهل الانحدار والانهيار، وبالمكاره حفت الجنة، وبالشهوات حفَّت النار.
اسمع أخي المسلم إلى هذه القصة التي ذكرها البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، باب الغيرة لترى شيئاً من غيرة أولئك الرجال. تقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: تزوجني الزبير وماله في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضح وغير فرسه، فكنت أُعلّف فرسه وأستقي الماء وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئت يوماً والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، وكان أغير الناس، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت، فمضى فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه فأناخ لأركب، فاستحييت منه وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النوى كان أشد عليّ من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس فكأنما أعتقني " هذا نموذج من غيرة الصحابة رضي الله عنهم وهو الزبير رضي الله عنه، أما سعد بن عبادة، فغيرته عجب من العجب وقد عرف بين الأنصار بذلك، فإنه رضي الله عنه، ما تزوج امرأة قط إلا عذراء، ولا طَلّق امرأة فاجترأ رجل من الأنصار أن يتزوجها من شدة غيرته.
أين هؤلاء من بعض الرجال في زماننا هذا مع نسائهم، فالنساء أصبحن يملأن الشوارع والأسواق والبقالات، بل وفي كل مكان مليء بالرجال نجد مزاحمة النساء لهم، وهن متبرجات متهتكات سافرات عن الوجوه، قد وضعن على وجوههن جميع أنواع المساحيق والزينة، والعجيب في الأمر أنك ترى مع المرأة المتبرجة السافرة أخاها أو أباها أو زوجها، وهو يمشي معها ويضاحكها على مرأى من الناس، وهو مع ذلك لا يستحي من نفسه، ولا يخجل من مشاهدة الناس له، بل ولا يغار على زوجته أو ابنته أو أخته وقد خرجت سافرة متبرجة في أبهى زينة، قد عصت الله ورسوله، ترمقها أعين الذئاب الجائعة، وهو يعرضها بهذه الهيئة المبتذلة الخارجة عن الستر والحياء والعفة وكأنه لم يصنع شيئاً بدعوى التقدمية الديوثية.
وهذا مع كل أسف أصبح من المناظر المألوفة وغير المستنكرة، وإلاّ متى عُرف في مجتمعنا أن تكشف المرأة عن وجهها، فأين هي الغيرة على الأعراض؟ وإنك لتعجب أشد العجب عندما ترى رجلاً تقوده زوجته في البقالة تزاحم الرجال لتشتري ما تريد، وقد حسرت عن ذراعيها وكشفت عن وجهها أو عينيها، وهو معها كأنه مجرد خادم أو دمية لا يحرك ساكناً. فهل وصل بنا الحال يا أمة الإسلام أننا لا نستطيع شراء شيء من البقالة إلا مع الزوجة، وهل شراء المعلبات من البقالة يحتاج إلى خروج الأسرة كلها لتقضي ما بين العصر والمغرب أو ما بين المغرب والعشاء في البقالة وتزاحم الرجال فأين هي الغيرة على الأعراض؟ وأعجب من ذلك أن أصبح السائق في كثير من البيوت وكأنه أحد أفراد العائلة، تخرج المرأة معه ولوحدها إلى أي مكان تريد وولي أمرها غائب لا يسأل عنها، ولا يسألها متى خرجت وإلى أين ذهبت؟ فأين هي الغيرة على الأعراض؟.
وما عجبي أن النساء ترجلت ولكنّ تأنيث الرجال عجاب
بل من المناظر المزعجة والمؤلمة في هذا الباب، بابٌ تساهل فيه كثير من الرجال وذلك باصطحاب بناتهم ونسائهم إلى أماكن الترفيه العامة أو إلى أماكن تقام فيه العروض باسم الترفيه والسياحة، وهذه الأماكن معروفة بشدة الزحام واحتكاك الناس بعضهم ببعض، فيتجمع في المكان الواحد أحياناً أكثر من أربعة آلاف شخص وتخيل مثل هذا الوضع، ويأتي الرجل بمحارمه ويضعهم في وسط هذا المكان. ماذا تتوقع أن يفعل شاب مراهق وقد التصق جسده بجسد امرأة في مكان ضيق مزدحم؟ الأمر المتوقع معروف، وليس هذا المثال ضرباً من الخيال بل هو حكاية واقع مشاهد موجود، السؤال مرة أخرى أين هي الغيرة على الأعراض؟. وهل وصل موت الإحساس عند بعض الرجال إلى هذا الحد؟
هل تنتظر أيها الرجل حتى تأتيك بلية أو تصاب بمصيبة في عرضك حتى تنتبه. ولا أظن أنه يخفاكم كثرة جرائم الأعراض سواء كان برضى أو بغير رضى.
أيها المسلمون، إن لضعف وموت الغيرة في قلوب الرجال أسباباً عديدة، من ذلك ما جلبته مدنية هذا العصر من ذبح صارخ للأعراض، ووأدٍ كريه للغيرة، تعرض تفاصيل الفحشاء من خلال وسائل نشر كثيرة، بل إنه ليرى الرجل والمرأة يأتيان الفاحشة وهما يعانقان الرذيلة غير مستورين عن أعين المشاهدين، لقد انقلبت الحال عند كثير من الأقوام بل الأفراد والأسر حتى صار الساقطون الماجنون يُمثلون الأسوة والقدوة، وِسامَ افتخارٍ وعنوان رجولة.
هل غارت من النفوس الغيرة؟ وهل غاض ماؤها؟ وهل انطفأ بهاؤها؟ هل في الناس دياثة؟ هل فيهم من يقر الخبث في أهله؟ لا يدري الغيور من يخاطب؟ هل يخاطب الزواني والبغايا؟ وإلا فأين الكرام والحرائر؟.
وإن مما ساعد على هتك أسوار الغيرة عند كثير من الناس أيضاً ما ألفوه من أغانٍ ساقطة، وأفلام آثمة، وسهرات فاضحة، وقصص داعرة، وملابس خالعة، وعبارات مثيرة، وحركات فاجرة، ما بين مسموع ومقروء ومشاهد، في صور وأوضاع يندى لها الجبين في كثير من البلاد والأصقاع إلا من رحم الله، على الشواطئ والمتنزهات، وفي الأسواق والطرقات، فلا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل؟.
ما هذا البلاء؟ كيف يستسيغ ذوو الشهامة من الرجال، والعفة من النساء لأنفسهم ولأطفالهم، لفتيانهم ولفتياتهم، هذا الغثاء المدمّر من ابتكارات البث المباشر وقنوات الفضاء الواسع؟.
أين ذهب الحياء؟ وأين ضاعت المروءة؟ أين الغيرة من بيوت هَيأت لناشئتها أجواء الفتنة، وجرتها إلى مستنقعات التفسخ جراً، وجلبت لها محرضات المنكر تدفعها إلى الإثم دفعاً، وتدعُّها إلى الفحشاء دعّاً؟.
أيها المسلمون، إن طريق السلامة لمن يريد السلامة بعد الإيمان بالله ورحمته ينبع من البيت والبيئة. فهناك بيئات تُنبت الذل، وأخرى تُنبت العز، وثمة بيوتات تظلها العفة والحشمة، وأخرى ملؤها الفحشاء والمنكر. لا تحفظ المروءة ولا يسلم العرض إلا حين يعيش الفتى وتعيش الفتاة في بيت محتشم محفوظ بتعاليم الإسلام وآداب القرآن، ملتزم بالستر والحياء، تختفي فيه المثيرات وآلات اللهو والمنكر، يتطهر من الاختلاط المحرم.
فالغيرة الغيرة يا عباد الله، اعلموا أن الحمو الموت، واحذروا السائق والخادم وصديق العائلة وابن الجيران، ناهيك بالطبيب المريب والممرض المريض، وإياكم واحذروا الخلوة بالبائع والمدرس في البيت، حذار أن يظهر هؤلاء وأشباههم على عورات النساء. فذلكم اختلاط يتسع فيه الخرق على الراقع وتصبح فيه الديار من الأخلاق بلاقع.
أيها المسلمون، تأملوا لماذا وصفت المحصنات في القرآن بالغافلات ؟ وصفٌ لطيفٌ محمودٌ، وصفٌ يُجسد المجتمع البريء والبيت الطاهر الذي تشب فتياته زهراتٍ ناصعاتٍ لا يعرفن الإثم، إنهنّ غافلاتٍ عن ملوثات الطباع السافلة، فإذا كان الأمر كذلك فتأملوا كيف تتعاون الأقلام الساقطة والأفلام الهابطة لتمزق حجاب الغفلة هذا، ثم تتسابق وتتنافس في شرح المعاصي، وفضح الأسرار وهتك الأستار، وفتح عيون الصغار قبل الكبار. ألا ساء ما يزرون؟.
أيها المسلمون، إن لم تغاروا فاعلموا أن ربكم يغار، فلا أحدَ أغيرُ من الله من أجل ذلك حرم الفواحش، يا أمة محمد لا أحدَ أغيرُ من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، وربكم يمهل ولا يهمل، وإذا ضُيِّع أمر الله وذهبت على إثرها الغيرة من قلوب الرجال فلا تستنكر بعد ذلك الخيانات البيتية، والشذوذات الجنسية، وحالات الاغتصاب وجرائم القتل، وألوان الاعتداء؟. نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن إنه ولي ذلك والقادر عليه..
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: ومن أجل أن يكون المجتمع المسلم نظيفاً، أمر الإسلام بعدد من الأوامر والنواهي، ليحفظ هذا المجتمع طاهراً نقياً، وتصبح مظاهر الغيرة فيه جلية.
فمن علامات هذا النقاء: الحجاب، ولذلك فرض الله على المسلمات ستر مفاتنهن، وعدم إبداء زينتهن، يقول تعالى: وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، وقال تعالى: وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لاْولَى? [الأحزاب:33].
ومن علامات النقاء: تحريم الإسلام الدخولُ على النساء لغير محارمهم كما حرم الخلوة بهن، قال : ((إياكم والدخولُ على النساء)) فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: ((الحمو الموت)) والحمو أخو الزوج وما أشبهه من أقاربه. وقال : ((لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم)) فقام رجل فقال: يا رسول الله امرأتي خرجت حاجة، واكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ارجع فحج مع امرأتك)) رواه البخاري.
تطهير وتحصين لهذا المجتمع الفاضل، فلا خلوة ولا ريبة، وحتى الجهاد يؤمر الرجل بتأجيله من أجل أن يحج مع امرأته، فلا تسافر لوحدها.
ومن لوازم هذه الغيرة: الحياء، قال : ((الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة)) رواه ابن حبان. ومن ذلك أيضاً: غض البصر قال الله تعالى: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ [النور:30]، وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31]. قال صاحب الظلال رحمه الله: "إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين، والنظرة الخائنة والحركة المثيرة والزينة المتبرجة والجسم العاري كلها لا تصنع شيئاً إلا أن تُهيّج ذلك السعار الحيواني المجنون! وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الاستثارة، وإبقاء الدافع النظري العميق بين الجنسين سليماً" انتهى.
أيها المسلمون، لقد بدأت الأخلاق تتغير عند الكثيرين، مع ضعف الوازع الديني، وهجمة الغرب الشرسة، حتى بدت المظاهر المنحرفة عجيبة في العلاقات الاجتماعية والأخلاقية. ابتعد كثيرون عن الواقع النظيف، وحتى غيرة أهل الجاهلية، انحدرت وتلاشت في كثير من الأوساط، إذ أصبح الاختلاط بين ما يسمى بالأسر التقدمية شائعاً، حيث الأحاديث المشتركة، والموائد المختلطة بحجة أن هذا أخ الزوج أو ابن العمّ.
وختاماً: من كان فيه تهاون من ناحية إخراجه لأهله متبرجات وسافرات فعليه أن يتقي الله عز وجل وأن يعلم أنه قد ورد وعيد شديد فيمن لا يغار على أهله فقد روى النسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، العاق لوالديه والمرأة المترجلة، والديوث)) وهو حديث صحيح. والديوث: هو الذي لا يغار على أهله.
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا..
(1/2933)
اللهو المذموم والترفيه المباح
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الترفيه والرياضة, السياحة والسفر, الكبائر والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
7/3/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذم القرآن والسنة للهو والعبث. 2- خطورة الإعلام والتعليم ودورها في توجيه الأمة. 3-
من وسائل اللهو المحرمة الغناء. 4- أدلة تحريم الغناء. 5-الرياضة دورها في تحذير الشعوب.
6- النرد والورق من اللهو المحرم. 7- الترويح المباح وبعض صوره.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: تحدثنا فيما سبق عن بعض الأمور التي تحصل في إجازات الصيف وما قد يصاحب ذلك من بعض المخالفات والمحرمات، فكانت هناك خطبة عن السفر والسياحة وما قد يصاحبها من مخالفات ومنكرات وأمور لا ترضي الله عز وجل تحت مظلة السياحة، ثم كانت هناك خطبة عن الزواج وما قد يحصل فيها أيضاً من منكرات ومخالفات. وهذا أمر ثالث أيضاً غالباً ما يصاحب الصيف وإجازات المدارس وهو اللهو.
إن اللهو جاء في القرآن على وجه الذم والتقبيح قال تعالى: وَذَرِ الَّذِينَ ?تَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً.. [الأنعام:70]. وقال تعالى: وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ ?لاْخِرَةُ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأنعام:32]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((كل ما يلهو به الرجل باطل..)). فاللهو هو ما كان من الأعمال غير الجادة، وهو التلهي عن القيام بالأعمال الجادة النافعة.
وإن من وسائل الحركات المناهضة للأمة الإسلامية لجعلها تطرح المنهج الإسلامي ليحل محلها الأنظمة الغربية البائرة والمناهج الوضعية الفاشلة، التي اختلقها أولو الأهواء لصرف البشرية عن ربها وطريق خلاصها وسعادتها، وسائل من اللهو مختلفة ومتنوعة من مسرحيات ومسلسلات، وأغانٍ ومباريات وغيرها من وسائل اللهو التي تشكل قسطاً كبيراً من الدعوة إلى إشاعة الانحلال الأخلاقي، وأداة فعالة لاختطاف ألباب شبابنا ودفعه إلى دائرة الأهواء والإباحية والمسخ الفكري.
وتحت دعوى الترفيه البريء أُدخلت جيوش أخبث من جيوش الاحتلال العسكري، وهي أفواج المغنيين والمغنيات والممثلين والممثلات وأمثالهما من البغايا والراقصات وشُجع على إنشاء المسارح وفرق الغناء والتمثيل والملاهي المتنوعة. كل ذلك يشكل معولاً من معاول الهدم والتخريب لأسس وركائز النهضة الإسلامية المرتقبة في أي وقت وحين. إن هناك خطران يتهددان الأصالة الإسلامية والهوية المسلمة يحرمانها من الفطرة التي فطر الله الناس عليها:
أولاً: ما تقدمه مناهج التعليم المفرغة من الإيمان الحقيقي بالله والعمل الخالص لوجهه وبناء المجتمع الإسلامي على الأرض. والقائمة في معظم بلدان العالم الإسلامي إلا من رحم الله على مفاهيم الطبيعة والجبرية وصراع الأجيال والصراع الطبقي والتفسير المادي للتاريخ والخضوع للجنس وغيرها.
ثانياً: ما تقدمه وسائل اللهو المتمثلة في المسارح والإذاعة والقصص والروايات والمسلسلات والأغاني والطرب والقنوات الفضائية والآن شبكات الانترنت، أقول ما تقدمه هذه من مفاهيم ضالة وشبهات وشهوات وسموم وأساطير وخرافات وشركيات، هذه المفاهيم التي تستنكر قيم الإسلام الحقيقية والتي تحقق ذلك التمزق الخطير بين الرجل والمرأة والزوج والزوجة والابن والأب. والحديث بالتفصيل عن وسائل اللهو هذه حديث طويل، لكن سنعرّج على بعضها إبراءً للذمة وتحذيراً وتنبيهاً لأبناء الأمة أن يقعوا في شراكها وشباكها. فمن وسائل اللهو المحرمة والمنتشرة والتي أغرقت كثيراً من البيوت وأخذت بلب أعدادٍ من الشباب والشابات الغناء.. ذلكم الغناء الذي انتشر في بيوتات المسلمين وشوارعهم، بل وصل الأمر إلى إقامة حفلات غنائية ومهرجانات غنائية والله المستعان. قال الله تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [لقمان:60]، جاء في تفسير الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عن غير واحد من السلف أن المراد بهذه الآية هو الغناء. وقد حلف الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بالله الذي لا اله إلا هو ثلاث مرات أن المراد بلهو الحديث في هذه الآية هو الغناء.
وفي الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحرَ والحرير والخمر والمعازف)). فقوله عليه الصلاة والسلام: ((يستحلون)) يدل على أن هذه الأشياء أنها محرمة، وهي الحِر ـ أي الزنا ـ والحرير والخمر والمعازف.
أيها المسلمون، إنك لتعجب أحياناً من هذه الحفلات الغنائية التي تقام، وهذا اللهو والطرب الذي قد شغل به الصغير والكبير، فتسأل أهو للعز الذي يتمتع به المسلمون، أم هو للفتوحات التي حققوها في كل صعيد، مع أن الأصل في حق المسلمين عند تحقق أية نعمة أن يشكروها بطاعة الله، ولا يقابلوها بمعصية الله، فكيف إذا كان الوضع مقلوباً، تخلفٌ مع معصية. والله إن الواجب في حقنا البكاء على ما نعيشه من أوضاع، ولكن أين القلوب التي تبكي؟ أين هي؟ إنها شُغلت باللهو والطرب والغناء.
على عدم البكاء أخيّ فابكِ فما جدوى الحياة وأنت لاهِ
وما طعم الحياة بلا أنينٍ وما الدنيا بلا دمع وآهِ
أيها المسلمون، إن الوضع التي تعيشه أمتنا ومجتمعاتنا من الذل والهوان والضياع والشتات، ومن التخلف في كل مجال، ومن نقص في الكوادر في جميع التخصصات، فهل مثل هذه الأوضاع يدع مجالاً ووقتاً لعاقل أن يطرب ويغني ويلهو، فكيف إذا كان الإسلام بعد هذا كله يحرم الغناء والموسيقى أصلاً.
لقد كان فيما مضى إذا قيل: المسلمون، إذا ذكر: المسلمون، تذكر الناس القادة الجهابذة، والعلماء الربانيين، وعمالقة المسلمين في كل مجال، إذا قيل: المسلمون، تذكر الناس العز بن عبدالسلام وشيخ الإسلام ابن تيمية وأحمد بن حنبل وصلاح الدين الأيوبي، تذكر الناس سعداً وخالداً والمثنى، وغيرهم وغيرهم ممن نعجز عن حصرهم أو عدهم ممن قدموا وبذلوا لهذا الدين.
أما اليوم، وفي وقتنا هذا بالذات، فماذا يقدم للعالم من شخصيات ونماذج تمثل شخصية المسلمين الحقيقية، مع كل أسف لقد أبرز الإعلام شخصيات ونماذج في حقها أن تكون في ذيل القائمة بل حتى الذيل لا تستحقه، من مغنيين ومغنيات ولاعبين وأصحاب أقلام مشبوهة، وغيرهم ممن أُبرزوا وقدموا، على أنهم نماذج وشخصيات تمثل المسلمين، ولا يعني هذا أن الأمة قد عجزت عن إخراج رجال وقدوات وقادة، لا، الرجال موجودون، والقدوات موجودة، لكن منع من ظهورهم أسباب، صحيح أنهم ربما ليسوا بمستوى تلك النماذج السابقة لكنهم رجال وقدوات وقادة يستحقون أن يُقدموا.
فيا عبد الله، ما هو موقفك أمام الله عز وجل يوم القيامة إذا فتحت صحيفتك، وإذا هي مليئة بما سمعته أذناك من الأغنية الفلانية، والمغني الفلاني. تنشر صحيفتك أمام الناس وإذا بكلمات الغناء أضعاف أضعاف كلمات القرآن، كيف يجتمع في القلب الواحد الضدان والنقيضان، وحي الرحمن ووحي الشيطان، إن الغناء وحي الشيطان، والقرآن وحي الرحمن، ولو اجتمع الضدان في مكان واحد فلا بد أن يطرد أحدهما الآخر، لا يمكن أخي المسلم أن تكون محباً للألحان ومحباً للقرآن في آن.
فاتقوا الله أيها المسلمون قبل أن نندم في يوم لا ينفع فيه الندم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
إن البيوت التي كان يتلى فيها كتاب الله تعالى وترتفع فيها أصوات التهليل والتكبير والتسبيح قد أصبحت مراقص من خلال القنوات والإذاعات لا يسمع فيها طوال الليل والنهار إلا الزمر والتصفيق وأنغام الشياطين من الزور والباطل. إن الأسر والعائلات الإسلامية التي كان إذا جهر بين أفرادها بلفظة سوء أو بعبارة بذيئة تمعرت وجوه الجالسين منهم حياءً وخجلاً، وتفرقوا يبكون من الحياء والاحتشام، أصبحت هذه الأسر تجتمع وهي تنظر وتسمع للغناء والموسيقى، وكلها ألفاظ عشق وفحش وغرام، مع مناظر أقرب ما تكون للعريّ ثم يتفرقون، وكأن الأمر طبيعي جداً.
روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى حرم على أمتي الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام)) والكوبة: هي الطبلة الصغيرة، والغبيراء: آلة من آلات الطرب أشبه ما تكون بالطنبور. وسأل الإمام مالك رحمه الله، سأله تلميذه ابن القاسم عن الغناء فأجابه قائلاً: قال الله تعالى: فَمَاذَا بَعْدَ ?لْحَقّ إِلاَّ ?لضَّلاَلُ [يونس:32]. أفحق هو؟ وقال أيضاً رحمه الله: الغناء إنما يفعله الفساق عندنا. وسأل الإمام أحمد عنه فقال: الغناء ينبت النفاق في القلب فلا يعجبني.
فلنتق الله عباد الله، ولنحافظ على حسناتنا التي نتعب في جمعها، من خلال صلاة وصيام وصدقة وذكر وتلاوة ثم تحرقها يا عبد الله بأغنية تسمعها أو معصية تفعلها، فكن على حذر فإن العمر قصير والموت قريب والعذاب شديد والنار محرقة والبدن ضعيف.
أيها المسلمون، ومن الوسائل التي استخدمت في إلهاء الشعوب الرياضة، والحديث عنها طويل ومتشعب، فإن كان لابد من كلمة فليعلم بأن الرياضة من خلال واقعها اليوم يكسبنا قناعة تامة لا يشوبها أدنى شك في صيرورتها آلة تطويع وتوجيه لدواليب السياسة في معظم دول العالم، تتحكم فيها الحركات العالمية المعادية لحقوق الدول المستضعفة والمغلوبة على أمرها، وما هذا الضغط الإعلامي المثقل بسيل من المباريات الدولية والتي تبثها مختلف وسائل النقل التلفزي عبر شبكة الأقمار الصناعية من جميع أرجاء العالم وبعد حملة مكثفة من الدعاية لها والإعلانات المتوالية لمواعيدها قبل أسابيع من إجرائها إلا وسيلة من الوسائل التي تجد فيها الحركات المعادية والإمبريالية العالمية دواءً ناجعاً لتسكين آلام الضياع والبؤس والجهل والمرض التي تفتك بجسد الأمم المستضعفة وتعطي الأنظمة الغربية المزيد من ربح الوقت للاستمتاع بنشوة استعباد هذه الأمم إلى حد الرقص على جراحها ومواضع آلامها.
ومن اللهو المحرم لعبة النرد: وكانت تسمى في القديم بالنردشير نسبة إلى أول من وضعها، أحد ملوك الفرس. فعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير)) رواه مسلم. وعند أبي داود من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله)) ومن اللهو الذي حرمه جمع من العلماء لعبة الورق: بسبب انعدام المقاصد الإسلامية في هذه اللعبة فإنها لا تكسب مهارة جهادية، ولا خبرة علمية، ولا فائدة اجتماعية، ولا استراحة نفسية تهدأ فيها الأعصاب وترتاح بها النفوس، إنها لعبة مجردة من كل خير بل هي محض هرج وجدل وقتل للوقت، ترتكز على التخمين والحدس، فشابهت النرد وتفضي إلى الخصام والشجار، فشابهت الخمر والقمار، وفيها الإلهاء الشديد والصد عن ذكر الله.
أسأل الله تعالى أن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه..
أقول هذا القول..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن في جنس الإنسان جانباً آخر لابد من مراعاته، وحاجة غير حاجته إلى الجد والانضباط لا بد من إشباعها وأداء حقها ذلك الجانب هو الاستجمام والترويح والترفيه المباح. إن المواظبة على الحزم والجد في كل حال أمر شاق على النفس وتورث الملل والضيق ذلك لأن النفس مجبولة على المراوحة بين الأشياء، فهي تنتقل من عمل إلى آخر ومن قول إلى قول وتختلف فيما بين الجد والفكاهة وتجد راحتها في عمل ترغب في القيام به، ولا تكاد تتقنه حتى تمله وتبحث عن عمل آخر ولا تزال مصغية إلى قول معين، فإذا ملّت طلبت حديثاً من نوع آخر.
ولعل هذا التحول في النفس هو الذي يعنيه الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال توجيهه للصحابي الجليل حنظلة كما في صحيح مسلم: ((والذي نفسي بيده إنكم لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة)) قال الشيخ الأُبّي معلقاً على هذا الحديث: " سنة الله تعالى في عالم الإنسان أن فعله متوسط بين عالم الملائكة وعالم الشياطين، فمكّن الملائكة في الخير بحيث يفعلون ما يؤمرون ويسبحون الليل والنهار لا يفترون، ومكّن الشياطين في الشر والإغواء بحيث لا يغفلون، وجعل عالم الإنسان متلوناً، وإليه أشار صاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه بقوله: ((ولكن يا حنظلة ساعة وساعة)).
فيا عبد الله، فهناك الرحلات والتنزه في الخلوات مع المحافظة على الحشمة والستر، وهناك بعض الرياضات التي حث الإسلام عليها لنفعها في الدنيا والآخرة كالرماية، وهو استخدام نوع من السلاح والتصويب به نحو هدف معين كي يختبر قدرته على إصابة الهدف، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ.. [الأنفال:60]، ((ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي)) رواه مسلم في كتاب الإمارة، باب: فضل الرمي والحث عليه. وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه المحتسب في عمل الخير، والمعين به، والرامي به في سبيل الله عز وجل)) رواه أصحاب السنن.
ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم يخصصون ما بين العشاءين لتعلم الرماية، روى البخاري بسنده إلى رافع خديج قال: كنا نصلي المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا وإنه ليبصر مواقع نبله.
ومن الرياضات أيضاً السباحة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو أو سهو غير أربع خصال: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بين الغرضين، وتعليم السباحة)) رواه النسائي.
ومن الرياضات تعلم ركوب الخيل والمسابقة بينها قال صلى الله عليه وسلم: ((الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة)) أخرجه البخاري. وفي البخاري أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل أيها المسلمون، إن الإسلام دين جاد، بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، فليس هناك قتل للأوقات بدون فائدة، ثم إن عمر الإنسان ليس ملكاً له بل هو ملك لله استخلف فيه الإنسان ليوظفه في النهج الذي أمر به وربطه بسر وجود هذا الكون، فالإسلام يقوّم عمر الإنسان في هذه الحياة الدنيا بأنه أسمى وأغلى من أن يضيع فقراته بين لهو عابث سخيف لا قيمة له ولعب باطل لا يأتي من ورائه بمنفعة دنيوية طيبة أو أخروية نبيلة.
فالإسلام قد حرم بعض أنواع اللهو وحرم بعض الألعاب التي قد تمارس، لكنه أباح غيرها كثير ضمن ضوابط مثل خلوه من المحرمات وعدم إفضائه إليها وألاّ يصد عن أداء الواجبات الشرعية وألاّ يشمل على اعتداء على حرمة أو حق من حقوق الغير وعدم حدوث إسراف أو تبذير في أي مجال مالي وعدم اشتماله على كذب أو تزييف للحقائق وألاّ تؤدي هذه اللعبة إلى إشاعة مفاسد أو منكرات وعدم إثارتها للعداوة والبغضاء والصراعات، وأن يزاول في ظروف وأجواء إسلامية.
الإسلام دين جاد، ولو تأملنا في بعض أنواع الترفيه الذي أباحه الإسلام لرأينا أنها تحقق مقصداً من مقاصد الشريعة من تأليف القلوب الناس على الإسلام أو التلطف معهم في سبيل ربطهم بأعمال جادة وهادفة أو إعداد القوة والعدة لمواجهة التحديات عسكرية كانت أو مدنية أو إعلام الناس بسماحة الإسلام ويسر تكاليفه أو غيرها من المقاصد النبيلة والأهداف السامية.
اللهم علمنا ما ينفعنا..
(1/2934)
الوقف نظرات وأحكام
فقه
الزكاة والصدقة, الهبة والهدية والوقف
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
20/5/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسلام دين التكافل. 2- أهمية المال وضبط الإسلام طريقة توزيعه. 3- حق الفقراء في
أموال الأغنياء. 4- الحث على عبادة الوقف. 5- تطبيق المسلمين لهذه العبادة. 6- صور
متعددة للأوقاف. 7- الوقف عمل يقدمه المرء لآخرته. 8- وصايا للواقفين ونظار الأوقاف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: الإسلام دين الكمال والشمول، كمال وشمول يساير متطلبات الفرد وحاجات الأمة، ويحقق العزة والكرامة لأهل الإسلام في دارهم الدنيا والدار الآخرة، دين يحقق كل أواصر التكافل بين المسلمين، وكل أنواع التعاون بين المؤمنين، حوى كل سبل الخير، وشمل جميع أنواع البر قال الله تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة:2].
أيها المسلمون، إن في الناس قدرات وطاقات، والله قد قسم هذه القدرات والطاقات بين الناس ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون.
الناس بحكمة الله ورحمته وعدله يختلفون فيما أعطاهم الله من ملكات وطاقات، في هممهم وأعمالهم، في عقولهم وجهودهم، منهم من يفتح الله على يديه ويرزقه من حيث لا يحتسب، يوسع عليه في رزقه ويبسط له في ماله، وفئات أخرى قد قُدِر عليها رزقها، وقلّت مواردها، إما لنقص في قدراتها، أو عجز في مدركاتها، وإما لإعاقات في أبدانها، فهناك الصّغار والقصّار، وهناك أصحاب العاهات والإعاقات، لا يقدرون على مباشرة حرف، ولا يحسنون صنائع. ولله في ذلك تقدير وحكمة، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
أيها المسلمون، لقد أصبح المال عصب الحياة، ولهذا فإن الله جلت قدرته نظّم لكم التصرف في هذه الأموال اكتساباً وتصريفاً، فبين لكم كيف تكتسبونها وكيف تتصرفون فيها وتصرفونها، نظم ذلك لكم في حياتكم وبعد مماتكم، ففي حياة الإنسان يستطيع الحر المكلف الرشيد العاقل أن يتصرف في ماله بيعاً وشراءً وإجارةً ورهناً ووقفاً وهبةً ووصيةً، على حسب الحدود الشرعية التي بينها الشارع. وبعد ممات الإنسان حَفِظ الله له المال بأن تولى قَسمه بنفسه على أولى الناس به، ففرَض المواريث وقسّمها فقال جل وعز: ءابَاؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مّنَ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:11]. وأخبر أن هذه حدوده فقال: وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَرُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَـ?لِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:13، 14].
عباد الله، إن التعاون في أعلى صوره، والرحمة بالناس في أجمل معانيها يتجسد في الاهتمام بالضعفاء من عباد الله. إن لهؤلاء الضعفاء حقاً في أموال من بسط الله عليه من أصحاب الثروات المتنامية، حق في الزكوات وحق في الصدقات. أيها المسلمون، إن الإحسان في الإسلام واسع الأبواب متعدد الطرق متنوع المسالك لَّيْسَ ?لْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ?لْمَشْرِقِ وَ?لْمَغْرِبِ وَلَـ?كِنَّ ?لْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَ?لْمَلَئِكَةِ وَ?لْكِتَـ?بِ وَ?لنَّبِيّينَ وَءاتَى ?لْمَالَ عَلَى? حُبّهِ ذَوِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ وَ?بْنَ ?لسَّبِيلِ وَ?لسَّائِلِينَ وَفِي ?لرّقَابِ وَأَقَامَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَى ?لزَّكَو?ةَ وَ?لْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـ?هَدُواْ وَ?لصَّابِرِينَ فِى ?لْبَأْسَاء و?لضَّرَّاء وَحِينَ ?لْبَأْسِ أُولَئِكَ ?لَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُتَّقُونَ [البقرة:177].
أيها المسلمون، وهذه وقفة مع صورة كبرى من صور البر والإحسان في الإسلام، صورة تغطي جانباً من جوانب التكافل، وتعالج معالجة حقيقية لكثير من حاجات المجتمع واحتياجاته، وغُصصه وآلامه، صورة تبرز ما للمال من وظيفة اجتماعية، تحقق الحياة الكريمة، وتدفع وطأة الحاجة، وينعم المجتمع كله بنعمة الأخوة الرحيمة والإلفة الكريمة. صورة يجد فيها الفقير المحتاج في مجتمعه من يشاطره همومه وآلامه، ويفرّج عنه أحزانه وغمومه، تلكم أيها الإخوة الأوقاف والأحباس. حقيقة طالما غابت عن أذهان كثير من المسلمين ممن أنعم الله عليهم بشيء من المال. فغالب الناس اليوم لا يعرفون إلا الوصية ولا يعرفون الوقف.
الوقف ـ يا عباد الله ـ من أفضل الصدقات وأجل الأعمال وأبر الإنفاق، وكلما كان الوقف أقرب إلى رضوان الله وأنفع لعباد الله كان أكثر بركة وأعظم أجراً الوقف في الدنيا برٌ بالفقراء والأصحاب، وفي الآخرة تحصيلٌ للثواب وطلبٌ للزلفى من رب الأرباب.
كم ستعيش يا عبد الله، يا من تملك شيئاً من المال في هذه الدنيا، هل فكرت أن تنفع نفسك وتوقف شيئاً من مالك لله ينفعك في قبرك ويوم معادك.
هل تعلم بأن الوقف انتفاع لك دائم متواصل، على طبقات المحتاجين من الأقربين والأبعدين، من الأحياء والميتين؟ إنه عمل صالح ومسلك رابح.
الوقف: وعاءٌ يصب فيه خيرات العباد، ومنبع يفيض بالخيرات على البلاد والعباد، تتحقق به مصالح خاصة ومنافع عامة.
الأوقاف: تُجسّد مسئولية القادرين على القيام بمسئولياتهم وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ?للَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ?لْفَسَادَ فِى ?لأرْضِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [القصص:77].
الوقف: إحسان بالمال والقول والعمل.
في الوقف: ضمان لحفظ المال ودوام للانتفاع به وتحقيق للاستفادة منه مُدداً طويلة وآماداً بعيدة.
أيها المسلمون، لقد ذكر التاريخ الإسلامي في المجال التطبيقي لفكرة الوقف كثيراً من الأوقاف التي تبارى المحسنون من المسلمين في كل أقطارهم وعصورهم وعلى اختلاف مذاهبهم في إنشائها على جهات البر الكثيرة التي ما زال كثير منها قائماً حتى اليوم.
فمنذ أيام الإسلام الأولى بادر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بوقف جزءٍ من أموالهم، وحبس أشياء من دورهم وعقارهم. فها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في طرق الخير ووجوه البر قائلاً يا رسول الله: إني أصبت مالاً بخيبر لم أُصب مالاً أنفس عندي منه فما تأمرني. فقال عليه الصلاة والسلام: ((إن شئت حبّست أصلها وتصدقت بها غير أن لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث)). قال: فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضعيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقاً غير متمولٍ فيه، متفق عليه.
وهذا أبو طلحة رضي الله عنه كان أكثر أنصاريّ المدينة مالاً وكان أحب ماله إليه بيرحاء، مستقبل المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماءٍ طيب فيها. قال أنس بن مالك رضي الله عنه فلما نزل قوله تعالى: لَن تَنَالُواْ ?لْبِرَّ حَتَّى? تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله إن الله تعالى يقول: لَن تَنَالُواْ ?لْبِرَّ حَتَّى? تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عنده، فضعها حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بخٍ بخٍ ذلك مال رابح وقد سمعتُ ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)) ، فقال أبو طلحة أفعل ذلك يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
وأوقف أبو بكر رضي الله عنه رباعاً له في مكة على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله وذوي الرحم القريب والبعيد.
وأوقف عثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر والزبير رضي الله عنهم أجمعين.
ومن أمهات المؤمنين أوقفت عائشة وأم سلمة وصفية وأم حبيبة رضي الله عنهن. وخالد بن الوليد رضي الله عنه احتبس أدرعه وأعتاده في سبيل الله.
يقول جابر رضي الله عنه: ما بقي أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له مقدرة إلاّ وَقف. وقال الشافعي رحمه الله: وأكثر دور مكة وقف.
ثم سار من بعدهم الأغنياء والموسورون من المسلمين فأوقفوا الأوقاف وأشادوا الصروح، بنوا المساجد، وأنشؤوا المدارس وأقاموا الأربطة، ولو تأملت دقيق التأمل لرأيت أن هؤلاء القادرين الأخيار والأغنياء الأبرار لم يدفعهم إلى التبرع بأنفس ما يجدون وأحب ما يملكون ولم يتنازلوا عن هذه الأموال الضخمة والثروات الهائلة إلا لعظم ما يرجون من ربهم ويأمّلون من عظيم ثواب مولاهم ثم الشعور بالمسئولية تجاه الجماعة والأقربين يدفعهم كل ذلك إلى أن يرصدوا الجزيل من أموالهم ليستفيد إخوانهم أفراداً وجماعات، جمعيات وهيئات، أقرباء وغرباء.
قال بعض أهل العلم: الوقف شرع لمصالح لا توجد في سائر الصدقات فإن الإنسان ربما صرف مالاً كثيراً ثم يفنى هذا المال ثم يحتاج الفقراء مرة أخرى أو يأتي فقراء آخرون فيبقون محرومين، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء وقفاً للفقراء وابن السبيل يصرف عليهم من منافعه ويبقى أصله.
في الوقف تطويل لمدة الاستفادة من المال، فقد تُهيأ السبل لجيل من الأجيال لجمع ثروة طائلة، ولكنها قد لا تتهيأ للأجيال التي بعدها. فبالوقف يمكن إفادة الأجيال اللاحقة بما لا يضر الأجيال السابقة.
أيها المسلمون، الوقف ليس محصوراً ولا مقصوراً على الفقراء والمساكين كما يظن البعض، ويظن أنها أعظم أجراً من غيرها، ولكنها أوسع من ذلك وأشمل لقد كان للوقف أثر عظيم في نشر الدين وحمل رسالة الإسلام ونشاط المدارس والحركة العلمية في أقطار المسلمين وأقاليمهم في حركة منقطعة النظير غير متأثرة بالأحداث السياسية والتقلبات الاجتماعية، توفر للمسلمين نتاجاً علمياً ضخماً وتراثاً إسلامياً خالداً وفحولاً من العلماء برزوا في تاريخ الإسلام بل في تاريخ العالم كله. ففيها تحقيق مصالح للأمة وتوفير لكثير من احتياجاتها ودعم لتطورها ورقيها وصناعة حضارتها. إنه يوفر الدعم المادي للمشروعات الإنمائية والأبحاث العلمية، إنه يمتد ليشمل كثيراً من الميادين والمشروعات التي تخدم في مجالات واسعة وميادين متعددة ومتجددة.
إن المساجد لم تكن لتنتشر هذا الانتشار في تاريخ الإسلام كله إلا بطريق الأوقاف، أوقاف يصرف ريعها من أجل حفظ كتاب الله وطباعته ونشره، ويصرف في الدراسات القرآنية وخدمة علوم السنة وسائر فروع علوم الشريعة.
الأوقاف دعامة من الدعامات الكبرى للنهوض بالمجتمع ورعاية أفراده وتوفير الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية بالأوقاف، تبنى مصحّات ومستشفيات، يراعى فيها أحوال الفقراء وذوي الدخول المتدنية، تشاد بها دور وملاجئ وأربطة تحفظ اليتامى وتؤوي الأرامل وتقي الأحداث مصارع الضياع، نُزلٌ وفنادق تؤوي المنقطعين والمحتاجين من الغرباء وأبناء السبيل، مؤسسات إغاثية ترعى المنكوبين من المسلمين في كل مكان، صناديق وأوقاف لإعانة المعسرين وتسديد ديون المنقطعين. تقوم على الأوقاف مدارس وجامعات وعلوم وأبحاث، ذوي اليسار والغنى يمدون الهيئات والمؤسسات والصناديق الوقفية بأموالهم، والخبراء المتخصصون والمتفرغون الموثوقون يديرون هذه المؤسسات والصناديق بشروط دقيقة وأنظمة شاملة على ما يقتضيه الشرع المطّهر.
عن طريق الوقف انتشر في العالم الإسلامي المدارس والمكتبات والأربطة وحِلَق العلم والتأليف، وتحسنت بدعمها الأحوال الصحية للمسلمين وازدهر علم الطب، وأنشئت المستشفيات، إضافة إلى دَورها في دعم الحركة التجارية والنهضة الزراعية والصناعية وتوفير البنية الأساسية من طرق وقناطر وجسور. ناهيك عن تحقيق التكافل الاجتماعي والترابط الأسري وبناء المساكن للضعفاء ومساعدة المحتاجين، وتزويج الشباب غير القادرين، ورعاية المعوقين والمقعدين والعجزة، وبناء القبور وتجهيز لوازم التغسيل والتكفين للموتى.
أيها المسلمون، إن الإسلام في تاريخه وحضارته قد تميّز فيما تميّز، بما أبرزه المسلمون من أوقاف على مساجدهم ومدارسهم وطلبة العلم فيهم وذوي الحوائج منهم، مما كان له الأثر البالغ في نشر الإسلام وتنشئة المسلمين على العلم والصلاح وحفظ كرامة المحتاجين ورعاية الأقربين وحفظ أصول الأملاك، فأغنت بإذن الله وأغاثت وأعفّت، فعاشوا أعزةً لا يمدون يداً إلى لئيم.
أيها المسلمون، إن مال الإنسان الحقيقي هو ما قدمه لنفسه ذخراً عند ربه كما قال سبحانه: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى? كَمَا خَلَقْنَـ?كُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَـ?كُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94]، وفي الحديث الصحيح يقول ابن آدم: ((مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت وما سوى ذلك فذاهبٌ وتاركه للناس)) وفي الحديث الآخر: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به بعده أو ولد صالح يدعو له)) والإنسان ينتقل من دنياه غنياً عما خلّف فقيراً إلى ما قدّم قال الله تعالى: لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاِنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ?بْتِغَاء وَجْهِ ?للَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:272].
ففكر جيداً يا عبد الله في هذا الباب، فوالله إنه لباب عظيم من أبواب الخير، غفل عنه الكثيرون، أوقف يا عبد الله داراً صغيرةً، أو عمارةً هنا أو هناك، واجعل ريعها في أحد وجوه الخير التي سمعت تنفعك نفعاً عظيماً بإذن الله تعالى إذا خلصت النيات. واجعل على هذا الوقف شخصاً أو شخصين من أهل الخير والصلاح ممن عرفوا بالأمانة والنزاهة يرعون شؤونها ويديرون أمورها، يأتيك أجرك وأنت في قبرك، ويدعو لك كل من استفاد منها، وكلما كان الوقف متعدي النفع فهو أفضل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً نشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته)) رواه ابن ماجه. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده، فإن شعره وروثه وبوله في ميزان حسناته)) رواه ابن ماجه. هذا يا عباد الله أجر من أوقف فرساً فكيف بمن أوقف أكثر من ذلك.
أيها المسلمون، ومع العلم بأن الوقف من خصائص الإسلام إلا أننا نجد اليوم أن أهل الضلال والشرك من أصحاب الكنائس والأضرحة يعملون لدعم ونشر ضلالهم. إن المطّلع على أحوال المنصّرين الذين يجوسون خلال ديار المسلمين بغية إخراجهم من دينهم الحق وإدخالهم في دياجير ظلمة النصرانية يرى كم هم مجتهدون في إقامة الملاجئ والمدارس والمستشفيات والمستوصفات والمصانع ليَدخلوا إلى قلوب المسلمين تمهيداً لتنصيرهم من خلال إطعام جائعٍ، وكسوة عارٍ، ومداواة مريض. والمتتبع لنشاطاتهم وأحوالهم يجد أنهم قد اعتمدوا في تمويل مشاريعهم هذه على ريع الوقف الكبير الذي وقفه أبناء النصارى في العالم للكنائس، فأوقاف الفاتيكان وحدها تضم عدة بنوك وشركات صناعية واستثمارات كبرى ومناجم في عدة دول.
وفي المقابل نرى أن المشاريع الإسلامية خصوصاً الدعوية منها تعاني من اضطراب في الاستمرارية وعدم وضوح في مستقبلها المالي مما ينعكس سلباً على الدعوة الإسلامية لعدم وجود مورد مالي مستمر بسبب إحجام كثير من الموسرين من المسلمين عن وقف جزءٍ من أموالهم على مثل هذه المشاريع.
أيها المسلمون، هناك من يوقف شيئاً من ماله على أولاده وذريته من بين سائر الورثة ليؤمِّن لذريته مورداً ثابتاً يعينهم على نوائب الدهر وتقلبات الزمن فيحميهم بحد زعمه بإذن الله من الفاقة أخذاً من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)) بل إن بعض الأغنياء قد يتوجسون خيفةً من أن بعض الذرية لا يحسن التصرف في الثروة أو يخشى عليهم الخلاف والنزاع والفرقة، فيقول: من أجل مصلحتهم ومصلحة ذرياتهم أوقف بعض الأعيان والأصول ليحفظ الثروة من الضياع ويكف الأيدي من التلاعب، وبهذا يكون النفع مستمراً، والفائدة متصلة غير منقطعة.
وهذا العمل أيها الأحبة حرام ولا يجوز، لأنه داخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)) فكما لا يجوز لأحد أن يوصي لبعض ورثته دون بعض، لا بشيء من أعيان المال ولا بشيء من منافعه وغلاته فكذلك لا يجوز له أن يوقف شيئاً من ماله أو عقاره لبعض من له حق في الميراث. فإن الله تعالى قد فرض لكل وارث حقه ونصيبه من الميراث، وبناءً عليه فلا يجوز أن توصي لأولادك بوقف شيء من مالك عليهم وتدع بقية الورثة، فإن هذا تعدياً لحدود الله واقتطاعاً من حق بعض الورثة لورثة آخرين. فإذا قال الإنسان أوصيت بثلثي أو ببيتي أو بعقاري يكون وقفاً على أولادي وله ورثة غير الأولاد فهذه وصيةٌ لوارث وتعدٍ لحدود الله فيكون حراماً. عافانا الله وإياكم.
وهناك من يوقف كل ماله على جميع الورثة، وهذا أيضاً مما نهى عنه بعض العلماء لأن فيه حجر على الورثة فلا يستطيعون التصرف في شيء بعد موت الواقف، لكن لا بأس أن توقف شيئاً من المال أو العقار على جميع الورثة.
نفعني الله وإياكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي شرع لعباده من الطاعات ما يقربهم إلى رضوانه، ويرفع منازلهم في جنانه، والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة الذي جعل حياته ومماته وماله كله في سبيله، وعلى آله وأصحابه الذين تنافسوا في الخير ونالوه، وتسابقوا إلى البر وحازوه، وعلى من اهتدى بهديهم وعمل بسنتهم إلى يوم الدين.
أما بعد: ألا فليتق الله الواقفون ونظّار الأوقاف وليتحرَ الواقف في وقفه أن يكون مما يتقرب به إلى الله عز وجل مبتعداً عن المبتدعات والمحرمات مبتغياً في وقفه مرضاة الله متبعاً سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم معظماً حرمات الله، وليحذر مما يفعله بعض الواقفين من المقاصد السيئة الذين يجعلون من الوقف ذريعة من حرمان بعض الذرية فيحرمون البنات أو يجعلون القسمة ضيزى بين الذكور والإناث وَلْيَخْشَ ?لَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَـ?فاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ?للَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9]، لقد كثرت هذه المآثم حتى شوهت الأوقاف وأخفت في بعض الأحيان خيراتها ومنافعها.
أما نظّار الأوقاف والمتولون عليها فقد سلطهم الله على هذه الأوقاف ومكّنهم منها، فليتقوا الله فيما عُهد إليهم وما ائتُمنوا عليه من أموال المسلمين، فليحذروا غضب الله وسخطه يوم لا ينفع مال ولا بنون، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.
يا نظراء الأوقاف، إن في أعناقكم صغاراً وقصّاراً، وعجزةً وأرامل، لا يحسنون التصرف في الأموال ولا يقدرون على الإحسان في الأعمال بل لعلهم لا يعرفون ما الذي لهم. إن في أمانتكم فقراء في أشد الحاجة إلى سد العَوَز.
أيها المسلمون، إن الخونة من النظّار ومتولي الأوقاف أشد جرماً من اللصوص وقطّاع الطريق، إن اللص يحتال ويسرق من غيره، ولكن هؤلاء يسرقون مما هم مؤتمنون عليه. اللص ضرره على الأحياء، أما هذا فضرره على الأحياء والأموات اللص في الغالب لا يسرق إلا من أهل الثرى والغنى، أما هذا المجرم فيسطو على حقوق الأرامل واليتامى والمساكين، يقطع ما أمر الله به أن يوصل. ما أعظم ذنب الخونة هؤلاء وما أشد وزرهم جعلوا غلاّت الأوقاف نهباً لهم ولمن حام حولهم، فنهبت الأراضي وخرّبت الدور، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وعلى قضاة المسلمين وفقهم الله وأعانهم أو يولوا الأوقاف مزيد عناية في أهلها ومستحقيها وأصولها ونظّارها ومتوليها.
والمسلمون كلهم في الحق متضامنون ومتعاونون وعلى دفع الظلم والإثم متآزرون والجميع غداً بين يدي الله موقوفون وبأعمالهم مجزيون وعلى تفريطهم نادمون وَسَيَعْلَمْ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
أيها المسلمون، إن مما يوقف مسيرة الأوقاف أن تستمر، بل ويعطل نفعها إذا أصبحت تحت مظلة رسمية. فإن هذا يشلّ حركتها ويقطع نفعها، وإلاّ فأين أوقاف المسلمين مثلاً في بلاد الشام وأرض الكنانة وبلاد أفريقيا، بل أين هي أوقاف المسلمين في تركيا وبلاد الهند والسند وما وراء النهر، كم أوقف تجار المسلمين وأهل الخير منذ مئات السنين أشياء وأشياء في تلكم البلاد، وبقي المحتاجون ينتفعون منها. فأين هي الآن؟ ولماذا تعطلت؟ ولماذا المسلمون في تلكم البلاد بالذات يعانون ما يعانون من الفقر والحاجة؟ السبب أنها أصبحت رسمية والله أعلم أين تذهب غلاتها؟ إليك هذه المعلومة:
كان للمسلمين في أيام الدولة العثمانية أوقافاً عظيمة ومتعددة، كان هناك وقفين كبيرين على تجهيز الفتيات المعدمات اللاتي يصلن إلى سن الزواج. وكان هناك أوقاف تقوم بصرف مرتبات للعائلات الفقيرة غير الأكل، لأن الأكل المجاني كانت له أوقاف خيالية مثل وقف المطاعم الخيرية، أحدها كان يقدم أكلاً مجانياً لعدد يبلغ عشرين ألف شخص يومياً مجاناً، وكان مثل هذا في كل الولايات التابعة للدولة العثمانية. كان المطعم الخيري في جامع السليمانية تبلغ ميزانيته ما يعادل عشرة ملايين دولار تقريباً. هذا مثال واحد فقط، وإلاّ فأوقاف المسلمين في بقية البلدان أشياء خيالية، فأين هي الآن؟
ولذا فليس في صالح أحد السعي لمثل هذا الأمر، ولتبق الأوقاف في أيدي النظّار المؤتمنون ليدعم الوقف مسيرة حركة الأمة.
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، ونسألك اللهم أن تجمع بها..
(1/2935)
الولاء والبراء
الإيمان
الولاء والبراء
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
14/3/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية هذه العقيدة وأدلتها من القرآن. 2- وجوب البراءة من المشركين والكافرين. 3-
صور البراء في حياة الصحابة. 4- صور لموالاة المشركين كثرت بين المسلمين. 5- نظرة
المسلم إلى الناس وفق معتقد الولاء والبراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: من أهم القضايا العقدية التي تربط بين أبناء المسلمين وتصل بين أفرادهم في بُعدٍ عن النعرات الجاهلية والروابط الأرضية المادية: قضية الولاء والبراء، الولاء في الله ومن أجله، والبراء في الله ومن أجله، الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين والمنافقين وسائر أعداء الدين.
الولاء والبراء: أصل عظيم من أهم أصول العقيدة الإسلامية المميزة لأتباعها، من أجلها أهلك الله المكذبين، وأنجى الموحدين، من أجلها أغرق الله ولد نوح لما كفر بالله، وأنقذ أهله من الطوفان لما آمنوا، من أجل الولاء والبراء تبرأ إبراهيم عليه السلام من أبيه وقومه، وهاجر إلى ربه، ومن أجله قاتل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وعشيرتهم لما كفروا، وتبرؤوا منهم، من أجل الولاء والبراء قامت سوق الجنة والنار.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)) متفق عليه.
الولاء والبراء في الإسلام، معناه ومفهومه أن توالي من أجل الله تعالى وتعادي من أجله، تحب في الله وتبغض فيه، فالحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، وهو أصل عظيم من أصول العقيدة والإيمان، يجب على العبد المسلم مراعاته، وبناءُ علاقاته مع الناس عليه، فقد روى الإمام أحمد عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله)).
ولقد أكثر الله سبحانه وتعالى من ذكر الولاء والبراء في كتابه الكريم تبييناً لأهميته ومكانته في حياة المسلمين قال الله تعالى: لاَّ يَتَّخِذِ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لْكَـ?فِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ?لْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ فَلَيْسَ مِنَ ?للَّهِ فِي شَىْء إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـ?ةً وَيُحَذّرْكُمُ ?للَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى? ?للَّهِ ?لْمَصِيرُ [آل عمران:28]. قال أهل التفسير: نهى الله عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين كقرابةٍ بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يُتصادق بها ويُتعايش. وقال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [المائدة:51]، قال حذيفة رضي الله عنه: (ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر فإن الله يقول: وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ).
نعم عباد الله! كيف يدّعي رجل محبة رسول الله وهو يحب أعدائه الذين ظاهروا الشياطين على عداوتهم واتخذوهم أولياء من دون الله.
أتحب أعداء الحبيب وتدّعي حباً ما ذاك في إمكان
وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبةُ يا أخا الشيطان؟
شرط المحبة أن توافق من تحبُّ على محبته بلا عصيان
فإذا ادّعيت له المحبة مع خلافك ما يحب فأنت ذو بهتان
أيها المسلمون، إن عقيدتنا تحرم علينا موالاة الكافرين والمشركين واليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا، ولو كانوا عرباً، ولو كانوا من أقرب الناس نسباً، وتوجب العقيدة علينا البراءة منهم والبعد عنهم يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ قال الله تعالى: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْو?نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22].
فقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عمّن هذا شأنه، ولو كانت مودته ومحبته ومناصحته لأبيه وأخيه وابنه ونحوهم من أقربائه فضلاً عن غيرهم مما يدل على عظم الأمر وخطورته، وأن الواقع فيه قد يخرج من الإيمان إلى الكفر بمقدار ما قام به من ولاءٍ ومحبةٍ لهم.
ومن أصول أهل السنة: أن من لم يكفر الكافرين أو يشك في كفرهم أو يتبرأ منهم فقد كفر. ولقد عاتب الله بعض المؤمنين لموالاتهم ونصحهم للمشركين، ذكر ابن إسحاق في السيرة عن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: لما أجمع الرسول صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة لفتحها أخفى الأمر فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى أهلها يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم ثم أعطاه امرأة من مزينة، مولاةً لبني عبد المطلب، وجعل لها جُعلاً على أن تبلّغه المشركين فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه شعرها وخرجت به وأتى رسول الله الخبر من الله بما صنع حاطب، فبعث علياً والزبير وقال لهما: ((أدركا امرأة قد كتب معها حاطب كتاباً إلى مكة يحذّرهم ما قد أجمعنا لهم من أمرنا)). فخرجا حتى أدركا المرأة بالحليفة فاستنزلاها واستخرجا الكتاب من عقاصها فأتيا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا حاطباً وقال له: ((يا حاطب! ما حملك على ما صنعت؟)). قال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله وبرسوله، ما غيّرت ولا بدّلت، ولكني كنت امرءً ليس لي في القوم من أهل وعشيرة وكان لي بين أظهرهم ولدٌ وأهلٌ أخشى عليهم، فصانعتهم من أجلهم. فقال عمر رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)). فأنزل الله تعالى قوله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِ?لْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ ?لْحَقّ يُخْرِجُونَ ?لرَّسُولَ وَإِيَّـ?كُمْ [الممتحنة:1]. روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر والتقوا فهزم الله المشركين فقُتل منهم سبعون رجلاً وأُسر منهم سبعون، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعلياً، فقال أبو بكر: يا نبي الله! هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، فأنا أرى أن تأخذ منهم الفداء، فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم فيكونون لنا عضداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ترى يا ابن الخطاب؟)) فقال: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنني من فلان ـ قريب لعمر ـ فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قال عمر، فأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد قال عمر: غدوتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو قاعد وأبو بكر وإذا هما يبكيان، فقلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الذي عرض عليّ أصحابك من الفداء، ولقد عُرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة )) ـ لشجرة قريبة ـ وأنزل الله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى? حَتَّى? يُثْخِنَ فِي ?لأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ ?لدُّنْيَا وَ?للَّهُ يُرِيدُ ?لاْخِرَةَ وَ?للَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَـ?بٌ مّنَ ?للَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:67، 68]، أي من الفداء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن كان ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل عذاب ما أُفلت إلا عمر)).
فأين هذا مما يفعله كثير من المسلمين من موالاة أعداء الأمة والسعي في مصالحهم بل ومحاربة أبناء جلدته من المسلمين.
لقد ضيع فئام من المسلمين هذا الأصل العظيم مع شديد الأسف وجهِلوا مفهومه واتخذوا الكفار واليهود والنصارى أولياء، إخواناً وأصدقاء، ناهيكم عباد الله عما يقع في مجتمعات المسلمين من تضييع أسس هذا الجانب العقدي والتفريط فيه، فتجد من يوالي المنافقين العلمانيين ويبادلهم المحبة بحجّة داحضة وهي زعمهم: إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً.
أين الولاء والبراء مما عليه كثير من المسلمين لا سيما أبناؤهم من التشبه بالكفرة والملحدين في لباسهم وميوعتهم وكلامهم وأخلاقهم، مما يؤكد على الحب لهم، وهذا يورث نوعاً من التبعية لهم، فمن تشبه بقوم فهم منهم.
أين الولاء والبراء ممن يُعينهم ويُناصرهم على المسلمين بأيّ وسيلة كانت، بل ويمدحهم ويذب عنهم؟ وهذا من أسباب الردة ونواقض الإسلام عياذاً بالله.
أين الولاء والبراء ممن يستعين بهم من دون المؤمنين ويثق بهم ويوليهم المناصب التي فيها أسرار المسلمين ويتخذهم بطانة ومستشارين؟ وقد قال الله سبحانه وتعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَـ?تِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118].
أين الولاء والبراء أيها المسلمون ممن يستقدمون الكفرة إلى بلاد المسلمين ويجعلونهم عمالاً وسائقين ومربين في البيوت ويتركون المسلمين المحتاجين دون عملٍ أو صناعة؟
أين الولاء والبراء ممن يشاركونهم في أعيادهم ومناسباتهم وتهنئتهم بها ويمدحونهم ويشيدون بما هم عليه من مدنية وحضارة ويُعجبون بأخلاقهم ومهاراتهم دون نظرٍ إلى عقائدهم الباطلة ودينهم الفاسد؟
أين الولاء والبراء عمّن يخاطبهم بألفاظ الاحترام والتبجيل وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: ((لا تقولوا للمنافق يا سيد فإنه إن يَكُ سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل)) رواه البخاري.
أيها المسلمون، إن الولاء والبراء أسٌ من أسس العقيدة المهمة التي لن يسلم لأحد دينه إلا بالمحافظة عليه، فإن اليهود والنصارى والذين أشركوا يدبرون ضد المسلمين الخطط، ويحيكون لهم المؤامرات، مهما كانت ثقة المسلمين بهم، وصدق الله العظيم حيث يقول: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى ?للَّهِ هُوَ ?لْهُدَى? وَلَئِنِ ?تَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ ?لَّذِي جَاءكَ مِنَ ?لْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ?للَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة:120].
بارك الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: دخل عمر بن الخطاب على قاضيه أبي موسى الأشعري فسأله عن كاتبه فقال: لي كاتب نصراني. فقال: قاتلك الله! أما سمعت قول الله عز وجل: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [المائدة:51]، ألا اتخذت كاتباً حنيفاً؟ قال: يا أمير المؤمنين! لي كتابته وله دينه، فقال عمر: ألا لا تكرموهم وقد أهانهم الله، ولا تُعزّوهم وقد أذلهم الله، ولا تدنوهم وقد أقصاهم الله. روى مسلم في صحيحه والإمام أحمد واللفظ له عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين فلحقه عند الجمرة فقال: إني أردت أن أتبعك وأصيب معك قال: ((تؤمن بالله عز وجل ورسوله؟)) قال: لا! قال: ((ارجع فلن نستعين بمشرك)). قال: ثم لحقه عند الشجرة ففرح بذاك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان له قوة وجلد فقال: جئت لأتبعك وأصيب معك. قال: ((تؤمن بالله ورسوله؟)) قال: لا! قال: ((ارجع فلن أستعين بمشرك)) ، قال: ثم لحقه حين ظهر على البيداء فقال له مثل ذلك، قال: ((تؤمن بالله ورسوله؟)) قال: نعم! قال: فخرج به. أيها المسلمون، إن الناس في الولاء والبراء على أقسام ثلاثة: أولهم: من تجب محبته محبة خالصة لله تعالى لا معاداة فيها، وهم المؤمنون من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وعلى رأسهم نبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
وثانيها: من يبغض ويعادى بغضاً ومعاداةً خالصين لله تعالى لا محبة فيهما ولا موالاة معهما، وهم الكفار والمنافقون والمشركون على اختلاف أجناسهم وشعوبهم، ويلحق بهؤلاء من يظهر معاداته للدين من العلمانيين والحداثيين وأذنابهم من المنافقين.
وثالثها: من يحب من وجه ويبغض من وجه، فتجتمع فيه المحبة والعداوة، وهؤلاء هم العصاة من المؤمنين، يحبون على قدر ما فيهم من الإيمان، ويُبغضون لما فيهم من المعصية التي لم تبلغ درجة الكفر والشرك، وهذه المحبة لهم تقتضي مناصحتهم والإنكار عليهم، فلا يجوز السكوت على معاصيهم بل ينكر عليهم ويؤمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على من أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه في قوله عز من قائل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى عليّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً)).
اللهم صل وسلم...
(1/2936)
اليهود (1)
أديان وفرق ومذاهب
أديان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
26/10/1411
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خبث اليهود وحقدهم على المسلمين. 2- اعتقاد اليهود بأنهم شعب الله المختار مهما صنعوا
وفعلوا. 3- قراءة سريعة في تاريخ اليهود القديم وما صنعه من انحراف وردة. 4- بعض
صنائع اليهود بعد بعثة نبينا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن الأمة الإسلامية، منذ أن بزغ فجرها ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وأعداؤها يحاولون النيل منها بكل ما أوتوا من قوة أو وسيلة، وأعداء هذه الأمة كثير والحاقدون لا يعدون ولا يحصون، لكن من أخبث أعداء هذه الأمة وأشدهم بها مكراً وأكثرهم حقداً اليهود، عليهم لعنة الله، فما من فتنة كبرى، أو مصيبة عظمى حلت بهذه الأمة إلا ومن وراء الحجب أصابع مكر يهودية!!
ولهذا نحن المسلمين ندعو الله عز وجل فى صلاتنا وفى كل ركعة أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم، والمغضوب عليهم هم اليهود.
أيها المسلمون، إن الذى جعل اليهود يحقدون على الأديان كلها هو أنهم يعيشون مشكلة نفسية، قائمة لديهم، وهو اعتبار أنفسهم شعب الله المختار وأنهم أبناء الله وأحباؤه وأن سائر أمم الأرض بالنسبة إليهم بمنزلة البهائم التي ينبغي أن تكون مسخرة لهم، لذلك فلا حرج عند اليهود أن يسلبوا جميع أمم الأرض أموالهم بأية وسيلة غير مشروعة كذلك لا حرج عند اليهود أن يفتكوا بالشعوب ويفسدوا أخلاقهم وأوضاعهم الاجتماعية، فدماء الأمم مهدرة فى نظرهم، وهم يحقدون على سائر الأمم والشعوب.
إن اليهود يرون أنفسهم ذرية النبيين الذين تتصل أصولهم بإبراهيم عليه السلام، ويعتبرون هذه النسبة وحدها كافية فى تفضيلهم على الناس مهما تنكروا بعقائدهم وأعمالهم لأنبيائهم ورسلهم، ويزهون بأن الله اصطفى موسى عليه السلام من بني اسرائيل فأنزل عليه التوارة وحمله أول رسالة كبيرة ذات شأن فى تاريخ الرسالات السماوية ويعتبرون هذا كافياً لأن يخلد لبني إسرائيل مجداً دينياً تدعمه الصلة النسبية.
ولا تزال يا عباد الله أحلام استعادة الملك العظيم الذى حباه الله لدواد وسليمان عليهما السلام تسيطر على أوهامهم وتتحكم بكل ما يدبرون ويخططون من مكر وكيد وبكل ما يدسون من دسائس تعمل على تقويض دعائم شرائع ربانية ودول كبرى وحضارات نافعة.
لقد أتى الله اليهود، الملك العظيم من قبل فلم يحافظوا عليه ولم يرعوا حقه، ولكنهم أسرعوا فنقضوا الأسس التى كانت عماد ملكهم، فعصوا الله ونشروا فى الأرض الفساد، وظلموا وعتوا عتواً كبيراً وأخذوا يعتدون على أنبيائهم ورسلهم والمخلصين من دعاتهم حتى سجل التاريخ عليهم قتل النبيين بغير حق وسجل عليهم أيضاً النقائص الخلقية فى معاملة سائر الأمم، ومن ذلك ما أثبته القرآن الكريم عليهم من هضمهم لحقوق غيرهم وأكلهم أموال الناس بالباطل محتجين بأن شريعتهم تبيح لهم ذلك فى معاملة غيرهم قال الله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذ?لِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى ?لامّيِينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى ?للَّهِ ?لْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:75].
أيها المسلمون، نمر سريعاً معكم على تاريخ اليهود لتتعرفوا على أن الانحراف والميل هو طبعهم وطابعهم منذ تاريخهم الأول، تبدأ قصة الحسد عند اليهود، من حسدهم لأخيهم من أبيهم يوسف عليه السلام، ومحاولتهم قتله ثم الاكتفاء بإلقائه فى الجب ليلتقطه بعض أصحاب القوافل السيارة حتى يخلو لهم وجه أبيهم إنها قصة تدل على مبلغ أنانيتهم وانحرافهم الخلقى وأخلاقهم التى دلت عليها قصة يوسف ظلت ملازمة لهم عبر تاريخ اليهود الطويل.
وصل يوسف عليه السلام إلى الحكم والسلطان فى مصر عقب المحنة الطويلة التى مر بها وعفا عن إخوته الذين أساءوا إليه واستقدمهم من الشام إلى مصر وانفتحت لهم فى مصر أبواب عمل ومجد وثراء واسع ثم أخذت ذرياتهم تميل إلى جمع الأموال وعبادة الذهب ومعاملة الناس بالأنانية المفرطة الأمر الذى أدى إلى نقمة المصريين عليهم نقمة ساموهم بها سوء العذاب.
وفي عهد موسى عليه السلام وبقيادته خرجوا من مصر وأنجاهم الله من فرعون وجنوده بمعجزة شق البحر وأغرق الله عدوهم وأكرمهم بحمل الرسالة الربانية، وما إن جاوز موسى بهم متجهماً فى صحراء سيناء إلى الأرض المقدسة وهي فلسطين حتى شاروا عليه وعلى أخيه هارون يشكون الجوع والعطش ففجر الله لهم فى سيناء اثنتى عشرة عينا على عدد أسباطهم ورزقهم المن والسلوى طعاماً طيباً يرزقونه فى كل يوم.
ذهب موسى عليه السلام لمناجاة ربه عند جبل الطور، هو والسبعون المختارون من قومه وخلف على سائر القوم أخاه هارون فاستضعفوا سلطان هارون وعبدوا عجل الذهب الذي صنعه لهم السامري وعاد موسى إليهم بعد أربعين ليلة ليراهم قد ارتدوا إلى الوثنية فأخذه الغضب وألقى الألواح التي جاء بها من المناجاة ثم أمرهم الله بأن يتوبوا إلى بارئهم بأن يقتل بعضهم بعضاً فبدأوا بتنفيذ الأمر ثم عفا الله عنهم فرفع عنهم ما كان قد أمرهم به، ثم تعنتوا على موسى فقالوا له: يَـ?مُوسَى? لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى? نَرَى ?للَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ?لصَّـ?عِقَةُ [البقرة:55]، فأماتهم ثم بعثهم الله من بعد موتهم وأحياهم فخافوا ورجعوا إلى الطاعة وأمر الله موسى بأن يأخذ عليهم الميثاق بأن يعملوا بما أتاهم الله وما أنزل عليهم من كتاب، فلم يقبلوا فرفع الله فوقهم الطور تهديداً لهم فاستسلموا خوفاً وأعطوا مواثيقهم وجعل الله لهم يوم السبت يوم عبادة حرم عليهم فيه صيد السمك ثم امتحن سبحانه طاعتهم فجعل الحيتان تأتي أماكن صيدهم يوم سبتهم ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، فخالفوا أمر الله وجعلوا يعتدون فى السبت، فعاقبهم الله بالمسخ، فقال لهم: كُونُواْ قِرَدَةً خَـ?سِئِينَ [البقرة:65]، وسار بهم موسى شطر الأرض المقدسة ليدخلوها مجاهدين فى سبيل الله واختار منهم اثني عشر نقيباً بعدد أسباطهم، أمرهم أن يتقدموه لاستطلاع أحوال البلاد وسكانها فنفذوا الأمر وعادوا وقالوا إن الأرض المقدسة تدر لبناً عسلاً، إلا أن سكانها من الجبارين ثم أخذ كل نقيب يخذل جماعته عن دخولها إلا رجلين منهم فإنهما لما رجعا قالا لقومهما: ?دْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ?لْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَـ?لِبُونَ وَعَلَى ?للَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة:23]، لكن بني إسرائيل رفضوا الجهاد فى سبيل الله وقالوا: يَامُوسَى? إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى? يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا د?خِلُونَ [المائدة:22]. فوعظهم النقيبان بأن يجاهدوا فى سبيل الله ويدخلوا الأرض المقدسة. فأصروا على الرفض وقالوا لموسى: يَـ?مُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَ?ذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَـ?هُنَا قَـ?عِدُونَ [المائدة:24]. فعاقبهم الله على ذلك، فجعل الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة، يتيهون في الأرض.
وبعد وفاة هارون وموسى عليهما السلام، ومرور أربعين سنة فى التيه، دخلوا الأرض المقدسة، بقيادة يوشع بن نون، ولما فتح الله عليهم ونصرهم على عدوهم، أمرهم على لسان نبيهم بأن يدخلوا باب المدينة سُجّداً، شكرا لله على ما أنعم عليهم، وبأن يقولوا حطة: أي اللهم احطط عنا خطايانا واغفر لنا ذنوبنا، فعصوا أمر الله، وبدلوا قولاً غير الذي قيل لهم، ظلماً واستكباراً. وحكم بني إسرائيل بعد دخولهم الأرض المقدسة قضاةٌ منهم، لهم مثل سلطان الملوك واستمر هذا الحكم حقبة من الزمن، لا تزيد في رأى بعض المحققين على مائة سنة، سمي العهد فيها عهد القضاة وخلال عهد القضاة، كثرت الردة في بني إسرائيل عن عبادة الله وحدة إلى عبادة الأوثان، وكثرت فيهم المعاصي، وانتشرت بينهم الرذائل والمنكرات وفشا فيهم الزنا، فإذا ظهر فيهم مصلحون قتلوهم وتخلصوا منهم. فأنزل الله عليهم بسبب ذنوبهم الكثيرة، طائفة من النكبات، وسلط عليهم في هذه الفترة من غزاهم واستعبدهم وأذلهم. فسألوا نبيهم في ذلك الوقت أن يجعل لهم ملكاً حتى يقاتلوا فى سبيل الله، ويستعيدوا مجدهم وسلطانهم، فقال لهم نبيهم: هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لْقِتَالُ أَلاَّ تُقَـ?تِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَـ?تِلَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَـ?رِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246].
فأخبرهم نبيهم أن الله قد بعث لهم طالوت ملكاً. فاعترضوا على ذلك وقالوا: أَنَّى? يَكُونُ لَهُ ?لْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِ?لْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ ?لْمَالِ [البقرة:247]. وكان الدافع لهم لتوجيه هذا الاعتراض الكبر الطبقي فيهم، المستند إلى عنصري النسب والمال. فقال لهم نبيهم: إِنَّ ?للَّهَ ?صْطَفَـ?هُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي ?لْعِلْمِ وَ?لْجِسْمِ وَ?للَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:247]. وصار طالوت ملكاً عليهم، ودعاهم إلى الجهاد فى سبيل الله، فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين ونصر الله القلة الذين قاتلوا مع طالوت على عدوهم وآتاهم بعد ذلك الملك العظيم على يد داود وسليمان عليهما السلام. عظم بعد ذلك ملك بني إسرائيل فى عهد أسرة داود عليه السلام، إلا أنهم لم يستقيموا إلا قليلاً حتى فسقوا وأفسدوا أيما إفساد فى الأرض وحرفوا فى دين الله، وبدلوا في شريعته وتوالت عليهم أنبياؤهم فكانوا يخالفونهم ويقتلون منهم بغير حق. وصارت قياداتهم الدينية من أحبار وغيرهم أسراء أهوائهم وشهواتهم ومنافعهم المادية، وكلما ظهر فيهم مصلحون دبروا لهم المكايد ليتخلصوا منهم، وكان الله ينزل بهم العقوبات فلا يرتدعون.
هذا ملخص تاريخ اليهود قال سبحانه عنهم: وَقَضَيْنَا إِلَى? بَنِى إِسْر?ءيلَ فِى ?لْكِتَـ?بِ لَتُفْسِدُنَّ فِى ?لأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآء وَعْدُ أُولَـ?هُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلَـ?لَ ?لدّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ?لْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَـ?كُم بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَـ?كُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ ?لآخِرَةِ لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ?لْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـ?فِرِينَ حَصِيرًا [الإسراء:4-8].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: مررنا بكم سريعاً فى الخطبة الأولى على تاريخ اليهود وكيف أن الانحراف والمخالفة هو سمة وطبيعة فيهم. نمر بكم أيها الأخوة، على بعض مكائد اليهود ضد الإسلام، ونبدأ بمكائدهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى نصل معكم إلى جرائم اليهود وأفعالهم فى عصرنا الحاضر، وهذا كما لا يخفاكم لا تكفيه خطبة واحدة، وسيكون بإذن الله للحديث بقية حول هذا الموضوع.
أولا: لابد أن نعلم بأن اليهود يعلمون جيدا أن الإسلام هو الدين الحق الناسخ لما قبله من الأديان، وأنه يجب عليهم اتباعه. وقد فضحهم كتاب الله عز وجل فى ذلك. يقول الله تعالى: وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَـ?بٌ مّنْ عِندِ ?للَّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ?للَّهِ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة:89]، وقال سبحانه: ?لَّذِينَ آتَيْنَـ?هُمُ ?لْكِتَـ?بَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ?لْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146]، أما بالنسبة لمكائدهم فى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضد هذا الدين: فإن بعضهم كان يتظاهر بالدخول فى الإسلام نفاقاً، ويدخل بين صفوف المسلمين سبيلاً للدس والمكر حتى سنحت له الفرصة. وقد تظاهر بالدخول فى الإسلام من أحبار اليهود من بني قينقاع أمثال: سعد بن حنيف ونعمان بن أوفى، وعثمان بن أوفى، ورفاعة بن زيد وغيرهم.
وبالمناسبة، فلا يستبعد أن يدخل في الإسلام تظاهراً فى هذه الأيام، من يريد النيل منه. فعلى المسلمين أن ينتبهوا لهذه الثغرة. خصوصاً وأننا في كل يوم نسمع بأعداد من النصارى وغيرهم قد أعلن إسلامه.
مكيدة أخرى من مكائد اليهود زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم: هو الدخول في الإسلام ثم الارتداد عنه وقد كشف الله عز وجل لنبيه هذه المكيدة بقوله تعالى: ي?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ لِمَ تَلْبِسُونَ ?لْحَقَّ بِ?لْبَـ?طِلِ وَتَكْتُمُونَ ?لْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ ءامِنُواْ بِ?لَّذِي أُنزِلَ عَلَى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَجْهَ ?لنَّهَارِ وَ?كْفُرُواْ ءاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ ?لْهُدَى? هُدَى ?للَّهِ أَن يُؤْتَى? أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ قُلْ إِنَّ ?لْفَضْلَ بِيَدِ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:71-73].
وقد عرفت ألاعيب السياسة الحديثة هذه الخطة الشيطانية اليهودية، ذلك أن بعض الخصوم السياسيين قد يرسلون من جماعاتهم والمقنعين المستورين فئات تنتسب إلى جماعات خصومهم، وتتظاهر بالاندفاع في تأييدهم بأعمال حزبية خادعة ثم فى يوم الضرورة للعمل الحازم المتماسك يحدث هؤلاء المندسون تصدعاً فى الصف الداخلي، وذلك بأن يفتعلوا خلافاً على بعض الأمور، وقد لا يستطيعون أن يحدثوا إلا خلافاً تافهاً ولكنهم يهولونه ويجسمونه ويثيرون حوله معركة داخلية مبددة للقوى، صارفة للأنظار والنفوس عن واجب العمل فى ذلك اليوم، وذلك ريثما يتم ظفر خصومهم، وهم في شغل عما يجب عليهم من عمل بالخلاف الداخلى الذى اصطنعه المندسون، وهكذا لا يكاد الباحثون يجدون مكراً فى الأرض إلا وقد سبق اليهود إلى اكتشافه ووضعه ضمن قائمة حفظ مكرهم.
أيضا يا عباد الله، من وسائل اليهود حرب الإسلام هو الطعن فى هذا الدين، استهزاء وسخرية، بشتى الأنواع والطرق، ولهم وسائل متنوعة لتشويه صورة الإسلام قديماً وحديثاً يقول الله عنهم، لَّقَدْ سَمِعَ ?للَّهُ قَوْلَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ ?لاْنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ?لْحَرِيقِ [آل عمران:181]، وقال سبحانه: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذ?لِكَ مِنْ عَزْمِ ?لاْمُورِ [آل عمران:186]، وقال عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ ?لْكِتَـ?بِ يَشْتَرُونَ ?لضَّلـ?لَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ?لسَّبِيلَ وَ?للَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى? بِ?للَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى? بِ?للَّهِ نَصِيراً مّنَ ?لَّذِينَ هَادُواْ يُحَرّفُونَ ?لْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَ?سْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَر?عِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى ?لدّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَ?سْمَعْ وَ?نْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ?للَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:44-46].
وفى وقتنا الحاضر لهم أساليب حديثة متطورة فى تشويه صورة الإسلام، فكم من الأفلام السينمائية وغيرها. يصنعونها في بلاد الكفر، نسمع عنها لتشويه صورة الدين عند أبنائها وغير أبنائها. وكم من الصحف والمجلات تخرج من عندهم، فيها المقالات والكتابات ضد الإسلام. وغيرها من وسائل اليهود الخبيثة للنيل من هذا الدين. نسأل الله عز وجل أن يكفينا شرهم.
اللهم من أراد الإسلام المسلمين بسوء...
اللهم أحصهم عددا، وأهلكهم بدداً، ولا تغادر يا رب منهم أحداً..
(1/2937)
اليهود (2)
أديان وفرق ومذاهب
أديان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
3/11/1411
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محاولة بني النضير اغتيال النبي. 2- خروج بني النضير من المدينة وجلاؤهم عنها.
3- يهودية تدس السم للنبي. 4- لبيد اليهودي يسحر النبي. 5- دور اليهود في أحداث
الفتنة وظهور الرافضة. 6- حديث مستفيض عن الأحداث التي سبقت مقتل عثمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله تتمة لخطبتنا في الجمعة الماضية عن اليهود نواصل معكم أيها الإخوة، سلسلة جرائم اليهود عبر التاريخ، وكنا قد تكلمنا عن اليهود وتاريخهم قبل الإسلام فنبدأ بمحاولتهم اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم ليتخلصوا منه، وكان له عدة أساليب منها، أنه عندما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم مع نفر من أصحابه منهم أبو بكر وعمر وعلي إلى بني النضير، ليتفاهم معهم في دية القتيلين من المشركين من بني عامر، الذين قتلهما أحد المسلمين، فقال رؤوساء بنى النضير من اليهود: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه. وذهبوا ليفكروا فيما يدفعون من المال مساهمة في دية القتيلين، وخلا بعضهم ببعض، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد إلى جنب جدار من بيوتهم، مع النفر من الصحابة، فقال اليهود في خلوتهم: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمَنْ رجل يعلو على هذا البيت فيلقى عليه صخرة فيريحنا منه. فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، أحد يهود بنى النضير، فقال: أنا لذلك، فنهاهم عنه أحد أحبارهم وهو سلام بن يشكم، وقال لهم: هو يعلم، فلم يقبلوا منه، وصعد ذلك اليهودي عمرو بن جحاش ليلقي الصخرة على رأسه، ليغتاله بها، فنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي من السماء بما أراد القوم، وأن اليهود قد ائتمروا به ليقتلوه، وطلب منه الانسحاب في صمت، فقام وقال لأصحابه: لا تبرحوا حتى آتيكم، وخرج راجعاً إلى المدينة دون أن يخبر أصحابه بالأمر، وظنوا أنه قد ذهب لبعض حاجة، وهو عائد إليهم، فلما طال انتظار أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم قاموا في طلبه، فالتقوا رجلاً مقبلاً من المدينة، فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلاً المدينة، فأقبل أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر، وبما كانت اليهود أرادت من الغدر به.
وشاع في المدينة خبر المكيدة التي دبرها اليهود لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غدراً، وضج المسلمون بالتذمر، وأخذ اليهود يلوم بعضهم بعضاً، على هذه الجريمة الشنعاء، ولم ينكروا مكيدة الغدر بالرسول صلى الله عليه وسلم. ولم يصدر بيان بنفي هذا الخبر، كما هو شأن الإعلام في وقتنا الحاضر وأنزل الله على نبيه قوله تعالى في سورة المائدة،: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ [المائدة:11]، وعقب مكيدة الغدر هذه، رأى المسلمون خطر بقاء اليهود بين ظهرانيهم، عندئذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحرب بنى النضير، والسير إليهم بعد الذي كان منهم، واستعمل صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم، ثم سار بالناس حتى نزل بهم، فتحصنوا من المسلمين في حصونهم، وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقذف الله الرعب في قلوبهم، فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجليهم كما أجلى بني قينقاع، ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من الأموال إلا السلاح، فوافق الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته، ويأخذ ما يستطيع حمله، ويضعه على ظهر بعيره، وينطلق به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وأنزل الله فيهم قوله تعالى في سورة الحشر: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأَرْضِ وَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ هُوَ ?لَّذِى أَخْرَجَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ مِن دِيَـ?رِهِمْ لأَِوَّلِ ?لْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ ?للَّهِ فَأَتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ?لرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى ?لْمُؤْمِنِينَ فَ?عْتَبِرُواْ ي?أُوْلِى ?لأَبْصَـ?رِ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ?للَّهُ عَلَيْهِمُ ?لْجَلاَء لَعَذَّبَهُمْ فِى ?لدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ عَذَابُ ?لنَّارِ [الحشر:1-3].
أيها المسلمون، بعد ما فشل اليهود في المكر والكيد ضد الرسول صلى الله عليه وسلم، فكروا في وسيلة أخرى للتخلص من المصطفى صلى الله عليه وسلم وذلك محاولة دس السم له. وقد دفعوا لتنفيذ هذه الجريمة الشنعاء امرأة يهودية منهم اسمها زينب بنت الحارث، وهى زوج سلام بن يشكم أحد أحبارهم. وذلك بعد أن انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر خيبر واطمأن به الحال. قدمت له هذه المرأة. شاة مشوية كانت قد دست فيها سماً كثيراً، وكانت قد سألت. أي عضو من الشاة أحب إلى محمد، فقيل لها الذراع، فلاك منها مضغة فلم يسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور، قد أخذ منها كما أخذ رسول صلى الله عليه وسلم، فأما بشر فأساغها، وأما رسول الله فلفظها، ثم قال: ((إن هذا العظم يخبرني أنه مسموم)) ، ثم دعا بالمرأة اليهودية فاعترفت. فقال: ((ما حملك على ذلك؟)) قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان ملكاً استرحت منه، وإن كان نبياً فسيخبر، تعني أن الوحي سيخبره بذلك. فتجاوز الرسول صلى الله عليه وسلم عنها ومات بشر من أكلته التي أكل.
أيها المسلمون، لم تنته جرائم اليهود ضد الرسول صلى الله عليه وسلم عند هذا الحد، فحاولوا أن يستخدموا وسيلة السحر ضده، ودفع اليهود إلى ذلك ساحراً من سحرتهم، واسمه لبيد بن أعصم، فسحره هذا اليهودي عليه وعلى جميع اليهود اللعنة. فأثر السحر في جسد الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى كان يخيل إليه، أنه يأتي نساءه ولا يأتيهم.
روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن عائشة رضي الله عنها. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر حتى أنه كان ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات ليلة عند عائشة دعا ودعا ثم قال: ((يا عائشة، أشعرت أن الله أفتاني فيما استفيته فيه؟ أتاني رجلان. أي ملكان على صفة رجلين وهما: جبريل وميكائيل. فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال: ما وجع الرجل؟ قال مطبوب ـ أي مسحور ـ، قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم)).
ثم إن الله صرف أذى السحر عن جسد الرسول صلى الله عليه وسلم بسر الدعاء والالتجاء إلى الله، وأنزل الله عليه سورتي المعوذتين ليكررهما في استعاذاته. وليكررهما المسلمون.
والسحر ـ يا عباد الله ـ من أعمال اليهود، التي ما زالوا يمارسونها، منذ تعلموها من الشياطين التي سخرها الله لسليمان عليه السلام. ومن الملكين ببابل هارون وماروت. وكثير من اليهود يعتقدون أن سليمان إنما نال ملكه بالسحر لا بالنبوة، وقد أجهد اليهود أنفسهم في تعلم السحر، فلم يظفروا منه بخير، كيف يكون لهم منه خير، والله تعالى يقول في كتابه. وَلاَ يُفْلِحُ ?لسَّـ?حِرُ حَيْثُ أَتَى? [طه:69]. وقد أنزل الله براءة سليمان من السحر وأسند تلاواته إلى الشياطين الذين سخرهم الله له بسلطان النبوة. فقال تبارك وتعالى في سورة البقرة مندداً باليهود استعمالهم السحر وتعلمهم وسائله وحيله: وَ?تَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ?لشَّيَـ?طِينُ عَلَى? مُلْكِ سُلَيْمَـ?نَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـ?نُ وَلَـ?كِنَّ ?لشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ ?لنَّاسَ ?لسّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى ?لْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـ?رُوتَ وَمَـ?رُوتَ وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى? يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ ?لْمَرْء وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ?للَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ?شْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِنْ خَلَـ?قٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [البقرة:102]، هذه بعض جرائم اليهود ضد شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمنه، محاولات لقتله واغتياله، ومحاولة لدس السم في طعامه، ثم سحره. إلى غير ذلك من الجرائم. لكن الله عز وجل حفظ رسوله صلى الله عليه وسلم وحفظ دينه.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه واجعل تدبيره تدميره، واجعل كيده في نحره...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، لم تنته جرائم اليهود، ولم ينطفئ حقدهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن استمرت جرائمهم مع خلفاء الرسول الراشدين ألا لعنة الله على الظالمين.
تولى الخلافة بعد عمر عثمان رضي الله عنهما. وكانت نهاية عثمان. بمكيدة خبيثة دبرها اليهود، انتهت بمقتل عثمان بأيدي المسلمين. بعد إشعال فتنة عظيمة، كان وراءها الأيدي اليهودية، وقد لعب هذا الدور الكبير في هذه المؤامرة رجل من يهود صنعاء، يقال له، عبد الله بن سبأ، وإليكم شيئاً من تفاصيل تلك القضية المحزنة التي انتهت بقتل خليفة المسلمين بأيدي المسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
بدأت الفتنة عندما أشعلها عبد الله بن سبأ (ابن السوداء)، وهو من يهود صنعاء، وكانت أمه سوداء، لذا عرف بذلك، وقد ادعى الإسلام أيام عثمان ليستطيع التأثير على نفوس أولئك الأعراب والبداة والذين دانوا حديثاً بالإسلام من سكان الأمصار، إذ تنقل في بلدان المسلمين، فبدأ بالحجاز، ثم سار إلى البصرة، ومنها إلى الكوفة، ثم إلى الشام، إلا إنه لم يستطع التأثير على أحد من أهل الشام، وبعدها أخرجوه إلى مصر حيث استقر هناك، وكان في كل مكان يحل فيه يتصل بالأشخاص ويتحدث إليهم ويبدي تفهمه للإسلام، ويظهر معرفته، ويقف موقف العلم، فيقول: عجيب من يزعم أن عيسى يرجع، ويكذب بأن محمداً يرجع، والله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّ ?لَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ ?لْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَى? مَعَادٍ [القصص:85]، فمحمد أحق بالعودة والرجوع من عيسى. وهكذا بدأ بالتشكيك في العقيدة، والناس على فطرتهم حديثو العهد بالإسلام في الأمصار لا يعرفون الفلسفات والمناقشات، والبدو الذين يعيشون معهم أكثر جلافة، وإذا اقتنعوا بشيء صعب استخلاصه من نفوسهم بالأمر السهل. ورأى هذا اليهودي أن علي بن أبي طالب رأس الصحابة الذين بقوا من حيث الاحترام والتقدير، بل يعد الشخص الثاني بعد الخليفة، وله عند الشيخين مركز ووزن، يستشار في كل أمر، ويدعى في كل معضلة، ويؤخذ رأيه في كل مشكلة، هذا بالإضافة إلى قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه وفهمه، لذا رأى هذا الخبيث أن يركز على هذا الصحابي الجليل، وأن يدعو له لا حباً به وتقديراً، وإنما لبذر الفتنة في المجتمع، وحتى لا يعرف مخططه، فيظهر أنه يدعو للشك والريبة، فدعوته لأحد البارزين من الصحابة تخفي ما يضمر، وتقربه من نفوس بعض الرجال الذين يعرفون قدر علي. فكان يقول: إن علياً هو وصي محمد صلى الله عليه وسلم، فإن لكل نبي وصياً.
ثم انتقل بعد بذر الفتنة وإلقاء جذور البلاء في المجتمع إلى الطعن بالخليفة نفسه وبولاته وأمرائه وأنهم دون الصحابة الأجلاء، وأنهم لم يحتلوا هذه المراكز إلا لكونهم من ذوي رحم الخليفة الذي بلغ من العمر عتياً وأنهم قد أثروا عليه، وأصبح أداة طيعة في أيديهم، مع العلم أن إمرة المفضول تصح مع وجود الفاضل، وأن إمارة القوي المسلم خير من إمارة المؤمن التقي الورع إذا لم يكن في قوة ذاك، إضافة إلى أن أكثر ولاة عثمان كانوا قد تسلموا الإمارة أيام عمر.
ظهرت بذور الشر أول ما ظهرت في الكوفة، إذ بدأ الحديث عن الوالي سعيد بن العاص حتى وصل إلى الخليفة، وذلك على ألسنة العوام وأولئك البداة والذين دانوا حديثاً بالإسلام، ومن هؤلاء مالك بن الحارث الأشتر النخعي وثابت ابن قيس النخعى وجندب بن كعب الأزدي، وعروة بن الجعد وأمثالهم من أهل الصحراء والقبائل وكان ذلك في أواخر عهد عثمان، وبعد مرور عشر سنوات على تسلمه الخلافة، وفى عام 34هـ، سير هؤلاء المنحرفون من الكوفة إلى الشام، إلا أنهم ردوا مرة ثانية إلى الكوفة، فقالوا:إن الكوفة والشام ليستا لنا بدار، فاتجهوا إلى الجزيرة فشدد عليهم واليها عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وسير الأشتر إلى المدينة، فخيره الخليفة في المكان الذي يرغب سكناه، فاختار منطقة عبد الرحمن بن خالد، وسار إليه. وكان ابن السوداء في مصر يراسل من أثر عليهم في كل الأمصار، ويزيد في أضرام نار الفتنة.
جمع الخليفة عثمان بن عفان أمراء الأمصار في موسم الحج عام 34هـ وهم: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر، واستشارهم في أمر هؤلاء المنحرفين، وما يتكلمون به، فأشير عليه بأن ينقل هؤلاء المنحرفين إلى الثغور فينشغلوا بأنفسهم كما اقترح عليه عدم إعطائهم الأعطيات حتى يرضخوا للأمر ويطيعوا، ولكنه لم ير هذا الرأي ولا ذاك.
ولما كثر الكلام عن سعيد بن العاص أمير الكوفة، والمطالبة بأبي موسى الأشعري بدلاً عنه، استجاب الخليفة الطلب فعزل سعيداً وولى أبا موسى مكانه، وكتب لأهل الكوفة (أما بعد، فقد أمرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله لأفرشنكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولأستصلحنكم بجهدي، فلا تدعوا شيئاً أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه، ولا شيئاً لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه، أنزل فيه عندما أحببتم حتى لا يكون لكم علي حجة).
لم تفد المخربين أعمال الخليفة ولينه لهم بل استمروا في تصرفاتهم وكلامهم، فأرسل الخليفة بعض الصحابة إلى الأمصار يستطلعون آراء الناس، ويعرفون أخبار المسلمين وموقفهم، فقد بعث محمد بن مسلمة إلى الكوفة وأسامة بن زيد إلى البصرة وعبد الله بن عمر إلى الشام، وعمار بن ياسر إلى مصر ورجالاً آخرين سواهم، فرجع الجميع ولم ينكروا شيئاً إلا عمار بن ياسر فقد تأخر واستمع إلى ما كان يشاع.
وجاء وفد من مصر في رجب عام 35هـ إلى الحجاز يظهرون أنهم يريدون العمرة، وفى نيتهم مناظرة الخليفة ومناقشته في المدينة لبلبة الآراء وإشعال نار الفتنة، وتمت مقابلة الخليفة، وأبدى رأيه، وأقنع الوفد خارج المدينة بنفسه أو بواسطة بعض الصحابة منهم علي بن أبي طالب ومحمد بن مسلمة، ودخل بعضهم المدينة، وحضر خطبة للخليفة أثنى فيها على الوفد، واستغفر الله، وبكى وأبكى الناس، وانصرف المصريون راجعين إلى بلادهم.
إلا أن أهل مصر عندما رجعوا بدأوا يحرضون الأمصار على التوجه إلى المدينة وإظهار الشكوى والتأفف من العمال والأوضاع العامة لأن المدينة أحرى بالفوضى أن تؤثر فيها، إذ أنها مقر الدولة ومركز الخليفة ومكان الصحابة ومدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اتفقوا على أن يسيروا إلى المدينة في شهر شوال في ذلك العام، وأن يكون مسيرهم مع الحجاج لمغافلة الصحابة، وإمكانية نشر الفساد على نطاق أوسع.
وانطلق أهل مصر وعددهم ما بين 600ـ1000 رجل، وفى الوقت نفسه انطلق أهل الكوفة وأهل البصرة، وقد خرجت كل جماعة على شكل فرق أربع، وعلى كل فرقة أمير، وعلى الجميع أمير، فالأمر يبدو على تخطيط وتنظيم واحد دقيق، وكان على أهل مصر الغافقي بن حرب العكي، ومعهم ابن السوداء وهم يريدون البيعة لعلي بن أبي طالب، وعلى أهل الكوفة عمرو بن الأصم وعلى أهل البصرة حرقوص بن زهير السعدي وبمسيرهم مع الحجاج لم يعلم الأمراء عدد الناقمين، ولم يكونوا يتصورون أن هذه الشرذمة تفكر بقتل الخليفة أو تجرؤ على القيام بهذا العمل في دار الهجرة، لذا لم يبذلوا جهداً بإرسال قوة تحول دون خروجهم، أو تسير إلى المدينة لتمنع أمير المؤمنين.
ووصل المنحرفون إلى مقربة من المدينة وسمع أهل المدينة بما يحدث وأبوا أن تقتحم عليهم المدينة، وتكلموا في الأمر، وحدث الخليفة علياً في أن يركب ويركب معه المسلمون ليمنعوا المنحرفين من دخول المدينة عنوة، ففعل وخرج معه طلحة والزبير ومحمد بن مسلمة وكبار الصحابة، ولما رأى المنحرفون استعداد الصحابة للدفاع عن دار الهجرة وقع الخوف في نفوسهم، فعندما كلمهم علي أظهروا الطاعة والخضوع، وأبدوا الرغبة في العودة إلى أمصارهم والهدوء فيها، وبالفعل فقد رجعوا أدراجهم، وظن علي والمسلمون أن الخطر قد زال عن دار الهجرة فعادوا إليها، ولم يستقروا فيها حتى أروعهم التكبير داخل أزقتها، ومحاصرة دار عثمان وعندما سألهم علي عن سبب رجوعهم قالوا: إن الخليفة قد أرسل كتاباً لقتلنا، وأظهر أهل مصر كتاباً فيه قتل محمد بن أبي بكر، قال علي: فما بال أهل الكوفة قد عادوا؟ فقالوا تضامنا مع رفاقنا، وكذا أهل البصرة، لكن من الذي أخبر كل فريق بما حدث مع الآخر؟ وهنا يبدو الاتفاق المسبق والتخطيط لدخول المدينة على حين غفلة من أهلها، وهنا يظهر تلفيق الكتاب الذي أظهره المصريون.
كان حصار دار عثمان يسيراً حيث كان يخرج الخليفة ويصلى بالناس، ويأتي الصحابة إليه، ويأتي إليهم ثم بعث إلى العمال في الأمصار يأمرهم أن يرسلوا إليه الجند لينصروه، ويخرجوا من المدينة هؤلاء الطارئين، وعندما عرف المنحرفون هذا الخبر، وأن حبيب بن مسلمة قد سار من الشام، ومعاوية بن خديج من مصر، والقعقاع بن عمرو من الكوفة، ومجاشع السلمي من البصرة، وكل على رأس قوة لنصرة الخليفة تغير حصار الدار واشتد عمل المنحرفين وخرج عثمان كعادته إلى الصلاة، يوم الجمعة، وخطب، وخاطب المخربين وثار الناس، وحصب بعضهم بعضاً، وأصيب عثمان، وأغمي عليه، ونقل إلى داره، وثار الصحابة وأبناؤهم ومنهم الحسن بن علي، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت وغيرهم، وأرادوا قتال المنحرفين إلا أن الخليفة قد منعهم، وأراد ألا يحدث شيء بسببه، وزار بعد ذلك عثمان كلا من علي وطلحة والزبير، ثم عاد فدخل بيته، وشدد عليه الحصار فلم يعد يخرج أبداً حتى كان يوم استشهاده رضي الله عنه.
أقام المنحرفون رجلاً منهم يصلي بالناس وهو زعيم المصريين الغافقي بن حرب وإذا وجد علي أو طلحة صلى بالناس أحدهما ومنع الماء عن الخليفة، فأرسل إلى علي وطلحة والزبير وعائشة وأمهات المؤمنين فأسعفه علي وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان وزجر على الثائرين فلم يرعووا، وكان بين الحين والآخر يطل الخليفة بنفسه على أولئك المنحرفين المحاصرين له فيعظهم، ولكن لا يأبهون لأحد حتى أن أم حبيبة لم تستطع الوصول إليه لإسعافه بالماء، إذ ضربوا وجه بغلتها وكادت تسقط عنها، وهذا ما ألزم الناس بيوتهم لا يخرج منهم أحد ومعه سيفه، إذ اختل نظام الأمن في دار الهجرة، ودخل دار عثمان بعض أبناء الصحابة منهم:عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين ابني علي، ومحمد بن طلحة وغيرهم، وطلب منهم عثمان ألا يقاتلوا، وعزم عليهم في ذلك أشد العزيمة.
سارت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى الحج، وطلب عثمان من ابن عباس أن يحج بالناس هذا العام، وكان على الباب مع أبناء الصحابة فأراد أن يبقى مجاهداً إلا أن عثمان أصر عليه فخرج إلى الحج.
وصلت الأخبار إلى المدينة بأن الأمداد قد دنت من المدينة، وأن من جاء منها من الشام قد وصل إلى وادى القرى، فخاف المنحرفون وأرادوا دخول الدار على عثمان فمنعهم من فيها:الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة، ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص وغيرهم، فتسوروا الدار من خوخة بينها وبين دار عمر بن حزم، ثم أحرقوا باب الدار، وعثمان يقسم على أبناء الصحابة أن يلقوا سيوفهم حتى ألقاها بعضهم، وهجم المنحرفون على الخليفة، فضربه الغافقي بن حرب بحديدة، ثم ضرب قتيرة بن حمران زوج الخليفة نائلة التي رفعت يدها تدافع عن زوجها فقطع أصابعها ثم ضرب الخليفة أخوة سودان بن حمران السكوني، وكذلك كنانة بن بشر بن عتاب التحيبي فقتل رضي الله عنه ونهبت الدار، كما نهب بيت المال، وكان أمر الله قدراً مقدوراً وكان قتل الخليفة الراشدى الثالث عثمان بن عفان رضى الله عنه في 18 ذي الحجة من عام 35 من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وكان عمره إذ ذاك اثنتين وثمانين سنة.
وعاد الحجاج فوجدوا خليفتهم مقتولاً رضي الله عنه، والأمن غير مستتب.
هذا ملخص قصة مقتل الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه بسبب المكيدة التى دبرها اليهود عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
نقف بكم أيها الأخوة هنا خشية الإطالة، وسوف يكون للحديث بقية إن شاء الله إن كان في العمر بقية، نواصل به ذكر جرائم اليهود عبر تاريخهم الأسود.
(1/2938)
إن الله لا يخلف الميعاد
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
19/1/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موعود الله للمؤمنين بنصر الله. 2- التفريق بين الإيمان والإسلام. 3- ذكر وعود الله
للمؤمنين في الدنيا والآخرة. 4- حقيقة بيعة المؤمن نفسه لله عز وجل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: قال الله تعالى في محكم تنزيله: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُخْلِفُ ?لْمِيعَادَ [آل عمران:9], وقال سبحانه: وَعْدَ ?للَّهِ لاَ يُخْلِفُ ?للَّهُ وَعْدَهُ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الروم:6].
أيها المسلمون، لقد وعد الله عباده المؤمنين بوعود جاء ذكرها في القرآن الكريم وعلى لسان سيد المرسلين. وجعل سبحانه وتعالى هذه الوعود مرتبة على شروط شرعية، فمن حقق الشرط فقد استحق الوعد، ومن تخلف وترك الشرط خسر الوعد، وربما خسر الدنيا والآخرة. وإن الشرط الأكبر الذي رتب الله تعالى عليه جميع وعوده هو تحقيق الإيمان. الإيمان بالله كما أراد الله.
أيها المسلمون، إن الناظر في واقع المسلمين اليوم ليعلم أن الأمة بمجموعها بعيدة عن الإيمان الصحيح الذي أراده الله والذي كان عليه أصحاب النبي إلا قليلا من المؤمنين، لذا فإننا لا نرى وعود الله تتحقق في واقع الأمة، وحاشا لله أن يخلف الوعد، ولكن الأمة هي التي ابتعدت عن طريق الإيمان، يُعدّ المسلمون بالملايين ولكن المؤمنين الصادقين منهم قليل، ولا يستوي المسلم والمؤمن، فالله تعالى قد حكم لأناس بإسلام وحكم لآخرين بإيمان كما قال تعالى: قَالَتِ ?لأَعْرَابُ ءامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـ?كِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ?لإِيمَـ?نُ فِى قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مّنْ أَعْمَـ?لِكُمْ شَيْئاً إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَـ?هَدُواْ بِأَمْو?لِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لصَّـ?دِقُونَ [الحجرات:14، 15]. فالإيمان تصديق القلب بالله وبرسوله. التصديق الذي لا يَرِدُ عليه شك ولا ارتياب. التصديق المطمئن الثابت المستيقن الذي لا يتزعزع ولا يضطرب، لا تهجس فيه الهواجس، ولا يتلجلج فيه القلب والشعور. والذي ينبثق منه بعد ذلك العمل والجهاد بالمال والنفس في سبيل الله. فالقلب متى تذوق حلاوة هذا الإيمان واطمأن إليه وثبت عليه، لا بد وأن يندفع لتحقيق حقيقته خارج القلب في واقع الحياة وفي دنيا الناس. قال الله تعالى: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـ?ناً وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ?لَّذِينَ يُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ أُوْلئِكَ هُمُ ?لْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَـ?تٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4]. نعم، المؤمنون حقاً هم الذين يستحقون الوعود التي وعد الله تعالى بها. فما هي هذه الوعود؟ لنتأمل في كتاب ربنا، وننظر ما هي الوعود التي وعد الله بها عباده المؤمنين إن كانوا مؤمنين؟
الوعد الأول: وَعَدَ الله تعالى عباده المؤمنين بالنجاةِ في الدنيا والآخرة: فقال تعالى: ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كَذَلِكَ حَقّا عَلَيْنَا نُنجِ ?لْمُؤْمِنِينَ [يونس:103]، إنها الكلمة التي كتبها الله على نفسه، أن تبقى البذرة المؤمنة في هذه الأرض وتنبت وتنجو بعد كل إيذاء وكل خطر، وبعد كل تكذيب وكل تعذيب. وقال تعالى عن نبيه يونس عليه السلام: فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـ?هُ مِنَ ?لْغَمّ وَكَذ?لِكَ نُنجِى ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88]، وكذلك ننجي المؤمنين، كما أنجينا يونس وأخرجناه من بطن الحوت فإننا ننجي كل مؤمن ونخرجه من كل كرب. قال الله تعالى: وَأَنجَيْنَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [النمل:53].
الوعد الثاني: الأمن في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]. الذين آمنوا وأخلصوا أنفسهم لله، لا يخلطون بهذا الإيمان شركاً في عبادة. هؤلاء لهم الأمن في الدنيا والآخرة، وهؤلاء هم المهتدون في الدنيا والآخرة. روى الإمام أحمد بسند صحيح عن عبد الله قال: لما نزلت: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله: فأينا لا يظلم نفسه. قال: إنه ليس الذي تعنون. ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: ي?بُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِ?للَّهِ إِنَّ ?لشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، إنما هو الشرك.
الوعد الثالث: من وعود الله لعباده المؤمنين التمكين لهم في الأرض، قال الله تعالى: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور:55]. هذا هو وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أن يستخلفهم في الأرض. وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم. هذا وعد الله، ووعد الله حق. ووعد الله واقع. ولن يخلف الله وعده، بهذا الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله، بخواطر نفسه، وخلجات قلبه وأشواق روحه، وميول فطرته، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعاً، بهذا الإيمان يتحقق التمكين في الأرض. إن التمكين في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح، لا على الهدم والإفساد. وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة، لا على الظلم والقهر. وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري، لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان!. هذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض ـ كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم ـ ليحققوا النهج الذي أراده الله، ويقرروا العدل الذي أراده سبحانه.
الوعد الرابع: النصر على الأعداء: قال الله تعالى: فَ?نتَقَمْنَا مِنَ ?لَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]. وسبحان الذي أوجب على نفسه نصر المؤمنين، وجعله لهم حقاً فضلاً منه وكرماً. وأكده لهم في هذه الصيغة الجازمة التي لا تحتمل شكاً ولا ريباً. كيف يتخلف هذا الوعد، والقائل هو الله القوي العزيز الجبار المتكبر، القاهر فوق عباده الحكيم الخبير. يقولها سبحانه معبرة عن إرادته التي لا ترد، وسنته التي لا تتخلف، وسلطانه الذي يحكم الوجود كله.
وقد يتأخر هذا النصر أحياناً في تقدير البشر لأنهم يحسبون الأمور بغير حساب الله، ويقدرون الأحوال لا كما يقدرها الله. والله هو الحكيم الخبير. يصدق وعده في الوقت الذي يريده ويعلمه، وفق مشيئته وسنته. وقد تتكشف حكمة توقيته وتقديره للبشر وقد لا تتكشف. ولكن إرادته هي الخير وتوقيته هو الصحيح. ووعده القاطع واقع عن يقين، يرتقبه الصابرون واثقين مطمئنين. فإن لم يكن النصر في الدنيا كان في الآخرة كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?دُ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ?لظَّـ?لِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ ?لْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ?لدَّارِ [غافر:51، 52]. قال الله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:171-173]. الوعد واقع وكلمة الله قائمة. ولقد استقرت جذور العقيدة في الأرض، وقام بناء الإيمان، على الرغم من جميع العوائق، وعلى الرغم من تكذيب المكذبين، وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمصلحين. هذه بصفة عامة.
وهي ظاهرة ملحوظة في جميع بقاع الأرض في جميع العصور، وهي كذلك متحققة في كل دعوة لله. يخلص فيها الجند، ويتجرد لها الدعاة. إنها غالبة منصورة مهما وُضعت في سبيلها العوائق، وقامت في طريقها العراقيل. ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار، وقوّى الدعاية والافتراء، وقوّى الحرب والمقاومة، وإن هي إلا معارك تختلف نتائجها. ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله، الذي لا يتخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه. الوعد بالنصر والتمكين والغلبة. هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية. سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في أفلاكها، وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان، ولكنها مرهونة بتقدير الله، يحققها حين يشاء. ولقد تبطئ آثارها الظاهرة ولكنها لا تخلف أبداً ولا تتخلف، ولقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك، وتدور عليهم الدائرة، ويقسو عليهم الابتلاء، لأن الله يُعدّهم للنصر في معركة أكبر. ولأن الله يهيئ الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ ثماره في مجال أوسع، وفي خط أطول، وفي أثر أدوم. لقد سبقت كلمة الله، ومضت إرادته بوعده، وثبتت سنته التي لا تتخلف ولا تحيد: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ. وهذا لا يتحقق إلا بالإيمان الصادق، فنسأل الله تعالى إيماناً صادقاً، ونصراً مؤزراً، إنه سميع مجيب.
الوعد الخامس: رغد العيش والحياة الطيبة: قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]. قد ينظر بعض الناس فيرى أمماً يقولون: إنهم مسلمون، وقد ضيق عليهم في الرزق، لا يجدون إلا الجدب والمحق! ويرى أمماً لا يؤمنون ولا يتقون، مفتوحاً عليهم في الرزق والقوة والنفوذ، فيتساءل: وأين إذًا هي السنة التي لا تتخلف. وهذا لا شك وهم تخيله ظواهر الأحوال، وسوء فهم لآيات الكون. إن أولئك الذين يقولون: إنهم مسلمون، لا يتحقق في أكثرهم أنهم مؤمنون ولا متقون! ويوم كان أسلاف هؤلاء الذين يزعمون الإيمان مؤمنين حقاً، دانت لهم الدنيا، وفاضت عليهم بركات من السماء والأرض، وتحقق لهم وعد الله.
إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى، بركات في الأشياء، وبركات في النفوس، وبركات في المشاعر، وبركات في طيبات الحياة، بركات تنمي الحياة وترفعها في آن واحد. وليست مجرد وفرة في المال مع الشقاء والتردي والانحلال. وإنما هي الحياة الطيبة التي قال الله فيها مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97]. نعم مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فبغير هذا الشرط، وبغير هذه القاعدة لا يقوم بناء. إن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض. لا يهم أن تكون ناعمة ثرية بالمال. فقد تكون به، وقد لا يكون معها. وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية: فيها الاتصال بالله، والثقة به، والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه. وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة، وسكن البيوت ومودات القلوب. وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة. وليس المال إلا عنصراً واحداً يكفي منه القليل، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله. فالحياة الطيبة مع الإيمان والإيمان مع الحياة الطيبة.
الوعد السادس: الرزق الكريم والمغفرة والجنة: ولو لم يكن للإيمان من ثمرة إلا هذا لكفى، فرضى الله أمنية نفوس المؤمنين، وهدف العاملين، وبغية المصلحين والجنة هي قمة النعيم وفي سبيلها يرخص الغالي وتبذل النفوس والأموال. قال الله تعالى: وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ ?للَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ?للَّهِ قِيلاً [النساء:122]. وقال تعالى: وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـ?هَدُواْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ ?لْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:74]. وقال تعالى: وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [البقرة:82]. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي جاءت بجزاء المؤمنين ومدحهم.
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من المؤمنين حقاً، وأن يرزقنا جنات النعيم.
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ مِنَ ?للَّهِ فَ?سْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ?لَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة:111].
أيها المسلمون، هذه هي حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين باللّه، حقيقة البيعة التي أعطاها المؤمن لربه طوال حياته. فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف المؤمن، وتتمثل فيه حقيقة الإيمان. وإلا فإن إيمانه دعوى تحتاج إلى دليل. حقيقة هذه البيعة أن اللّه سبحانه قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم، فلم يعد لهم منها شيء، لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله. لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا، كلا إنها صفقة مشتراة، لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء، وفق ما يفرِض ووفق ما يحدد، وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم، لا يتلفت ولا يتخير، ولا يناقش ولا يجادل، ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام. والثمن هو الجنة. والطريق هو الجهاد بالمال والنفس. والنهاية هي النصر أو الاستشهاد: إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ. من بايع على هذا، ومن أمضى عقد الصفقة، ومن ارتضى الثمن ووفى، فهو المؤمن. فالمؤمنون هم الذين اشترى اللّه منهم فباعوا، ومن رحمة اللّه أن جعل للصفقة ثمناً، وإلا فهو واهب الأنفس والأموال، وهو مالك الأنفس والأموال. ولكنه كرّم هذا الإنسان فجعل له الخيار في هذه الصفقة. وإنها لبيعة رهيبة، بيعة في عنق كل مؤمن قادر لا تسقط عنه إلا بسقوط إيمانه.
أيها المسلمون، لقد كانت هذه الكلمات تطرق قلوب مستمعيها الأولين على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتتحول من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع من واقع حياتهم، ولم تكن مجرد معان يتأملونها بأذهانهم، أو يحسونها مجردة في مشاعرهم. كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها. لتحويلها إلى حركة منظورة، لا إلى صورة متأمّلة. هكذا أدركها عبد اللّه بن رواحة رضي اللّه عنه في بيعة العقبة الثانية عندما قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: ((أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم)). قال: فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال: ((الجنة)) قالوا: ربح البيع، والله لا نقيل ولا نستقيل.
هكذا "ربح البيع والله لا نقيل ولا نستقيل". لقد أخذوها صفقة ماضية نافذة بين متبايعين، انتهى أمرها، وأُمضِي عقدها، ولم يعد إلى مرد من سبيل: "لا نقيل ولا نستقيل" فالصفقة ماضية لا رجعة فيها ولا خيار، والجنة ثمن مقبوض لا موعود! أليس الوعد من اللّه؟ أليس اللّه هو المشتري؟ أليس الله هو الذي وعد بالثمن. وعداً قديماً في كل كتبه: وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ [التوبة:111]. وَمَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ مِنَ ?للَّهِ. أجل! ومن أوفى بعهده من اللّه؟ إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كلِ مؤمن، كلُ مؤمنٍ على الإطلاق، منذ كانت الرسل ومنذ كان دين اللّه، إنها السنة الجارية التي لا تستقيم هذه الحياة بدونها، ولا تصلح الحياة بتركها: وَلَوْلاَ دَفْعُ ?للَّهِ ?لنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ?لارْضُ [البقرة:251]. وَلَوْلاَ دَفْعُ ?للَّهِ ?لنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صَو?مِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَو?تٌ وَمَسَـ?جِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ?سمُ ?للَّهِ كَثِيراً [الحج:40]. ما دام في الأرض باطل. وما دامت في الأرض عبودية لغير اللّه تذل كرامة الإنسان فالجهاد في سبيل اللّه ماضٍ، والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء. فَ?سْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ?لَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة:111]. استبشروا بإخلاص أنفسكم وأموالكم للّه، وأخذ الجنة عوضاً وثمناً كما وعد اللّه. وما الذي فات؟ ما الذي فات المؤمن الذي يسلم للّه نفسه وماله ويستعيض الجنة؟ واللّه ما فاته شيء. فالنفس إلى موت، والمال إلى فوت. سواء أنفقهما صاحبها في سبيل اللّه أم في سبيل سواه! والجنة كسب. كسب بلا مقابل في حقيقة الأمر ولا بضاعة! فالمقابل زائل في هذا الطريق أو ذاك! ودع عنك رفعة الإنسان وهو يعيش للّه ينتصر إذا انتصر لإعلاء كلمته، وتقرير دينه، وتحرير عباده من العبودية المذلة لسواه، والإيمان ينتصر فيه على الألم، والعقيدة تنتصر فيه على الحياة. إن هذا وحده كسب. كسب بتحقيق إنسانية الإنسان، فإذا أضيفت إلى ذلك كله الجنة، فهو بيع رابح يدعو إلى الاستبشار، وهو فوز لا ريب فيه ولا جدال فَ?سْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ?لَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ.
ليست الحياة لهواً ولعباً. وليست الحياة أكلاً كما تأكل الأنعام ومتاعاً. وليست الحياة سلامة ذليلة، وراحة بليدة، ورضى بالسلم والذل والخضوع. إنما الحياة كفاح في سبيل الحق، وجهاد في سبيل الخير، وانتصار لإعلاء كلمة اللّه، أو استشهاد في سبيل اللّه، ثم الجنة والرضوان. هذه هي الحياة التي يدعى إليها المؤمنون باللّه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24].
أيها المؤمن، إن الله تعالى قد وهبك النفس والمال ثم اشتراها منك ثم استخلفك عليها وجعلها أمانة عندك. فالمؤمن لا يملك نفسه ولا يملك ماله. ولا يستطيع أن يتصرف فيهما إلا بما أذن الله فيه. والذي يتبع نفسه هواها وينفق أوقاته وأمواله فيما لا يرضي الله فهو خارج من هذه الصفقة منحلٌّ من هذه البيعة. والكثير منا لا يعطي من نفسه لله، ولا يعطي من ماله لله، ولا يعطي من وقته لله، ولا يعطي من لسانه لله، ولا يعطي من قلمه لله، ولا يعطي من علمه لله، ولا يعطي من عقله لله، فكيف يستحق وعد الله؟ وكيف يستحق جزاء الله؟ وكيف يستحق جنة الله؟ ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة، على أننا نرجو للمحسن الموحد، ونخاف على المسيء المفرط.
اللهم..
(1/2939)
إنه الله جل جلاله
الإيمان
الله عز وجل
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
24/6/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسماء الله الحسنى. 2- بعض حاجات العباد التي لا غنى لهم فيها عن الله العظيم. 3- ذكر
بعض صفات الله عز وجل وأفعاله. 4- أهمية الإيمان بالله لسكون القلب وأمنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يقول الله تعالى في محكم تنزيله: وَللَّهِ ?لاسْمَاء ?لْحُسْنَى? فَ?دْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ?لَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأعراف:180]. وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعاً وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر)). قال ابن القيم رحمه الله: "وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها، وهو سبحانه يحب موجب أسمائه وصفاته، فهو عليم يحب كل عليم، جواد يحب كل جواد، وتر يحب الوتر، جميل يحب الجمال، عفوّ يحب العفو، هو حييّ يحب الحياء وأهله، بَرٌّ يحب الأبرار، شكور يحب الشاكرين، صبور يحب الصابرين، حليم يحب أهل الحلم" انتهى.
فهل لك أخي المسلم أن تتأمل معي بعض ما يسرد عليك بعد قليل وأن تتفكر فيه لتدرك شيئاً من أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله.
إذا حل الهم، وخيم الغم، واشتد الكرب، وعظم الخطب، وضاقت السبل وبارت الحيل. نادى المنادي: يا اللهُ يا الله (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم) فيفرّج الهم، وينفّس الكرب، ويذلل الصعب فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـ?هُ مِنَ ?لْغَمّ وَكَذ?لِكَ نُنجِى ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88]، إنه الله جل جلاله.
إذا أجدبت الأرض، ومات الزرع، وجف الضرع، وذبلت الأزهار، وذوت الأشجار، وغار الماء، وقل الغذاء، واشتد البلاء. خرج المستغيثون بالشيوخ الركع، والأطفال الرضع، والبهائم الرتع، فنادوا: يا اللهُ يا الله، فينزل المطر، وينهمر الغيث، ويذهب الظمأ، وترتوي الأرض وَتَرَى ?لأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ?لْمَاء ?هْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5]، إنه الله جل جلاله.
إذا اشتد المرض بالمريض، وضعف جسمه، وشحب لونه، وقلت حيلته، وضعفت وسيلته، وعجز الطبيب، وحار المداوي، وجزعت النفس، ورجفت اليد، ووجف القلب، وانطرح المريض، واتجه العليل، إلى العليّ الجليل. ونادى: يا اللهُ يا الله، فزال الداء، ودب الشفاء، وسُمع الدعاء وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى? رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَيْنَـ?هُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى? لِلْعَـ?بِدِينَ [الأنبياء:83، 84]. إنه الله جل جلاله.
إذا انطلقت السفينة بعيداً في البحر اللجيّ، وهبّت الزوابع، وتسابقت الرياح، وتلبدّ الفضاء بالسحب، واكفهر وجه السماء، وأبرق البرق، وأرعد الرعد، وكانت ظلمات بعضها فوق بعض، ولعبت الأمواج بالسفينة، وبلغت القلوب الحناجر، وأشرفت على الغرق، وتربص الموت بالركّاب. اتجهت الأفئدة، وجأرت الأصوات، يا اللهُ يا الله، فجاء عطفه، وأشرق ضياؤه في الظلام الحالك، فأزال المهالك هُوَ ?لَّذِى يُسَيّرُكُمْ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ حَتَّى? إِذَا كُنتُمْ فِى ?لْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ ?لْمَوْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـ?ذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لشَّـ?كِرِينَ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى? أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [يونس:22، 23]، إنه الله جل جلاله.
إذا حلقت الطائرة في الأفق البعيد، وكانت معلقة بين السماء والأرض، فأشّر مؤشر الخلل، وظهرت دلائل العطل، فذعر القائد، وارتبك الركاب، وضجت الأصوات، فبكى الرجال، وصاح النساء، وفُجع الأطفال، وعم الرعب، وخيم الهلع، وعظم الفزع، ألحُّوا في النداء، وعظم الدعاء، يا اللهُ يا الله، فأتى لطفه، وتنزلت رحمته، وعظمت منّته، فهدأت القلوب، وسكنت النفوس، وهبطت الطائرة بسلام. إنه الله جل جلاله.
إذا اعترض الجنين في بطن أمه، وعسرت ولادته، وصعبت وفادته، وأوشكت الأم على الهلاك، وأيقنت بالممات. لجأت إلى منفّس الكربات، وقاضي الحاجات، ونادت: يا اللهُ يا الله، فزال أنينها، وخرج جنينها. بارك الله لها في الموهوب، ورزقت بره، وجعله الله من عباده الصالحين.
إذا حلّت بالعالِم معضلة، وأشكلت عليه مسألة، فتاه عن الصواب، وعزّ عليه الجواب، مرّغ أنفه بالتراب، ونادى: يا اللهُ يا الله، يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. فيأتي التوفيق، وتُحلّ المغاليق، فينكشف السحاب، ويُلهم الجواب.
أيها المسلمون، إنه الله جل جلاله، إنه الملاذ في الشدة، والأنيس في الوحشة، والنصير في القلة، يتجه إليه المريض الذي استعصى مرضه على الأطباء، ويدعوه آملاً في الشفاء، ويتجه إليه المكروب يسأله الصبر والرضا، والخُلف من كل فائت، والعوض من كل مفقود، ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ [البقرة:156]، ويتجه إليه المظلوم آملاً يوماً قريباً ينتصر فيه على ظالمه فليس بين دعوة المظلوم وبين الله حجاب أَنّى مَغْلُوبٌ فَ?نتَصِرْ [القمر:10].
ويتجه إليه المحروم من الأولاد سائلاً أن يرزقه ذرية طيبة رَبّ إِنّى وَهَنَ ?لْعَظْمُ مِنّى وَ?شْتَعَلَ ?لرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً وَإِنّي خِفْتُ ?لْمَوَالِىَ مِن وَرَائِى وَكَانَتِ ?مْرَأَتِى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ وَ?جْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً ي?زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلَـ?مٍ ?سْمُهُ يَحْيَى? لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً [مريم:4-7].
وكل واحد من هؤلاء يُؤمّل في أن يجاب إلى ما طلب، ويحقق له ما ارتجى، فما ذلك على قدرة الله ببعيد، وما ذلك على الله بعزيز.
أي سكينة يشعر بها المؤمن حين يلجأ إلى ربه في ساعة العسرة، ويوم الشدة، فيدعوه بما دعا به محمد صلى الله عليه وسلم من قبل: ((اللهم رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر)).
إنه الله جل جلاله، سلوة الطائعين، وملاذ الهاربين، وملجأ الخائفين، قال أبو بكر الكتاني: جرت مسألة بمكة أيام الموسم في المحبة، فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد رحمه الله أصغرهم سناً، فقالوا له: هات ما عندك يا عراقي. فأطرق ساعة، ودمعت عيناه، ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، ومتصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هيبته، وصفا شربه من كأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيبته، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن عمل فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو لله وبالله ومع الله، فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد. جبرك الله يا تاج العارفين.
إليه وإلاّ لا تُشدّ الركائب ومنه وإلاّ فالمؤمل خائب
وفيه وإلاّ فالغرام مضيّعٌ وعنه وإلاّ فالمحدث كاذب
من علق نفسه بمعروف غير معروف الله فرجاؤه خائب، ومن حدث نفسه بكفاية غير كفاية الله فحديثه كاذب، لا يغيب عن علمه غائب، ولا يعزب عن نظره عازب وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ?لأرْضِ وَلاَ فِى ?لسَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذ?لِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [يونس:61].
أيها المسلمون، إنه الله جل جلاله، كما قال سبحانه عن نفسه: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ [الرحمن:29]، يغفر ذنباً، ويفرّج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين، يحيي ميتاً ويميت حياً، ويجيب داعياً، ويشفي سقيماً، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، يجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويعلم جاهلاً، ويهدي ضالاً، ويرشد حيراناً، ويغيث لهفاناً، ويفك عانياً، ويشبع جائعاً، ويكسو عارياً، ويشفي مريضاً، ويعافي مبتلىً، ويقبل تائباً، ويجزي محسناً، وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً، ويقيل عثرةً، ويستر عورةً، ويؤمن روعةً.
إنه الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى، السماء بناها، والجبال أرساها، والأرض دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، يبسط الرزق، ويغدق العطاء، ويرسل النعم.
إنه الله التواب الرحيم، ذو الفضل العظيم، الواسع العليم، العزيز الحكيم، ابتلى إبراهيم بكلمات، وسمع نداء يونس في الظلمات، واستجاب لزكريا فوهبه على الكبر يحي هادياً مهديا، وحناناً من لدنه وكان تقياً، أزال الكَرب عن أيوب، وألان الحديد لداود، وسخر الريح لسليمان، وفلق البحر لموسى، ورُفع إليه عيسى، وشق القمر لمحمد صلى الله عليه وسلم، ونجى هوداً وأهلك قومه، ونجى صالحاً من الظالمين، فأصبح قومه في دارهم جاثمين، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وفدى إسماعيل بذبح عظيم، وجعل عيسى وأمه آية للعالمين، ونجى لوطاً وأرسل على قومه حجارة من سجيل منضود، ونجى شعيباً برحمته، وأهلك أهل مدين بعدله أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ [هود:95].
إنه الله جل جلاله، أغرق فرعون وقومه، ونجّاه ببدنه ليكون لمن خلفه آية، وخسف بقارون وبداره الأرض وَأَصْبَحَ ?لَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِ?لاْمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ?للَّهَ يَبْسُطُ ?لرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ ?للَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ?لْكَـ?فِرُونَ [القصص:82]. ونجّا يوسف من غياهب الجب، وجعله على خزائن الأرض.
إنه الله جل جلاله، أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، وأسعد وأشقى، وأوجد وأبلى، ورفع وخفض، وأعز وأذل، وأعطى ومنع، ورفع ووضع.
هدى نوحاً وأضل ابنه، واختار إبراهيم وأبعد أباه، وأنقذ لوطاً وأهلك امرأته ولعن فرعون وهدى زوجته، واصطفى محمد صلى الله عليه وسلم ومقت عمه وجعل من أنصار دعوته أبناء ألد خصومه كخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، فسبحانه عدد خلقه، وسبحانه رضا نفسه، وسبحانه زنة عرشه، وسبحانه مداد كلماته.
إنه الله جل جلاله، أرغم أنوف الطغاة، وخفض رؤوس الظلمة، ومزق شمل الجبابرة، ودمّر سد مأرب بفأرة، وأهلك النمرود ببعوضة، وهزم أبرهة بطير أبابيل، عذب امرأة في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، وغفر لامرأة بغيّ لأنها سقت كلباً كاد يموت من العطش.
قال ابن الجوزي رحمه الله: "نظر بعين الاختيار إلى آدم، فحظي بسجود ملائكته، وإلى ابنه، فأقامه في منزلته، وإلى نوح، فنجاه من الغرق بسفينته، وإلى إبراهيم، فكساه حلّة خلّته، وإلى إسماعيل، فأعان الخليل في بناء كعبته، وافتداه بذبح عظيم من ضجعته، وإلى لوط، فنجّاه وأهله من عشيرته، وإلى شعيب، فأعطاه الفصاحة في خطبته، وإلى يوسف، فأراه البرهان في همّته، وإلى موسى، فخطر في ثوب مكالمته، وإلى داود فألان الحديد له على حدته، وإلى سليمان، فسخّر له الريح يتنقل بها في مملكته، وإلى أيوب، فيا طوبى لركضته، وإلى يونس، فسمع نداءه في ظلمته، وإلى زكريا، فقرن سؤاله ببشارته، وإلى عيسى، فكم أقام ميتاً من حفرته، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم، فخصه ليلة المعراج بالقرب من حضرته والوصول إلى سدرته.
وأعرض عن إبليس، فخَزَي ببعده ولعنته، وعن قابيل، فقلب قلبه إلى معصيته، وعن نمرود، فقال: أنا أحيي الموتى ببلاهته، وعن فرعون، فادعى الربوبية على جرأته، وعن قارون، فخرج على قومه في زينته، وعن أبي جهل، فشقي مع سعادة أمه وابنه وابنته، هكذا جرى تقديره ولا اعتراض على قسمته وَيُسَبّحُ ?لرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ?لْمَلْـ?ئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الرعد:13]" انتهى.
أيها المسلمون، إنه الله جل جلاله، من تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً، ومن تقرب إليه ذراعاً تقرب إليه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، فالباب مفتوح ولكن من يلج؟ والمجال مفسوح ولكن من يُقبل؟ والحبل ممدود ولكن من يتشبث به؟ والخير مبذول ولكن من يتعرض له؟ فأين الباحثون عن الأرباح؟ وأين خطّاب الملاح؟ أين عشّاق العرائس؟ وطلاّب النفائس؟!
من أقبل إليه، تلقاه من بعيد، ومن أعرض عنه، ناداه من قريب، ومن ترك من أجله أعطاه فوق المزيد، ومن أراد رضاه، أراد ما يريد، ومن تصرف بحوله وقوته، ألان له الحديد، أهل ذكره هم أهل مجالسته، وأهل شكره هم أهل زيادته، وأهل طاعته هم أهل كرامته، وأهل معصيته لا يقنطهم من رحمته إن تابوا إليه فهو حبيبهم، وإن لم يتوبوا فهو رحيم بهم، يبتليهم بالمصائب ليطهرهم من المعايب، الحسنة عنده بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، والسيئة عنده بواحدة، فإن ندم عليها واستغفر، غفرها له، يشكر اليسير من العمل، ويغفر الكثير من الزلل.
يا نفس توبي فإن الموت قد حانا واعصي الهوى فالهوى ما زال فتّانا
أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً وتُلحق أُخرانا بأولانا
في كل يوم لنا ميت نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا
يا نفس ما لي وللأموال أتركها خلفي وأخرج من دنياي عريانا
ما بالنا نتعامى عن مصائرنا ننسى بغفلتنا من ليس ينسانا
أين الملوك وأبناء الملوك ومن كانت تخرّ له الأذقان إذعانا
صاحت بهم حادثات الدهر فانقلبوا مستبدلين من الأوطان أوطانا
خلوا مدائن كان العز مفرشها واستفرشوا حفراً غُبراً وقيعانا
يا راكضاً في ميادين الهوى مرحاً ورافلاً في ثياب الغيّ نشوانا
مضى الزمان وولى العمر في لعبٍ يكفيك ما قد مضى قد كان ما كانا
نسأل الله تعالى أن يبصرنا بحالنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول هذا القول...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون: اعلموا رحمني الله وإياكم أن من لم يتقطع قلبه في الدنيا على ما فرّط حسرة وخوفاً تقطع قلبه في الآخرة إذا حُقّت الحقائق، وظهرت الوثائق، وحضرت الخلائق، وعاين ثواب المطيعين، وعقاب العاصين يَوْمَ يَنظُرُ ?لْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ ?لْكَافِرُ يَـ?لَيْتَنِى كُنتُ تُر?باً [النبأ:40].
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمتُ بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم
أدعوك رب كما أمرت تضرعاً فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
مالي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إني مسلم
أيها الأحبة، إن في القلب شعثاً لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضى بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى لقائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبداً.
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود يا غاية المنى فكل الذي فوق التراب تراب
سبحانه ما أعظمه وأرحمه، سبحانه سبقت رحمته غضبه، سبحانه سبق عفوه عقوبته، لا أحد أصبر على أذى خلقه منه، تجرأ عليه اليهود فقالوا: يَدُ ?للَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64]، وتجرأ عليه النصارى فقالوا: إِنَّ ?للَّهَ ثَـ?لِثُ ثَلَـ?ثَةٍ [المائدة:73]، لَقَدْ كَفَرَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْمَسِيحُ ?بْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ?لْمَسِيحُ يَابَنِى إِسْر?ءيلَ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ لَّقَدْ كَفَرَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ ثَـ?لِثُ ثَلَـ?ثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـ?هٍ إِلاَّ إِلَـ?هٌ و?حِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة:72، 73]، ومع كل هذه الجرأة دعاهم جل وعلا إلى التوبة فقال بعد ذلك: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى? ?للَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة:74]، فلو تابوا لقبل توبتهم وغسل حوبتهم، هذا وهم كفار مشركون، يهود ونصارى فكيف بالمسلم العاصي.
فسبحانه من خالق عظيم، جواد كريم، الكرم صفة من صفاته، والجود من أعظم سماته، والعطاء من أجل هباته، فمن أعظم منه جوداً؟ الخلائق له عاصون وهو لهم مراقب، يكلؤهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوه، ويتولى حفظهم كأنهم لم يذنبوا، يجود بالفضل على العاصي، ويتفضل على المسيء، من ذا الذي دعاه فلم يستجب له؟ أم من ذا الذي سأله فلم يعطه؟ أم من ذا الذي أناخ ببابه فنحاه؟ فهو ذو الفضل ومنه الفضل، وهو الجواد ومنه الجود، وهو الكريم سبحانه ومنه الكرم.
(1/2940)
بعد رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
3/10/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مضي شهر العبادة والإنابة ودعوة للاستقامة بعده. 2- من علامات قبول رمضان الثابت
على الطاعة بعده. 3- قد تبطل السيئات الحسنات. 4- فضل الاستقامة والمداومة على العمل
الصالح. 5- دعوة إلى عدم مجاوزة السنة في الفتور بعد رمضان. 6- العودة إلى المعاصي
والغفلة كفران للنعمة ونكوص عنها. 7- صيام الست من شوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا...
أما بعد: لقد كان شهر رمضان المعظم، ميداناً لتنافس الصالحين بأعمالهم، ومجالاً لتسابق المحسنين بإحسانهم، كم تهذبت نفوسنا ولله الحمد في تلكم الأيام والليالي، لقد تروضنا على الفضيلة وارتفعنا عن الرذيلة، وأخذنا دروساً ودروساً في سمو النفس، واكتسبنا هدى ورشاداً وازددنا أخلاقاً وإحساناً، فحمداً لك يا رب، على نعمك وأفضالك.
عباد الله، كنتم في شهر الخير والبركة، تصومون نهاره وتقومون من ليله، وتتقربون إلى ربكم بأنواع القربات، طمعاً في ثوابه وخوفاً من عقابه، ثم انتهت تلكم الأيام، وكأنها طيف خيال قد قطعتم بها مرحلة من حياتكم لن تعود إليكم، وإنما يبقى لكم ما أودعتموه فيها من خير أو شر، وهكذا كل أيام العمر مراحل تقطعونها يوماً بعد يوم، في طريقكم إلى الدار الآخرة، فهي تنقص من أعماركم وتقربكم من آجالكم.
عباد الله، تذكروا قبل أيام، يوم استقبلنا شهر رمضان، كنا فرحين مسرورين على إدراكه، وهي بلا شك نعمة كبرى، كنا نتبادل التهاني، يهنئ بعضنا بعضاً، وبالأمس ودعناه بالعيد، ودعه الصالحون أمثالكم بعبرات حشرجت بها الصدور، ودمعات أسالتها لوعة الفراق أو خوف عدم القبول، والفطن منا يتساءل: من سيستقبله منّا بعد، من الذي خرج كيوم ولدته أمه، من الذي سيضمه القبر منا وسيشفع له مواطن الركوع والسجود.
تذكرت أياماً مضت وليالياً خلت فجرت من ذكرهن دموع
ألا هل لها يوماً من الدهر عودة وهل لبدور قد أفلن طلوع
عباد الله، ما أجمل الطاعة إذا أتبعت بطاعة ما أجمل الحسنة تتبعها حسنة بعدها، ما أحسن الإحسان يليه الإحسان، والمعروف يليه المعروف والخير يليه الخير، قال تعالى: وَ?لَّذِينَ ?هْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءاتَـ?هُمْ تَقُوَاهُمْ [محمد:17]، وقال: وَيَزِيدُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ?هْتَدَواْ هُدًى وَ?لْبَِّقِيَـ?تُ ?لصَّـ?لِحَـ?تُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً [مريم:76]، وقال: إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ [يونس:9].
قال العلماء: إن من علامة قبول الحسنة أن تُتْلى بشكر صادق على التوفيق لها وبعمل صالح مماثل لها.
فيا إخوتي في الله الذين أكرمكم الله بأنواع الطاعات وتقربتم إلى الله في أيام رمضان ولياليه بأنواع القربات، محلقة بذلك نفوسكم مع عالم السماء الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون صياماً وصلاةً وتلاوةً وبراً وصلةً وإحساناً واستغفاراً وذكراً وربما مشاركة في من عنوا بقول الله سبحانه: وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَ?لْقَائِمِينَ وَ?لرُّكَّعِ ?لسُّجُودِ [الحج:26]، واصلوا سيركم إلى الله، تعاهدوا زرعكم.
فمن زرع الحبوب وما سقاها تأوه نادماً يوم الحصاد
حافظوا على ما وفقتم له من طاعة الله والتأهل به للفوز بمرضاة الله وحسن الوفادة عليه، يوم أن تغادروا هذه الحياة إلى عالم الأموات وذلك بلزوم طاعته والبعد كل البعد عن الاغترار بالعمل أو رؤية استكثاره، فما هذا نهج عباد الرحمن الراجين الفوز برضى الله وحسن الوفادة عليه، بل نهجهم في قول الله سبحانه: إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَ?لَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَـ?هَدُواْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ ?للَّهِ [البقرة:218]، وقوله: وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى? رَبّهِمْ ر?جِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَـ?رِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَهُمْ لَهَا سَـ?بِقُونَ [المؤمنون:60، 61].
أيها الإخوة المؤمنون، لئن كان فعل السيئة قبيحاً فإنه يعظم قبحه وتشتد شناعته وبشاعته إذا جاء بعد فعل الحسنة، فلئن كانت الحسنات يذهبن السيئات، فان السيئات قد يبطلن صالح الأعمال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَـ?تِكُم بِ?لْمَنّ وَ?لاْذَى? [البقرة:264]، فحذار أيها الإخوة، حذار يا من سمت نفوسهم في رمضان إلى درجات الصالحين، ونعمت بلذة المناجاة والانضمام في سلك الطائعين، أن تهدموا ما بنيتم، وتبددوا ما جمعتم، حذار حذار تصدئوا قلوباً ونفوساً خلصت لله ونقيت وصفيت من لوثة العصيان بإعادتها فما أقبح النكوص على الأعقاب والالتفات عن الله بعد إن أقبلت عليه تائباً من ذنبك راغباً في رحمته خائفاً من نقمته، حذار بعد أن كنت في عداد الطائعين وحزب الرحمن وأُهّلت للباس العفو والغفران أن تخلعه بالمعصية فتكون من حزب الشيطان، قال تعالى ـ والعبرة بعموم الألفاظ ـ: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـ?ثًا [النحل:92]، وقال في المرابين: فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ فَ?نتَهَى? فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى ?للَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [البقرة:275]، قيل لبشر الحافي: إن قوماً يتعبدون في رمضان فإذا انسلخ تركوا. قال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان. وقال الحسن: لا يكون لعمل المؤمن أجل دون الموت، وقرأ: وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل)) رواه مسلم، وقال جل من قائل: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13].
إن أصحاب العبادات الموسمية، هؤلاء لا تنفعهم يوم القيامة والذي كان يعبد رمضان يجب عليه إن يعلم بأن رمضان شهر لا ينفع ولا يضر. ثم إذا عبدت الله في رمضان، ثم عدت كما كنت في شوال ومت في شوال، فماذا ينفعك رمضان فالعبرة بالخواتيم لقد كنا نؤمن مع الإمام في صلاة الوتر: اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها وخير أعمالنا خواتمها، هل كنا نعي ما نؤمن عليه، لو كنا نعي حقيقة لحرصنا على خير الأعمار وخير الأعمال بعد رمضان.
أيها المسلمون، كم هو محزن أن يوفق أناس لعمل الطاعات والتزود في فرص الخيرات حتى ما إذا انتهى الموسم نقضوا ما أبرموا، وعلى أعقابهم نكصوا، واستدبروا الطاعات بالمعاصي، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، تلك هي النكسة المردية والخسارة الفادحة أين دروس الصلاح والطهر والاستقامة والتقى من شهر رمضان.
هل رأيتم أعظم مقتاً من الكسل بعد الجد، والتواني بعد العزم، ولكن أشد منه، من تنكب السبيل فعاد إلى حماه، الصبوات والهفوات، ومقارفة الآثام بعد إذ نجاه الله منها.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وأروه من أنفسكم خيراً فمن كان مجداً فليزدد، ومن كان مقصراً فليرجع، من غلبه هوى أوتشاغل بلهو أيام العيد، فليبادر بالتوبة النصوح، وليعظم رجاؤه بربه، فأبواب التوبة مفتوحة، ومولاه يناديه: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53].
أيها المسلمون، ثم هاهنا نقطة قد نغفل عنها، وهو أننا عندما نطالب بالاستمرار في الأعمال الصالحة بعد رمضان فإنه لا يلزم ولا يمكن أصلاً أن يكون الناس في مستواهم التعبدي في شوال بنفس المستوى الذي كانوا عليه في رمضان، والذي يطالب بهذا فهو يطالب بالمستحيل، فشهر رمضان شهر مميز وله خصوصيات، ومن خصوصياته الإكثار من التعبد فوق المستوى العادي للفرد طوال السنة. لكن الذي نطالب به، هو عدم النزول عن المستوى الأدنى الذي يلحق الإنسان بالتقصير وربما الاثم والوزر، فالمستوى الأدنى الذي نطالب به هو المحافظة على الصلوات الخمس في المساجد، والمستوى الأدنى الذي نطالب به هو إن لا تعص الله في شوال.
فلنتق الله أيها الإخوة، ولننظر ماذا خرجنا به وماذا نحن عليه، فمن وجد خيراً فليحمد الله وليزدد من الخير ومن وجد غير ذلك، فليتذكر أن الموت آت في أيّة لحظة قد لا يسبقها مقدمات، لا يلزم من الموت مقدمات كمرض أو نحوه، فآلاف الناس قد ماتوا بدون مقدمات، فنحن نعيش في زمن موت الفجأة، وجهنم آتية، قال الله تعالى عنها عما تستقبل به أهلها: إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً لاَّ تَدْعُواْ ?لْيَوْمَ ثُبُوراً و?حِداً وَ?دْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً قُلْ أَذ?لِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ ?لْخُلْدِ ?لَّتِى وَعِدَ ?لْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ خَـ?لِدِينَ كَانَ عَلَى? رَبّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً [الفرقان:12-16].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم...
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن مقابلة نعمة التوفيق لصيام شهر رمضان بارتكاب المعاصي بعد خروجك من تبديل نعمة الله كفراً، فمن عزم على معاودة المعاصي بعد رمضان، فصيامه عليه مردود، وباب الرحمة في وجهه مسدود.
أيها المسلمون، إن فضل الله علينا متواصل، ومواسم المغفرة لا تزال متتالية لمن وفقه الله لاغتنامها. فإنه لما انقضى شهر رمضان، دخلت أشهر الحج إلى بيت الله الحرام، فكما أن من صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، فكذلك من حج البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه، فاعزموا النية على حج بيته من الآن، وتابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد.
أيها المسلمون، ألزموا أنفسكم المسلك القويم، الذي سلكتموه في رمضان، من اجتناب المعاصي، والإكثار من أعمال البر، ومتابعة الإحسان بالإحسان، وإن من متابعة الإحسان، صيام ستة أيام من شوال ندبكم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر كله)) رواه مسلم. إنني أوصي نفسي وأوصي إخواني بصيام هذه الست، فإن صيامها مع رمضان يعادل صيام العام كله.
اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت واصرف عنا سيئها لا يصرف عنها سيئها إلا أنت...
(1/2941)
بعض عقوبات الله وبعض أسبابها
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
16/10/1415
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة نزول المطر. 2- نقمة الإغراق بالمطر والماء. 3- إمطار قوم لوط بالحجارة. 4-
الفرقة والبغضاء من عقوبات الله للأمم. 5- أسباب هلاك الأمم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: اعلموا رحمني الله وإياكم، بأن نزول الأمطار من نعم الله العظيمة، على القرى والمدن والمجتمعات، يستفيد منه الناس، وتستفيد البهائم، وكذلك الزروع وَأَنزَلْنَا مِنَ ?لْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّـ?تٍ أَلْفَافاً [النبأ:14-16]، وقال عز وجل: أَفَرَءيْتُمُ ?لْمَاء ?لَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ?لْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ?لْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـ?هُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [المعارج:68-70]. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "ثم تأمل الحكمة البالغة في نزول المطر على الأرض من علو، ليعم بسقيه وهادها، وتلولها، وظرابها وأكامها، ومنخفضها ومرتفعها، ولو كان ربها تعالى إنما يسقيها من ناحية من نواحيها، لما أتى الماء على الناحية المرتفعة إلا إذا اجتمع في السفلى وكثر، وفي ذلك فساد، فاقتضت حكمته أن سقاها من فوقها فينشئ سبحانه السحاب وهي روايا الأرض، ثم يرسل الرياح فتلقحها كما يلقح الفحل الأنثى، ثم ينزل منه على الأرض، ثم تأمل الحكمة البالغة في إنزاله بقدر الحاجة، حتى إذا أخذت الأرض حاجتها وكان تتابعه عليها بعد ذلك يضرها، أقلع عنها وأعقبه بالصحو" انتهى.
ولقد شهدت المنطقة ولله الحمد والمنة، في الأيام القريبة الماضية، أمطاراً عجيبة. وإن استمرار نزول رحمات الرب، يحتاج من أهل القرى والمدن والشعوب والأمم، يحتاج الإيمان والطاعة والاستقامة. قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ [الأعراف:96]، وإن استمرار نزول بركات المولى جل وعلا يحتاج منا إلى ترك الذنوب والمعاصي، والتوبة والاستغفار، قال الله تعالى: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12]، وقال عز وجل: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود:52].
وإن استمرار نزول الغيث يحتاج منا إلى أداء زكاة أموالنا، وفي الحديث: ((ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا)). لكن هناك وجه آخر لنزول الأمطار من السماء، أحياناً، لا يكون نزوله رحمة، بل هو عذاب وعقوبة إلهية لتلك القرية، أو لتلك الأمة وقد أهلك الله عز وجل أمماً وأقواماً بهذا الماء، في القديم وفي الحديث. وقد ذكر الله عز وجل في كتابه، عقوبة الغرق بالماء، لأقوام عتوا عن أمر ربهم. وهم قوم نوح عليه السلام وذلك بعدما أعرضوا عن الدعوة، ولم يؤمنوا بما قال لهم نوح عليه السلام. أغرقهم الله عز وجل بالماء، بإرسال السماء عليهم مدراراً، وبتفجير ينابيع الأرض حتى تشكل طوفان هائل، وجعل سبحانه لنوح عليه السلامة علامة لبداية عملية إغراق أولئك القوم بالماء، هو فوران التنور، قال الله تعالى: ?صْنَعِ ?لْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ ?لتَّنُّورُ فَ?سْلُكْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ ?ثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ?لْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ [المؤمنون:27]، وقال سبحانه: حَتَّى? إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ ?لتَّنُّورُ قُلْنَا ?حْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ ?ثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ?لْقَوْلُ وَمَنْ ءامَنَ وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [هود:40]، وجاء تفصيل عملية الغرق بالماء في موضع آخر فقال عز من قائل: فَفَتَحْنَا أَبْو?بَ ?لسَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا ?لأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى ?لمَاء عَلَى? أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ L وَحَمَلْنَاهُ عَلَى? ذَاتِ أَلْو?حٍ وَدُسُرٍ M تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ [القمر:11-14].
وعقوبة الغرق بالماء، حصلت أيضاً لقوم فرعون، وذلك عندما آذوا موسى عليه السلام، ولم يقبلوا ما جاء به، أغرقهم الله بالماء، الماء الذي كان فرعون يفتخر ويتكبر ويقول: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي، فهذا الماء الذي كان يجري من تحته جعله الله فوقه، وهذه عقوبة التمرد على دين الله عز وجل، قال الله تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْر?ءيلَ ?لْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى? إِذَا أَدْرَكَهُ ?لْغَرَقُ قَالَ ءامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـ?هَ إِلاَّ ?لَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْر?ءيلَ وَأَنَاْ مِنَ ?لْمُسْلِمِينَ ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ?لْمُفْسِدِينَ فَ?لْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مّنَ ?لنَّاسِ عَنْ ءايَـ?تِنَا لَغَـ?فِلُونَ [يونس:90-92].
أيها المسلمون، هذا نوع من أنواع العقوبات الإلهية لأولئك الذين حاربوا دين الله عز وجل، أرسل الله لهم أحد جنوده، وهو الماء، فأغرق ودمّر بأمر الله عز وجل: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى? لِلْبَشَرِ [المدثر:31]، إن جنود الله عز وجل في إهلاك المخالفين وتأديب المعاندين، وتذكير المتآخرين بما حصل للمتقدمين لا عد له ولا حصر، والله جل وتعالى يهلك ويعاقب كل قرية بما يناسبها. وإليكم بعض صور عقوبات الله.
فمن عقوبات الله عز وجل، بدل إمطار الماء، إمطار الحجارة قال عز وجل: فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـ?لِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ وَمَا هِى مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:82، 83]، هذه هي العقوبة التي حصلت لأهل تلك القرية، التي انتشرت فيها الفاحشة، عاقبهم الله عز وجل بعقوبتين: الأولى: جعلنا عاليها سافلها: وضع جبريل عليه السلام جناحه ثم رفع القرية إلى السماء، حتى سمع أهل السماء بنباح كلابهم، ثم قلبها. العقوبة الثانية: وأمطرنا عليهم حجارة. إن الماء لو كثر نزوله من السماء، لأفسد وخرّب ولا أحد يستطيع أن يقف في وجهه، مهما أوتي من قوة، فما بالكم إذا كانت الأمطار من حجارة، نعوذ بالله من الخذلان، لكن هذه هي عقوبة القرية التي ينتشر فيها الفاحشة التي ذكرها الله عز وجل.
ومن عقوبات الله جل وتعالى لأهل القرى التفرق، نعم، فقد يوقع الله التفرق في مجتمع أو في أمة بسبب المخالفات التي يرتكبونها، فلا تجدهم يتفقون على رأي، قال الله تعالى: وَمِنَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَـ?رَى? أَخَذْنَا مِيثَـ?قَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ?لْعَدَاوَةَ وَ?لْبَغْضَاء إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ ?للَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة:14]. أي عقوبة أشد من أن أبناء الدين الواحد يحصل بينهم العداوة والبغضاء، والسبب: أنهم نسوا حظاً مما ذكروا به.
ومن عقوبات الله أيضاً، إرسال الريح، هذا الهواء الجميل، لو زاد بأمر الله عز وجل لتحول من نعمة إلى نقمة، ولقد عوقب أقوام بالريح، فأفسد عليهم منازلهم وخرّب بيوتهم قال الله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ ?لْخِزْىِ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ?لآخِرَةِ أَخْزَى? وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ [فصلت:16]. وقال عز وجل: وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ?لرّيحَ ?لْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِن شَىْء أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَ?لرَّمِيمِ [الذاريات:41، 42]، وقال سبحانه: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَـ?نِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى ?لْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى? كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [الحاقة:6، 7]. ما أهون الخلق على الله، إذا هم خالفوا أمره، وحاربوا دينه، وآذوا أولياءه.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، هذه بعض عقوبات الله للأمم، والمجتمعات، وإلا فما ذكر في كتاب الله، أكثر من هذا، وليس المقام هنا، مقام استعراض هذه العقوبات، وإنما هذه بعضها، لندرك أن كل ما في الكون جنود لله عز وجل، وبأمره يعملون، وإذا أراد سبحانه شيئاً فإنما يقول له كن فيكون. فاتقوا الله عباد الله، واحذروا المخالفة، واحذروا الإعراض عما أمر الله، فإن الله جل وتعالى يغار على دينه، ويغار على أوليائه، والمخالفات والمعصيات، والتمرد، له زمن محدود، والله يمهل ولا يهمل.
وما من قرية حصل فيها شيء يخالف ما أمر الله به، إلا ونزل بهم ما يستحقون.
فنسأل الله جل وتعالى أن يعاملنا بلطفه ورحمته، وعفوه، وألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه...
أما بعد: قد يقول قائل : ما ذكر من بعض صور عقوبات الله للأمم والمجتمعات، بسبب المخالفات، هذا كلام عام. فما هي هذه المخالفات، التي قد تكون سبباً في أن يهلك الله أمة أو مجتمع أو قرية، بالغرق أو بالريح، أو بغيرها من العقوبات الإلهية.
فيقال أيضاً: إن الأسباب كثيرة، لكن إليك بعضها: فمن أسباب إهلاك الله للأمم، والمجتمعات الذنوب. قال الله تعالى: أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ?لسَّمَاء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا ?لأنْهَـ?رَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَـ?هُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءاخَرِينَ [الأنعام:6]. وقال عز وجل: فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ?لصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ?لأرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـ?كِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].
هكذا الذنوب تفعل بأصحابها، ونحن والله المستعان نستهين بها، بل أصبحت أشياءً عادية في حياتنا اليومية، وهي سبب رئيس في إهلاك الأمم والشعوب.
يقول أحدهم : كيف تريدون أن يلطف الله بنا؟ وينزل علينا نعمه ويرحمنا برحمته، وفي السابق كانت الأيدي ترتفع إلى السماء وتدعو ربها، والمولى يجيب سبحانه، والآن هذه الدشوش مرتفعة إلى السماء. والله المستعان.
ومن أسباب إهلاك الأمم والشعوب الظلم، قال الله تعالى: أَلاَ لَعْنَةُ ?للَّهِ عَلَى ?لظَّـ?لِمِينَ [هود:18]، وقال سبحانه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ?لْقُرَى? بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117]، وقال: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ?لْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِ?لْبَيّنَـ?تِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذ?لِكَ نَجْزِي ?لْقَوْمَ ?لْمُجْرِمِينَ [يونس:13]، وقال: وَتِلْكَ ?لْقُرَى? أَهْلَكْنَـ?هُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا [الكهف:59]. وقال: وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]. كل هذا بسبب الظلم إذا انتشر في الأمة، فما بالك لو أضيف إليه دعوة المظلوم على من ظلمه:
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم آخره يأتيك بالندم
نامت عيونك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
ومن أسباب الهلاك أيضاً: تبديل أمر الله، أياً كان هذا التبديل، فالله جل وتعالى يأمر بأوامر ثم تأتي هذه القرية، وتبدل ما أمر الله به، بأشياء من عندها، ومن زبالة أفكارها، سواءً كانت قضايا معاملات من بيع أو شراء، أو غيره.
قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ?دْخُلُواْ هَـ?ذِهِ ?لْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَ?دْخُلُواْ ?لْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَـ?يَـ?كُمْ وَسَنَزِيدُ ?لْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ?لَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مّنَ ?لسَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [البقرة:58، 59].
ومن أسباب هلاك القرى، أن يكون أهلها، وأصحاب الشأن فيها، من أهل المكر والكيد والتدبير، الذي يتعارض مع الحق. قال الله تعالى: قَدْ مَكَرَ ?لَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النحل:26]، ـ كان هناك من قبلكم قد مكروا وخططوا ودبروا وفعلوا، فماذا كانت النتيجة ـ قَدْ مَكَرَ ?لَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى ?للَّهُ بُنْيَـ?نَهُمْ مّنَ ?لْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ?لسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَـ?هُمُ ?لْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ [النحل:26]. وقال سبحانه: وَلاَ يَحِيقُ ?لْمَكْرُ ?لسَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر:43]، وقال عز وجل: أَفَأَمِنَ ?لَّذِينَ مَكَرُواْ ?لسَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ?للَّهُ بِهِمُ ?لأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ?لْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ [النحل:45]، يقول علماء التفسير عن هذا المكر السيئ، أنه: سعيهم إلى إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على وجه الخفية، واحتيالهم في إبطال الإسلام والكيد بأهله.
ومن أسباب الهلاك: عدم التناهي عن المنكر قال الله تعالى: لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79].
ومن أسباب الهلاك: موالاة الكفار، قال الله تعالى: تَرَى? كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ ?للَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى ?لْعَذَابِ هُمْ خَـ?لِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـ?كِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ فَـ?سِقُونَ [المائدة:80، 81].
ومن أسباب الهلاك: ترك الجهاد في سبيل الله قال الله تعالى: إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التوبة:39].
أيها المسلمون، وكما قلنا في العقوبات نقول في الأسباب: إنها كثيرة، وهذه بعضها، فالحذر الحذر، فإنه ليس بين أحد وبين الله نسب، إنما أكرمكم عند الله أتقاكم. وعندما تأخذ أية قرية بسبب أو بعدة أسباب من أسباب الهلاك، فإنه من الطبيعي أن لا تأخذه فجأة، ودفعة واحدة، وإنما بالتدريج في البداية يكون بسيطاً ثم مستوراً، ثم أكثر ثم يظهر، حتى تصبح هي السمة البارزة، لتلك القرية، وبعدها ينزل عقاب الله والله المستعان.
(1/2942)
بلاد الأفراح
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
26/1/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الجنة بلاد الأفراح. 2- أبواب الجنة وطعامها وشرابها. 3- صور متفرقة من نعيم أهل
الجنة. 4- وصف الجنة. 5- من هم أهل الجنة؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)) ، ومصداق ذلك في كتاب الله: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة:17].
أيها المسلمون، إن الحديث عن النعيم المقيم، والإيمان الراسخ بالنُزُل الكريم من الغفور الرحيم، هو سلوة الأحزان، وحياة القلوب، وحادي النفوس ومهيجها إلى ابتغاء القرب من ربها ومولاها. الحديث عن الجنة والرضوان لا يسأمه الجليس، ولا يمله الأنيس.
فلنتأمل قليلاً في هذا الحديث العظيم: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) وليسرح الفكر في شيء من نعيم الجنة من خلال كلام ربنا وكلام رسولنا صلى الله عليه وسلم راجياً من الله جل وتعالى أن يكون محفزاً للمزيد من العمل والإخلاص، كما أسأله سبحانه وتعالى أن نكون من أهل الجنة بفضله وكرمه، لا بأعمالنا وعباداتنا القاصرة الضعيفة والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال الله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّـ?تُ ?لْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَـ?لِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً [الكهف:107، 108]، وقال تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46].
أيها المسلمون، اعلموا رحمني الله وإياكم بأن للجنة ثمانية أبواب، كل باب منها مخصص لصنف من المؤمنين يُدْعون للدخول فيه. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة)) ، فقال أبو بكر رضي الله عنه بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: ((نعم ،وأرجو أن تكون منهم)). قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
أبوابها حقٌ ثمانيةٌ أتت في النص وهي لصاحب الإحسان
باب الجهاد وذاك أعلاها وبابُ الصوم، يدعى الباب بالريان
ولكل سعىٍ صالحٍ بابٌ ورَبُ السعي منه داخلٌ بأمان
ولسوف يدعى المرء من أبوابها جمعاً إذا وافى حُلَى الإيمان
منهم أبو بكرٍ هو الصدّيق ذاك خليفة المبعوث بالقرآن
وأما عن طعام أهل الجنة وشرابهم، فاعلموا أن الناس في الجنة يأكلون ويشربون مما تشتهي أنفسهم كما قال تعالى: إِنَّ ?لْمُتَّقِينَ فِى ظِلَـ?لٍ وَعُيُونٍ وَفَو?كِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُواْ وَ?شْرَبُواْ هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النبأ:41-43]، وقال عز وجل: إِنَّ ?لْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـ?تٍ وَنَعِيمٍ فَـ?كِهِينَ بِمَا ءاتَـ?هُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَـ?هُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ ?لْجَحِيمِ كُلُواْ وَ?شْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:17-19].
وهم في تحصيل أكلهم وشرابهم لا يتعبون ولا ينصبون بل يأتيهم رزقهم وهم جالسون مستريحون، قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ ?قْرَؤُاْ كِتَـ?بيَهْ إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَـ?قٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُواْ وَ?شْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى ?لأَيَّامِ ?لْخَالِيَةِ [الحاقة:19-24]. وقال سبحانه: وَأَصْحَـ?بُ ?لْيَمِينِ مَا أَصْحَـ?بُ ?لْيَمِينِ فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وَظِلّ مَّمْدُودٍ وَمَاء مَّسْكُوبٍ وَفَـ?كِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ [المعارج:27-33].
ولأهل الجنة خدم لا يؤثر فيهم الزمن ولا تغيرهم السنون، فهم مخلدون في سن الصبا والوضاءة، كأنهم اللؤلؤ المنثور يطوفون عليهم بأكواب من فضة يملؤونها من عيون الجنة الصافية الطيبة كما قال تعالى: وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى? سَلْسَبِيلاً وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْد?نٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً عَـ?لِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَـ?هُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَـ?ذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً [الإنسان:15-22].
روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأكل أهل الجنة فيها ويشربون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ولا يبولون ولكن طعامهم ذاك جشاء كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتكبير كما يُلهمون النفس)). وعن معاوية جد بهز بن حكيم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنة بحر العسل وبحر الخمر وبحر اللبن وبحر الماء ثم تنشق الأنهار بعد)) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. ونظير هذا من القرآن قوله تعالى: مَّثَلُ ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى وُعِدَ ?لْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَـ?رٌ مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لّلشَّـ?رِبِينَ وَأَنْهَـ?رٌ مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ ?لثَّمَر?تِ وَمَغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ [محمد:15].
قال ابن القيم رحمه الله:
وطعامهم ما تشتهيه نفوسهم ولحوم طيرٍ ناعمٍ وسمانِ
وفواكهٌ شتى بحسب مناهمُ يا شبعةً كملت لذى الإيمان
لحم وخمر والنسا وفواكه والطيب مع روح ومع ريحان
وشرابهم من سلسبيل مزجه الكافور ذاك شراب ذي الإحسانِ
مُزج الشراب لهم كما مَزجوا هم أعمال ذاك المزج بالميزان
وأما ملابس أهل الجنة: فقد قال الله تعالى: عَـ?لِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ [الإنسان:21]، وذكر بعده حليهم فقال: وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وفي سورة فاطر يقول جل وعلا: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [الحج:23]، وقال في الآية الأخرى: إِنَّ ?لْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ فِى جَنَّـ?تٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَـ?بِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَـ?هُم بِحُورٍ عِينٍ [الدخان:51- 54]، وقال عز من قائل: إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ?لانْهَـ?رُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى ?لاْرَائِكِ نِعْمَ ?لثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف:30، 31].
وأما نساء أهل الجنة: فاعلموا رحمني الله وإياكم أن الله سبحانه وتعالى قد وعد عباده المؤمنين بزوجات في الجنة باهرات الجمال حسناتُ الخلق. قال الله تعالى: فِيهِنَّ خَيْر?تٌ حِسَانٌ [الرحمن:70]، فالله سبحانه وتعالى قد وصفهن بالحسن وإذا وصف خالق الحسن شيئاً بالحسن فتصور كيف يكون. ففي الجنة أزواج مطهرة، خيرات حسان الوجوه، جمعن الجمال الباطن والظاهر من جميع الوجوه. في الخيام مقصورات، وللطرف قاصرات، تقصر عن حُسنهنّ عيون الواصفين عُرُباً أَتْرَاباً لأَِصْحَـ?بِ ?لْيَمِينِ [المعارج:37، 38]، لا يفنى شبابها، ولا يبلى جمالها لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ [الرحمن:56]، لو اطلعت إحداهن على الدنيا لملأت ما بين الأرض والسماء ريحاً وعطراً وشذى، ولطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ما في النجوم من ضياء. حورٌ عِين راضياتٌ لا يسخطن أبداً، ناعمات لا يبأسن أبداً، خالدات لا يزلن أبداً. روى البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غدوة في سبيل الله أو روحة، خير من الدنيا وما فيها، ولقَابُ قوس أحدكم أو موضع قدمٍ من الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينها ولملأت ما بينهما ريحاً، ولنصيفها ـ أي خمارها ـ على رأسها خير من الدنيا وما فيها)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون ولا يمتخطون ولا يتغوطون فيها، آنيتهم وأمشاطهم من الذهب والفضة، ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة ـ والألوة هو عود الطيب ـ ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا)) متفق عليه.
إنها الجنة يا عباد الله، رياضها مجمع المتحابين، وحدائقها نزهة المشتاقين، وخيامها اللؤلؤية على شواطئ أنهارها بهجة للناظرين. عرش الرحمن سقفها، والمسك والزعفران تربتها، واللؤلؤ والياقوت والجوهر حصباؤها، والذهب والفضة لبناتها: غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ [الزمر:20].
عاليات الدرجات في عاليات المقامات، بهيجة المتاع، قصر مشيد، وأنوار تتلألأ، وسندس وإستبرق، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرش مرفوعة، هم فيها على الأرائك متكئون. ظلها ممدود، وطيرها غير محدود، فاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون. قطوفها دانية للآكلين، وطعمها لذة للطاعمين. قد ذللت قطوفها تذليلا.
يناديهم المنادي: لكم النعيم سرمداً، تحيون ولا تموتون أبداً، وتَصِحّون ولا تمرضون أبداً، وتشبون ولا تهرمون أبداً، وتنعمون ولا تبأسون أبداً، يحل عليكم رضوان ربكم فلا يسخط عليكم أبداً. وَسِيقَ ?لَّذِينَ ?تَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ?لّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى? إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْو?بُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـ?مٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَ?دْخُلُوهَا خَـ?لِدِينَ وَقَالُواْ ?لْحَمْدُ للَّهِ ?لَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا ?لأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ?لْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ ?لْعَـ?مِلِينَ وَتَرَى ?لْمَلَـ?ئِكَةَ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ ?لْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِ?لْحَقّ وَقِيلَ ?لْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الزمر:73-75].
فنسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من أهل الجنة، الذين هم أهله وخاصته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: قال الله تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]. إنها دعوة مهيبة ورسالة كريمة إلى حيث الراحة والاطمئنان، والأمن والأمان، والروح والريحان. دعوة من الله جل جلاله لسكنى دار الخلد وجنة المأوى. صحتك فيها لا تقل ولا تفنى، وثيابك فيها لا تبلى، ووجهك فيها كالنجم في السما أو هو أصفى، وسنك فيه الثلاثة والثلاثين لا يتعدى، والجمال والكمال عليك فيها قد استولى. حياتك فيها حياة رضية، وعيشك فيها سعادة أبدية، وأوقاتك فيها أوقات هنية، إنها دعوة تطير النفس في أجوائها، وتحلق الروح في سمائها، ويستروح القلب في قسماتها.
أيها المسلمون، إن ما ذكر ما هو إلا جزء يسير جداً من نعيم الجنة، والتي لا نستطيع بل يستحيل أن نقدر قدرها، وكيف يُقدر قدر دارٍ غرسها الرحمن بيده وجعلها مقراً لأحبائه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وملكها بالملك الكبير.
ولهذا كانت الجنة قرة عيون المحبين، ومحط أشواق قلوب العارفين، أسهروا ليلهم في سبيلها، وأظمؤوا نهارهم من أجهلها، وبذلوا كل غالٍ ونفيس مهراً لها، وعربوناً لدخولها، فالطريق إذاً إلى هذه الجنة يحتاج إلى زادٍ من التقوى، وعمل متواصل من الخير، وجهد مبذول في سبيل الدين، وجهاد دؤوب للشيطان، وعِراك مستمر مع النفس والهوى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حفت الجنة بالمكاره)).
فاجتهد أخي المسلم: لقد سبق السابقون، وفاز الفائزون، وتأخر عنها الغافلون النائمون. شيء من العمل، يصحبه إخلاص وتقوى، مع توفيق الله عز وجل ورحمته ومغفرته، تكون من أهل نعيم سرمدي لا ينقطع، وتدخل جنة فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
فإن سألت عن أرضها: فتربتها هي المسك والزعفران.
وإن سألت عن أنهارها: فأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى.
وإن سألت عن طعامهم: ففاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون.
وإن سألت عن شرابهم: فهو التسنيم والزنجبيل والكافور.
وإن سألت عن آنيتهم: فآنية الذهب والفضة في صفاء القوارير.
وإن سألت عن سقفها: فهو عرش الرحمن.
وإن سألت عن حصبائها: فهو اللؤلؤ والجوهر.
وإن سألت عن بنائها: فلبنة من فضة ولبنة من ذهب.
وإن سألت عن أشجارها: فشجر الجنة ساقها من ذهب وفضة.
وإن سألت عن ثمارها: فأمثال القلال، ألين من الزبد، وأحلى من العسل.
وإن سألت عن ورقها: فأحسن ما يكون من رقائق الحُلل.
وإن سألت عن سعة أبوابها: فبين المصراعين مسيرة أربعين من الأعوام، وليأتين عليه يوم، وهو كظيظ من الزحام.
وإن سألت عن ظلها: ففيها شجرة واحدة يسير الراكب المجدّ السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها.
وإن سألت عن سعتها: فأدنى أهلها يسير في ملكه وسرره وقصوره وبساتينه مسيرة ألفي عام.
وإن سألت عن خيامها وقبابها: فالخيمة الواحدة من درةٍ مجوفة طولها ستون ميلاً من جملة الخيام.
وإن سألت عن علاليها وقصورها: فهي غرف من فوقها غرف مبنية، تجري من تحتها الأنهار.
وإن سألت عن ارتفاعها: فانظر إلى الكوكب الطالع أو الغارب في الأفق الذي لا تكاد تناله الأبصار.
وإن سألت عن لباس أهلها: فهو الحرير والذهب.
وإن سألت عن فرشها: فبطائنها من استبرق مفروشة في أعلى الرتب.
وإن سألت عن أرائكها: فهي الأسرة مزررة بأزرار الذهب.
وإن سألت عن أسنانهم: فأبناء ثلاثة وثلاثين على صورة آدم عليه السلام أبي البشر.
وإن سألت عن وجوه أهلها وحسنِهم: فعلى صورة القمر.
وإن سألت عن سماعهم: فغناء أزواجهم من الحور العين، وأعلى منه سماع أصوات الملائكة والنبيّين، وأعلى منهما سماع خطاب ربَّ العالمين.
وإن سألت عن مطاياهم التي يتزاورون عليها: فنجائبٌ أنشأها الله مما شاء، تسير بهم حيث شاؤوا من الجنان.
وإن سألت عن حليهم وشاراتهم: فأساور الذهب واللؤلؤ على الرؤوس ملابس التيجان.
وإن سألت عن غلمانهم: فولدان مخلدون كأنهم لؤلؤ مكنون.
وإن سألت عن يوم المزيد، وزيارة العزيز الحميد ورؤية وجهه المنزه عن التمثيل والتشبيه، فكما ترى الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدر كما تواتر بذلك الخبر عن الصادق المصدوق فاستمع يوم ينادي المنادي: يا أهل الجنة، إن ربَّكم تبارك وتعالى يستزيركم فحيَّ على زيارته، فيقولون: سمعاً وطاعة، وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنجائب قد أعدتْ لهم، فيستوون على ظهورها مسرعين، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الذي جُعل لهم موعداً. وجُمعوا هناك، فلم يغادر الداعي منهم أحداً، أمر الرب تبارك وتعالى بكرسيه فنصب هناك، ثم نصبت لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجدٍ، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، وجلس أدناهم ـ وحاشاهم أن يكون فيهم دنيء ـ جلس أدناهم على كثبان المسك، ما يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا، حتى إذا استقرتْ بهم مجالسهم، واطمأنت بهم أماكنهم، نادى المنادي: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه. فيقولون: وما هو؟ ألم يبيضْ وجوهنا ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا عن النار، فبينما هم كذلك إذ سطع لهم نور أشرقت له الجنة، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الجبار جل جلاله، وتقدست أسماؤه، قد أشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنة: سلام عليكم، فلا تُردّ هذه التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلامُ، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى يضحكُ إليهم، ويقول: يا أهل الجنة، فيكونُ أول ما يسمعون منه تعالى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب، ولم يروني، فهذا يومُ المزيد، فيجتمعون على كلمة واحدة أن قد رضينا، فارض عنا، فيقول: يا أهل الجنة، إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي. هذا يوم المزيد فسلوني. فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليه، فيكشف الرب جل جلاله الحجب، ويتجلى لهم، فيغشاهم من نوره ما لولا أن الله سبحانه وتعالى قضى أن لا يحترقوا لاحترقوا. فيا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجهه الكريم، ويا ذلة الراجعين بالصفقة الخاسرة: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى? رَبّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ [القيامة:22-25]. فهم في روضات الجنة يتقلبون، وعلى أسرتها تحت الحجال يجلسون، وعلى الفرش التي بطائنها من استبرق يتكئون، وبالحور العين يتمتعون، وبأنواع الثمار يتفكهون.
أيها الأخ الحبيب، هؤلاء هم أصحاب الجنة، هؤلاء هم أصحاب الحسنى وزيادة، هل تريد أن تكون منهم؟ هل تريد أن تعرف أوصافهم؟ كَانُواْ قَلِيلاً مّن ?لَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِ?لأَسْحَـ?رِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِى أَمْو?لِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَ?لْمَحْرُومِ [الذاريات:17-19]، يصلون بالليل والناس نيام، يصومون وغيرهم يأكل، وينفقون وغيرهم يبخل، ويقاتلون وغيرهم يتقاعس ويجبن. أولئك هم عباد الله حفظوا وصية الله، ورعوا عهده، بربهم يؤمنون، وبربهم لا يشركون، وهم من خشيته مشفقون، استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا سراً وعلانية في السراء والضراء، يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون، عن اللغو معرضون، وللزكاة فاعلون، ولفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين. لأماناتهم وعهدهم راعون. طالما تعبت أجسادهم من الجوع والسهر، واستعدوا من الزاد بما يكفي لطويل السفر، كثر استغفراهم فحطت خطاياهم، وكل ما طلبوا من ربهم أعطاهم، فسبحان من اختارهم واصطفاهم، إنهم عباد الله المخلَصون، فيهم الشهيد المحتسب، والعفيف المتعفف، والضعيف المتواضع، ذو الطمرين، مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره. أقوام يقطرون نزاهة، أفئدتهم مثل أفئدة الطير، فيهم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، متحابون في جلال الله، فيهم صاحب القرآن يقرأ ويرتل ويرتقي، وفيهم تارك المراء ولو كان محقاً، وتارك الكذب ولو كان مازحاً، فيهم من أطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام، خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. جنة ربي لكل أواب حفيظ، من خشي الرحمن بالغيب وجاء بكل قلب منيب. عيون تبكي من خشية الله، وعيون تحرس في سبيل الله، يخافون من ربهم يوماً عبوساً قمطريراً، فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً، وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا.
أيها المسلمون، هذه هي الجنة وهذا هو سبيلها، فهل رأيتم أشد غبناً ممن يبيع الجنان العالية بحياة أشبه بأضغاث أحلام، يبيع الفردوس بدنيا قصيرة، وأحوال زهيدة، مشوبة بالنقص، ممزوجة بالغصص. حياة حقيرة، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرت أياماً، أحزنت دهوراً، أي سفه ممن يبيع مساكن طيبة في جنات عدن بأعطان ضيقة وخراب بور. فيا حسرة هذا المتخلف حين يعاين كرامة الله لأوليائه، وما أخفي لهم من قرة أعين، فلسوف يعلم أي بضاعة أضاع. فاتقوا الله رحمكم الله وبادروا وشمروا، واعملوا وأحسنوا وأبشروا.
أيها المؤمنون الموحدون، لقد نودي على الجنة في سوق الكساد، فما قَلّب السلعة ولا سام، إلا أفراد من العباد، فواعجباً لها كيف نام طالبها، وكيف لم يسمع بمهرها خاطبها، وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها، وكيف قر للمشتاق القرار، دون معانقة أبكارها، وكيف قرت دونها أعين المشتاقين، وكيف صبرت عنها أنفس الموقنين، وكيف صُرفت عنها قلوب أكثر العالمين، وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين.
فإن ضاقت الدنيا عليك بأسرها ولم يك فيها منزلٌ لك يُعلمُ
فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
وأقدم ولا تقنع بعيش منغصٍ فما فاز باللذات من ليس يُقدم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلّم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مُغرَم
وأي اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تَحكّمُ
وحيَّ على يوم المزيد الذي به زيارة رب العرش فاليوم موسم
فيا بائعاً هذا ببخسٍ معجلٍ كأنك لا تدري، بلى سوف تعلم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
اللهم إنا نسألك الجنة.. أن لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك الكريم.
(1/2943)
بلال بن رباح
سيرة وتاريخ
تراجم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
24/10/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نشأة : بلال رقيقاً في مكة. 2- إسلام بلال وتجشمه المشاق والعذاب في سبيل الدين. 3-
أبو بكر يعتق بلالاً. 4- بلال مؤذن النبي. 5- مواقف لبلال ومعه. 6- بلال على ظهر
الكعبة. 7- موت النبي وحزن بلال عليه. 8- أذان بلال في بيت المقدس يوم الفتح. 9- وفاة
بلال. 10- دروس وعبر في ترجمة بلال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن جيل الصحابة رضي الله عنهم خير جيل ظهر على وجه الأرض، هم الذين وضعوا أنفسهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لكي يعلمهم ويوجههم، فتلقوا تلكم التربية النبوية الكريمة حتى خلت نفوسُهم من حظ نفوسِهم.
ومن بين الصحب الكرام صحابي جليل أحبه الله وأحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو بلال بن رباح.
اسم يحبه المؤمنون، وصوت تعشقه آذان الموحدين، ولا بد للمسلم أن يولد ميلادين وأن يعيش حياتين، الميلاد الأول: يوم ولدته أمه، والثاني: يوم يولد في هذا الدين، وبلال رضي الله عنه وأرضاه ولد ميلادين وعاش حياتين، ولد مولى وأُخذ إلى مكة وعاش فيها عبداً ذليلاً، وفجأةً صدح الرسول صلى الله عليه وسلم بالحق هناك من على الصفا، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وذهب عليه الصلاة والسلام إلى سادات مكة يدعوهم للإسلام، فكفروا به وكذبوه وآذوه وشتموه، فأنزل الله تعالى عليه: وَ?صْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِ?لْغَدَاةِ وَ?لْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، فبدأ صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الله عز وجل، وكان بلال يعيش عيشة الرقيق، تمضي أيامه متشابهة قاحلة، لا حق له في يومه ولا أمل له في غده، فبدأت أنباء الرسول صلى الله عليه وسلم تنادي سمعه حين أخذ الناس في مكة يتناقلونها، فرأى بلال محمداً عليه الصلاة والسلام فأحبه، والسر الذي زرعه النبي صلى الله عليه وسلم في القلوب هو الحب، لقد فجر نبينا صلى الله عليه وسلم أنهار الحب في قلوب أصحابه، فأحب بلال محمداً عليه الصلاة والسلام حباً استولى على سمعه وبصره وقلبه، فأصبح يتحرك بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأكل وشخص النبي صلى الله عليه وسلم أمام عينيه، ويشرب والرسول صلى الله عليه وسلم ماثل أمامه ولسان حاله يقول:
أحبك لا تسأل لماذا لأنني أحبك هذا الحب رأي ومذهبي
فلما أحبه رضي الله عنه شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فانتشر خبر إسلامه في فجاج مكة، فما أن ذاع خبر إسلامه حتى صارت الأرض تدور برؤوس أسياده، تلك الرؤوس التي نفخها الكبر وأثقلها الغرور! وتجثم شياطين الأرض فوق صدر أمية بن خلف، فاجتمع عليه أهل الكفر وأذاقوه أليم العذاب ليترك لا إله إلا الله، فأبى، ضربوه، قيدوه بالحبال، جروه من قدميه والحصى يأكل من لحمه وعظمه، ألقوه في الصحراء في حر الظهيرة، والشمس ملتهبة ليعود إلى الكفر، فأبى، وقالها كلمة خالدة أبدية، أحدٌ أحد، لطموه على وجهه، فارتفع صوته متأثراً ثائراً مجروحاً أحدٌ أحد، ضربوه بالسياط حتى تمزق جلده وهو يقول: أحدٌ أحد. إنها إرادة ينثني لها الحديد، إنها المعجزة الكبرى التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف حول هؤلاء الأعراب والموالي من أناس فقراء مستضعفين إلى كتائب تزلزل الدنيا بلا إله إلا الله. لقد أعطى بلال درساً بليغاً للذين في زمانه وفي كل زمان، درساً فحواه أن حرية الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهباً ولا بملئها عذاباً.
لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة، التي تتحول الصحراء فيها إلى جهنم قاتلة، فيطرحونه على حصاها الملتهب وهو عُريان، ثم يأتون بحجر متسعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال ويلقى به فوق جسده وصدره. ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم حتى رقت لبلال من هول عذابه بعض قلوب جلاديه، فرضوا آخر الأمر أن يخلوا سبيله على أن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة لا غير، تحفظ لهم كبرياءهم ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم وإصراره، ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة التي يستطيع أن يلقيها بلال من وراء قلبه ويشتري بها حياته ونفسه دون أن يفقد إيمانه، حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة رفض بلال أن يقولها.
ويمر أبوبكر الصديق رضي الله عنه أمام بلال وهو يعذب، فقال لسيده أمية بن خلف: أشتريه منك يا أمية، فقال أمية: خذه ولو بعشرة دنانير، قال أبو بكر: والله لو جعلت ثمنه مائة ألف دينار لاشتريته منك، فاشتراه الصديق رضي الله عنه وأعتقه لوجه الله فأنزل الله قوله: وَسَيُجَنَّبُهَا ?لأَتْقَى ?لَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى? وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَى? إِلاَّ ?بْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ ?لأَعْلَى? وَلَسَوْفَ يَرْضَى? [الليل:17-21]، أعتقه الصديق ثم ذهب به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ممزق الثياب يتساقط دمه ولحمه من شدة التعذيب، فأخذه عليه الصلاة والسلام واحتضنه كما تحتضن الأم طفلها، فصار بلال سابع سبعة في الإسلام.
ثم بدأت قوافل المسلمين تهاجر إلى المدينة فكان بلال رضي الله عنه ممن ترك مكة وهاجر إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهناك في المدينة عيّنه النبي صلى الله عليه وسلم مؤذناً فأصبح بلال أولَ مؤذن في التاريخ، ويالها من وظيفة ما أشرفها، ومن منصب ما أكرمه. فانتشر ذكره في الآفاق منذ ذلك الوقت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. مَن مِن المسلمين لا يعرف بلالاً، لا نكون مبالغين إذا قلنا بأنه منذ أن بدأ الإسلام إلى اليوم وإلى ما شاء الله من بين كل عشرةٍ من المسلمين سبعة على الأقل يعرفون بلالاً، وإنك لتسأل الطفل الذي لا يزال في سنوات دراسته الأولى في أعماق أفريقيا وفوق هضاب آسيا أو في أقاصي الدنيا من بلال يا غلام ؟ فيجيبك: إنه مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وحينما تبصر هذا الخلود الذي منحه الإسلام بلالاً، فاعلم أنه رضي الله عنه لم يكن قبل الإسلام أكثر من عبد رقيق يرعى إبل سيده على حفنات من التمر، وكان من المحتوم عليه لولا الإسلام أن يظل عبداً تائهاً في الزحام حتى يطويه الموت ويطوّح به إلى أعماق النسيان، لكنه عظمة هذا الدين الذي آمن به بوأه في حياته بل وفي تاريخه مكاناً علياً بين عظماء الإسلام.
إن كثيرين من علية البشر وذوي الجاه والنفوذ والثروة فيهم لم يظفروا بمعشار الخلود الذي ظفر به بلالٌ رضي الله عنه. وكان كلما سمع كلمات المدح والثناء تُوجّه إليه، حنى رأسه وغض طرفه وقال: إنما أنا حبشي كنت بالأمس عبداً. إنه بلال بن رباح مؤذن الرسول والإسلام، إحدى معجزات الإسلام العظيم. فكان كلما حان وقت الصلاة قام بلال يهتف: الله أكبر الله أكبر، فتنتفض أجساد المؤمنين من صوته، وكان كلما أهمّ الرسول صلى الله عليه وسلم أمرٌ، أو أصابه كربٌ نادى بلال ((أرحنا بها يا بلال)) فيؤذن بلال للصلاة. وكان رضي الله عنه يأتي للرسول صلى الله عليه وسلم بماء الوُضوء وكان يأخذ حذاءه ويرى أن ذلك شرف لا يعدله شرف، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحبه ويدنيه منه، وسرى هذا الحب في قلب بلال فعوضه عن كل شيء، عن أهله في الحبشة، وعن أقربائه وجيرانه بل وتاريخه كله هناك.
وفي ذات يوم قال عليه الصلاة والسلام لبلال: ((حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دُف نعليك في الجنة)). الله أكبر، أي جائزة أعظم من أن يعرف الإنسان أنه من أهل الجنة وهو لازال يعيش في هذه الدنيا، فيجيب بلال ويقول: ((ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي)). وكّله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة من الغزوات بحراسة الجيش وقال: ((من يوقظنا للصلاة)) قال بلال: أنا يا رسول الله. فنام الجيش وقام بلال يصلي طيلة الليل، فلما كان قبيل الفجر حدّث نفسه بأن يضطجع قليلاً ليستريح فاضطجع فغلبته عيناه فنام، وأتت الصلاة، والرسول صلى الله عليه وسلم نائم والجيش نائم وبلال نائم، حتى طلعت الشمس وكان أول من استيقظ بعد طلوع الشمس أبو بكر رضي الله عنه، فرأى هذه المأساة التي حدثت لأول مرة، ولكن في ذلك حكمة، وهي عذر من غلبته عيناه فلم يستيقظ حتى طلعت عليه الشمس، ويستيقظ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويقترب من الرسول صلى الله عليه وسلم ويستحي أن يقول له قم للصلاة، فأخذ عمر يقول: الله أكبر الله أكبر، ويعيد التكبير حتى استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فدعا مؤذنه بلالاً، وأجلسه أمامه وقال له: ((ما أيقظتنا)) ، قال: يا رسول الله أخذ بعيني الذي أخذ بعينك، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمره أن يؤذن بعد طلوع الشمس وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه.
ومرّة كان الصحابة رضي الله عنهم في مجلسٍ، فإذا أبو ذر رضي الله عنه يعيّر بلالاً بأمه، قال له: يا ابن السوداء! كلمة غريبة خرجت من أبي ذر رضي الله عنه ليست من الإسلام في شيء، وهل في شريعة الإسلام أحمر وأسود وأبيض؟ من هو الكريم عندنا؟ ومن هو المعظّم في هذه الملة؟ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13]، إننا لا نُعرف بألواننا، ولا بأجناسنا، ولا بلغاتنا، ولا ببلداننا، إنما نُعرف بلا إله إلا الله، وبمقدار عبوديتنا لله عز وجل. سمع بلال هذه الكلمة من أبي ذر: يا ابن السوداء، فغضب رضي الله عنه وقال له: والله لأرفعنّك إلى خليلي صلى الله عليه وسلم، ورفع أمره إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فغضب المصطفى صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وقال لأبي ذر: ((أعيّرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية)).
وتمضي الأيام ولم يزدد بلال إلا رفعةً ومحبةً عند النبي صلى الله عليه وسلم، يصلي العيد ثم يتكئ على بلال ويذهب فيخطب في النساء. وفي اليوم المشهود يوم فتح مكة، يدخلها النبي صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف من أصحابه، يدخل فاتحاً منتصراً فيرى الأصنام التي كانت تعبد من دون الله فيشير إليها بعصاه فتتناثر وتتساقط وهو يردد قول الله تعالى: جَاء ?لْحَقُّ وَزَهَقَ ?لْبَـ?طِلُ إِنَّ ?لْبَـ?طِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، وتحين صلاة الظهر ويجلس الناس جميعاً أمام الكعبة ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أين بلال)) ، قال: ها أنا يا رسول الله، قال: ((اصعد الكعبة وأذن فوقها)). فيا سبحان الله، أليس هذا انتصاراً للضعفاء، أليس هذا عدلاً بالمساكين، أليس هذا رفعاً لرؤوس المستضعفين، أليس هذا هو العدل بعينه أن يقوم من كان يعذب قبل فترة في هذا المكان، وأمام صناديد قريش، أن يعتلي بيت الله بأقدامه ليهتف بنداء الحق. أين أبو جهل؟ في النار! أين أبو لهب؟ في النار! أين أبو طالب؟ في النار! وصعد بلال واستوى على الكعبة ليخاطب الدنيا بشهادة الحق إلى يوم الدين، فلما أذن بلال بكى الناس، ومن الذي لا يرى هذا المشهد ويرى هذه الصورة ويسمع هذا الصوت ويعيش هذه التفاصيل ثم لا يبكي، عجيب يوم الفتح الأكبر، الفاتح رسول الله، والدين الإسلام، والمؤذن بلال. ومن بلال؟ المولى الضعيف، الذي كان عبداً رقيقاً قبل فترة قصيرة في عمر الزمن، وأين يؤذن؟ على سطح الكعبة المشرفة، لقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم حين أذّن بلال، سالت دموعه لأنه تذكر المعاناة، وتذكر الأيام العصيبة التي عاشتها هذه الطائفة المؤمنة، وتذكر فضل الله عليه وإنعامه بهذا النصر المبين. إِذَا جَاء نَصْرُ ?للَّهِ وَ?لْفَتْحُ وَرَأَيْتَ ?لنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ ?للَّهِ أَفْو?جاً فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَ?سْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوبَ [سورة النصر]، لقد انتصر النبي صلى الله عليه وسلم، وها هو بلال الذي كان معذباً مهاناً أصبح المؤذن الأول في التاريخ، وها هو صوت بلال رضي الله عنه يجلجل في هضبات مكة وأوديتها، يزلزل الدنيا بلا إله إلا الله.
يرجع الصحابة بعد الفتح إلى المدينة، وتمضي الأيام ويموت النبي صلى الله عليه وسلم، يموت الإمام ويحزن عليه المؤذن حزناً شديداً، ولك أن تتصور رجلين متحابين، إمام ومؤذنه عاشا الحياة حلوها ومرها، يسرها وعسرها، ليلها ونهارها، وفجأةً يموت الإمام عليه الصلاة والسلام تحقيقاً لقول الله تعالى: إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ [الزمر:30]، لقد أظلمت الدنيا في عين بلال رضي الله عنه، أمات النبي؟ نعم، إلاّ أن دينه لم يمت، وعلى المؤذن أن يستكمل الطريق، ومع بزوق الفجر قام بلال ليؤذن، قام ليؤدي مهمته التي كلفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدأ بلال في الآذان، الله أكبر الله أكبر، ثم ينظر إلى المحراب فيجده خالياً من الإمام، فيلتفت إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يخرج منه للصلاة ولكنه ليس فيه، أصبح بلال وحيداً لا شيخٌ ولا إمام، فكيف يستطيع أن يكمل أذانه، وبأية عبارة يؤديه، أين قلبه؟ أين كيانه؟ أين روحه؟ ثم تحامل على نفسه وقال، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، ولكن أتته قاصمة الظهر، أتت المعضلة التي لا يستطيع بعدها أن يتكلم ولو بكلمة واحدة قال: أشهد أن محمداً ولم يستطع أن يكمل، فبكى بكاءً شديداً، وبكى الناس جميعاً في بيوتهم في المدينة، بكى المؤذن، اختنق صوته، ارتفع نشيجه، لم يستطع أن يكمل فنزل ورمى بجسمه على الأرض، وحضر الصحابة رضي الله عنهم ليشاهدوا ذلك المنظر، منظر المؤذن وهو ملقىً على الأرض، يبكي بكاء الثكلى: مالك يا بلال، قال: لا أؤذن، أتاه أبو بكر خليفة رسول الله فقال: مالك يا بلال، قال: لا أؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: سبحان الله من يؤذن لنا، قال: اختاروا لكم مؤذناً وحمل إلى بيته رضي الله عنه.
بنتُم وبنّا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسّينا
إن كان قد عزّ في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
ثم جاء بلال إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال له: يا خليفة رسول الله! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أفضل عمل المؤمن الجهاد في سبيل الله)). فقال أبو بكر: فما تشاء يا بلال؟ قال: أردت أن أرابط في سبيل الله حتى الموت. قال أبو بكر: بل أريدك معي في المدينة، فقال بلال: أأعتقتني لله أو لنفسك ؟ قال أبوبكر: بل لله، قال: فائذن لي في الغزو، فأذن له، فذهب بلال إلى الشام والتحق هناك بجيوش المسلمين.
بارك الله لي..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أعفى أبوبكر رضي الله عنه بلالاً من الأذان، وانطلق بلال إلى أرض الشام ونذر نفسه للجهاد في سبيل الله، فاتحاً مقاتلاً يجاهد المشركين، ويعلم الناس دينهم وينتظر المنية حتى يلحق بحبيبه صلى الله عليه وسلم في الجنة.
وتمر الأيام وتمضي السنين، ويموت أبو بكر رضي الله عنه، ويتولى الخلافة من بعده عمر، وبلال ما يزال مرابطاً في أرض الشام مع جيوش المسلمين، ويفتح الله على المسلمين بيت المقدس، ويأتي الفاروق عمر بن الخطاب خليفة المسلمين من المدينة بدابته ومعه مولاه ليستلم مفاتيح بيت المقدس، فيدخلها بثوبه المرقع ولكنه يحمل الدنيا في يديه، ويجتمع عدد من كبار الصحابة من أهل بدر وأهل بيعة الرضوان أساتذة الدنيا كلها، جاؤوا لحضور هذا اليوم المشهود، وتحين صلاة الظهر، فيتذكر عمر رضي الله عنه تلك الأيام الخوالي التي عاشوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول عمر لبلال: أسألك بالله يا بلال أن تؤذن لنا، فقال بلال: أعفني يا أمير المؤمنين، فقال الصحابة: اتق الله يا بلال، سألك أمير المؤمنين، فقام بلال يتحامل على جسمه، فقد أصبح شيخاً كبيراً، وارتفع صوته بالأذان، فإذا بصوت عمر رضي الله عنه يسابقه بالبكاء، ثم بكى كبار الصحابة، وبكى الجيش كله، وارتج المسجد الأقصى بالبكاء.
إن بلالاً رضي الله عنه ذكرهم شيئاً، ذكرهم تاريخاً، ذكرهم معلماً وقائداً، أحبهم وأحبوه، فما أعظم الذكريات، وما أجمل تلك الأيام التي عاشها أولئك المؤمنون يتمتعون برؤية النبي صلى الله عليه وسلم، ويتلقون عنه الوحي من السماء. وعاد بلال إلى الشام، ليكمل طريقه الذي أخذه على نفسه، الجهاد في سبيل الله، وانقطع عن المدينة، وأصبح شيخاً كبيراً.
وفي ليلة من الليالي وبينما هو نائم، إذا به يرى حبيبه ونبيه صلى الله عليه وسلم في المنام، رأى المؤذن إمامه بصورته، رآه بنوره، رآه ببشاشته وهو يعاتبه: هجرتنا يا بلال، ألا تزورنا في المدينة، ما أعظمها من كلمات، هجرتنا يا بلال، ألا تزورنا في المدينة، استيقظ بلال وسط الليل وتوضأ وصلى ركعتين ثم أسرج راحلته، وركبها قبل الفجر وذهب إلى المدينة ليزور مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، مشى وسط الصحاري والقفار عدة أيام.
وصل إلى المدينة ليلاً فوجد الناس نياماً فأول ما بدأ به المسجد وأتى الروضة الشريفة، ثم توجه إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فسلم وبكى، وعاش في عالم من الذكريات، فحان أذان الفجر، ولحكمة يعلمها الله تأخر مؤذن المدينة ذلك اليوم، فصعد بلال المنارة وأذن للصلاة، حتى إذا وصل إلى محمد رسول الله انفجر بالبكاء، وقام الناس في المدينة على صوته، أهذا صوت بلال؟ نعم إنه بلال بن رباح، فأخذ الناس يبكون مع بكاء بلال رضي الله عنه، وتتكرر المشاهد ويتلاقى الأحبة، ويأتي بلال من جديد يعانق أصحابه وأحبابه ويعانقونه في مشهد عظيم من مشاهد الحب والوفاء.
انتهت مهمة بلال في المدينة، وعاد إلى الشام ليكمل طريقه وهناك وفي أرض الشام أتته المنية رضي الله عنه، وعندما حضرته الوفاة صار يقول وهو يحتضر: غداً نلقى الأحبة، محمداً وصحبه. هذا هو الذي غلب عليه وهو يحتضر، وهذا الذي كان يسيطر على مشاعره بعد أن فارق حبيبه صلى الله عليه وسلم فاشتاق إلى لقائه، لقد اشتاق المؤذنُ إلى الإمام، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه.
فصرخت امرأته وكانت بالقرب منه: واويلاه، تقول ذلك لمصيبتها بفراق زوجها، وهو يقول: وافَرحاه، وافَرحاه. إنه فرح حقيقي بقدوم الموت، إنه اشتياق حقيقي للقاء الأحبة ولقاء الحبيب صلى الله عليه وسلم، ونفسه تغرغر وهو يقول: غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه.
لقد مات بلال سنة 20 من الهجرة، أي بعد إمامه بتسع سنوات، تسع سنوات على فراق المصطفى صلى الله عليه وسلم وحرارة الشوق لم تبرد، بقي طوال هذه المدة وحياته اليومية على السنّة التي تعلمها من النبي صلى الله عليه وسلم لم يُغيّر قيد أنملة، ولهذا كان ذلك الاشتياق. مات بلال رضي الله عنه في بلاد الشام مرابطاً في سبيل الله كما أراد، وهناك وتحت ثرى دمشق رُفات رجل من أعظم رجالات هذا الدين يأَيَّتُهَا ?لنَّفْسُ ?لْمُطْمَئِنَّةُ ?رْجِعِى إِلَى? رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَ?دْخُلِى فِى عِبَادِى وَ?دْخُلِى جَنَّتِى [الفجر:27-30].
أيها المسلمون، وفي قصة مؤذن الإسلام دروس وعبر:
أولاً: إن أكرمكم عند الله أتقاكم. لا فرق لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى. فالقرشي الذي عارض الرسالة في النار، والحبشي الذي آمن بالرسالة في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
ثانياً: أجمع أهل السنة والجماعة على أن الصحابة هم رؤوس الأولياء وصفوة الأتقياء وقدوة المؤمنين وأسوة المسلمين وخير عباد الله بعد الأنبياء والمرسلين شرّفهم الله بمشاهدة خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم وصُحبته في السراء والضراء، وبذلهم أنفسهم وأموالهم في الجهاد في سبيل الله عز وجل حتى صاروا خِيَرة الخِيَرة، وأفضل القرون بشهادة المعصوم صلى الله عليه وسلم، وما بلال رضي الله عنه إلاّ نموذج واحد من آلاف النماذج. فهم خير الأمم، سابِقِهم ولاحِقهم وأولهم وآخرهم، هم الذين أقاموا أعمدة الإسلام بسيوفهم، وشادوا قصور الدين برماحهم، واستباحوا الممالك الكسروية، وأطفئوا الملة النصرانية والمجوسية، وقطعوا حبائل الشرك من الطوائف المشركة العربية والعجمية، وأوصلوا دين الله إلى أطراف المعمورة شرقها وغربها ويمينها وشمالها.
أولئك قوم شيّد الله فخرهم فما فوقه فخر وإن عظم الفخر
ثالثاً: إن هذا الدين لا ينتصر بكثرة العدد ولا يعتمد على أصحاب المناصب والهيئات والأموال، ولكنه يبقى مكانه ويأتي إليه من يحبه. يقول أبوجهل: كيف يهتدي بلال وأنا سيد بني مخزوم وهو عبد حبشي لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [الأحقاف:11]، والجواب: ?للَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124].
رابعاً: تظهر من قصة بلال رضي الله عنه وغيرها من قصص الصحابة رضوان الله عليهم حنكة المصطفى صلى الله عليه وسلم ومعرفته بالفروق الذاتية لكل إنسان واختلاف المواهب الشخصية والاستعدادات النفسية بين صحابي وآخر فقد أعطى الأذان لبلال لأنه الأصلح لذلك، وأعطى الراية لخالد لأنه سيف الله المسلول، وأعطى الخلافة لأبي بكر، والقافية والأدب لحسان، ومدرسة الفرائض وتوزيع المواريث لزيد، والقضاء وهيئة الاستشارة لعلي، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ [الأعراف:160]، وهذا الأمر قد يفوت بعض المربين والدعاة والمعلمين.
خامساً: أن من أراد أن يهدي الناس فليزرع في قلوبهم الحب أولاً، فإذا استطاع ذلك ملك زمام القلوب فليفعل بها ما يشاء، وإن من يتصور أنه سوف يهدي الناس بالغليظ من القول فقد أخطأ سواء السبيل وقد أفلت الناس من يديه فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَ?عْفُ عَنْهُمْ وَ?سْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ?لاْمْرِ [آل عمران:159].
إن سر نجاح دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه جعل الناس يحبونه حباً تتقطع له القلوب وتنقاد له الأجساد فقد كان صلى الله عليه وسلم أباً لليتامى ومعيناً للأرامل والمساكين فأحبته القلوب وعشقته الأفئدة وانقادت له الأبدان.
عباد الله، صلوا على الإمام وترحموا على المؤذن.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
اللهم وارض عن الخلفاء الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنّك وكرمك يا أرحم الراحمين.
(1/2944)
بين يدي رمضان
فقه
الصوم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
29/8/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة الله في تعاقب الأيام وانصرام الأعمار. 2- نعمة بلوغ رمضان وكيفية شكرها. 3-
بعض ما ينبغي علينا في شهر رمضان. 4- دعوة للمنافسة على الخير في رمضان. 5- بعض
معاني الصوم ومقاصده. 6- بعض مخازي الإعلام والقنوات الفضائية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: معاشر المسلمين، كم تُطوى الليالي والأيام، وتنصرم الشهور والأعوام، فمن الناس من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وإذا بلغ الكتاب أجله فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. ومن يعش منكم يا عباد الله، أسأل الله عز وجل أن يطيل في أعماركم وأن يجعلها في طاعته وأن يتوفانا جميعاً سبحانه وتعالى وهو راضى عنا.
أقول أيها الإخوة: فإنه من يعش منكم فإنه يرى حلواً ومرّا، فلا الحلو دائم ولا المرّ جاثم، وسيرى أفراحاً وأحزاناً، وسيسمع ما يؤنسه وسيسمع ما يزعجه، وهذه سنة الحياة، والليل والنهار متعاقبان، والآلام تكون من بعد زوالها، أحاديث وذكرى ولا يبقى للإنسان إلا ما حمله زاداً للحياة الأخرى، يولد المعدوم ويشب الصغير، ويهرم الكبير، ويموت الحي وينظر المرء ما قدمت يداه، وكل يجري إلى أجل مسمى. قعدت بالمؤملين آجالهم، عن بلوغ آمالهم، وعدوا أنفسهم بالصالحات، فعاجلهم أمر الله، كل الناس يغدو في أهداف وآمال، ورغبات وأماني، ولكن أين الجازمون وأين الكيسون؟ كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
أيها المسلمون، لقد أظلكم شهر عظيم مبارك، كنتم قد وَعدتم أنفسكم قبله أعواماً ومواسم، ولعل بعضكم قد سوّف وقصّر، فها هو قد مُدّ له في أجله، وأنسئ له في عمره، فماذا عساه فاعل؟
إن بلوغ رمضان نعمةٌ كبرى يقدرها حق قدرها الصالحون المشمرون. إن واجب الأحياء استشعار هذه النعمة واغتنام هذه الفرصة، إنها إن فاتت كانت حسرةً ما بعدها حسرة، أي خسارة أعظم من أن يدخل المرء فيمن عناهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بحديثه على منبره في مساءلةٍ بينه وبين جبريل الأمين: ((من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له، فدخل النار فأبعده الله قل: آمين، فقلت: آمين)) من حرم المغفرة في شهر المغفرة فماذا يرتجي؟
إن العمل الجاد لا يكون على تمامه ولا يقوم به صاحبه على كماله، إلا حين يتهيأ له تمام التهيؤ، فيستثير في النفس همّتها، ويحدوه الشوق بمحبة صادقة ورغبة مخلصة.
أتاكم أيها المؤمنون المسلمون شهر رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه برحمته ويحط الخطايا ويستجيب الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقيّ من حرم رحمة الله.
في استقبال شهر الصوم تجديد لطيف الذكريات، وعهود الطهر والصفاء والعفة والنقاء، ترفع عن مزالق الإثم والخطيئة، إنه شهر الطاعات بأنواعها صيام وقيام، جود وقرآن، صلوات وإحسان، تهجد وتراويح، أذكار وتسابيح، له في نفوس الصالحين بهجة، وفي قلوب المتعبدين فرحة، وحسبكم في فضائله أن أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، رب ساعة قبول أدركت عبداً فبلغ بها درجات الرضى والرضوان.
في الصيام تنجلي عند الصائمين القوى الإيمانية، والعزائم التعبدية، يدعون ما يشتهون، ويصبرون على ما يشتهون في الصيام، يتجلى في نفوس أهل الإيمان الانقياد لأوامر الله، وهجر الرغائب والمشتهيات، يدعون رغائب حاضرة، لموعد غيب لم يروه إنه قياد للشهوات وليس انقياداً لها.
في نفوسنا يا عباد الله، شهوةٌ وهوى، وفي صدورنا دوافع غضبٍ وانتقام، وفي الحياة تقلب في السراء والضراء، وفي دروب العمر خطوب ومشاق، ولا يُدَافع ذلك كله، إلا بالصبر والمصابرة ولا يُتَحمّل العناء، إلاّ بصدق المنهج وحسن المراقبة. وما الصوم إلا ترويض للغرائز، وضبط للنوازع، والناجحون عند العقلاء هم الذين يتجاوزن الصعاب، ويتحملون التكاليف ويصبرون في الشدائد.
تعظم النفوس ويعلو أصحابها حين تترك كثيراً من اللذائذ، وتنفطم عن كثير من الرغائب، والراحة لا تنال بالراحة، ولا يكون الوصول إلى المعالي إلا على جسور التعب والنصب، ومن طلب عظيماً، خاطر بعظيمته، وسلعة الله غالية وركوب الصعاب هو السبيل إلى المجد العالي، والنفوس الكبار تتعب في مرادها الأجسام.
إن عبّاد المادة وأرباب الهوى، يعيشون ليوم حاضر، يطلقون لغرائزهم العنان، إذا أحرزوا نصيباً طلبوا غيره، شهواتُهم مسعورة وأهواؤهم محمومة ونفوسهم ملوثة ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ?لاْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3]، ويجعلون مكاسبهم وقوداً لشهواتهم، وحطباً لملذاتهم، ويوم القيامة يتجرعون الغصة ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ [غافر:75]، وما فسدت أنظمة الدنيا إلا حين أعرضت عن توجيهات الدين وتعليمات الملة فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ [محمد:22]، إنها الأنعام السوائب، والضّوال من البهائم تفعل ما تحب وتدع ما يضايقها، لا تنازع عندها بين شهوات وواجبات، وحينما يقود الإنسان رشده، فانه يحكّم رغائبه، وإلا فهو إلى الدواب أقرب، بل إنه منها أضل أَرَءيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَ?لاْنْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:43، 44].
ولعلكم بهذا أيها الإخوة تدركون أسراراً من التشريع في الصيام، فهو الضبط المحكم للشهوات، والاستعلاء على كثير من الرغبات، إنه زاد الروح، ومتاع القلب، تسمو به همم المؤمنين إلى ساحات المقربين، يرتفع به العبد عن الإخلاد إلى الأرض ليكون أهلاً لجنةٍ عرضها السماوات والأرض.
عباد الله، جديرٌ بشهرٍ هذه بعض أسراره، وتلك بعض خصاله أن يفرح به المتعبدون ويتنافس في خيراته المتنافسون. أين هذا من أناس، استقبالهم له تأفف، وقدومه عليهم عبوس، لقد هرم فيه أقوام، فزلت بهم أقدام، اتبعوا أهواءهم فانتهكوا الحرمات، واجترؤوا على المعاصي فباؤوا بالخسار والتبار، من الناس من لا يعرف من رمضان إلا الموائد، وصنوف المطاعم والمشارب يقضي نهاره نائماً، ويقطع ليله هائماً، وفيهم من رمضانه بيع وشراء، يشتغل به عن المسابقة إلى الخيرات وشهود الصلوات في الجماعات، فهل ترى أضعف همة وأبخس بضاعة ممن أنعم الله عليه بإدراك شهر المغفرة ثم لا يتعرض فيه للنفحات. فها هو من طالت غيبته قد قرب قدومه، فيا غيوم الغفلة تقشعي، ويا قلوب المشفقين اخشعي، ويا جوارح المتهجدين اسجدي لربك واركعي، وبغير جنان الخلد أيها الهمم العالية لا تقنعي. طوبى لمن أجاب وأصاب، وويل لمن طرد عن الباب.
ها هو الشهر الكريم يحل بالساحات فاستعدوا واجتهدوا، فما أكرمَ الله أمة بمثل ما أكرم به أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
في هذا الشهر ذنوب مغفورة، وعيوب مستورة ومضاعفة للأجور، وعتق من النار يجوع الصائم وهو قادر على الطعام، ويعاني من العطش، وهو قادر على الشراب، لا رقيب عليه إلا الله، يدع طعامه وشرابه وشهوته لأجل الله تبارك وتعالى. الألسنة صائمة عن الرفث والجهل والصخب، والآذان معرضة عن السماع المحرّم، والأعين محفوظة عن النظر المحظور، والقلوب كافّة لا تعزم على إثم أو خطيئة، في النهار عمل وإتقان، وفي الليل تهجد وقرآن، صحة للأجساد وتهذيب للنفوس، وضبط للإرادات، وإيقاظ لمشاعر الرحمة، وتدريب على الصبر والرضا، واستسلام لله رب العالمين. فاجتهدوا رحمكم الله واعرفوا لشهركم فضله وأملوا وأبشروا.
فيا أهل الصيام والقيام، اتقوا الله تعالى وأكرموا هذا الوافد العظيم، جاهدوا النفوس بالطاعات، ابذلوا الفضل من أموالكم في البر والصلات، استقبلوه بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله، جددوا العهد مع ربكم وشدّوا العزم على الاستقامة، فكم من مؤمل بلوغه أصبح رهين القبور، قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
بارك الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله جعل الصيام جُنّة وسبباً موصلاً إلى الجنة، أحمده سبحانه وأشكره هَدَى ويسر فضلاً منه ومنّة، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، جعلنا على أوضح محجة، وأقوم سنة، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وعلى أصحابه، نفوسهم بالإيمان مطمئنة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، فللصيام معانٍ ومقاصد عظيمة، لو تأملناها وتفكرنا فيها، لطال عجبنا منها، ومهما أعمل الإنسان فكره، فلن يحيط بمقاصد الصيام كلها لكن هذه بعضها:
فمن معاني الصوم أنه مرتبط بالإيمان الحق بالله جل وعلا، ولذلك جاء أن الصوم عبادة السّر، لأن الإنسان بإمكانه ألاّ يصوم إذا شاء، إذاً، فالصوم عبادة قلبية سرية بين العبد وربه، فإن امتناع العبد عن المفطرات على الرغم من استطاعته الوصول إليها خفية، دليل على استشعاره اليقيني لاطّلاع الله تعالى على سرائره وخفاياه، وفي ذلك بلا ريب تربية لقوة الإيمان بالله جل وعلا، وهذا السر الإيماني يجري في سائر العبادات التي يتقرب بها العبد إلى خالقه سبحانه. انظروا رحمكم الله مثلاً إلى الوضوء الذي يتطهر به العبد من الحدث، فإن فيها دلالة على إيمان العبد بأن الله تعالى رقيب عليه مما يحمله على أداء تلك الأمانة السرية بينه وبين ربه، ولو أتى إلى الصلاة بدون طهور لما علم الناس بذلك. انظروا كذلك إلى الصلاة ألا ترى أن المصلي يقرأ في قيامه الفاتحة، وفي ركوعه يقول: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده يقول: سبحان ربي الأعلى، وفي جلوسه بين السجدتين يقول: رب اغفر لي، وفي التشهد يقول: التحيات لله، وكل هذا يقوله سراً لا يسمعه مجاوره الملتصق به، أتراه لو لم يكن مؤمناً بعلم الله تعالى بهمسات لسانه، وخواطر ذهنه، ووساوس قلبه، أتراه يدعو ويذكر الله عز وجل في صلاته بهذه السرية التي لا يطّلع عليها إلا ربه سبحانه وَإِن تَجْهَرْ بِ?لْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ?لسّرَّ وَأَخْفَى [طه:7].
ومن معاني الصيام أيضاً أيها الإخوة أنه يربي العبد على التطّلع إلى الدار الآخرة فحين يتخلى الصائم عن بعض الأمور الدنيوية، تطلعاً إلى ما عند الله تعالى من الأجر والثواب لأن مقياسه الذي يقيس به الربح والخسارة مقياس أخروي، فهو يترك الأكل والشرب والملذات في نهار رمضان، انتظاراً للجزاء الحسن يوم القيامة وفي ذلك توطين لقلب الصائم على الإيمان بالآخرة، والتعلق بها والترفع عن عاجل الملاذّ الدنيوية التي تقود إلى التثاقل إلى الأرض والإخلاد إليها.
ومن معاني الصيام أن فيه تحقيقاً للإستسلام والعبودية لله جل وعلا، إذ الصوم يربي المسلم على العبودية الحقة، فإذا جاء الليل أكل وشرب امتثالاً لقول ربه الكريم: وَكُلُواْ وَ?شْرَبُواْ حَتَّى? يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ?لْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ ?لْخَيْطِ ?لاسْوَدِ مِنَ ?لْفَجْرِ [البقرة:187]، وإذا طلع الفجر أمسك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات امتثالاً لأمر الله تعالى ثُمَّ أَتِمُّواْ ?لصّيَامَ إِلَى ?لَّيْلِ [البقرة: 187]، وهكذا يتربى المسلم على كمال العبودية لله، فإذا أمره ربه عز وجل بالأكل في وقت معين أكل، وإذا أمره بضد ذلك في وقت آخر امتثل، فالقضية ليست مجرد أذواق وشهوات وأمزجة، وإنما هي طاعة لله تعالى وتنفيذ لأمره، وإذا أمره ربه بعد رمضان على الجماعات في المساجد حضر، وإذا أمره ربه بترك الربا في معاملاته ترك، فالطاعة والامتثال ليس في رمضان بترك الأكل والشرب بل هي الطاعة الكاملة المطلقة في كل وقت وفي كل حين، حتى يأتيك اليقين وإلا فهو تلاعب، وليس طاعة لله. وإن العبودية لله سبحانه لهي الحرية الحقيقة وكمال الحرية من كمال العبودية له عز وجل ولذلك قال عياض رحمه الله:
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
هكذا يتربى المؤمن على معنى الاستسلام والعبودية لله تعالى، بحيث يأمر بالشيء فيمتثل، ويأمره بضده فيمتثل، سواء أدرك الحكمة أو لم يدركها.
ومن معاني الصوم العظيمة أيضاً، أنه تربية للمجتمع، وذلك أن الصائم حين يرى الناس من حوله صياماً كلهم، فإن الصوم يكون يسيراً عليه ويحس بالتلاحم مع المجتمع الذي يربطه به جانب عبادي يلتقي عليه الجميع.
إن الذي يقارن بين صوم النافلة وصوم رمضان يجد أن في صوم النافلة شيئاً من الكلفة بينما يجد أن صوم رمضان المفروض يسير سهل لا كلفة فيه ولا مشقة للسبب الذي سلف ذكره، حيث إن الصائم في رمضان لا يرى حوله إلا صائمين مثله، فإن خرج إلى السوق وجد الناس فيه صياماً، وإن دخل البيت وجد أهله صياماً، وإن ذهب إلى دراسته أو عمله وجد الناس صياما، وهكذا فيشعر بمشاركة الجميع له في إمساكه، فيكون ذلك عوناً له ومنسياً له ما قد يجده من المشقة.
ولذلك نجد المسلمين الذين يدركهم رمضان في بلاد كافرة، دفعتهم الضرورة للذهاب إليها إما لمرض أو لغيره، نجدهم يعانون مشقة ظاهرة في صيام رمضان لأن المجتمع من حولهم مفطرون، يأكلون ويشربون، وهم مضطرون لمخالطتهم.
فشعور الصائم بأن الناس من حوله يشاركونه عبادته يخفف عليه أمر الصوم ويعينه على تحمله بيسر وسهولة، ومن هنا كانت عناية الإسلام بإصلاح المجتمعات عناية كبيرة لأنه إذا صلح المجتمع كله، ولو بوجه عام سهل فيه فعل الطاعات، وصعب فعل المخالفات لأن المجتمع كله سوف يستنكر المخالفة.
ولهذا نجد أن صغار السن في مجتمعات المسلمين يصومون لماذا؟ لأن المجتمع كله مسلم صائم يساعد على ذلك حتى صغار السن، وفي المقابل تجد أهل الفسق في مجتمعات المسلمين يتسترون بمعاصيهم لماذا ؟ لكي لا يفضحوا، ولأن المجتمع كله ينكر ذلك، وتجد أن الكفّار لا يستطيعون أن يعلنوا الأكل والشرب في رمضان في الأوساط الإسلامية الحقة، والله المستعان.
ومن هذا المنطلق حرص أعداء الإسلام على إفساد المجتمعات الإسلامية لكي يسهل عمل المخالفة فيه، ويقل الإنكار عليه، ولعل من أحدث وسائلهم في ذلك، ما يسمى بالبث المباشر، والقنوات الفضائية، والتي فيها من الشرور والأخطار على المجتمع الإسلامي فكرياً وعقدياً وأخلاقياً وسلوكياً وسياسياً، مالا يخفى.
كنت أُقلب أحد الأعداد من مجلة أصداف، وهي أحد المجلات السيئة التي تباع عندنا فتعجبت مما تنشره المجلة بكل جرأة وصراحة، وإن كان هذا أمراً معلوماً من قبل وليس سراً، لكن الغريب كما قلت لكم هو الجرأة والصراحة والنشر. فبالخط العريض: مدير محطة إل بي سي يعترف علناً بأن المحطة تركز على الجنس، وأن هذا هو الذي يجذب المشاهد العربي. وفي نفس العدد وفي أحد الحوارات التي أجريت مع مالك إحدى المحطات الفضائية المعروفة في الوطن العربي اعترف علانية وبصراحة بأن محطته تستخدم المذيعات الجميلات اللواتي يجدن الإثارة والإغراء والبرامج ذات الطابع الجنسي لاستقطاب المشاهدين وخاصة من دول الخليج.
فيا أولياء أمور البنين والبنات، لا أظن إلا أن خطر القنوات الفضائية أصبح واضحاً لكل عاقل، فإني أخاطب الإيمان الذي في قلوبكم، وأخاطب الإسلام الذي تعتنقون، وأنتم أعلم مني بأن ما يعرض في بيوتكم عبر هذه الدشوش أنه يخالف إسلامكم الذي تعتنقون، ويضاد إيمانكم الذي تحملون، أما وصل بك الجرأة أيها الأب أن تصارح أهل بيتك بأن هذا الذي أدخلناه كان خطأً، ولا عيب أن يخطأ الرجل ثم يصحح ويتراجع، أم أنك ضعيف إلى هذا الحد أمام أهل بيتك ولا تستطيع المواجهة وأنت رجل.
فاتقوا الله أيها المسلمون، نصيحة مشفقٍ عليكم أقولها لكم، انجو بأنفسكم من النار، انجو بأنفسكم من النار، ولعل شهر رمضان فرصة للتوبة والرجوع إلى الله وتصحيح الماضي.
اللهم أنا نسألك رحمة...
اللهم بلغنا رمضان...
(1/2945)
تأملات كونية
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
آثار الذنوب والمعاصي, مخلوقات الله
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
16/5/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اعتبار المؤمن بما يجري من أحداث وكوارث. 2- كل ما يجري في الكون إنما هو بقدر الله. 3- نسبة الأحداث الكونية إلى الطبيعة. 4- تأملات في آية الكون. 5- مشاهد للغفلة تجاه هذا الحدث الكوني الهام. 6- عندما كسفت الشمس على عهد رسول الله. 7- خوف النبي. 8- تأملات في زلزال تركيا. 9- الاعتبار بمصارع الأمم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: مرّ على العالم في الأيام الماضية حدثان عظيمان يتعلقان بهذا الكون الذي من حولنا: الأول: كسوف الشمس، والثاني: الزلزال العظيم الذي أصاب ـ تركيا ـ فخلّف آلافاً من الضحايا والمشردين. والمسلم عندما تمر عليه مثل هذه الأحداث العظيمة وغيرها المتعلقة بالكون من حوله ينبغي أن تكون له وقفة تأمل واعتبار.
وهذه الوقفة تنطلق من العقيدة التي رسخت في قلبه وانعكست على تصوراته للكون من حوله، وهذا هو المهم، أما أهل المناهج المادية الأرضية البحتة فإنهم ينطلقون من تصوراتهم المادية لمثل هذه الأحداث، والمسلم له منطلقاته التي يحكم بها حياته هو، ونظرته إلى ما حوله من الأحداث فقلب المسلم معلق دائماً بالله، ما يرى من نعمة إلاّ ويعلم أنها من عند الله، وما يرى من مصيبة إلاّ ويعلم أنها بما كسبت يداه ويعفو عن كثير.
ويعلم المسلم أن الكون بإنسه وجنّه وسمائه أرضه وكواكبه ونجومه ومخلوقاته ما علمنا منها وما لم نعلم، إنما هي مسخرة بأمر الله يتصرف فيها كيف يشاء سبحانه، ولا معترض عليه.
والمسلم بما يحمل من عقيدة التوحيد، يعلم أن الضر والنفع بيد الله، وأن ما يجري من زلازل وبراكين وأمطار وأعاصير ورياح وكسوف وخسوف إنما هي بقدر من الله لحكمة يريدها الله، علمها البشر أو غابت عنهم. ويعلم المسلم أيضاً أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الواجب عليه عند حلول المصيبة أن يصبر ويحتسب.
فالمسلم دائماً يتأثر قلبه بالآيات الكونية التي يراها ماثلة أمام عينيه، وهذه الآيات تذكره بالله وتحيي قلبه وتجدد الإيمان فيه، وتجعله متصلاً بالله ذاكراً له، شاكراً لنعمه، مستجيراً بالله من نقمته وسخطه.
أيها المسلمون، إن مما يحزن له المسلم أن يجد بعض المسلمين ينسى مثل هذه الحقائق الإيمانية العظيمة في خضم الأحداث التي قد تفجأْه، فترى البعض ينسب مثل هذه الأحداث الكونية إلى الطبيعة ناسياً أو متناسياً قدرة الله العظيمة أو متأثراً باللوثة المادية وأن الطبيعة تخبط خبط عشواء ـ زعموا ـ أو يكون متبعاً للدراسات والتقارير التي تصدر عن الجهات التي لا تقيم للدين وزناً، فتجد إحدى الصحف التي يشرف عليها أناس من أهل الإسلام تقول في تغطيتها لأحداث الزلزال الذي أصاب تركيا: (قصد كثير من الأوربيين اسطنبول لمشاهدة الكسوف ففاجأتهم الطبيعة بمظهر آخر من مظاهرها الخارقة والفتاكة في آن) انتهى. فالكاتب يعزو ما حصل من المظهر الأول وهو الكسوف والمظهر الثاني وهو الزلزال إلى الطبيعة، ولك أن تتأمل في ذلك.
فها هنا وقفتان، كل وقفة مع ظاهرة: الأولى: كسوف الشمس:
أيها المسلمون، إننا نحن المسلمين، نقر بأن لهذه الظواهر الكونية أسباباً طبيعية وأن أهل الفلك يستطيعون معرفة وقوعه قبل وقوعه، عن طريق حسابات دقيقة ويحدد باليوم والساعة والدقيقة، ونقر أيضاً ونعتقد بأن لهذه الظواهر أسباباً شرعية أيضاً وهي المهمة، وأنها ابتلاءات يخوف الله بها عباده، من عاقبة ما يفعلون، ومن جرم ما يرتكبون، جعلها الله أسباباً لنستيقظ من غفلتنا، ولنحاسب أنفسنا ولنلتفت إلى واقعنا، فنحدث بعدها توبة، ونصحح ما عنّ فيه من أخطاء.
إن ذهاب نور الشمس والقمر كله أو بعضه أيها الأحبة، ما هو إلا إنذار وتذكير للعباد ليقوموا بما يجب عليهم من أوامر الله، ويبتعدوا عما حرم عليهم من نواهي. ولذلك كثر الخسوف في هذا العصر عما كان عليه الحال فيما مضى، فلا تكاد تمضي السنة حتى يحدث كسوف أو خسوف في الشمس أو القمر أو فيهما جميعاً، وذلك لكثرة المعاصي والفتن في هذا الزمن مع أنه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحصل إلا مرة واحدة لقد انغمس أكثر الناس في شهوات الدنيا ونسوا أهوال الآخرة، أترفوا أبدانهم، وأتلفوا أديانهم، أقبلوا على الأمور المادية المحسوسة، وأعرضوا عن الأمور الغيبية الموعودة، التي هي المصير الحتمي والغاية الأكيدة فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ ?لَّذِى يُوعَدُونَ [الذاريات:60].
عباد الله، في الأيام المنصرمة كثر الكلام والتنبؤات التي طغت على الإعلام العالمي بأجمع، ولم يكن الإعلام الإسلامي ظاهراً، ولكنه كان غائباً حقيقةً ومنهجاً، فكان تبعاً للإعلام الغربي يردد ما يقول حرفياً دون أن تظهر السمة الإسلامية في التحليل والمتابعة ـ إلاّ من رحم الله وقليل ما هم ـ، لقد تحولت ظاهرة الكسوف في ظل هذا الإعلام إلى احتفالات وموسم للسياحة الداخلية والخارجية، وتحول الخوف والفزع والتذكر والاتعاظ الذي ينبغي أن يصاحب مثل هذه الآية العظيمة إلى شيء آخر، أنسانا مثل هذه المفاهيم، ولعل جولة في الصحافة الداخلية والخارجية تعطي الإنسان دليلاً واضحاً على ما نقول، وأصبح الخوف والفزع الذي يجب أن يعصر القلوب، تحول إلى خوف على العيون أن لا يصيبها داء الكسوف، ولست أقلل هنا من الآثار التي قد تنجم من النظر إلى الشمس وهي في كسوفها، ولكن أشير إلى أن الأمر تحول عن الخوف الأساسي إلى خوف سمه (فرعياً) وليت الذين كتبوا عن النظر إلى الكسوف كتبوا بنفس القدر عن الحكمة الأساسية من وراء الكسوف والخسوف، وهي أنهما آيتان يخوف الله بهما عباده.
نشرت جريدة الحياة في أحد أعدادها مقالاً لكاتب سخيف وهو يعلق على ظاهرة الكسوف فيقول: إذا خرجت ورأيت الكسوف وأصابك الفزع والخوف فخذ نفساً ـ هكذا فخذ نفساً ـ كتم الله نفسه، أين هدي النبي صلى الله عليه وسلم حال الكسوف؟ ولماذا تشوه عقائد الناس إلى هذه الصورة الممجوجة؟ وسمعنا بأنه قد تم بيع نظارات على البُله من الناس لحماية أعينهم من الكسوف وصلت إلى ألف ريال.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لماّ كسفت الشمس على عهده خرج فزعاً يجر رداءه مستعجلاً يخشى أن تكون الساعة، جاء في رواية مسلم أنه من فزعه صلى الله عليه وسلم أخطأ فخرج بدرع بعض نسائه لظنه رداءه حتى أدركوه بالرداء، قال ابن حجر: يعني أنه أراد لبس ردائه فلبس الدرع من شغل خاطره بذلك، وكان يوماً شديد الحر حتى أتى المسجد ونودي بالصلاة جامعة، فصلى بهم صلاة طويلة، وسُمع وهو في سجوده يقول: ((رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم، ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون))، ثم خطب الناس ووعظهم موعظة بليغة، وبيّن أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا للصلاة، فافزعوا إلى المساجد، فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره، وفي رواية: ((فادعوا وتصدقوا وصلوا))، ثم قال: ((يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وأيم الله لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لا قوة من أمر دنياكم وآخرتكم، ما من شيء لم أكن رأيته إلا رأيته في مقامي هذا، حتى الجنة والنار.
رأيت النار يحطم بعضها بعضاً، فلم أر كاليوم منظراً قط أفظع منه، ورأيت فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه، ورأيت فيها امرأة تعذب في هرة لها، ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، ولقد رأيتكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال، يؤتى أحدكم فيقال :ما علمك بهذا الرجل، فأما المؤمن فيقول: محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا، وآمنا واتبعنا، فيقال: نم صالحاً، وأما المنافق فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، ثم ذكر الدجال وقال: لن تروا ذلك حتى تروا أموراً يتفاقم شأنها في أنفسكم، وحتى تزول جبال عن مراتبها، ثم قال: ثم جيء بالجنة وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي فأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل)) إلى آخر تلك الخطبة العظيمة البليغة الجامعة. فأين نحن من ذلك كله، وقد أحلنا ظاهرة الكسوف إلى احتفال كرنفالي عجيب؟!
فيا أيها المسلمون، هل تظنون أن فزع النبي صلى الله عليه وسلم وخروجه إلى المسجد ثم الصلاة ثم بعدها تلك الخطبة وما حصل له فيها من أحوال هل كل ذلك يكون لأمر عادي، لا والله. إنه لا يكون إلا لأمر عظيم مخيف. فعلينا في مثل هذه الأحوال، أن نفزع كما فزع نبينا صلى الله عليه وسلم وأن نلجأ إلى مساجد الله للصلاة والدعاء والاستغفار وأن نتصدق لندفع عن أنفسنا البلاء وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعتاق في كسوف الشمس لأن عتق الرقبة فكاك للمعتق من النار، فأسباب البلاء والانتقام بسبب فعل العباد، عند حدوث الكسوف أو الخسوف قد انعقدت، والفزع إلى الصلاة والصدقة، يدفع تلك الأسباب.
فإلى متى أيها الأحبة نسلم عقولنا وعقائدنا ومسلماتنا للإعلام، قد تجد عذراً لبعض الناس عندما يضحك عليهم الإعلام في قضايا سياسية أو تحليلات واقعية أو يعطي بعض المعلومات الخاطئة أو الإحصائيات المزيفة، لكن أن يصل إلى درجة العبث بمسلمات ثابتة من الدين ثم ينطلي هذا على الناس، هذا هو الذي يدمي القلب، فكفانا غفلة أيها الأحبة عن سنن الله في كونه وما يحدث فيها من تقلبات، وإن لم نكن على وعي تام ومعرفة بأساليب العلمانيين وكتاباتهم فنخشى أن تغير مسلماتنا ونحن لا نشعر. روى البخاري ومسلم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى غيماً أو ريحاً عُرف في وجهه، فقالت عائشة رضي الله عنهما: يا رسول الله، أرى الناس إذا رأوا غيماً فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية، فقال: ((يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عُذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا)).
أيها المسلمون، والشيء بالشيء يذكر، فمن المسلّمات التي يسعى لتغييرها وتهوين شأنها عند الناس زيارة ديار المعذبين. الذي أمر به الشرع أن يهتز قلب المسلم تأثراً وأن تسيل دموعه تذكراً، وهو يمر بديار المعذبين، ذلك أنه يستشعر الرهبة وهو يمر على الديار التي طغت وتجبرت وعاندت واستكبرت حتى استحقت أن ينزل عليها غضب الرب تبارك وتعالى، ينبغي أن يتأثر وهو يمر بمواقع الخسف والعذاب وقبور المشركين، روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تدخلوا على هؤلاء المُعذبين إلاّ أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم أن يُصيبكم ما أصابهم)) وفي البخاري، أن النبي عليه الصلاة والسلام لمّا مر بالحجر قال: ((لا تدخلوا مساكن القوم الذين ظلموا أنفسهم، إلاّ أن تكونوا باكين: أن يصيبكم ما أصابهم، ثم تقنّع بردائه وهو على الرحل)) وفي رواية: ((ثم قنّع رأسه وأسرع السير، حتى أجاز الوادي)) وفي رواية: ((ثم زجر فأسرع حتى خلفها)).
والمقصود بالحجر هنا هي مدائن صالح، قال ابن حجر: "إن البكاء يبعثه على التفكر والاعتبار، فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء، مما وقع فيه أولئك من الكفر، مع تمكين الله لهم في الأرض، وإمهالهم مدة طويلة، ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه، وهو سبحانه مقلب القلوب، فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك". وقال: " فمن مر عليهم، ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتباراً بأحوالهم، فقد شابههم في الإهمال، ودل على قسوة قلبه، وعدم خشوعه، فلا يأمن أن يجره ذلك إلى العمل بمثل أعمالهم فيصيبه ما أصابهم" انتهى.
ومع الأسف أمام هذه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد أن البعض لازال يدعو إلى فتح أبواب السياحة إلى مثل هذه المناطق وتحويلها إلى مزارات ومناطق احتفالات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أسأل الله تعالى أن يبصرنا بديننا، وأن يوقظنا من غفلتنا..
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول هذه القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: الوقفة الثانية: مع زلزال تركيا:
فقد سمعتم بل وربما شاهدتم عبر وسائل الإعلام بعض آثار الزلزال الذي ضرب تركيا، فأهلك عشرات الآلاف من البشر، فاللهم لا شماتة.
أيها المسلمون، إن هذه الأرض التي نعيش عليها من نعم الله الكبرى، فإن الله سبحانه وتعالى قد مكننا من هذه الأرض، نعيش على ظهرها وندفن موتانا في باطنها، قال الله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ ?لأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاء وَأَمْو?تاً [المراسلات:25، 26]، وقال تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَـ?كُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى? [طه:55]، وقال تعالى: فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف:25]، وقال تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّـ?كُمْ فِى ?لأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـ?يِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ [الأعراف:10]، وقال تعالى: هُوَ ?لَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ?لأَرْضَ ذَلُولاً فَ?مْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ?لنُّشُورُ [الملك:15]، والآيات في هذا كثيرة.
ومن رحمته أنه جعلها ثابتة مستقرة لا تتحرك وأرساها بالجبال حتى نتمكن من البناء عليها والعيش على ظهرها، وفي بعض الأحيان يجعل الله عز وجل هذه الأرض جنداً من جنوده، فتتحرك وتميد وتحصل الزلازل المدمرة تخويفاً للعباد وتأديباً للبعض الآخر وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى? لِلْبَشَرِ [المدثر:31].
فهذه الزلازل لا شك عندنا نحن المسلمين أنها عقوبات ربانية من الله على ما يرتكبه العباد من الكفر والفسوق والعصيان، كما قال بعض السلف لما زلزلت الأرض: إن ربكم يستعتبكم.
ولما وقع زلزال بالمدينة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قام فيهم خطيباً ووعظهم وقال: لئن عادت لا أساكنكم فيها. لعلم عمر بأن ما حصل ما هو إلا بسبب ذنوب الناس، وأن هذا تهديد وعقوبة من الله عز وجل. وما يقوله بعض المتحذلقين من الجغرافيين والعلمانيين بأن هذه الزلازل ظواهر طبيعية لها أسباب معروفة، لا علاقة لها بأفعال الناس ومعاصيهم، حتى صار الناس لا يخافون عند حدوثها ولا يعتبرون بها، فيستمرون في غيهم وبغيهم ولا يتوبون من كفرهم ومعاصيهم كلام باطل.
إن الكتاب والسنة يدلان على أن هذه الزلازل كغيرها من الكوارث إنما تصيب العباد بسبب ذنوبهم وكونها تقع لأسباب معروفة لا يخرجها عن كونها مقدرة من الله سبحانه على العباد لذنوبهم قال الله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ?لْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]. عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ)) فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَتَى ذَاكَ؟ قَال: ((إِذَا ظَهَرَتْ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ)). وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ((يَكُونُ فِي آخِرِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ)) قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: ((نَعَمْ إِذَا ظَهَرَ الْخُبْثُ)). وهل يشك عاقل بظهور الخبث وفشوه وانتشاره.
إن بلاداً من بلاد الله الواسعة، كانت قائمة شاخصة، فظلم سكانها أنفسهم، فحل بهم أمر الله وسنته وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَـ?كِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ ?لْو?رِثِينَ [القصص:58].
لقد عمّ قوم نوح الغرق، وأهلكت عاداً الريح العقيم، وأخذت ثمود الصيحة، وقلبت على اللوطية ديارهم، فجعل الله عاليها سافلها، وأمطر عليها حجارة من سجيل، فساء مطر المنذرين فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ?لصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ?لأرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـ?كِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40]، إنها الحقيقة الصارخة: فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ تلكم الذنوب، وتلكم عواقبها وما هي من الظالمين من أمثالنا ببعيد. ما ظهرت المعاصي في ديار إلا أهلكتها، ولا فشت في أمة إلا أذلتها، ولا تخلخلت في دولة إلا أسقطتها. إنه ليس بين أحد وبين الله نسب، ولا يعني أن أقواماً أو مجتمعات لم يصبها شيء أنها على الاستقامة كلا، ولكن الله يمهل حتى يعتبر الناس ولا يهمل، والعقوبات الربانية تختلف فقد يكون زلزالاً وقد يكون حروباً وقد يكون تدهوراً في الإقتصاد وسوء للأوضاع المالية، وقد يكون، وقد يكون.
إن تركيا في يوم من الأيام كانت هي حاملة لواء الإسلام، وكانت تمثل الدولة الإسلامية وقد أرعبت العالم كله في وقتها عندما كانت قائمة بأمر الدين حاملة لواء الجهاد في سبيل الله، حينها كسرت أنف دول أوربا بجهادها وفتوحاتها. كان ذلك عندما كان لها تميزها بدينها وتحكيمها لشريعة ربها. واليوم لا تكاد تفرق بينها وبين أية دولة أوربية، بل إنها لتحاول الإنفصال ولو اسمياً عن كونها دولة إسلامية وتعتبر نفسها أحد دول أوربا. فاللهم لا شماتة.
قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ?لسَّيّئَةِ ?لْحَسَنَةَ حَتَّى? عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا ?لضَّرَّاء وَ?لسَّرَّاء فَأَخَذْنَـ?هُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـ?تاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ?للَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ?لارْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَـ?هُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى? قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ تِلْكَ ?لْقُرَى? نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِ?لْبَيّنَـ?تِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ ?للَّهُ عَلَى? قُلُوبِ ?لْكَـ?فِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَـ?سِقِينَ [الأعراف:94-102].
أيها المسلمون، كلمة أخيرة، إن الزلزال الذي ضرب تركيا وأحدث هذا التخريب العظيم على هذه المساحة الشاسعة وفي مكان لم يكن حسب تقديرات الجغرافيين وفي وقت لم يتوقعوه وحصل على إثره وفاة عشرات الآلاف، كل هذا حصل أيها الأحبة في خمس وأربعين ثانية. فلا إله إلا الله. إن قدرة الله أعظم من هذا، ما هي إلا كن فيكون، فهل من معتبر.
(1/2946)
تعظيم الشريعة
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
9/7/1416
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العلماء على سائر الناس. 2- العلماء ورثة الأنبياء. 3- حملة أعداء الدين على العلماء. 4- ظاهرة السخرية من العلماء وعلمهم وفتاويهم. 5- الانتقاص من علماء الشريعة انتقاص للشريعة ومحبط للعمل. 6- توقير السلف للشريعة. 7- صور من كيد أعداء الإسلام في هذا المقام. 8- جزاء مخالفة السنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لقد رفع الله منزلة العلم والدين وأهله في هذه الدنيا وأحلَّهم في المنزلة اللائقة بهم، فقد رفع الله عز وجل العلماء ومَيَّزهم عن غيرهم، فقال سبحانه: يَرْفَعِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ دَرَجَـ?تٍ وَ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11]، وقال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ?لَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [الزمر:9]، واستشهد سبحانه بأُولِى العلم على أجل مشهود عليه وهو توحيده، فقال تعالى: شَهِدَ ?للَّهُ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ وَ?لْمَلَـ?ئِكَةُ وَأُوْلُواْ ?لْعِلْمِ قَائِمَاً بِ?لْقِسْطِ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ [آل عمران:18].
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ سلك طريقاً يلتمسُ فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر)).
قال ابن القيم رحمه الله: "قوله عليه السلام: ((إن العلماء ورثة الأنبياء)) هذا من أعظم المناقب لأهل العلم فإن الأنبياء خير الخلق، فورثتهم خير الخلق بعدهم، ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته، إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده، ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أُرسلوا به إلا العلماء، فكانوا أحقَّ الناس بميراثهم، وفي هذا تنبيه على أنهم أقربُ الناس إليهم، فإن الميراث إنما يكون لأقرب الناس إلى الموروث وهذا كما أنه ثابت في ميراث الدرهم والدينار فكذلك هو في ميراث النبوة، والله يختص برحمته من يشاء". إلى أن قال ابن القيم رحمه الله: "وفي الحديث تنبيه على أن محبتهم من الدين وبُغضهم مناف للدين.. وكذلك معاداتهم ومحاربتهم معاداة ومحاربة لله..، قال علي رضي الله عنه: محبةُ العلماء دينٌ يُدان به" ا.هـ. مفتاح دار السعادة.
وقال الإمام أبو بكر الآجري رحمه الله: "إن الله اختص من خلقه من أحب فهداهم للإيمان، كما اختص من سائر المؤمنين من أحب فتفضل عليهم، فعلمهم الكتاب والحكمة، وفقههم في الدين، وعلمهم التأويل، وفضلهم على سائر المؤمنين، وذلك في كل زمان وأوان، رفعهم بالعلم وزيّنهم بالحلم، بهم يُعرف الحلالُ من الحرام، والحق من الباطل، فضلهم عظيم، وخطرهم جزيل ورثة الأنبياء وقرة عيون الأولياء، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، يُذَكِّرون الغافل ويعلِّمون الجاهل.. هم سراج العباد ومنار البلاد، وقوام الأمة وينابيع الحكمة..هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوبُ أهل الزيغ.. مَثَلُهُم في الأرض كمثل النجوم في السماء يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيروا وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا.." أخلاق العلماء.
أيها المسلمون، إن فضل العلماء وحملة الدين الحديثُ عنهم لا ينتهي، فهم كالعافية للبدن وكالشمس للدنيا، ولقد سعى أعداءُ الإسلام سعياً حثيثاً في الطعن في حملة الدين ودعائه.. وكان من نتائج هذا العداء السافر أن زالت هيبة الملة الإسلامية من قلوب الكثيرين.. فأصبح المرء يسمع آيات الله تتلى وحديث الرسول يُروى.. وكأنه يستمع إلى صحفي يكتب في جريدة.. أو قاصٍّ يكتب قصة..
أصبح المسلم لا يجد ذلك التعظيم والتوقير والتبجيل لنصوص الكتاب والسنة مثل ما كان يعهد من نفسه من قبل ذلك العداء السافر، كان يحبُ أهل الخير، وينتصر للدين وأهله، ويدعو للمسلمين، ويترحم على المؤمنين.. واليوم بدأ يخبو ذلك الوهَج الإيماني من قلوب كثير من أهل الإسلام، ومن أكبر أسباب ذلك تلك العداوة الظاهرة والباطنة للدين وأهله وحملته.
عباد الله، وساعد ذلك المكر الخبيث والكيد المتين جهلُ المسلمين بدين الله تعالى، سواءً كان الجهل بحرمة المسلم على المسلم وعظيم حقه ومنزلته.. أو الجهل بحكم الاستخفاف بأهل العلم والدين والصلاح.. وازداد الأمرُ سوءاً بالكثيرين فتطاولوا على الشريعة نفسها، وأصبحت نفوس البعض تجسرُ أن تتكلم في دين الله بالاستهزاء والسخرية فضلاً عن مخالفة أوامرها وعصيان زواجرها، وأصبح العالم يفتي الفتوى فلا تسمع بل ويُسخر منه.
نعم أصبح العالم يفتي ويتكلم ولا أحد يسمع.
أين تلك المشاعر وتلك الأحاسيس التي كانت بالأمس القريب إذا تحدث العالم أو أفتى، نزلت الأمة كلها عند رأيه وقوله.
ومن الأسباب التي ساعدت على استفحال هذا المنكر العظيم بين المسلمين هو تنحية شرع الله تعالى في بلاد المسلمين، فلو أن حدَّ الرِّدة أقيم على من يستحقه، فلن يتطاول سفيهٌ على فتاوى أهل العلم، ولن يسخر مريضُ قلبٍ من استقامة أهل الدين.
أيها المسلمون، إن تعظيم الشريعة والسنة في هذا الزمان من أوجب الواجبات. وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32].
لقد كادت أن تحبط أعمال بعض الناس عندما جهروا ورفعوا أصواتهم ـ فحسب ـ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بالانتقاص من الشريعة، وكيف بعدم تعظيم وتوقير السنة.
قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْو?تَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ?لنَّبِىّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِ?لْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَـ?لُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]، قال ابن القيم: "فحذّر المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله كما يجهر بعضهم لبعض. وليس هذا بردة بل معصية تُحبط العمل وصاحبها لا يشعر بها (تأمل بعض المعاصي قد تحبط العمل الصالح)" ا.هـ. الوابل الصيب.
إنَّ بعض الذنوب تحبط الأعمال الصالحة وتذهب بها وتبطلها.
عباد الله، ولمَّا كان أمرُ مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم خطيراً وعاقبته وخيمة.. كان موقف الصحابة منها موقفاً عظيماً، قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63], هذا أبو بكر رضي الله عنه يقول: (لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به وإني لأخشى إن تركتُ شيئاً من أمره أن أزيغ).
قال بعض السلف معلقاً على كلام أبي بكر: "هذا الصديق الأكبر يتخوف على نفسه الزيغ إن هو خالف شيئاً من أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، فماذا عسى أن يكون في زمان أضحى أهله يستهزئون بنبيهم وبأوامره ويتباهون بمخالفته ويسخرون بسنته..".
انظر إلى الناس اليوم، إذا وجدوا الرجل العاقل يستمع لكلام العلماء ويطبق سنة الرسول صلى الله عليه وسلم سخروا منه، يا أخي ما هذا الحرمان؟! بدلاً من أن تتوجه إلى نفسك فتلومها على تقصيرها وتوانيها وأنها لم تفعل كذا، وأنها قصرت في كذا، تتوجه مباشرة من اتهام النفس وازدرائها لتقصيرها وتكاسلها، إلى ازدراء الآخرين والسخرية منهم إن عملوا بالدين، أو سمعوا كلام سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، أين يُذهب بك يوم القيامة؟! أفِق يا عبد الله فالأمر خطير.
أيها المسلمون، سأسوق لكم بعض النصوص والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من سلف هذه الأمة لتدركوا كيف كان تعظيم أولئك للشريعة وتوقيرهم للسنة، وأنهم نالوا ما نالوا من الخير والبركة إنما هو بسبب ذلك، ثم نقارن بين حالنا وحالهم.
عن أبي قتادة قال: كنا عند عمران بن حصين في رهطٍ منا وفينا بشير بن كعب ممن قرأ كتب أهل الكتاب فحدثنا عمران يومئذٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحياء خير كله)) أو قال: ((الحياء كله خير)). فقال بشير: إنا لنجد في بعض الكتب أن منه ـ من الحياء ـ سكينة ووقاراً لله، وفيه ضعفٌ.فغضب عمران حتى احمرت عيناه، وقال: (ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه) رواه البخاري (فتح 10/522).
اشتد نكيرُ عمران رضي الله عنه على من أوهم كلامه مخالفة كلام الرسول صلى الله عليه وسلم واعتبر أنه ساقه في معرض من يعارض كلام الرسول بكلام غيره.
وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخذف)، الخذف: رمي الحجارة الصغير بأصابع اليد وعادة ب..، وقال: (إنها لا تصطاد صيداً، ولا تنكأ عدواً ولكنها تفقأ العين وتكسر السن)) فقال رجل لعبد الله رضي الله عنه: وما بأسٌ بهذا؟ فقال عبد الله: (إني أحدثك عن رسول الله وتقول هذا، والله لا أكلمك أبداً) رواه البخاري (ج 5479)، ومسلم (وانظر الإبانة لابن بطة ج96). هذا يُحكِّم عقله في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الذهبي: "إذا رأيت المتكلم المبتدع يقول: دعنا من الكتاب والأحاديث وهات العقل فاعلم أنه أبو جهل".
من منا في هذا الوقت من تعظيمه للشريعة يقاطع ولا يكلم من يعترض على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي المخارق قال: ذكر عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن درهمين بدرهم (هذا هو الربا) فقال فلان: ما أرى بهذا بأساً يداً بيد، فقال عبادة: قال النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: ((لا أرى به بأساً؟ والله لا يظلني وإياك سقف واحد أبداً)) رواه ابن ماجه والدارمي بإسناد صحيح عند ابن ماجه (ج81).
عباد الله، إن المسألة يجب أن تنتهي عند قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن كان نزاع بعد ذلك فليحذر الإنسان على إيمانه وإسلامه، فإن الإسلام مبنيٌ على التسليم للرسول صلى الله عليه وسلم ولا يكون هذا إلا بتعظيمه وتعظيم أمره ونهيه، وعن سالم بن عبد الله بن عمر: أن عبد الله بن عمر قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنَّ إليها)). قال: فقال بلال بن عبد الله بن عمر: والله لنمنعهن. قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سباً سيئاً ما سمعته سبه مثله قط. وقال: (أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهنَّ) رواه مسلم (ج442). وعن عطاء بن يسار: أن رجلاً باع كسرةً من ذهب أو ورِق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: (من يعذرني من فلان، أحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه..لا أساكنك بأرض أنت بها) (الإبانة ج 94).
إذا عرفت الفتوى وقول الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم الله.. فقف معه ودر معه حيث دار، وإلا فهذا الرجل لما خالف أبا الدرداء أمر أبو الدرداء بأن يُخرج من أرضه وأن ينفى، وألا يساكن.
هذا هو جزاء الذين يخالفون كلام العلماء ولا يعظمون الشريعة والسنة. وعن الأعرج قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول لرجل: أتسمعني أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تبيعوا الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم إلا مثلاً بمثل ولا تبيعوا منها عاجلاً بآجل)) ثم أنت تفتي بما تفتي.والله لا يؤويني وإياك ما عشتُ إلا المسجد. وهذا قاله أبو سعيد الخدري لابن عباس فإنه رضي الله عنه كان يجيز ربا الفضل في أول أمره ثم لما استبانت له السنة وأمر الرسول عليه السلام رجع عنه كما ثبت عنه، وهذا من معالم إيمان الصحابة العالية أنهم يوقرون كلام الله ورسوله ويعظمونها ويتفادون، ويخرجون عن آرائهم لرأي الرسول صلى الله عليه وسلم.. ويتركون هواهم وشهواتهم رغبة في متابعة الرسول واتباعاً لِأمره ونهيه، وبهذا فاقوا من بعدهم.
وعن قتادة قال: "حدث ابن سيرين رجلاً بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل: قال فلان: كذا وكذا.. فقال ابن سيرين: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: قال فلان وفلان: كذا وكذا؟! والله لا أكلمك أبداً " رواه الدارمي (ج 441).
وهذا هو حكم هؤلاء أن يُهجروا ولا يُكلَّموا، وهذه هي السنة فيمن أحدث حدثاً عظيماً أن يهجر ولا يكلم حتى يتوب من مخالفته، بل إنَّ بعض السلف كانوا يرون أن من خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن يُسجن ويحبس، قال أبو السائب: كنا عند وكيع، فقال لرجلٍ عنده ممن ينظر في الرأي: أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال الرجل: إنه روي عن فلان أن الإشعار مُثلَةٌ ـ الإشعار: هو أن يُشق أحد جنبي سنام البدنة حتى يسيل دمها ويجعل ذلك لها علامة تُعرف بأنها هدي ـ. وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما حج واعتمر) فقال هذا الرجل: هذا مُثلَة (تعذيب.. أين الرفق بالحيوان) فلما سمع وكيع ـ وهو راوي الحديث ـ ذلك من الرجل غضب غضباً شديداً، وقال: أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: قال فلان؟! ما أحقَّك بأن تُحبس ثم لا تُخرج حتى تنزع عن قولك هذا" رواه الترمذي في السنن (3/250).
عباد الله، وعلى هذا جرت القرون الفاضلة والتي تليها أنه يجب تعظيم وتوقير كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فإن هذا هو مقتضى البيعة الإيمانية وهو مقتضى كلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" التي يقولها كل من ينتسب لهذا الدين.
لقد كان هذا ديدنُ أهل الإسلام والإيمان جملة وتفصيلاً أنهم ينقادون ويعظمون كلام الله وكلام رسوله.. ويرون أن الدين يجب أن يُسمع له وأن يكون هو الحاكم عليهم.
أيها المسلمون، نعم، قد وُجدت بعض المخالفات في الزمان الأول وذلك له أسبابه الخاصة، إما لخفاء سنة أو عدم بلوغها أو لقول مرجوح لكن أن يُتهم رواة الدين وصحابة رسول رب العالمين وأن يُستهزأ بهم ولا يؤخذ بكلامهم ولا يُعَظَّمون، فهذا ما لم يحصل فيما مضى، وإن حصل فإنه لم يكن توجهاً عارماً في الناس وإنما كانت له أسبابه الخاصة به كما ذكرنا وفي أحيانٍ كثيرة في مسائل جزئية فرعية.
أما اليوم فأصبحت ترى من ينادي بتحليل الربا ويقول كالأول: وما بأس، وأصبحت ترى وتسمع هذه الحملة الشرسة على حملة الشريعة مما أدى بالتدريج ـ والله المستعان ـ، إلى ضعف تعظيم الدين في قلوب العامة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، لقد أراد أعداء الإسلام والإيمان أن يزيلوا من قلوب المؤمنين مهابة الدين وتعظيمه، وأن يتحرروا من سلطته وتنفيذه، وأن يكون همهم لقمة عيش أو شهوة فرج.
أرادوا أن تبقى هذه الجموع الحاشدة في موقف المتفرج والناظر الذي يألف المشاهد اليومية التي يمر بها المسلمون وأن يشارك هذا الكم الهائل ـ من حيث لا يشعر ـ في إذكاء النار وزيادة البلاء ومع كثرة هذه المشاهد وتتابعها تسرب إلى نفوس الكثير من المسلمين ـ حتى أهل الخير ـ التقليل من شأن الدين، الذي ينتسب إليه هذا المسلم، والذي يذكر يوماً ما أنه من أهله ويحبُ أهله وأنصاره، وأصبح اليوم كغيره تُنصب دار العرض وتُصف الكراسي، ويأتي هو من ضمن المدعوين ليشارك ـ شعر أو لم يشعر ـ في إطفاء شعلة هذا الدين.
إنَّ تعظيم الدين والشريعة والسنة يجب أن يكون من أولى أولويات المسلم مع الذين من حوله، يجب أن تُعاد هيبة الدين وتُغرس في نفوس الناس.
عباد الله، يجب على الأب أن يغرسها في أولاده وفي أهل بيته ويحبب الدين لهم لا أن يكون من الذين يشاركون في إيجاد جيل يتربى على كره وبغض الدين كثيرُ من الناس يريد من الناس أن يعظموه ويوقروه وهو لم يوقر ولم يعظم كلام الله ولا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسمع كلام العلماء ويرى أن الكلام ليس له تلك القدسية وتلك الهيبة؟! فما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا كيف تريد التعظيم من الخلق وأنت لم تعظم وتوقر الخالق سبحانه وتعالى، تسمع بشريعته فلا تحرك لك ساكناً وتسمع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فلا تفرح نفسك بها، ولقد مضت سنة الله في العالمين أن من خالف الشريعة ولم يعظم أمرها أن مآله إلى اضمحلال، وأن كثيره يصير قليلاً، وأن قوته تصبح ضعفاً وأن صحته تصبح سقماً، وهكذا عقوبة لهم بما كانوا يكسبون وما تخفيه لهم الآخرة أكبر وأعظم.
نعم هناك عقوبات ينزلها الله على من لم يعظم الشريعة ويوقر السنة.
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تطرقوا النساء ليلاً)) قال: وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً، فانساق رجلان إلى أهليهما، وكلاهما وجد مع امرأته رجلاً. رواه الدارمي.
الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((لا تطرقوا النساء ليلاً)) ، بعد مجيئكم من السفر كأنهم يتخونونهن بذلك، فيدخل عليهن ليلاً، يتخون أهله بذلك، فارتكب هذان الرجلان النهي فدخلا وطرقا أهلهما ليلاً فوجدا معهما رجلين، قال العلماء: "هذا لمخالفتهم السنة".
2- وعن سلمة بن الأكوع: أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال له عليه الصلاة والسلام: ((كل بيمينك)) قال: لا أستطيع قال عليه السلام: ((لا استطعت)) ما منعه إلا الكبر)) قال سلمة: فما رفعها إلى فيه. رواه مسلم (ج2021).
وما أكثر هؤلاء اليوم في مخالفتهم للسنة في الأكل وأنه يجب عليهم أن يأكلوا بأيمانهم لا بشمالهم، فإذا أنكر عليهم، غضب، أيريد ألا ترفع يده إلى فيه مرة أخرى.
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما رجل يتبختر في بُردين، خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)) فقال فتى ـ وهو في حلة ـ لأبي هريرة: يا أبا هريرة!! أهكذا كان يمشي ذلك الفتى الذي خُسف به؟ (يستهزئ بذلك)، فعثر عثرة تكسر منها (في مقامه ذلك). فقال أبو هريرة: وهو يشير إلى فمه: إنا كفيناك المستهزئين.
4- وعن عبد الرحمن بن حرملة: قال: جاء رجلٌ إلى سعيد بن المسيب يودعه بحج أو عمرة، فقال له: لا تبرح حتى تصلي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يخرج بعد النداء من المسجد إلا منافق، إلا رجلٌ أخرجته حاجتة وهو يريد الرجوع إلى المسجد)) فقال الرجل: إن أصحابي بالحرة. قال: فخرج. قال: فلم يزل سعيد بن المسيب يُولع بذكره حتى أخبر أنه وقع من راحلته فانكسرت فخذه. رواه الدارمي. وهذا الرجل لم يكن أصحابه ليفوتوه لو صلى الصلاة الحاضرة.. ولكن خرج وعصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.. فأصابه في حجه ذاك ما أصابه.
5- وسمع بعض المستهزئين حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع..)) فقال هذا المستهزئ لما رأى بعض طلبة العلم والدين وهم يمشون إلى بعض مجالس العلم، قال: ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة لا تكسروها (كالمستهزئ)، فما زال في موضعه حتى جفت رجلاه وسقط. نقل هذه القصة الإمام النووي رحمه الله.
عباد الله، إن العقوبات تتنوع وتتعدد للمخالفين للشريعة وللسنن، فمنها ما تضرب بها قلوبهم من الهموم والغموم والكروب ويكفي لهم أن يُوصد عنهم باب الآخرة، فلا يروا إلا الدنيا، ومن العقوبات ما تفرض على الأبدان والأموال.. جزاءً وفاقاً وما ربك بظلام للعبيد.
(1/2947)
تلك حدود الله
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الحدود, محاسن الشريعة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
17/4/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض الحدود التي شرعها الله عز وجل. 2- أهمية الحدود في تحصيل استقرار المجتمع.
3- أحوال الشعوب التي لا يطبق فيها شرع الله. 4- أهمية استقلالية القضاء. 5- الستر على
أهل المعاصي. 6- المرتدين وموقفهم من حدود الله. 7- إحصائيات عن مستوى انتشار
الجريمة في أمريكا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: قال الله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ فَلاَ ?لا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187]. إن الله سبحانه وتعالى، قرر عقوبات محددة لجرائم معينة في كتابه، وكذلك رسوله في سنته. ليس لأحد من البشر أن يغيّر أو يبدل في هذه العقوبات. لأن التغيير فيها أو تبديلها أو حتى عدم الرضا بها كفرّ أكبر يخرج صاحبه من ملة الإسلام.
فجعل سبحانه وتعالى عقوبة جريمة الزنا، الجلد للبكر، والرجم للثيب ويقول عليه الصلاة والسلام ((خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)).
وجعل جل وتعالى عقوبة جريمة القذف ثمانين جلدة قال الله تعالى: وَ?لَّذِينَ يَرْمُونَ ?لْمُحْصَنَـ?تِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَ?جْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور:4].
وجعل عقوبة جريمة السرقة قطع اليد، قال الله تعالى: وَ?لسَّارِقُ وَ?لسَّارِقَةُ فَ?قْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَـ?لاً مّنَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، وجعل جل وتعالى عقوبة جريمة الفساد في الأرض: القتل، أو الصلب أو النفي أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف قال الله تعالى: إِنَّمَا جَزَاء ?لَّذِينَ يُحَارِبُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَـ?فٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ?لأرْضِ ذ?لِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى ?لدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33]، وجعل عقوبة الردة القتل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه)).
وجعل عقوبة جريمة البغي القتل أيضاً، قال الله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ ?قْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى? ?لأُخْرَى? فَقَـ?تِلُواْ ?لَّتِى تَبْغِى حَتَّى? تَفِىء إِلَى? أَمْرِ ?للَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِ?لْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9]، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه ستكون بعدي هِناتٌ وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان)).
أيها المسلمون، هذه شريعة الله، وهذا دين الله، الذي به يُحفظ أمن الناس، وبه يُحفظ حقوق وأموال وأعراض الناس، وبه يعم الخير، وبتعطيله، تكون الاضطرابات، ويكثر الفوضى، وتنتشر الجريمة، ويقل الخوف من قلوب الناس من رب العالمين. لو أمن الناس العقوبة، لأكل بعضهم بعضاً ولتعدى بعضهم على بعض.
الآن، والحدود تطبق ولو بنسبة في بلاد الإسلام، مع وجود الحدود الشريعة، لا يَمُر يوم إلا وتسمع بجريمة، أو اغتصاب أو قتل، أو سرقة بيوت أو سيارات، ونحو ذلك، فكيف يكون الحال، لو عطلت عقوبات الشريعة، كيف يكون حال المجتمع لو عطلت شريعة الله من إحقاقها في رقاب الناس. الحال يكون، كما تسمعون وتقرئون، لا أقول ما يحصل في الدول الكافرة البعيدة، ولكن ما نسمع من أحوال كثير من الدول ممن هم حولنا، وقريبون منا.
أيها المسلمون، عباد الله، إن عقوبة الزنا، عقوبة قصد بها الزجر والردع والإرهاب، ذلك لأن جريمة الزنا من أفحش الجرائم وأبشعها، وإن الزنا يعتبر عدواناً على الخلق والشرف والكرامة، الزنا مقوض لنظام الأسر والبيوت. ومُرَوِّج لكثير من الشرور والمفاسد التي تقضي على مقومات الأفراد والجماعات وتذهب بكيان الأمة.
تخيل لو حصل تساهل في مجتمع ما في تطبيق شريعة الله في الزناة، إلى أي درجة سيصل هذا المجتمع؟ سوف يصل إلى درجة أن تفتح بيوت رسمية للدعارة، محمية بقوة القانون كما هو موجود في دول شعوبها مسلمة، وهي تدعي الإسلام. هل يريد المسلمون أن تُعطل شريعة الله، حتى يصل الحال إلى هذا الحد في كل بلاد الإسلام ويمارس الرذيلة على الأرصفة في الشوارع وأمام أعين الناس وعلى مرأى منهم. اعلموا أيها الإخوة، بأن تعطيل حدود الله، سوف يوصل المجتمع إلى هذا الحد وأسوأ من ذلك.
أما عقوبة السرقة فهي قطع اليد بنص كلام ربنا وَ?لسَّارِقُ وَ?لسَّارِقَةُ فَ?قْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا. لأن السرقة فيها اعتداء على أموال الناس وعبث بها، والأموال كما تعلمون هي أحب الأشياء إلى النفوس، فقرر الشارع الحكيم هذه العقوبة لجريمة السرقة حتى يكف غيره عن اقترافها، فيأمن كل فرد على ماله ويطمئن على أحب الأشياء لديه وأعزها على نفسه. وقد ظهر أثر الأخذ بهذا التشريع في المجتمع المسلم عندما كان يطبق هذا الحد على فاعله. فكان الأمن مستتباً وأموال الناس مصانة.
لقد اضطرت بعض الدول الكافرة ـ أيها الأخوة ـ أخيراً إلى تشديد عقوبة السرقة في أنظمتها بعد أن تبين لهم بأن عقوبة السجن لم تعد تجدي، ولم يخفف من كثرة ارتكاب هذه الجريمة، حتى سنت بعض الدول إعدام السارق رمياً بالرصاص، وهي أقسى عقوبة ممكنة عندهم. لأن السارق يحسب للعملية، ويعتبرها معادلة رياضية يقول أنا أقدم على هذه العملية وأسطو على هذا البنك أو المنزل أو المتجر وأحصل على مبلغ كذا، وهذه لا تمنع من دخول سنة أو سنتين إلى السجن ثم أخرج وأتمتع بهذا المال، لكن لو كان يعلم بأن يده سوف تقطع، لتغيرت لديه المعادلة.
إن إقامة حدود الله فيها نفع للناس، لأنها تمنع الجرائم وتردع الظلمة وتكف من تحدثه نفسه بانتهاك الحرمات وتحقق الأمن لكل فرد على نفسه وعرضه وماله وسمعته وحريته وكرامته.
إن كل عمل من شأنه أن يعطل إقامة الحدود فهو تعطيل لأحكام الله ومحاربة له لأن ذلك من شأنه إقرار المنكر وإشاعة الشر.
إنه يحرم أن يشفع أحدٌ أو يعمل على تعطيل حدٍّ من حدود الله، لأن في ذلك تفويتاً لمصلحة محققة، وإغراء بارتكاب الجنايات ورضاً بإفلات المجرم من تَبِعات جُرمه.
إنه لا يجوز أن يصل الأمر للقاضي، ثم يأتي من يريد أن يشفع في القضية، لأن هذا يصرف القاضي عن وظيفته الأولى ويفتح الباب لتعطيل الحدود. كم من الظلم يحصل بسبب تدخل بعض الجهات في وظائف القضاة. روى الإمام أحمد وأهل السنن من حديث صفوان بن أمية أن النبي قال لما أراد أن يقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه فقال: ((هلا كان قبل أن تأتيني به)). وعن عائشة قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي بقطع يدها: فأتى أهلُها أسامة بن زيد فكلموه. فكلم النبي فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أسامة لا أراك تشفع في حدٍ من حدود الله عز وجل)) ثم قام النبي خطيباً فقال: ((إنما هلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها)) فقطع يد المخزومية. رواه أحمد ومسلم.
أيها المسلمون، إن شمول دين الله جل وعلا، وكماله وعدالته. أنه يأمر بالستر على العصاة والمجرمين أحياناً، والإسلام لا يقيم الحدود إلا إذا ثبتت وظهر أمرها واستفحل خطرها، لكن ما دام في القضية شبهة، فإن الحدود تُدرأ بالشبهات وما دام الأمر لم يصل للسلطان أو القاضي، فإن الستر والتوبة ممكنة.
وقد يكون ستر العصاة علاجاً ناجعاً للذين تورطوا في الجرائم واقترفوا المآثم، وقد ينهضون بعد ارتكابها فيتوبون توبة نصوحاً، ويستأنفون حياة نظيفة. لهذا شرع الإسلام الستر على المتورطين في الآثام وعدم التعجيل بكشف أمرهم. عن سعيد بن المسيب قال: بلغني أن رسول الله قال لرجل من أسلم يقال له هَزَّال، وقد جاء يشكو رجلاً بالزنا، وذلك قبل أن ينزل قوله تعالى: وَ?لَّذِينَ يَرْمُونَ ?لْمُحْصَنَـ?تِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَ?جْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، قال: ((يا هزّال، لو سترته بردائك كان خيراً لك)). وروى ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه كشف الله عورته حتى يفضحه في بيته)) كذلك على المسلم أن يستر نفسه ولا يفضحها وأن يرجع ويتوب إلى الله، فإن في هذا خيرٌ له، روى الإمام مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم أن رسول الله قال: ((يا أيها الناس، قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله. من أصاب شيئاً من هذه القاذورة فليستتر بستر الله، فإنه من يُبْدِ لنا صفحته نُقم عليه كتاب الله)).
أيها الأحبة في الله، إن الحدود إذا أقيمت كانت مكفرة لصاحبها، فهي إضافة إلى أنها إقامة لشريعة الله، وحفظاً للمجتمع، فإن من فوائدها على الفرد المجرم نفسه، أنها تسقط عنه عقوبة الآخرة، وهذا لا شك أنها في مصلحته لأن عقوبة الآخرة، لا تقاس بعقوبة الدنيا. روى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت قال: كنا مع رسول الله في مجلس فقال: ((تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه)).
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: يوجد فئة من الناس ينظر إلى حدود الله جل وعلا نظرة غير صحيحة، فهذا البعض من الناس ينظر إلى العقوبة ولا ينظر إلى الجاني. فعندما يتأمل في العقوبة التي سوف توقع على الجاني، يراها قاسية شديدة، فيرق قلبه له، ويعطف عليه، ويقول: ينبغي أن لا ننظر إليه كونه مجرماً يستحق العقاب ولكن ينظر إليه كونه مريضاً يستحق الرحمة والعلاج، وهذا في الحقيقة قصور في النظر، وربما يؤدي هذا التفكير إلى القناعة في المستقبل بأن الأحكام والحدود لا تصلح أن تطبق ثم يتطور فيه الأمر، بأن زماننا هذا زمن حضارة وتطور ومدنية وأن قطع اليد والجلد أمام الناس، هذه مناظر مزعجة، وفيها جناية على الإنسانية وقد ذهب وقتها، وهذه كانت تفعل في عصور متأخرة، أما الآن وقد فهم الناس وتعلم الناس، فإن تطبيق هذه الحدود تنافي وتعارض المدنية الحديثة، ولاشك بأن من يعتقد مثل هذا الكلام، فإنه على خطر عظيم، وهذا الكلام يخرج صاحبه من الملة لأنه يعد معترضاً على أحكام رب العالمين، بل إن القسوة والشدة والعقوبة على هؤلاء المجرمين من زناة وسرّاق وبغاة ومتعاطين للمسكر ونحوهم، إن الشدة على هذا الصنف من الناس هي الرحمة، رحمة بهم كأفراد، ورحمة بالمجتمع. وصدق الشاعر في قوله:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقسُ أحياناً على من يرحم
إن هذا الذي سرق، لماذا سرق، أليس رغبة منه في مزيد من المال والكسب ومزيد في الثراء ليزداد قدرة على الإنفاق والظهور بمظهر الأثرياء والوجهاء، أليست هذه هي العوامل النفسية التي تدفع إلى ارتكاب الجريمة.
لذا كان حكم الشرع القطع لهذا النوع من الناس، وذلك بنقيض قصده، فتقل قدرته على الإنفاق وتنعدم فرصة ظهوره بمظهر الوجهاء والأثرياء.
وهذا الذي ارتكب جريمة الزنا، أليس هو طلب المتعة وقضاء الوطر بهذا الطريق الحرام. فماذا فعلت الشريعة في عقوبتها، لقد قابلت ذلك بالعوامل النفسية التي تدفع عنها بما أوجبته من عقوبة غليظة تصيب بدنه كله، كما عمت المتعة الحرام بدنه كله. فواجهت متعة الجسد التي يحرص الزناة على تحقيقها. بالجلد الذي يغشى الجسد كله ليرتدع فيسلم له جسده، وتسلم له نفسه، وتسلم للآخرين أعراضهم وكرامتهم.
أيها الأحبة في الله: إن الله جل وعلا هو الذي خلقنا وهو الذي أوجدنا، وهو أعلم بشؤوننا وما يصلح لنا وما لا يصلح، الله جل وعلا عندما يُشرِّع لعباده، فإنه سبحانه يشرع ما يكون رحمة لهم. وإن كان في أنظارنا القاصرة قسوة وشدة، الله جل وعلا لم يخلقنا ويوجدنا ليعذبنا، ولكن خلقنا سبحانه لنعبده، ونتقيد بأحكامه رحمة بنا.
إن الرحمة التي ينشدها الإسلام هي الرحمة العامة التي تتسع لعموم الناس ومن بينهم المجرمين، وليست الرحمة التي تنحصر بالمجرمين ويتضرر منها سائر الناس.
إن العقوبة أيها الأخوة عندما تكون لينة هشة فإنها تغري بارتكاب الجرائم في الدماء والأموال والأعراض، فتكون شقاء على العامة، وسبباً لإهدار حرمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم لحساب القتلة والسُرَّاق والزناة، ولكن عندما تكون العقوبة أليمة موجعة، فإنها تكون رحمة للجميع، رحمة بمريدي الإجرام لأنها تزجرهم عن ارتكاب الجرائم ابتداءً، فتسلم لهم أنفسهم من العقاب. ورحمة بعموم المجتمع بصيانة دمائه وأمواله وأعراضه من أن يُعتدى عليها بغير حق.
أيها المسلمون، إن الناس يدركون لغة الأرقام ويستوعبون ويقدرون حجم الكلام بالأرقام أكثر من الكلام العام، وإليكم أيها الأحبة هذه الإحصائية وبالأرقام عن معدل الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية.
هذه الدولة التي تنادي بحقوق الإنسان، وتعترض على الدول التي يطبق فيها شرع الله على المجرمين، بأن هذا قسوة، وظلم للإنسانية تقول الإحصائية وهي منشورة. عند وكالة التحقيق الفدرالية والتي تسمى (إف بي آي) بأن الجرائم في أمريكا جريمة كل 3 ثوان، ويشير التقرير إلى أن جريمة قتل ترتكب كل 27 دقيقة، وجريمة اغتصاب كل 7 دقائق. وجريمة سرقة كل 63 ثانية، وسرقة سيارة كل 31 ثانية، وسطو على منزل كل 10 ثوان وسرقة أمتعة صغيرة كل 5 ثوان. والإحصائية منشورة في جريدة الشرق الأوسط.
فأين أنظمتهم وأين جبروتهم وقوتهم، وأين ضبط الأمن عندهم. إنه لا نظام ولا أمن ولا قوة، إلا في تحكيم شرع الله، وأي تهاون أو تساهل في تطبيق الحدود فإنه يؤدي إلى مثل هذه الإحصائية وأشد من هذا، إنه ليس بين الله جل وعلا وبين أحدٍ نسب، إنها سنن، وإنه دين، من أخذه فاز في الدنيا والآخرة، ومن أعرض عنه، أو قصر في تطبيقه، أو تهاون في بعضه، فإنها مطارق السنن الإلهية ولا محالة. وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124].
فنسأله جل وعلا أن يرحمنا برحمته، وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
اللهم آمنا في أوطاننا...
(1/2948)
جهود أعضاء الهيئات
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
19/6/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بالمعروف صفة المؤمنين. 2- أثر هذه العبادة في صلاح الأمة وعزها. 3- أثر فشو المنكرات في موت القلب. 4- إنكار المنكر واجب عيني على كل مسلم. 5- أهمية الهيئات التي تقوم بواجب الحسبة والتحذير من تنقصهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن الصراع بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين المعروف والمنكر، صراع قائم ومستمر، مادام أن الشيطان موجود، يزين الباطل والشر والمنكر، ويقبح الحق والخير والمعروف لأتباعه والمستجيبين له.
إن للحق والخير والمعروف رجالاً ودعاةً وأنصاراً يدعون إليه، ويرغبون فيه، ويأمرون به، ويصبرون عليه، ويتحملون في سبيل ذلك كل ما ينالهم ويصيبهم كما أن لهم في المقابل أعداءً، يكرهون الحق الذي معهم ويقاومونه، ويدعون إلى الباطل، ويحسنون الشر، ويفعلونه.
أيها المسلمون، لقد وصف الله تعالى المؤمنين بأنهم: يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَيُطِيعُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ?للَّهُ إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].
بينما وصف جل وتعالى الصنف الآخر، من أهل النفاق ومن في قلوبهم مرض بأنهم يَأْمُرُونَ بِ?لْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ ?للَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ هُمُ الْفَـ?سِقُونَ [التوبة:67].
ولكن شتان بين هؤلاء وأولئك، فالمؤمنون الصالحون الآمرون بالمعروف، وليهم الله، ومن يعاديهم من المنافقين وأذنابهم وليهم الشيطان ?للَّهُ وَلِيُّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ ?لطَّـ?غُوتُ يُخْرِجُونَهُم مّنَ ?لنُّورِ إِلَى ?لظُّلُمَـ?تِ [البقرة:257].
والنهاية مهما طال الطريق، وادلهم الليل، وكثرت العقبات، سيكون بإذن الله لأصحاب الحق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر قال الله تعالى: وَمَن يَتَوَلَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ?للَّهِ هُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [المائدة:56].
قال سفيان رحمه الله: إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر أخيك، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق.
أيها المسلمون: لقد جعل الله تعالى تكريم هذه الأمة، وفلاحها واستقرارها وعزها مقروناً بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما جعل عز وجل سفول هذه الأمة واضطرابها وشفاءها وذلها، بمحاربة الدعوة، والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف. قال الله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، قال القرطبي رحمه الله: في هذه الآية مدْح لهذه الأمة، ما أقاموا ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا التغيير وتواطؤوا على المنكر، زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سبباً لهلاكهم.
أيها المسلمون، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله هو حصن الإسلام الحصين، والدرع الواقي من الشرور والفتن، والسياج المانع من المعاصي والمحن، يحمي أهل الإسلام من نزوات الشياطين ودعوات العلمانيين، وتربص الماكرين المجرمين ويُحفظ به حرمات المسلمين.
إن فشو المنكرات وعدم تغييرها، والسكوت عنها، يؤدي إلى سلب نور القلب وانطفاء جذوة الإيمان، وموت الغيرة على حرمات الله، فتسود الفوضى، وتستفحل الجريمة، ويخرج فئران الشهوانيين، يلعبون في شوارع مجتمعات المسلمين، ثم يحيق بالقوم مكر الله، حتى إن كثرة رؤية المنكرات يقوم مقام ارتكابها في سلب القلب نور التمييز، وقوة الإنكار، لأن المنكرات إذا كثر على القلب ورودها، وتكرر في العين شهودها، ذهبت من القلوب وحشتها، فتعتادها النفوس فلا يخطر على البال أنها منكرات، ولا يميز الفكر أنها معاصي. وهذا حال الناس اليوم، إلا من رحم ربي، وقليل ما هم.
إن الخوف كل الخوف من تأنيس القلوب بالمنكرات لأنها إذا توالت مباشرتها ومشاهدتها، أنست بها النفوس، والنفوس إذا أنست شيئاً قلَّ أن تتأثر به.
إن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يسبب ظهور الفسق والفجور، وفشو الفساد والدعارة، مما يؤدي إلى خراب البلاد وهلاك العباد، وحينئذٍ يحل عذاب الله، وإن عذاب الله شديد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا فلا يغيروا، يوشك أن يعمهم الله بعقاب)) رواه أبو داود.
فيا أيها الناس، مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعو فلا يستجاب لكم وتستغفروا فلا يغفر لكم.
إن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يدفع رزقاً، ولا يقرب أجلاً، وإن الأحبار من اليهود والنصارى لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لعنهم الله على لسان أنبيائهم ثم عموا بالبلاء.
إذاً يجب على كل فرد منا امتثال قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) رواه مسلم.
إن إنكار القلب واجب على كل أحد من المسلمين، فمن لم يكن منكراً بقلبه، كان ذلك دليلاً على ذهاب الإيمان منه، بل وكان هذا دليلاً على أن صاحبه يحب التمتع بالشهوات، ولا يرغب في طاعة الله تعالى. من كان لا ينكر المنكرات بقلبه ولا ينزعج منها، ولا يؤلمه هذا الواقع المر في تدني الأخلاق، وشيوع الميوعة والخلاعة في أغلب الأوساط، من كان كذلك فهو في الحقيقة في عداد أموات الأحياء.
قيل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: من ميت الأحياء؟ قال: الذي لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً.
وأظن أن وسائل الإعلام في هذا الوقت قد أتت على البقية الباقية من ذلك الإيمان الضعيف أصلاً، فجاء شر الختام وهي هذه القنوات الفضائية، فأحرقت القلوب تماماً، وحل محل ذلك الإيمان الخفيف حب ما يبث فيها، والاستمتاع بمشاهدة المناظر المعروضة من خلالها. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ?لسَّيّئَةِ ?لْحَسَنَةَ حَتَّى? عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا ?لضَّرَّاء وَ?لسَّرَّاء فَأَخَذْنَـ?هُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـ?تاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ?للَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ?لارْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَـ?هُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى? قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ تِلْكَ ?لْقُرَى? نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِ?لْبَيّنَـ?تِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ ?للَّهُ عَلَى? قُلُوبِ ?لْكَـ?فِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَـ?سِقِينَ [الأعراف:94-102].
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب، واتباع سنة النبي المجاب، واقتفاء أثر الآل والأصحاب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم كثيراً.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لدفع البلاء عن القرى وأهلها قال الله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ?لْقُرَى? بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
أيها المسلمون، إن أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذين يمارسون العمل الميداني، هم في قمة هرم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر فهم من خير الناس وأفضلهم، وهم ممن يرجى لهم الفلاح، حيث إنهم يسعون للصلاح والإصلاح، إنهم هم الذين يقفون في وجه تيار الفساد ليصدوه عن العباد والبلاد، وهم الذين يسهرون لحماية الأعراض، ويجتهدون في التقليل من الأمراض، وهم الذين يوجهون الناس إلى الخير، ويحولون بينهم وبين فعل الشر وهم الذين يمضون في المجاهدة جُلَّ أوقاتهم على قلة مرتباتهم، ولكنهم لا يرجون من الناس جزاء ولا شكوراً، وإنما يرجون من ربهم عفواً ورحمةً وأجراً عظيماً. فما أحسن أثرهم على الناس، وما أسوأ أثر الناس عليهم.
فيا عباد الله، احذروا من التحدث في شأنهم بمجالسكم، من حيث تنقصهم وغيبتهم والسخرية بهم، والعتب عليهم، كأن يقول القائل، إنهم يتدخلون فيما لا يعنيهم ،وآخر يقول :إنهم يستعجلون، عجباً والله من هذه التهم الباطلة، إذ كان منع وقوع المنكر لا يعنيهم فما الذي يعنيهم، فإذا كاد أن يقع منكراً ما وقاموا بضبطه أو الحيلولة دون وقوعه، إذا كان هذا استعجالاً، وإذا كان هذا لا يعنيهم، فماذا يعني غير الاستعجال أهو إذا وقعت الفاحشة، وفرغ منها، أو ارتكبت الجريمة وتفرق أصحابها، يُبحث عنهم!
أيها المؤمنون، ساعدوا أعضاء الهيئات بكل ما تستطيعون، وكونوا معهم، لا عليهم، أعينوهم على البر والتقوى وواسوهم في المصيبة والبلوى، فإنهم يتعرضون لما لا نتعرض له، ادعوا لهم في السر والعلانية، فجزى الله أعضاء الهيئات كل خير، وبيض الله وجوههم، وأعانهم، وسدد خطاهم.
أولئك الذين يسهرون، ونحن نائمون في فرشنا، ويعملون ونحن منشغلون بدنيانا، ويجاهدون للحفاظ على محارمنا وأعراضنا، ونحن لا نعلم، يصدُون الباطل، ويقاومون الفساد، ويمنعون وقوع المنكرات، فكم من جريمة ضبطوها، وكم من مصانع للخمور أزالوها، وكم من شقق للدعارة داهموا أربابها فأغلقوها، كم من منحرف اهتدى على أيديهم، وكم من عاصٍ ستروه بعد معصيته، كم من فتاةٍ أنقذوها من أيدي ذئاب البشر، وكم من طفل أرجعوه إلى والديه من عبث المجرمين به.
لهم جهود لا تُنكر وبذل وعطاءٌ ـ مع كل أسف ـ لا يُشكر في المجمعات التجارية، والشواطئ، والأسواق، وأماكن الترفيه، والحدائق العامة، في ملاحقة الساقطين والساقطات، وإبطال حيل المغازلين والمغازلات، وكل من يرتاد إلى هذه الأماكن ليصطاد في الماء العكر.
ومع كل ما يبذلون، ويقدمون، تجد من يطعن فيهم، ويتكلم عنهم، ويشهر بهم، وينقب عن أخطائهم، ولو حصل أن أخطأ أحدهم في تصرف أو سلوك أو حصل منه شيء وهم بشر يعتريهم ما يعتري سائر الناس، يصيبون ويخطئون يُزيدون وينقصون، ينشطون ويكسلون، فلو حصل من أحدهم هفوة، لأصبح حديث المجالس، وسبحان الله وكأنه لا يقع في الأخطاء إلا رجال الهيئات، إنهم أيها الأحبة، يتعرضون لما لا نتعرض له، فقد يؤذى أحدهم، وقد يضرب، وقد يعتدى عليه وبل وقد يقتل وهو يؤدي مهمة رسمية، بل مهمة ربانية شرعية. فنسأل الله تعالى أن يعين ويوفق الأحياء منهم وأن يتغمد برحمته الأموات.
ما سمعنا من يعدد وينقب عن أخطاء رجال المطافي مثلاً أو المرور، أو رجال الشرطة، أو غيرهم ممن يقدمون خدمات عامة للمجتمع. وهل يعقل أن كل هؤلاء لا يخطئون، ولا يقصرون، ولا يرتكبون، ودائماً معصومون. هذا لا يمكن أبداً، ولا يصدقه عاقل. لكن هناك من الشهوانيين، وممن يحملون أفكاراً منحرفة، ويسعون للإباحية، لا شك بأن الذين يفضحهم ويقف في طريق تحقيق مرادهم هم رجال الهيئة، لذا تسمع الطعن فيهم ولا تسمع في غيرهم.
فما أحوجهم إلى مناصرتنا وتأييدنا ودعائنا.
(1/2949)
حال الأمة وبداية عام هجري جديد
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
10/1/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النكبات والأزمات تلاحق الأمة الإسلامية. 2- نماذج لأزمات تجاوزتها أمة الإسلام (الردة
- مقتل عثمان – الحروب الصليبية وحرب التتار – ضياع الأندلس). 3- مقومات حفظت المسلمين في تلك النكبات. 4- دور الإعلام والغزو الفكري في هزيمة الأمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة:126]. دخلت أمة الإسلام عامها الثامن عشر في بدايات قرنها الخامس عشر الهجري. وها نحن نعيش هذه الأيام أوائل عام هجري جديد، ومع كل أسف، فإن الذي يُقطع قلب كل مؤمن حيّ غيور على أمته، أن العالم الإسلامي، يعيش اليوم مرحلة من عمره، تعد من أسوأ المراحل التي مرت عليه.
لقد مرت الأمة في تاريخها الطويل من قبل بأزمات كثيرة، بل نكبات كثيرة، كان المسلمون يفقدون فيها تمكنهم في الأرض أحياناً، وأحايين كثيرة، كانوا يفقدون أمنهم وطمأنينتهم، وأحياناً كانوا يفقدون ديارهم وأموالهم، وهكذا الفتن والمصائب والنكبات إذا نزلت بالأمم.
لكن الأمة الإسلامية أيها الأحبة، مع ما سبق ذكره، لم تمر بتجربة أقسى، ولا وضع مؤلم، ولا واقع مشين، كتجربتها ووضعها وواقعها الحالي، فإنا لله وإنا إليها راجعون.
إليكم أيها المسلمون، نماذج وأمثلة، من نكبات وأزمات مرت بأمة الإسلام، ثم كيف اجتازتها وخرجت منها، لنصل إلى أزمتنا الحالية والله المستعان، وما السبب في بقاء الأمة هذه الفترة الطويلة من الزمن، دون مخرج.
أزمة الردة: أزمة حادة ولاشك، دولة الإسلام كانت دولة ناشئة، طرية، وكان أمامها عقبات كثيرة، يُطلب منها أن تجتازها فتأتي قبائل بأكملها كانت قد دخلت في الإسلام، وكان يؤمل عليها أشياء وأشياء، فإذا بالخبر أنها قد ارتدت عن الدين، ورجعت كافرة مشركة، أزمة مرت بالمسلمين، لكن منذ بدايتها وفي أول لحظة منها لم يخالج الصحابة أدنى شك في أن النصر سيكون للدولة المسلمة لماذا؟ ما هو السبب؟السبب هو أن صلتهم بربهم، وإخلاصهم لدينه، وصدقهم مع الله، كان أضعاف أضعاف إيمان المرتدين بباطلهم المزين الذي يقاتلون من ورائه. وما كان من جزع الصحابة رضي الله عنهم ومشورتهم على أبي بكر رضي الله عنه بالتريث في قتالهم، لم يكن ذلك لشك في نفوسهم أن الله سينصر دينه، إنما كانت مشورتهم من أجل إتاحة الفرصة لتجميع الجيش الكافي للمعركة، ولكن إيمان أبي بكر الراسخ، وثقته العميقة بوعد الله بالتمكين لهذا الدين في الأرض، وحساسيته المرهفة أن يترك الخارجين على أمر الله، دون أن يسارع في توقيع العقوبة التي أمر الله بإنزالها بهم، كل ذلك قد فعل فعله في نفوس الصحابة رضوان الله عليهم فوقفوا صفاً واحداً خلف أبي بكر، ونصر الله دينه كما وعد، ومرت الأزمة بشكل طبيعي.
تأتي أزمة ثانية: فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه. خليفة المسلمين، أمير المؤمنين، الحاكم نفسه يقتل في بيته، وعلى مرأى ومسمع من الناس، والصحابة حضور شهود للحادثة.
إنها أزمة حادة ولا شك ابتلى بها المسلمون والدولة ما تزال في نشأتها، وعداوات الأرض قائمة من حولها.لكن الناظر، يرى أن هذه الأزمة أيضاً مرت، ولم يحصل شرخ في الدولة السبب؟ السبب هو أن الخلاف الذي حصل بين المسلمين، كان خلافاً على من يتولى الأمر لُيمكن للإسلام في الأرض، ولم يكن خلافاً على الإسلام ذاته، انتبه، لم يكن خلافهم على الإسلام ذاته هل يصلح أن يكون قاعدة حياتهم، هل نحكم به أو لا نحكم، هل نأخذه كله أو بعضه، هذه القضايا كانت محسومة عندهم، ولهذا عندما تأتي أزمة كهذه، قتل ولي أمر المسلمين، لا يمكن أن يسبب ذلك سقوطاً للدولة، أو شرخاً في نظام الحكم، فيُعالج الأمر، فتعود المياه إلى مجاريها، لأنه ما تزال نفوسهم مشبعة بالإيمان، وقناعتهم بالإسلام بأنه منهج حياة.
مثال ثالث: أزمة الحروب الصليبية وحروب التتار، التي عصفت بالأمة، وقتاً من الزمن، أزمة حادة، وبدا أنها يمكن أن تطيح بالكيان الإسلامي كله، وتجتث المسلمين من الأرض، لكن ماذا كانت النتيجة؟كانت النتيجة الواقعية غير ذلك، وجاء النصر من عند الله في النهاية. أما البداية فقد هزم المسلمون، أمام أعدائهم الصليبين، لأن واقعهم كان واقعاً سيئاً، مليئاً بالمعاصي والبدع والخرافات والانحرافات والشتات والفرقة، والانشغال بالدنيا عن نصرة دين الله والتمكين له في الأرض لذلك اجتاحت جيوش الأعداء أرض المسلمين وأزالت سلطانهم إلى حين.لكن في النهاية جاء نصر الله عز وجل.لماذا؟لأن جذوة العقيدة، كانت ما تزال حية في النفوس، وإن غشيتها غاشية من التواكل والسلبية أو الانشغال بشهوات الأرض، فما أن تحرك العلماء، وجاء القادة المخلصون الذين يردون الناس إلى الجادة بدعوتهم، للرجوع إلى حقيقة الإسلام، حتى صحت الجذوة واشتعلت.
قام صلاح الدين الأيوبي، يقول للناس: لقد هزمتم لبعدكم عن طريق الله، ولن تُنصروا حتى تعودوا إلى الطريق، وقام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يدعو لتصحيح العقيدة، مما طرأ عليها من غبش المتكلمين وضلالاتهم، ومن تحريف الفرق وتأويلاتهم، وصاح قطز صيحته الشهيرة: وا إسلاماه. وتبعتهم جماهير الأمة المسلمة، فصدقت الله في عقيدتها وسلوكها وأخلاقها، فجاء نصر الله جل وتعالى، وتغلب المسلمون، على أضعافهم من المشركين والكفار قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، وأولئك غيروا ما بأنفسهم فغير الله حالهم من هزيمة وذلة، إلى نصر وعزة، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
مثال رابع: نكبة الأندلس، أقام المسلمون، دولة في أرض الأندلس، بهرت الشرق والغرب، حيّرت القريب والبعيد في منجزاتها وحضارتها وإدارتها. لكن ما هي إلا سنوات، وتسقط هذه الدولة، عقاباً ربانيا من الله للمسلمين، على تفرقهم في نهاية الأمر، وتشتتهم، وحرب بعضهم لبعض، بل وتعاونهم مع أعدائهم من الصليبيين ضد بعضهم البعض.واتخاذ أولئك الأعداء الكفار، بطانة من دون المؤمنين، مخالفة لأمر الله، وهم لا يألونهم خبالاً، بالإضافة إلى الفتنة بشهوات الأرض، المباح منها وغير المباح.
ومن عقوبة الله جل وتعالى، أن الأندلس لم تعد إلى حظيرة الإسلام، وخرج المسلمون من الأندلس وقتل منهم من قتل، وسبي من سبي، لكن كل هذه النكبة هل قضت على المسلمين، الجواب لا. فإن طاقة الأمة في مجموعها لم تكن قد استنفدت، ففي ذات الوقت الذي انحسر فيه ظل الإسلام عن الأندلس، كانت هناك دولة فتية قوية شابة في سبيلها إلى التمكن في الأرض، وهي الدولة العثمانية، وفعلاً استطاع المسلمون الأتراك أن يقيموا دولة إسلامية تحفظ كيان المسلمين أربعة قرون كاملة. 400 سنة، أرعبت دول الغرب في ذلك الوقت وأحيت فريضة الجهاد في سبيل الله، وامتدت داخل العالم الصليبي حتى وصلت "فينّا" ودخل في الإسلام على يديها ملايين من البشر في أوربا وآسيا على السواء.
أيها المسلمون، إن ما ذكرت مجرد أمثلة سريعة من بعض مصائب ونكبات الأمة على مر تاريخها الطويل، وكيف أنها اجتازت كل العقبات والمعوقات.
نأتي للفترة الحالية التي تمر بها الأمة، هذه الأزمة التي يعانيها المسلمون هي أقسى وأشد من جميع الأزمات السابقة، من جهة، ومن جهة أخرى طالت عن سابقاتها وصار الناظر يرى أن الفجر بعيد.
عندما وقعت الحروب بين المسلمين والصليبيين، والتي استمرت حوالي 200 عام وجاء بعدها غارات التتار على ديار المسلمين، ومع ما كان فيه المسلمون من بدع وخرافات ومعاصي، لكن الإسلام ذاته لم يكن في نفوسهم موضع نقاش، لا بوصفه عقيدة، ولا بكونه نظام حكم، وحتى حين كانوا يهزمون أمام الصليبيين وأمام التتار، ومع ما كان يُنزل بهم أعداؤهم من القتل والقهر والخسف، لم يكن صدى الهزيمة في نفوسهم هو الشك في الإسلام، بل كانوا يعتقدون بأن ما أصابهم ما هو إلا لبعدهم عن الدين. كانت تنزل بهم الهزائم والنكبات لكن لم يكونوا يتطلعون إلى ما عند أعدائهم من عقائد أو أفكار أو نظم أو أنماط سلوك. بل كانوا يشعرون حتى وهم مهزومون بازدراء شديد لأعداؤهم، كان التتار في حسهم همجاً لا دين لهم ولا حضارة، كان الصليبيون في نظرهم هم الكفار المشركون عباد الصليب، كانوا يرونهم منحلي الأخلاق لا غيرة لهم على عرض.
لذلك لم يهنوا ـ حتى وهم مهزومون أمام أعدائهم فترة غير قصيرة ـ ولم يشعروا أنهم أدنى من أعدائهم. بل كان يتمثل فيهم قول الله تبارك وتعالى: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
وكانوا مؤمنين.
نسأل الله جل وتعالى إيماناً في قلوبنا، وعملاً صالحاً لآخرتنا، وأن يهيئ لهذه الأمة من أمرها رشداً، وأن يعجل فرجها إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن واقع المسلمين في أزمتهم الحالية ونكباتهم المعاصرة كما قلنا أشد من كل سابقاتها، لأن الدين نفسه قد تزعزع في نفوسهم، هذا هو السبب، تخلخلت العقيدة في القلوب فأصبح الشك في صلاحية الإسلام، وحصل الانبهار بحضارة الغرب، وصار الإعجاب بإنجازات الكافر، وفتح باب الاستيراد من الغرب على مصراعيه، يستورد السيارات والأجهزة والأدوات والأثاث، ويستورد معه الأخلاق والسلوك والأفكار بل والعقائد، ونظم الحكم والتشريع، فأصبح هناك مسافات بعيدة جداً بين الإسلام الصحيح وبين واقع المسلمين، عبادات الناس تغيرت، أخلاقهم تغيرت سلوكهم تغيرت، بل دينهم تغير والعياذ بالله، خلت حياة الناس من الروح، وأصبحت الحياة كلها تقاليد موروثة، يحافظ عليها من أجل أنها تقاليد، لا من أجل أنه دين، فالعبادة تقاليد، والسلوك تقاليد، وحجاب المرأة، الذي صار كل يوم يتقلص تقاليد، وقضية العرض في بعض المجتمعات أيضاً صار تقاليد.
لقد عرف العدو في هذه المرة كيف يغزو العالم الإسلامي، لم يستخدم في هذه المرة دبابات ولا قاذفات قارات، استخدم ما يسمى بالغزو الفكري، ترك الغزو الفضائي والغزو البري، وأحكم قبضته على العالم الإسلامي بالغزو الفكري، وهو أن يسلط على المسلمين فكره وخلقه وسلوكه.
الغزو الفكري يود أن يقنع مجتمعات المسلمين بكل ما لديه، الغزو الفكري يريد أن يجعلك تنظر للغرب بأنه هو الأعلى وهو الأكمل وما عنده هو الأحسن، وتشعر في قرارة نفسك بالذلة والمهانة، فإذا حصل، وقد حصل كل هذا وأكثر مع كل أسف، فماذا حصل هذا؟ سلّم المسلمون ديارهم وأموالهم للغرب، يلعبون فيه كيفما شاؤوا، ويأخذون ما شاؤوا دون حسيب ولا رقيب وصار خيرات هذه الأمة تستنزف، لتصب في جيوب وبطون أعداء الأمة.
وهل توصل الغرب إلى ما توصل إليه، في يوم وليلة، بالتأكيد لا، لكن الأهم من هذا معرفة بعض طرقه التي استخدمها للتوصل لمراده.من هذه الطرق والوسائل أنه سلط على العالم الإسلامي إعلاماً متكاملاً مقروءاً ومسموعاً ومشاهداً، وكله يصب في قناة واحدة، فقل فكر وخلق وسلوك الغرب، وبإظهاره بمظهر الأفضل، وانتقاد كل ما له تعلق بالدين من جهة أخرى، مرة عبر مقالة لمن يهوى القراءة، ومرة عبر أغنية لمن يهوى الاستماع، ومرة بل ومرات عبر تمثيليات ومسرحيات ساقطة كله يقوم على العشق والحب والغرام، يهدم أخلاق وقيم الإسلام في نفوس الناشئة الذين يتلقون هذا السيل الجارف، ومع كل ما خرّب وهدم ودمر الغرب في ديار المسلمين لم يقتنع بعد، وصار بعد كل فترة يخرج لنا بجديد لإيصال نتنه وزبالة خلقه لمجتمعات المسلمين، فخرج علينا في السنوات الأخيرة، بهذه الدشوش التي وضعها عدد غير قليل من المسلمين فوق بيوتهم، وما بقي إلا أن يضعوها فوق رؤوسهم، إعجاباً بها، وانبهاراً لما تنقله وتدخله في كل بيت، فأصبح الغرب وهو في مكانه، وعبر هذه القنوات، يدخل في بيوت المسلمين ما يشاء من فكر وخلق وسلوك ودين، لا يمر على رقابة إعلامية ولا غير إعلامية، ويربي كل من في هذه البيوت، التربية التي يريدها.
ويتوقع إن لم يتغمدنا الله بلطفه ورحمته، أنه في خلال سنوات قليلة، يتم غسل أدمغة شباب وشابات المسلمين من أبناء هذه الأمة غسيلاً فكرياً كاملاً، يعجبون بكل ما عند الغرب، وتربيهم هذه الدشوش على قلة الحياء وضعف الخلق، واللامبالاة، ويحرك فيهم الغرائز الجنسية فيخرج علينا جيل ينادي بالإباحية ويحارب الفضيلة كما حصل تماماً في بعض البلدان الإسلامية من قبل، وصار أبناء البلد، هم الذين يحاربون الدين والخلق والفضيلة في البلد.
وما الجرائم الأخلاقية التي تزعجنا أخبارها يومياً، وما هذه المشاكل التي أيضاً نسمعها يومياً في المجمعات التجارية والأسواق وما يحصل بين البنات والأولاد، إلا ـ والله المستعان ـ إرهاصات، وإنذار بشيء خطير لا يحمد عقباه.
نسأل الله جل وتعالى أن يصرفه عنا.
أيها المسلمون، إنها حقاً أزمة حادة، بل أزمات، ونحن نستقبل عاماً هجرياً جديداً، يحمل همها العلماء الربانيون والدعاة المخلصون وطلاب العلم العاملون، والصالحون الطيبون أمثالكم.
فالوضع بحاجة إلى تكاتف الجميع، وشعور بالمسئولية وأن نبدأ بإصلاح أنفسنا وبيوتنا، وأن نهتم ونتابع أولادنا، وبناتنا بكل دقة، والثقة الزائدة، تكون في بعض الأحيان سلبية.
نسأل الله عز وجل أن يهيئ لنا من أمرنا رشداً وأن يجعل عامنا هذا عام خير وبر وعمل.
(1/2950)
حال الدنيا ووداع العام
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع, الفتن
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الاغترار بالدنيا والاعتبار بتغير أحوالها. 2- أحوال الناس في التنافس على الدنيا. 3- زهد الصالحين في الدنيا ومتاعها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: نعيش هذه الأيام، أيام عام هجري جديد، ووداع عام آخر قد تصرمت أيامه، وقوضت خيامه كلمحة برقٍ أو غمضة عين، عام مضى وانقضى من أعمارنا ولن يعود إلى يوم القيامة. رحل عامٌ مخلفاً ذكرىً وموعظةً في قلوب المؤمنين أن هذه الدنيا ليست بدار قرار، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها فيها الظعن، فكم من عامرٍ عمّا قليل يخرب، وكم من مقيمٍ مغتبطٍ عمّا قليل يرحل. لا تبقى على حالةٍ، ولا تخلو من استحالةٍ، تصلح جانباً بفساد جانب، وتُسرّ صاحباً بمساءة صاحب، فالركون إليها خطر، والثقة بها غرر، كثيرة التغيير، سريعة التنكير، شديدة المكر، دائمة الغدر، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، عيشها نكد، وصفوها كدر، والمرء منها على خطر، إما نعمة زائلة، أو بليةٌ نازلة، أو مصيبة موجعة، أو ميتةٌ قاضية، ما هي إلا أيام معدودة، وآجال مكتوبة، وأنفاس محدودة، وأعمال مشهودة، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرّت يوماً ساءت أشهراً وأعواماً، وإن متعت قليلاً منعت طويلاً، وما حصّلت للعبد فيها سروراً إلا خبّأت له شروراً ولا ملأت بيتاً فرحاً إلا ملأته ترحاً وحزناً. ي?قَوْمِ إِنَّمَا هَـ?ذِهِ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا مَتَـ?عٌ وَإِنَّ ?لاْخِرَةَ هِىَ دَارُ ?لْقَرَارِ [غافر:39].
عباد الله، لقد حذر الله تبارك وتعالى من فتنة الأموال والأولاد في هذه الحياة حتى لا ينشغل العبد بها عن الاستعداد لما أراد الله منه، وهو العبادة وَ?عْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْو?لُكُمْ وَأَوْلَـ?دُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ ?للَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:28]. ونهى جل وعلا عن النظر إلى ما في أيدي الناس لأن ذلك مدعاة إلى الركون إلى الدنيا والانشغال بها عن الدار الآخرة الباقية وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى? مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْو?جاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [طه:131].
أيها المسلمون، إن الدنيا ظل زائل، وسراب راحل، غناها مصيره إلى فقر، وفرحها يؤول إلى ترح، وهيهات أن يدوم بها قرار، وتلك سنة الله تعالى في خلقه أيامٌ يداولها بين الناس، ليعلم الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، إنما هي منازل، فراحل ونازل، وهي بزينتها وبريقها ونعيمها إنما هي:
أحلامُ نومٍ أو كظل زائلٍ إن اللبيب بمثلها لا يخدع
جعل الله ما عليها فتنة للناس ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، روى ابن ماجه والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على شاة ميتةٍ فقال لأصحابه: أترون هذه الشاة هينة على أهلها ؟ قالوا: من هوانها ألقوها، قال: والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء.
أيها الأحبة، الدنيا قنطرةٌ فاعبروها، ولا تنازعوا أهل الدنيا في دنياهم فينازعوكم في دينكم، فلا دنياهم أصبتم ولا دينكم أبقيتم. تلكم هي الدنيا عباد الله التي شُغل بها كثير من الناس وغرّهم سرابها وبريقها وزينتها، فراحوا يتهافتون على جمعها ويتنافسون في اكتنازها، ورضوا منها بالإقامة والتمتع بشهواتها وملاذها، وتركوا الاستعداد ليوم الرحيل والعمل لدار القرار، ونسوا أنها في حقيقتها ما هي إلا معبر إلى الدار الآخرة، وميدان يتنافس فيه المتنافسون، ويتسابق فيه المتسابقون. كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يتخوف الدنيا على أصحابه أن تبسط عليهم كما بسطت على من كان قبلهم، فيتنافسوها كما تنافسها القوم، فتهلكهم كما أهلكت من كان قبلهم. قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)) رواه مسلم.
أيها المسلمون، ومن يرى الناس اليوم وهم يتصارعون على هذه الدنيا ويتكالبون عليها يدرك لماذا يفقد البعض دينه ويضيّع الكثيرُ أهلَه وأولاده، وتنتشر الأحقاد وتُزرع الضغائن، وتعمّ البغضاء. وهذا مصداق ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان همه الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له)) رواه الإمام أحمد.
عباد الله، عجباً لغفلتنا في هذه الحياة مع كثرة العبر والمواعظ، يضحك أحدنا ملء فيه، ولعل أكفانه عند القصّار ينسجها، ويلهو ويلعب وربما ملكُ الموت واقف عند رأسه يستأذن ربه في قبض روحه، يخيّل إليه أنه مقيم مغتبط وهو راحل مفتقد، يساق سوقاً حثيثاً إلى أجله، الموت متوجه إليه والدنيا تطوى من ورائه، وما مضى من عمره فليس براجع عليه، ولسان الحال كما قال النابغة:
المرء يرغب في الحياة وطول عيشٍ قد يضرّه
تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مرّه
وتسوؤه الأيام حتى ما يرى شيئاً يسرّه
كم ودعنا من أب وأم، وكم نعينا من ولد وبنت، وكم دفنا من أخ وأخت، ولكن أين المعتبرون؟ فأكثر الناس إلا من عصم الله في هذه الحياة مهمومٌ مغمومٌ في أمور الدنيا، لكنه لا يتحرك له طرف ولا يهتز منه ساكن إذا فاتته مواسم الخيرات، أو ساعات تحرّي الإجابات، تراه لاهياً ساهياً غافلاً، يجمع ويطرح يزيد وينقص، وكأن يومه الذي يمر به سيعود إليه، أو شهره الذي مضى سيرجع عليه.
إن من أعظم الغفلة أن يعلم الإنسان أنه يسير في هذه الحياة إلى أجله، ينقص عمره، وتدنو نهايته، وهو مع ذلك لاهٍ غافلٍ لا يحسب ليوم الحساب، ولا يتجهز ليوم المعاد، يؤمّل أن يعمّر عمر نوح، وأمر الله يطرقُ كل ليلةٍ والواعظ يقول له:
يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
كم رأينا في هذه الحياة من بنى، وسكن غيره، وجمع ثم أكل وارثه، وتعب واستراح من بعده. ألم يأن للغافلين اللاهين في هذه الحياة أن يدركوا حقيقتها وأن حياتها عناء، ونعيمها ابتلاء، جديدها يبلى، وملكها يفنى، ونحن مع ذلك غافلين كأن الموت فيها على غيرنا كتب، وكأن الحق فيها على غيرنا وجب. يقول الحسن البصري رحمه الله: "أدركت أقواماً لا يفرحون بشيء من الدنيا أتوه، ولا يأسفون على شيء منها فاتهم، ولقد كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي يمشون عليه".
قدوتهم في ذلك محمد صلى الله عليه وسلم الذي ارتسمت على لسانه نظرته إلى الدنيا بقوله في الحديث الصحيح: ((مالي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها)) رواه الإمام أحمد والترمذي. وأرشد صحابته بقوله لبعضهم: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) رواه البخاري.
وهكذا كان السلف عليهم رحمة الله، كان أحدهم إذا بلغ أربعين سنة طوى فراشه لا ينام من الليل إلا قليلاً، يصلي ويسبح ويستغفر، يستدرك ما مضى من عمره ويستعد لما أقبل من أيامه، حتى ليصدق فيهم قول القائل:
إن لله عباداً فطّنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحيّ وطنا
جعلوها لُجّةً واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا
فتزودوا ـ رحمكم الله ـ من الأعمال الصالحة، ولا تغتروا بهذه الدنيا الفانية، واعلموا أنكم راحلون عما قريب ومفارقون لهذه الدنيا، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
كان الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيراً ما يتمثل قول الشاعر:
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد
لم تغنِ عن هرمز يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عادٌ فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له والإنس والجن فيما بينها تردُ
أين الملوك التي كانت لعزتها من كل أوبٍ إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذبٍ لابد من ورده يوماً كما وردوا
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أنه مع هذه الصفات السيئة للدنيا إلا أنها فرصة ثمينة ومزرعة للآخرة نفيسة، فهي موسم للطاعات وزمن للعبادات وميدان للتنافس في الصالحات، فيها يتزود المسلم للآخرة، ويعمل للباقية، وما فاز من فاز يوم القيامة إلا بما أسلف في الأيام الخالية، وقدّم في هذه الدنيا الفانية، فإن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنىً لمن تزوّد منها، وكثير هم الذين يذمون الدنيا، ويزعمون أنها السبب في الطغيان والبعد عن الطاعة، وما علموا أنها دار للاستزادة، فبها الطريق إلى الجنة يُبنى، وبها التزّود من الدرجات العلا، ولقد أحسن من قال:
يعيب الناس كلُّهم الزمانا وما لزماننا عيب سوانا
نعيب زماننا والعيب فينا فلو نطق الزمان به رمانا
أيها المسلمون، وفي توديع عام واستقبال آخر تعظم مسؤولية المسلم في محاسبة نفسه، فها نحن خرجنا من سنة ودخلنا أخرى، ووالله لكأنه بالأمس القريب حين دخل العام المنصرم، وها هو ينتهي وكأنه ما كان، وهكذا الدنيا. وفي هذا عباد الله تذكير بانقضاء الآجال، وانتهاء الأعمار، والانتقال إلى الدار الآخرة حيث الجزاء والمحاسبة، والمنصرف إما إلى جنة وإما إلى نار.
كم يفرح المرء أحياناً بذهاب الليالي والأيام، لرغبة أو مطمع، ولكنه مع ذلك يجب أن لا ينسى أن ذلك يُنقص من عمره، ويدني إلى أجله، وأنها مراحل يقطعها من سفره، وخطوات يمشيها إلى قبره، فهل يفرح بذلك إلا من استعدّ للقدوم على الله بعمل صالح يُرضي الله عنه؟
فتذكروا رحمني الله وإياكم بانقضاء العام انقضاء الآجال، وبسرعة مرور الأيام دنو الآجال، وحلول هاذم اللذات، بتغير الأحوال في هذه الحياة زوال الدنيا وحلول الآخرة.
عباد الله، لقد رأينا من يملك هذه الدنيا الفانية، وقد رحل منها بكفن، ومن لا يملك منها شيئاً قد رحل بكفنٍ مثله، فالجميع لا شك متساوون في القبور، المعظّم والمحتقر، ولكن بواطن القبور مختلفة، إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النيران عياذاً بالله، فمن عمل في هذه الحياة صالحاً واستعد للقاء الله، واستثمر أوقاتها فيما يعود عليه بالنفع فرح يوم لا ينفع نال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، يوم تتطاير الصحف وترتجف القلوب، وتتقلب الأفئدة، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
إن كثيراً من الناس عباد الله مع شديد الأسف لا يزيدهم تعاقب الأيام وتتابع الأعوام وإمهال الله لهم إلا عناداً واستكباراً، وبعداً عن الله، ناسين أن الله يمهل ولا يهمل، غرهم طول الإمهال وخدعهم التسويف والأمل، وشر الناس من طال عمره وساء عمله.
ألا فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، واعملوا صالحاً ما دمتم في فسحة الأمل تنعمون بنعمتين عظيمتين مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ.
اللهم...
(1/2951)
حديث: ((إن الله تعالى زوى لي الأرض))
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
16/5/1415
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نص الحديث. 2- نبوءة نبوية بملك أمة الإسلام للشرق والغرب. 3- أمان هذه الأمة من عذاب الاستئصال. 4- أمان هذه الأمة من استباحة بيضتها. 5- بقاء الطائفة المنصورة إلى يوم القيامة. 6- ابتلاء هذه الأمة بالفرقة والامتثال. 7- تحذير النبي من الأئمة المضلين. 8- نبوءة النبي بظهور الردة والمرتدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أحب ـ يا عباد الله ـ أن أقف معكم في هذه الجمعة التي أسأل الله عز وجل أن لا يحرمنا أجرها وأن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعد تفرقاً معصوماً وأن لا يجعل فينا ولامِنّا ولا معنا شقياً ولا محروماً أحب أن نقف سوياً مع حديث عظيم من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم حديث عظيم يتحدث عن الفتن والذي جعلني أختار هذا الحديث، لما فيه من أمور مخفية، تخيف المسلم أن يصيبه شيئاً مما ذكر في هذا الحديث مع وجود بعض المبشرات التي تطمأن المسلم إذا هو أيضاً أخذ بها.
حديثنا هو حديث ثوبان رضي الله عنه في سنن أبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى زوى لي الأرض أو قال إن ربي زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وأن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي تعالى لأمتي، أن لا يهلكها بسنة بعامة ولا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال لي: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ولا أهلكم بسنة بعامة، ولا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها أو قال بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، وحتى يكون بعضهم يسبي بعضاً، وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى.
أيها المسلمون، يخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم في أول هذا الحديث بأن الله تعالى قد زوى له الأرض، أي قبضها وجمعها، حتى رأى عليه الصلاة والسلام مشارقها ومغاربها، يقول النووي رحمة الله تعالى: وفيه إشارة إلى أن ملك هذه الأمة يكون معظم امتداده في جهتي المشرق والمغرب وهكذا وقع، وأما في جهتي الجنوب والشمال، فقليل بالنسبة إلى المشرق والمغرب، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام بأن ملك أمته سيبلغ ما زوى له فيها، ثم أخبر عليه الصلاة والسلام بأنه أعطي الكنزين فقال: ((وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض)) فالأحمر ملك الشام والأبيض ملك فارس، وإنما قال لفارس الأبيض، لبياض ألوانهم، ولأن الغالب على أموالهم الفضة كما أن الغالب على ألوان أهل الشام الحمرة وعلى أموالهم الذهب
ثم قال عليه الصلاة والسلام في الحديث: ((وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنه بعامة ولا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال لي: يا محمد إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، ولا أهلكهم بسنة بعامة ولا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها)).
وهذه أيها الأخوة، من مبشرات هذا الحديث العظيم، فالرسول عليه الصلاة والسلام سأل ربه كما جاء في هذا الحديث أموراً ثلاثة فأعطاه اثنتان ومنعه الثالث.
فسأله أولاً أن لا يهلك هذه الأمة بسنة بعامة، وهذه استجاب الله عز وجل لسؤال نبيه صلى الله عليه وسلم فلا يمكن أن تهلك هذه الأمة بسنة بعامة، أبي بقحط عام شامل لكل الأمة، وهذا لا يعني أنه لا يقع جوع أو مجاعة في بعض جهات الأمة فقد يصاب طائفة من المسلمين بجوع وقد تهلك طائفة أخرى من المسلمين بمجاعة ويصيبهم الجهد والشدة في الحصول على أرزاقهم وقد يموت بعضهم بسبب الجوع، وهذا قد حصل منه الكثير في السابق، فآباؤنا وأجدادنا عاشوا ورأوا شيئاً من هذا، وقد ذاقوا الجوع والمجاعة فترة من حياتهم، ولهذا فلاحظ أن كبار السنّ يقدرون النعمة ويخافون زوالها أكثر ممن تربى وكبر في النعمة فإنه لا يدري ما معنى الجوع، فأقول بأنه حصل في سابق زمان هذه الأمة شيئاً من هذا وحتى في وقتنا الحاضر، فإن هناك بعض الأماكن من العالم الإسلامي يعاني سكانها الجوع، وهناك الألوف المؤلفة من مسلمي إفريقيا ماتوا قريباً بسبب المجاعة، عافانا الله وإياكم من الفقر. ولكن أن تهلك هذه الأمة بكاملها بقحط عام، فهذا لا يمكن أن يحصل أبداً بنص هذا الحديث.
الأمر الثاني: هو أن الرسول عليه الصلاة والسلام سأله ربه بأن لا يسلط على هذه الأمة عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم فقال عليه الصلاة والسلام: ((وإن ربي قال لي: يا محمد، إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، ولا أهلكهم بسنة بعامة، ولا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها)).
وهذه الثانية يا عباد الله أيضاً استجاب الله فيها لسؤال نبيه عليه الصلاة والسلام فلا يمكن أيضاً أن يسلط الله عز وجل على هذه الأمة عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها، ومعنى يستبيح بيضتهم أي مجتمعهم وموضع سلطانهم ومستقر دعوتهم، أي يجعلهم له مباحاً لا تبعة عليه فيهم، ويسبيهم وينهبهم، وهذا أيضاً يا عباد الله لا يمكن أن يحدث وهو أن يتسلط الأعداء على هذه الأمة ويقضوا عليها جميعها ويستولوا على سلطانها، ويبيدوا دعوتها، فإن هذا أمر لا يمكن أن يحصل أبداً بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لا ينافي أن يتسلط الكفار وأعداء هذا الدين على بلد معين، أو منطقة معينة، وأيضاً لا يمنع أن يتمكن الكفار من تقتيل وتشريد المسلمين وانتهاك حرماتهم في بقعة من البقاع، لكن أن يحصل هذا على عموم الأمة ويتمكن الكفار من التلسط والتغلب على جميع الأمة الإسلامية حتى إنهم يستبيحون بيضتهم، فهذا لا يحصل أبداً لأن هذا الأمر يعارض آخر هذا الحديث بقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى)) فإن الإسلام لابد أن يكون قائماً في جهة من الأرض ولابد أن تكون راية التوحيد مرفوعة وستزال هناك فئة وطائفة من هذه الأمة، ظاهرين على الحق، لا يضرهم وإن خالفهم أهل الأرض كلهم حتى يأتي أمر الله، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ((ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها)) ، أي لو اجتمعت الدنيا كلها على أن يبيدوا هذا الدين، وأن يتمكنوا من أهل الإسلام كلهم فلا سبيل لهم إلى ذلك لأن هذا دين الله عز وجل ولا يمكن الله للكفار على كل المسلمين، حتى يقضوا عليهم جميعاً، وقد قال سبحانه: وَلَن يَجْعَلَ ?للَّهُ لِلْكَـ?فِرِينَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141].
فهذا المقطع من الحديث يعطي المؤمن طمأنينة وثقة بهذا الدين الذي يحمله وأن فرج الله قريب، فمهما تمكن الكفار من رقاب المسلمين، ومهما توغل الكفار في أراضي المسلمين فلا بد أن نعلم بأنها فترة مؤقتة، وهي فترة اختبار وامتحان لنا وبعدها يكون نصر الله لعباده المؤمنين الموحدين المخلصين، لأن المستقبل لهذا الدين يقول الله تعالى: هُوَ ?لَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر)) ويقول عليه الصلاة والسلام: ((وتكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)) ثم سكت عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي.
إن الإسلام يا عباد الله لم ينزله الله تعالى ليقضي عليه الكفار أبداً، فدين الله باق إلى قيام الساعة، هذا اعتقادنا وإن تمكن الكفار منا ومن بلادنا كما قلت فهي فترة زمنية مؤقتة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ثم إن هذه الجزيرة أيها الأخوة ما خلقت إلا للإسلام، لابد أن نعلم هذا، وأن هذه الجزيرة لا تحكم إلا بالإسلام يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الدين ليأرِز إلى الحجاز كما تأرِز الحية إلى جحرها، ما بين المسجدين)).
عباد الله، الأمر الثالث الذي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم ربه في هذا الحديث العظيم هو أن لا يهلك هذه الأمة بعضها بعضاً ولا يسبي بعضها بعضاً فهذه مُنِعَها عليه الصلاة والسلام قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً)) ، وحتى يكون بعضهم يسبي بعضاً، وهذه هي بلاء هذه الأمة، وهذه التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم، هي التي شتتت هذه الأمة وفرقتها، فأغلب الفتن وأغلب المصائب في بلاد المسلمين على أيدي المسلمين يقتل بعضهم بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله كما أخبر بذلك الصادق المصدوق أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65].
من الذين يقتل المسلمين في بلاد المسلمين؟ أليس القتل بأيدي المسلمين؟ من الذي يعذب المسلمين في بلاد المسلمين؟ أليس المسلمون أنفسهم؟ معظم مصائب المسلمين في كل بلاد العالم الإسلامي تجدها تحصل على يد المسلمين أنفسهم وهذا أمر قد أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثنا هذا من قرون بعيدة.
فإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، نواصل التعليق على هذا الحديث العظيم يقول عليه الصلاة والسلام تتمة للحديث: ((وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)) فالرسول عليه الصلاة والسلام يخاف على أمته من الأئمة المضلين، وهم الداعين إلى البدع والفسق والفجور، وكيف لا يخاف عليه الصلاة والسلام على أمته من الأئمة المضلين وهو يعلم خطورة ذلك، إذا كان من ينظر الناس إليهم بعين الاحترام والتقدير، ويقتدون بكلامهم وأفعالهم كانوا هم ضالين في أنفسهم أو كان فيهم بدع هوى وفسق وفجور، فكيف يكون حال من تبعهم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) متفق عليه.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة)) ، وهذه هي قاصمة الظهر، ووالله إنه ليقع كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنذ وضع أول سيف في الأمة لم يرفع حتى الآن، ولن يرفع حتى قيام الساعة، فإن لم يكن في بلد يكون في بلد آخر، وقد ابتدئ في زمن معاوية رضي الله عنه، ولا يخلو عنه طائفة من الأمة، والحديث كما يقول العلماء مقتبس من قوله تعالى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ والناظر اليوم في حال البلاد الإسلامية يرى مصداقية هذا الحديث، فلا يكاد يخلو بلد من بلدان المسلمين من القتل فإن لم يكن في بلد كان في بلد آخر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان)) فالرسول عليه الصلاة والسلام يخبر عن قبائل وليس الأمر عبارة عن حالات فردية بل قبائل من هذه الأمة تلحق بالمشركين وقبائل تعبد الأوثان ويكون ذلك بعد ما عرفوا الإسلام لأنه قال: ((من أمتي)).
وقد وقع بعض ما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه، وهذا أمر يستدعي الحذر أيها الإخوة فإن المشركين والكفار لهم حيل وأساليب وألاعيب متنوعة لا تنتهي عند حد ومحاولة الإيقاع بالمسلمين أمر لا يخص على أحد، وهم يودون لو أن المسلمين كلهم لحقوهم، لا مجرد قبائل معدودة وقد استطاعوا تحقيق شيء مما يريدون، وما هؤلاء العلمانيون في زماننا هذا إلا تلامذة الاستعمار ممن رضعوا من ألبانهم وتربوا في أحضانهم، ولحقوا بالكفار منذ زمن، والآن يحاولون أن يلحقوا غيرهم معهم، لكن بإذن الله عز وجل تذهب تدابيرهم وتخطيطاتهم هباء منثوراً، فإنهم يخططون ويحسبون ويرسمون ويدبرون ويوقعون ويمكرون ويكيدون كيداً، وأكيد كيداً فمهل الكافرين أمهلهم رويداً.
ثم قال عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث: ((وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي)) ، وحصل شيء من هذا في حياته عليه الصلاة والسلام، فادعى النبوة رجل يقال له الأسود العنسي، وكان ذلك في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد مقدمه من حجة الوداع لكن سرعان ما أخمد الله فتنته ولم يظهر إلا ثلاثة أو أربعة أشهر.
وأيضاً ممن ادعى النبوة في حياته عليه الصلاة والسلام طليحة بن خويلد الأسدي وتبعه كثير من العرب عصبية، وتوفي الرسول صلى عليه وسلم وكان لا يزال يدعي النبوة، فسير إليه الصديق رضي الله عنه جيشاً بقيادة خالد بن الوليد، فالتقى الجيشان بمكان يسمى بزاخة بأرض نجد، فكانت الدائرة على طليحة وجيشه، ففر بعدها مع زوجته إلى الشام ثم تاب بعد ذلك وأسلم وحسن إسلامه وبعث بقصيدة إلى الصديق رضي الله عنه يقول فيها:
فهل يقبل الصديق أني مراجع ومعط لما أحدثت من حدث يدي
وإني من بعد الضلالة شاهد شهادة حق لست فيها بملحد
وممن ادعى النبوة مسيلمة الكذاب في أرض اليمامة، فأرسل له الصديق رضي الله عنه كتائب الإيمان بقيادة خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وشرحبيل بن الحكم، وقتل مسيلمة بيد وحشي رضي الله عنه.
وادعى النبوة أيضاً المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي وادعى النبوة الحارث بن سعيد، وادعى النبوة بيان بن سمعان، وادعى النبوة أيضا المغيرة بن سعيد العجيلي وأيضاً أبو منصور العجيلي وأيضاً أبو الخطاب الأسدي، وممن من ادعى النبوة أيضاً على بن الفضل الحميدي واستولى على أجزاء كثيرة في اليمن وصل بعدها إلى زبيد وصنعاء، وهناك أعلن مذهبه ومعتقده السيء وبعد أن دخل صنعاء صعد المنبر وقال قصيدته المشهورة التي ادعى بدعوة النبوة فيها، وهذا مطلعها:
خذي الدف ياهذه وأضربي وغني هزارك ثم اطربي
تولى نبي بني هاشم وجاء نبي بني يعرب
أحل البنات مع الأمهات ومن فضله زاد حل الصبي
لكل نبي مضى شرعة وهذي شريعة هذا النبي
إلى آخر ما جاء في القصيدة من الكفر والإلحاد، حتى إن مؤذنه كان يقول في آذانه أشهد أن علي بن الفضل رسول الله، وبعد فترة قاسية عاشها أهل اليمن أهلكه الله عز وجل على يد أحد الأطباء، فأراح الله منه البلاد والعباد.
أما بالنسبة لحركات ادعاء النبوة في العصر الحديث فأمر مروراً سريعاً كالسابق على ثلاث من أهم وأخطر هذه الحركات في عالمنا الإسلامي، فبعدما فشلت الحروب الصليبية ضد الإسلام رغم الضعف الذي وصل إليه المسلمون فكروا بأساليب أخرى للنفوذ في العالم الإسلامي، فأدخلوا إليه أفكاراً منحرفة كالشيوعية والقومية وغيرها من المذاهب، كما أوجدوا بعض الشخصيات القيادية باسم النبوة والوحي.
فمن هؤلاء علي بن محمد رضا الشيرازي وقد ادعى النبوة عام 1260هـ وعمره آنذاك 25 سنة، وبعد ظهوره لقب نفسه بالباب، وتسمى دعوته البابية.
وادعى النبوة أيضاً حسين بن علي المازنداري وكان يلقب بالبهاء وسميت دعوته البهائية، وهي في حقيقتها البابية السابقة لكن في طورها الجديد، ومرت دعوة البهاء بثلاث مراحل:
ففي المرحلة الأولى ادعى أنه المسيح بن مريم، وفي الثانية ادعى نزول الوحي عليه، وفي الثالثة نسأل الله العافية ادعى الربوبية.
وأخيراً وفي أوائل القرن الرابع عشر هجري في قاديان من أرض الهند ادعى النبوة غلام بن أحمد بن غلام مرتضى، وعرفت حركته بالقاديانية يقول عن نفسه:
أخاطب جهرا لا أقول كخافت فإني من الرحمن أوحي وأخبر
تخيرني الرحمن من بين خلقه له الحكم يقضي ما يشاء ويأمر
يا معشر الأعداء توبوا واتقوا والله إني مرسل ومقرب
أعوذ بالله من هذا الكفر الصريح.
ولكن أيها الأخوة مع وجود هذه الحركات ومع وجود هذه الطامات التي تنخر جسم الأمة فقد ختم رسول الله عليه وسلم حديثه بأعظم المبشرات والتي تثلج صدر المؤمن إذا سمعها والتي تزيده طمأنينة وثقة بهذا الدين، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى)).
فمهما حدث يا عباد الله مما أشار إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من مظاهر غربة الدين من البلاء والافتراق والقتال وفساد الحكام وضياع معالم الدين عند الكثير من الفئات والطوائف حتى يلحق بعضها بالمشركين في الأفكار والمبادئ والمعتقدات والولاءات حتى يعبد بعضها الأصنام الحسية والمعنوية.
فإنه لا تزال طائفة من هذه الأمة لا يضرهم من خالفهم، ولو خالفهم أهل الأرض كلهم حتى يأتي أمر الله تعالى.
أسأل الله عز وجل بأسمائه أن يجعلنا من هذه الطائفة وأن يثبتنا على ديننا وأن يختم بالصالحات أعمالنا.
اللهم إن أردت فتنة...
(1/2952)