طلب الرزق
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
يزيد بن الخضر ابن قاسي
بوزريعة
6/12/1423
علي مغربي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدعوة إلى العمل في القرآن الكريم والسنة النبوية. 2- النهي عن سؤال الناس واستجدائهم. 3- خطر البطالة على المجتمع. 4- عواقب الكسب الحرام. 5- أسباب بسط الرزق وزيادته.
_________
الخطبة الأولى
_________
اتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الإسلام رغب في العمل وطلب الرزق والكسب الحلال والاتجار في جمع المال، قال تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَوةُ فَانتَشِرُواْ فِى الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10]، وقال أيضًا: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15].
فالله قد جعل النهار معاشًا، وجعل للناس فيه سبحًا طويلاً. أمرهم بالمشي في مناكب الأرض، في أطرافها وفجاجها، ونواحيها وجبالها، ليأكلوا من رزقه بأنواع المكاسب والتجارات، وقال في آية أخرى: وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ [المزمل:20]، فقَرَنَ سبحانه وتعالى في الآية الكريمة بين المجاهدين في سبيله والذين يضربون في الأرض يبتغون من فضله، ومعنى يَضْرِبُونَ فِى الأرْضِ أي: يسافرون في الأرض، يبتغون من فضل الله بالمكاسب والمتاجر.
فالله سبحانه وتعالى بسط الأرض، وأخرج منها الخيرات والبركات، وجعل الخير كل الخير في العمل، والشر كل الشر في البطالة والتسول والكسل، والإسلام دين عمل وكدّ وجهد وجهاد.
فقد سئل رسول الله كما عند الطبراني في معجمه بسند صحيح: أيّ الكسب أفضل؟ قال: ((أطيب الكسب عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور)) ، وجاء عنه أنه قال: ((ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده)).
ومر رجل على النبي ، فرأى أصحابُ رسول الله من جَلده ونشاطه فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله: ((إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفّها فهو في سبيل الله..)) إلى آخر الحديث، وصح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((نعم المال الصالح للرجل الصالح)).
ولنا القدوة في صحابة رسول الله ، فقد كان أبو بكر أتجر قريش، وما قتل الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه حتى بلغت غلة نخله مائة ألف، وقال عبد الرحمن بن عوف المهاجر الذي قال للأنصار: دلوني على سوق المدينة، قال: (يا حبذا المال، أصون به عرضي، وأتقرب به إلى ربي).
عباد الله، كسب الرزق وطلب العيش شيء مأمور به شرعًا، مندفعة إليه النفوس طبعًا، ولكن الشيطان قد يستحوذ على بعض الناس، فيلبس عليهم ترك طلب الرزق، فيركنون إلى البطالة والخمول والكسل والاتكال، وبعضهم يذهب إلى أبعد من ذلك، إلى التسول والعياذ بالله.
وأما التسول، فقد شاع في مجتمعنا شيوعًا كبيرًا، حتى أصبح حرفة تعلّم، وكلامًا يلقّن، وعملاً منظّمًا، وفنًا يتخصّص فيه، حتى لا يستطيع الواحد أن يفرّق بين الصادق في مسألته، الصادق في فقره وحاجته، وبين الكاذب فيها والمحتال، ولا أن يميز بين المستحق والمستكثر، وبعض المتسوّلين اليوم يستكثرون لما وجدوه من ربح وفير ودخل سريع، كما صرح به غير واحد منهم، والمستكثر ـ عباد الله ـ من سأل الناس لا لأنه لا يجد قوتَ يومه، ولكن ليكثر ماله.
وقد شدد النبي في هذا فقال: ((من سأل الناس أموالهم تكثرًا ـ أي: ليكثر ماله ـ فإنما يسأل جمرًا، فليستقلّ أو ليستكثر)) رواه مسلم، وقال أيضًا: ((لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مُزعةُ لحم)) أي: قطعة لحم، متفق عليه. ويقول أيضًا: ((اليد العليا خير من اليد السفلى، فاليد العليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة)) متفق عليه.
وأما البطالة فهي من أخطر المشكلات الاجتماعية وأسوئها عاقبة وأشدها تأثيرًا على طمأنينة الحياة وهناءة العيش، لأنها تولد التسول والسرقة والغش والخداع.
ومشكلة البطالة ليست فيمن لم يجد عملاً يعمله، لأنه يحدث للإنسان أن لا يجد عملاً في مدّة أو في فترة معينة، ولكن المشكلة فيمن يرضى بالبطالة، ويرفض العمل، ويتكبّر على كل عمل حلال عُرض عليه.
أخي المسلم، إن العمل مهما كان حقيرًا فهو خير من البطالة، حتى لقد قال الفاروق: (مكسبة في دناءة خير من سؤال الناس)، وقال: (إني أرى الرجل فيعجبني شكله، فإذا سألت عنه فقيل لي: لا عمَل له، سقط من عيني).
فلا يليق بالرجل القادر أن يرضى لنفسه أن يكون حِمْلاً على كاهل المجتمع، ثقيلاً مرذولاً، وأن يقعد فارغًا من غير شغل، أو أن يشتغل بما لا يعنيه، فهذا سيورثه سفاهة في الرأي وسذاجة في العقل.
ولقد قال لقمان الحكيم لابنه: (يا بني، استغن بالكسب الحلال، فإنه ما افتقر أحد إلا أصابته إحدى ثلاث خصال: رقة في دينه، أو ضعف في عقله، أو وهاء في مروءته، وأعظم من هذا، استخفاف الناس به).
والمؤمن نزيه القلب شريف الخُلق، عزيز النفس، فلا يرضى أن يكون عالة على الناس، بطالاً أو متسولاً.
وثبت عن النبي أنه قال: ((شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزّه استغناؤه عما في أيدي الناس)) ، وقال أيضًا: ((لأن يأخذ أحدكُم حبله، فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها، فيكف اللهُ بها وجهَه، خير له من أن يسأل الناس؛ أعطوه أو منعوه)) رواه البخاري.
فليس بنقص ـ أخي المسلم ـ أن تعمل عملاً يعدّه الناس عملاً حقيرًا، المهمّ أن تكف وجهك، وليس بنقص ـ أخي المسلم ـ أن تكون حدّادًا أو نجارًا، فداود عليه السلام كان رسولاً نبيًا، وكان حدادًا، وزكريا عليه السلام كان نبيًا مرسلاً، وكان نجارًا. وليس بعار ولا عيب أن تميط الأذى عن الطريق، وتكونَ كناسًا، ولكن العار كل العار، والعيب كل العيب، في معصية الله جل وعلا، والخمول والكسل والبطالة، حين يعيش الإنسان على فتات غيره، حين يعيش الرجل على لقمة غيره، مع أنه صحيح البدن قوي الجسد، فهذا من محق البركة في الأجساد.
وهذا عبد الله بن المبارك، الإمام الجليل القدوة المحدث الفقيه، أمير المؤمنين في الحديث، جمعت فيه خصال الخير كلها، فمع إمامته وجلالته كان يحمل البضائع على ظهره، ولما رآه بعض الناس قالوا له: يا إمام، مثلك يفعل هذا! قال: نعم، إنما نعمل هذا لنصون هذا، وأشار إلى وجهه.
نعم، فالمؤمن ليس بطالاً ولا متسوّلاً، لا عمل له ولا كسب، الإسلام لا يعرف المؤمن إلا كادحًا عاملاً، مؤدّيًا دوره في الحياة، آخذًا منها معطيًا لها: هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15]، وقال سبحانه: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنيَا [القصص:77].
فخذوا ـ رحمكم الله ـ بأسباب العمل المباح والكسب الحلال، فلن يضيق الرزق بإذن الله على من اكتسب وتسبب.
و اعلموا أن طلب الحلال وتحرّيه أمرٌ واجبٌ وحتمٌ لازمٌ، فلن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ لذا كان حقًا على كل مسلم ومسلمة أن يتحرى الطيب من الكسب والنزيه من العمل؛ ليأكل حلالاً، وينفق في حلال، والكسب الحلال والأكل من حلال من موجبات رضا الرب سبحانه ودخول الجنة.
أخرج الإمام أحمد وغيره بأسانيد حسنة، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي أنه قال: ((أربعٌ إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفةٌ في طعمة)) أن يكون طعامك نزيهًا نقيًا حلالاً طيبًا.
وإن أكلَ الحرام وكسب الحرام ـ عباد الله ـ يُعمي البصيرة، ويوهن الدين، ويقسي القلب، ويُظلم الفكر، ويُقعد الجوارح عن الطاعات، ويوقع في حبائل الدنيا وغوائلها، ويحجب الدعاء، وإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، ولا يتقبل الله إلا من المتقين.
والكسب الحرام له عواقب وخيمة على النفس والأهل والولد، وكاسب الحرام وآكله ممحوق البركة، فهو كشارب ماء البحر، كلَّما ازداد شربًا ازداد عطشًا، شارب شرب الهيم، لا يقنع بقليل، ولا يغنيه الكثير، في الحديث الصحيح عند البخاري: ((يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام)).
وذكرعليه الصلاة والسلام الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرامٌ، ومشربه حرام، وملبسه حرامٌ، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك. فهذا الرجل قد استجمع ما يدعو إلى رثاء حاله؛ أشعث رأسُه، ومغبرة قدماه، تقطعت به السبلُ في سفره الطويل، وتغربت به الديار، فقد استجمع صفات الذل والمسكنة والحاجة والافتقار، ورفع يديه إلى السماء يدعو ربَه، ولكنه قد قطع صلته بربه، وحرم نفسه من مدد مولاه، فردَّت يداه خائبتين ولم يقبل دعاؤُه، أكل من حرام، واكتسى من حرام، ونبتَ لحمُه من حرام.
فاحرصوا ـ عباد الله ـ على الكسب الحلال، والطيب من الرزق، فقد أغنانا الله تعالى من فضله، وكفانا بحلاله عن حرامه.
أقول ما تسمعون, وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، إن الله خلق الخلق فأحصاهم عددًا، وقسم أرزاقهم وأقواتهم فلم ينس منهم أحدًا، وهو القائل جل وعلا: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود: 6]. فما رفعت ـ أيها الإنسان ـ كفَّ طعام إلى فمك إلا والله كتب لك هذا الطعام قبل أن يخلق السماوات والأرض، فخذوا ـ رحمكم الله ـ بأسباب الرزق، بالعمل المباح والكسب الحلال، فلن يضيق الرزق بإذن الله على من اكتسب وتسبب.
ومن أعظم الأسباب لزيادة الرزق وبسطه التوكل على الله تعالى، قال رسول الله : ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصًا وتروح بطانًا)) رواه أحمد والترمذي وهو صحيح.
فالتوكل على الله يأتي بالرزق، مع وجوب اتخاذ السبب بالحركة والسعي، فكما جاء في الحديث، فإن الطيور لم يأتها رزقها رغدًا إلى أوكارها، وهي قابعة في أعشاشها، وإنما غدت في الصباح سعيًا في طلبه، فطارت من عشها، وحلقت في السماء، وحطت على الشجر والحجر، ورجعت وقد شبعت من رزق الله تعالى وفضله.
ومن أعظم أسباب زيادة الرزق وتفتح أبواب الرحمات والبركات تقوى الله جل جلاله، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]، وقال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]. فالخير كل الخير وجماع الخير في تقوى الله تعالى، فمن اتقى الله ـ عباد الله ـ جعل له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، فلن تضيق أرضُ الله على عبد يتقي الله، ولن يضيق العيشُُ والرزقُ على من خاف الله واتقاه.
ومن أسباب زيادة الرزق الدعاء والالتجاء إلى الله جل وعلا, فإن ضاق عليك رزقك وعظم عليك همك وغمك وكثر عليك دَينك فالجأ إلى الله، وتضرع إليه بالدعاء.
ومن أسباب زيادة الرزق وبسطه صلة الأرحام، صح عن النبيّ أنه قال: ((من أحب أن يبسط له في رزقه، ويُنسَأ له في أثره، فليصل رحمه)) متفق عليه.
صِلة الأرحام نعمة من الله تعالى، ورحمة يرحم الله بها عباده، وهي من أعظم الطاعات والقربات، لما فيها من إدخال السرور على الأعمام والعمات والأخوال والخالات وسائر الأرحام والقرابات، فمن وصلهم وصله الله، وبارك له في رزقه، ووسع له في عيشه.
ومن أسباب الرزق وزيادته المحافظة على الصلاة، الصلاة عمود الإسلام وركن الملة ورأس الأمانة، بها صلاح الأعمال والأقوال، أداؤها نور في الوجه والقلب وصلاح للبدن والروح، تطهر القلوب وتكفر السيئات، تجلب الرزق والبركة، قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ والْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132] يعني: إذا أقمت الصلاة، أتاك رزقك من حيث لا تحتسب.
ومن أسباب زيادة الرزق والبركة فيه النفقات والصدقات، فمن أنفق لوجه الله ضاعف الله له الأجر؛ فالحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله، ولك الخلَف من الله تعالى، فقد قال النبي : ((ما نقص مال من صدقة)) ، وقال: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا)) متفق عليه، وقال لأسماء رضي الله عنها: ((أنفقي، ولا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك)).
ومن أسباب زيادة الرزق وبسطه الاستغفار والتوبة إلى الله، قال تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].
فلا تترك الذنوب تتراكم عليك أخي المسلم، بل سارع إلى مغفرة من الله، وبادر بالاستغفار والتوبة والإنابة إليه، فإن الإنسان قد يُمنع الرزق لمعصية ارتكبها، فأكثروا من الاستغفار وجددوا التوبة.
عباد الله، ليست الأرزاق أن يجلس الإنسان في مسجده أو بيته أو صومعته، فإن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، خذوا بالأسباب، واطلبوا الرزق الحلال من أبوابه، يفتح الله لكم من رحمته، وينشر لكم من بركاته وخيراته، الرجل المبارك يسعى على نفسه وأهله وولده، فيكتب الله له أجر السعي والعمل، ليس العمل بعار، فقد عمل أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كان نبي الله داود يعمل صنعة لبوس، فكان يعمل في الحدادة، وكان زكريا نجارًا، وما من نبي إلا رعى الغنم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فرحم الله عبدًا كسب فتطهر، واقتصد فاعتدل، وذكر ربه، ولم ينس نصيبه من الدنيا.
(1/2786)
عيد الأضحى 1423هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
يزيد بن الخضر ابن قاسي
بوزريعة
10/12/1423
علي مغربي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأصل في مشروعية الأضحية. 2- معاني العيد ومقاصده في الإسلام. 3- منزلة التوحيد في الإسلام. 4- نصائح عامة. 5- فضل أيام التشريق.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن لكل أمة من الأمم عيدًا يعود عليهم في يوم معلوم، يتضمن عقيدتها، وأخلاقها وفلسفة حياتها، فمن الأعياد ما هو منبثق ونابع من الأفكار البشرية والحوادث التاريخية البعيدة عن وحي الله تعالى، وأما عيد الأضحى وعيد الفطر فقد شرعهما الله تعالى لأمة الإسلام، وهذان العيدان يكونان بعد ركنين من أركان الإسلام، فعيد الأضحى يكون بعد عبادة الحج، وعيد الفطر يكون بعد عبادة الصوم لشهر رمضان.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن يومكم هذا يوم مبارك، رفع الله قدره، وأعلى ذكره، وسمّاه يوم الحج الأكبر، وجعله عيدًا للمسلمين، حجاجًا ومقيمين، فيه ينتظم عِقد الحجيج على صعيد منى، وفي هذا اليوم المبارك يتقرّب المسلمون إلى ربهم بذبح ضحاياهم، اتباعًا لسنة الخليلين: إبراهيم ومحمد عليهما أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
فأنتم ـ معشر المسلمين ـ على الإرث الحق والدين القيم، لملة الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ودين الخليل محمد ، وعيد الأضحى يربطكم بهذين الخليلين النبيين العظيمين عليهما الصلاة والسلام، لما شرع الله لكم في هذا اليوم من القربات والطاعات، وذلك أن الله أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذبح ولده إسماعيل عليه السلام قربانًا إلى الله، أمره ابتلاء واختبارًا، فبادر إبراهيم عليه السلام إلى تنفيذ أمر الذبح، واستسلم إسماعيل عليه السلام صابرًا، فلما تمَّ مرادُ الله تعالى بابتلاء خليله إبراهيم عليه السلام، وتأكد عزمه، وشرع في ذبح ابنه، فلم يبق إلا اللحم والدم، فداه الله بذبح عظيم، فأظهر إبراهيم أن محبته وخلته لربه لا يزاحمها شيء، حتى ولو كان ولدًا وحيدًا عزيزًا من صلبه، خاصة أن إبراهيم كان مشتاقًا للولد بعد عمر طويل، فدعا ربه، ورزقه الله تعالى إسماعيل، فلما بلغ وصار شابًا، وظهرت عليه ملامح الرجولة، جاءه الأمر بذبح ابنه، إن هذا لهو البلاء المبين، كما قال تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:102-107]، وهكذا ـ عباد الله ـ يبتلي الله عباده الأنبياء والمؤمنين.
سئل النبي : أي الناس أشد بلاء؟ فقال: ((الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة)). فالابتلاء اختبار من الله لعباده؛ لتكفير السيئات، ورفع المنزلة والدرجات، فلما صدق إبراهيم الرؤيا رفع الله منزلته بالخلة، وفداه بذبح عظيم، وصارت سنة للمسلمين إلى يوم الدين، ورزقه بإسحاق ولدًا ثانيًا، وجزى ابنه إسماعيل بالنبوة لصبره: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، فالأضحية ـ عباد الله ـ تذكرنا بكل هذا، وبالعمل الجليل الذي كان من إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
أيها المسلمون، إن العيد من شعائر الإسلام العظيمة الظاهرة، والعيد يتضمن معاني سامية جليلة ومقاصد عظيمة فضيلة وحِكمًا بديعة، فأولى معاني العيد في الإسلام توحيد الله تعالى، توحيده بإفراد كل أنواع العبادات لله وحده لا شريك له، توحيد الله وإفراده بالدعاء، والخوف، والرجاء والاستعاذة والاستعانة والتوكل والرغبة والرهبة والذبح والنذر لله تبارك وتعالى، وغير ذلك من أنواع العبادة، وهذا التوحيد هو أصل الدين الذي ينبني عليه كل فرع من فروع من الشريعة، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحقّ إلا الله، قال تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:4]، آية نقرؤها في كل ركعة من صلاتنا تتضمن هذا المعنى.
والتوحيد هو الأمر العظيم الذي بتحقيقه يدخل الإنسان جنات النعيم، وإذا ضيَّعه الإنسان لا ينفعه عمل قطّ، وكان من أهل النار. فتمسك ـ أيها المسلم ـ بهذا الأصل العظيم والركن القويم، فهو حق الله عليك، وعهد الله الذي أخذه على بني آدم في عالم الأرواح، وقد أكد الله في القرآن العظيم على هذا التوحيد توحيد الله بالعبادة، وعظّم شأنه، فما من سورة في كتاب الله إلا وهي تأمر بالتوحيد نصًا أو تضمنًا أو التزامًا، أو تذكر ثواب الموحدين أو عقوبات المشركين، فمن وفى بحق الله تعالى وفى الله له بوعده، تفضُّلاً منه سبحانه، وفي الحديث الصحيح عن معاذ رضي الله عنه قال: كنت رِدْف النبي على حمار يقال له: عُفير، فقال: ((يا معاذ، هل تدري ما حق الله على عباده؟ وما حق العباد على الله؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا)).
فالتوحيد ـ عباد الله ـ هو أول الأمر وآخره، وإياكم وأنواع الشرك التي تبطل التوحيد وتحبط العمل، والتي يقع فيها من لا علم له، كدعاء الأنبياء والصالحين والطواف على قبورهم وطلب الغوث منهم، أو طلب كشف الكربات والشدائد منهم، أو دعائهم بجلب النفع أو دفع الضر والمرض، أو الذبح أو النذر لغير الله تعالى، أو الاستعاذة بغير الله تعالى، أو الذهاب إلى الكهنة والسحرة والمشعوذين، كل هذا من الشرك الأكبر الذي حرمه الله في كتابه، قال الله عز وجل: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، وقال أيضًا: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وقال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]، وقال في آية أخرى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا [النساء:116]. فاحرصوا على تحقيق العبادة لله وحده لا شريك له، والابتعاد عن الشرك وأنواعه.
وثاني معاني العيد: تحقيق معنى شهادة أنّ محمدًا رسول الله، وذلك باتباعنا له واقتدائنا به في هذا اليوم، ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله طاعة أمره واجتناب نهيه وتصديق أخباره وعبادة الله بما شرع مع محبته وتوقيره، قال الله تعالى: قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]، وقال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].
ومن حكم العيد ومنافعه العظيمة: شهود جمع المسلمين لصلاة العيد، ومشاركتهم في بركة الدعاء والخير المتنزل على جمعهم المبارك، والانضواء تحت ظلال الرحمة التي تغشى المصلين، والبروز لرب العالمين إظهارًا لفقر العباد لربهم وحاجتهم لمولاهم عز وجل، وتعرضًا لنفحات الله وهباته التي لا تُحدّ ولا تُعدّ، عن أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله أن نخرجهن في الفطر والأضحى؛ العواتق والحيَّض وذوات الخدور، فأما الحُيّض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. رواه البخاري ومسلم.
وإن من حكم العيد ومنافعه العظمى: التواصلَ بين المسلمين والتزاورَ وتقاربَ القلوب وارتفاعَ الوَحشة وانطفاءَ نار الأحقاد والضغائن والحسد. فالعيد ـ عباد الله ـ مشهد من مشاهد الوحدة، ومنظر من مناظرها، وعبرة جعلها الله للمسلمين ليعتبروا بها، فكما أن المسلمين اجتمعوا على هذا العيد الذي هو عيد عند جميع المسلمين في مختلف الأمصار والأقطار، ولم يختلفوا فيه، كذلك فإن المسلمين قادرون على أن يجتمعوا على كلمة الإسلام دون أن يختلفوا فيه، ويتركوا ويبتعدوا عن كل ما يفرقهم من عنصريات وعصبيات وقوميات، وأن يجتمعوا ويتوحدوا، ويكونوا كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضه بعضًا، ويكونوا كاليد الواحدة في جلب الخير ودفع الشر، فربنا واحد، ورسولنا واحد، وديننا واحد، كما أن عيدنا اليوم واحد عند جميع المسلمين، فكما أن الإسلام جمع المسلمين في مكان واحد لأداء صلاة العيد، فهو قادر أيضًا على أن يجمعهم على الحق، ويؤلف بين قلوبهم على التقوى، فلا شيء يجمع ويؤلف بين المسلمين سوى الإسلام وهو دين الحق؛ ولا يفرق بين القلوب إلا الأهواء لكثرتها، فالتراحم والتعاون والتعاطف صفة المؤمنين فيما بينهم، كما روى مسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
والمحبة بين المسلمين والتوادّ غاية عظمى من غايات الإسلام، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم)) رواه مسلم. فجاهد نفسك ـ أيها المسلم ـ لتكون سليمَ الصدر للمسلمين، فسلامة الصدر نعيم الدنيا وراحة القلب ورضوان الله في الآخرة، قال تعالى عن إبراهيم: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:87-89]، وعن عبد الله بن عمرو قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: ((كل مخموم القلب صدوق اللسان)) ، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: ((هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد)) رواه ابن ماجه بإسناد صحيح والبيهقي.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بركة وأصيلاً، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
أيها المسلمون، أدوا الصلاة المفروضة فإنها عمود الإسلام، والفارق بين الكفر والإيمان، احذروا الوقوع في المعاصي، أدوا زكاة أموالكم، صوموا شهركم، وحجوا بيت ربكم، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وأطيبوا الكلام، وصِلوا الأرحام، وبروا الوالدين.
واحذروا الربا والزنا وقتل النفس والمسكرات, والمخدرات، فإن وبالها عظيم, وشرها مستديم, تقود إلى الجريمة بشتى صورها. احذروا الرشوة وقول الزور وشهادة الزور والغش والخديعة والغدر والخيانة والغيبة والنميمة والبهتان والحقد والشحناء والحسد والبغضاء. وتحلوا بخلق الأنبياء والصالحين, تحلوا بالصدق والصبر والأمانة والوفاء وحسن التعامل وسلامة الصدر فيما بينكم. توبوا إلى الله من جميع ذنوبكم, وابدؤوا صفحة جديدة ملؤها الأعمال الصالحة، تذكروا باجتماعكم هذا اجتماعَكم يوم العرض على قيوم السماوات والأرض, يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
يا نساء المسلمين، اتقين الله تعالى في واجباتكن التي أمركن الله بها، أحسِنَّ إلى أولادكن بالتربية الإسلامية النافعة، واجتهدن في إعداد الأولاد إعدادًا سليمًا ناجحًا، فإن المرأة أشد تأثيرًا على أولادها من الأب، وليكن هو معينًا لها على التربية، والتزمن ـ يا نساء المسلمين ـ بآداب الإسلام, قال تعالى: فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ لْجَاهِلِيَّةِ الأولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَءاتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:32، 33].
وأطعن أزواجكن بالمعروف, واحفظن أعراضكن, والتزمن بالحجاب الشرعي بحشمة وعفة، وتصدّقن ولو من حليّكن، وابتعدن عن اللعن والغيبة والنميمة, فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((يا معشر النساء، تصدقن وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار)) ، فقالت امرأة منهن جَزْلة: وما لنا ـ يا رسول الله ـ أكثر أهل النار؟ قال: ((تُكثرن اللعن, وتَكفُرن العشير)) ، تكثرن اللعن من سبّ وشتم وتجسس وغيبة ونميمة، وتكفرن العشير أي: تكفرن بنعمة الزوج، فلا تعرفن له طاعة، ولا معروفًا، ولا قدرًا، ولا نعمة.
فأحسني ـ أيتها المرأة المسلمة ـ إلى زوجك بالعشرة الطيبة، وبحفظه في عرضه وماله وبيته، وبرعاية حقوق أقاربه وضيفه وجيرانه، ولا تكلفيه ما لا يطيق من المصارف، وكوني مقتصدة لماله غير مسرفة فيه, وكوني طائعة له غير ناشزة, تفوزي برضا ربك والجنة، قال النبي: ((إذا صلَّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت)).
عباد الله, إن اليوم الحادي عشر من ذي الحجة هو أول أيام التشريق المباركة التي قال الله عز وجل فيها: وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ [البقرة:203]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (هي أيام التشريق)، وقال فيها النبي : ((أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل)) أخرجه مسلم وغيره. فأكثروا ـ رحمكم الله ـ من ذكر الله وتكبيره في هذه الأيام المباركة، امتثالاً لأمر ربكم تبارك وتعالى، واستنانًا بسنة نبيكم ، واقتداء بسلفكم الصالح، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يكبرون في هذه الأيام الفاضلة.
(1/2787)
التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
يزيد بن الخضر ابن قاسي
بوزريعة
13/12/1423
علي مغربي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب التوبة وحقيقتها. 2- شروط التوبة. 3- بعض المسائل المتعلقة بالتوبة. 4- خطورة الجهر بالمعاصي. 5- تقلب المؤمن بين الخوف والرجاء. 6- أسباب أخرى لمغفرة الذنوب. 7- فوائد التوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، اتقوا الله واعلموا أن الله قد أوجب التوبة على عباده المؤمنين، فقال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وقال أيضًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [التحريم:8]، وقال سبحانه: وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [هود:3].
وقد أمر النبي بالتوبة والاستغفار ـ كما عند مسلم في صحيحه ـ فقال: ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة)) ، وفي رواية أخرى عند البخاري قال : ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)). فهذا رسول الله الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة، فكيف بمن دونه من الناس؟!
وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة، فالتوبة ـ أيها الإخوة المسلمون ـ واجبة على كل مسلم ومسلمة، وهي واجبة من جميع الذنوب والمعاصي بدون استثناء؛ صغيرة كانت أم كبيرة.
والتوبة ـ عباد الله ـ هي الإقلاع عن الذنب من ترك واجب أو فعل محرم، فهي الرجوع من معصية الله إلى طاعته سبحانه وتعالى.
وكما أن لكل عمل من الأعمال شروطًا ليقبل عند الله, فإن للتوبة شروطًا كذلك, قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8] أي: توبة صادقة، ولتكون التوبة توبة نصوحًا كما قال تعالى وتكون مقبولة وصحيحة يجب أن يتوفر فيها شروط كما سيأتي بيان ذلك.
والتوبة من الذنب ـ عباد الله ـ على حالتين، الحالة الأولى: إذا كان الذنب بين العبد وبين ربه سبحانه؛ أي: إذا كانت المعصية بينك ـ أخي المسلم ـ وبين ربك، ولا تتعلق بحق آدمي آخر، ففي هذه الحالة للتوبة ثلاثة شروط:
الشرط الأول: الإقلاع عن المعصية؛ أن تقلع ـ أخي المسلم ـ عن المعصية, وأن تكف عنها, فإن كنت تاركًا لواجب وجب عليك فعله, وإن كنت فاعلاً لمحرم وجب عليك تركه.
الشرط الثاني: الندم على فعلها؛ أن تشعر بالحزن على فعلك لتلك المعصية، وتتمنى أنك لم تفعلها، قال عليه الصلاة والسلام: ((الندم توبة)).
الشرط الثالث: العزم على عدم الرجوع إلى ذلك الذنب؛ أن تعزم بإرادة قوية في قلبك أن لا تعود أبدًا إلى تلك المعصية مستقبلاً. فهذه هي شروط التوبة إذا كانت المعصية بين العبد وبين ربه سبحانه وتعالى.
وأما الحالة الثانية: إذا كان الذنب بين آدمي وآدمي آخر؛ أن تكون المعصية بينك ـ أخي المسلم ـ وبين عبد أو مسلم آخر, ففي هذه الحالة يجب أن يتوفر في التوبة أربعة شروط؛ الثلاثة التي ذكرناها سابقًا من إقلاع وندم وعزم على عدم العودة, والشرط الرابع: أن يبرَأ التائب من حق صاحبه؛ أي: أن تبرأ ـ أخي المسلم ـ من حق صاحبك الذي اعتديت عليه، فإن كنت أخذت مالاً أو نحوه رددته إلى صاحبه، وإن كانت غيبة استحللته منها، وإن كان حد قذف أو نحوه مكنته من نفسك أو طلبت عفوه، فإن فقد أحد الشروط في تلك الحالتين لم تصح التوبة.
وزاد بعض العلماء في شروط التوبة الإخلاص, أي: أن تكون توبة الرجل خالصة لله تعالى, وأن يقصد بها وجه الله رغبة في مغفرته وثوابه، وخوفًا من عذابه وعقابه، ولا تصح التوبة إذا كانت خوفًا من عصا سلطان، أو رغبة في جاه أو مال أو شيء من عرض الدنيا.
ومما لا يخفى على أحد منا أن أبواب التوبة مفتوحة لكل أحد، ولكن الذي ينبغي أن يعرفه المسلم أن هناك أوقاتًا تغلق فيها أبواب التوبة، الوقت الأول: عند بلوغ الروح الغرغرة، فإذا بلغت الروح الحنجرة أغلقت أبواب التوبة على الإنسان, قال تعالى: وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)) , أي: ما لم تبلغ روحه الحنجرة. أما الوقت الثاني: فهو عند طلوع الشمس من مغربها، قال عليه الصلاة والسلام: ((من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)) رواه البخاري. فإذا طلعت الشمس من مغربها أغلقت أبواب التوبة على الناس جميعًا.
ومن مسائل التوبة ـ عباد الله ـ أنه قد يحدث للمسلم أن يتوب من ذنب أو معصية ما، ثم يمرّ عليه وقت ويقع في الذنب مرة أخرى بعد توبته منه، فوقوعه في الذنب لا يبطل توبته الأولى، ما دام يأتي في كل مرة بشروط التوبة.
ومن المسائل كذلك أن التوبة من بعض الذنوب دون الأخرى صحيحة على الراجح من أقوال أهل العلم، فإذا كان الإنسان تاركًا للصلاة ولا يؤدي زكاة أمواله، فتاب من تركه للصلاة وأصبح يصلي، فتوبته من ترك الصلاة صحيحة، وتبقى عليه معصية وكبيرة منع الزكاة.
وإياك ـ أخي المسلم ـ أن تحقر ذنبًا من الذنوب، وتحسبه صغيرًا فتترك التوبة منه، فقد تحقر ذنبًا وتراه عيناك صغيرًا وهو عند الله عظيم، والذنب الصغير مع الذنب الصغير يتراكم ويصبح كبيرا.
لا تحقرن صغيرة إنّ الجبال من الحصى
وبعض الناس تسول لهم أنفسهم ارتكاب الحرام بنية التوبة، فتسهل عليهم المعصية بهذه الحيلة الباطلة, يقول: أسرق ثم أتوب, أنوي التوبة في قلبي وأسرق, أو أتعامل بالربا بنية التوبة, ثم أتوب, أو أزني بنية التوبة ثم أتوب, وهكذا، فتصبح حيلة للوقوع في المعاصي، وفي الحقيقة كل هذا تلبيس من إبليس، وكيد من مكائده لإيقاع الناس في الحرام، فالمسلم لا يستعمل الحيلة مع الله تعالى, لأنه يدري أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور, والتوبة تحتاج إلى توفيق من الله, وما يدريك لعلك لا توفق إلى أسباب التوبة, ولا إلى طريقها, بعد ارتكابك للمعصية, فتصير غارقًا فيها مدمنًا عليها, أما تدري أن جزاء وعقاب المعصية معصية مثلها أو أكبر منها؟! وما يدريك لعلك تموت قبل التوبة, أو أنك تموت وأنت تقترف تلك المعصية, ولن تغني عنك نيتك شيئًا، فاحذر ـ أخي المسلم ـ من هذه المكيدة الشيطانية.
ومما ينبغي على المسلم أن يعلمه أن الجهر بالمعصية أخطر من الإسرار بها, والجهر بالمعصية أعظم إثمًا وأشد جرمًا من الإسرار بها, قال عليه الصلاة والسلام: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين)) ، والمجاهرون هم الذين يجهرون بمعصية الله جهارًا نهارًا, أمام أعين الناس, لا يستحيون من الله, ولا يستحيون من الناس، فالذي يشرب الخمر أو يعصي الله بنوع من أنواع الفجور والفسوق على قارعة الطريق أمام أعين الناس أعظم إثمًا عند الله من الذي يعصيه في كل هذا وهو يستر نفسه، ويستر معصيته عن أعين الناس.
((كل أمتي معافى إلا المجاهرين)) ، لأن الجهر بالمعصية أمام الناس ـ عباد الله ـ فيه شيء من الاستحلال, ونوع من التحدي لله في محارمه أمام عباده, والجهر بالمعصية من موجبات غضب الله وسخطه وعذابه، والجهر بالمعصية فيه دعاية ودعوة وإشهار للحرام, ويورث في قلوب الناس الرغبة في ارتكابها؛ فالناس مفطورون على حب التوافق ومشابهة بعضهم بعضًا, خاصة عند قصار العقول وضعاف النفوس, فيزين لهم الشيطان ارتكاب الحرام، فيكثر الفساد, ويشيع وينتشر في أوساط المسلمين، فمن ستر معصيته عن أعين الناس وستر نفسه معترفًا بذنبه ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة ووفقه للتوبة. وأما من فضح نفسه, وأعلن وجهر بذنبه أمام الناس, كان وبال أمره خسرًا, وعقابه عند الله كبيرًا, ولم يكن من المعافين كما قال عليه الصلاة والسلام.
ومن الناس من تجده قد أسرف على نفسه بكثرة الذنوب والمعاصي حتى غرق فيها، ويرى نفسه أنه قد هلك بها, فيدخله القنوط واليأس من رحمة الله, وإذا تذكر التوبة قال: ذنوبي كثيرة وكبيرة وثقيلة, فأنى يغفر لي؟!
ومثل هذا نقول له: استمع ـ يا أخي المسلم المذنب ـ إلى هذا النداء الرباني، نداء الرحمن الرحيم، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، وقال تعالى عن يعقوب: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، وقال أيضًا: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ [الحجر:56].
فلا تقنط من رحمة ربك لكثرة ذنوبك, فإنه لا يقنط من رحمة الله إلا القوم الكافرون, وتب إلى الله, فأبواب التوبة مفتوحة، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم في صحيحه: ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل, حتى تطلع الشمس من مغربها)). فلا تقنط ولا تيأس أبدًا ـ أيها المسلم ـ من رحمة الله الواسعة، فكم من تائب عن ذنوب كثيرة وعظيمة تاب الله عليه، قال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:68-70].
هذا من جهة, ومن جهة أخرى من الناس من هو منهمك في معصية الله تعالى, إما أن يكون تاركًا لواجبات أو مرتكبًا لمحرمات, أو قد خلط بين الأمرين، وإذا ذكرته بالله وقدمت له النصيحة وقلت له: يا أخي, تب إلى الله, دع عنك هذا الأمر الخبيث, يقول لك بكل ارتياح وطمأنينة: ربي غفور رحيم. فنقول: نعم صدقت، إن الله غفور رحيم، قال تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر:49]، ولكن بعد ذلك: وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:50].
نعم ربنا غفور رحيم, ولكنه سبحانه في نفس الوقت شديد العقاب وعذابه أليم، غفور رحيم لمن اعترف بذنبه, وتاب وآمن وعمل صالحًا, وشديد العقاب لمن تكبر على الله تعالى، وأصر على ذنبه، وتهاون في الرجوع والتوبة، فلا يجوز للمسلم أن يتكل على رحمة الله وهو متمادٍ في العصيان، وقد كان من تمام منهج الأنبياء والصالحين عبادة الله بين الخوف والرجاء، الخوف من عذابه وسخطه، والرجاء لرحمته وثوابه، فلا يؤخذ بالرجاء ويهمل الخوف، أو العكس، بل يؤخذ بهما معًا.
فإذا رأيت من نفسك ـ أخي المسلم ـ قنوطًا ويأسًا استحضر رحمة الله، وإذا رأيت من نفسك تقصيرًا وميلاً للعصيان استحضر خوف الله, وهكذا يعيش المسلم بين الخوف والرجاء, وهكذا كان دأب الأنبياء والمؤمنين الصالحين الأولين, حتى امتدحهم الله في كتابه فقال: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16] أي: خوفًا من عقابه, وطمعًا في رحمته.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة الأعزاء، يقول النبي : ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) ، فلا أحد معصوم عن الخطأ والمعصية، وكلنا نخطئ، وكلنا نذنب، ونقع في العصيان، والمعصوم من عصمه الله تعالى، ولكن الذنب الأكبر في عدم التوبة والاستغفار، قال من رواية مسلم: ((لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقًا يذنبون، يغفر لهم)) ، ومعنى الحديث أي: لولا أننا ـ معشر البشر ـ نذنب ونستغفر, لذهب الله بنا, وجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم، لأن الله يحب أن يغفر لعباده, ويحب من عباده ـ على ما اقترفوه من ذنوب ـ أن يكونوا توابين ومستغفرين، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222], ولم يقل: التائبين, بل قال: التَّوَّابِينَ على صيغة المبالغة التي تدل على كثرة تكرار التوبة لله تعالى.
عباد الله، إن مما يمحو الله به المعاصي والذنوب التوبة النصوح، وزيادة على هذا فقد جعل الله برحمته أسبابًا لمغفرة الذنوب والمعاصي، ومن أعظم هذه الأسباب توحيد الله تعالى وعدم الإشراك به، قال تعالى في الحديث القدسي الذي رواه مسلم: ((ومن لقيني بقُراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئًا لقيته بمثلها مغفرة)).
ومن موجبات المغفرة كذلك إفشاء السلام وحسن الكلام، روى الطبراني بسند صحيح أن النبي قال: ((إن موجبات المغفرة بذل السلام وحسن الكلام)).
ومن الأسباب كذلك التي يمحو الله بها الخطايا والذنوب الصلاة والأعمال الصالحة، قال تعالى: وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114]. ففعلك للحسنات ـ أخي المسلم ـ يذهب السيئات ويمحوها, وقد قال : ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) ، وقد ثبت في السنة الصحيحة أن الوضوء والصلاة والتسبيح بعدها والعمرة والحج وصيام رمضان وصلاة الجمعة وكل أعمال البر من فعل الخيرات والطاعات مما يحط الله بها الخطايا، ويمحو بها السيئات، وذلك ذكرى للذاكرين.
أيها المسلمون، إن للتوبة والاستغفار فوائد عظيمة، تعود على المسلم التواب المستغفر بالخير في الدنيا والآخرة؛ فإن التوبة توجب محبة الله تعالى، قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]. والتوبة توجب الفلاح, قال عز وجل: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. والتوبة والاستغفار يدفعان عذاب الله عنا, قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]، فلا ينزل عذاب الله على عباد الله إن هم لازموا التوبة والاستغفار.
ومن الفوائد كذلك أن الاستغفار يبسط الرزق ويكثره، ويأتي بالمال والبنين، حتى كان بعض السلف إذا أراد الولد جدد توبته لله ولازم الاستغفار، قال تعالى عن نوح: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].
صدق الله العظيم، وبلغ رسوله الكريم، وجعلنا الله وإياكم من الصادقين.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا للتوبة النصوح, وأن يجعلنا من التوابين المستغفرين.
اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر, والفوز بالجنة والنجاة من النار.
(1/2788)
موعظة القيامة
الإيمان
اليوم الآخر
يزيد بن الخضر ابن قاسي
بوزريعة
20/12/1423
علي مغربي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإخبار عن قرب وقوع الساعة في القرآن الكريم. 2- أول ما يحاسب عليه العباد يوم القيامة. 3-حال المؤمنين يوم القيامة. 4- حال الكافرين يوم القيامة. 5- خذلان الشيطان لأتباعه.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُون [الأنبياء:1، 2].
أيّها المؤمنون, إن الله قد بعث نبيه محمدًا بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، فحذر قرب قيام الساعة في أحاديث كثيرة، قال عليه الصلاة والسلام كما جاء في صحيح البخاري: ((بعثت أنا والساعة هكذا)) ويشير بإصبعيه فيمدّ بهما. يشير بذلك إلى قرب قيام الساعة.
عباد الله، إنّ أكثر العلامات الصغرى لقيام الساعة قد ظهرت في زماننا هذا، كما أخبر النبي ، وهذا ينبئ عن قرب حدوث العلامات الكبرى، قال تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ [محمد:18]، وقال تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُون [الأنبياء:1، 2]، وقال أيضًا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2]، وقال سبحانه: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ أي: أطرافَ أصابعه التي تحوي بصمات الإنسان، ولكل إنسان بصماته الخاصة به كما قرره العلم الحديث، وهذا من إعجاز القرآن، بَلْ يُرِيدُ الإنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلا لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة:1-13].
قال عليه الصلاة والسلام: ((من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين، فليقرأ: إذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت وإذا السماء انشقت )) ، يقول سبحانه وتعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكرير:1-5] إلى آخر السورة.
وقال تعالى في سور الانشقاق: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:1-6] أي: إنك ساع إلى ربك، وعامل عملاً، وستلقى ما عملت من خير وشر.
وقال أيضًا: إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [الانفطار:1-9]. هذه السور والآيات تصوّر لنا مشاهد يوم القيامة وأهوالها كأنها رأي عين.
قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون َوَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إَِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُون [الزمر:67، 68].
و يُبعث الناس من قبورهم ويحشرون، تصور ـ أخي المسلم ـ هذا اليوم الذي تجتمع فيه كل الخلائق؛ إنسهم وجنهم، مؤمنهم وكافرهم، كبيرهم وصغيرهم، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:94، 95]، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غُرلاً)) ، قلت: يا رسول الله، النساء والرجال جميعًا, ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال : ((يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظرَ بعضُهم إلى بعض)) متفق عليه. يحشر الناس حفاة عراة غرلاً أي: غير مختونين، حتى القطعة الصغرة من اللحم التي تنزع من الصبي في صغره ينشئها الله يوم القيامة.
فيبدأ الحساب, ويضرب الصراط على جهنم, قال : ((ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)) متفق عليه.
وقال : ((أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله)). الصلاة الصلاة يا عباد الله، من أقامها وأدّاها بشروطها كان من الناجين المفلحين، ومن تركها لم يكن له حظ من هذا الدين، وكان من الخاسرين.
وقال : ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)) متفق عليه. فيا قاتل النفس، ويا مستحلَّ دماء المسلمين، أين أنت من هذا اليوم العظيم، يوم تقف أمام رب العالمين؟
وقال : ((لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه ما فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسده فيما أبلاه؟)).
عباد الله، كما أن القرآن صوّر لنا مشاهد يوم القيامة وأهوالها، فهو قد صور لنا كذلك حال الناس يوم القيامة، قال تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:66، 67]، فلا تجد صحبة ولا خلّة إلا وتحولت إلى عداء يوم القيامة، إلا صحبة المتقين.
وقال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101] فلا ينفع نسب، ولا صحبة، ولا قرابة، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونٌ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلاَّ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا [لقمان:33]، وقال تعالى: فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:33-37]. كل امرئ يومئذ له كلمة واحدة يرددها، يقول: نفسي، نفسي، نفسي.
وأما عن حال المؤمنين فقد قال سبحانه: يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم:8].
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الحديد:12]. ويؤتى المؤمن كتابه بيمينه، ويطمئن إلى ما فيه قال سبحانه: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا [الانشقاق:7-9]، وقال أيضًا: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَؤوا كِتَابِيه إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيه فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:19-24].
وبعد ذلك يساق المؤمنون إلى الجنان، ويحيّون فيه بسلام، قال سبحانه: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأََرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:73-75].
تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ ولا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
وأما حال الكفار الظالمين المجرمين المفسدين فقد صور لنا ربنا حالهم في كتابه، قال سبحانه: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:47-49].
وقال سبحانه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى وَكَذَلِكَ َنجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:124-127].
وكذلك ذكر الله حال الظالم فقال سبحانه: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً أي: اتبعت طريق الرسول، يَا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خليلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29] أي: يا ليتني لم أصاحب ولم أعاشر فلانًا، لقد أضلني عن ذكر الله والصلاة.. وقد قال : ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)) ، وقال : ((لا تصاحب إلا مؤمنًا)).
ثم يأتي الظالم الكافر الفاجر ليأخذ كتابه، قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيه خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ نَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ أي: فليس له اليوم صاحب, ولا ناصر, ولا حميم، وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ [الحاقة:25-37].
ويصوّر لنا ربنا عز وجل حال أعدائه, وهم يحشرون إلى النار, وكيف تشهد عليهم حواسهم بما كانوا يعملون, قال تعالى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاؤوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا يخاطبون جلودهم: لم تشهدون علينا؟ أولستم جزءًا منا؟! قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنْ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:19-24].
ويساق الكفار والمنافقون إلى جهنم أفواجًا أفواجًا، قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:71، 72].
ويقول سبحانه: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:6-11].
ومع هذا كله جهنم تطلب المزيد، قال تعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30].
والقرآن يحكي لنا تساؤل أهل الجنة عن المجرمين، وما سبب دخولهم النار، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنْ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ أي: ما الأسباب التي أدخلتكم جهنم؟ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:38-48].
ومن شدة العذاب يتمنى أهل النار الموت، وهم لا يحيون ولا يموتون، ويريدون أن يعتذروا لرب العالمين: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:77، 78]، وقال سبحانه وهو يرد عليهم: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَؤوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:105-111].
فلا تحزن ـ أخي المسلم ـ لما يصيبك من سخرية أو استهزاء لما أنت عليه من الإيمان والعبادة والالتزام، فإنها بشرى لك بالخير من رب العالمين، وهي بشرى سوء للمستهزئين.
ويوم القيامة يتبرأ الأسياد والكبراء من الأتباع, ويتلاعنون فيما بينهم, قال سبحانه: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ [البقرة:166، 167].
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب:64-68].
هذا هو حال أهل النار كما حكاه لنا ربنا في كتابه، يتلاعنون ويتخاصمون، ويلقون اللوم على أسيادهم وكبرائهم الذين أضلوهم السبيل، ولم يغن ذلك عنهم من الله شيئًا، وهم في النار خالدون.
عباد الله، والأدهى والأمرّ ما أخبرنا ربنا عز وجل عنه من تبرّؤ الشيطان الرجيم من أهل النار، حيث يقوم فيهم خطيبًا، قال تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ ثم قال تعالى: إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم:22].
هكذا الشيطان ـ عباد الله ـ يخذل من اتبعه، قال تعالى: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنسَانِ خَذُولاً [الفرقان:29]، وقال تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16].
عباد الله، يقول تعالى: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب:63]، ويقول: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا [المعارج:6، 7], وقال سبحانه: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَّ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33].
وخير ما نختم به ما جاء في الصحيح من حديث أنس: أن رجلاً من أهل البادية أتى النبي فقال: يا رسول الله، متى الساعة قائمة؟ قال: ((ويلك، وما أعددت لها؟)) قال: ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله، قال: ((إنك مع من أحببت)) ، فقلنا: ونحن كذلك؟ قال: ((نعم)) ، ففرحنا يومئذ فرحًا شديدًا. وفي رواية أخرى: ((المرء مع من أحب)).
نعم ـ أيها الإخوة المسلمون ـ المرء مع من أحب يوم القيامة، فمن أحب الله وأحب رسوله محبة إيمان وعبادة وطاعة وأحب أولياء الله من الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين كان معهم يوم القيامة. ومن أحب الشيطان وأحب أعداء الله من الكافرين والظالمين والمجرمين كان معهم يوم القيامة.
اللهم إنا نسألك حبك, وحب نبيك, وحب من يحبك, وحب الفقراء والمساكين.
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:53].
(1/2789)
خطورة اللسان وآفاته
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
يزيد بن الخضر ابن قاسي
بوزريعة
3/6/1424
علي مغربي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم تأثير اللسان على الجوارح. 2- الحث على حفظ اللسان في السنة. 3- حرص السلف على حفظ ألسنتهم. 4- بعض آفات اللسان والتحذير منها.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، اتّقوا الله واعلموا أن الله قد أمرنا بحفظ الجوارح عن الآثام، وإن أخطر الجوارح وأعظمها شؤمًا وأشدها خطرًا على الدين هو اللسان، ولهذا أمرنا الله تعالى بحفظه فقال عز وجل: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17-18].
في هذه الآية الكريمة تذكير للمؤمنين برقابة الله عز وجل للإنسان، في كل لحظة من لحظاته، وفي كل حال من أحواله، حتى فيما يصدر عنه من أقوال، وما يخرج من فمه من كلمات؛ كل قول محسوب له أو عليه، وكل كلمة مرصودة مكتوبة مسجلة في سجل أعماله: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ، يسجله الملكان في الدنيا، ويوم القيامة ينكشف الحساب، ويكون الجزاء.
إنه اللسان عباد الله، هذه الجارحة التي تتكلم بالخير والهدى والرضوان، فتكسب صاحبها المحبة والعفو والغفران، فيفوز بالجنان، وقد تتكلم بكلمة السوء والضلالة والعصيان، فتوبق صاحبها في الشرور والشقاوة وغضب الرحمن. كم من كلمة صالحة كانت سببًا لدخول صاحبها في رضوان الله تعالى، وكم من كلمة سيئة أدت بصاحبها إلى عذاب الله تعالى.
روى الإمام أحمد والترمذي عن بلال بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم القيامة. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله عز وجل، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل بها عليه سخطه إلى يوم القيامة)) ، وأخرج البخاري في صحيحه أن النبي قال: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى، لا يلقي لها بالاً، يرفعه الله بها درجات. وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم)).
وصحّ من رواية الترمذي أن معاذ بن جبل رضي الله عنه جاء إلى رسول الله يستنصحه عن عمل يدخله الجنة ويباعده عن النار، فأخبره عن أعمال صالحة شتى، ثم قال له : ((ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟)) فقال: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه قال: ((كفّ عليك هذا)) ، فقال معاذ: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم؟!)) أي: ما يدخل الناس جهنم إلا بسبب ما تكلمت به ألسنتهم من الحرام.
كلمة واحدة من رضوان الله قد تكون سببًا في دخولك الجنة، وكلمة واحدة من سخط الله قد تكون سببًا في دخولك النار، إنها هذه الجارحة، هذه القطعة من اللحم التي تتقلب في أفواهنا.
روى الترمذي عن رسول الله قال: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تُكَفر اللسان ـ أي: تخضع وتذل ـ فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)).
و اللسان ـ عباد الله ـ ترجمان القلب، وقد أمرنا الله عز وجل بالمحافظة على استقامة قلوبنا، واستقامة القلب مرتبطة باستقامة اللسان، ففي الحديث الذي رواه الإمام أحمد: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)).
ومن هنا ـ أيها الإخوة الكرام ـ كان حريًا بالمسلم أن يضبط لسانه، وأن يحفظه عن جميع الكلام إلا ما ظهرت فيه المصلحة، فإن كان خيرًا تكلم، وإلا سكت، والسكوت في هذه الحالة عبادة يؤجر عليها، وهذا مصداقًا لقول رسول الله كما في الصحيح إذ يقول: ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)).
ولهذا كان سلفنا الصالح يتعبدون الله بالصمت والسكوت، ويبتعدون كل البعد عن اللغو في الكلام، ويعرضون عنه، وقد امتدح الله تعالى أهل هذه الصفة في كتابه حيث قال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:1-3].
لقد كان خوف السلف من آفات اللسان عظيمًا, فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يقول: (ما من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان)، وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: (أنصف أذنيك من فيك ـ أي: من فمك ـ فإنما جعلت لك أذنان وفم واحد، لتسمع أكثر مما تكلم به)، وقال عمر رضي الله عنه: (من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به), وكان ابن عباس رضي الله عنهما يأخذ بلسانه ويقول: (ويحك قل خيرًا تغنم، واسكت عن سوء تسلم، وإلا فاعلم أنك ستندم).
فاتقوا الله عباد الله، واضبطوا ألسنتكم، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تتلفظوا، فما كان خيرًا فتكلموا به، وما كان سوءًا فدعوه، واحذروا من آفات اللسان, فإنها لا تزال بالمرء حتى تهلكه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول ما تسمعون.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن اللسان ـ عباد الله ـ هو الآلة المسببة لكثير من الأمراض التي تصيب وتفسد العلاقات الاجتماعية، ومن هذه الأمراض والآفات: الغيبة والنميمة اللتان حرمهما الله عز وجل، والقذف والافتراء والكذب والبهتان والزور وغيرها، فاللسان في هذا كله له أكبر نصيب، وإذا ترك الإنسان لسانه يخوض في هذه الآفات، ويلغو في هذه الأعراض، كان عرضة لوعيد شديد، وللإفلاس يوم القيامة، وشتان بين إفلاس الدنيا وإفلاس الآخرة. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: ((إن المفلس من أمتي من يأتى يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيَت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)).
وإن من آفات اللسان ما نلاحظه في بعض المجالس والاجتماعات من بذاءة في الألفاظ وفحش في الكلام ومن سب ولعن وشتم بأساليب عديدة، تجري على الألسنة بسهولة ويسر، ودون تفكير في العاقبة، ونخصّ بالذكر ـ لأنه الأدهى والأمر ـ ما نسمعه من ذلك في الخصومات بين الناس، من سبّ لله سبحانه وتعالى، أو سبّ رسوله الكريم ، أو سبّ دينه الحنيف، وقد شاع وانتشر في أوساط الناس، حتى سمعناه من النساء والصبيان، لما تساهل الناس فيه، ويحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم.
إنه ـ والله ـ لمصيبة عظمى وطامة كبرى أن تسمع سبّ الله تعالى أو سب دينه، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًا, أن عمدوا لمثل هذا السب، فهؤلاء الناس قد هان في قلوبهم تعظيم رب العالمين، فلو كان عندهم تعظيم لله العظيم، وكانوا على تقوى وخوف منه، لما تجرّؤوا على مثل هذا، لأن اللسان ـ عباد الله ـ ترجمان القلب, وهو دليل عليه.
والحقيقة أن هؤلاء اتخذوا هذا الأسلوب تخويفًا للناس ورمزًا وإعلانًا وشعارًا للتجبر، ولإظهار القوة والشجاعة الشيطانية، أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى، أما يخشى هذا الساب أن تقبض روحه وهو في تلك الحالة؟! وقد وقع مثل هذا, فقد حدثني غير واحد ممن أعرف كانوا شهودَ عيان على من قبضت روحه، وهو يسبّ الله تعالى والعياذ بالله، فيا لها من سوء خاتمة وسوء عاقبة، والنبي يقول: ((وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم)) ، قال كلمة فقط في سخط الله، فما بالكم بمن سبّ الله عز وجل أو سب دينه وتقصد ذلك بأفحش السباب؟!
اعلموا ـ عباد الله ـ أن سب الله تعالى أو سب رسوله أو سب دينه من الكفر المخرج من الملة بالإجماع، وهو ردة عن الإسلام، فمن وقع في مثل هذا فليجدد إسلامه، وليتب إلى الله تعالى.
وإن من آفات اللسان ـ عباد الله ـ الاستهزاء بأمور الدين، فبعض الناس يتجرؤون بألسنتهم على الاستهزاء بشيء من أمور الدين، ومنهم من يفعل ذلك ليضحك الناس, كأن يسخر بشعيرة من شعائر الإسلام، أو سنة من سنن النبي ، فاعلموا ـ عباد الله ـ أن الدين وشعائره وأحكامه مقدسة، ومن استهزأ بشيء من أمور الدين فقد كفر بإجماع المسلمين، قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65، 66].
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا أن يوقعكم الشيطان في مثل هذا الكفر، واحفظوا ألسنتكم من كل آفة وسوء، واجعلوا لسانكم منطق خير، رطبًا بذكر الله تعالى.
(1/2790)
المعجزة الخالدة
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
يزيد بن الخضر ابن قاسي
بوزريعة
10/6/1424
علي مغربي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من معجزات إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. 2- تحدي القرآن الكريم للعرب. 3- الإعجاز الوارد في سورة المسد. 4- صور أخرى من إعجاز القرآن. 5- القرآن الكريم منهج حياة. 6- صور هجر القرآن الكريم.
_________
الخطبة الأولى
_________
إنّ الله اصطفى الأنبياء والمرسلين، وجعلهم رسلاً إلى أقوامهم، مبشرين ومنذرين، وخص كل واحد منهم بمعجزات تتناسب مع عصره وقومه، فهذا إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام أرسله الله إلى قومه وكانوا يعبدون الأصنام، وكانوا على سذاجة العقل والفهم، وسفه الفكر والرأي، فآتى الله إبراهيم الحجة والبيان، فبهتوا واعترفوا، ولكن أصروا على الكفر والعناد، فأرادوا إحراقه انتقامًا وانتصارًا لآلهتهم، فجاؤوا به فألقوه في النار، وكان من المفترَض أن تنتقم هذه الآلهة ـ إذا كانت تملك لنفسها ضرًا أو نفعًا ـ ممن سفّهها وحطّمها، ولكنهم حين ألقوه في النار جاءت المعجزة الربانية، قال تعالى: قُلْنَا يا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْراهِيمَ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَهُمُ الأخْسَرِينَ [الأنبياء:70].
فالله سبحانه وتعالى أيّده بمعجزة لا يستطيع عقل سليم أن ينكرها، أيده بمعجزة تخالف السنن الكونية وما جرت عليه العادة من أن النار تحرق، فأبطل الله مفعول إحراقها، فكانت بردًا وسلامًا على إبراهيم، حتى القيود التي ربطوه بها احترقت، وانفك قيده، وهو لم يحترق حتى في أماكن القيد، ينظرون إلى النار وهي مشتعلة متأججة ومحرقة مدمّرة، وإبراهيم بداخلها معافى سالمًا، فتبين كذب وخذلان وبطلان ما كانوا يعبدون من دون الله، وتبينت معجزة رب إبراهيم، إنها قدرة الله سبحانه، فكل شيء في الكون خاضع لإرادته.
وهذا موسى عليه السلام أرسله الله إلى بني إسرائيل، وكان في ذلك العصر قد استحكم السحر وقوي كيد الساحرين، فأيده الله بالمعجزات مما أبطلت السحر وأخضعت السحارين، بل وجعلتهم مسلمين، قال تعالى: وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:113-122].
وهذا عيسى عليه السلام أرسله الله إلى قومه من بني إسرائيل، وكان في ذلك العصر قد ظهر الطبّ واشتهر، فأيده الله بمعجزات أعجزت الأطباء، قال تعالى: وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ [آل عمران:49] إلى آخر الآيات.
وهذا نبينا المصطفى محمد بن عبد الله، خاتم الأنبياء والمرسلين، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أرسله الله إلى العالمين أجمعين، وبعث في قومه من العرب ذوي الفصاحة في اللسان والبلاغة في الكلام، وتميزوا بحسن الأداء وجمال المنطق وسلاسة التعبير، فأيده الله بمعجزة القرآن التي أذهلت عقولهم، وقرعت مسامعهم، وأبكمت ألسنتهم، وتحدّاهم أن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا عن ذلك، بل تحدى الله به الخليقة جميعًا إنسًا وجنًا: قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88].
ومعجزة القرآن لم تقتصر على الإعجاز بالبلاغة فقط، ولكن كانت أيضًا بالإخبار عن أمور غيبية كثيرة لا يمكن معرفتها إلا عن طريق الوحي من الله تعالى، لقد تطرق القرآن إلى أمور كثيرة، وتنبأ بِأشياء عديدة، ولو لم تصحّ واحدة منها لكانت كفيلة بهدم الدين كله، ومنها كفر أبي لهب، قال تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1].
لقد نزلت هذه السورة في عم رسول الله ، وأخبرنا القرآن أنه سيبقى على حاله من الكفر، ويموت على ذلك، ويدخل النار، ولم يكن لرسول الله أن يتنبأ بهذا، لأن النبي لا يعلم الغيب، وكان حريصًا على دعوة قومه، وعلى إدخالهم في الإسلام بلا استثناء، وكان من الممكن أن يكون حال أبي لهب ـ مستقبلاً ـ كحال كثير من المشركين الذين اهتدوا بعدما كانوا كفارًا؛ كخالد بن الوليد وعمر بن الخطاب وعمرو بن العاص وآخرهم أبو سفيان رضي الله عنهم، ولكن لم يحدث ذلك لأبي لهب لجزم القرآن أنه سيموت كافرًا.
وكان من الممكن عند نزول سورة المسد أن يستخدم أبو لهب آياتها سلاحًا يحارب به الإسلام، وكان يكفي أن يذهب إلى أيّ جماعة من المسلمين، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمّدًا رسول الله، نفاقًا أو رياءً، ليهدم الإسلام، ويشكك في القرآن، كان بإمكانه أن يفعل هذا، ولكن لم يصل عقل أبي لهب إلى هذا التفكير، بل بقي كافرًا مشركًا، ومات على ذلك.
والمعجزة هنا أن القرآن تحدّى أبا لهب في أمرٍ اختياري، كان من الممكن أن يقوله، ومع ذلك هناك يقين أن ذلك لن يحدث، لماذا؟ لأن الله الذي نزل هذا القرآن يعلم أنه لن يتأتّى لأبي لهب التفكير بتكذيب ما جاء به القرآن عنه، فهل هناك إعجاز أكبر من هذا؟!
وفي هذه المعجزة دليل من الأدلة القاطعة في الرد على بعض الكفرة والعلمانيين، ممن لم يعرفوا من القرآن إلا اسمه، يتبجحون ويقولون: إن القرآن من تأليف محمّد، وإنه ليس منزلاً من عند الله. قولوا لي بربكم: هل يستطيع بشر أن يطّلع الغيب، ويعلم خاتمة مُعاديه، ويجزم بها، ويرهن صدق دعوته بذلك، مع وجود الفرصة والقدرة والاختيار عند عدوه لتكذيب دعواه، إن لم يكن ذلك من الله علام الغيوب.
ومن أمثلة تحدي القرآن في أمور غيبية انتصار الروم على الفرس، فقد كانت هناك أمتان قويّتان في عهد النبي : الفرس والروم، وكانت فارس ظاهرة على الروم، وكان مشركو قريش يحبّون أن تظهرَ فارس على الروم، لأنهم كانوا مجوسًا وأصحاب أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس، لأنهم أهل كتاب، فلما انتصر الفرس في معركة بالشام قريبًا من الأردن، وسحقوا الروم، توقع الناس أنه لن تقوم للروم قائمة بعد ذلك.
عندها نزل القرآن ليواسي المؤمنين، قال تعالى : الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ، ثم يمعن القرآن في التحدي: وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الروم:1-6].
هل يستطيع الرسول أن يتنبأ بمعركة حربية؟ لقد أصبحت قضية إيمانية كبرى، حتى إن أحد الصحابة راهن أحد المشركين على صحة ذلك، ماذا كان يمكن أن يحدث لو لم تحدث معركة في بضع سنين أو لو حدثت وانهزم الروم؟ وما الذي يدعو الرسول لمخاطرةٍ لم يطلبها منه أحد، قد تهدم القرآن إن كان القرآن من عنده؟ لأن القائل هو الله، علام الغيوب، ومن هنا كان ما جاء في الآية يقينًا سيحدث.
فحدثت الحرب، وانتصر الروم على الفرس حقيقة كما أخبر القرآن في بضع سنين، والبضع في كلام العرب من ثلاثة إلى تسعة.
ولم تتوقف معجزات القرآن عند الإخبار بأمور ستحدث، ولكن هناك معجزات كثيرة جدًا علمية, لم يتوصل إليها العلم إلا مؤخرًا.
من هذه المعجزات إخباره بعلم الأجنّة وما فيه من أطوار، قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظاَمَ لَحْمًا [المؤمنون:13، 14]. كل هذه الأطوار اكتشف العلم الحديث صحتها.
وهكذا، فإن المعجزات في القرآن الكريم كثيرة، ولا حصر لها، والعلم كلما تقدم يكتشف أمورًا أخبر عنها القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرنًا.
والقرآن خاتم الكتب السماوية، ليس له عصر معين في إعجازه، ولا زمن محدد في تحديه للبشرية كلها، إنه سيظل معجزة خالدة باقية، فيه إعجاز لكل العصور، لمن عاشوا قبلنا، وفي عصرنا، ولمن سيأتون من بعدنا، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن القرآن ـ عباد الله ـ يهدي لأصح الطرق وأوضح السبل، يهدي للتي هي أقوم، قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]. فالله سبحانه هو الذي خلق الناس، ويعلم ما ينفعهم وما يضرهم، ويعلم ما يصلحهم وما يردعهم، وما يليق بهم في معاشهم وشؤون حياتهم، فهو الحكيم الخبير، فما جعل الله في القرآن من أحكام، وما جعل فيه من شرائع وقصاص وحدود، فهي أهدى وأقوم وأصوب من غيرها، قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]، وقال أيضًا: لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
والقرآن يُذهب ما في القلوب من أمراض الشك والنفاق والشرك والزيغ والوساوس وضيق الصدر، وبه يحصل الإيمان والحكمة، وليس هذا إلا لمن آمن بالقرآن وصدقه واتبعه، قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا [الإسراء:83].
عباد الله، إن هذا القرآن أنزل ليكون منهج حياة هي خير حياة وأسعدها، ومرشدًا إلى سبيلٍ هو أقوم سبيل وأنجحه، يهذبُ النفوس ويزكيها، ويقوِّم الأخلاق ويعليها، يقودُ من اتبعه إلى سعادة الدارين، وينجيه من شقاوة الحياتين، قال تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:123، 124].
أيها المسلمون، ينبغي أن تسري عظمة القرآن في نفوسنا، وأن تلين له جلودنا، بعد أن تخشع له قلوبنا، فتلكم الهداية التي أخبرنا الله عز وجل عنها: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23]. وكيف لا تقشعر جلودنا وتلين قلوبنا وربنا يخاطبنا ويقول: لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدّعًا مّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21].
أيها المؤمنون، إنه من الأسف الشديد أن كثيرًا من الناس في هذا الزمان قد وقعوا في هجر القرآن، ولربما تجد بعضهم يمر عليهم الأسبوع أو الشهر وهم لم يقرؤوا أو لم يسمعوا آية من القرآن، ولقد شكا النبي إلى ربه من هجر القرآن، قال تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يا رَبّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30].
والهجر للقرآن أنواع:
الأول: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه، فتجد بعضهم يستمع إلى إذاعات الدنيا، ويستمع إلى أنواع منوعة من الأغاني الساقطة الماجنة، ويحرم نفسه من سماع القرآن، وإذا مر بسمعه القرآن أغلق الجهاز أو المذياع، كأن القرآن يزعجه، أو يذكره بشيء لا يريده، وتجد البعض يقرأ كل ما يجده من مجلات وجرائد مختلفة، ويحرم نفسه من القراءة في المصحف، ولو لآيات قليلة: وَقَالَ الرَّسُولُ يا رَبّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُورًا. وبعضهم قد خصوا قراءة القرآن وسماعه في الجنائز فقط، والله المستعان.
الثاني: هجر تحكيمه وأحكامه وحدوده وقصاصه، وهجر التحاكم إليه في أصول الدين وفروعه.
الثالث: هجر تدبره وتفهمه، ومعرفة ما أراد الله سبحانه به.
الرابع: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب والنفوس، فيطلب شفاء الداء من غيره، كما يفعل بعض من هجر الاستشفاء والرقية بالقرآن، وذهب إلى السحرة والكهان والمشعوذين والعياذ بالله.
الخامس: هجر العمل به، والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.
(1/2791)
السنة النبوية
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
يزيد بن الخضر ابن قاسي
بوزريعة
17/6/1424
علي مغربي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفضل الله تعالى على عباده بإنزال الكتاب والسنة. 2- تكفل الله تعالى بحفظ القرآن الكريم. 3- المقصود بالسنة. 4- عقيدة المسلم في سنة النبي. 5- التحذير من مخالفة الرسول.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن الله قد أنعم علينا بنعمتين عظمتين، هما من أثبت وأشرف النعم، قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [البقرة:231].
فالنعمة الأولى التي ذكرها الله تعالى هي نعمة إنزال القرآن، فالقرآن ـ عباد الله ـ هو النعمة الباقية والعصمة الواقية والحجة البالغة والدلالة الدامغة، وهو شفاء لما في الصدور والحكم العدل عند مشتبهات الأمور، وهو الكلام الجزْل، وهو الفصل الذي ليس بالهزل، سراج لا يخبو ضياؤه، وشهاب لا يخمد نوره وسناؤه، وبحر لا يُدرك غورُه، بهرت بلاغتُه العقولَ، وظهرت فصاحته على كل قول ومقول، قال تعالى: قَدْ جَاءكُمْ مّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة:15، 16].
إنه كتاب ربنا، هذا الكتاب الذي بين أيدينا، نزهه ربنا عن الخطأ والزلل، وجعله فصلاً في كل أمر، وصالحًا في كل زمان ومكان، لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
وقد وعد الله بحفظ كتابه من عبث العابثين وتحريف الغالين، فقال جل وعل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فالقرآن محفوظ من التبديل والتغيير، ولا يزال إلى وقتنا الحاضر محفوظًا بسوره وآياته وكلماته وحركاته، كما تلاه جبريل على رسول الله ، وكما تلاه رسول الله على صحابته رضوان الله عليهم أجمعين.
وأما النعمة الثانية المذكورة في الآية الكريمة فهي نعمة الحكمة، والمراد بها السنة، فقد وردت السنة في القرآن الكريم بلفظ الحكمة في آيات عديدة، ووردت مقرونة بالكتاب أي: بالقرآن, قال سبحانه: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا [الأحزاب:34]، وقال تعالى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، وقال أيضًا: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:151].
قال الإمام الشافعي رحمه الله: "وذكر الله منته على خلقه؛ بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز ـ والله أعلم ـ أن يقال الحكمة ها هنا إلا سنة رسول الله ".
ومن الأدلة كذلك على ورود السنة في القرآن ما جاء في قوله تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44]، فقول الله لنبيه: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ دليل على أن هناك تبيانًا وشرحًا من رسول الله للناس، زائد على الذكر الذي أنزل وهو القرآن، وهذا التبيان والشرح من رسول الله هو المقصود بالسنة، وهي متمثلة في أقواله وأفعاله وطريقته.
فالسنة إذًا ـ عباد الله ـ هي كل ما شرعه النبي من أحكام، سواء بقوله أو فعله أو تقريره.
وإنه من الخطأ أن تفهم السنة بمعنى المستحب فقط، كما يفهمها عامة الناس؛ يعني: إن فعلت أُجرت، وإن لم تفعل لم تأثم. والحق والصواب أن السنة تشمل الأمر والنهي، منها ما هو واجب تأثم على تركه، ومنها ما هو محرم تأثم على فعله، ومنها ما هو مستحب.
والسنة ـ عباد الله ـ هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي بعد كتاب الله تعالى، وفي الإعراض عنها ضلال وهلاك، كما ورد في أحاديث النبي ، فبعض الناس يظن أن الحلال والحرام في القرآن فقط، فإذا قلت له: قال رسول الله كذا، أو حرم كذا، أو بين كذا، قال لك: وهل هذا في القرآن؟ أعطني آية من القرآن تذكر هذا.
والرسول أخبرنا أن أناسًا من أمته سيأتون من بعده، يردون أحاديثه وسنته، ويقتصرون على القرآن، فقد روى الترمذي في سننه بسند صحيح عن أبي رافع أن المصطفى قال: ((لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته، يأتيه أمر مما أَمرت به، أو نَهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)) ، وقال في رواية أخرى: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه, وما وجدتم فيه من حرام فحرموه)) ، ثم قال النبي معقبًا على كلام هذا الرجل: ((وإنما ما حرم رسول الله كما حرم الله)).
فردُّ سنة النبي وتشريعاته ضلال وهلاك، قال أيوب السختياني أحد كبار الفقهاء: "إذا حدثت الرجل بالسنة فقال: دعنا من هذا، وحدثنا من القرآن، فاعلم أنه ضال مضل".
فإن رسول الله شرع أحكامًا وحرم أمورًا لم تُذكر في القرآن، وفصل أمورًا نحن نطيعه فيها ولم تُذكر في القرآن.
والذي ينبغي على المسلم أن يعلمه ويعتقده أن السنة وحي من الله، وهي محفوظة كذلك بحفظ الله تعالى، لأنه لا يتم حفظ القرآن إلا بحفظ السنة، قال تعالى عن رسوله: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3، 4]، وقال تعالى: وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113]، فالنبي لا يأتي بالتشريع من عنده، فما من عمل أوجبه أو أمر به فإنما هو من عند الله، وما من أمر حرمه أو نهى عنه فهو وحي من الله سبحانه وتعالى.
فالسنة هي الشارحة والمبينة للقرآن، وقد وكل الله تبارك وتعالى مهمة تفسير القرآن وبيان تعاليم الإسلام وتفصيل الأحكام إلى رسوله ، فلولا السنة لم يعرف الناس عدد ركعات الصلاة وصفاتها وشروطها وما يجب فيها، ولولا السنة لم يعرفوا تفصيل أحكام الصيام والزكاة والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يعرفوا تفاصيل أحكام المعاملات من زواج وطلاق وبيوع، ولم يعرفوا المحرمات وما أوجب الله فيها من الحدود والعقوبات.
ولهذا أوجب الله طاعة رسوله ، وقرنها بطاعته، قال سبحانه: مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، وجعلها من أسباب رحمته وهدايته، قال تعالى: وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]، وقال تعالى: وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132].
وحذر الله من معصيته ومخالفته، فقال جل ذكره: وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر: 7]، وقال تبارك اسمه: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] أي: أن تصيبهم فتنة في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة، وقال الإمام أحمد رحمه الله: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعل إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. وقوله: عَذَابٌ أَلِيمٌ أي: في الدنيا، فمن موجبات عذاب الله في الدنيا مخالفة أمر رسول الله.
وقد وردت أحاديث عن النبي تأمرنا بطاعته واتباع سنته، وتنهانا عن معصيته ومخالفة هديه، ففي صحيح البخاري عن النبي قال: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)) ، قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) ، وقال : ((ومن يعش منكم فسيرى اختلافًًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)) ، وقال لبعض أصحابه وقعوا في مخالفة سنته: ((فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
_________
الخطبة الثانية
_________
إنّ السنة ـ عباد الله ـ شاملة لكل خير وهدى، فما من خير إلا ودلنا عليه النبي ، وما من شر إلا وحذرنا منه عليه الصلاة والسلام، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله : ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم, وينذرهم شر ما يعلمه لهم)).
وجاء يهودي إلى أبي هريرة رضي الله عنه فقال له: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة! قال: أجل؛ أي: ما ترك نبيكم شيئًا إلا علمكم إياه، حتى كيفية الاستنجاء وطريقة الاستبراء من النجاسة علمكم إياها، وهذا من كمال ديننا، ولم يكمل ديننا إلا بسنة نبينا.
ولهذا يجب على كل مسلم أن يتمسك بسنة النبي ، وأن يعظمها كل تعظيم، وأن يؤمن ويصدق بما جاء فيها من أحكام وأخبار، وأن لا يفهمها بهواه، وإنما يفهمها على مرادها الصحيح، كما فهمها سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، وأن يجعل عقله تبعًا لما جاء فيها، وإن قصر عقله عن فهمها، وليحذر كل الحذر من ردها ورد أحاديث النبي الصحيحة.
وعلى المسلم أيضًا أن يلتزم طريقة النبي في العبادات كلها، لأن النبي هو أعلم الناس بالله وبعبادته، وهو أخشى الناس لله وأتقاهم له، فالذي يريد أن يعبد الله على طريقته الخاصة دون متابعة النبي أو أن يخترع عبادة جديدة مخالفة لهديه فعبادته باطلة ومردودة لا يقبلها الله تعالى، قال عليه الصلاة والسلام: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) أي: ليس من طريقتنا وهدينا فهو رد، فلا يقبل ولا يصلح قول ولا عمل ولا علم ولا نية إلا بموافقة السنة، وإن كل الطرق المؤدية إلى رضوان الله تعالى مسدودة على الخلق، إلا طريق رسول الله ، ولهذا أمرنا الله وتعبدنا بمتابعة رسوله ، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31] أي: قل: إن كنتم تحبون الله وتريدون عبادته ورضوانه فاتبعوا هذا الرسول، واتبعوا طريقته، يحببكم الله ويقبل عبادتكم؛ لأن الله عز وجل جعل رسوله أسوة وقدوة للناس ليتبعوه، قال تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
فعليكم ـ عباد الله ـ بلزوم سنة نبيكم في جميع أحوالكم، واحذروا ما يخالفها من محدثات الأمور، فإنها ضلال وغرور.
وإن التمسك بالسنة هداية ونجاة وسعادة وفلاح، قال : ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)) ، قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) رواه البخاري.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا طاعة رسوله واتباع سنته. اللهم عظم سنة نبيك في قلوبنا، واجعلها ظاهرة في أفعالنا وأقوالنا. اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهتدين. اللهم رد المسلمين إلى دينك ردًا جميلاً.
(1/2792)
فضل الصحابة
قضايا في الاعتقاد
الصحابة
يزيد بن الخضر ابن قاسي
بوزريعة
24/6/1424
علي مغربي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصحابة رضي الله عنهم خير هذه الأمة. 2- فضل الصحابة في القرآن الكريم. 3- ثناء الرسول على الصحابة. 4- بذل الصحابة أنفسهم وأموالهم في سبيل الله. 5- سبب علو منزلة الصحابة. 6- عقيدة المسلم في الصحابة رضي الله عنهم. 7- التحذير من بغض الصحابة والطعن فيهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
إنّ الله اصطفى محمدًا على سائر الأنبياء والمرسلين، وجعله رسولاً للعالمين أجمعين، فاختار له صحابة أخيارًا صالحين، آمنوا به واتبعوه وآزروه ونصروه، وفدوه بالنفس والنفيس، فكانوا خير صحبة لخير نبي.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الله عز وجل نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه )، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (كان أصحاب رسول الله خير هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه ونقل دينه).
إنهم صحابة رسول الله ، هذا الجيل العظيم الذي رباه النبي وأحسن تربيته، فأصبحوا صدارة هذه البشرية بعد الأنبياء والرسل، تحقق فيهم رضي الله عنهم ما لم يتحقق في غيرهم منذ بدء الخليقة، ولن يتحقق في غيرهم حتى قيام الساعة. لقد اجتمع فيهم من عوامل الخير ما لم يتجمع في جيل قبلهم، ولن يتجمع في جيل بعدهم، فتعالوا لنسمع ما وصفهم الله به في كتابه، وما شهد لهم رسول الله به في سنته، فأنصتوا يرحمكم الله.
قال عز وجل : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29].
هكذا يصف القرآن محمدًا وأصحابه، ذلك الجيل القرآني المثالي، فقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ أي: يوالي بعضهم بعضًا، ويناصر بعضهم بعضًا، ويحادون من سواهم من غير المسلمين، فكانوا كما قال تعالى في آية أخرى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [النساء:54]، ثم وصفهم الله بكثرة العمل، وكثرة الصلاة، وهي خير الأعمال، ووصفهم بالإخلاص فيها مع احتساب جزيل الثواب عند الله تعالى، فقال سبحانه: تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ، ثم قال: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ أي: ترى في وجوههم السمت الحسن والخشوع والتواضع، لكثرة صلاتهم وسجودهم، فما من شيء يحسن الله به الوجه مثل الصلاة والسجود، وكما قال بعض السلف: "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار". ثم قال تعالى: ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ ، فلما عظم فضل الصحابة وكبّر شأنهم نوّه الله بذكرهم في الكتب السماوية السابقة من توراة وإنجيل، ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ ، مثلهم الله بالزرع، فقال سبحانه: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ أي: مثل الصحابة في قوة وجودهم، وامتدادهم، ونصرتهم، وتآزرهم، وتأييدهم، وجهادهم؛ كمثل الزرع الذي يتفرع وينتشر، ويزداد ويقوى، ويطول ويشتد ساقه، فيعجب أهله الذين غرسوه، ليغيظ بهم الكفار، وهل هناك أغيظ على الكفار وأشد حنقًا على قلوبهم ما رأوه من نصرة الصحابة لرسوله ، وجهادهم لأعداء الله، حتى هزموا المجوس والروم, وأذلوا أهل الشرك وطواغيت الكفر في الأرض جميعًا.
ومن الآيات ما جاء في قوله عز وجل: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100].
قال ابن كثير رحمه الله: "فقد أخبر الله العظيم أنه رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض بعضهم أو سب بعضهم".
وقال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [الفتح: 18، 19].
فهذه بيعة الرضوان، وكانت بالحديبية، وعدد المبايعين فيها من الصحابة ألف وخمسمائة، فأخبر الله تعالى أنه قد رضي عن هؤلاء الصحابة جميعًا. وفي صحيح مسلم قال رسول الله : ((لا يدخل النار ـ إن شاء الله ـ من أصحاب الشجرة أحد؛ الذين بايعوا تحتها)).
والصحابة ـ عباد الله ـ هم الجيل الذي وصفه النبي بالخيرية والأفضلية المطلقة على سائر الأجيال، روى البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)).
وهذه الخيرية تجعل من جيل الصحابة مثلاً عاليًا للمسلمين في كل زمان ومكان، فهم يتطلعون إليهم، ويعتزون بهم، ويسترشدون بسيرهم، تلك السير المتنوعة في الحرب والعبادة والمجاهدة والمعاملة، مما يكفل للمسلمين في مختلف العصور نماذج متنوعة صالحة للاقتداء.
فالصحابة كانوا في السلم هداة معلمين، مصلحين عاملين، وصفهم رسول الله بأنهم أمنة لأمته، ففي صحيح مسلم قال رسول الله : ((النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبتْ النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)).
وكان الصحابة في الحرب مؤمنين محتسبين مجاهدين ثابتين، وصفهم القرآن في قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:172، 173]. وقد أخبرنا الله كيف كان موقفهم في غزوة الأحزاب: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:22، 23].
وما غزوة بدر عنا ببعيد، لما لقي النبي وأصحابه العدو على غير ميعاد، وعلى غير استعداد، قام فيهم رسول الله خطيبًا فقال: ((أشيروا عليّ أيها الناس)) ، فقام الصديق فقال وأحسن القول، ثم قام عمر فقال وأحسن القول، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى بَرْك الغِمَاد لجالدنا معك دونه حتى تبلغه. ثم قام سعد بن معاذ فقال: والله، لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: ((أجل)) ، قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض ـ يا رسول الله ـ لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضتَ بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصُبر في الحرب، صدق في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسِر بنا على بركة الله. فسر رسول الله ثم قال: ((سيروا وأبشروا، فإنّ الله تعالى وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم)).
وكان الصحابة في بذل المال والمتاع المثلَ الأعلى، فوالله الذي لا إله إلا هو لم تشهد الأرض في مسيرة بني آدم الطويلة أن توارثَ قوم فيما بينهم من غير قرابة ولا نسب ولا رابطة دم، وعن طواعية واختيار، إلا في أصحاب رسول الله ، ولم يظهر السخاء والكرم والإيثار في أمة من الأمم كما ظهر في صحابة رسول الله ، ولذلك استحقوا ثناء الله عز وجل عليهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُون [الحشر:9].
ولم يكن الصحابة متساوين في الفضل والدرجة، بل كانوا يتفاضلون في السابقة والجهاد وكثرة البذل في سبيل الإسلام، قال تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد:10].
وقد فصلت الأحاديث الشريفة مقامات الصحابة وتفاضلهم ودرجاتهم، وقد بشر رسول الله العديد من أصحابه بالجنة، مما يدل على سبقهم وفضلهم، فقال : ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة)) وعاشرهم سعيد بن زيد راوي الحديث، فهؤلاء هم العشرة المبشرون بالجنة.
وقد دل الرسول على فضل وخصائص بعض أصحابه العلمية والخُلقية والجهادية، مما لا يتسع ذكره في هذا المقام، وكتُب الحديث والسيرة والتراجم ملأى بذكر هذه الفضائل لمن أراد الرجوع إليها، والمستفاد أن مناقب وفضائل الصحابة كثيرة وظاهرة، حتى قال العلماء: ولو لم يَرد شيء من الآيات والأحاديث في فضل الصحابة رضي الله عنهم لأوجبت الحالة التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد ونصرة الإسلام وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين والصبر والورع واليقين القطع بتعديلهم، والاعتقاد بنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع من أتى بعدهم.
فكما تعلمون ـ عباد الله ـ أن الصحابة كان لهم من الشرف والكرامة والمنزلة عند الله جل وعلا ما ليس لغيرهم، فالسؤال الذي قد يطرحه البعض: ما الذي فعله الصحابة رضوان الله عليهم لتكون لهم هذه المنزلة عند الله تعالى؟ وكيف وصلوا إلى ما وصلوا إليه من عزة وتمكين؟
والجواب: اعلموا ـ عباد الله ـ أن لسبقهم وفضلهم أسبابًا، فالصحابة كانوا على قوة إيمان ويقين، وكانوا على صدق وإخلاص، وكانوا يبتغون العزة عند الله، ولم يبتغوها عند الفرس ولا الروم، بل كانوا يعتزون بنبيهم ودينهم فأعزهم الله، وباعوا أنفسهم لله تعالى، وتابعوا رسوله على التمام والكمال، وكانوا يحملون أنفسهم على الاجتهاد والمجاهدة في الطاعات والقربات، وكانوا يتسابقون في الخيرات، عظمت الآخرة في قلوبهم فهانت الدنيا في أعينهم، فقد كان هم أحدهم كيف يرضي الله عز وجل، وكيف يمكن أن ينصر دينه.
وهذا ظاهر في سيرهم، فبعد وفاة النبي خرج الصحابة إلى الدعوة إلى الله في مختلف بقاع الأرض، راضين مختارين، غادروا الأوطان وهي عزيزة عليهم، وخرجوا إلى أراضيٍ لا عهد لهم بها، لا يعرفون شيئًا عنها، ذهبوا إلى أمم لا نسب لهم بها، ولا ألفة بينهم وبين أهلها، لقد بذلوا في سبيل ذلك قصارى جهدهم، سهروا وضحوا من أجل تبليغ كلمة الله تعالى ونشرها ليلاً ونهارًا، دون ملل ولا كلل، بل كانوا كما أخبر الله عنهم: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران:146]، حتى أعز الله دينه، ونصر جنده، وأعلى كلمته، وانتشر الإسلام في بقاع الأرض، حتى قال الله فيهم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
نزلت هذه الآية على النبي وأصحابه رضي الله عنهم، فهم المعنيون بهذا الخطاب، فأثبت الله عز وجل لهم الخيرية على سائر الأمم، ولا شيء يعدل شهادة الله تعالى لهم بذلك، ولا شك أن الخطاب والثناء بالخيرية عام في هذه الآية لكل أمة النبي عبر الأزمان، ولكن بشرط أن يتصفوا بنفس الصفات التي كانت في النبي وأصحابه رضي الله عنهم، لأن الخيرية تتمثل وتكون كما قال الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، ولا شك أن الإيمان بالله أساس هذا الدين وأصله، ولكن الله في الآية الكريمة صدر وبدأ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأهميته، ولما يعود على المسلمين بالخير والصلاح، وبردع الشر والفساد، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشمل النصيحة بجميع أنواعها، ويشمل الدعوة إلى الله للقريب والبعيد وللمسلم والكافر، فأين نحن من هذا كله في هذا اليوم؟
قد يرى الواحد منا ابنه أو بناته أو عائلته على الخطأ والزلل والإثم والمعصية، ولا يكون لهم لسانًا ناصحًا، ولا يدًا رادعة. إنك قد ترى الضلال والجهل في غيرك فتقدم له ولو كلمة صغيرة طيبة يفتح الله بها قلبه، فيرى بها طريق الرشاد، فتفوز بخير الدنيا وما فيها: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]. هكذا كان صحابة رسول الله ، وبهذا استحقوا تلك المنزلة: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
_________
الخطبة الثانية
_________
اعلموا ـ عباد الله ـ أنّ الصحابي هو كل من رأى النبي مؤمنًا به، ومات على الإسلام، وقد بلغ عدد الصحابة يوم فتح مكة عشرة آلاف صحابي، وقد توفي رسول الله وترك ما يزيد عن مائة ألف صحابي من رجل وامراة، وكان آخر الصحابة وفاة واثلة بن الأسقع الليثي، في سنة خمس وثمانين للهجرة.
فيجب على المسلم أن تكون له عقيدة صحيحة في صحابة رسول الله ، وهذه العقيدة جمعها الإمام الطحاوي رحمه الله في قوله: "ونحب أصحاب رسول الله ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان".
فقوله رحمه الله: "ولا نفرط في حب أحد منهم" فيه رد على الشيعة في تفضيلهم عليًا رضي الله عنه على أبي بكر وعمر وعثمان، ومنهم يعتقد في علي أنه المستحق للرسالة، ويكفّرون معظم الصحابة رضي الله عنهم، وهذا واضح ـ والحمد لله ـ أنه من الضلال المبين.
وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على تقديم أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ثم بقية العشرة المبشرين، ثم البدريين أي: من شهد بدرًا، ثم أهل بيعة الرضوان، ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
وقوله رحمه الله: "ولا نذكرهم إلا بخير" فيه إشارة إلى الكف وعدم الخوض فيما شجر بينهم من سوء تفاهم واختلاف، وأن ذلك فتنة وابتلاء من الله لهم بعد وفاة النبي ، وقد أخبرهم النبي من قبل ـ في حياته ـ بوقوع ذلك، فالصحابة لم يكونوا معصومين ألبتة, وكانوا مجتهدين في ذلك, ومعذورين عند الله، ومنزلتهم ثابتة, وخيرهم سابق, وفضلهم دائم.
ويقول رحمه الله: "وحبهم دين وإيمان وإحسان"، نعم حب الصحابة إيمان، وبغضهم كفر ونفاق, فنحب الصحابة لأن الله رضي عنهم وزكاهم في القرآن، وشهد لهم النبي بالخيرية والأفضلية، بوب الإمام البخاري في صحيحه ـ الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله ـ أبوابًا في فضائل الصحابة والمهاجرين, ثم قال: "باب حب الأنصار من الإيمان"، فخرج فيه حديثًا عن البراء رضى الله عنه قال: سمعت النبي قال: ((الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)).
فالويل كل الويل، ثم الويل كل الويل لمن أبغضوا الصحابة، وتعرضوا لسبهم والطعن فيهم، وجعلوا من دينهم وعقيدتهم سب الصحابة وسب زوجات النبي أمهات المؤمنين، فامتلأت قلوبهم بالغل والكراهية والحقد عليهم، وترتب على هذا أنهم لم يقبلوا أي شيء جاء عن طريقهم، فتكون النتيجة الطبيعية أن يخترعوا لأنفسهم دينًا جديدًا من عقولهم، بعيدًا كل البعد عن الإسلام الذي أنزله الله على محمد. ونخص بالذكر الشيعة، وخاصة الغلاة منهم؛ من الروافض والإمامية، فهؤلاء الناس ضلوا الطريق، وجاؤوا بشيء لم يسبقهم إليه لا اليهود المغضوب عليهم ولا النصارى الضالون، فكما قال شعبة أحد أئمة الحديث: قيل لليهود: من خير أهل ملّتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وقيل للنصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب عيسى، وقيل للشيعة: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد والعياذ بالله.
هل تدرون ـ أيها الأحبة ـ ما يعني سبّ الصحابة والطعن فيهم؟ إن الطعن في الصحابة هو طعن في الرسالة نفسها، وطعن ومسبة للرسول نفسه. فالصحابة هم علماء الأمة، وهم أعلم الناس، بل إن من جاء بعدهم من علماء الأمة تلاميذهم، فهؤلاء الأئمة الأربعة الذين انتشر علمهم في الأرض شرقًا وغربًا هم تلاميذُ تلاميذِ الصحابة، فالصحابة حرصوا على ملازمة النبي حتى أخذوا عنه الكتاب والسنة، ثم بلغوهما إلى من جاء بعدهم من غير زيادة ولا نقصان، فهم الواسطة بين الرسول وبين كل الأمة ممن جاء بعدهم. فمن قدح في تلك الواسطة فقد قدح في الدين وقدح في الرسالة، فما بالكم إذا تعدى الأمر إلى السب والتفسيق، بل والتكفير؟! يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: ((لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نَصِيفه)) ، وروى ابن بطة بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه قال: (لا تسبوا أصحاب محمد ، فلمقام أحدهم ساعة ـ يعني مع النبي ـ خير من عمل أحدكم أربعين سنة).
وخلاصة القول أن الصحابة ورثة النبي ، ورثوا عنه الكتاب والسنة علمًا وفهمًا، وعملاً وطريقة، فهم عدول وثقات، فقد عدلهم الله في كتابه ورضي عنهم وأرضاهم، فحبهم إيمان، وبغضهم وسبهم كفر ونفاق، والإعرض عنهم ضلال وهلاك، فيجب اتباعهم فيما جاءنا عنهم، قال رسول الله : ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ)).
فأقوالهم في الدين سديدة، وفهمهم للعقائد والأحكام صحيح، والأخذ عنهم موثوق، لأنهم تلقوا العلم وتعاليم الدين من رسول الله , وفهموا ذلك على مراده الصحيح, وطبقوه على وجهه الحسن, وقد شهد لهم النبي بالخيرية والأفضلية.
(1/2793)
منزلة الأخلاق في الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
21/8/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبيل النجاة. 2- التلازم بين السّلوك والاعتقاد والإيمَان والأخلاق. 3- تقرير الأخلاق في كتب العقيدة السلفية. 4- التحذير من الإفلاس. 5- مكانة محاسن الأخلاق. 6- عناية الكتاب والسنة بمكارم الأخلاق. 6- الأخلاق في الإسلام شرع يتعبَّد الله به. 7- أهمية الأخلاق في نهوض الأمم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها النّاس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتّقوا الله رحمكم الله، وتوبوا إليه فإنّه يحبّ التوّابين، واستغفروه ذنوبَكم فهو خير الغافرين، اتّقوه مخلصين، وتوبوا إليه نادِمين، انصُروه ينصرْكم، وأطيعوه يُثبْكم، اغتنِموا الصالحاتِ لأنفسكم، فمن عمل صالحًا فسوف يراه، ومن فرّط حلّ به الندم ودام حزنُه وشقاه، والويل لمَن زلّت به قدمَاه يومَ ينظر المرء ما قدّمت يداه.
أيّها المسلمون، لا يمترِي مسلمٌ أنَّ سبيل النجاة وطريقَ السعادة في الدّنيا والآخرة التزامُ كتاب الله عزّ وجلّ وسنّةِ رسوله محمّد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم، على مثل ما كان عليه رسول الله وأصحابه، تلكم هي سفينة النجاة وسبيلُ العزّة وطريق السّلف الصالح. غيرَ أنّ هناك أمرًا مهمًّا في نهج السلف الصّالح لم يأخذ حقَّه من العناية ولم يوضَع مكانَه من التربيّة، ذلكم هو منهجُ أخلاقهم وطريق سلوكهم، ذلكم أنّ مِن المتقرّر أنّ منهجَ السلف الصالح رضوان الله عليهم ليس علمًا مجردًا ولا اعتقادًا جامدًا، ولكنّه نهجُ العقيدة والفقهِ والأخلاق والعمل. وإنّ المتأملَ في حياة بعض المسلمِين حتّى بعضِ المنتسبين للعلمِ والدعوة يلحَظ انفصالاً وانفصامًا بين الجانِبِ العلميّ النظريّ الاعتقاديّ والجانبِ السلوكيّ الأخلاقيّ العمليّ.
أيّها المسلمون، إنّ ثمّةَ تلازمًا بل تلاحُمًا بين السّلوك والاعتقاد والإيمَان والأخلاق، فالسّلوك الظّاهر مرتبطٌ بالاعتقاد الباطِن، ومن ثَمَّ فإنّ الانحرافَ الواقعَ في السّلوك والأخلاق ناشئٌ عن نقصٍ وخلل في الإيمان والباطن. يقرّر ذلك شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله حين يقول: "إذا نقصَت الأعمال الظاهرةُ والباطنة كان ذلك لنقصِ ما في القلب من الإيمان، فلا يُتصوَّر مع كمال الإيمانِ الواجبِ الذي في القلب أن تعدَم الأعمال الظاهرة الواجبة، بل يلزم من وجودِ هذا كاملاً وجودُ هذا كاملاً، كما يلزم من نقصِ هذا نقصُ هذا" [1] ، كما يقول رحمه الله: "فما يظهَر على البدنِ من الأقوالِ والأعمالِ هو موجَب ما في القلبِ ولازمُه" [2] ، ويقول الشاطبيّ رحمه الله: "الأعمال الظاهرةُ في الشّرع دليل على ما في الباطن، فإن كان الظاهر منخرِمًا حُكِم على الباطن بذلك، أو مستقيمًا حُكم على الباطنِ بذلك أيضًا" [3].
بل قد صرّح أهل العلم بهذا المنهجِ الأخلاقيّ وهم يذكرون منهجَ السلف في كتب العقائد، يقول الإمام الإسماعيليّ: "ويَرون محاربةَ البدع والآثام والفخر والتكبّر والعُجب والخيانةِ والدّغل والسعاية، ويرَون كفَّ الأذى وتركَ الغيبة" [4] ، ويقول الإمام الصابوني: "ويتواصَون بقيامِ الليل للصّلاة وبصلةِ الأرحام وإفشاءِ السلام وإطعام الطّعام والرحمةِ للفقراء والمساكين والأيتام والاهتمامِ بأمور المسلمين والتعفُّف في المأكلِ والمشرَب والملبس والمصرَف والسعيِ في الخيرات والأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر والبدار إلى فصل الخيرات أجمَع واتّقاء شرّ الطمع، ويتواصَون بالحقّ ويتواصَون بالصبر" [5] ، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان منهج السلف: "ويدعون إلى مكارمِ الأخلاق ومحاسِن الأعمال، ويعتقِدون معنَى قولِه : ((أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خلقًا)) [6] ، ويندبون إلى أن تصلَ من قطعك وتعطيَ من حرمَك وتعفوَ عمّن ظلمَك، ويأمرون ببرِّ الوالدين وصلةِ الأرحام وحسن الجوار والإحسانِ إلى اليتامى والمساكين وابنِ السبيل، وينهَون عن الفخر والخُيَلاء والبغي والاستطالةِ على الخلق بحقّ أو بغير حقّ، ويأمرون بمعالي الأخلاقِ وينهَون عن سفاسِفها" [7].
أيّها المسلمون الإيمان والصلاحُ والأخلاق عناصرُ متلازمةٌ متماسِكة لا يمكِن الفصل بينها، ولكن قد يُبتلى العبدُ بالتّفريط فيها أو التّقصير في بعضِها تقصيرًا قد يؤدّي به إلى الهَلَكة.
تأمّلوا ـ رحمكم الله ـ من هو المفلس في معيار الإسلام. المفلسُ ـ كما في الحديث الصحيح [8] ـ من يأتي بصلاة وزكاةٍ وصيام، ويأتي وقد شتَم هذا وقذَف هذا وأكلَ مالَ هذا وسفك دمَ هذا وضرَب هذا، فيُعطى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه، فإن فنيَت حسناتُه قبل أن يٌقضَى ما عليه أخِذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثمّ طُرح في النار، ذلكم هو المفلسُ عياذًا بالله. المفلسُ الذي ملك بضائعَ نفيسة، ولكن ركِبه من الدّيون بسوء تصرُّفه ما يجاوز قدرَها، فكان الإفلاسُ والهلاك.
عباد الله، الأخلاق حُلَّة تقصُر دونها الحُلَل وسِتر لا يغني عنه سِتر، وهل افترق الإنسان عن حيوان الغابِ وسِباع الدواب إلا بالأخلاق؟!
الأخلاقُ تمتزِج بتصرّفات الإنسان كلِّها، في سلوكه جميعِه وأحواله كلِّها، في جدِّه وهزلهِ، وفرَحه وحزنِه، ورضاه وسَخَطه، وخطئِه وصوابِه. إنَّ عند ابن آدم رغبةً شديدة في نيلِ السّعادة والعيش في أكنافها، ومِن المعلوم جَزمًا أنّ السعادة لا تُدرك بالمنصِب ولا بالجاه ولا تُنال بالشّهوات ومُتَع الحياة ولا بِجمال المظهَر ورقيق اللّباس، لا تُنال السّعادة إلا بلباسِ التّقوى ورِداء الخُلُق، عملٌ صالح وقول حسَن، ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج:77، 78].
ابحَث ـ حفظك الله ـ بعنايةٍ عن أصولِ الأخلاق ومزكّيات النّفوس، تأمّل في الأمانةِ والصّدق والعفّة والمروءة والحِلم والصّبر والاعتراف بالحقّ لأهله والجميلِ لأصحابه، قدّر ما عند الآخرين مِن الفضلِ والعِلم والخِبرة، آثِر الحقَّ وأحِبَّ أهلَه وخُذ بالرّحمة وفروعِها وقوّة الإرادة وضبطِها والصّبر ومظاهِره وسماحةِ النّفس علوّ الهمّة والاحترامِ المتبادَل.
إنّ لمحاسنِ الأخلاق في دينِكم ـ عبادَ الله ـ مكانةً عالية، بلغت بصاحبها أن كان الأقربَ والأحبّ لصاحب الخلُق العظيم نبيّنا محمّد ، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إنّ من أحبِّكم إليّ وأقربِكم منّي مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا)) رواه البخاري [9] ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((إنّ من خيارِكم أحسنَكم أخلاقًا)) رواه البخاري [10]. والكلمة الطيّبةُ صدقة، وتبسُّمك في وجه أخيك صدقة.
آيات كتابِ الله وأحاديث رسول الله كلُّها مشتملاتٌ على جوامع الأخلاق في جوامعِ الكلم، وسواء في ذلك ما كان في الأصول أو كان في الفروع، وسواء منها ما كان في التّوحيد والعقائدِ أو كان في العبادةِ والشّريعة، وما كان في معاملةِ الخالقِ جلّ وعلا أو معاملةِ المخلوقين، حتّى في إقامةِ حدودِ الشّرع وحتّى مع الحيوان في قتلِه أو ذبحِه، ((إنّ الله كتب الإحسانَ على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسِنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسِنوا الذِّبحة، وليحِدَّ أحدكم شفرتَه، وليرِح ذبيحتَه)) حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي يعلى شدّاد بن أوس رضي الله عنه [11].
وتأمّلوا هذه الآياتِ الجوامعَ من كتاب الله عزّ وجلّ: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ [الرحمن:60]، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف:18]، فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر:85]، خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [القصص:55].
وفي السنّة: ((من يستعفِف يعفَّه الله، ومن يستغنِ يغنِه الله، ومن يصبِر يصبِّره الله)) متفق عليه [12] ، و((ليس الغنى عن كثرةِ العَرَض، ولكن الغِنى غِنى النّفس)) [13] ، و((ليس الشّديد بالصُرَعَة، إنّما الشديد الذي يملِك نفسَه عندَ الغضب)) [14] أحاديث متّفق عليها، و((من لا يشكر الناسَ لا يشكر الله)) [15] ، و((لا يؤمِن أحدُكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه)) [16] ، و((أحسن الناسِ إسلامًا وإيمانًا أحسنُهم خلقًا)) [17] ، و((ما من شيء أثقلُ في ميزان المؤمن يومَ القيامة من خلُق حسن)) [18].
أيّها المسلمون، ولئِن ذكر المربّون والحكَماء أن الأخلاقَ أمورٌ مستحسَنة فإنّها في ديننا تكاليفُ مطلوبَة كسائر العباداتِ والمطلوباتِ الشرعيّة فرضًا وسنّة، ومذمومًا منهيّ عنه تحريمًا وكراهة.
هذه هي عباداتُ الإسلام الكبرى وأركانه العظمى، يستبين منها مكانة الأواصِر بينَ الخلُق والدّين والعبادةِ والأدب، فالصّلاة تنهى عن الفحشاءِ والمنكر، والزّكاة صدقةٌ تطهِّر المسلمَ وتزكّيه، وفي الصيام: ((من لم يدع قولَ الزور والعمل به والجهلَ فليس لله حاجةٌ في أن يدَع طعامه وشرابَه)) [19] ، والحجّ أشهر معلومات، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، ومن لم يكن له من عبادتِه ما يزكّي قلبَه ويطهِّر نفسَه ويهذّب سلوكه ويُحسِّن خلقه وينظّم صلتَه بالله وبالنّاس فليحاسِب نفسَه حتى لا يكونَ من المفلسين، ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن مَن لا يأمَن جاره بوائقَه)) [20] ، ((ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرِم ضيفَه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمت)) [21] ، ((والحياء شعبة من الإيمان)) [22] ، وطوبى لمن شغَله عيبُه عن عيوبِ النّاس، وإيّاك أن تُسرَّ حين تمدَح بما ليس فيك، فهذا سخريةٌ منك وهُزء بك، وأنت أعرَف بنفسِك فلا تغترَّ بمَدح، ومن ابتُلي بالعجب فليفكِّر في عيوبه، وتعرَّف على أخلاقك بالنّظر في أحوالك في غضبِك وإذا خلوتَ وإذا احتجتَ وإذا استغنيتَ وإذا قدرتَ وإذا عجزتَ، واعلم أنّ النمامَ يفسِد في ساعة ما لا يفسِده الساحر في سنة، والحرّ عبدٌ ما طمِع، والعبدُ حرٌّ ما قنِع، ولا مروءةَ لمن لا دين له، وإهمالُ ساعة يفسِد رياضةَ سَنة، وإذا ذهَب حظّ النفس حضَر الإخلاص، وإذا انضمّ إلى الإخلاص الصوابُ كمُل النّصاب، والنفس غيرُ السّويّة تثير الفوضى في أحكمِ النُّظُم، والنّفس الكريمَة ترقع الفتوقَ في الأحوالِ المضطَربة، فتحِسن المسيرَ في أجواء الأعاصير، والقاضِي النزيه يكمِّل بعدلِه نقصَ النّظام، والقاضي الجائرُ يحذف النّصوص المستقيمة، وإذا لم تصلُحِ النّفوس أظلمتِ الآفاق وبرزَت الفِتن.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:17-19].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآنِ العظيم وبهديِ محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] مجموع الفتاوى (7/582).
[2] مجموع الفتاوى (7/541).
[3] الموافقات (1/233).
[4] اعتقاد أئمة الحديث (1/78).
[5] عقيدة السلف أصحاب الحديث.
[6] أخرجه أحمد (2/250)، والترمذي في الرضاع، باب: ما جاء في حق المرأة على زوجها (1162)، وأبو داود في السنة، باب: الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه (4682) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4176)، والحاكم (1/3)، والألباني في السلسلة الصحيحة (284).
[7] مجموع الفتاوى (3/158).
[8] أخرجه مسلم في البر (2581) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (272)، وأحمد (2/185)، والبيهقي في الشعب (7986) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان (485ـ الإحسان ـ)، وقال الهيثمي في المجمع (8/21): "إسناده جيد". وله شاهد من حديث جابر رضي الله عنه أخرجه الترمذي في الأدب (2018) وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه". وله شاهد آخر من حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه عند أحمد (4/193)، والطبراني في الكبير (22/221)، وصححه ابن حبان (482ـ الإحسان ـ)، وقال الهيثمي في المجمع (8/21): "رجال أحمد رجال الصحيح"، والأحاديث الثلاثة كلها في صحيح الترغيب (2650، 2897، 2662).
[10] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3559، 3760) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا مسلم في (2321).
[11] صحيح مسلم: كتاب الصيد والذبائح (1955).
[12] أخرجه البخاري في الزكاة (1469)، ومسلم في الزكاة (1053) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[13] أخرجه البخاري في الرقاق (6446)، ومسلم في الزكاة (1051) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[14] أخرجه البخاري في الأدب (6114)، ومسلم في البر (2609) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[15] أخرجه أحمد (2/295)، والبخاري في الأدب المفرد (218)، وأبو داود في الأدب (4811)، والترمذي في البر (195 4 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3407)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1592). وفي الباب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[16] أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (45) من حديث أنس رضي الله عنه.
[17] أخرجه ابن أبي شيبة (5/210)، وأحمد (5/89، 99)، وأبو يعلى (7468)، والطبراني في الكبير (2/256) من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه، وليس فيه: ((وإيمانا)) ، قال المنذري في الترغيب (3/275): "إسناد أحمد جيد ورواته ثقات"، وقال الحافظ في الفتح (10/458) والهيثمي في المجمع (8/25): "رجاله ثقات"، وصححه العراقي كما في فيض القدير (2/378)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2653).
[18] أخرجه أحمد (6/442، 446، 448)، وأبو داود في الأدب (4799)، والترمذي في كتاب البر والصلة (2002)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (481 ـ الإحسان ـ)، والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2641).
[19] أخرجه البخاري في الأدب (6057) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[20] أخرجه البخاري في الأدب (6016) من حديث أبي شريح رضي الله عنه.
[21] أخرجه البخاري في الأدب (6018، 6136، 6138)، ومسلم في الإيمان (47) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[22] أخرجه البخاري في الإيمان (9)، ومسلم في الإيمان (35) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، أحمده سبحانه وأشكره على ما أنعم وأوفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له إذا وعَد وفى، وإذا أوعَد عفا، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله النبيّ المجتبى والرّسول المصطفى، صلى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أهل البرّ والصّدق والوفا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، حسنُ الخلُق بابٌ عظيم لعلَّ فيه ما يعالِج ما انتابَ كثيرًا مِن المسلمين في هذه الأعصارِ من انحرافٍ وهبوط، فأمّة الإسلام تمرّ عليها في كثيرٍ من ديارها ومواقعها محنٌ عصيبة وتيّارات هادِرة من الإلحاد والزّندقة والتعصّب والمادّية والبلبلات الفكريّة، في هجماتٍ شرِسة وفوضى سياسيّة وفكريّة وأخلاقيّة، مصائبُ لا تزَال تنصبّ ونوائب تنزِل، كأنّها لم تجِد غيرَ ديار المسلمين ديارًا، ولا غيرَ منازلهم منازلاً.
وإنّ دروسَ التاريخ وعبَر الزمن لتبيِّن أنّ كلَّ أمّة نهضت وكلّ حضارة ازدَهرت كان ذلك كلُّه بإذن الله وأمره بفضل أبنائِها الذين ملكوا نفوسًا قويّة وعزائمَ مضّاءة وهِممًا عالية وأخلاقًا زاكية وسِيَرًا فاضلة، يحكم ذلك سياجٌ متين من الدّين الحقّ والعقيدة الراسخة، ابتعدوا عن سفاسِف الأمور ومحقَّرات الأعمال ورذائلِ الأفعال، لم يقَعوا فريسةً للفساد أو أسرَى الملذّات والشّهوات والاشتغال بعيوب الآخرين وتلمُّس العيوب للبرآء.
لم تكن سعادة الأمّة ولا عزّة الدّيار بكثرةِ الأموال ولا بجمَال المباني ولكن السّعادة والعزّة برجالٍ تثقّفت عقولهم وحسُنت أخلاقهم وصحّت عقائدُهم واستقامت تربيّتهم واستنارت بصائرُهم، أولئك هم رجالُ الأخلاقِ والقوّة، وذلكم هو بإذن الله مصدرُ العزّة.
ألا فاتّقوا الله رحمكم الله، واستقيموا على الدّين، واستمسِكوا بكريم الخلُق، فكمال العقول مقدّم على كمال الرّياضات والأجسام، فهل يتفكّر في ذلك المتفكّرون، وينظر في ذلك المربّون؟! ثم أنتم على أبوابِ شهر كريم، فأروا الله مِن أنفسكم خيرًا، فأعدّوا العدّة، واستعدّوا للعمل الصالح، فاجتنبوا الرجسَ، واجتنبوا قولَ الزور والعملَ به والجهل، فقد كُتب عليكم الصّيام لعلّكم تتّقون.
ألا وصلّوا وسلّموا على صاحبِ الخلق العظيم نبيّكم محمّد الكريم، فقد أمركم بذلك الحكيم العليم فقال عزّ شأنه قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك نبيّنا محمّد، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر والخلق الأكمل، وعلى آله الطيبين الظاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/2794)
الدنيا في ميزان الشرع
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
21/8/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا مزرعة. 2- قلة الدنيا في جنب الآخرة. 3- الدنيا دار ممر. 4- مثل الدنيا في القرآن الكريم. 5- تنافس الناس على الدنيا. 6- خوف النبي على أمته فتنة الدنيا. 7- المفتونون بالدنيا. 8- مفهوم خاطئ عن الزهد. 9- الدنيا التي يذمها الإسلام. 10- مغبة التفريق بين الدين والدنيا. 11- الدنيا في المفهوم الإسلامي. 12- نظرة الكفار للدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فإنّ الدّنيا دارُ اختبارٍ وبلاء، وعليه فإنّها مزرَعةٌ للآخرة، يزرع النّاس فيها اليومَ ليحصدوا غدًا في الآخرة، قال الله تعالى: ?لَّذِى خَلَقَ ?لْمَوْتَ وَ?لْحَيَو?ةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، وهي صائرةٌ إلى فناءٍ وزوال، قال الله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى? وَجْهُ رَبّكَ ذُو ?لْجَلْـ?لِ وَ?لإكْرَامِ [الرحمن:26، 27].
أمرُ الدّنيا في جنب الآخرة قليل، قال الله تعالى: وَفَرِحُواْ بِ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا فِى ?لآخِرَةِ إِلاَّ مَتَـ?عٌ [الرعد:26]، عن المستورد بن شدّاد قال: قال رسول الله : ((ما الدّنيا في الآخرة إلاّ مثل ما يجعل أحدكم إصبعَه في اليمّ، فلينظر بماذا يرجع)) أخرجه الترمذي [1] ، وفي حديث ابن مسعود: اضطجَع رسول الله على حصير فأثّر في جنبه، فقيل له: ألا نأتيك بشيء يقيك منه؟ فقال: ((ما لي وللدنيا؟! إنّما أنا والدّنيا كراكبٍ استظلّ تحت شجرةٍ ثمّ راح وتركها)) أخرجه البخاري [2].
الدّنيا ـ عبادَ الله ـ ليست دارَ مقرّ، بل هي دار ممرّ، منذ أن تستقرّ قدمُ العبد في هذه الدّار فهو مسافِر إلى ربّه، ومدّة سفره هي عمرُه الذي كُتِب له، ثمّ قد جُعِلت الأيّام والليالي مراحلَ لسفره، فكلّ يوم وليلةٍ مرحلة من المَراحل، فلا يزال يطويها مرحلةً بعد مرحلة حتّى ينتهي السّفر، فالكيِّس الفطِن هو الذي يجعل كلَّ مرحلةٍ نصبَ عينيه، فيهتمّ بقطعها سالمًا غانمًا، فإذا قطعهَا جعل الأخرى نصبَ عينيه.
هذه الحقائقُ عن الدّنيا تحجبُها عن تأمُّل القلب جواذبُ الأرض وفِتن الدّنيا، وفي الحديث يقول النبيّ : ((إنّ الدنيا حلوَة خضِرة)) أي: حلوة المَذاق، خضِرة المنظَر، الشيء إذا كان حلوًا ومنظره طيّبًا فإنّه يفتن الإنسان، وهكذا الدّنيا حلوَة خضِرة، ثمّ يقول : ((وإنّ الله مستخلفُكم فيها، فينظر كيف تعملون)) أخرجه مسلم [3].
وصف القرآن الكريمُ الدنيا كزهرةٍ تزهِر بنضارَتها، تسحَر الألباب، تستهوي القلوبَ، ثمّ لا تلبث إلا برهةً حتى تذبُل فتتلاشى تلك النضَارة، وتحطّمها الريح، كأنّها لم تكن، هكذا مثل الدّنيا، زهرةٌ فتّانة غرّارة تغدر وتُغوي، فإذا أقبلت عليها النفوس وتعلّقت بها الألباب ذوَت أيّامها واستحالت نضرتُها إلى هشيم، فغدت نعمتُها غرورًا، وصدق الله: وَ?ضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَـ?هُ مِنَ ?لسَّمَاء فَ?خْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ?لأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ ?لرّياحُ وَكَانَ ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا ?لْمَالُ وَ?لْبَنُونَ زِينَةُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?لْبَـ?قِيَاتُ ?لصَّـ?لِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:45، 46].
إنّ هذا التصويرَ البليغ يُجلِّي حقيقةَ الدنيا في ميزان الإسلام، كيلا يصبِح الناس عبيدًا لها، تستهويهم خضرتها، ويؤثرونها على نعيمِ الآخرة، وليس مِن سداد الرّأي أن يبيعَ العبدُ دينَه بدنياه، فيتكثّر بالحرامِ وجَمع الحُطام.
وتراكض الناس في طلب الدنيا خوفًا من فواتها وطمعًا في المزيد، ويبذلون الأوقات النفيسةَ ويقاسون شدّةَ الطلب، بينما قد يفرّطون في الصّلاة ويقعدون عن الجماعة ويتساهلون في الطّاعة وتلاوة القرآن ويتثاقلون في البذل والإنفاق.
إنّ الحياةَ الدّنيا مهما بلغ شأوُ نعيمِها لا يزن ذرّةَ رملٍ من معين الدّار الآخرة، وإنّ أعظمَ ما في الدّنيا من مصائبَ وشدائد يهون أمامَ نعيم دار الآخرة ولا يعادِل مقدارَ شرارةٍ صغيرةٍ من عذاب جهنّم.
كان النبيّ يتخوّف من فتحِ الدّنيا على أمّته، يخاف عليهم الافتتانَ بها، فعن عمرو بن عوف أنّ النبيّ قال للأنصار لمّا جاءه مالٌ من البحرين: ((أبشِروا وأمِّلوا ما يسرُّكم، فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكنّي أخشى أن تُبسَط عليكم الدّنيا كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلِككم كما أهلكتهم)) أخرجه البخاري [4] ، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أنّ النبيّ قال: ((إذا فُتحت عليكم فارسُ والرّوم أيّ قومٍ أنتم؟)) قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، قال رسول الله : ((أو غير ذلك؛ تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثمّ تتدابرون، ثمّ تتباغضون)) [5].
هذه ـ عبادَ الله ـ بعضُ آثار فتحِ الدّنيا، تنافسٌ ثمّ تخالُف ثم تقاتل وسفكٌ للدّماء، ومِن آثارها الانغماس في التّرف ونسيان الله والدّار الآخرة والسّقوط في المعاصي والآثام.
روي عن الحسن البصريّ أنّه قال: "رحِم الله أقوامًا كانت الدّنيا عندهم وديعة، فأدَّوها إلى من ائتمنهم عليها، ثمّ قاموا حفافًا" [6] ، وقال مالك بن دينار: "بقدرِ ما تحزن للدّنيا يخرج همّ الآخرة من قلبك، وبقدر ما تحزن للآخرة يخرج همّ الدنيا من قلبك" [7].
طغى حبّ الدنيا على قلوبِ بعضِ النّاس واستهوتهم خضرتها، يصرف لها همّه، يحرّك فيها همَّته، عبدوها من دون الله، آثروها على... الآخرة، وفيهم يقول رسول الله : ((تعِس عبدُ الدّينار وعبد الدّرهم وعبد الخميصة، إن أعطِي رضي، وإن لم يُعْط سخِط)) أخرجه البخاري [8].
وتسربَل آخرون بالفَقر والمسكَنة والذلَّة وهجر الطيّبات، يرغبون في الأجور والزّوايا بزعم التفرّغ للعبادة وإيثار عملِ الآخرة، ويصابون بعد ذلك بداءِ الكَسَل والإخلاد إلى الرّاحة وداء الطمَع بعطاءات النّاس ومِنحهم وما يبذلونه لهم من مآكلَ ومشارب، تركوا عمارةَ الأرض وأردفوا بها...، ويصوغونها ويصوغها صنّاع الضلال.
إنّ فقدَ التوازنِ بين أمورِ الدنيا والدين أضعَف الأمّةَ وقعَد بها عن أداءِ دورها في قيادة الأمَم.
الإسلام ـ عبادَ الله ـ لا يحرّم الطيباتِ ولا يذمّ المنافعَ والمآكل والمشارب والأموال، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ?للَّهِ ?لَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَـ?تِ مِنَ ?لرّزْقِ [الأعراف:32].
ولا يُفهم ممّا سبق تركُ السعي في عمران الدّنيا وبنائها الحضاريّ والانتفاع بخيراتها، بل المراد أن يأخذ المرء من الدّنيا ضمنَ الحدود التي أذن الله بها، وأن لا تكون متاعًا للهموم يَرفع متاعها فوق كلّ القِيَم، تُفقِدْ الإنسانَ وعيَه، تفسِد عليه دينَه وأخلاقه.
الدّنيا التي يذمّها الإسلامُ دنيا الشهواتِ والملهِيات، دنيا تضييعِ الحقوق والواجبات والتّساهل بالمحرَّمات، الدنيا التي تشغل عن الله وتلهي عن الآخرة، أراد الله أن تكونَ الدّنيا مُلكًا لنا، فجاء صغار الهِمم وأبَوا إلاّ أن يكونوا مُلكًا لها.
إخوة الإسلام، إنّ المرتبةَ المثلى الجمعُ بين الدّين والدّنيا، بين الصّبر والفقر، بين التّقوى والغِنى، ولذا قال رسول الله : ((نِعم المال الصّالح للمرء الصّالح)) أخرجه البخاري [9] ، ويدعو رسولنا الكريم ربّه قائلاً: ((اللهمّ أصلِح لي ديني الذي هو عِصمة أمري، وأصلِح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلِح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعَل الحياة زيادةً لي في كلّ خير، واجعل الموتَ راحة لي من كلّ شرّ)) أخرجه مسلم [10].
إنّ التفريق بين شؤون الدّنيا وشؤون الآخِرة كان سببَ التّخلّف الذي أزرى بأمّتنا وأقعدها عن نشرِ رسالتِها، حين فهِم أقوامٌ مِن ذمّ الدّنيا إهمالَ الحياة الدّنيا وتركَ عمارتها والهروبَ عن إصلاحها وتنميتها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولّد فيهم ذلك سلبيةً مقيتة وانهزاميّة وضعفًا وخوَرًا يأباه الدّين، قال تعالى: وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ?لآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ [البقرة:201].
الحسنة في الدّنيا تشمَل كلَّ مطلوبٍ دنيويّ من عافية ودارٍ رحبة ورزق واسع وعلمٍ نافع وعمل صالح ومركَب هجِل وثناءٍ جميل، والحسنة في الآخرة أعلاها دخولُ الجنّة وتوابعُه من الأمنِ من الفزع الأكبر وتيسير الحساب.
والصّحابة هم القدوة والنموذجُ في فهم الإسلام، يأخذون بالأسبابِ في الكسب من تجارةٍ وزراعة، ويطلبون العلمَ ويبذلون في سبيل ذلك أوقاتهم ونفوسَهم وأموالهم، فيهم الأغنياءُ دون بطر والفقراء مع التعفُّف، ومع هذا كانوا أبعدَ النّاس عن التهالك على الدنيا، فتَحوا البلدان، وأنشؤوا المدُن، وأقاموا الدّولَ، ونشروا الإسلام.
كان بعضُ كبار الصحابة من الأغنياء، ولم يدعُهم رسول الله إلى ترك المال وترك الاشتغالِ بالتّجارة، كما أنّ الدّنيا لم تكن تساوي جناحَ بعوضة في حياتهم، قال سفيان بن عيينة: "ليس من حبّ الدنيا أن تطلبَ منها ما يصلِحك" [11] ، وعن سعيد بن المسيّب: "لا خيرَ فيمن لا يطلب الدّنيا يقضي به دَينَه ويصون به عرضَه، وإن مات تركهه ميراثًا لمن بعده" [12].
الدّنيا في المفهوم الإسلاميّ وسيلة وذريعةٌ لتحصيل مقاصدِ الشريعة ومطيّة للآخرة، فإنّها إذا فسدت فربّما أدّى فسادُها إلى إيقاف الدّين، فلا شكّ أنّ الدين سيضعف إذا وصل حالُ أهلها إلى قلّةِ الرزق والقتل، فلا يُقبَل أن يقول مسلم: أنا أحفظ ديني وأدَع الدنيا يُعبَث بها ويُفسد فيها؛ لأنّ من صلحت حاله مع فساد الدّنيا واختلال أمورِها لم يعدم أن يتعدّى إليه فسادُها ويقدح فيه اختلالها؛ لأنّه منها يستمدّ، ومن فسَدت حاله مع صلاح الدّنيا وانتظام أمورِها لم يجِد لصلاحها لذّةً ولاستقامتها أثرًا؛ لأنّ الإنسانَ دنيا نفسِه، قال الله تعالى: وَ?بْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ?للَّهُ ?لدَّارَ ?لآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ?لدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ?للَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ?لْفَسَادَ فِى ?لأرْضِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [القصص:77].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن الترمذي: كتاب الزهد (2323) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وأخرجه مسلم في كتاب الجنة (2858).
[2] أخرجه أحمد (1/391، 441)، والترمذي في الزهد (2377)، وابن ماجه في الزهد (4109)، والطيالسي (277)، والبزار (1533)، وأبو يعلى (5229، 5292)، والحاكم (7859)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (438).
[3] صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء (2742) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[4] صحيح البخاري: كتاب الجزية (3158).
[5] صحيح مسلم: كتاب الزهد (2962).
[6] انظر: إحياء علوم الدين (3/207).
[7] أخرجه البيهقي في الزهد (2/134)، وانظر: صفة الصفوة (3/279).
[8] صحيح البخاري: كتاب الجهاد (2887) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (299) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (4/197)، والبيهقي في الشعب (2/91)، وصححه ابن حبان (3210)، والألباني في غاية المرام (454).
[10] صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء (2720) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] أخرجه أبو نعيم في الحلية بمعناه (7/273)، وانظر: صفة الصفوة (2/232).
[12] انظر: تفسير القرطبي (3/420).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، أحمده سبحانه وأسأله الفوزَ بالباقيات الصّالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله البريّات، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله المبشَّر بالمكرُمات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الفائزين بالجنّات.
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مّنَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ?لآخِرَةِ هُمْ غَـ?فِلُونَ [الروم:7]. يحكي القرآن حالَ أقوامٍ نظرتُهم إلى الحياة الدنيا نظرة ضيّقة محدودة، يعلمون ظاهرَها، وهو ملاذُّها وملاعبها وأحسابها وشؤونها وعمرانها ومساكنُها وشهواتهم وأهواؤهم، ولا يعلمون باطنَها؛ مضارَّها متاعبَها فناءها، فعن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله قال: ((الدّنيا دار من لا دارَ له، ومالُ من لا مال، ولها يجمَع من لا عقلَ له)) رواه أحمد في مسنده [1].
إنّ هؤلاء الذين أخلدوا إلى الأرض لا يذكرون من دنياهم لا ينالون من دنياهم للذّتهم بطائل ولو جمعوا وملكوا كلَّ عروشِها، ويظلّ الظمأ النفسيّ واللّهَث المادّيّ في تواصُلٍ دائم، قال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـ?هُ بِهَا وَلَـ?كِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ?لأرْضِ وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ?لْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث [الأعراف:176].
ألا وصلّوا ـ عبادَ الله ـ على رسولِ الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الأربعة الراشدين...
[1] مسند أحمد (6/71) من حديث عائشة رضي الله عنه، وأخرجه البيهقي في الشعب (7/375)، وحسنه المنذري في الترغيب (4/86)، وقال الهيثمي في المجمع (10/288): "رجاله رجال الصحيح غير دويد وهو ثقة"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1933).
(1/2795)
مفهوم العبادة في الإسلام
التوحيد
الألوهية
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
21/8/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغاية من إيجاد الخلق. 2- عموم مفهوم العبادة في الإسلام. 3- تنوع العبادات في الإسلام. 4- الاحتساب في المباحات. 5- فضل العمل للمصلحة العامة. 6- التحذير من الغلو والتنطع. 7- قراءة سورة ق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ الله جلّ وعلا ما خلق الخلقَ عبَثًا، وما تركهم سُدى، فما خلقُه لهم عبثًا وباطلاً، بل خلقُه لهم لحكمةٍ عظيمة، قال جلّ وعلا: وَمَا خَلَقْنَا ?لسَّمَاء وَ?لأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـ?طِلاً ذ?لِكَ ظَنُّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ?لنَّارِ [ص:27]، وقال جلّ جلاله: وَمَا خَلَقْنَا ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـ?عِبِينَ مَا خَلَقْنَـ?هُمَا إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [الدخان:38، 39].
وبيّن تعالى هذا الحقَّ الذي لأجله خلق الخلقَ فقال: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ [الذاريات:56، 57]. فحكمته مِن خلق الخلق أمرُهم بعبادتِه والقيام بما أوجب عليهم. أرسل الرّسلَ مبشّرين ومنذِرين ليعرِّفوا الخلقَ بربّهم، ويبيّنوا لهم الغايةَ التي لأجلها خلِقوا، فمِن قابلٍ للهدى ومِن رادٍّ له، وحجّة الله قائمة على العباد.
أيّها المسلم، تأمّل قولَه تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ، وفي قوله: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا [النساء:36].
العبادةُ لها مفهومٌ عامّ، أصل هذه العبادة وأساسُها إخلاصُ الدّين لله، أن تفردَ الله بكلّ أنواع العبادة، وأن تتوجّه بقلبك إلى الله محبّة وخوفًا ورجاءً، فكلّ عبادة تصرِفها لله، صلاتك لله، دعاؤك لله، اضطرارُك لله، خوفك الحقّ من الله، كمال الرّجاء والثقة كلّها بالله، فليس في قلبك تعظيمٌ لسوى الله، إنّما التعظيم الحقّ لله وحدَه، ذَلِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ?لْبَـ?طِلُ [لقمان:30].
أيّها المسلم، إنّ مفهومَ العبادة في شريعة الإسلام مفهومٌ عامّ شامل لكلّ خير من أمرِ الدين والدنيا، فحقيقة العبادة اسم يجمَع كلَّ الأقوال والأعمال التي يحبّها الله ويرضاها، والمسلم في هذه الدّنيا يعلم حقًّا أنّه عبد لله عبوديةً حقّة، فهو يسعى في تحقيق تلك العبوديّة ليكون عبدًا لربّه حقًّا، فشرفُه وفضله كونه عبدًا حقًّا لله، يمتثل أوامرَ الله ويجتنِب نواهيَ الله ويقِف عند حدوده وينفّذ فرائضه.
أيّها المسلم، ومِن رحمة الله بنا وفضلِه علينا أن نوّع لنا العبادات، وجعلها أنواعًا مختلفة، فعبادةٌ قلبيّة هي ما يقوم بالقلب من إخلاصٍ لله وقصد الله بكلّ أنواع العبادة، عبادة بدنيّة، هذه الصّلوات الخمس التي يؤدّيها المسلم في يومه وليلتِه خمسَ مرّات، عبادة ماليّة، هذه الزّكوات التي يخرجها المسلم عن إيمان ورضًا بها متقرِّبًا بها إلى ربّه، عبادةٌ فيها كفُّ النّفس عن المشتهيَات طاعةً لله تتمثّل في فرضيّة الصيام، عبادةٌ فيها المال والبَدن معًا كالحجّ فإنّه عبادة جمعت بين المال والبدن، والجهاد في سبيل الله أفضلُ وأعظم.
ثمّ إنّه تعالى تفضّل علينا فشرع لنا نوافلَ في الصلاة ونوافلَ من الصدقة ونوافل من الصيام ونوافل من الحج والعمرة، كلّ ذلك تقويةً لإيماننا ورفعًا لدرجاتنا وزيادةً في حسناتنا، فله الفضل والمنّة علينا، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه.
أيّها المسلم، وفوق هذا لتعْلَم ـ أيّها المسلم ـ حقًّا أنّ كلَّ تصرُّفاتك في حياتك إذا قصدتَ بها وجهَ الله فإنّ كلَّ أقوالك وأعمالك التي تريد بها التقرّبَ إلى الله إنّها عبادة لله.
المسلم يتعبّد الله ببرّ أبويه والإحسان إليهما، ولذا يقول لمن سأله عن الجهاد: ((أحيٌّ والداك؟)) قال: نعم، قال: ((ففيهما فجاهد)) [1]. فجعل برَّهما جهادًا يعدِل النزولَ في ميادين الجهاد.
أيّها المسلم، صلتك لرحمك عبادة لله؛ لأنّك تؤدّي واجبًا أوجبه الله عليك إذ يقول: وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ [النساء:1].
أيّها المسلم، إنفاقُك على أولادك عبادة منك لله، يقول لسعد بن أبي وقّاص: ((إنّك لن تنفقَ نفقةً يبتغي به وجهَ الله إلا أُجرت عليها، حتّى ما تضع في في امرأتك)) [2].
أولادك من بنينَ وبنات تربيتُهم وتوجيههم والقيام على ذلك عبادة لله؛ لأنّ الله يقول لك: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6].
أيّها المسلم، بيعك وسعيُك في البيع والشراء وحركتك التجاريّة إذا قصدتَ بها طاعةَ الله وأردتَ بها نفعَ الأمّة فإنّك تؤجَر على نيّتك الصالحة.
زواجُك ونكاحك تريد إعفافَ نفسك وتحصينَ فرجك وغضّ بصرك عبادةٌ منك لله وطاعة تتقرّب بها إلى الله.
أيّها المسلم، وفوق هذا كلِّه أيضًا حتّى ما تتعاطاه من المباحاتِ وتسعى فيه من المباحات لتتقوّى به على طاعةِ ربّك إنّك بهذا تكون عابدًا لله.
فعبادتُنا لربّنا ليست محصورةً على الأركان وحدَها، ولكن على الواجباتِ عمومًا وعلى ترك المحرّمات عمومًا.
أخي المسلم، عندما تترفّع عن الرذائلِ والمحرّمات طاعةً لله فإنّ تلك عبادة منك لله، ولذا قال بعض السلف في تفسير حقيقة التّقوى: "أن تعملَ بطاعة الله، على نورٍ من الله، ترجو بذلك ثوابَ الله، وأن تتركَ معصيةَ الله، على نورٍ من الله، تخاف عقابَ الله" [3].
المسلم صادقُ القول في بيعه وشرائه، لا يكذِب، لا يغشّ، لا يخون، لا يخدَع، هذا عبادة لله، يؤدّي الحقوقَ الواجبةَ عليه للخلق عبادةٌ لله، يصلح بين المتخاصمين عبادةٌ لله، يفرّج كربَ المكروبين وهمّ المهمومين ويُيسِّر على المعسرين وينفّس كربَ المكروبين هذه عبادة لله.
إذًا فأقواله وأعمالُه إذا حسُنت النيّة وخلصت لله فإنّه في كلّ أحواله عابدٌ لله قائم بطاعة ربّه.
هكذا شريعة الإسلام، تدعو المسلمَ إلى الخير، والله جلّ وعلا نوّع لنا أسبابَ الخير، كلّ ذلك لأجل زيادةِ الحسنات ورفع الدرجات وحطّ الخطايا والسيّئات.
فيا أخي المسلم، قوِّ ثقتك بربّك، واعمل لآخرتِك، واستقِم على الطاعة، وأحضِر النيّة الصادقة في أيّ قولٍ طيّب أو عمل مرضيّ لتكون بذلك عابدًا لربّك مؤدّيًا لحقوق العبوديّة.
أيّها المسلم، إنّ سعي المسلم في الصالح العامّ للأمّة عبادة منه لله، فالمسلم إذا سعى في الخير العامّ كان عابدًا لله؛ لذا يقول النبيّ : ((ما من مسلم يغرِس غرسًا ولا يزرع زرعًا فيأكل منه إنسان أو طائرٌ إلاّ كان لغارسه الأوّل أجر)) [4] ، كلّ هذا لترغيبِ المسلمين في المنافع العامّة لهم.
إماطةُ الأذى عن الطّريق صدقة وعبادة لكونك أمطتَ عن طريق الناس ما يؤذيهم ويضرّ بهم. إقامة المشاريع العامّة النافعة للأمّة عبادة لله، بل كلّ علم يتعلّمه العبد إذا أرادَ به مع منفعتِه الدنيويّة مصلحةً للأمّة وأراد وجهَ الله فإنّ الله يثيبه على نيّته، فإنّ الأعمال بالنيات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى، وهذا من فضلِ الله علينا وكرمِه وإحسانه إلينا.
أيّها المسلم، إذًا فاستقِم على الطّاعة، وواظب على العبادة، واحذَر أن تسأمَ أو تملّ منها: وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99].
لا يكن همّك أن تقضيَ العبادةَ أو أن تنقضي العبادة، وإنّما همّك إحسان أدائها والقيام بحقّها، لتؤدّيَ العبادة عن طيب نفسٍ وانشراح صدر وقرّة عين.
أيّها المسلم، إنّ نبيّنا يقول لبلال: ((أرِحنا بالصّلاة)) [5] ، ويقول: ((جُعلت قرّة عيني في الصّلاة)) [6]. إذًا فالعبادة راحةُ المسلم وقرّة عين المؤمن، يؤدّيها طيّبةً بذلك نفسه، منشرحًا صدرُه، قارّة عينه، فكلّ حركة يتحرّكها فإنّه يقصد بها وجهَ الله.
لمّا أخبر النبيّ عن أجر التّسبيح والتّكبير والتحميد قال: ((وفي بُضع أحدكم صدقة)) ، أي: في فرجِه، قالوا: يا رسول الله، يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: ((أرأيتُم لو وضعَها في الحرام كان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) [7] ، فانظر لذةٌ ومتعة هي أجرٌ وعبادة وطاعة لله، فهذه من نِعم الله على المسلم أن تتحوّل المباحات والملذّاتُ والطيّبات من كونها مباحةً إلى أنّها عبادة وطاعة لربّ العالمين جلّ وعلا، بل نومُ العبد وراحته هي عبادة إذا قصد بها التقوِّي على الخير والهدى.
أيّها المسلم، ولأجل هذا منع النبيّ المسلمين من التنطّع والغلوّ في دينهم، ومنعهم من عبادةٍ يسأمونها ويملّونها، لمّا بلغه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عبادتُه العظيمة؛ الليل صلاةٌ وتلاوة، والنّهار صيام وعبادة، واشتكت زوجته لأبيه ماذا تعاني، وتقول: إنّه لم يكشِف لنا غطاءً، إن جَاء الليل قطعَه بالصلاة والقراءة، وإن جاء النّهار واصله بالصّيام، واستمرّ يصوم الأيّام كلَّها ويقوم الليلَ كلّه، فدعاه النبيّ المعلّم والموجّه والمربّي صلوات الله وسلامه عليه قال له: ((ألم أُخبَر أنّك تقوم الليل وتصوم النّهار؟)) قال: نعم، قال: ((يا عبد الله بن عمرو، إنّ لربّك عليك حقًّا، وإنّ لنفسك عليك حقًّا، وإنّ لأهلك عليك حقًّا. يا عبد الله، صُمْ من كلّ شهر ثلاثة أيام)) ، فأبى وقال: أطيقُ أكثرَ من ذلك، فما زال به النبيّ حتى جعله يصوم يومًا ويفطِر يومًا، وقال: ((هذا صيام داود، ولا أفضلَ من صيام داود. يا عبد الله، نَم نصفَ الليل، وقُم ثلثَه، ثم نَم سدسَه)) ، ثم قال له: ((اختِم القرآنَ في كلّ شهر مرّة)) ، فما زال به حتى جعله يختمه كلَّ ثلاثة أيّام.
عبد الله بن عمرو سلك هذا المسلكَ، والتزم هذا الأدَب، والنبيّ أخبره أنّه يوشك أن يتعبَ، فما مضى سنون حتّى عجز عبد الله عن تلك المهمّة، فكان يجمع الأيّام ويصومها، ثمّ يفطر مثلها، ويقول: يا ليتني قبِلت رخصةَ النبيّ [8].
نبيّكم تقول عائشة: كان يصوم حتّى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم [9] ، قال بعض العلماء: وذلك أنّه يلحظ المصالحَ ويقدّم أفضلَها على ما دونَه، فإن يكن هناك ارتباطاتٌ في المجتمع أخّر الصيامَ لأجل قضاء حاجاتِ المسلمين، وإن يكن الوقت ليس وقتَ ذاك ربّما صام. وقال: ((لا صامَ من صام الدهر)) [10].
أيّها المسلم، فالغلوّ في العبادة يتعِب العبدَ ولا يحقِّق له هدفًا، ولذا يقول : ((المتبتِّل لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى)) [11]. والبدَع والزّيادة في الأمور بغير الشّرع كلّها لا خيرَ فيها، إنّما التزام الطّريق المستقيم البعيد عن الإفراط والتّفريط، هذا هو طريقُ المؤمن حقًّا الذي يسير عليه في حياته، ولذا ذمّ الله أهلَ الكتاب بقوله: وَرَهْبَانِيَّةً ?بتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَـ?هَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ?بْتِغَاء رِضْو?نِ ?للَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27]؛ لأنّهم ابتدعوها ثمّ أخلّوا بها، ونبيّنا يقول لنا: ((إنّ أحبَّ الأعمال إلى الله ما داوم صاحبُه عليه وإن قلَّ)) [12] ، فقليلٌ من العمل تلتزم به وتؤدّيه خير من كثيرٍ تؤدّيه يومًا وتتركه أيّامًا، وكون المسلم له عبادات متنوّعة يأخذ من كلّ نوع قدرَ ما يستطيع، وينوّع الخيرَ وطرقه، هذا هو المطلوب من المسلم ليكونَ في صيامه على صلةٍ قويّة بربّه وبدينه ثم بنبيّه.
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والهداية لكلّ خير، إنّه على كلّ شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصلت:30-32].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الجهاد (3004)، ومسلم في البر (2549) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (56)، ومسلم في الوصية (1628) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[3] هذا من كلام طلق بن حبيب رحمه الله، أخرجه ابن المبارك في الزهد (1343)، وهناد في الزهد (522)، وأبو نعيم في الحلية (3/64)، والبيهقي في الزهد الكبير (2/351).
[4] أخرجه البخاري في المزارعة (2320)، ومسلم في المساقاة (1553) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[5] أخرجه أحمد (5/364)، وأبو داود في كتاب الأدب، باب: في صلاة العتمة (4985) عن رجل من الصحابة بنحوه، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (4171).
[6] أخرجه أحمد (3/128، 199، 285)، والنسائي في عشرة النساء (3939، 3940)، وأبو يعلى (3482)، والضياء في المختارة (1737) من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2676)، وجوّد إسناده العراقي كما في فيض القدير (3/371)، وقواه الذهبي في الميزان (2/177)، وصححه الحافظ في الفتح (3/15، 11/345)، وهو في صحيح سنن النسائي (3681).
[7] أخرجه مسلم في الزكاة (1006) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[8] أخرجه البخاري في الصوم (1975)، ومسلم في الصيام (1159) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بنحوه وليس فيه بيان مقدار القيام.
[9] أخرجه البخاري في الصوم (1969)، ومسلم في الصيام (1156).
[10] أخرجه البخاري في الصوم (1979)، ومسلم في الصيام (1159) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[11] أخرجه البزار، والقضاعي في مسند الشهاب (1147)، والبيهقي في الكبرى (3/18) من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: ((المنبتّ)) ، قال الهيثمي في المجمع (1/62): "فيه يحيى بن المتوكل أبو عقيل وهو كذاب"، وقال المناوي في الفيض (2/544): "فيه اضطراب، روي موصولا ومرسلا، ومرفوعا وموقوفا، واضطرب في الصحابي أهو جابر أو عائشة أو عمر، ورجح البخاري في التاريخ إرساله"، وضعفه النووي في الخلاصة (1/598)، وهو في ضعيف الجامع (2022).
[12] أخرجه البخاري في الرقاق (6464، 6465)، ومسلم في الصيام (782، 783) عن عائشة رضي الله عنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، جاء في صحيح مسلم عن أمّ هشام بنتِ الحارث قالت: ما حفِظت ق وَ?لْقُرْءانِ ?لْمَجِيدِ [سورة ق] إلاّ من لسان النبيّ ، يقرأ بها كلَّ جمعة على المنبر يعِظ الناسَ بها، لِما في هذه السورةِ من مواعظَ عظيمة، فيها إثبات المعاد والجزاءُ والحساب، فيها بيان كمال علمِ الله كمالُ قدرتِه على كلّ شيء وإحاطتِه بخلقه وعلمِه بما يسرّون وما يعلِنون، فسبحانَ مَن جعل كلامَه موعظةً للقلوب، فخيرُ ما توعَظ به القلوب كتابُ الله، فَذَكّرْ بِ?لْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ق وَ?لْقُرْءانِ ?لْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ ?لْكَـ?فِرُونَ هَـ?ذَا شَىْء عَجِيبٌ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ?لأَرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَـ?بٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُواْ بِ?لْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى ?لسَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَـ?هَا وَزَيَّنَّـ?هَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَ?لأَرْضَ مَدَدْنَـ?هَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَو?سِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى? لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ ?لسَّمَاء مَاء مُّبَـ?رَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّـ?تٍ وَحَبَّ ?لْحَصِيدِ وَ?لنَّخْلَ بَـ?سِقَـ?تٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رّزْقًا لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذ?لِكَ ?لْخُرُوجُ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَـ?بُ ?لرَّسّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْو?نُ لُوطٍ وَأَصْحَـ?بُ ?لأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ ?لرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أَفَعَيِينَا بِ?لْخَلْقِ ?لأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ?لْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى ?لْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِى ?لصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ ?لْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَـ?ذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ ?لْيَوْمَ حَدِيدٌ وَقَالَ قَرِينُهُ هَـ?ذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّـ?عٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ ?لَّذِى جَعَلَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هًا ءاخَرَ فَأَلْقِيَـ?هُ فِى ?لْعَذَابِ ?لشَّدِيدِ قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَـ?كِن كَانَ فِى ضَلَـ?لٍ بَعِيدٍ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِ?لْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ ?لْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ?مْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ وَأُزْلِفَتِ ?لْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَـ?ذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِىَ ?لرَّحْمَـ?نَ بِ?لْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ?دْخُلُوهَا بِسَلَـ?مٍ ذَلِكَ يَوْمُ ?لُخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُواْ فِى ?لْبِلَـ?دِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِى ذ?لِكَ لَذِكْرَى? لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ?لسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فَ?صْبِرْ عَلَى? مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ?لشَّمْسِ وَقَبْلَ ?لْغُرُوبِ وَمِنَ ?لَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَـ?رَ ?لسُّجُودِ وَ?سْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ?لْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ ?لصَّيْحَةَ بِ?لْحَقّ ذَلِكَ يَوْمُ ?لْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ?لْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ ?لأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكّرْ بِ?لْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [سورة ق].
(1/2796)
هل من عودة للدين؟!
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
محمد أحمد حسين
القدس
21/8/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عقوبة الله في الجبابرة الكافرين. 2- الإعراض عن هدي الله ودينه سبب عقوبة الله. 3- دعوة للرجوع إلى دين الله وهديه. 4- المنتظر والمؤمل في مؤتمر القمة الإسلامي في ماليزيا. 5- جرائم اليهود في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، لقد جعل الله هذه الدنيا دار ابتلاء وامتحان لجميع خلقه، فأمدهم بخيراتها، وأنعم عليهم بنعمها، وأرسل الرسل يحملون دعوة الله وهدايته، لتوجه البشرية إلى ما ينفعها في الدنيا ويقودها للفوز بالآخرة، وفق منهاج الله، الذي يقوم على توحيد الألوهية والربوبية، وبهذا لا تزيغ البشرية عن طريق الحق، ولا تنكَّب جادة الصواب، وقد نجى الله المؤمنين الذين اتبعوا دعوة رسلهم على امتداد هذه الحياة من العذاب والهلاك الذي لحق بالمعرضين والمكذبين لدعوات الرسل، لركونهم إلى الدنيا وشهواتها، لخروجهم على كل قيم الإيمان ومبادئ العدل والرحمة والإحسان.
ولقد قص الله علينا في كتابه العزيز، وقصص القرآن للعبرة والموعظة، قص علينا ما حاق بالأمم السابقة من الخزي والعذاب جزاء تمردها على الرسل وعلوها في الأرض وإفسادها فيها، فقال تعالى بحق فرعون الذي قاده غروره وعلوه وكبره إلى ادعاء الألوهية قال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ي?أَيُّهَا ?لْملاَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى ي?هَـ?مَـ?نُ عَلَى ?لطّينِ فَ?جْعَل لّى صَرْحاً لَّعَلّى أَطَّلِعُ إِلَى? إِلَـ?هِ مُوسَى? وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ ?لْكَـ?ذِبِينَ وَ?سْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَـ?هُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـ?هُمْ فِى ?لْيَمّ فَ?نظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لظَّـ?لِمِينَ وَجَعَلْنَـ?هُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ?لنَّارِ وَيَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ لاَ يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَـ?هُم فِى هَذِهِ ?لدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَـ?مَةِ هُمْ مّنَ ?لْمَقْبُوحِينَ [القصص:38-42].
وهذا جزاء المفسدين في الأرض والمتكبرين والعالين والمتجبرين الذين نسوا قدرة العزيز الجبار قاصم الجبارين وقاهر الظالمين، ولو بعد حين.
أيها المسلمون يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، لقد هلكت الأمم السابقة بسبب ذنوبها وعصيانها وشيوع المنكرات فيها وإعراضها عن دعوة رسلها، بعد قيام الحجة على تلك الأمم، فالله يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى? نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15]، ويقول جل من قائل: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ?لْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى? بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا [الإسراء:17]، ويبين سبحانه وتعالى أن الإيمان والتقوى منجيات للناس من الهلاك والعذاب في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
أيها المسلمون، إن الإعراض عن هدى الله والابتعاد عن هدي رسله والوقوع في المعاصي هي موجبات غضب الله وسخطه على الناس، وهي أسباب واضحة في إهلاك الأمم واستئصالها، فأي ذنب أهلك الأمم السابقة لم تقع فيه أمتكم الإسلامية؟ ألم تستبدل دول هذه الأمة أحكام الشريعة الغراء بأحكام الطاغوت؟ والله يقول: يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ?لطَّـ?غُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ [النساء:60]، ويقول جل من قائل: أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، ألم تتفرق أمتكم شيعاً وأحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون؟ ألم يوالِ حكامها أئمة الكفر ويعقدوا معهم الأحلاف، ويعاونوهم في السيطرة على ديار المسلمين واستباحة كرامتهم؟ ألم تنتشر الفاحشة والربا والخمور والقيان، والتبرج والفجور والسفور بين نساء الأمة ورجالها؟ أما تهدد الرذيلة حصون كل فضيلة حتى أصبح المتمسك بدينه كالقابض على الجمر أو أشد؟
رحماك يا رب يا غافر الذنب وقابل التوب، نسألك غفران ذنوبنا وستر عيوبنا وأن تمن علينا بتوبة نصوح، فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
أيها المسلمون، لقد سادت أمتكم وكانت رائدة الركب، يوم طبقت منهاج ربها عقيدة وشريعة ونظام حياة، هذا المنهاج الذي رضيه الله لكم ديناً، وأتم به نعمته عليكم فقال تعالى ممتناً على هذه الأمة بتمام النعمة: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]، أفلا ترضون يا مسلمون بما رضيه الله لكم؟ أما آن أن تنفضوا عن كاهل أمتكم غبار هذا الذل، جراء البعد عن منهج الله، أما آن أن تتأسوا بقدوتكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بدأ دعوته وحيدا ولم يمضِ وقت طويل حتى انتشر الإسلام وقامت دولته الأولى في المدينة المنورة، وحمله الخلفاء من المسلمين إلى بقاع الدنيا، نورا وهداية للعالمين ورحمة للخلق أجمعين.
فلا صلاح لآخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أولها، ونحن أمة أعزنا الله بالإسلام فلا عزة لنا بغيره، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من كان متأسياً فليتأسَ بأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على المستقيم).
ورسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم يقول: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله)) [1] ، والله يدعوكم إلى الصراط المستقيم: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، فهل من معتبر؟ وهل من مدكر فاعتبروا يا أولي الأبصار.
وادعوا الله وأنتم موقنون بالاستجابة.
[1] أخرجه مالك في الموطأ بلاغًا (1661)، ووصله الحاكم في المستدرك (1/93) وابن عبد البر في التمهيد (24/331) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "هذا محفوظ معروف مشهور عن النبي عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد" وصححه الألباني في صحيح الجامع [2937].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اقتدى واهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
عباد الله، أمرنا الله بأمر ابتدأه بنفسه، وثنى بملائكة قدسه، فقال الله تعالى، ولم يزل قائلاً عليماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد. وارض اللهم عن جميع الصحابة والقرابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: أيها المسلمون، يختتم قمة المؤتمر الإسلامي العاشرة في ماليزيا، هذه القمة التي جمعت ما يزيد عن خمسين دولة من دول العالم الإسلامي، والناظر إلى جدول أعمال هذه القمة يخيل إليه أن مقررات وتوصيات ستصدر عن هذه القمة تعالج بعضاً من مشاكل الأمة، وما أكثر مشاكل الأمة في هذه الحقبة التي ابتعدت فيها أمتكم عن سر قوتها وعزتها، وفقدت وحدتها، مع أنها تملك من أسباب القوة وعوامل الوحدة ما لا يتوفر لأمة غيرها، فدينها الإسلام، ودستورها القرآن، وقائدها ورسولها محمد عليه الصلاة والسلام.
إننا على يقين بأن قرارات هذه القمة وتوصياتها وبياناتها ستبقى حبراً على ورق ولن تجد سبيلاً للتنفيذ مادامت دول هذه القمة لم تتخذ من الإسلام منهاجاً لحياتها، ومن القرآن دستوراً لحكمها.
فقد غاب عن القمة خطاب أول خليفة للمسلمين حيث قال مخاطباً الأمة: (أيها الناس، إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، فالضعيف فيكم قوي حتى آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه، أطيعوني ما أطعت الله رسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم).
كما غابت عن القمة نخوة المعتصم وعزة الرشيد وعزيمة صلاح الدين، وحرص السلطان عبد الحميد على الأرض المقدسة ومقدساتها.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض ديار الإسراء والمعراج، هلا كانت هذه القمة بمستوى الأحداث الجسام التي تمر بها شعوب الأمة الإسلامية في العراق وفلسطين والصومال والشيشان والفلبين وغيرها من أقطار الديار.
إن ما يجري في هذه الديار المباركة يكفي لاستنهاض الأمة ومراجعة مواقفها وأحوالها، وإيقاظها من سباتها، لقد وصل الأمر ببعض الجهات الدولية أن وصفت ما جرى من اجتياح لمدينة رفح بأنه جريمة حرب، قتل فيها الأبرياء وشرد المواطنون من بيوتهم، وأصبحوا دون مأوى بعد هدمها، ولم يتوقف العدوان الإسرائيلي على أبناء شعبنا عند هذا الحد، فالحصار ومنع التجول والقتل والاغتيال وتقطيع أوصال المدن والقرى والأرياف ومنع المواطنين من الوصول إلى أعمالهم ومدارسهم ومزارعهم، والاستمرار في بناء المستوطنات وجدران الفصل العنصري، أصبح ذلك كله ممارسات يومية للاحتلال الإسرائيلي، زد على ذلك إجراءات الإبعاد بحق بعض مواطني الضفة الغربية إلى قطاع غزة، في إجراء تعسفي ضد حقوق الإنسان وحقه في الحياة بين أهله وذويه ومنعه من ممارسة أبسط حقوقه الإنسانية.
اللهم إليك نشكو ظلم الظالمين وعدوان المعتدين، فإنهم لا يعجزونك.
فمزيداً من الصبر والثبات والرباط يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].
اعلموا ـ أيها المسلمون ـ أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، ولن يغلب عسر يسرين.
(1/2797)
البحث عن الأصدقاء
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
حمزة بن سليمان الطيار
الرياض
جامع الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مشكلة الصداقة. 2- استحالة الصديق الكامل المواتي. 3- ضرر صديق المنفعة. 4- ضرورة الصداقة. 5- مصادقة أهل الإيمان والتقوى. 6- أهمية البطانة وخطورتها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإنه من اتقاه وقاه، ومن توكّل عليه كفاه.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
اللهم يا حي يا قيوم، أنزل عليّ وعلى هؤلاء الحضور رحمةً من عندك، تغفر بها ذنوبنا، وتستر بها عيوبنا، وتصْلح بها سرائرنا ونياتنا وذرّياتنا وزوجاتنا.
أيها المسلمون، فإن من المشاكل المستعصية التي تعذّر حلُّها على الإنسانية حتى اليوم، تلك هي مشكلة الصداقة، والصداقة في الواقع مشكلة معقّدة ومعضلة غامضة، يرجع تعقيدها وغموضها إلى أن الناس مختلفون في العناصر والأجناس والغرائز والطباع والمنازع والمشارب والميول والأهواء والعواطف والعقول والنشأة والتعليم؛ إذ قلّما تجد في الناس على كثرتهم شخصين متفقين في جميع الشمائل والصفات، بل قلّما تجد في المجتمع الإنساني على سعتِه شخصًا واحدًا كملت صفاتُه من جميع النواحي؛ لأننا إذا وجدنا الجواد الكريم وجدناه إلى جانب ذلك مماطلاً منَّانًا، وإذا وجدنا الشجاع المقدام وجدناه إلى جانب ذلك مختالاً فخورًا، وإذا وجدنا الصالح التقي وجدناه إلى جانب ذلك لينًا ضعيفًا، وإذا وجدنا القويّ الشديد وجدناه إلى ذلك خائنًا غيرَ أمين، وهكذا إلا ما رحم ربك.
وهكذا لا نطلب فضيلةً من الفضائل في إنسانٍ ما إلا وتشوبها رذيلة من النقائص والعيوب، حاشا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، لذلك شكا الناس ندرةَ الرجل الكامل وقلّة الصديق الوفيّ، إلا أن الإنسان اجتماعي بطبعه لا بدّ له من صديق يؤنس نفسَه ويمتع حسَّه، ويساعده في الشدائد والملمّات، لا بد له من صديق يشكوه همومه ويبثّه أحزانه، ويشاطره الأفراح والأتراح، لا بد له من صديق يعوده إذا مرض ويعود عليه إذا افتقر، يسأل عنه إن غاب، لا بد له من صديق يخلفه بخير إذا سافر، يستقبله بفرح إذا رجع، يقوم مقامَه في أهله إذا مات، لا بد له من صديق يملأ وقته ويشغل فراغَه ويعينه على الخصوم والأعداء، لا بد له من صديق يصحبه في العسر واليسر والفقر والغنى والسراء والضراء، لا بد له من صديق يحبّه كنفسه ويعدّه كشخصه، يجلّه كأهله وذويه، لا بد له من صديق يخلصه ودَّه وينجز وعدَه ويحقِّق له كل عهد وميثاق، يوافقه في مطعمه ومشربه ودينه ومذهبه وعقله وهواه.
فهل هذا الصديق موجود أم هو صديق خياليّ بينه وبين الحقيقة والواقع بونٌ شاسع وفرق كبير؟ الحق أقول: إن ذلك الصديق لم يوجد ولن يوجد؛ لأن هذه الصفات كلها لم تتوفّر إلا في الأنبياء والمرسلين عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهم قلّة نادرة بالقياس إلى جميع الناس، وقد بحث كلّ إنسان عن صديق هذه صفاتُه فلم يجده حاشا الصديق أبا بكر رضي الله عنه، فقد ضرب أروعَ الأمثلة في الصحبة والصداقة، وكثير من الرجال ذابت نفوسهم لوعةً وحسرة وتقطعت قلوبهم وأعناقهم جريًا وراء ذلك الصديق فلم يجدوه.
همومُ الرجال في أمور كثيرة وهمّي من الدنيا صديقٌ مساعدُ
نكون كروحَين بين جسمين قسِّمت فجسماهما كائنان والروح واحدُ
نعم، لقد جدّ كثير من عُظماء الرجال في البحث عن صديق وفيٍّ فلم يجدوه، وطالما حنّت إليه قلوبهم وهفت إليه نفوسهم، وعدّوا وجودَه من أكبر آمالهم وأعذب أمانيهم، ولا يزال الصديق الوفيّ في خيال الكثير حتى الآن أمنية حلوة وحلمًا لذيذًا، يتمنّون وجوده ويشتهون بقاءه، فيكونوا والحالة هذه صحّحوا قاعدةً أجمع الناس على بطلانها، وأوجدوا ممكنًا أجمع الناس على استحالته، ولستُ أقول ذلك مجازفة أو ادِّعاءً، ولا أقولها تشاؤمًا ولا سوءَ ظنّ بالناس، ولكنني أقول الحقيقة المرّة التي أملتها على الكثير التجارب، والتي أكّدتها لنا الأيام.
وهذا هو الإمام الشافعي رحمه الله الباحث المحقق والمنقِّب المدقِّق والرحالة المتجوّل والمجرّب الخبير وذو الفراسة والفهم بمعادن الرجال، يشكو غدر الأصدقاء وخيانتهم، وكفى به مجرّبا وخبيرًا، فاستمعوا إليه إذ يقول:
إني صحبتُ أناسًا ما لهم عدد وكنتُ أحسب أني قد ملأت يدي
فلما بلوتُ إخواني وجدتهمُ كالدهر في الغدر لم يبقوا على أحدِ
إن غبتُ عنهم فشرّ الناس يشتمني وإن مرضتُ فخير الناس لم يعُدِ
إن الإنسان لا يزال في سلامة وعافية حتى يصادق ويعاشر، فإذا تمّ له ذلك جاءته المصائب من حيث لا يحتسب، وكان حظه من المصائب والنوائب بقدر ما له من خلاّن، فقد يصطفي الإنسان لنفسه صديقًا حميمًا، يهبه قلبه ويمنحه حبّه ويوقف عليه إخلاصه ويشرح له ظاهره وباطنه ويفهمه قريبه وبعيده ويشركه في وقته وعمله ويطلعه على كل خفي ومكنون، وما أن يعلم منه ذلك كلّه حتى يتلمّس منه أية غفلة، وعند ذلك يطعنه من الخلف، ويكون أوّل من يدلّ على عورته، وأول من يرشد إلى هلاكه، بل إنه ليكون من أكبر خصومه ومن ألدّ عداته، وهل هتك الأعراض وطلّق الأزواج وفرّق الأهل والأقربين وباع النفوس رخيصةً مبذولة للخصوم والأعداء إلا الأصدقاء الخونة والخلاّن المنافقون الذين عرفوا مداخل الإنسان ومخارجه ومسالكه ومجاريه، وعرفوا كيف يعيش الإنسان وأين يذهب ومتى يجيء، وعلموا عنه الذي لم يعلمه أحد من الناس، وكانت نتيجة هذا العلم وهاتيك المعرفة أن أضروا به ضررًا بليغًا وفتكوا به فتكًا ذريعًا.
وهل ساءني إلا الذين عرفتهم جزى الله خيرًا كلَّ من لم أعرفِ
ولكن ماذا يفعل الإنسان؟ أيعيش في جفوة خشنة بعيدًا عن الناس وفي ذلك مرارة الوحدة ووحشة العزلة وسآمة الانفراد وقسوة الأعباء والتكاليف، أم يصادق ويعاشر ويجني من وراء ذلك المكر والغدر واللؤم والكيد والخيانة والوقيعة والخداع والنفاق والتملّق والرياء؟ وكلا الأمرين ملمس شائك وطريق مخيف.
الحق أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في عزلة بعيدًا عن الناس؛ لأنه عضو من المجتمع الذي يعيش فيه، ولا يمكنه أن يستغني عنه بأية حال من الأحوال، والأذن إذا انفصلت عن رأسها لا تسمع ولا تعي، والعين إذا انفصلت عن وجهها لا تبصر ولا تُضِي، فإذا كان لا بد له من أن يصادق ويعاشرَ فليصادق من أمره الله بمصادقتهم، وليتولَّ من أمره الله بتوليهم، وهم المؤمنون الذين كمل إيمانهم ونضج يقينهم وأشرقت أرواحهم ولمست حلاوة التقوى شغاف قلوبهم وامتلأت نفوسهم بنور الإيمان وأشعة اليقين، حتى أفاضوا على غيرهم من ذلك الخير، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فإذا صادقتَ أخًا مؤمنًا هذه صفاته كنتَ في مأمن منيع من الشر، وحصن حصين من الأذى، فإذا ما قدِّر أن يجيء ذلك اليوم الذي تتعكّر فيه صفوة الأخوة وصفاء الصداقة كنت في نهاية الطمأنينة على نفسك وجسمك ومالك وعرضك وسرّك وجهرك، لأن المؤمن إذا أراد أن يغدر بك وجد له دينا ينهاه عن الغدر، وإذا أراد أن يكيد لك وجد له دينا ينهاه عن الكيد، وإذا أراد أن يضرك وَجد له دينا ينهاه عن الضرر والإضرار، والدين الصحيح قيدٌ قويّ لا يشذّ معه طبع ولا ينحرف معه هوى، ولا تنفع معه رشوة ولا ينتصر عليه شيطان, ولذلك كرر الله دعوتنا في القرآن الكريم إلى مصادقة المؤمنين وتوليهم، وجعلهم مع رسوله في مرتبة واحدة في استحقاق الولاية، ووعَد من تولاهم في الدنيا بالنصر والغلبة، وفي الآخرة بالرحمة والمغفرة، إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?لَّذِينَ يُقِيمُونَ ?لصَّلو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ?للَّهِ هُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [المائدة:55، 56]، قال : ((لا يصحبك إلا مؤمن، ولا يأكل طعامك إلا تقي)).
فإذا كان الصديق زاكي النفس كريم الطبع تأثر به صديقه كما يتأثر النفَس الناشئ بخصوبة التربة وعذوبة الماء، وكذلك الشأن إذا كان الصديق خبيث النفس لئيم الطبع ولوعا بالأهواء والشهوات مفتونًا بالكسل والخمول، فإن صديقه لا بد وأن يتأثر به، ولا غرابة بعد ذلك إذا رأينا الإنسان يعضّ أصابعه من الغيظ والندم حينما يجني صداقته للئام الأخساء الذين يؤلهون أهواءهم وينحرفون عن سواء السبيل، وصداقة مثل هؤلاء الأصدقاء داهية دهياء وبلاء عظيم، لأنهم يزيّنون للإنسان الباطل ويعينون عليه الشيطان، ونتيجة ذلك الندم والحسرة، لا في الدنيا فقط، بل في الآخرة كذلك حينما يتبرأ كل من صاحبه، ?لأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ?لْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].
وبما أن الصداقة أمر له خطره وقيمته في شقاء الإنسان وسعادته فقد أوجبوا في الصديق أن يكون متّصفًا بخلاصة المحامد والمكارم، يأمر بالبر ويدعو إلى الخير، يغفر زلاتك ويستر عوراتك، ينشر محاسنك ويدفن مساوئك، إن رآك معوجّا قوّمك، وإن رآك معتدلاً شجعك، إن أخبرته صدّقك، وإن سألته أعطى، وإن دعوته أجاب، رقيق في عتابه، لا يشبع وأنت جائع، لا يكتسي وأنت عريان، وهذه الصداقة المثالية هي التي ينشدها الإسلام، ولا تتحقق إلا مع المؤمنين.
لا خير في ودّ امرئ متلوّن حلو اللسان وقلبه يتلهّب
يلقاك يحلف أنه بك واثق وإذا توارى عنك فهو العقرب
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب
هذه هي الصداقة التجارية، قائمة على أسس من المنافع والمصالح، ولذلك كانت قصيرة العمر، فالصديق النفعي لا ينظر إليك إلا كما ينظر الفلاح إلى بقرته والحمال إلى بغلته، إذا لم يستفد منها أضعاف ما ينفقه عليها لا يكرمها ولا يبقيها، كذلك صديق المنفعة لا ينظر إليك إلا بقدر ما ينتفع بك، إن رَاجت سوقك عنده باعك بأبخس الأثمان، فدمك عنده يباع بالدينار، وعرضك عنده يباع بالدرهم، ورحم الله الإمام الشافعي إذ يقول:
أحب من الإخوان كلّ مُواتي وكل غضيض الطرف عن عثراتي
يوافقني في كل أمر أريده ويحفظني حيا وبعد مماتي
فمن لي بهذا ليت أني أصبته فقاسمته ما لي من الحسنات
تصفحت إخواني فكان أقلّهم على كثرة الإخوان أهل ثقات
والشدائد محكّ رئيس في معرفة الصديق الوفي من النفعي.
جزى الله الشدائد كلّ خير وإن جرّعتها غصصي وريقي
وليس شكري لها حبّا ولكن عرفتُ بها عدوّي من صديقي
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، فكثّر به بعد قلّة، وأغنى به بعد عيلة، واستقامت ببعثته الملة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: أخي المسلم، سواء كنتَ رئيسًا أم مرؤوسًا، كنت مأمورًا أم آمرًا، لا بد أن يكون لك أصحاب تقربهم إليك وتستأنس بهم وتشاورهم في كثير من أمورك، وهؤلاء هم بطانتك.
وكثيرًا ما نرى من يزلّ زلاّت إنما استدرجته إليها بطانة فاسدة، زينت له الباطل وحجبت الحق عن عينيه، ومسؤولية أحدنا تبدأ من حسن الاختيار للأصحاب، فالصاحب دليل على صاحبه، إذ النفوس المتماثلة تتجاذب فيما بينها، كما بين سيدنا بقوله: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)) رواه أبو داود والترمذي بإسناد حسن؛ لأن أية صحبة لا تخلو من تأثير وتأثر، وقد كان سلف الأمة يحرصون على الأنس بالجليس الصالح والصاحب التقي الذي يعين على الخير ويزيل وحشة الغربة، وقد جاء في صحيح البخاري أن علقمة رحمه الله لما قدم الشام غريبًا دعا الله فقال: اللهم يسِّر لي جليسًا صالحًا؛ لأن الجليس الصالح يذكرك إذا غفلت، ويعينك إذا تذكرت، والرسول بين أنه ما من نبي ولا خليفة إلا ويقع بين دواعي بطانتين، قال : ((ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه)) أخرجه البخاري في صحيحه، وفي رواية صحيحة في مسند الإمام أحمد رحمه الله: ((وبطانة لا تألوه خبالاً)).
وإذا أردت أن تحتاط لأمر دينك فمن البداية خذ بوصية رسول الله باختيار صالحي المؤمنين لبطانتك، ثم لاحظ ما تراه من حرص أخيك على جلب الخير إليك وعلى اتقاء مساءتك، فإن أفضلهم صحبة ـ كما في الحديث ـ أكثرهم حرصًا على جلب الخير إليك، كما قال : ((خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه)) أخرجه الترمذي بسند صحيح.
وأولى الناس بالتقريب هم أهل الصلاح والعلم، ولذلك فقد كانت بطانة عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القراء، فقد أخرج البخاري في صحيحه أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولاً كانوا أو شبانا.
وكلما كانوا ـ أعني البطانة ـ من أهل العلم والتقوى كنت ـ يا أخي المسلم ـ أبعد عن الزلل بإذن الله تعالى، وقد توّج البُخاري رحمه الله أحد أبواب الصحيح تحت كتاب الاعتصام بقوله: "وكانت الأئمة بعد النبي يستشيرون الأمناء من أهل العلم".
وإن كتمان العيوب عن الصاحب خيانة، والكيد لوقيعة من اصطفاك لبطانته جريمة، ورسولنا استعاذ من ذلك بقوله: ((وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة)) أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد حسن. وحين سأل ابن مسعود رضي الله عنه عن أيام الهرج: متى تكون؟ أجابه رسول الله بأبرز فتن هذه الأيام فقال: ((حين لا يأمن الرجل جليسه)) أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح.
فهذا أمر يحتاج إلى التحري والاصطفاء البعيد عن الهوى، حتى يجد المرء من يأمنه ومن يطمئن لصحبته.
ومن مزايا البطانة إذا صلحت أنها تحول دون شرّ كبير وتحض على خير كثير، ومن خطورة البطانة إذا فسدت أنها قد تحسّن القبيح أو تقبّح الحسن بالوسوسة والتظاهر بالإخلاص، وقد وصف أشهب رحمه الله بطانة الحاكم بقوله: "وليكن ثقة مأمونا فطنا عاقلا؛ لأن المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من قبوله قول من لا يوثق به إذا كان هو حسن الظن به، فيجب عليه أن يتثبت في مثل ذلك" ذكره ابن حجر في فتح الباري.
ولما حدث الصحابي الجليل عبادة بن الصامت رضي الله عنه بحديث بحضرة معاوية رضي الله عنه وهو إذاك خليفة، وقد استنكر معاوية هذا الحديث؛ لأنه لم يسمعه من رسول الله ، قال عبادة وهو من أهل البطانة الناصحين الصادقين: لنحدّثنّ بما سمعنا من رسول الله وإن كرهتَ ذلك يا معاوية. أخرجه مسلم في صحيحه.
ومن ثمرات البطانة الصالحة المشورة بالرشد والسداد للرأي؛ لأن الأصل في المستشار الأمانة والإشارة بالأصلح لقوله : ((المستشار مؤتمن)) أخرجه أبو داود والترمذي بإسناد حسن، وفي الحديث عنه : ((من استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد فقد خانه)) أخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن.
فانظر فيمن وثقتَ وممن استرشدت، فكلّ امرئ يحشَر مع بطانته المختارة؛ لأن المرء مع من أحبّ كما أخبر بذلك نبينا. كما في صحيح البخاري ومسلم.
هذا وصلوا على محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بذلك في قوله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال : ((من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء...
(1/2798)
البحث عن الأصدقاء
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
حمزة بن سليمان الطيار
الرياض
جامع الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مشكلة الصداقة. 2- استحالة الصديق الكامل المواتي. 3- ضرر صديق المنفعة. 4- ضرورة الصداقة. 5- مصادقة أهل الإيمان والتقوى. 6- أهمية البطانة وخطورتها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإنه من اتقاه وقاه، ومن توكّل عليه كفاه.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
اللهم يا حي يا قيوم، أنزل عليّ وعلى هؤلاء الحضور رحمةً من عندك، تغفر بها ذنوبنا، وتستر بها عيوبنا، وتصْلح بها سرائرنا ونياتنا وذرّياتنا وزوجاتنا.
أيها المسلمون، فإن من المشاكل المستعصية التي تعذّر حلُّها على الإنسانية حتى اليوم، تلك هي مشكلة الصداقة، والصداقة في الواقع مشكلة معقّدة ومعضلة غامضة، يرجع تعقيدها وغموضها إلى أن الناس مختلفون في العناصر والأجناس والغرائز والطباع والمنازع والمشارب والميول والأهواء والعواطف والعقول والنشأة والتعليم؛ إذ قلّما تجد في الناس على كثرتهم شخصين متفقين في جميع الشمائل والصفات، بل قلّما تجد في المجتمع الإنساني على سعتِه شخصًا واحدًا كملت صفاتُه من جميع النواحي؛ لأننا إذا وجدنا الجواد الكريم وجدناه إلى جانب ذلك مماطلاً منَّانًا، وإذا وجدنا الشجاع المقدام وجدناه إلى جانب ذلك مختالاً فخورًا، وإذا وجدنا الصالح التقي وجدناه إلى جانب ذلك لينًا ضعيفًا، وإذا وجدنا القويّ الشديد وجدناه إلى ذلك خائنًا غيرَ أمين، وهكذا إلا ما رحم ربك.
وهكذا لا نطلب فضيلةً من الفضائل في إنسانٍ ما إلا وتشوبها رذيلة من النقائص والعيوب، حاشا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، لذلك شكا الناس ندرةَ الرجل الكامل وقلّة الصديق الوفيّ، إلا أن الإنسان اجتماعي بطبعه لا بدّ له من صديق يؤنس نفسَه ويمتع حسَّه، ويساعده في الشدائد والملمّات، لا بد له من صديق يشكوه همومه ويبثّه أحزانه، ويشاطره الأفراح والأتراح، لا بد له من صديق يعوده إذا مرض ويعود عليه إذا افتقر، يسأل عنه إن غاب، لا بد له من صديق يخلفه بخير إذا سافر، يستقبله بفرح إذا رجع، يقوم مقامَه في أهله إذا مات، لا بد له من صديق يملأ وقته ويشغل فراغَه ويعينه على الخصوم والأعداء، لا بد له من صديق يصحبه في العسر واليسر والفقر والغنى والسراء والضراء، لا بد له من صديق يحبّه كنفسه ويعدّه كشخصه، يجلّه كأهله وذويه، لا بد له من صديق يخلصه ودَّه وينجز وعدَه ويحقِّق له كل عهد وميثاق، يوافقه في مطعمه ومشربه ودينه ومذهبه وعقله وهواه.
فهل هذا الصديق موجود أم هو صديق خياليّ بينه وبين الحقيقة والواقع بونٌ شاسع وفرق كبير؟ الحق أقول: إن ذلك الصديق لم يوجد ولن يوجد؛ لأن هذه الصفات كلها لم تتوفّر إلا في الأنبياء والمرسلين عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهم قلّة نادرة بالقياس إلى جميع الناس، وقد بحث كلّ إنسان عن صديق هذه صفاتُه فلم يجده حاشا الصديق أبا بكر رضي الله عنه، فقد ضرب أروعَ الأمثلة في الصحبة والصداقة، وكثير من الرجال ذابت نفوسهم لوعةً وحسرة وتقطعت قلوبهم وأعناقهم جريًا وراء ذلك الصديق فلم يجدوه.
همومُ الرجال في أمور كثيرة وهمّي من الدنيا صديقٌ مساعدُ
نكون كروحَين بين جسمين قسِّمت فجسماهما كائنان والروح واحدُ
نعم، لقد جدّ كثير من عُظماء الرجال في البحث عن صديق وفيٍّ فلم يجدوه، وطالما حنّت إليه قلوبهم وهفت إليه نفوسهم، وعدّوا وجودَه من أكبر آمالهم وأعذب أمانيهم، ولا يزال الصديق الوفيّ في خيال الكثير حتى الآن أمنية حلوة وحلمًا لذيذًا، يتمنّون وجوده ويشتهون بقاءه، فيكونوا والحالة هذه صحّحوا قاعدةً أجمع الناس على بطلانها، وأوجدوا ممكنًا أجمع الناس على استحالته، ولستُ أقول ذلك مجازفة أو ادِّعاءً، ولا أقولها تشاؤمًا ولا سوءَ ظنّ بالناس، ولكنني أقول الحقيقة المرّة التي أملتها على الكثير التجارب، والتي أكّدتها لنا الأيام.
وهذا هو الإمام الشافعي رحمه الله الباحث المحقق والمنقِّب المدقِّق والرحالة المتجوّل والمجرّب الخبير وذو الفراسة والفهم بمعادن الرجال، يشكو غدر الأصدقاء وخيانتهم، وكفى به مجرّبا وخبيرًا، فاستمعوا إليه إذ يقول:
إني صحبتُ أناسًا ما لهم عدد وكنتُ أحسب أني قد ملأت يدي
فلما بلوتُ إخواني وجدتهمُ كالدهر في الغدر لم يبقوا على أحدِ
إن غبتُ عنهم فشرّ الناس يشتمني وإن مرضتُ فخير الناس لم يعُدِ
إن الإنسان لا يزال في سلامة وعافية حتى يصادق ويعاشر، فإذا تمّ له ذلك جاءته المصائب من حيث لا يحتسب، وكان حظه من المصائب والنوائب بقدر ما له من خلاّن، فقد يصطفي الإنسان لنفسه صديقًا حميمًا، يهبه قلبه ويمنحه حبّه ويوقف عليه إخلاصه ويشرح له ظاهره وباطنه ويفهمه قريبه وبعيده ويشركه في وقته وعمله ويطلعه على كل خفي ومكنون، وما أن يعلم منه ذلك كلّه حتى يتلمّس منه أية غفلة، وعند ذلك يطعنه من الخلف، ويكون أوّل من يدلّ على عورته، وأول من يرشد إلى هلاكه، بل إنه ليكون من أكبر خصومه ومن ألدّ عداته، وهل هتك الأعراض وطلّق الأزواج وفرّق الأهل والأقربين وباع النفوس رخيصةً مبذولة للخصوم والأعداء إلا الأصدقاء الخونة والخلاّن المنافقون الذين عرفوا مداخل الإنسان ومخارجه ومسالكه ومجاريه، وعرفوا كيف يعيش الإنسان وأين يذهب ومتى يجيء، وعلموا عنه الذي لم يعلمه أحد من الناس، وكانت نتيجة هذا العلم وهاتيك المعرفة أن أضروا به ضررًا بليغًا وفتكوا به فتكًا ذريعًا.
وهل ساءني إلا الذين عرفتهم جزى الله خيرًا كلَّ من لم أعرفِ
ولكن ماذا يفعل الإنسان؟ أيعيش في جفوة خشنة بعيدًا عن الناس وفي ذلك مرارة الوحدة ووحشة العزلة وسآمة الانفراد وقسوة الأعباء والتكاليف، أم يصادق ويعاشر ويجني من وراء ذلك المكر والغدر واللؤم والكيد والخيانة والوقيعة والخداع والنفاق والتملّق والرياء؟ وكلا الأمرين ملمس شائك وطريق مخيف.
الحق أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في عزلة بعيدًا عن الناس؛ لأنه عضو من المجتمع الذي يعيش فيه، ولا يمكنه أن يستغني عنه بأية حال من الأحوال، والأذن إذا انفصلت عن رأسها لا تسمع ولا تعي، والعين إذا انفصلت عن وجهها لا تبصر ولا تُضِي، فإذا كان لا بد له من أن يصادق ويعاشرَ فليصادق من أمره الله بمصادقتهم، وليتولَّ من أمره الله بتوليهم، وهم المؤمنون الذين كمل إيمانهم ونضج يقينهم وأشرقت أرواحهم ولمست حلاوة التقوى شغاف قلوبهم وامتلأت نفوسهم بنور الإيمان وأشعة اليقين، حتى أفاضوا على غيرهم من ذلك الخير، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فإذا صادقتَ أخًا مؤمنًا هذه صفاته كنتَ في مأمن منيع من الشر، وحصن حصين من الأذى، فإذا ما قدِّر أن يجيء ذلك اليوم الذي تتعكّر فيه صفوة الأخوة وصفاء الصداقة كنت في نهاية الطمأنينة على نفسك وجسمك ومالك وعرضك وسرّك وجهرك، لأن المؤمن إذا أراد أن يغدر بك وجد له دينا ينهاه عن الغدر، وإذا أراد أن يكيد لك وجد له دينا ينهاه عن الكيد، وإذا أراد أن يضرك وَجد له دينا ينهاه عن الضرر والإضرار، والدين الصحيح قيدٌ قويّ لا يشذّ معه طبع ولا ينحرف معه هوى، ولا تنفع معه رشوة ولا ينتصر عليه شيطان, ولذلك كرر الله دعوتنا في القرآن الكريم إلى مصادقة المؤمنين وتوليهم، وجعلهم مع رسوله في مرتبة واحدة في استحقاق الولاية، ووعَد من تولاهم في الدنيا بالنصر والغلبة، وفي الآخرة بالرحمة والمغفرة، إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?لَّذِينَ يُقِيمُونَ ?لصَّلو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ?للَّهِ هُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [المائدة:55، 56]، قال : ((لا يصحبك إلا مؤمن، ولا يأكل طعامك إلا تقي)).
فإذا كان الصديق زاكي النفس كريم الطبع تأثر به صديقه كما يتأثر النفَس الناشئ بخصوبة التربة وعذوبة الماء، وكذلك الشأن إذا كان الصديق خبيث النفس لئيم الطبع ولوعا بالأهواء والشهوات مفتونًا بالكسل والخمول، فإن صديقه لا بد وأن يتأثر به، ولا غرابة بعد ذلك إذا رأينا الإنسان يعضّ أصابعه من الغيظ والندم حينما يجني صداقته للئام الأخساء الذين يؤلهون أهواءهم وينحرفون عن سواء السبيل، وصداقة مثل هؤلاء الأصدقاء داهية دهياء وبلاء عظيم، لأنهم يزيّنون للإنسان الباطل ويعينون عليه الشيطان، ونتيجة ذلك الندم والحسرة، لا في الدنيا فقط، بل في الآخرة كذلك حينما يتبرأ كل من صاحبه، ?لأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ?لْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].
وبما أن الصداقة أمر له خطره وقيمته في شقاء الإنسان وسعادته فقد أوجبوا في الصديق أن يكون متّصفًا بخلاصة المحامد والمكارم، يأمر بالبر ويدعو إلى الخير، يغفر زلاتك ويستر عوراتك، ينشر محاسنك ويدفن مساوئك، إن رآك معوجّا قوّمك، وإن رآك معتدلاً شجعك، إن أخبرته صدّقك، وإن سألته أعطى، وإن دعوته أجاب، رقيق في عتابه، لا يشبع وأنت جائع، لا يكتسي وأنت عريان، وهذه الصداقة المثالية هي التي ينشدها الإسلام، ولا تتحقق إلا مع المؤمنين.
لا خير في ودّ امرئ متلوّن حلو اللسان وقلبه يتلهّب
يلقاك يحلف أنه بك واثق وإذا توارى عنك فهو العقرب
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب
هذه هي الصداقة التجارية، قائمة على أسس من المنافع والمصالح، ولذلك كانت قصيرة العمر، فالصديق النفعي لا ينظر إليك إلا كما ينظر الفلاح إلى بقرته والحمال إلى بغلته، إذا لم يستفد منها أضعاف ما ينفقه عليها لا يكرمها ولا يبقيها، كذلك صديق المنفعة لا ينظر إليك إلا بقدر ما ينتفع بك، إن رَاجت سوقك عنده باعك بأبخس الأثمان، فدمك عنده يباع بالدينار، وعرضك عنده يباع بالدرهم، ورحم الله الإمام الشافعي إذ يقول:
أحب من الإخوان كلّ مُواتي وكل غضيض الطرف عن عثراتي
يوافقني في كل أمر أريده ويحفظني حيا وبعد مماتي
فمن لي بهذا ليت أني أصبته فقاسمته ما لي من الحسنات
تصفحت إخواني فكان أقلّهم على كثرة الإخوان أهل ثقات
والشدائد محكّ رئيس في معرفة الصديق الوفي من النفعي.
جزى الله الشدائد كلّ خير وإن جرّعتها غصصي وريقي
وليس شكري لها حبّا ولكن عرفتُ بها عدوّي من صديقي
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، فكثّر به بعد قلّة، وأغنى به بعد عيلة، واستقامت ببعثته الملة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: أخي المسلم، سواء كنتَ رئيسًا أم مرؤوسًا، كنت مأمورًا أم آمرًا، لا بد أن يكون لك أصحاب تقربهم إليك وتستأنس بهم وتشاورهم في كثير من أمورك، وهؤلاء هم بطانتك.
وكثيرًا ما نرى من يزلّ زلاّت إنما استدرجته إليها بطانة فاسدة، زينت له الباطل وحجبت الحق عن عينيه، ومسؤولية أحدنا تبدأ من حسن الاختيار للأصحاب، فالصاحب دليل على صاحبه، إذ النفوس المتماثلة تتجاذب فيما بينها، كما بين سيدنا بقوله: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)) رواه أبو داود والترمذي بإسناد حسن؛ لأن أية صحبة لا تخلو من تأثير وتأثر، وقد كان سلف الأمة يحرصون على الأنس بالجليس الصالح والصاحب التقي الذي يعين على الخير ويزيل وحشة الغربة، وقد جاء في صحيح البخاري أن علقمة رحمه الله لما قدم الشام غريبًا دعا الله فقال: اللهم يسِّر لي جليسًا صالحًا؛ لأن الجليس الصالح يذكرك إذا غفلت، ويعينك إذا تذكرت، والرسول بين أنه ما من نبي ولا خليفة إلا ويقع بين دواعي بطانتين، قال : ((ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه)) أخرجه البخاري في صحيحه، وفي رواية صحيحة في مسند الإمام أحمد رحمه الله: ((وبطانة لا تألوه خبالاً)).
وإذا أردت أن تحتاط لأمر دينك فمن البداية خذ بوصية رسول الله باختيار صالحي المؤمنين لبطانتك، ثم لاحظ ما تراه من حرص أخيك على جلب الخير إليك وعلى اتقاء مساءتك، فإن أفضلهم صحبة ـ كما في الحديث ـ أكثرهم حرصًا على جلب الخير إليك، كما قال : ((خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه)) أخرجه الترمذي بسند صحيح.
وأولى الناس بالتقريب هم أهل الصلاح والعلم، ولذلك فقد كانت بطانة عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القراء، فقد أخرج البخاري في صحيحه أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولاً كانوا أو شبانا.
وكلما كانوا ـ أعني البطانة ـ من أهل العلم والتقوى كنت ـ يا أخي المسلم ـ أبعد عن الزلل بإذن الله تعالى، وقد توّج البُخاري رحمه الله أحد أبواب الصحيح تحت كتاب الاعتصام بقوله: "وكانت الأئمة بعد النبي يستشيرون الأمناء من أهل العلم".
وإن كتمان العيوب عن الصاحب خيانة، والكيد لوقيعة من اصطفاك لبطانته جريمة، ورسولنا استعاذ من ذلك بقوله: ((وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة)) أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد حسن. وحين سأل ابن مسعود رضي الله عنه عن أيام الهرج: متى تكون؟ أجابه رسول الله بأبرز فتن هذه الأيام فقال: ((حين لا يأمن الرجل جليسه)) أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح.
فهذا أمر يحتاج إلى التحري والاصطفاء البعيد عن الهوى، حتى يجد المرء من يأمنه ومن يطمئن لصحبته.
ومن مزايا البطانة إذا صلحت أنها تحول دون شرّ كبير وتحض على خير كثير، ومن خطورة البطانة إذا فسدت أنها قد تحسّن القبيح أو تقبّح الحسن بالوسوسة والتظاهر بالإخلاص، وقد وصف أشهب رحمه الله بطانة الحاكم بقوله: "وليكن ثقة مأمونا فطنا عاقلا؛ لأن المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من قبوله قول من لا يوثق به إذا كان هو حسن الظن به، فيجب عليه أن يتثبت في مثل ذلك" ذكره ابن حجر في فتح الباري.
ولما حدث الصحابي الجليل عبادة بن الصامت رضي الله عنه بحديث بحضرة معاوية رضي الله عنه وهو إذاك خليفة، وقد استنكر معاوية هذا الحديث؛ لأنه لم يسمعه من رسول الله ، قال عبادة وهو من أهل البطانة الناصحين الصادقين: لنحدّثنّ بما سمعنا من رسول الله وإن كرهتَ ذلك يا معاوية. أخرجه مسلم في صحيحه.
ومن ثمرات البطانة الصالحة المشورة بالرشد والسداد للرأي؛ لأن الأصل في المستشار الأمانة والإشارة بالأصلح لقوله : ((المستشار مؤتمن)) أخرجه أبو داود والترمذي بإسناد حسن، وفي الحديث عنه : ((من استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد فقد خانه)) أخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن.
فانظر فيمن وثقتَ وممن استرشدت، فكلّ امرئ يحشَر مع بطانته المختارة؛ لأن المرء مع من أحبّ كما أخبر بذلك نبينا. كما في صحيح البخاري ومسلم.
هذا وصلوا على محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بذلك في قوله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال : ((من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء...
(1/2799)
التفكر في آيات الله في الكون
التوحيد, موضوعات عامة
الربوبية, مخلوقات الله
عبد الله بن محمد آل سدّاح
عسير
جامع حي الموظفين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة إلى التدبر في الكون. 2- الآيات الكونية في القرآن الكريم. 3- فائدة التأمل في الآيات الكونية. 4- دقة نظام الكون. 5- أصناف الناس تجاه الآيات الكونية. 6- البحث العلمي والآيات الكونية. 7- الآيات الكونية تدعو إلى توحيد الله تعالى. 8- عظمة الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فالتقوى سبيل المؤمنين، والنجاة في الدنيا والآخرة بها ويوم يقوم الناس لرب العالمين، قال جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
عبادَ الله، عنوان هذه الخطبة: التفكر في آيات الله في الكون.
في عتمة الليل وسحره وفي غلسه وبلجته، إذا أظلم الليل ودَجا، وادلهمّ وسجى، وظهرت آيات من آيات الله كانت الموعظة والذكرى، قال جل وعلا: إِنَّ فِى خَلْقِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?خْتِلَـ?فِ ?لَّيْلِ وَ?لنَّهَارِ لاَيَـ?تٍ لأوْلِى ?لألْبَـ?بِ [آل عمران:190]، دعوةٌ إلى التدبر في الكون وتأمّل مدى دقته وتناسق نواصيه وأجزائه.
عباد الله، إن الخالق عز وجل الذي لا تدركه أبصارنا لم يتركنا هكذا في بيداء الحياة، بل أظهر آياته في كتاب منظور نراه ونحسّ به، وكتاب نقرؤه ونرتّله ألا وإنه معجزة النبي الخالدة، إنه القرآن الكريم بآياته وعظاتة، يعمد إلى تنبيه الحواسّ والمشاعر وفتح العيون والقلوب إلى ما في هذا الكون العظيم من مشاهد وآيات، تلك التي أفقدتها الأُلفة غرابتها، وأزالت من النفوس عبرتها، قال عز وجل: كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لألْبَـ?بِ [ص:29]، وقال: قُلِ ?نظُرُواْ مَاذَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَمَا تُغْنِى ?لآيَـ?تُ وَ?لنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ [يونس:101].
يعرض القرآن الكريم هذه الآيات بأسلوب أخّاذ ليعيد طراوتها وجدَّتها في الأذهان، فكأنها تُرى لأول وهلة، يلفتُ النظر على هذه الأرض الفسيحة، وقد سُقيت ورويت بماء الحياة، فتغلغل إلى أعماقها، فاكتضّت أعاليها بالنعم الوافرة من أنهار جارية وأشجار مثمرة وزروع نضرة وجبال شامخة راسية وبحار واسعة مترامية، رفّت في جوانبها الطيور المغرّدة، قال جل وعلا: وَأَنزَلْنَا مِنَ ?لْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّـ?تٍ أَلْفَافًا [النبأ:14-16]، وقال تعالى: وَ?لأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـ?هَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَـ?هَا وَ?لْجِبَالَ أَرْسَـ?هَا مَتَـ?عًا لَّكُمْ وَلأَنْعَـ?مِكُمْ [النازعات:30-33]، وقال جل وعلا: فَلْيَنظُرِ ?لإِنسَـ?نُ إِلَى? طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا ?لْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا ?لأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَـ?كِهَةً وَأَبًّا مَّتَـ?عًا لَّكُمْ وَلأَنْعَـ?مِكُمْ [عبس:24-32]، وقال جل وعلا: أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ?لإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى ?لسَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى ?لْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى ?لأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:17-20].
إن التأمّل في مطلع الشمس ومغيبها، التأمّل في الظلّ الممدود ينقص بلطف ويزيد، التأمل في الخضمّ الزاخر والعين الوافرة الفوّارة والنبع الرويّ، التأمّل في النبتة النامية والبرعم الناعم والزهرة المتفتّحة والحصيد الهشيم، التأمّل في الطائر السابح في الفضاء والسمك السابح في الماء والدود السارب والنمل الدائب، التأمل في صبح أو مساء في هدأة الليل أو في حركة النهار، إن التأمل في كل ذلك يحرّك القلبَ لهذا الخلق العجيب، ويشعر العبدَ بعظمة الخالق تبارك وتعالى، قال جل وعلا: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ خَلْقُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى? جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ [الشورى:29]، تَبَارَكَ ?لَّذِى جَعَلَ فِى ?لسَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا وَهُوَ ?لَّذِى جَعَلَ ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:61، 62].
عباد الله، إن الناظر في الكون وآفاقه يشعر بجلال الله وعظمته، الكون كلّه عاليه ودانيه، صامتة وناطقه، أحياؤه وجماداته، كلها خاضع لأمر الله، منقاد لتدبيره، شاهد بوحدانيته وعظمته، ناطق بآيات علمه وحكمته، دائم التسبيح بحمده، تُسَبّحُ لَهُ ?لسَّمَـ?و?تُ ?لسَّبْعُ وَ?لأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـ?كِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44].
عباد الله، هذه المجرات المنطلقة، والكواكب التي تزحم الفضاء وتخترق عباب السماء، معلّقة لا تسقط، سائرة لا تقف، لا تزيغ ولا تصطدم، وَ?لشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ?لْعَزِيزِ ?لْعَلِيمِ وَ?لْقَمَرَ قَدَّرْنَـ?هُ مَنَازِلَ حَتَّى? عَادَ كَ?لعُرجُونِ ?لْقَدِيمِ لاَ ?لشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ ?لقَمَرَ وَلاَ ?لَّيْلُ سَابِقُ ?لنَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:38-40].
من الذي سيّر أفلاكها؟! ومن الذي نظّم مسارها وأشرف على مدارها؟! من أمسك أجرامها ودبّر أمرها؟! قُلِ ?للَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام:91]، إِنَّ ?للَّهَ يُمْسِكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ [فاطر:41].
عباد الله، إن الله تبارك وتعالى خلق كلَّ شيء فقدَّره تقديرًا، هذا وضعُ الشمس أمام الأرض مثلاً، ثم على مسافة معينة، لو نقصت فازداد قربها من الأرض لأحرقتها، ولو بعدت المسافة لعمّ الجليد والصقيع وجه الأرض وهلك الزرع والضرع، من الذي أقامها في مكانها ذاك وقدّر بعدها لننعم بحرارة مناسبة تستمر معها الحياة والأحياء؟! صُنْعَ ?للَّهِ ?لَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء [النمل:88].
عباد الله، إن آيات الله في الكون لا تتجلى على حقيقتها ولا تؤدّي مفعولها إلا للقلوب الذاكرة الحية، القلوب المؤمنة، تلك التي تنظر في الكون بعين التأمل والتدبّر، تلك التي تُعمل بصائرها وأبصارها وأسماعها وعقولها، ولا تقف عند حدود النظر المشهود البادي للعيان، لتنتفع بآيات الله في الكون، ?لَّذِينَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ قِيَـ?مًا وَقُعُودًا وَعَلَى? جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـ?طِلاً سُبْحَـ?نَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191].
أما الكفار، فهم عُميُ البصائر غُلف القلوب متحجّرو العقول، إنهم لا يتبصّرون الآيات وهم يبصرونها، ولا يفقهون حكمتها وهم يتقلّبون فيها، فأنى لهم أن ينتفعوا بها؟! يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مّنَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ?لآخِرَةِ هُمْ غَـ?فِلُونَ [الروم:7]، وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِنَ ?لسَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكّرَتْ أَبْصَـ?رُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ [الحجر:14، 15].
عباد الله، وكذا بعض طرق البحث العلمي لن تؤتي ثمارها في معزل عن الإيمان بقطع الصلة بين الخلق والخالق، فهذه الحضارة الحديثة، وإن شعّ بريقها فظهرت أنها تكشف الآيات العظيمة، ثم تقف حيث يجب أن تنطلق، تظهر الأسباب وتسدل الستارَ على ربّ الأسباب، وكأنه لا وجود له، أو لا عمل له، وكأن هذه الأسباب التي يفسّرون بها حصول الكسوف والخسوف والزلازل والبراكين ونزول الأمطار وغيرها كأن هذه الأسباب هي الفاعل الحقيقي، وما عداها وهمٌ، وهذا ضلال بعيد.
أما المنهج الإيماني فإنه لا ينقص شيئًا من ثمار البحث العلمي، لكنه يزيد عليه بربط هذه الحقائق بخالقها وموجدها ومدبّرها ومصرّفها، ليقدر العباد ربّهم حقَّ قدره، وليعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا، فلا يستحقّ العبادة إلا هو، ولا يُتوجّه بخوف أو رجاء إلا إليه، ولا يُخشى إلا هو، ولا يذلّ إلا له، ولا يطمَع إلا في رحمته.
إن المزيد من العلم ينبغي أن يقود إلى المزيد من الإيمان القويّ والتقوى.
عباد الله، ماذا لو اختلّ نظام هذا الكون قيدَ شعرة؟! إنه سينهار بكل ما فيه ومن فيه. ماذا لو تصادمت أفلاكه؟! ماذا لو تناثر ما في الفضاء من أجرامه؟! ماذا لو حجِبت عنه عناية الله طرفةَ عين أو أقل من ذلك أو أكثر؟! إننا سنهلك ويهلك كل من معنا، ?للَّهُ خَـ?لِقُ كُلّ شَىْء وَهُوَ عَلَى? كُلّ شَىْء وَكِيلٌ لَّهُ مَقَالِيدُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَـ?تِ ?للَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الزمر:62، 63].
لله في الآفاق آيات لعلّ أقلَّها هو ما إليه هداكا
ولعلّ ما في النفس من آياته عجب عجاب لو ترى عيناكا
والكون مشحون بأسرار إذا حاولت تفسيرًا لها أعياكا
قل للطبيب تخطّفته يد الردى: من يا طبيب بطبّه أرداكا؟
قل للمريض نجا وعوفي بعدما حجزت فنون الطب: من عافاكا؟
قل للصحيح يموت لا من علّة: من بالمنايا يا صحيح دهاكا؟
يا أيها الإنسان مهلاً ما الذي بالله جل جلاله أغراكا؟
سيجيب ما في الكون من آياته عجب عجاب لو ترى عيناكا
ربِّ لك الحمد العظيم لذاتك حمدًا وليس لواحد إلاَّكا
عباد الله، ما مرّ معنا من الآيات الكونية وغيرها كثير تحملنا على أن نفرّ إلى ربنا، وأن نغسل إساءتنا، وأن نمحو ذنوبنا.
إن المسلم إذا احتمى بربه واستعان به واستجار به فهو في أعز جوار وآمن ذمار. إن كل شيء إذا خفته هربتَ منه، وإذا خفت الله عز وجل هربت إليه، فَفِرُّواْ إِلَى ?للَّهِ إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ [الذاريات:50].
وهكذا يبقى الكون كتابًا مفتوحًا، يُقرأ بكلّ لغة، ويدرَك بكل وسيلة، قال تعالى: تَبْصِرَةً وَذِكْرَى? لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ [ق:8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما سمعنا من الآيات والذكر الحكيم.
عباد الله، توبوا إلى الله واستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وقال تعالى: وَمَا قَدَرُواْ ?للَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ?لأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَ?لسَّمَـ?و?تُ مَطْوِيَّـ?تٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَـ?نَهُ وَتَعَالَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، أي: ما عظموه حق تعظيمه، وما عرفوه حق معرفته.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟)) رواه البخاري، وله عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله قال: ((إن الله يقبض يوم القيامة الأرض، وتكون السموات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك)) أخرجه البخاري، وأخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ : وَمَا قَدَرُواْ ?للَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ?لأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَ?لسَّمَـ?و?تُ مَطْوِيَّـ?تٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَـ?نَهُ وَتَعَالَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].
عباد الله، من عصى الله وخالف أمره لم يقدر الله حق قدره، من نفى عن الله صفاته أو شبهه بخلقه ما قدر الله حق قدره، من امتلأ قلبه من خوف المخلوقين فترك بعض الصالحات خوفًا منهم أو عمل بعض المنهيات رجاء ما عندهم ما قدر الله حق قدره، من دعا غير الله وطلب منه الشفاعة أو تفريج الكروب ما قدر الله حق قدره، من أطاع بشرًا في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله ما قدر الله حق قدره، من هجر كلام الله فلم يقرأه أو لم يحكمه أو لم يعمل به ما قدر الله حق قدره، من أحدث حدثًا في دين الله ما قدر الله حق قدره، من ظلم الناس في أموالهم أو أعراضهم ما قدر الله حق قدره، من أكل أموال الناس بالباطل ما قدر الله حق قدره، من لم يحافظ على الصلوات والعبادات وسائر الطاعات ما قدر الله حق قدره.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله.
اللهم صل وسلم عليه وعلى آله ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداءك أعداء الدين...
(1/2800)
خطورة المجاهرة بالمعاصي
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
محمد بن صالح المنجد
الخبر
عمر بن عبد العزيز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل أمتي معافى إلا المجاهرين. 2- معنى المجاهرة بالمعاصي. 3- مفاسد المجاهرة بالمعاصي. 4- متى يباح الإخبار بالمعصية؟ 5- أحكام تتعلق بالمجاهر بالمعاصي. 6- استحباب ستر غير المجاهر. 7- الأمر بتغيير المنكر الواقع. 8- الأمر بستر الأسرار الزوجية. 9- ستر الطبيب لأسرار الناس. 10- صور من المجاهرة في هذا العصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
من سنّة النبيّ ومِن حديثه ننطلق، ونأخذ النورَ ممّا وجَّهنا به عليه الصلاة والسلام في هذه المسألة العظيمة التي هي من الأمور المهمّة في حِفظ مجتمع المسلمين وصيانةِ دينهم وعفافهم، روى الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((كلّ أمّتي معافًى إلاّ المجاهرين، وإنّ من المجاهرة أن يعملَ الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان، عملتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد بات يستره ربّه، ويصبِح يكشِف سترَ الله عليه)).
((كلّ أمتي معافَى)) مِن العافية وأنّ الله سبحانه وتعالى يغفر الذنبَ ويقبل التوبَة، ((كلّ أمّتي معافى إلا المجاهرين)) ، هؤلاء لا يعافَون، المجاهرون بالمعاصي لا يعافَون، الأمّة يعفو العفوُّ عن ذنوبها، لكن الفاسقَ المعلن لا يعافيه الله عز وجلّ، وقال بعض العلماء: إنّ المقصودَ بالحديث كلُّ أمّتي يترَكون في الغيبة إلاّ المجاهرين، والعفو بمعنى الترك، والمجاهر هو الذي أظهر معصيتَه، وكشف ما ستر الله عليه، فيحدِّث به، قال الإمام النووي رحمه الله: "من جاهر بفسقِه أو بدعته جاز ذكرُه بما جاهر به".
هذه المجاهرة التي هي التحدُّث بالمعاصي، يجلس الرجلُ في المجلس كما أخبر النبي ويقول: عمِلتُ البارحة كذا وكذا، يتحدّث بما فعل، ويكشف ما سُتِر، وقد قال النبي : ((اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألمّ بشيء منها فليستتر بستر الله)) رواه الحاكم، وهو حديث صحيح.
لماذا أيّها الإخوة؟ كلُّ الأمة معافى إلا أهل الإجهار؟ أولاً لأن في الجهر بالمعصية استخفافًا بمن عُصي وهو الله عزّ وجل، استخفافًا بحقّه وبحقّ رسوله ، واستخفافًا بصالحي المؤمنين، وإظهار العناد لأهل الطاعة ولمبدأ الطاعة، معاندة الطاعة، والمعاصي تُذلّ أهلها، وهذا يذلّ نفسَه، ويفضحها في الدنيا قبل الآخرة.
عباد الله، إن المجاهرة بالمعصية والتبجُّحَ بها بل والمفاخرة قد صارت سمةً من سمات بعض الناس في هذا الزمن، يفاخرون بالمعاصي، تباهون بها، وينبغي على الإنسان أن يتوبَ ويستتر، ولكن هؤلاء يجاهرون، قال النووي رحمه الله: "يكره لمن ابتُلي بمعصية أن يُخبر غيره بها"، يعني: ولو شخصًا واحدًا، بل يُقلع عنها ويندَم ويعزم أن لا يعود، فإن أخبر بها شيخَه الذي يعلّمه أو الذي يفتيه أو نحوَه من صديق عاقلٍ صاحب دين مثلاً، يرجو بإخباره أن يعلّمه مخرجًا منها، أو ما يَسْلَمُ به من الوقوع في مثلها، أو يعرّفه السببَ الذي أوقعه فيها، فهو حسن، وإنما يحرُم الإجهار حيثُ لا مصلحة؟ لأن المفسدةَ حينئذ ستكون واقعة، فالكشفُ المذموم هو الذي يقع على وجه المجاهرة والاستهزاء، لا على وجه السؤال والاستفتاء، بدليل خبر من واقَعَ امرأته في رمضان، فجاء فأخبر النبي لكي يعلّمه المخرج، ولم ينكر عليه النبي في إخباره.
عباد الله، إن المجاهرةَ بالمعاصي، إن إشاعةَ المعاصي، إن التباهيَ بها يحمل الناسَ الآخرين على التقليد والوقوع فيها.
إن الشريعةَ لما شدَّدت في المجاهرة بالمعصية وكلُّها حكمة، والشارع يعلم أن المجاهِر يدعو غيره، ويجذبه ويزيّن له ويغريه، ولذلك كانت المجاهرة بالمعصية أمرًا خطيرًا جدًا. وقد ذكر العلماء إجراءاتٍ متعددة في الفتاوى والأحكام بشأن المجاهر، فنصّوا على كراهية الصلاة خلفَ الفاسق عمومًا، ما دام فسقه لا يكفِّر فالصلاة صحيحة لكنه لا ينال ثوابَ من صلى خلف الإمام التقي، وقال بعضهم بإعادة الصلاة خلف من جاهر بالمعصية، وسئل ابن أبي زيد رحمه الله عمّن يعمل المعاصي: هل يكون إمامًا؟ فأجاب: "أما المصرُّ المجاهِر فلا"، لا يمكن أن يكون إمامًا، ولا يجعَل إمامًا، ولا يمكَّن من ذلك، ويطالب بتغيره ويرفع أمره؛ لأنه منصِب قياديّ يؤمّ فيه المسلمين، كيف يؤمّهم ويتقدّمهم، ثم يكون مجاهرًا بمعصية؟! وسئل عمّن يعرَف منه الكذب العظيم أو القتّات النمام الذي ينقل الأخبار للإفساد بين الناس، هل تجوز إمامته؟ فأجاب: "لا يصلّى خلف المشهور بالكذب والقتات والمعلن بالكبائر، مع صحة الصلاة"، أي: أنها لا تعاد، ولكن يكره الصلاة وراء هذا الرجل.
أمّا من تكون منه الهفوة والزلّة فلا تتّبع عورات المسلمين، وقال مالك رحمه الله: "من هذا الذي ليس فيه شيء؟!" كل إنسان يعصي، وقال مالك مردِفًا: "وليس المصرّ والمجاهر كغيره"، المصيبة في المصرّ والمجاهر.
هذا في مسألة إمامته، وماذا عن عيادته إذا مرض؟ وعيادةُ المريض المسلم أجرها عظيم، ومن حقّ المسلم على المسلم، لكنّ العلماء قالوا: لا يعاد المجاهر بالمعصية إذا مرض لأجل أن يرتدع ويتوب ويرتدعَ غيره ممن يمكن أن يقع في المعصية، وإذا عاده من يدعوه إلى الله وينصحه فهو حسن لأجل دعوته، أما إذا خلا عن هذه المصلحة، ليس هناك مصلحة شرعية، فلا يعاد زجرًا له ولأمثاله.
وماذا عن الصلاة عليه؟ لقد ذكر أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة مسألة المجاهر بالمعصية إذا مات فإنه لا يصلّي عليه الإمام ولا أهل الفضل زجرًا له ولأمثاله، وردعًا لمن يقع في هذا، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ينبغي لأهل الخير أن يهجروا المُظهر للمنكر ميتًا إذا كان فيه كفّ لأمثاله، فيتركون تشييع جنازته"، فمن جاهر بشيء فمات مصرًا مات مجاهرًا يَتْركُ أهل الفضل والخير الصلاة عليه، ويصلي عليه عامّة الناس، ما دَام مسلمًا لم يخرج من الإسلام.
وماذا بالنسبة للسَّتر عليه؟ وما حكم غيبته؟ يندب الستر على المسلم عمومًا لأن النبي قال: ((من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)) ، فإذا علمتَ عن مسلم ذنبا فاستره، وخصوصًا إذا كان ممّن ينسَب لأهل الدين، والطعن فيه طعن في الإسلام، والعيب عليه عيب في أهل الإسلام، لكن المجاهر بالمعصية له شأن آخر، قال العلماء: "وأما المجاهر والمتهتّك فيستحبّ أن لا يستَر عليه، بل يُظهَر حاله للناس حتى يجتنبوه، وينبغي رفع أمره للقاضي حتى يقيم عليه ما يستحقّه؛ لأن سترَ مثل هذا الرجل أو المرأة يُطمعه في مزيد من الأذى والمعصية، وإذا كانت غيبة المسلمين حرامًا فإن هذا الرجلَ قد أباح للناس أن يتكلّموا في شأنه بمجاهرته، فأجاز العلماء غيبةَ المجاهر بفسقه أو ببدعته، كالمجاهر بشرب الخمر وغيره، وكما قال الإمام أحمد رحمه الله: "إذا كان الرجل معلِنًا بفسقه فليس له غيبة"، لكن النووي رحمه الله أشار إلى أن غيبتَه فيما جاهر فيه فقط، ويُهتَك فيما جاهر فيه، ويُحذَّر من شأنه، يحذَّر الناس منه، وأما هجرُه فإذا كان يرتدِع به فيجب الهجر، والهجر بالمقاطعة وعدم الكلام وعدم الزيارة وعدم السلام عليه، قال الإمام أحمد رحمه الله: "ليس لمن يسكر ويقارب شيئًا من الفواحش حرمة ولا صِلة إذا كان معلِنًا مكاشفًا"، إن قضية الإجهار حساسة جدًا في الشريعة.
أيها الإخوة، وماذا عن وليمته ودعوته إلى العرس والنكاح؟ إنَّ إجابة الوليمة واجبة بنص حديث النبي : ((ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله)) ، هذا في العموم، أما المجاهر فلا تجاب دعوته للعرس والنكاح، ولا تلبَّى ولا تُؤتى وليمته ما دام مجاهرًا.
أيها المسلمون، إن الله حيِيٌّ ستِّير، يحب الحياء والستر، إنه سبحانه وتعالى يحب الستر، فيجب على من ابتُلي بمعصية أن يستتر، ويجب عدم فضحه، فإذا جاهر لقد هتك الستر الذي ستره به الستِّير وهو الله عز وجل، وأحلّ للناس عِرضه. وقد أجمع العلماء على أن من اطلع على عيب أو ذنب لمؤمن ممّن لم يُعرف بالشر والأذى ولم يشتهر بالفساد ولم يكن داعيًا إليه وإنما يفعله متخوِّفًا متخفِّيًا أنه لا يجوز فضحُه، ولا كشفه للعامة ولا للخاصّة، ولا يُرفَع أمره إلى القاضي، لماذا؟ لأن النبي حثّ على ستر عورةِ المسلم، وحذّر من تتبُّع زلاته: ((من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته)) رواه ابن ماجه وصححه في صحيح الجامع. ولأن كشف هذه العورات والعيوب والتحدّث بما وقع من هذا المؤمن أو المسلم قد يؤدّي إلى غيبة محرَّمة وإشاعة للفاحشة وترويج لها، المؤمن يستُر وينصَح، والفاجر يهتك ويعيِّر، كما قال الفضيل رحمه الله.
أما من عرِف بالأذى والفساد والمجاهرة بالفسق وعدم المبالاة بما يرتكب ولا يكترث بما يقال عنه فيندَب كشف حاله للناس وإشاعة أمره بينهم، ليحذروا منه وليرفعوا أمره إلى القاضي ما لم يُخشَ مفسدة أكبر؛ لأن الستر على هذا يُطمعه في الإيذاء ومزيد من الفساد وانتهاك الحرمات والجسارة على المعصية.
هذا في المعاصي التي وقعت في الماضي، أما من رأى إنسانًا يرتكب معصيةً فيجب عليه أن يُنكر عليه، ولا يقول: أستره؛ لأن النبي قال: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)). واستثنى العلماء في مسألة الجرح الرواة لأجل سنة النبي ، والشهود يُجرح الشهود عند القاضي إذا كانوا من المجروحين لحفظ الحقوق، وكذلك من أراد أن يتولَّى صدقات أو أوقافًا أو أموال أيتام ونحو ذلك لا يحلّ الستر عليهم عندئذ، وإنما يخبر بأمرهم القاضي، لأن المسألة تتعلق بها حقوق لمسلمين أو لعامة المسلمين.
وينبغي على الإنسان المسلم إذا وقعت هفوة أو زلة أن يستر على نفسه ويتوبَ بينه وبين الله عز وجل، ولا يستحَبُّ له رفع أمره إلى القاضي ولا يكشف شأنه لأحدٍ كائنًا ما كان إلا من مثل الأمثلة التي تقدمت في الاستفتاء والاستنصاح.
الستر لأجل أن لا تشيع الفاحشة، ولأجل أن لا يعمَّ ذكرها في المجتمع، ولأجل أن تُكبت أخبارها؛ لأن نشر أخبارها يجذب إليها ولذلك فإن من الآثمين إثمًا عظيمًا الذين ينشرون أخبار الخنى والفجور والخلاعة والمجون والحفلات المختلطة والغناء ونحو ذلك على الملأ؛ لأنهم يريدون إشاعةَ الفاحشة في المجتمع المسلم، ((اجتنبوا هذه القاذورات، فمن ألمّ فليستتر بستر الله وليتب إلى الله، فإن من يُبدي لنا صفحته نُقم عليه كتاب الله)) حديث صحيح رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وغيره.
أيها المسلمون، إن النبي لما جاءه الرجل يقول: أصبتُ حدًا فأقمه عليّ، والمعصية حَصَلت خفية، إن النبي أعرض عنه. فيه إرشاد إلى عدم استحباب طلب إقامة الحد، وأنّ من وقع في شيء تكفيه التوبة فيما بينه وبين الله عز وجل.
اللهم إنا نسألك أن تتوبَ علينا، وأن ترحمنا، وأن تغفر لنا، وأن تسترنا بسترك الجميل في الدنيا والآخرة، وأن تصفح عنا الصفح الجزيل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا رسول الله البشير النذير والسراج المنير والنبي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله، إن مما ينبغي حفظه ما يحصل بين الزوجين وتفاصيل ما يقع حالَ الجماع وقبله من مقدّماته، إلى غير ذلك من الأسرار البيتية، قال النبي : ((إنّ من أشر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرَّها)) ، وقال عليه الصلاة والسلام وقد أقبلَ على صفّ الرجال بعد الصلاة: ((هل منكم إذا أتى على أهله أرخى بابه وأرخى ستره ثم يخرج فيحدث فيقول: فعلت بأهلي كذا، وفعلت بأهلي كذا؟)) فسكتوا، فأقبل على النساء، فقال: ((هل منكن من تحدِّث؟)) فقالت فتاة منهن: والله إنهم ليحدِّثون، وإنهن ليحدِّثن، فقال: ((هل تدرون ما مثل من فعل ذلك؟! إن مثل من فعل ذلك مثل شيطان وشيطانة لقي أحدهما صاحبه بالسكة ـ أي: في وسط الطريق ـ فقضى حاجته منها والناس ينظرون)) الحديث الأول أخرجه مسلم، والثاني أخرجه أحمد وهو حديث حسن.
عباد الله، إن الله يحبّ الستر ويكره الكلام بالكلام الفاحش، وإن مما يقع بين الرجل وامرأته مع أنه في الحلال، لكنه لأنه خنى فإنه لا يتحدَّث به، لا يتحدَّث بأيّ شيء يثير الشهوات، حتى مجرَّد ذكر الوقاع أنه قد حصل دون تفصيل، إذا لم يكن له حاجة كرهه العلماء، وعدُّوه من خوارم المروءة، حتى مجرّد أن يخبر أنه قد حصل بينه وبين أهله شيء لغير مصلحة شرعية، إنه مكروه لأنه من خوارم المروءة.
عباد الله، إن الطبيب وغيره ممن يطّلع على بعض أسرار الناس لا يحلّ له أن يفشي ذلك إلا إذا كانت هناك مضرّة على المسلمين، فإنه يبلّغ بها حتى لا تقع المضرة على المسلمين، وقال العلماء: إن الإنسانَ إذا اطلع على شيء فيه ضرر على أحد بلّغه بالحذر العام، ولا يتكلّم عن الشخص إذا كان ذلك كافيًا، فيقول له: انتبه واحذر وهناك من يريد إيقاع الشر بك ونحو ذلك، فإذا لم يكن كفّ الشر ممكنًا إلا بالإبلاغ عن هذا الشخص وجب الإبلاغ عنه، ويجب الإبلاغ عن كل من يحدث شيئًا فيه ضرر على المسلمين، فالذين يعملون أوكار الفجور والدعارة وتوزيع المخدرات ونحو ذلك يجب الإبلاغ عن هؤلاء وعدم الستر عليهم؛ لأن في ذلك مصلحة المجتمع المسلم.
عباد الله، انظروا فيما حولكم من الناس، كيف صارت المجاهرة بالمعاصي شيئًا عاديًا، إن كلّ من يعلِّق صورةً مخرمة تعليقًا يظهر للناس، أو يلصق على سيارته عبارةً بذيئة وهو يعلم معناها، أو يشرب شيئًا من المحرّمات شفطًا وأخذًا لدخانه وسحبًا أو من السوائل التي يدخلها إلى جوفه أمام الناس فهو مجاهرٌ بالمعصية، فلا تستغربنّ إذا رأيتَ من أهل الخير من مرَّ بمدخِّن فلم يسلِّم عليه، ثم مرَّ به وهو لا يدخّن فسلم عليه؛ لأن ذلك من فِقه معاملة من يجاهر.
كيف يجاهر بعض الناس برفع أصوات الغناء عند الإشارات وزجاج باب السيارة منخفض فينشر الفسق؟! كيف بمن يجلس على الشاطئ أو الرصيف وغيره فيعزف، وبعضهم يرقصون أمام الغادي والرائح؟! وهذه المرأة المتهتّكة التي تنزل إلى السوق والشارع متبرّجة متعطّرة كاشفة عن الأقدام والسيقان وعن الشعر وعن غيره تمشي أمام الناس مجاهرة بالفسق والمعصية، كيف صار حال بعض الناس في الإجهار بالفسق والمعاصي في الدعايات التي ينشرونها على الملأ، وفيها فجور أو دعوة لفجور أو حفلة غناء أو اختلاط أو قمار وميسر في معاملات تجارية؟! يجهَر بها على الملأ، لقد صارت مسألة الإجهار من المسائل العظيمة أيها الإخوة، ولذلك تجب النصيحة ويجب القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لماذا النهي عن المنكر واجب ومحاربة المنكر؟ لمكافحة الإجهار بالدرجة الأولى، الذي يجهر بالمعصية أمام الناس، كم وكم من الناس قد وقعوا في الإجهار، وحديث النبي خطير خطير: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين)) لا معافاة لهم، نفى المعافاة عنهم، ومن نُفيت عنه المعافاة فكيف سيكون حاله؟! نسأل الله السلامة والعافية.
(1/2801)
طهارة القلب وسلامته
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عادل الشِّدّي
الرياض
الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرص الشيطان على زرع العداوة بين الناس. 2- فضل طهارة القلب وسلامته. 3- الحث على طهارة القلب. 4- مواقف من السيرة النبوية. 5- الصحابة رضي الله عنهم وطهارة القلب. 6- السلف الصالح وطهارة القلب. 7- حال الأمة اليوم. 8- أسباب الغل والشحناء. 9- آثار العداوة والبغضاء على الأفراد والمجتمعات. 10- وسائل علاج هذا المرض القلبي الخطير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، فإن الشيطان لما طُرد من الجنة امتلأ غِلاً وبُغضًا لآدم وذريته، وأخذ عهدًا على نفسه بإغوائهم وإشقائهم. ومِن أعظم وسائله في ذلك زرعُ الغلِّ والبغضاء في النفوس، وقد كان ذلك أوَّل ذنب عُصي الله تعالى به في الأرض، وأدّى إلى قتل ابن آدم الأوّل لأخيه.
واليومَ ومع تسارُع إيقاع الحياة وشدَّة تنافس الناس في أمور الدنيا شاع هذا المرضُ القلبيّ وانتشر، وأرهق أصحابَه، وكدّر معيشتهم، وأساء علاقاتِ الناس بعضهم ببعض. قلَّما ترى اليوم رجلاً وقد سلِم قلبه من الغلِّ والبغضاء. ومن مظاهر ذلك التقاطعُ والتهاجر والكراهية بين الناس والسخريةُ والحطُّ من أقدار الآخرين، وفي حين أن الناسَ يهتمّون بطهارة ظاهرهم وثيابهم وهيئاتهم، فإنّ القليل منهم من يهتمّ بطهارة قلبه وسلامته.
عباد الله، لقد امتدح الله أقوامًا بأنهم يدعونه تعالى أن يطهِّر قلوبهم ويسلِّمها من البغضاء والشحناء فقال: وَ?لَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ?غْفِرْ لَنَا وَلإِخْو?نِنَا ?لَّذِينَ سَبَقُونَا بِ?لإيمَـ?نِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ [الحشر:10]. وأخبر سبحانه أنه لا نجاةَ يوم القيامة إلا لمن سلِم قلبه، وسلامةُ القلب تقتضي طهارتُه من الغلِّ والشحناء والبغضاء، يقول جل من قائل: يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]. كما أنه سبحانه أتمَّ النعمة على أهل الجنة بأن نزعَ ما في قلوبهم من الغلّ وجعلهم إخوانًا، ذلك أن الغلَّ يُشقي صاحبه ويتعذَّب به، يقول سبحانه عن أهل الجنة: وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى? سُرُرٍ مُّتَقَـ?بِلِينَ [الحجر:47]. وبيَّن سبحانه أنّ من مقتضيات التقوى حصولَ ذلك الصلاح في ذات البين وطهارة القلوب وسلامتها، فقال سبحانه: فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ [الأنفال:1].
معاشر المؤمنين، إنَّ سنةَ النبي عامرةٌ بالنصوص المؤكِّدة على أهمية طهارةِ القلوب وسلامتها من الغلِّ والشحناء والبغضاء، يُسأل عليه الصلاة والسلام: أيُّ الناس أفضل؟ فيقول: ((كلّ مخموم القلب صدوق اللسان)) ، فيقال له: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ فيقول : ((هو التّقي النقي، لا إثم ولا بغي ولا غلَّ ولا حسد)) رواه ابن ماجه بإسناد صحيح، ويقول : ((لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا)) متفق عليه، بل إنه يقول: ((لا تدخُلوا الجنةَ حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا)) رواه مسلم، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ألا أخبركم بأفضلَ من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟)) قالوا: بلى، قال: ((إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
أيها المؤمنون، إن في سيرة النبي من المواقف العظام المؤكِّدة على هذا الأصل الكبير، أصلِ سلامة القلوب وطهارتها من الغلّ والشحناء، فمن أعظم المواقف قولُه حين استأذنه ملكُ الجبال أن يُطبق الأخشبين ـ وهما جبلان عظيمان يحيطان بمكة ـ على أهلها حين كذّبوه ، وحين ناصبوه العدَاء، فقال وقد سلِم قلبه وامتلأ بالطهارة وانعدم منه الغلّ والشحناء: ((بل أرجو الله أن يخرجَ من أصلابهم من يعبدُ الله وحده)) متفق عليه، وقال في موقفٍ آخر: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) رواه مسلم، وقد ذكر الطبراني بإسناد صحيح قصةَ هذا الحديث الذي وقع في أعقاب إيذاءٍ عظيم حصل للنبي ، وحين دخل عليه الصلاة والسلام مكةَ فاتحًا لها وصارت تحت قبضته عليه الصلاة والسلام قال لأهلها الذين ناصبوه العداء واتهموه في عقله فقالوا عنه: مجنون، واتهموه في عدالته فقالوا عنه: كاذب، وآذوه في نفسه وفي أصحابه، قال لهم حينئذ: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) ، وقال في موقفٍ آخر ينمّ عن مدى طهارة قلبه وسلامته من الغلّ والشحناء وعدم إرادته تكدُّرَ نفسه بشيء من ذلك: ((لا يُبلِغني أحدٌ عن أحد من أصحابي شيئًا، فإني أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليمُ الصدر)) رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح.
أيها المؤمنون، ولقد فقه الصحابةُ هذا الأمرَ العظيم، فإذا بهم يحرصون على تنقية قلوبهم وسلامتها، وحين قال ذاتَ يوم لأصحابه: ((يطلع عليكم الآن رجلٌ من أَهل الجنة)) ، فطلع رجل تنطف لحيته ماءً من أثر الوضوء، فتبعه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، فبات عنده ثلاث ليالٍ، فلم يرَ عنده كثيرَ صلاة ولا صيام، فسأله الخبر، فقال له: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه. رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح. بل إنه عليه الصلاة والسلام قال لصاحبه وخليفته وأفضل المؤمنين أبي بكر رضي الله عنه ذات يوم: ((يا أبا بكر، لعلَّك أغضبتهم ـ يعني أصحابه من أهل الصفة ـ ، لئن كنتَ أغضبتَهم لقد أغضبتَ ربَّك)) ، فأتاهم أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا إخوتاه، أأغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفرُ الله لك يا أُخَيّ. رواه مسلم.
وقصةٌ أخرى لأبي دجانة رضي الله عنه الذي تذكّر شيئًا من أرجى أعماله في لحظاته الأخيرة فقال: كنتُ لا أتكلّم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليمًا. لم يتذكر موقفه العظيم في يوم أحد حينَ أخذ السيف بحقِّه، فجالد به المشركين، لكنه تذكّر سلامة قلبه وطهارتَه لإخوانه المسلمين. وحين قال رجلٌ لعمرو بن العاص رضي الله عنه: والله، لأتفرّغنَّ لك، قال له كلمة تنمّ عن حكمة عظيمة: إذا تقَعُ في الشُّغل. فإنّ من أشغَلَ قلبه بالآخرين غِلاً وحسَدًا وقع في الهمّ والبلاء، وأشغل نفسه ووقته بما لا يعنيه وما لا طائلَ له من ورائه.
عباد الله، إن سلفنا الصالحَ قد راعَوا هذا الأمر واهتموا به أشدَّ الاهتمام، هذا إمام السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وقد أوذي وسجن وعذِّب عذابًا شديدًا، لكنه بعد تلك المحنة يصفَح عن كلِّ من أساء إليه إبَّان سجنه فيقول لأحدهم: "أنت في حلٍّ، وكل من ذكرني في حلّ، إلا مبتدع، وقد جعلت أبا إسحاق في حلّ ـ يعني المعتصم أمير المؤمنين ـ رأيتُ الله يقول: وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ?للَّهُ لَكُمْ [النور:22]، وما ينفعك أن يعذَّب أخوك المسلم بسببك؟". وله موقفٌ آخر رحمه الله حين قيل له: نكتُب عن محمد بن منصور الطوسي؟ قال: "إذا لم تكتب عنه فعمّن يكون ذلك؟!" قالها مرارًا، فقيل له: إنه يتكلّم فيك، قال: "رجل صالح، ابتلي فينا فما نعمل؟!" فلم يمنعه كونُ الرجل يتكلّم فيه من تزكيته؛ لأن قلبه قد سلم من الغلّ والبغضاء والشحناء.
وموقفٌ آخر للإمام الشافعي رحمه الله بعدَ أن ناظره يونس الصّدفي، فلما لقيه بعد ذلك أخذ بيده وقال له: "يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكونَ إخوانًا وإن لم نتّفق في مسألة؟!" وهذا ما حمل الصدفي على القول: "ما رأيت أعقل من الشافعي".
أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد كان له موقفٌ من أعدائه وخصومه، حيث صفح عنهم وعفَا قائلاً: "لا أحبّ أن يُنتَصَر من أحد بسبب كذبه عليّ أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللتُ كلَّ مسلم، والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي"، وذكر تلميذه ابن القيم أنه ما رأى أحدًا أجمع لخصالِ الصفح والعفو وسلامة الصدر من ابن تيمية، وأن أحد تلاميذه بشّره بموتِ أكبر أعدائه الذين آذوه، فنهره ابن تيمية وغضب عليه واسترجع وقام من فوره، فعزّى أهل الميت، وقال لهم: "إني لكم مكانَه".
فأين هذه المواقف ـ عباد الله ـ من قلوب مُلِئت غلاً وبُغضًا؟! إنك لتجد الرجلين في مجلسٍ واحد وما بينهما أحدٌ، لكن في قلب كلِّ منهما مثل الجبل العظيم من الغلّ والحسد والبغضاء على الآخر، وإنك لتجد الجارين ليس بينهما إلا جدار واحدٌ لا يطيق أحدهم الآخر، فضلاً عما يحصل من السخرية والاستهزاء والهمز واللمز والتنابز بالألقاب والغيبة في المجالس.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَى? أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء عَسَى? أَن يَكُنَّ خَيْرًا مّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِ?لأَلْقَـ?بِ بِئْسَ ?لاسْمُ ?لْفُسُوقُ بَعْدَ ?لإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [الحجرات:11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون من القول، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا وإمامنا وقدوتنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.
أما بعد: عباد الله، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله لنا وللذين من قبلنا: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131].
أيها المؤمنون، ما هي أسباب الغلّ والشحناء؟ وما هي الآثار التي تنتُج عنه على الأفراد والمجتمعات؟ وما هي وسائل العلاج التي يُتَّقى بها هذا المرض القلبي الخطير؟ أسئلة ثلاثة هي من الأهمية بمكان.
أما أسباب هذه الظاهرة:
فأولها: تحريش الشيطان بين المؤمنين، فقد قال الله سبحانه: وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53]، وقد قال : ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)). وقد نال من خلال هذا المسلك كثيرًا من مُراده ومبتغاه حين أكلس له كثير من الناس عنانهم، فانساقوا خلفَ هذا المرض القلبي.
ومن الأسباب الغضب، فإن الإنسان إذا عجز عن إخراج غضبه رجع إلى باطنه فصار حقدًا وغلاً، ولذلك أوصى النبي ذلك الرجلَ بأن لا يغضب، فردد مرارًا فأوصاه بهذه الوصية العظيمة.
من الأسباب كذلك الحسد، وقد قال : ((دَبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء)). والحسدُ هو تمنّي زوال النعمة عن الآخرين، وهو مرضٌ من أخطر أمراض القلوب.
ومن أسباب التشاحن والغلّ بين الناس الهوى والجدال والتعصّب للرأي، حين يتعصّب كلُّ أحد لرأيه، ويجادل عنه جدالاً مذمومًا، ويتقاصر عن ذلك في سبيل أن يؤدّي إلى نصرة ما أراده من هواه ورغباته الشخصية، فإنه حينئذ سوف يحمل الحقد والشحناءَ والبغضاء على من خالفه في رأيه؛ لأن الوصولَ إلى الحق لم يكن الدافع في هذا النقاش الذي دار بينهما.
ومن الأسباب كذلك ـ عباد الله ـ التنافسُ على الدنيا وحطامها، فإنها ترهِق أصحابها المتنافسين في طلبها، وتحصُل العداوات بسببها، وقد قال ذاتَ يوم لأصحابه: ((إذا فُتحت عليكم فارس والروم أيّ قوم أنتم؟)) قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، قال : ((أو غير ذلك، تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون)) رواه مسلم.
ومن الأسباب كذلك النجوى وكثرة المزَاحُ، وقد أخبر الله سبحانه أن النجوى من الشيطان، والنجوى أن يتحادث اثنان دون الثالث وليس في المجلس سواهم، فهذا مما يوغر الصدور، ويحرّش بين الناس، كما جاء في حديث النبي.
أيها المسلمون، ما هي الآثار التي تترتّب على الغلّ والشحناء؟
إن من أهمها التفرق والضعف والهوان، وقد بين لنا ربنا ذلك في قوله: وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].
ومن آثارها تأخيرُ مغفرة الذنوب، وقد قال : ((تعرض الأعمال كل اثنين وخميس، فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك به شيئًا، إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أَنظروا هذين حتى يصطلحا)) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
من الآثار الوعيدُ بسوء الخاتمة في حقّ من كان قلبُه يحمل الغلَّ والحسدَ والبغضاء على إخوانه، وقد قال : ((لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجره فوق ثلاث فمات دخل النار)) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
ومن الآثار كذلك ما يقع في القلب من الأذى والهمّ والغمّ والعذاب الذي يتلظّى به صاحبُ الشحناء والبغضاء، ولذلك كان من نعيم أهل الجنة أن نزع الله من صدورهم الغل.
عباد الله، من الآثار الغيبةُ والنميمةُ وتتبُّع الزلات والهمز واللمز، فقلّما تجد من يحمل في قلبه شحناءَ على مسلم إلا وسعى في كل مجلسٍ إلى عيْبه وهمزه ولمزه وتنقُّصه، بل وقوع في الكذب في كثير من الأحيان وفي الظلم وتجاوز الحدّ وغفلةٍ عن عيوب النفس وأخطائها.
إخوتي الكرام، أما كيفية سلامة الصدور وعلاجها من هذا الداء فإن أعظم ذلك إخلاصُ العمل لله عز وجل، بأن يكون المقصد هو وجهه سبحانه، وقد جاء في الصحيح عنه : ((ثلاث لا يغلّ عليهن قلب مسلم: إخلاصُ العمل، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)) رواه الإمام أحمد.
ومن العلاج كذلك ملازمةُ الدعاء وسؤال الله عز وجل أن يطهِّر القلبَ من هذا المرض، يقول سبحانه مبينًا حال المؤمنين الممتَدَحين: وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ [الحشر:10]، وقد جاء في دعائه : ((واسْلُل سخيمةَ قلبي)) ، وقال سبحانه: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ?لشَّيْطَـ?نِ نَزْغٌ فَ?سْتَعِذْ بِ?للَّهِ إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [فصلت:36].
ومن العلاج حُسنُ الظن بالأخ المسلم، وإعذار المخطئ من الناس، فإن المسلمَ حين يحمل إخوانه على مبدأ حسن الظن ويعذرهم إذا أخطؤوا فإن قلبه يبقى سالمًا له من الغلّ والشحناء.
ومن العلاج كذلك صيامُ ثلاثة أيام من كلّ شهر، فقد قال : ((ألا أخبركم بما يذهب وحرَ الصدر؟! صوم ثلاثة أيام من كل شهر)) رواه النسائي.
ومن العلاج الهديةُ وإفشاء السلام، وقد جاء في الحديث: ((تهادَوا تحابّوا)) ، وقوله : ((أفشوا السلام بينكم)).
والصدقة كذلك والكلمة الطيبة من العلاج لهذا المرض، يقول سبحانه: خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، ويقول سبحانه: وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ.
إخوتي الكرام، صلوا وسلموا بعد ذلك على الهادي البشير والسراج المنير، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى فيه بملائكته المسبّحة بقدسه، وثلث بكم أيها الموحدون من جنه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء...
(1/2802)
ظاهرة التهاون بالطلاق
الأسرة والمجتمع, فقه
الطلاق, قضايا الأسرة
محمد بن عبد الله السبيل
مكة المكرمة
28/8/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الحياة الزوجية. 2- تفاوت العباد في التدبير والتصرف. 3- السبيل لصلاح البيت. 4- مشكلة التسرع في الطلاق. 5- إرشادات نبوية لعلاج المشكلة. 6- نصائح للزوجين. 7- استقبال رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، اتّقوه حقَّ تقاته ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون، اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
واعلموا ـ عبادَ الله ـ أنّ الله عزّ وجلّ يمتنُّ علينا بنعمِه، ويذكِّرنا بمِنَنه، ويبيِّن لنا آياتِه الدّالةَ على فضلِه وإحسانه، يقول سبحانه وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
ففي هذه الآية الكريمةِ ينوِّه الله جلّ وعلا عن نعمةٍ عظيمة امتنَّ بها على عباده، ألا وهي العلاقة بين الزّوجين التي يحصُل بها الأنسُ، ويتمّ بها السّرور، ويحصل بها السّكون والطمأنينة في هذه الحياة، فيجِب على العبدِ أن يرعاها حقَّ رعايتها، ولا يتسبَّب في زوالها وفِصامها بعدَ توكيد عُراها.
عبادَ الله، إنّ اللهَ خلق عبادَه متفاوتين متفاضلِين في التّدبير والتصرُّف في شؤون الحياةِ وفي أسبابِ نيلِ السّعادة في الدّنيا والآخرة، ومِن أجل هذا التّفاوتِ جعل الله الخلقَ بين راعٍ ومرعيّ، فاختار ولاةً للأمور ترعَى شؤونَ أمَمِهم، واسترعَى الرّجل على أهلِ بيته، واسترعى المرأةَ على بيت زوجها، فالبيتُ هو عِماد الحيَاة وقوامُ السّعادة واطمئنانُ النفوسِ واستقرارها، ولا يصلح إلاّ إذا قامَ الرّجل بواجبِه وأصلحَ أمرَ أهلِه وأحسن عشرتَهم، وكذا الحالُ في حقِّ الزّوجة، فعلى المرأةِ المسلمة أن تساهمَ بما يجب عليها لأولادها وزوجِها، فالمنزلُ هو المدرسةُ الأولى للحياة، وهو الأساس الذي يصلِح النّشء بإذن الله، ويربِّيهم التربيةَ الإسلاميّة الصالحة التي تقودهم إلى الحياة الطيّبةِ والسّعادة في الدارين.
عبادَ الله، إنّ ممّا ابتُلي به كثير من الناس اليومَ التهاونَ في أمر الطّلاق وجعلَه أمرًا ميسورًا، فيرمي أحدُهم الطلاقَ على زوجته لأتفهِ الأسباب ناسيًا كلَّ معروف لها، فيظلِمها ويظلم نفسَه وأولادَه، ثمّ يكون منه بعدَ ذلك النّدم والتحسُّرُ على ما فات، وسببُ ذلك غالبًا سرعةُ الغضب والانفعال وسوءُ الخلق، فينهار البَيت، وتتشتّت الأسرة، فعلى الرّجل أن يضبطَ نفسه وأعصابَه ولا تستثيره المرأةُ، وعليه في مثل هذه الحالاتِ التي تنشأ من شدّة الغضب أن يغيِّر حالتَه كما أرشدَ إلى ذلك المعصوم بأن يغيِّر حالتَه في تلك اللحظةِ من قيامٍ إلى جلوس، أو مِن جلوسٍ إلى اضطجاع أو خروج من المنزل، حتى تهدَأ الأمور ويزول الغضبُ ويعودَ إلى صوابه، كما أنَّ عليه أن يتذكّر قولَه ووصيّتَه بحقِّ المرأة كما في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((واستوصوا بالنّساء خيرًا؛ فإنّ المرأةَ خلِقت من ضِلَع، وإنّ أعوجَ شيء في الضِّلَع أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرتَه، وإن تركتَه لم يزل أعوج، استوصُوا بالنّساء خيرًا)) [1] ، ويقول : ((لا يفرك مؤمنٌ مؤمنةً ـ أي: لا يبغِض ـ ، إن كرِه منها خلُقًا رضيَ منها آخر)) [2].
فهذا الإرشادُ النّبويّ الكريم مِن أكبر الأسبابِ والدّواعي لحسنِ الخلُق والعِشرة بالمعروف، فينبغي أن يلحَظَ ما في زوجتِه من الأخلاقِ الحميدة والأمورِ التي تناسبُه، وأن يجعلها في مقابَلة ما كرِه من أخلاقها، فإنّ الزوجَ إذا تأمّل ما في زوجتِه من الأخلاق الطيّبة والمحاسِن التي يحبُّها ونظَر إلى السّبب الذي دعاه إلى التضجُّر منها وسوءِ عشرتها فإن كان منصِفًا غضَّ عن مساوئِها لاضمِحلالها في محاسِنها. وليعلَم العاقل أنّ الكمالَ متعذِّر، ولو لحظ أخلاقَه وتفقّد نفسَه لوجد فيه من العيوب أكثرَ ممّا هو في المرأة أو مثلها، ولا يكاد يصفو مع زوجةٍ ولا غيرها من الأقارب أو الأصدقاء، وليتذكّر قول الله عزّ وجلّ: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
عبادَ الله، إنّ العقلَ السليم والفطرةَ النقيّة والضمير المنصِفَ يترفّع عن هضمِ الزّوجة حقَّها، ولا تستسِيغ نفسٌ كريمة ظلمَ امرأةٍ ضعيفة نشأت بعيدةً عنه ثمّ امتزجَت العلاقةُ بينهما وسكنت نفسُ كلٍّ منهما إلى الآخر كما قال سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]، وهي مع هذه المودّة والرّحمة تكون رهينةَ طاعةِ زوجِها والقائمة بأمر بيتِها ومتعة نفسه وموضع حرثِه، وبعد هذا كلّه يتجرّأ على مضارّتها أو مضايقتِها أو نيلِها بإهانة أو هضمٍ أو ضرب ثمّ انفصال وطلاق.
أيّتها المرأة التي امتنّ الله عليها بالعزّة والكرامة والصّيانة والعفّةِ وجعلها مربّيةً وعميدةَ أسرة، حافظي على نعمتِك بتحسين خلُقك ومعاملتك لزوجِك المعاملةَ الحسنة، فإنّ حقَّ الزوج عظيم، واحتسِبي الأجرَ من الله في طاعتِه وخدمتِه والقيام بأمرِه وشأنِه والصبرِ على ما يصدُر منه والتّغاضي عن الأمور التي لا تخلُّ بدينٍ ولا مروءة والبعد عن الظّنون السيِّئة والاتّهامات الوهميّة والعباراتِ المؤذية، وخذِي عبرةً ممّا تسمَعين مِن المشاكلِ الزوجيّة وما ينتُج عنها مِن فُرقة وتشتيتٍ للأولاد.
أيّها الأزواجُ والزّواجات، ليحافِظ كلٌّ منكما على حسنِ الصّحبة، وليتدرّع بالصبر والتحمّل لما قد يصدُر من صاحبِه، وليتَّصِف بحسن الخلُق والمعاشرةِ الحسنة، وإن رأى ما يكرَه من صاحبِه فليقابل ذلك بالحِلم والصّفح حتى يهدأ قبيلُه ويعودَ إلى رشده، فيعترف بالفضلِ لصاحبِه.
وتذكّروا أنَّ لكلّ واحدٍ من الزّوجين حقوقًا على الآخر يجب عليه القيامُ بها كما قال عزّ وجلّ : وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228].
فاتّقوا الله عبادَ الله، وتدرّعوا بالصّبر والحِلم والتّغاضي عن بعضِ الأمور، فإنّ الكمالَ متعذِّر، والصّفح مِن شِيَم الكِرام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
نفعني الله وإيّاكم بالذّكر الحكيم وبهدي سيّد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في النكاح (5186)، ومسلم في الرضاع (1468).
[2] أخرجه مسلم في الرضاع (1469) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانِه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له الإلهُ الحقّ المبين، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله أفضل الخلقِ أجمعين، اللهمّ صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، اتّقوه حقَّ تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون.
واعلموا أنّ الله سبحانَه وتعالى فضّل بعضَ الأوقات على بعض، وشرّف بعضَ الشّهور والأيّام واللّيالي على غيرها، وجعلها متَّجَرًا لعبادِه المؤمنين. ومن أهمّها وأفضلِها شهرُ رمضان الذي أنزِل فيه القرآن، جعله الله سبحانه وتعالى شهرًا مباركًا وموسِمًا عظيمًا من مواسم الخيرات، يجود فيه الرّبّ سبحانه وتعالى على عبادِه برفعِ الدّرجات وغفران السيّئات، وقد قرُب قدومه عليكم وحلولُه بين أظهرِكم، فاستقبِلوه بالفرَح والاستبشار، فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، جعل الله صيامَه فريضةً وقيام ليله تطوّعًا، من فطّر فيه صائمًا كان مغفرةً لذنوبه وعتقَ رقبته من النّار وكان له مثلُ أجرِه من غيرِ أن ينقصَ من أجره شيئ، شهر أوّلُه رحمَة وأوسطُه مغفِرة وآخرُه عتقٌ من النّار، مَن أشبَع فيه صائمًا سقاه الله من حيضِ نبيّه شربةً لا يظمأ بعدَها حتّى يدخلَ الجنّة.
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
عبادَ الله، إنّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه فقال سبحانه وتعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد أزكى البريّة أجمعين، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الراشدين...
(1/2803)
نصائح لاغتنام شهر المرابح
فقه
الصوم
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
28/8/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الدنيا. 2- فضل رمضان. 3- نعمة بلوغ شهر الصيام. 4- الحثّ على اغتنام هذا الشهر الكريم والتحذير من تضييعه. 5- التحذير من دعاة الفساد. 6- العيش مع القرآن. 7- فضل الإنفاق والإحسان. 8- من أحكام الصيام وآدابه. 9- كلمات للمرأة المسلمة. 10- اسألوا أهل الذكر. 11- ظاهرة الإسراف والتبذير. 12- دعاء الصائم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله فإنّ تقواه أفضلُ زاد، وأحسنُ عاقبةٍ في معاد، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
واعلموا أنّ الدّنيا حُلوة خضِرة جَميلة نضرة، نعيمٌ لولا أنّه عديم، ومحمودٌ لولا أنّه مفقود، وغِناء لولا أنّ مصيره الفنَاء، المستقِرُّ فيها يزول، والمقيمُ عنها منقول، والأحوال تحول، وكلُّ عبدٍ مسؤول، من تعلّق بها التاط بشغلٍ لا يفرغ عناه، وأملٍ لا يبلغ منتهَاه، وحِرصٍ لا يدرِك مداه، أيّامُها تسير في خبَب، وشهورُها تتتابع في عجَب، وزمانها انحدَر مِن صبَب، الدّنيا كلُّها قليل، وما بقي منها إلا القليل، كالسَّغب شُرِب صفوُه وبقِي كدره، مخاطرُ ومعاثِر، وفتنٌ زوائِر، صغائر وكبائِر، والنّاس يتقلبون فيها مؤمن وكافر، وتقيّ وفاجِر، وناجٍ وخاسِر، وسالمٌ وعاثر، فطوبى لمن حفِظ نفسَه وأولاده ونساءه وقِعاده، من موجبات السخط والذمّ، ووسائل الشر والهدم، وَمَن يَعْتَصِم بِ?للَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى? صِر?طٍ مّسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].
أيّها المسلمون، أتاكم شهرُ المرابح بظلالِه ونوالِه وجمالِه وجلالِه، زائرٌ زاهر، وشهر عاطِر، فضلُه ظاهر، بالخيراتِ زاخر، أرفعُ من أن يُحَدَّ حسنُ ذاتِه، وأبدع من أن تُعدَّ نفحاتُه وتحصى خيراتُه وتستقصَى ثمراتُه، فحُثّوا حزمَ جزمِكم، وشدّوا لبَد عزمكم، وأروا الله خيرًا مِن أنفسكم، فبالجدّ فاز من فاز، وبالعزم جازَ مَن جاز، واعلَموا أنّ من دام كسله خاب أمله، وتحقَّق فشله، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يجتهِد في رمضانَ ما لا يجتهِد في غيره. أخرجه مسلم [1].
أيّها المسلمون، أتاكم شهرُ القبول والسّعود والعتقِ والجود والترقّي والصّعود، فيا خسارة أهلِ الرّقود والصّدود، فعن أنس رضي الله عنه قال النبيّ : ((قال الله عزّ وجلّ: إذا تقرب العبد إلي شبرًا تقرّبت إليه ذِراعًا، وإذا تقرّب مني ذراعًا تقرّبت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيته هرولة)) أخرجه البخاري [2].
أيّها المسلمون، هذا نسيم القَبول هبّ، هذا سيلُ الخير صَبّ، هذا باب الخير مفتوح لمن أحبّ، هذا الشّيطان كبّ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((إذا جاء رمضانُ فتِّحت أبوابُ الجنة، وغلقت أبواب النّار، وصفِّدت الشياطين)) متّفق عليه [3] ، وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا كانت أوّلُ ليلة مِن رمضان صُفّدت الشياطين ومردة الجن، وغلِّقت أبوابُ النار فلم يفتَح منها باب، وفتِّحت أبواب الجنة فلم يُغلَق منها باب، ونادى منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغيَ الشرّ أقصِر، ولله عتقاء من النّار، وذلك كلَّ ليلة)) أخرجه ابن ماجه [4].
أيّها المسلمون، هذا زمانُ الإياب، هذا مغتسلٌ بارِد وشراب، رحمةً من الكريم الوهّاب، فأسرعوا بالمتَاب، فقد قرب الاغتراب في دار الأجداث والتّراب.
قرُب منا رمضان فكم قريب لنا فقدناه، وكم عزيز علينا دفنّاه، وكم حبيب لنا في اللحد أضجعناه. فيا من ألِف الذنوبَ وأجرمَا، يا مَن غدا على زلاّته متندِّمَا، تُب فدونك المنى والمغنمَا، والله يحبّ أن يجود ويرحمَا، وينيلَ التّائبين فضلَه تكرُّمًا، فطوبَى لمَن غسل في رمضان درنَ الذّنوب بتوبة، ورجع عن خطاياه قبلَ فوْت الأوبة.
يا من أوردَ نفسَه مشارعَ البوَار، وأسامَها في مسارح الخَسار، وأقامَها في مهواة المعَاصي والأوزار، وجعلها على شَفا جُرفٍ هار، كم في كتابك من زَلل، كم في عملِك من خلَل، كم ضيّعتَ واجبًا وفرضًا، كم نقضتَ عهدًا محكمًا نقضًا، كم أتيتَ حرامًا صريحًا محضًا، فبادِر التّوبة ما دمتَ في زمن الإنظار، واستدرِك فائتًا قبل أن لا تُقال العِثار، وأقلِع عن الذنوب والأوزار، وأظهِر النّدم والاستغفار، فإنّ الله يبسُط يده بالنّهار ليتوبَ مسيء الليل، ويبسط يدَه باللّيل ليتوبَ مسيء النّهار.
يا أسيرَ المعاصي، يا سجينَ المخازي، هذا شهرٌ يُفَكّ فيه العاني، ويعتَق فيه الجاني، ويتجَاوَز عن العاصي، فبادِر الفرصَة، وحاذِر الفوتَة، ولا تكن ممّن أبى، وخرج رمضان ولم ينَل فيه الغفرانَ والمُنى، صعد رسول الله المنبَر فقال: ((آمينَ آمينَ آمين)) ، فقيل: يا رسول الله، إنّك صعدت المنبر فقلت: آمين آمين آمين!! فقال : ((إنّ جبريلَ عليه السلام أتاني فقال: مَن أدرك شهرَ رمضانَ فلم يُغفَر له فدخَل النار فأبعَده الله قل: آمين، قلت: آمين)) أخرجه ابن خزيمة وابن حبان [5].
أيّها المسلمون، احذَروا ما أعدّه لكم أهلُ الانحلال ودعاةُ الفساد والضّلال، من برامج مضِلّة ومشاهدَ مخِلّة، قومٌ مستولِغون لا يبَالون ذمًّا، وضمِنون لا يخافون لَومًا، وآمِنون لا يعاقََبون يومًا، ومجرِمون لا يراعون فطرًا ولا صومًا عدوانًا وظلمًا، جرَّعوا الشباب مسمومَ الشّراب، وما زادوهم غيرَ تتبيب، وتهييجٍ وتشبيب، وتدميرٍ وتخريب، مآربُ كانت عِذابا فصارت عَذابًا. فيا من رضِي لنفسه سوءَ المصير، وارتكب أسبابَ التفسيق والتّحقير، أخسِر بها من صفقة، وأقبِح بها مِن رفقة.
يا مطلقي النّواظر في محرّمات المنظور، قد أقبل خيرُ الشّهور، فحذارِ حذار من انتهاكِ حرمتِه، وتدنيس شرفِه، وانتقاصِ مكانتِه، يقول رسول الهدى : ((من لم يَدَع قولَ الزّور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدعَ طعامَه وشرابه)) أخرجه البخاري [6].
يا طليقًا برَأي العَين وهو أسير، يا مُسامًا حياضَ الرّدى وهو ضرير، يا مَن رضي عن الصّفا بالأكدار، وقضى الأسحار في العارِ والشّنار، وكلَّ يومٍ يقوم عن مثل جيفةِ حِمار، عجَبًا كيف تجتنب الطريقَ الواضح، وتسلك مسالكَ الرّدى والقبائِح؟! ما بالُ سمعك عليه سُتور؟! ما بال بصرِك لا يَرى النّور؟! وأنت في دبور، وغفلة وغرور، وما أنت في ذلك بمعذور. فبادِر لحظاتِ الأعمار، واحذَر رقدات الأغمار، ولا تكن ممّن يقذفون بالغيب من مكانٍ بعيد، إذا قيل لهم: توبوا سوَّفوا ولا مجيب.
فطوبى لمَن تركوا شهوةً حاضِرة لموعدِ غيبٍ في الآخرة، لم يرَوه ولكنهم صدَّقوا به، وَ?لَّذِى جَاء بِ?لصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء ?لْمُحْسِنِينَ لِيُكَفّرَ ?للَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ?لَّذِى عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ?لَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الزمر:33-35].
أيّها المسلمون، إنّ أولى ما قُضِيت فيه الأوقات وصُرفت فيه الساعات مدارسةُ الآيات وتدبّر البيّنات والعِظات، وقد كان جبريل عليه السلام يلقى رسولَ الله في كلِّ ليلة من رمضانَ فيدارسه القرآن. متّفق عليه [7].
شفاءٌ لما في الصّدور، وحَكَم عدلٌ عند مشتبِهات الأمور، قصصٌ باهرة، ومواعظ زاجِرة، وحكَم زاهرة، وأدلّة على التوحيد ظاهرة. أندى على الأكباد من قطر النّدى، وألذّ في الأجفان من سِنة الكرى، هو الرّوح إلى حياة الأبد، ولولا الروح لمات الجسد، فأقبِلوا عليه، واستخرجوا دُرَره، واستحلِبوا دِررَه، وتعلّموا أسبابَ التنزيل، وراجِعوا كتبَ التفسير والتأويل، ولا تقنعوا من تلاوته بالقليل، وحكِّموه في كلّ صغيرٍ وجليل، فالسّعيد من صرف همّتَه إليه، ووقف فكرَه وعزمَه عليه، يرتَع منه في رِياض، ويكرَع منه في حِياض، لا يجفّ ينبوعها، ولا تنضَب فيوضها، شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ [البقرة:185].
فكن ـ يا عبد الله ـ كالحالِّ المرتحِل، كلّما ختمه عادَ على أوّله يقرأ ويرتِّل، يقول رسول الهدى : ((الصّيام والقرآنُ يشفعان للعبد يومَ القيامة، يقول الصّيام: أي ربّ، منعتُه الطعامَ والشهوة فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعتُه النومَ باللّيل فشفِّعني فيه، فيشفعان)) أخرجه أحمد [8].
أيّها المسلمون، أتاكم شهرُ الإنفاق والبذل والإشفاق، فيا من يتبجَّس بالرِّئم ويتبذّخ بالجِدة ويكاد ينشقّ بالغنى، تذكّروا الأكبادَ الجائعة، أهلَ الخصاصة والخماصة، الذين أصابتم البوائق الفالقة، والقوارعُ الباقعة، ممّن يعانون عُدمًا، ويعالجون سُقمًا، أعينوهم وأغنوهم، وَأَطْعِمُواْ ?لْقَـ?نِعَ وَ?لْمُعْتَرَّ [الحج:36]، وأغيثوا الجائعَ والمضطرّ، وأنفقوا وانفَحوا وانضِحوا، ولا توكوا فيوكي الله عليكم، ولا تحصوا فيحصي الله عليكم، ولا تُوعوا فيوعي الله عليكم. وأصيخوا السمع ـ أيها الجمع ـ لقول المصطفى : ((يا ابنَ آدم، إنّك أن تبذلَ الفضلَ خير لك، وأن تمسكَه شرٌّ لك، ولا تُلام على كفاف، وابدأ بمَن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى)) أخرجه مسلم [9] ، وقوله : ((أفضل الصّدقة صدقة في رمضان)) أخرجه الترمذي [10] ، وكان رسول الله أجودَ النّاس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل عليه السلام [11].
أيّها المسلمون، مواسمُ الخيرات أيّامٌ معدودات، مصيرها الزوال والفوَات، فاقصُروا عن التّقصير في هذا الشّهر القصير، وقوموا بشعائره التعبّدية وواجباتِه الشرعيّة وسننِه المرويّة وآدابه المرعيّة، و((لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفِطر)) [12] ، و((فصلُ ما بين صيامِنا وصيام أهلِ الكتاب أكلةُ السحر)) [13] ، فتسحَّروا ولو بجرعة ماء، وكان رسول الله يُفطِر قبل أن يصلّي على رُطبات، فإن لم تكن رطبات فتمَيرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسواتٍ من ماء [14] ، وكان إذا أفطَر قال: ((ذهب الظمأ، وابتلّت العروق، وثبتَ الأجر إن شاء الله)) [15]. و((من أكلَ أو شرب ناسيًا فليتمّ صومه، فإنّما أطعمه ربُّه وسقاه)) [16] ، ولا كفّارة عليه ولا قضاء، و((من ذرَعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاءٌ، ومن استقاء فليقض)) [17] ، ويفطِر من استمنى لا منِ احتلم، و((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) [18] ، و((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه)) [19] ، و((من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة)) [20] ، و((مَن فطَّر صائِمًا كان له مثلُ أجره، غيرَ أنّه لا ينقُص من أجرِ الصائم شيء)) [21] ، ((وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم)) [22] ، و((عمرةٌ في رمضان تعدِل حجّة مع النبيّ )) [23].
أيّها المسلمون، احذَروا الفطرَ قبلَ تحلّة صومكم ووقتِ فطركم، واحذَروا انتهاكَ حرمة نهار شهركم بالفطرِ بلا عذرٍ شرعيّ، فعن أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((بينا أنا نائمٌ أتاني رجلان، فأخذا بضبعَيّ، فأتيا بي جبلاً وعرًا، فقالا: اصعد، فقلتُ: إني لا أطيقه، فقالا: إنّا سنسهِّله لك، فصعدتُ حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصواتٍ شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ ما هذه الأصوات؟ قالا: هذا عُواءُ أهلِ النار، ثمّ انطُلِق بي، فإذا أنا بقومٍ معلَّقين بعراقيبهم، مشقّقة أشداقهم، تسيل أشداقهم دمًا، قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يفطِرون قبلَ تحلّة صومهم)) أخرجه ابن خزيمة وابن حبان [24].
وعلى المرأة المسلمة إذا شهدت العشاء والتراويحَ أن تجتنبَ العطورَ والبخور، وما يثير الفتنة من ملابسِ الزّينة المزخرفة أو غيرها، والتي تستميل نفوسَ ضعافِ الإيمان، وتغري بها أهلَ الشرّ والفساد، وتبلبِل من في قلبه مرضٌ. وعليها أن تجتنبَ الخَلوة بالسّائق الأجنبي لما في ذلك من النّتائج التي لا تُحمَد عقباها، ولا يُعرَف منتهاها، فعن زينب الثقفيّة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إذا شهِدت إحداكنّ العشاءَ فلا تتطيّب تلك الليلة)) ، وفي رواية: ((إذا شهدت إحداكنّ المسجدَ فلا تمسَّ طيبًا)) رواهما مسلم [25] ، وعن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت: لو أنّ رسول الله رأى ما أحدَث النساء لمنعهنّ المسجدَ كما مُنعت نساء بني إسرائيل، فقيل لعمرة: نساء بني إسرائيل مُنعن من المسجد؟ قالت: نعم. أخرجه مسلم [26].
وصلاتهنّ في قعر بيوتهنّ خيرٌ لهنّ، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ قال: ((لا تمنَعوا نساءَكم المساجدَ، وبيوتهنّ خير لهنّ)) أخرجه أبو داود [27] ، وعن أم سلمة رضي الله عنها عن رسول الله أنّه قال: ((خيرُ مساجدِ النّساء قعر بيوتهنّ)) أخرجه أحمد [28] ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((صلاةُ المرأة في بيتها أفضل مِن صلاتِها في حجرتها، وصلاتها في مخدَعِها أفضل من صلاتها في بيتها)) أخرجه أبو داود [29].
أيّها المسلمون، شفاءُ العِيِّ السؤال، فاسألوا عما أشكل، واستفتوا عما أقفَل، فمن غدا بغير علمٍ يعملُ، أعماله مردودة لا تقبلُ.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الاعتكاف (1175) بلفظ: كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره.
[2] أخرجه البخاري في التوحيد (7536).
[3] أخرجه البخاري في الصوم (1899)، ومسلم في الصيام (1079) واللفظ له.
[4] أخرجه ابن ماجه في الصيام (1642)، وهو أيضا عند الترمذي في الصوم (682)، وأبي نعيم في الحلية (8/306)، والبيهقي في الكبرى (4/303)، وصححه ابن خزيمة (1883)، وابن حبان (3435)، والحاكم (1532)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (1331).
[5] أخرجه ابن خزيمة (1888)، وابن حبان (907)، وكذا البخاري في الأدب المفرد (646)، والبزار، وأبو يعلى (5922)، والطبراني في الأوسط (8131، 8994)، والبيهقي (4/304) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (10/167): "فيه كثير بن زيد الأسلمي، وقد وثقه جماعة وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات". وله شاهد من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه أخرجه الطبراني (19/291)، وصححه ابن حبان (409)، قال الهيثمي في المجمع (10/166): "فيه عمران بن أبان، وثقه ابن حبان، وضعفه غير واحد، وبقية رجاله ثقات". وله شاهد آخر من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه أخرجه الطبراني (19/144)، والبيهقي في الشعب (1572)، وصححه الحاكم (7256)، قال الهيثمي في المجمع (10/166): "رجاله ثقات". وهذه الأحاديث الثلاثة صححها الألباني في صحيح الترغيب (995، 996، 997). وفي الباب أيضا عن عمار بن ياسر وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله وابن عباس وابن مسعود وأنس وعبد الله بن الحارث رضي الله عنهم، انظر: مجمع الزوائد (10/164-166).
[6] أخرجه البخاري في الصوم (1903) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في بدء الوحي (4)، ومسلم في الفضائل (2308) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[8] أخرجه أحمد (2/174)، وصححه الحاكم (2036)، وقال المنذري في الترغيب (2/84): "رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله محتج بهم في الصحيح، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع وغيره بإسناد حسن"، وقال الهيثمي في المجمع (10/381): "رواه أحمد وإسناده حسن على ضعف في ابن لهيعة وقد وثق"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (984، 1429).
[9] أخرجه مسلم في الزكاة (1036) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
[10] أخرجه الترمذي في الزكاة (663) من طريق صدقة بن موسى عن ثابت عن أنس رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث غريب، وصدقة بن موسى ليس عندهم بذاك القوي"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (618).
[11] أخرجه البخاري في الصوم (1902)، ومسلم في الفضائل (2308) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[12] أخرجه البخاري في الصوم (1957)، ومسلم في الصيام (1098) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
[13] أخرجه مسلم في الصيام (1096) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
[14] أخرجه أحمد (3/164)، وأبو داود في الصوم (2356)، والترمذي في الصوم (696)، من حديث أنس رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الدارقطني (2/185)، والحاكم (1575)، وحسنه الألباني في الإرواء (932).
[15] أخرجه أبو داود في الصوم (2357)، والنسائي في الكبرى (3329، 10131)، والبيهقي في الكبرى (4/239) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وحسن إسناده الدارقطني (2/185)، وصححه الحاكم (1536)، وحسنه الألباني في الإرواء (920).
[16] أخرجه البخاري في الصوم (1933)، ومسلم في الصيام (1155) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[17] أخرجه أحمد (2/498)، وأبو داود في الصوم (2380)، والترمذي في الصوم (720)، والنسائي في الكبرى (3130)، وابن ماجه في الصيام (1176)، قال الترمذي: "حديث حسن غريب، لا نعرفه من حديث هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي إلا من حديث عيسى بن يونس، وقال محمد ـ يعني البخاري ـ: لا أراه محفوظا"، وصححه ابن الجارود (385)، وابن خزيمة (1960، 1961)، وابن حبان (3518)، والحاكم (1/426-427)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الإرواء (930).
[18] أخرجه البخاري في الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[19] أخرجه البخاري في الإيمان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين (759) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[20] أخرجه أحمد (5/159)، وأبو داود في الصلاة (1375)، والترمذي في الصوم (806)، والنسائي في قيام الليل (1605)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1327) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (403)، وابن خزيمة (2206)، وابن حبان (2547)، والألباني في الإرواء (447).
[21] أخرجه أحمد (4/114-115)، والترمذي في الصوم (804) واللفظ له، والنسائي في الكبرى (3330)، وابن ماجه في الصيام (1746) من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه ، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3429)، وهو في صحيح سنن الترمذي (647).
[22] أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[23] أخرجه البخاري في الحج (1863)، ومسلم في الحج (1256) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
[24] أخرجه ابن خزيمة كما في الترغيب (3/188)، وابن حبان (7491)، وكذا النسائي في الكبرى (3286)، والطبراني في الكبير (8/155-156)، والبيهقي في الكبرى (7796)، وصححه الحاكم (1568، 2837)، وقال الهيثمي في المجمع (1/76): "رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1005).
[25] أخرجهما مسلم في الصلاة (443).
[26] أخرجه مسلم في الصلاة (445).
[27] أخرجه أبو داود في الصلاة (567)، وكذا أحمد (2/76)، والبيهقي (3/131)، وصححه ابن خزيمة (1684)، والحاكم (755)، وابن عبد البر في التمهيد (23/395)، ونقل الشوكاني في النيل (3/95) تصحيح العراقي، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (530). وأصل الحديث في الصحيحين وليس فيه: ((وبيوتهن خير لهن)).
[28] أخرجه أحمد (6/297، 301)، وكذا أبو يعلى (7025)، وابن خزيمة (1683)، والطبراني في الكبير (23/313)، والحاكم (756)، والقضاعي في مسند الشهاب (1252)، والبيهقي (3/131)، قال المنذري في الترغيب (1/141): "رواه أحمد والطبراني في الكبير وفي إسناده ابن لهيعة، ورواه ابن خزيمة في صحيحه والحاكم من طريق دراج أبي السمح عن السائب مولى أم سلمة عنها، وقال ابن خزيمة: لا أعرف السائب مولى أم سلمة بعدالة ولا جرح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (341).
[29] أخرجه أبو داود في الصلاة (570)، والبزار (2060، 2063)، وابن خزيمة (1690)، والبيهقي في الكبرى (5144)، وابن عبد البر في التمهيد (23/298)، وتردد ابن خزيمة في سماع قتادة هذا الحديث من مورق، وصححه الحاكم (757)، وجود إسناده ابن كثير في تفسيره (3/483)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (533).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانِه، والشّكر له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله الدّاعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله وراقِبوه، وأطيعوه ولا تعصُوه، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
أيّها المسلمون، إنّ ممّا يؤسِف الناظرَ ويُحزن الخاطِر ظاهرةً مقيتة وعادة قبيحَة سرت في صفوف بعض المسلمين، ألا وهي ظاهرة الإسراف في المآكل والمشارب في شهر رمضان، زيادة على قدر الحاجة، وإكثار على مِقدار الكفاية، نهمٌ مُعِرّ، وشرهٌ مضرٌّ، بطنةٌ مورثة للأسقام، مفسدَة للأفهام، وبطَر وأشَر، حمل الكثيرَ إلى رمي ما زاد من الأكلِ والزاد في النّفايات والزّبالات مع المهملات والقاذورات، في حين أنّ هناك أكبادًا جائعة وأُسرًا ضائعة تبحث عمّا يسدّ جوعَها ويسكِّن ظمأها.
فاتّقوا الله عبادَ الله، فما هكذا تُشكَر النعم وتستدفَع النقم، وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]، وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ ?لْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْو?نَ ?لشَّيَـ?طِينِ وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء:26، 27]. فتوسّطوا فالتوسُّط محمود، وأنفقوا باعتدال، ولا خيرَ في السّرف، ولا سرفَ في الخير، وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى? عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ?لْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [الإسراء:29].
أيّها المسلمون، لكلِّ صائمٍ في كلِّ يوم وليلة دعوةٌ مستجابة، تفتَح لها أبواب الإجابة، فعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنّ لكلّ مسلمٍ في كلّ يوم وليلة دعوةً مستجابة)) أخرجه البزار [1] ، وعن [عبد الله بن] عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إنّ للصّائم عند فطرِه لدعوةً ما تردّ)) أخرجه ابن ماجه [2].
فاستكثِروا مِن الدّعوات الطيّبات في شهر النّفحات، لأنفسكم وذويكم، وتوسَّلوا إلى الله بألوانِ الطّاعة، وارفَعوا أكفَّ الضّراعة، أن ينصرَ إخوانَكم المستضعفين والمشرَّدين، والمنكوبين والمأسورين، والمضطَهدين في كلّ مكان، فالأمّة تمرّ بأعتى ظروفها وأقسى أزمانها.
اللهم أنت المستعان، وعليك التّكلان، ولا حولَ ولا قوة إلا بك.
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمين، ودمِّر أعداء الدين من اليهود والنصارى والملحدين...
[1] أخرجه البزار كما في المجمع (3/143)، والطبراني في الأوسط (6401)، وأشار المنذري في الترغيب لضعفه، وقال الهيثمي: "فيه أبان بن أبي عياش وهو ضعيف"، وقال في موضع آخر (10/149): "وهو متروك". وأخرج نحوه أحمد (2/254) فقال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد، الشك من الأعمش، ورواه أبو نعيم في الحلية (8/257، 9/319)، قال الهيثمي في المجمع (10/216): "رجاله رجال الصحيح". والحديثان صححهما الألباني في صحيح الترغيب (1002) وصحيح الجامع (2169).
[2] أخرجه ابن ماجه في الصيام (1753)، وكذا الحاكم (1535)، والبيهقي في الشعب (3904)، وفي سنده إسحاق بن عبد الله وقيل: ابن عبيد الله، اختلفوا فيه. وللحديث طريق آخر عند الطيالسي (2262)، والبيهقي في الشعب (3907) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. والحديث ضعفه الألباني في الإرواء (921).
(1/2804)
لقد أظلّكم شهر كريم
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
28/8/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فرح المؤمن بطاعة ربّه. 2- حال المؤمن عند قدوم رمضان. 3- فرضية صيام رمضان. 4- الحكمة من مشروعية الصوم. 5- البشارة بقدوم رمضان. 6- خصائص رمضان وفضائله. 7- فرح السلف ببلوغ شهر الصيام والقيام. 8- شروط وجوب الصيام. 9- الحثّ على صلاة التراويح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، إنّ مِن آثار الإيمان الصّادق فرحَ المسلم بطاعة ربّه، فرحَه بعبادةِ ربّه وطمأنينة نفسه لذلك وانشراح صدره، إنّه كلّما تأمّل العبادات التي افترضها الله عليه يعلمُ حقًّا أنّ هذه العبادةَ التي افتُرضت عليه نعمةٌ من نعمِ الله عليه، وفضلٌ من فضل الله عليه، فهو يحمَد الله على هذا الفضلِ وعلى هذه النّعم. لماذا؟ لأنّه يرى حقًّا أنّ هذه العبادةَ شُرعت له لتقوّيَ صلتَه بربّه، وتجعله دائمًا على صلةٍ بربّه، وتلك غايةُ أمنيّةِ المسلم، مع ما يحصل له فيها من الأجرِ العظيم والعطاءِ الجزيل.
أيّها المسلم، هكذا حال المؤمن الصّادق، محبّةُ الإيمان، محبّة الأعمال الصّالحة، الفرحُ بها، الانبساط بها، كلّما أدّى ركنًا من أركان دينِه فهو فرحٌ مسرور به.
في الصّلاة قلبُه معلّق بالمسجد، يفارقه وهو يحنّ إليه ويشتاق إليه، متى ما سمع: "حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح"، قال: سمعًا وطاعة، فأتى المسجدَ عن رغبةٍ وطاعة وفرَحٍ ومحبّة لهذه الفريضة.
عندما يخرِج زكاةَ ماله فهو يفرَح بها، لأيّ شيء؟ يفرح بها لأنّه ينفّذ عبادةً أمَره الله بها، فهو يشكر الله على أدائها، كما يشكُره على فضلِه ونعَمه عليه.
إذا أدّى فريضةَ الحجّ فرِح بذلك لكونِه أدّى ركنًا من أركانِ إسلامه، فيحمَد الله أن أعانَه على ذلك.
عندما يقبِل عليه شهرُ الصّيام والقيام، ما هي حاله؟ حالُه استبشارٌ وفرَح واغتباط بمقدَم هذا الشّهر الكريم، فرح واستبشارٌ وانبساطٌ وسرور بمقدَم هذا الشّهر الكريم. يفرَح به فرحًا عظيمًا، ويهنِّئ نفسَه وإخوانَه المؤمنين بمقدَم هذا الشهر، ويقول: الحمد لله، أمدَّ في أجلِي حتّى أدركتُ رمضان، الحمد لله، عافاني في بدَني حتّى أتمكّن من صيامِ رمضان، الحمد لله الذي أقرّ عيني بإدراك شهرِ الصّيام.
ما هذا الفرحُ بالصّيام؟ فرحُه به لأنّه يؤدّي عبادةً افترضَها الله عليه، وتعبّد بها مَن قبله مِن الأمم، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
أيّها المسلم، والمؤمنُ حينما ينظر إلى رمضان، إلى هذا الشّهر المبارك الذي فضّله الله على سائر شهور العام، فجعله سيّدَ الشهور وأفضلَ الشّهور على الإطلاق، إذًا فالمؤمن يفرَح به، ويستبشِر به، ويعلم أنّ صومَه عبادة تُرضِي اللهَ عنه، يعلم أنّ صومَه عبادةٌ يرضى الله عنه بفعل تلك العبادة. إذًا فهو يفرَح بهذا الشهر، ثمّ يعلم حقًّا ما أودع الله في هذا الشّهر من الفضائلِ والمزايا التي لم تكن لشهرٍ غيره، فهو يشكر الله على هذه النّعمة ويفرح بها.
أيّها المسلم، إنّ الله جلّ وعلا خاطب المؤمنين بالأمر بالصّيام فقال لهم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ، وجّه الخطابَ لأهل الإيمان الصادقِ الملتزمين بالإيمان قولاً وعملاً واعتقادًا، أولئك الذين آمنت قلوبهم، ونطقت ألسنتهم، وعملت جوارحُهم بمقتضى حقيقة الإيمان الصّادق، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ ، فُرض عليكم الصيام، وجُعل فريضةً عليكم، وهو ركن من أركان دينكم، كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ، فهو عبادة لم تكونوا أنتم [المخصوصين] بها، بل عبادة تُعبِّدتم بها كما تُعبِّد بها مَن قبلكم، وإن كان لهذه الأمّة مزيدُ فضل وإحسانٍ ومزيد مضاعفة للأجور. ثم قال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، هذه حكمتُه جلّ وعلا مِن افتراض الصّيام على المسلمين، لماذا؟ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، إنّما فُرض الصيام عليكم ليتحقّق لكم جانب التقوى في هذا الصيام، وهذا التقوى يكون بامتثال هذا الأمرِ بصيام رمضانَ، هذا التّقوى يتجلّى في حال المسلم وهو يمسِك عن الطّعام والشّراب ومواقعَة النّساء مع تذكّره وقدرتِه، لكن يترك كلَّ ذلك لأجل الله، ويعلم أنّ الله يراقِبه ويطّلع عليه، فهي عبادة بين العبدِ وبين ربِّه، ((الصوم لي، وأنا أجزي به)) [1].
يذكّره نِعمَ الله عليه، ولا يعرف النّعمَ إلا من فقدها، ويذكّره حالَ المحتاجين، فيعود عليهم بالمواساة، ويذكّره طاعةَ ربّه قبلَ كلّ شيء والتقرّبَ إليه بما يرضيه، وإنّه لأيّام معدودَة، تسعة وعشرون يومًا أو ثلاثون يومًا.
وإنّ هذا الصّومَ يُباح للمريض والمسافر الفطرُ إذا أتعبَهم الصّيام، وكان في أوّل الإسلام مخيّرًا المسلم بين أن يصومَ أو يطعِم، ثمّ إنّ الله رحِم الأمّة فأوجب الصيامَ على المسلم المقيم البالغ العاقل القادر السّالم من كلّ ما يمنَع الصّيام، وإنّ الله أراد بنا اليسرَ فيما فرضَ علينا، ولم يرد بنا العسر.
أيّها المسلم، إنّ نبيّنا كان يبشِّر أصحابَه بمقدَم رمضان، ويخبِرهم بذلك ليستعدّوا ويتأهّبوا.
هذا الشّهر العظيم له خصائصه وفضائله، فمن ذلك ـ يا معشر المسلمين ـ أنّ صيامَه مع الإيمانِ والاحتسابِ والإخلاصِ لله يكفّر ما مضى من الذّنوب، ((مَن صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفَر الله له ما تقدّم من ذنبه)) [2] ، ((الصّلوات الخَمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمَضان مكفّراتٌ لما بينهنّ إذا اجتنِبت الكبائر)) [3] ، هكذا يقول.
قيامُ رمضان يمحو ما مضى من الذّنوب، كان نبيّنا يرغّب الأمّةَ في قيام رمضان من غير أن يأمرَهم بعزيمة، ثم يقول: ((من قامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدّم من ذنبه)) [4].
من خصائص هذا الشّهر أنّه عمَل أُضيفَ إلى الله واختصّ الله جلّ وعلا بالإثابة عليه، ((كلّ عمل ابن آدم له، قال الله: إلاّ الصيام، فإنّه لي وأنا أجزي به، والصوم جُنّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يصخب ولا يغضَب، وإن سابّه أحد فليقل: إنّي امرؤ صائم، والذي نفس محمّد بيده لخلوف فمِ الصائم أطيبُ عند الله مِن ريح المِسك)) [5].
الحسنات تُضاعَف بعشرِ أمثالِها إلى سبعمائة ضِعف، أمّا الصّوم فإنّ مضاعفتَه لا يعلمها إلاّ الله؛ لأنّه من الصّبر، والله يقول: إِنَّمَا يُوَفَّى ?لصَّـ?بِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، وأضاف الصيامَ إليه لأنّها عبادة بين العبد وبين ربّه لا يطّلع عليها إلا الله، وهو جُنّة يقي المؤمن المعاصي، ويهذّب سلوكَه، ويقوّي ما اعوجّ من أخلاقه. والصّائم مطلوب منه الحِلم والصّبر والعفوُ والإِعراض عن الجاهلين.
نبيّكم أخبركم عن خمسِ خصائصَ خُصِصتم بها ـ يا معشر المسلمين ـ في هذا الشّهر: ((خلوف فمِ الصّائم أطيب عند الله من ريح المسك ـ ما يتصاعد من أبخرةٍ في مشامّ النّاس كريهة عندَ خلوّ المعِدة من الطعام والشراب، ولكنّها عند الله أطيبُ من ريح المسك؛ لأنّها ناتجةٌ عن عبادة وطاعة لله ـ ، ملائكة الرّحمن تستغفر لكم حتّى تفطروا وتدعو لكم بالمغفرة، الجنّة تتزيّن كلَّ ليلة، يقول الله: يوشِك عبادي الصّالحون أن يلقوا عنهم المؤونةَ والأذى ويصيروا إليك، مردَة الشّياطين يُصفَّدون في هذا الشهر فلا يخلُصون إلى ما كانوا يخلصون في غيره، يُغفَر لكم في آخر ليلة)) ، قيل: أليلة القدر؟ قال: ((لا، ولكن إنّما يوفَّى العامل أجرَه إذا قضى عمله)) [6].
أيّها الإخوة، رسولنا أخبَر الصّحابة يومًا وقد حضر رمضان فقال: ((أتاكم رمضانُ شهر بركةٍ يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمَة، ويحطّ الخطيئة، ويستجيب الدّعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه، فأروا الله من أنفسكم خيرًا)) [7] ، وقال لهم وقد أظلّهم رمضان: ((أظلّكم شهركم هذا بمحلوفِ محمّد ، ما مرّ بالمؤمنين شهر خيرٌ لهم منه، ولا مرّ بالمنافقين شهرٌ شرّ لهم منه. إنّ الله يكتب أجرَه ونوافله قبل أن يُدخِله، ويكتب وزرَه وشقاءَه قبل أن يُدخِله، فالمؤمن يُعدّ فيه القوتَ من النفقة للتّقويّ على الطاعة، ويعدّ فيه المنافق تتبّعَ غفلاتِ النّاس وعوراتِهم، فهو غنمٌ للمؤمن يغتنِمه الفاجر)) [8] ، وأخبرهم عن هذا الشّهر بقولِه: ((أظلّكم شهرٌ عظيم مبارَك)) ، وأخبرهم أنّ فيه ليلةً هي خير مِن ألف شهر، وأنّ الله افترضَ صيامَه وسنّ نبيّكم قيامَه، وأنّ النافلةَ في هذا الشّهر تعدل فريضة، والفريضة تعدِل سبعين فريضةً فيما سواه، وأنّه شهر الصّبر والصّبر ثوابه الجنّة، وشهر المواساة، وشهر يُزاد في رزق المؤمن فيه، وأنّ من فطّر فيه صائمًا كان مغفرةً لذنوبه وعتقَ رقبتِه من النّار، وكان له من الأجر مثلُ أجر الصّائم من غير أن ينقصَ من أجر الصائم شيء، وأخبرهم أنّه شهر أوّله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتقٌ من النّار، وأخبرهم أنّ مَن خفّف عن مملوكِه غفر الله له وأعتقه من النّار، وأنّ من سقى فيه صائمًا شربةَ ماءٍ سقاه الله من حوضِ نبيّه، وأخبرهم أنّ هذا الثّواب يُعطى لمن فطّر صائمًا على تمرة أو مذقةِ لبَن أو شربة ماء، وأمرهم أن يستكثِروا فيه مِن أربَع خصال، فخصلتان يرضون بهما ربَّهم: شهادة أن لا إله إلا الله والاستغفار، وخصلتان لا غناءَ بهم عنهما: يسألون اللهَ الجنة ويستعيذون به من النار [9].
فيا أيّها المسلم، وقد اقتربتَ من رمضان فاحمَد الله على هذه النعمة، واشكره على هذا الفضل، ولا تستثقل الصّيام، ولا تسأم الصّيام، ولا تملّنّ من الصيام، بل احمد اللهَ على هذه النّعمة.
سلفكم الصّالح كانوا يقولون: "اللهمّ سلِّمني لرمضان، اللهمّ سلّم لي رمضان، اللهمّ تسلَّم منّي رمضان متقبَّلاً"، يدعون الله نصفَ العام أن يبلِّغهم رمضان، فإذا صاموه دعَوا الله مثلَه أن يتقبّله منهم.
إنّه ميدان التّنافس في الخير وصالحِ العمل، فجِدّ أيّها المسلم، واجتهد في هذا الشّهر، وأحدث عملاً صالحًا، وتقرّب إلى الله بطاعته وما يرضيه.
أسأل الله أن يظلّه عليّ وعليكم وعلى جميع المسلمين بالأمن والإيمان والسّلامة والإسلام، وأن يرزقنا فيه الجدَّ والنّشاط، وأن يوفّقَنا فيه لصالح الأقوال والأعمال.
تذكّر ـ أخي المسلم ـ أقوامًا كانوا معك في مثلِ هذا العام، أتاهم أجلهم المكتوب، وانتقلوا من هذه الدّنيا إلى القبور، وهم يتمنّون لو كانوا معَكم ينافسون في صالح العمل.
فيا من طال عمره حتّى أدرك رمضان، اشكر الله على هذه النّعمة، وأحدِث لها طاعة وعبادةً، فإنّها نعمة عظيمة من الله.
أسأل الله أن يوفّقني وإيّاكم لصالح القول والعمل، وأن يرزقَنا جميعًا الفرحَ بهذه العبادة وانشراحَ الصدر والقيام بالواجب، إنّه على كلّ شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الصوم، باب: من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية (1901)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في الطهارة (233) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الإيمان، باب: تطوع قيام رمضان من الإيمان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان (759) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[6] أخرجه أحمد (2/292)، والبزار (1/458- كشف الأستار)، ومحمد بن نصر في قيام رمضان (ص112)، والبيهقي في الشعب (3602)، وقال البزار: "لا نعلمه عن أبي هريرة مرفوعًا إلا بهذا الإسناد، وهشام بصري يقال له: هشام بن زياد أبو المقدام، حدث عنه جماعة من أهل العلم وليس هو بالقوي في الحديث"، وقال الهيثمي في المجمع (3/140): "رواه أحمد والبزار، وفيه هشام بن زياد أبو المقدام وهو ضعيف"، وقال الألباني في ضعيف الترغيب (1/294): "ضعيف جدًا".
[7] عزاه المنذري في الترغيب (2/99) إلى الطبراني من حديث عبادة رضي الله عنه وقال: "رواته ثقات إلا محمد بن قيس لا يحضرني فيه جرح ولا تعديل"، وقال الهيثمي في المجمع (3/142): "رواه الطبراني في الكبير، وفيه محمد بن أبي قيس ولم أجد من ترجمته"، وذكره الألباني في ضعيف الترغيب (592).
[8] أخرجه أحمد (2/374)، وابن خزيمة (3/188)، والطبراني في الأوسط (9/21) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (3/141): "رواه أحمد والطبراني في الأوسط عن تميم مولى ابن زمانة، ولم أجد من ترجمه"، وفي إسناده أيضًا عمرو بن تميم قال الذهبي في الميزان (5/302): "عمرو بن تميم عن أبيه عن أبي هريرة في فضل رمضان وعنه كثير بن زيد، قال البخاري: في حديثه نظر"، وقال العقيلي في الضعفاء (3/260) : "لا يتابع عليه"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (590).
[9] رواه الحارث في مسنده (318 ـ بغية الباحث ـ)، وابن خزيمة (3/191-1887)، وابن أبي حاتم في العلل (1/249)، وابن عدي في الكامل (5/293)، قال أبو حاتم : "هذا حديث منكر".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، يقول الله جل وعلا: شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ [البقرة:185]، ترغيبٌ في هذا الشهر، وأنّ هذا الشهر ابتدِئ نزول القرآن فيه، فأوحَى الله إلى نبيّه محمّد بهذا القرآن في رمضان، شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ ، هذا الكتاب هدًى للنّاس، يهديهم من الجهل والضلال إلى العلمِ والهدى، وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ.
أيّها المسلم، إنّ صومَ رمضان أداءً يجِب على المسلم البالِغ العاقل المقيمِ القادِر السّالم من موانع الصّيام، فهَذا يجب عليه الصيام، وهو ركنٌ من أركان إسلامه، ولا يمكن لمسلم أن يتخلّى عن ذلك؛ لأنه الركن الرّابع من أركان الإسلام، فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]. كانوا في أوّل الإسلام يطعِمون، ثمّ إنّ الله رحمهم فافترض عليهم الصّيام، فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.
أيّها المسلم، غيرُ المسلم لا يُطالَب به لأنّ الأصلَ التزام التّوحيد وعبادة الله وحدَه لا شريك له والإيمان بمحمّد والتزام الصلاة والزكاة.
الصغير غيرُ البالغ لا يطالَب به، لكن إن أمكنَ ترغيبُه في الصّيام بعد التمييز وترغيبه فيه ولو أيّامًا بعدَ أيام لكي ينشأ آلفًا للبعادةِ محبًّا لها فذاك حسن.
المجنونُ لا يطالَب به لأنّه فاقدُ العقلِ مرفوعٌ عنه التكليف.
الذي يعجزه الصيامُ لمرض والمرض هنا على قسمين، فهناك أمراضٌ خطيرة، أمراض لا يمكن الصيامُ معها، أمراضٌ يقرّر الأطبّاء المختصّون أنّ الصومَ مع هذا المرضِ غيرُ ممكِن، وأنّ الصومَ يهدِّد حياةَ المسلم، فهؤلاء يفطِرون، وإذا كان المرَض مرضًا ملازِمًا وأمراضًا متّصلة ـ عافى الله الجميعَ من كلّ بلاء ـ فإنّه يفطر ويطعِم عن كلّ يوم مسكينًا، أي: عن الشّهر كلِّه خمسة وأربعين كيلو من الأرز أو الحبّ عن الشّهر كلّه؛ لأنّ مرضَه مرض ملازمٌ لا ينفكّ عنه، كالمصابين بداءِ الكلى والأمراضِ المتعدّدة المتنوّعة، فإنّ صاحب هذا المرض الذي إذا صام تعِب، وربما أغمِيَ عليه، وربّما هدّد حياتَه، فإذا قرّر ذلك طبيبٌ مختصّ فإنّ المسلم يفطر، ويطعِم عن كلّ يوم مسكينًا، وإن كان هذا المرض مرضًا مؤلِمًا ومتعِبًا ولا يستطيع الصومَ معه، لكن هذا المرض يُرجَى شفاؤه في الغالب بإذن الله، فهذا يفطِر ويقضي أيّامًا آخر.
والمسافر إن أفطرَ في سفرِه فالله يقول: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، وإن لم يشقَّ عليه الصومُ فصام فلا مانِع، وإن اطمأنّت نفسه فقبِل رخصةَ الله فالله يحِبّ أن تؤتَى رخصُه كما يكرَه أن يؤتى معصيتُه.
من بلغ مبلغًا من السّنّ يعجزه الصيام فصار كبيرًا لا يقدِر على الصّيام، فإنّه أيضًا يفطر ويطعِم عن كلّ يوم مسكينًا، وأمّا الذي فقد الذّاكرةَ وأصبَح لا يحسِن شيئًا ولا يعرِف مَن حوله، فاقدُ الذاكرة لكبرِ سنّه أو هرفٍ مبكِّر أفقده الذّاكرةَ، فهذا لا صومَ ولا إطعامَ عنه؛ لأنّه غير مطالب بالصّيام في تلك الحال.
والحائض تفطِر إذا جاءَها دمُ الحيضِ، ولو لم يبقَ من النّهار إلاّ جزء يسير فإنّها تفطر، وإن طهرت في أثناء اليومِ أمسكت بقيّةَ يومِها وتقضِيه، وهكذا النّفساء تفطر في نفاسها، ومتى انقطع الدّم عنها أمسكت وكمّلت يومَها وتقضيه، وإن طهُرت مِن نفاسها قبل الأربعين وزال عنها النّفاس كلّه فإنّها تصوم ويلزَمها الصّيام وإن لم تكمّل أربعين.
فاتّقوا الله ـ يا عباد الله ـ في صيامكم، واشكروا اللهَ على هذه النّعمة، وأحيوا سنّة التّراويح، فإنّها سنّة نبيّكم ، صلاّها ثلاث ليالٍ أو ليلتين، ثمّ خاف أن تُفرَض على النّاس فتركها رِفقًا بهم [1] ، فلمّا كان زمن عمر جمَع النّاسَ على إمام واحدٍ إحياءً لهذه السنّة [2] ، فتلقّتها الأمّة بالقبول، فرضي الله عنه وأرضاه، وهو ثاني الخلفاءِ الرّاشدين الذين أمِرنا باتّباع سنّتهم، وهو أحد الرّجلَين اللذَين أمِرنا بالاقتداء بهم: ((اقتدوا باللّذين من بعدي: أبي بكر وعمر)) [3] ، فهي سنّة مؤكّدة، و((من قام مع الإمام حتّى ينصرِف كتِب له قيام ليلة)) [4] ، فحافِظوا عليها رحمكم الله، واعتنوا بها، ولا تفرّطوا فيها، فمَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفَر الله له ما تقدّم من ذنبه.
أخي المسلم، الذي أدرَك هذا الشّهرَ ولم يتمكّن من صيامه لمرضٍ ما فأذكِّره بقول النبيّ : ((إذا مرض العبد أو سافر كتَب الله له ما كان يعمله صحيحًا مقيمًا)) [5]. فالمسلم إذا لم يتمكَن من الصيام لأجل المرض فإنّ الله يكتب له ثوابَ الصائمين، ويثيبه ثوابَ الصائمين، لأنّ الله يعلم من نيّته حرصَه على هذا الشّهر وحبَّه له لولا الحائل والعذرُ الذي منَعه، فإنّ الله لا يضيع أجرَه ونيّتَه، وذلك فضلُ الله، والله ذو الفضل العظيم.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الجمعة (924، 1129)، ومسلم في صلاة المسافرين (761) عن عائشة رضي الله عنها بمعناه.
[2] أخرجه البخاري في صلاة التراويح (2010).
[3] أخرجه أحمد (5/382)، والترمذي في المناقب (3662، 3663، 3799)، وابن ماجه في المقدمة (97) من حديث حذيفة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن حبان (9602)، والحاكم (4451، 4452، 4453، 4455، 4456)، والحافظ في التلخيص الحبير (4/190). وله شاهد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه الترمذي في المناقب (3805)، وصححه الحاكم (4456)، قال ابن كثير في تحفة الطالب (ص165): "في سنده يحيى بن سلمة بن كهيل وهو ضعيف". وانظر: السلسلة الصحيحة (1233).
[4] أخرجه أحمد (5/159)، وأبو داود في الصلاة (1375)، والترمذي في الصوم (806)، والنسائي في قيام الليل (1605)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1327) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (403)، وابن خزيمة (2206)، وابن حبان (2547)، والألباني في الإرواء (447).
[5] أخرجه البخاري في الجهاد (2996) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(1/2805)
استقبال رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, فضائل الأزمنة والأمكنة
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
28/8/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث سلمان في استقبال رمضان. 2- الدعوة لاغتنام شهر رمضان. 3- ثبوت دخول الشهر برؤية الهلال. 4- تحقيق الحكمة من صيام رمضان. 5- وزير الأمن الإسرائيلي يدنس باحات المسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد روى الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب في آخر يوم من شهر شعبان قائلاً: ((يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً، من اقترب فيه بخطوة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة)) [1].
أيها المسلمون، بعد أيام قلائل يطل علينا شهر عزيز على قلب كل مؤمن، شهر الخير والبركة، شهر القُرَب والعبادة، إنه شهر رمضان المبارك، فيه تتفتح خزائن الفضل والرحمة والإحسان وتقبل ليالي الجود والعقل والغفران، بعد أيام قلائل يتهيأ المؤمنون للعبادة المتواصلة، ويخلصون لله الطاعات، بعد أيام قلائل يمتحن المؤمنون امتحاناً شديداً لما سيشاهدون من معاصي وتحديات خلال هذا الشهر المبارك، إن هذا الشهر شاهد يوم القيامة بالإحسان لمن أحسن، وبالإساءة لمن أساء، والعاقبة للمتقين، فطوبى للصائمين، والويل للمفطرين والمجاهرين.
أيها المسلمون، يتساءل البعض متى يبدأ رمضان؟ هل يوم الأحد القادم أو يوم الاثنين القادم؟ والجواب: لا نستطيع أن نجيب على هذا السؤال إلا مساء غد السبت ليلة الأحد لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)) [2] ، فالذين يعلنون عن بدء شهر رمضان في هذه الأيام قد جانبهم الصواب، لأنهم اعتمدوا على الحسابات الفلكية فقط، ونحن نقول بأن الرؤية الشرعية لا بد من تحققها في تلك الليلة، ولا مانع من الاستئناس بالحسابات الفلكية.
ثم هناك إمساكيات توزع دون مراجعة دور الفتوى في المحافظات، وحصل أن وقعت أخطاء مطبعية وعلمية في بعضها، ومنها موعد صلاة العيد فإن موعد صلاة عيد الفطر هو الساعة السادسة وخمسون دقيقة، أكرر عن موعد صلاة عيد الفطر هو الساعة السادسة وخمسون دقيقة، وسننبه إلى هذا الموعد قبيل حلول العيد إن شاء الله.
ثم نلفت نظر الإخوة بالنسبة للأذان الأول والأذان الثاني، فالأذان الأول يمثل التنبيه، ولا يكون فيه وقت إمساك، أما الأذان الثاني فهو أذان الفجر وينبغي الإمساك حينما يحين أذان الفجر.
أيها المسلمون، لقد جهل البعض الحكمة من مشروعية الصوم، وتوهموا بأن الصوم هو الجوع والعطش، ولم يدركوا بأن الصوم هو تقوى القلوب، هو تثبيت الإيمان بالله رب العالمين القائل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي لعلكم تخافون الله، فتبادرون إلى طاعته وتسارعون إلى طلب مغفرته، وفي آية أخرى ذكر الله عز وجل: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، فالإسلام قد أحاط الصوم بإطار من التقوى، لأن الصوم الحقيقي يجعل المسلم في جو إيماني مؤثر، يدفعه إلى الاستقامة والطهارة طيلة الساعات التي يقضيها صائماً عابداً، كما أن آية الدعاء جاءت في وسط آيات الصوم للدلالة على أن دعاء الصائم مستجاب عند الله ـ إن شاء الله ـ.
أيها المسلمون، هل صحيح أن الصوم شرع لشراء ما لذّ وطاب من الأطعمة والأشربة؟ والجواب: إن الصوم عبادة وسمو روحي، وأما الطعام فهو وسيلة لا غاية، وطلب منا رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم بأن لا نملأ معداتنا بالطعام بقوله: ((ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلاً، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)) [3].
وهل صحيح أن شهر رمضان هو شهر كسل وخمول؟ لا، إنه شهر نشاط وعمل واندفاع للخير وهمة وعبادة، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره) [4] ، وفي العشر الأواخر أشد، وكان يحيي ليله، ويوقظ أهله، ويشد المئزر [5].
وكما هو معلوم ـ أيها المسلمون ـ بأن شهر رمضان يعرف بشهر الانتصارات، لأن المواقع المهمة المفصلية قد وقعت في شهر رمضان، وكان النصر فيها للمسلمين بحمد الله وتوفيقه وعونه.
يا من تستقبلون شهر رمضان المبارك، قد نشاهد من بعض الصائمين من يتظاهر بالغضب والنرفزة وضيق الصبر، مدعين بأن ذلك ناتج عن الصوم، فهل هذا صحيح؟ والجواب: إن الصوم في حقيقته إرادة إنسانية وجهاد للنفس، يؤدي إلى السمو والهدوء والاستقرار والطمأنينة، والذين يتظاهرون بالغضب والنرفزة أثناء الصوم يتصفون بالنفاق والرياء والخداع وضعف الإرادة.
يا من تستقبلون شهر رمضان المبارك، يتوهم بعض المسلمين بأن الصوم هو الامتناع عن الطعام والشراب والجماع فقط، فهل هذا صحيح؟؟ والجواب لم يكتف الإسلام من الصوم أن يكون الامتناع عن الأكل والشرب والجماع فقط، بل أوجب الامتناع عن المعاصي، والكف عن الآثام كالكذب والغيبة والنميمة وقول الزور والخوض في أعراض الناس، وأوجب ديننا العظيم حفظ اللسان عن فحش الكلام وأرذله.
أيها المسلمون، هناك عشرات الأحاديث النبوية الشريفة التي توضح ذلك منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) [6] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل: إني صائم)) [7] ، وفي الحديث القدسي قال الله عز وجل: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنّة)) [8] ، جُنّة أي وقاية من المعاصي في الدنيا ووقاية من النار في الآخرة، ((والصيام جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم)) [9].
إذاً ـ يا مسلمون ـ ما فائدة صيام من يفحش بكلامه ويؤذي الناس بلسانه؟ وقد أجاب رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم بذلك: ((رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش)) [10] ، وفي رواية: ((كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)) [11] ، وما بالكم يا مسلمون في من يسب الدين والرب والعياذ بالله، وهو صائم!! فهل يبقى مسلماً؟ إنه يخرج عن الإسلام وبئس المصير، والله غني عن العالمين، سواء كان صائماً أو غير صائم.
يا من تستقبلون شهر الصيام، توبوا إلى الله رب العالمين توبة نصوحاً لعلكم ترحمن، ها قد أطل عليكم شهر التوبة والمغفرة والعبادة، فأحسنوا صيامه وقيامه، وضاعفوا فيه الطاعة، وحافظوا على حرمته، وتزودوا لآخرتكم، فإن خير الزاد التقوى، جاء في الحديث الشريف: ((سبحان الله نصف الميزان، والحمد لله تملأ الميزان، والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض، والطهور نصف الإيمان، والصوم نصف الصبر)) [12] ، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[1] أخرجه الحارث في مسنده (318- بغية الباحث)، وابن خزيمة (3/191-1887)، وابن أبي حاتم في العلل (1/249)، وابن عدي في الكامل (5/293)، قال أبو حاتم: "هذا حديث منكر"، وانظر تخريجه في السلسلة الضعيفة (871).
[2] أخرجه البخاري في الصوم (1909)، ومسلم في الصيام (1081)
[3] أخرجه أحمد (4/132)، والترمذي في الزهد، باب: ما جاء في كراهية كثرة الأكل (2380)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه في الأطعمة، باب: الاقتصاد في الأكل وكراهة الشبع (3349)، واللفظ له، وصححه ابن حبان (الإحسان 674)، والحاكم (4/135)، والألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2704)، وصحيح سنن الترمذي (1939)، والسلسلة الصحيحة (2265).
[4] أخرجه مسلم بنحوه في الاعتكاف، باب: الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان (1175).
[5] عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدَّ، وشدَّ المئزر). أخرجه مسلم في الاعتكاف، باب: الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان (1174).
[6] أخرجه البخاري في الصوم (1903).
[7] أخرجه البخاري بنحوه في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151).
[8] جزء من الحديث السابق.
[9] جزء من الحديث السابق.
[10] أخرجه أحمد (2/373)، واللفظ له، وابن ماجه في الصيام، باب: ما جاء في الغيبة والرفث للصائم (1690)، وصححه ابن حبان (الإحسان 3481)، والحاكم (1/596)، والألباني في صحيح ابن ماجه (1371)، وصحح الجامع (3488-3490).
[11] أخرجه بهذا اللفظ أحمد (2/441)، والدارمي في الرقائق، باب: في المحافظة على الصوم (2720).
[12] أخرجه أحمد (4/260)، والترمذي في الدعوات، باب: حدّثنا هناد... (3519)، وحسَّنه. وفيه جرى بن كليب مجهول، انظر تهذيب التهذيب لابن حجر (2/67)، ولذا ضعّفه الألباني في ضعيف الترمذي (701)، وضعيف الجامع (2509).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلى ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاة وسلام عليه دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، لقد نشأت جمعية طبية خيرية مركزية في مناطق عام 1948 تعنى بمرضى السرطان، وهي جمعية الأمل لمعالجة مرضى السرطان، وبسبب انتشار هذا المرض بشكل ملحوظ في مناطقنا، فإن هذه الجمعية تقوم بخدمات طبية وإنسانية للمواطنين العرب، وذلك لسد العجز الذي يحتاجه المواطنون، فنحيي هذه الجمعية، ونشد على أيدي القائمين عليها وجزاهم الله خيراً.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، نداء، نداء، نداء من خطباء وأئمة ومدرسي المسجد الأقصى المبارك إلى إخوتنا في بيت المقدس وأبناء أكناف بيت المقدس، بأن يشدوا الرحال إلى المسجد الأقصى المبارك طيلة أيام الأسبوع بما في ذلك أيام الجمع، فالأقصى هو المسجد الجامع في مدينة القدس، إن سلفنا الصالح منذ عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهم يشيدون المساجد والمصليات، دون أن يقيموا فيها المنابر، حيث لا تصلى فيها الجمع، ونحن نتهيأ لاستقبال شهر رمضان المبارك، فإننا نطالب من إخواننا المواطنين أن يحرصوا كل الحرص على الصلاة في المسجد الأقصى المبارك أيام الجمع وفي الأيام الأخرى في رمضان وما بعد رمضان.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، في صبيحة أول أمس الأربعاء قام ما يسمى بوزير الأمن الداخلي الإسرائيلي باقتحام باحات المسجد الأقصى المبارك بدعوى أنه يريد أن ينسق مع دائرة الأوقاف الإسلامية الترتيبات اللازمة لاستقبال شهر رمضان المبارك، وإن دائرة الأوقاف الإسلامية لا علم لها بهذا الاقتحام والذي كان مفاجئاً وبشكل سري، ولم يحصل أن نسقت الأوقاف معه أو مع غيره، ثم هل الذي يريد أن ينسق مع دائرة الأوقاف الإسلامية يأتي في هذه الطريقة، لقد خرج هذا الوزير من باحات الأقصى دون أي استقبال ودون أي تنسيق كما ادعى الإعلام الإسرائيلي.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن ما قام به هذا الوزير هو استفزاز لمشاعر المسلمين، وهو مس بحرمة المسجد الأقصى المبارك، وهو تصعيد للوضع الراهن المتفجر، وذلك بهدف افتعال أحداث، وحتى يعطي للشرطة تبريراً بمنع المسلمين من الصلاة في المسجد الأقصى المبارك، ونحمل هذا الوزير مسؤولية أي توتر في مدينة القدس نتيجة هذه الخطوة، التي فيها اعتداء على مقدسات المسلمين.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، من على منبر المسجد الأقصى المبارك، وباسمكم جميعاً نستنكر ونرفض الاقتحام الذي قام به هذا الوزير لباحات المسجد الأقصى المبارك، كما نستنكر وندين الأعمال العدوانية غير الإنسانية التي يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي في مدينة رفح وغيرها من المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية التي ذهب ضحيتها خلال هذا الأسبوع العشرات من النساء والأطفال والشيوخ بالإضافة إلى هدم مئات المنازل، والله يمهل ولا يهمل، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، اغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم.
(1/2806)
ظاهرة التهاون بالطلاق
الأسرة والمجتمع, فقه
الطلاق, قضايا الأسرة
محمد بن عبد الله السبيل
مكة المكرمة
28/8/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الحياة الزوجية. 2- تفاوت العباد في التدبير والتصرف. 3- السبيل لصلاح البيت. 4- مشكلة التسرع في الطلاق. 5- إرشادات نبوية لعلاج المشكلة. 6- نصائح للزوجين. 7- استقبال رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، اتّقوه حقَّ تقاته ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون، اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
واعلموا ـ عبادَ الله ـ أنّ الله عزّ وجلّ يمتنُّ علينا بنعمِه، ويذكِّرنا بمِنَنه، ويبيِّن لنا آياتِه الدّالةَ على فضلِه وإحسانه، يقول سبحانه وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
ففي هذه الآية الكريمةِ ينوِّه الله جلّ وعلا عن نعمةٍ عظيمة امتنَّ بها على عباده، ألا وهي العلاقة بين الزّوجين التي يحصُل بها الأنسُ، ويتمّ بها السّرور، ويحصل بها السّكون والطمأنينة في هذه الحياة، فيجِب على العبدِ أن يرعاها حقَّ رعايتها، ولا يتسبَّب في زوالها وفِصامها بعدَ توكيد عُراها.
عبادَ الله، إنّ اللهَ خلق عبادَه متفاوتين متفاضلِين في التّدبير والتصرُّف في شؤون الحياةِ وفي أسبابِ نيلِ السّعادة في الدّنيا والآخرة، ومِن أجل هذا التّفاوتِ جعل الله الخلقَ بين راعٍ ومرعيّ، فاختار ولاةً للأمور ترعَى شؤونَ أمَمِهم، واسترعَى الرّجل على أهلِ بيته، واسترعى المرأةَ على بيت زوجها، فالبيتُ هو عِماد الحيَاة وقوامُ السّعادة واطمئنانُ النفوسِ واستقرارها، ولا يصلح إلاّ إذا قامَ الرّجل بواجبِه وأصلحَ أمرَ أهلِه وأحسن عشرتَهم، وكذا الحالُ في حقِّ الزّوجة، فعلى المرأةِ المسلمة أن تساهمَ بما يجب عليها لأولادها وزوجِها، فالمنزلُ هو المدرسةُ الأولى للحياة، وهو الأساس الذي يصلِح النّشء بإذن الله، ويربِّيهم التربيةَ الإسلاميّة الصالحة التي تقودهم إلى الحياة الطيّبةِ والسّعادة في الدارين.
عبادَ الله، إنّ ممّا ابتُلي به كثير من الناس اليومَ التهاونَ في أمر الطّلاق وجعلَه أمرًا ميسورًا، فيرمي أحدُهم الطلاقَ على زوجته لأتفهِ الأسباب ناسيًا كلَّ معروف لها، فيظلِمها ويظلم نفسَه وأولادَه، ثمّ يكون منه بعدَ ذلك النّدم والتحسُّرُ على ما فات، وسببُ ذلك غالبًا سرعةُ الغضب والانفعال وسوءُ الخلق، فينهار البَيت، وتتشتّت الأسرة، فعلى الرّجل أن يضبطَ نفسه وأعصابَه ولا تستثيره المرأةُ، وعليه في مثل هذه الحالاتِ التي تنشأ من شدّة الغضب أن يغيِّر حالتَه كما أرشدَ إلى ذلك المعصوم بأن يغيِّر حالتَه في تلك اللحظةِ من قيامٍ إلى جلوس، أو مِن جلوسٍ إلى اضطجاع أو خروج من المنزل، حتى تهدَأ الأمور ويزول الغضبُ ويعودَ إلى صوابه، كما أنَّ عليه أن يتذكّر قولَه ووصيّتَه بحقِّ المرأة كما في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((واستوصوا بالنّساء خيرًا؛ فإنّ المرأةَ خلِقت من ضِلَع، وإنّ أعوجَ شيء في الضِّلَع أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرتَه، وإن تركتَه لم يزل أعوج، استوصُوا بالنّساء خيرًا)) [1] ، ويقول : ((لا يفرك مؤمنٌ مؤمنةً ـ أي: لا يبغِض ـ ، إن كرِه منها خلُقًا رضيَ منها آخر)) [2].
فهذا الإرشادُ النّبويّ الكريم مِن أكبر الأسبابِ والدّواعي لحسنِ الخلُق والعِشرة بالمعروف، فينبغي أن يلحَظَ ما في زوجتِه من الأخلاقِ الحميدة والأمورِ التي تناسبُه، وأن يجعلها في مقابَلة ما كرِه من أخلاقها، فإنّ الزوجَ إذا تأمّل ما في زوجتِه من الأخلاق الطيّبة والمحاسِن التي يحبُّها ونظَر إلى السّبب الذي دعاه إلى التضجُّر منها وسوءِ عشرتها فإن كان منصِفًا غضَّ عن مساوئِها لاضمِحلالها في محاسِنها. وليعلَم العاقل أنّ الكمالَ متعذِّر، ولو لحظ أخلاقَه وتفقّد نفسَه لوجد فيه من العيوب أكثرَ ممّا هو في المرأة أو مثلها، ولا يكاد يصفو مع زوجةٍ ولا غيرها من الأقارب أو الأصدقاء، وليتذكّر قول الله عزّ وجلّ: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
عبادَ الله، إنّ العقلَ السليم والفطرةَ النقيّة والضمير المنصِفَ يترفّع عن هضمِ الزّوجة حقَّها، ولا تستسِيغ نفسٌ كريمة ظلمَ امرأةٍ ضعيفة نشأت بعيدةً عنه ثمّ امتزجَت العلاقةُ بينهما وسكنت نفسُ كلٍّ منهما إلى الآخر كما قال سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]، وهي مع هذه المودّة والرّحمة تكون رهينةَ طاعةِ زوجِها والقائمة بأمر بيتِها ومتعة نفسه وموضع حرثِه، وبعد هذا كلّه يتجرّأ على مضارّتها أو مضايقتِها أو نيلِها بإهانة أو هضمٍ أو ضرب ثمّ انفصال وطلاق.
أيّتها المرأة التي امتنّ الله عليها بالعزّة والكرامة والصّيانة والعفّةِ وجعلها مربّيةً وعميدةَ أسرة، حافظي على نعمتِك بتحسين خلُقك ومعاملتك لزوجِك المعاملةَ الحسنة، فإنّ حقَّ الزوج عظيم، واحتسِبي الأجرَ من الله في طاعتِه وخدمتِه والقيام بأمرِه وشأنِه والصبرِ على ما يصدُر منه والتّغاضي عن الأمور التي لا تخلُّ بدينٍ ولا مروءة والبعد عن الظّنون السيِّئة والاتّهامات الوهميّة والعباراتِ المؤذية، وخذِي عبرةً ممّا تسمَعين مِن المشاكلِ الزوجيّة وما ينتُج عنها مِن فُرقة وتشتيتٍ للأولاد.
أيّها الأزواجُ والزّواجات، ليحافِظ كلٌّ منكما على حسنِ الصّحبة، وليتدرّع بالصبر والتحمّل لما قد يصدُر من صاحبِه، وليتَّصِف بحسن الخلُق والمعاشرةِ الحسنة، وإن رأى ما يكرَه من صاحبِه فليقابل ذلك بالحِلم والصّفح حتى يهدأ قبيلُه ويعودَ إلى رشده، فيعترف بالفضلِ لصاحبِه.
وتذكّروا أنَّ لكلّ واحدٍ من الزّوجين حقوقًا على الآخر يجب عليه القيامُ بها كما قال عزّ وجلّ : وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228].
فاتّقوا الله عبادَ الله، وتدرّعوا بالصّبر والحِلم والتّغاضي عن بعضِ الأمور، فإنّ الكمالَ متعذِّر، والصّفح مِن شِيَم الكِرام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
نفعني الله وإيّاكم بالذّكر الحكيم وبهدي سيّد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في النكاح (5186)، ومسلم في الرضاع (1468).
[2] أخرجه مسلم في الرضاع (1469) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانِه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له الإلهُ الحقّ المبين، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله أفضل الخلقِ أجمعين، اللهمّ صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، اتّقوه حقَّ تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون.
واعلموا أنّ الله سبحانَه وتعالى فضّل بعضَ الأوقات على بعض، وشرّف بعضَ الشّهور والأيّام واللّيالي على غيرها، وجعلها متَّجَرًا لعبادِه المؤمنين. ومن أهمّها وأفضلِها شهرُ رمضان الذي أنزِل فيه القرآن، جعله الله سبحانه وتعالى شهرًا مباركًا وموسِمًا عظيمًا من مواسم الخيرات، يجود فيه الرّبّ سبحانه وتعالى على عبادِه برفعِ الدّرجات وغفران السيّئات، وقد قرُب قدومه عليكم وحلولُه بين أظهرِكم، فاستقبِلوه بالفرَح والاستبشار، فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، جعل الله صيامَه فريضةً وقيام ليله تطوّعًا، من فطّر فيه صائمًا كان مغفرةً لذنوبه وعتقَ رقبته من النّار وكان له مثلُ أجرِه من غيرِ أن ينقصَ من أجره شيئ، شهر أوّلُه رحمَة وأوسطُه مغفِرة وآخرُه عتقٌ من النّار، مَن أشبَع فيه صائمًا سقاه الله من حوضِ نبيّه شربةً لا يظمأ بعدَها حتّى يدخلَ الجنّة.
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
عبادَ الله، إنّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه فقال سبحانه وتعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد أزكى البريّة أجمعين، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الراشدين...
(1/2807)
رمضان: فضائل وأحكام
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
5/9/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفُرَص السوانح. 2- فضائل رمضان. 3- وظائف رمضان. 4- التحذير من تضييع أوقات رمضان. 5- من أحكام الصيام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
أيّها المسلمون، إنّ مواسمَ الخيرات فُرصٌ سوانح، بينما الموسم مقبلٌ إذ هو رائح، والغنيمة فيها ومنها إنّما هي صبرُ ساعة، فيكون المسلمُ بعد قبولِ عمله من الفائزين، ولخالقه من المقرَّبين، فيا لله كم تُستودَع في هذه المواسمِ من أجور، وكم تخِفّ فيها من الأوزار الظّهور، فاجعلنا اللهمَّ لنفحاتِك متعرِّضين، ولمغفرتك من المسارِعين، ولرضوانِك من الحائزين، ووفِّقنا لصالحِ العمل، واقبَلنا اللهمَّ فيمن قُبل، واختِم لنا بخير عند حضورِ الأجَل.
عبادَ الله، اشكُروا ربَّكم على أن بلّغكم رمضان، واحمَدوه على أن وفَّقكم للصّيام والقيام، قُلْ بِفَضْلِ ?للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
رمضانُ شهرُ الرّحمات والبرَكات والحسناتِ والخيرات، تفتَح [فيه] أبوابُ الجنّة وتغلَق أبواب النّار، فيه ليلةُ القدر خيرٌ من ألفِ شهر، مَن صامه وقامَه غُفر له ما تقدّم من ذنبه، ولله تعالى فيه عتقاءُ من النّار. هو شرعٌ قديم، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
رمضانُ شهرُ القرآن، شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ [البقرة:185]، كانَ جبريل عليه السّلام يدارس فيه القرآنَ مع النبيّ [1] ، وكان السّلف رحمهم الله إذا جاءَ رمضان ترَكوا الحديثَ وتفرّغوا لقراءةِ القرآن. هو شهرُ التّراويح والقيام والاصطِفاف في محاريبِ التهجّد، شهرُ سكبِ العبراتِ وإقالة العثرات. رمضانُ شهر الذِّكريات والانتصارات، فيه كانت غزوةُ بدرٍ التي سمّاها الله يومَ الفرقان، وفيه فتحُ مكّة حين أعلِنَ التّوحيد وهُدِم الشّرك وأزيلَت الأصنام وألقيت في الحضيض شعاراتُ الجاهليّة، وكانت خطبة النبيّ هي إعلان التّوحيد لله حين قال: ((لا إله إلا الله وحده، نصَر عبده، وأعزَّ جندَه، وهزم الأحزابَ وحده)) [2] ، ثم رفِعت راية العدلِ والعفوِ والتّسامح، وأرسِيَت معالمُ للدّين وضّاءَة. لقد كان في شهرِ رمضان فتوحات وانتصاراتٌ وغزوات على مرِّ العصور الإسلاميّة المزدهِرة، فهل يعِي المسلمون أسرارَ شهرِ رمضان؟! عبادةٌ وجهادٌ، وهمّة واجتِهاد، فهو شهر الجِدِّ والتّشمير، وهو تذكرةٌ للأمّة لمراجعةِ حساباتها وعلاقتِها بدينِها، وتفقُّد مواضع الخَلَل، فكلّ رمضان دروسٌ وعبَر، في التجرّد والتّوحيد والتوجُّه والالتجاء للخالِق المجيد، واستنزال النّصر من السماء، دروسٌ في وَحدة الأمّة ونبذِ الفرقة والاختلاف، في المواساةِ وشعورِ الجسد الواحد.
هذا هو رمضان، خَلوف فمِ الصّائم أطيبُ عند الله من ريح المسك، والصّيام والقرآن يشفعان لصاحبهما يومَ القيامة، وللصائم فرحتان: إذا أفطَر فرِح بفطره، وإذا لقيَ ربَّه فرح بصومه، وفي الصحيحين أنّ النبيّ قال: ((لا يصوم عبدٌ يومًا في سبيل الله إلاّ باعد الله بذلك اليومِ النّار عن وجهه سبعين خريفًا)) [3] ، والصيامُ يورث التّقوى، كما أنّ قراءة القرآن تنشئ نورَ الهداية في القلوب، وفي الصومِ تربيةٌ على كسرِ الشّهوة وقطع أسبابِ العبوديّة للأهواء والشهوات، للصّائم دعوةٌ لا تردّ، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
في رمضانَ تصفو النّفوس وتتهذّب الأخلاق. في رمضان يواسَى الفقراء والبؤساء، فهو شهرُ الصّدقة والمواساة خصوصًا في هذا الوقتِ الذي يحارَب فيه العملُ الإسلاميّ كما تحارَب روافِده، ولن يعدم المسلم الصّادق أن يوصلَ إحسانَه للمحتاجين بنفسِه أو عَبر الجمعيّات والمؤسّسات الخيريّة الموثوقة، وهي بحمدِ الله في بلادِ المسلمين كثير.
أيّها المسلمون، حينما يستقبل المسلمُ موسمًا يرجو غنيمتَه فإنّه يجب عليه ابتداءً تفقّدُ نفسِه ومراجعةُ عمله حتى لا يتلبّس بشيء من الحوائِل والموانِع التي تحول بينه وبين قَبول العمَل أو تلحِق النقصَ فيه؛ إذ ما الفائدة من تشميرٍ مهدورٍ أجرُه، وعملٍ يُرجى ثوابُه فيلحَقه وزرُه؟! وقد حذّرنا الله من قومٍ وجوهُهم خاشعة عامِلة ناصبة تصلى نارًا حامية، فليحرِص المسلم على تحقيق الإخلاصِ والمتابعة في كلّ عباداته، نابذًا الشركَ الذي هو أعظم مانِع لقبول العمل، بل هو محبِط له، مبتعِدًا عن كلّ محدَثة في الدّين، فلا يقبل الله عملاً لم يُشرع، وما أحيِيَت بدعة إلاّ وأميتت سنّة.
فأخلِصوا دينَكم لله، وتخلّصوا مِن أدران الذّنوب والمعاصي، واغسِلوها بالتّوبة والاستغفار، فإنّ الذّنوبَ مقعِدة عن الطاعاتِ وحائلٌ عن القرُبات. وإنّ ممّا ينقص الصّومَ سوءُ الخلُق والتذمّر من الصّيام وإظهار أثرِ ذلك على التصرّفات وكأنّما حلّت به مصيبة، وكذا الغيبةُ والكذِب والبَغي على المسلمين بالقولِ أو الفِعل سيّما إن شابَ ذلك حسدٌ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من لم يدَع قولَ الزور والعملَ به والجهل فليس لله حاجةٌ في أن يدَع طعامَه وشرابه)) رواه البخاري [4] ، وفي الصحيحين أنّ النبيّ قال: ((إذا كان يوم صوم أحدِكم فلا يرفث ولا يسخب، فإن سابّه أحد أو قاتَله فليقل إنّي صائم)) [5].
أيّها الصائمون، إنّ مقصودَ الصيام تربيةُ النّفس على طاعةِ الله وتزكيتُها بالصّبر واستعلاؤها على الشّهوات، وكما يُمنع الجسَد عن بعض المباحات حالَ الصيام فمن باب أولى منعُ الجوارح عن الحرام. إنّ وقتَ رمضان أثمن مِن أن يضيعَ أمام مشاهدَ هابطة، لو لم يكن فيها إلاّ إضاعةُ الوقت الثّمين لكان ذلك كافيًا في ذمّها، كيف وقنواتها في سِباق محمومٍ مع الشّيطان في نشرِ الفساد والفتنة والصّدِّ عن ذكر الله وعن الصلاة؟! فهل أنتم منتهون؟!
يا مسلم، يا عبدَ الله، دونَك دعوةُ الجبّار لك بالتّوبة، فأجب النداء: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، بادِر بالتّوبة غفر الله لي ولك، وإيّاك أن تضعَ في صحيفتِك اليومَ ما تستحي من ذكره غدًا، والرّاحة الكبرى لا تُنال إلاّ على جسرٍ من التّعَب.
أيّها الصائمون، في الأسحار نفحات ورحماتٌ حينَ التّنزُّل الإلهيّ، فعليكم بالدّعاء والاستغفار، فرُبّ دعوةٍ يكتب لك بها الفوز الأبديّ، وعند الفطر أيضًا دعوةٌ لا ترَدّ.
فاسعَدوا بهذا الشهر أيّها المسلمون، وأودِعوا فيه من الصّالحات ما تستطيعون، وتقرّبوا فيه لمولاكم، فللجنّة قد ناداكم، وَ?للَّهُ يَدْعُو إِلَى? دَارِ ?لسَّلاَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى? صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [يونس:25].
بارك الله لي ولكم في الكتابِ والسنّة، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروا اللهَ إنّه كان غفّارًا.
[1] أخرجه البخاري في بدء الوحي (6)، ومسلم في الفضائل (2308) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[2] أخرجه البخاري في المغازي (4114)، ومسلم في الذكر (2724) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الجهاد (2840)، ومسلم في الصيام (1153) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الأدب (6057) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي جعل الصّيامَ جُنّة وسببًا موصِلاً إلى الجنّة، أحمده سبحانه وأشكره هدى ويسّر فضلاً مِنه ومِنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، دلّنا على أوضحِ طريقٍ وأقوم سُنّة، صلّى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
وبعد: أيّها المسلمون، فينبغي للمسلمِ أن يتعلّم أمورَ دينه وكيفَ يعبُد ربَّه، وأن يحرِص على معرفةِ الأحكام قبلَ العمل، ليعبدَ الله على بصيرةٍ.
وللصّيام أحكام، منها أنّه يجِب على المسلم البالغِ العاقل، فلا يجب على الصّغير، لكن إن أطاقَه أُمِر به ليعتادَه، وينبغي التنبُّه للبلوغ المبكِّر خصوصًا عند الفتيات. أمّا المجنون والمعتوه فمرفوعٌ عنهما القلَم، فلا صيامَ ولا إطعامَ عنهما. ومِثل المجنونِ مَن أدركه خرفُ الكِبَر، فأصبح لا يدرِك شيئًا بسبَب الشيخوخة، فكذلك لا شيءَ عليه ولا على وليِّه، كما أنّ الصومَ لا يجِب على العاجِز عنه كالكبير والمَريض مرَضًا لا يُرجى زواله، فيفطران ويطعمان عن كلّ يوم مسكينًا، أمّا المريض مرضًا يُرجى زواله فيفطِر ثمّ يقضي إذا شفاه الله، وكذا المرأة الحاملُ إذا شقّ عليها الصّوم أو خافت على نفسِها أو على جنِينِها، ومثلُها المرضِع، فتفطران ثم تقضِيان بعد ذلك، وكذلك المسافر يجوز له الفطرُ ويقضي بعد ذلك.
ولا يجب الصّوم على الحائِض والنّفساء، ولا يصحّ منهما، فتفطران وتقضيَان بعدَ رمضان، وإن طهُرت قبلَ الفجر ولو بلحظةٍ صحّ صومها إذا نوَت ولو لم تغتسِل إلاّ بعد طلوعِ الفجر.
كما ينبغي للصّائم أن يتجنّب المفطراتِ التي تبطِل صومَه من طلوعِ الفجر إلى غروب الشّمس، وهي الأكل والشّربُ وما في معناهما كالإبَر المغذّية، أمّا ما ليس بمعنى الأكلِ والشّرب فلا يفطّر كقطرةِ العَين والأنف والأذن. ومَن أكل أو شرِب ناسيًا فليتمَّ صومَه ولا شيءَ عليه.
ومِن المفطّرات الجماعُ في نهار رمضان، فهو مفسدٌ للصّوم، وفيه الكفّارة المغلّظة مع التّوبة، ويجوزُ في اللّيل، كما يحرم إنزالُ المنيِّ اختيارًا في نهار رمضان بأيّ سببٍ كان، فإنّه مفسدٌ للصّوم، ويجِب فيه القضاءُ، أمّا القبلة المجرّدة من الشّهوة فلا شيءَ فيها، وأمّا الاحتلام مِن النّائم فلا يفسِد الصومَ، بل يغتسِل ويتمّ صومَه.
ومِن المفطّرات الحِجامة على خلافٍ فيها، لكن يحتاط المسلمُ لصيامه، فلا يأخذ من دمِه شيئًا وهو صائم، أمّا لو جُرح الصائم أو خرَج دمه بالرّعاف ونحوه فلا شيء عليه، وصومُه صحيح.
ومِن المفطّرات أيضًا تعمُّد القيء، أمّا إن كان بغيرِ اختيارِه كأن غلبَته نفسُه فلا شيء عليه، وصومه صحيح.
وكلّ هذه المفطّرات لا تبطِل الصّيام إلاّ إذا فعلها عالمًا بها ذاكرًا لها باختياره.
ويجوز للصّائم الاكتحالُ ومداواة الجروح والتبرُّد والتطيّب.
وليحرِص المسلم على اتّباع السنّة في تعجيل الفطرِ وتأخير السّحور والدّعاء عند الفطر والاستغفار في السحر والإكثارِ من قراءة القرآن والذّكر والدّعاء والصّدقة ومساعدةِ المحتاجين وصِلة الرّحم وتطهير النّفس من الدّنَس والمحافظة على الصّلاة مع جماعةِ المسلمين في المساجدِ والقيام مع الإمام في صلاة التراويح، فهي أيّام معدودة، عمّا قليل سوف تنقضي، فيحمَد العاملون عاقبتَهم بقول الله لهم: كُلُواْ وَ?شْرَبُواْ هَنِيئًَا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى ?لأَيَّامِ ?لْخَالِيَةِ [الحاقة:24].
ثمّ صلّوا وسلّموا على خير البريّة وأزكى البشريّة محمّد بن عبد الله الهاشميّ القرشيّ.
اللهمّ صلّ وسلّم وزِد وبارك على عبدك ورسولِك محمّد وعلى آله وصحبِه أجمعين، وارضَ اللهمّ عن صاحبة نبيّك أجمعين.
اللهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشركَ والمشركين، ودمّر أعداء الدين...
(1/2808)
فضائل رمضان وآدابه
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الطهارة, فضائل الأزمنة والأمكنة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
5/9/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التذكير بنعم الله تعالى. 2- فضائل رمضان. 3- واجب المسلم في رمضان. 4- الحث على اغتنام فرصة رمضان. 5- فضل الذكر وتلاوة القرآن في رمضان. 6- الحث على الإحسان. 7- فضل السحور وإطعام الصائم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله بملازمةِ طاعاته والبعدِ عن محرّماته، فتقوى الله هي وسيلةُ العبدِ إلى مولاه وخالقِه، ينجيه بها مِن عذابِه، ويضاعِف له ثوابَه.
عبادَ الله، تذكّروا وتفكّروا في نِعَم ربّكم عليكم ممّا تعلمون وممّا لا تعلمون، واعرفوا لله حقَّه وعظّموه حقَّ تعظيمه، واستحيوا من الله حقَّ الحياء، أما ترَونَ كيف يتحبَّب إليكم بأنواع النّعَم وهو غنيّ عن عبادتكم؟! أما ترونَ كيف يحلم على جهلِكم وهو قادرٌ عليكم؟! أما ترونَ كيفَ يصبِر على أذى العُصاة وهم لا يُعجزونه؟! ألم يؤتِكم الأعمارَ ويمدّكم بالآجال؟! أما تشاهدون تقصيرَكم في عبادتِه؟! أما تشاهدون التفريطَ في شكرِ آلائه؟! ألا تخافون يومَ الحساب؟! ألا تشفِقون ممّا سينطِق به الكتاب؟! ألم تقرؤوا قولَ الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لإِنسَـ?نُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى? رَبّكَ كَدْحًا فَمُلَـ?قِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى? أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى? سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى? إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا [الانشقاق:6-15].
قد بانَت المحجَّة، وانقطعت الحجّة، وفصّل الله الحلالَ والحرام، وشرع الشرائعَ والأحكام، وفرضَ الفرائضَ والواجبات، وسنّ المستحبّات وبيّن القرُبات، وحرّم المحرّمات، وكرّه المكروهات، وجعل طريقَ الجنّة دينَ الإسلام، وطُرقَ النّار الكفرَ والآثام، وجعل الله كلَّ خير في طاعتِه، وجعل كلَّ شرٍّ في معاصيه.
ألا ما أعظمَ رحمةَ الله، وما أوسعَ جودَه وكرمه، يبيِّن لنا الشهورَ الفاضلة والأيّام المباركة التي تضاعَف فيها الحسناتُ وتمحى فيها السيّئات، ويشرع لنا فيها أنواعَ الطاعات، وما كنّا لنعلمَ ذلك كلّه إلا بتعليم الله لنا، قال الله تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَـ?تِنَا وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَ?شْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:151، 152].
أيّها المسلمون، إنّه قد نزل بساحتِكم شهرٌ كريم، هو سيّد الشهور، ومنّ الله عليكم بموسمٍ عظيم، نهارُه صيام وليله قيام، فيه ليالِي العشر الأواخِر أفضلُ اللّيالي، وفيه ليلة القدرِ العبادةُ فيها أفضلُ من عبادةِ ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. شهرٌ يضاعَف فيه ثواب الطاعات، وتكفَّر فيه السيّئات، وترفَع فيه الدرجات، لله فيه نفحات، من تعرّض لها لم يرجِع خائبًا محرومًا، ومن طلبَها نالها، ومن أعرض عنها خسِر نوالها. وشهرُ رمضان صيامُه أحدُ أركان الإسلام، جعل الله صيامَه وقيامه سببًا لمغفرة الذّنوب ورفعِ الشّدائد والكروب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من صَام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه)) رواه البخاري [1] وأحمد وزاد: ((وما تأخّر)) [2] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من قامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه)) رواه البخاري ومسلم [3] ، وعن عبادةَ بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من قام ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبِه وما تأخّر)) رواه أحمد والطبراني [4].
وفضائلُ شهر الصّوم كثيرة جدًّا، وحسبه في الفضلِ أنّ الله تعالى أنزل فيه القرآنَ العظيم الذي جعله الله نورًا وهُدى، وجعله زمنًا للصّوم الذي هو سرٌّ بين العبد وبين ربِّه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((قال الله تعالى: كلّ عمل ابنِ آدم يضاعَف، الحسنةُ بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضِعف، قال الله تعالى: إلاّ الصوم، فإنّه لي، وأنا أجزي به، يدَع شهوتَه وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحةٌ عند فطرِه، وفرحة عند لقاءِ ربّه، ولَخلوف فم الصائم أطيبُ عند الله مِن ريح المسك)) رواه البخاري ومسلم [5].
ومِن فضائل رمضانَ قوله : ((إذا دخلَ رمضان فتِّحت أبوابُ الجنّة، وأغلقَت أبواب جهنّم، وسلسِلت الشياطين)) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [6].
وعلى المسلم أن يحافظَ على صومِه من مبطلات الصّيام، روى البخاري وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مَن أفطر يومًا من رمَضان من غير رخصَة ولا مرَض لم يقضِه صومُ الدّهر كلِّه وإن صامَه)) [7] ، وعلى المسلم أن يصونَ صيامَه ويحفظَه من الغيبة والنّميمة وقولِ الزّور والسِّباب والشّتم والنظر إلى ما لا يحلّ له، وليحذَر من سماع الأغاني فإنّها تفسِد القلوب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من لم يدع قولَ الزور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدَع طعامه وشرابه)) رواه البخاري وأبو داود [8] ، وعن ابنِ عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((رُبَّ صائمٍ حظُّه من صيامِه الجوع والعطَش، ورُبّ قائمٍ حظّه من قيامه السّهر)) رواه الطبراني [9] ، وعن أبي عبيدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الصّوم جنّة ما لم يخرِقها)) رواه النسائي [10] والطبراني وزاد: قيل: بمَ يخرِقها؟ قال: ((بكذبٍ أو غيبة)) [11].
أيّها المسلم، احرِص كلَّ الحِرص على الاستكثار من الطّاعات في مواسم الخيرات، وحافِظ على الصّلاة جماعةً، ففي حديث عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من صلّى العشاء في جماعة فكأنّما قام نصفَ الليل، ومن صلّى الفجرَ في جماعة فكأنّما قام الليل كلّه)) رواه مسلم.
ومن الغَبن والخسران المُبين أن يحافِظ الرّجل على الصّيام ويضيِّع الصلاةَ، فالصلاة جِماع فَلاح العبد، وبها تنتظم أمورُه وتصلح أحواله، وأوّل ما يحاسَب العبد على الصلاة، ومن ضيّعها فقد خسِر دنياه وأخراه.
أيّها المسلم، واظب وداوِم على التراويح فهي قيامُ رمضان، وفي الحديث عن النبيّ أنّه قال: ((من قام مع الإمَام حتّى ينصرِف كُتب له قيام ليلة)) [12].
وعليكم بذِكر الله كثيرًا، فإنّه أفضل أعمالِكم وأيسرُ عمَلاً، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ألا أخبِركم بأفضل أعمالكم وأزكاها عند مليكِكم وخيرٍ لكم من إنفاق الذّهب والورِق وخيرٍ لكم مِن أن تلقَوا عدوّكم فتضرِبوا أعناقَهم ويضربوا أعناقكم؟!)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((ذكر الله عزّ وجلّ)) رواه الحاكم وصحّحه [13].
وأفضلُ الذّكر تلاوة القرآن العظيم بتدبّرٍ وفَهم، ورمضانُ شهر القرآن، وينتفِع القلب بالقرآن في رمضانَ أكثرَ من غيره؛ لأنّه غذاء الرّوح كما أنّ الطعامَ غذاء الأبدان، وإذا ضعُف سلطان البدَن قويَ سلطان الرّوح، وقد كان بعض السلف يختِم في ثلاث، وبعضهم يختِم في ليلة، وبعضهم يختِم في جمُعة، ويراعون صيامَهم ويحفَظونه، قال الإمام أحمد: "نقعُد في المساجِد نحفَظ صيامنا". وقد كانوا يسألون اللهَ زمنًا طويلاً أن يبلِّغهم رمضان، ويسألون الله وقتًا طويلاً أن يتقبّله منهم.
وأحسِنوا إلى الفقراء والأيتامِ في هذا الشّهر المبارك، فقد كان رسول الله أجودَ النّاس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان، فلَرسول الله حين يلقاه جبريل في رمضان أجودُ بالخير من الرّيح المرسلة.
وغاية العباداتِ الإحسانُ إلى النّفس والإحسان إلى الخَلق، وقد تحقّقت هذه الغاية في رمضان، واجتمع في هذا الشّهر من الطاعات والعباداتِ ما لم يجتمع في غيرِه، اجتمعت فيه الصّلاة والصّيام والزّكاة لمن وجَبت عليه أو أراد أن يقدّمها فيه وأنواعُ الذّكر والحجّ الأصغر العمرة فهي تعدِل حجّةً مع الرّسول وأنواعُ البرّ، وهذا من أسبابِ فضل الشّهر.
فاجتهدوا ـ معشرَ المسلمين ـ فيما يقرّبكم إلى الجنّة التي فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذُن سمِعت ولا خطَر على قلبِ بشَر، واجتهِدوا فيما يباعِدكم من النّار، فلا يدري امرؤ متى يفاجِئه الأجل، ولا يدري هل يدرِك رمضانَ آخر أو لا يدركه، وأنت ـ أيها الإنسان ـ ابنُ يومِك لا تملِك من الغدِ شيئًا، قال الله تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى? مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ وَجَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ ?لْعَـ?مِلِينَ [آل عمران:133-136].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (38)، وأخرجه أيضا مسلم في صلاة المسافرين (760).
[2] مسند أحمد (2/385)، وأخرجه أيضا الطيالسي (2360)، قال المنذري في الترغيب (2/54): "انفرد بهذه الزيادة قتيبة بن سعيد عن سفيان، وهو ثقة ثبت، وإسناده على شرط الصحيح، ورواه أحمد بالزيادة بعد ذكر الصوم بإسناد حسن، إلا أن حمادا شك في وصله أو إرساله"، وقوى هذه الزيادة ابن حجر في الفتح (4/115-116)، وقال الهيثمي في المجمع (3/145): "رجاله موثقون إلا أن حمادا شك في وصله وإرساله"، وحكم الألباني على هذه الزيادة بالشذوذ. السلسلة الضعيفة (5083).
[3] صحيح البخاري: كتاب التراويح (2009)، صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين (759).
[4] مسند أحمد (5/321)، وحسنه ابن حجر في الفتح (4/116)، وقال الهيثمي في المجمع (3/175): "رواه أحمد والطبراني في الكبير، وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وفيه كلام وقد وثق"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (11/1/145).
[5] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1904)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1151).
[6] صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق (3277)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1079).
[7] علقه البخاري في كتاب الصوم عن أبي هريرة بصيغة التمريض، ووصله أحمد (2/458، 470)، وأبوداود في الصوم (2396)، والترمذي في الصوم (723)، والنسائي في الكبرى (2/244-245)، وابن ماجه في الصيام (1672)، وفيه اضطراب واختلاف، وقد ضعفه الألباني في تمام المنة (396).
[8] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1903)، سنن أبي داود: كتاب الصوم (2362).
[9] المعجم الكبير (12/382)، وأخرجه أيضا القضاعي (1424)، قال المنذري في الترغيب (2/95): "إسناده لا بأس به"، وقال الهيثمي في المجمع (3/202): "رجاله موثقون". وله شاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه أحمد (2/373، 441)، والنسائي في الكبرى (2/239)، وابن ماجه في الصيام، باب: ما جاء في الغيبة والرفث للصائم (1690)، وصححه ابن خزيمة (1997)، وابن حبان (3481)، والحاكم (1571)، ووافقه الذهبي، وكلا الحديثين في صحيح الترغيب والترهيب (1083، 1084).
[10] سنن النسائي: كتاب الصيام (2233)، وأخرجه أيضا أحمد (1/195، 196)، والدارمي في الصوم (1732)، وأبو يعلى (878)، والحاكم (5153)، وصححه ابن خزيمة (1892)، وحسنه المنذري في الترغيب (2/94)، وقال الهيثمي في المجمع (2/300): "فيه بشار بن أبي سيف، ولم أر من وثقه ولا جرحه، وبقية رجاله ثقات"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (657).
[11] أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص271): "إسناده فيه نظر"، وقال الهيثمي في المجمع (3/171): "فيه الربيع بن بدر وهو ضعيف"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1440).
[12] أخرجه أحمد (5/159)، وأبو داود في الصلاة (1375)، والترمذي في الصوم (806)، والنسائي في قيام الليل (1605)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1327) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (403)، وابن خزيمة (2206)، وابن حبان (2547)، والألباني في الإرواء (447).
[13] مستدرك الحاكم (1825) عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (5/195)، والترمذي في الدعوات (3377)، وابن ماجه في الأدب (3790)، وقال الهيثمي في المجمع (10/73): "إسناده حسن"، وحسنه الألباني كما في تعليقه على الكلم الطيب (1).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العزيز الوهاب، غَافِرِ ?لذَّنبِ وَقَابِلِ ?لتَّوْبِ شَدِيدِ ?لْعِقَابِ [غافر:3]، أحمد ربّي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له الرّحيم التوّاب، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الشاكر الأوّاب، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله والأصحاب.
أمّا بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتزوّدوا بهذه التّقوى لداركم الأخرى.
عباد الله، يقول ربّكم جلّ وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُود?تٍ [البقرة:183، 184].
وإذا صام أحدُكم فليصُم سمعُه وبصره وجوارحه عن المحرّم، وفي الحديث: ((إذا كان يوم صوم أحدِكم فلا يرفث ولا يفسق، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقل: إنّي صائم)) [1].
وحافِظوا على السّحور، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((تسحّروا فإنّ في السّحور بركة)) رواه البخاري ومسلم [2] ؛ لأنّ فيه قوّةً للبدن على الطّاعة، ويُسَنّ تأخيره ما لم يطلع الفجر، ويُسَنّ تعجيل الفِطر لقوله : ((لا يزال النّاس بخير ما عجّلوا الفطر)) رواه البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه [3] ؛ لأنّ ذلك يدلّ على ظهور السّنّة.
وفي الحديث: ((من فطّر صائمًا كان له مثلُ أجره من غير أن ينقص من أجره شيء)) [4]. وعلى الصّائم أن يبيّت النيّةَ للصّوم من اللّيل.
عبادَ الله، إنّ الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال تبارك وتعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليّ صلاة واحدةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...
[1] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (1904)، ومسلم في كتاب الصيام (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1923)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1095).
[3] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1957)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1098).
[4] أخرجه أحمد (4/114-115)، والترمذي في الصوم (804)، والنسائي في الكبرى (3330)، وابن ماجه في الصيام (1746) من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3429)، وهو في صحيح سنن الترمذي (647).
(1/2809)
بين يدي رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
5/9/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خصائص شهر رمضان. 2- لطف الله وتخفيفه المشاق في رمضان. 3- الوعيد الشديد لمن أفطر عامداً في رمضان. 4- حال الصالحين في رمضان. 5- بعض نعيم الله وفضله على الصائمين. 6- جرائم اليهود في فلسطين هذا الأسبوع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، ها هو شهر رمضان كله رحمة ومغفرة، وضمان من الرحمن في جنات النعيم، وأمان من نار الجحيم، ونور من الله العزيز الغفار، وهكذا يمر موكب الأيام، وكأنه لم يكن بين الرمضانيين إلا عشية أو ضحاها.
أيها المؤمنون، إن رمضان سبعة مواقف: صوم ونصر وفتح وقرآن وقيام وقدر واعتكاف، والواجب على المسلم أن يتأسى في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما صومه صلى الله عليه وسلم فمعروف، وأما قيامه فمألوف، وأما نصره فبدر، تلك الموقعة العظمى التي وقف فيها أسود الإسلام يحطمون كبار الطواغيت وعتاة الجبابرة، وأما فتحه فذلك في العام الثامن من الهجرة يوم صعد بلال رضي الله عنه على ظهر الكعبة المشرفة يعلن الأذان، ويوم أخذ المسلمون يرددون قول المولى تبارك وتعالى: وَقُلْ جَاء ?لْحَقُّ وَزَهَقَ ?لْبَـ?طِلُ إِنَّ ?لْبَـ?طِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، إنه يوم من أيام الله تبارك وتعالى.
وأما قرآنه فإنه يأتي مع صيامه ليشفعا للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: منعته الأكل والشرب نهاراً، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم ليلاً، فشفعني فيه، ويشفعان، إنه يدافعان عن صاحبهما في ساحة القيامة في محكمة العدل الإلهية الكبرى.
وأما قدره ففي ليلة القدر، والتي هي خير من ألف شهر، وأما اعتكافه فإنه في العشر الأواخر من هذا الشهر الفضيل، حيث تلتف الملائكة المكرمون حول التائبين العابدين الحامدين السائحين الراكعين الساجدين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والحافظين لحدود الله، إنهم أوتاد المساجد، جلساؤهم الملائكة، وإن غابوا افتقدوهم، فإن كانوا مرضى عادوهم، وإن كانوا في شدة دعوا الله لهم، فطوبى للمخلصين، إن مصابيح الهداية تنجلي عنهم كل فتنة ظلماء.
عباد الله، إن كثيراً منا لم يحترموا هذا الشهر الكريم، ولم يقدروه حق قدره، كثير منا يمضي نهاره بالنوم والكسل والغفلة عن ذكر الله وعن تلاوة القرآن، ويذهب ليله في الشهوات والملاهي والاعتكاف على موائد القمار والملاهي والإعراض عن طاعة الله، فهل نحن آمنون من مكر الله وعقوبته؟ هل نحن مخلدون في هذه الدنيا؟
إن المنايا كل يوم تخترم النفوس والآجال، كل لحظة تقربنا إلى دار الجزاء والنكال، كم ارتحل أقوام من قصورهم الشاقة ولذاتهم المتكاثرة وبهجتهم الوافرة ثم صاروا إلى قبور موحشة ولحود مظلمة، لم يجدوا إلا عملهم الصالح ولم يغنِ عنهم ما كانوا يجمعون، كم تناولوا الحرام وأكثروا من الزلل وارتكاب الآثام، كم وعِظوا بفصيح الكلام وكأنهم لا يسمعون، ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ?لاْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3].
اللهم أنقذنا من سِنة الغفلة ووفقنا للتزود ليوم النقلة، اللهم ارحم غربتنا في القبور، وأمّن روعاتنا يوم البعث والنشور.
عباد الله، شهر رمضان يسر الله تعالى فيه الصيام والقيام، وجعله شهراً مباركاً، فالله تبارك وتعالى يريد بنا اليسر لا العسر، خفف عنا فيه كل شيء، فتعالوا أيها المؤمنون لنرى التخفيفات الإلهية في هذه الفريضة العظيمة، وأول تخفيف في قوله عز وجل: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، ففي الصيام تقوى، ومن منا يكره التقوى، ومن منا لا يريد أن يكون تقياً.
وأما التخفيف الثاني ففي قوله: أَيَّامًا مَّعْدُود?تٍ [البقرة:184]، سرعان ما تنتهي، تمر كأنها نسيم الفجر، تمر مر السحاب دون أن يدري بها أحد.
ثم بعد ذلك يأتي التخفيف الثالث في قوله عز وجل: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، أما الصلاة وغيرها فلا يجوز تأخيرها ولا تأجيلها، أما فريضة الصيام، فلمن لم يستطع أن يدخل في الامتحان في الدور الأول، فإن الله تعالى قرر أن له دوراً ثانياً يدخله بعد أن يشفيه الله عز وجل وبعد أن يعود المسافر من سفره.
التخفيف الرابع وَعَلَى ?لَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، أي إذا كان المسلم شيخاً كبيراً في السن أو كانت المرأة عجوزاً كبيرة لا تقوى على صيام رمضان ولا على قضائه بعد العيد، فإن الله يبيح للشيخ الكبير والمرأة العجوز أن يفطرا ويطعما عن كل يوم مسكيناً، ويكون هذا الإطعام بديلاً عن الصيام، فالمريض مرضاً لا يرجى منه الشفاء أو المريض مرضاً يحتاج إلى غذاء، اللهُ أباح له الفطر وأوجب عليه الفدية، وقدرها إطعام مسكين واحد عن كل يوم من أيام رمضان، فإذا لم يقدر على الفدية عليه أن يستغفر الله سبحانه وتعالى، فسوف يجد الله غفوراً رحيماً.
وبعد ذلك يأتي التخفيف الخامس، إذا كانت الزوجة حاملاً أو مرضعاً، وخافت على نفسها أو على ولدها من الصيام، فإن الله قد أباح لها الإفطار مع قضاء الأيام التي أفطرتها.
عباد الله، أبعد هذا التخفيف تخفيف؟ أبعد هذه الرحمة رحمة؟ تقوى وأيام معدودات وإفطار للمريض والمسافر، إفطار مع الفدية للذين لا يقدرون على الصيام أبداً، ورخصة للحامل والمرضع مع قضاء ما أفطرتاه، خمسة أمور تكرم بها الغفور الرحيم على عباده.
فما جزاء من تعمد إفطار يوم من أيام رمضان بلا عذر؟ يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: ((من أفطر يوماً واحداً من أيام رمضان بغير عذر ولا رخصة رخصها الله، لا يجزئه صيام الدهر، ولو صامه)) [1].
اسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ ماذا يقول الإمام ابن حزم رحمه الله يقول: "ذنبان لم أجد أعظم منهم بعد الشرك بالله: رجل أخر الصلاة حتى خرج وقتها، ورجل أفطر يوماً عامداً في رمضان".
أيها المسلم، تأسَ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين قاموا الليل وصاموا النهار، إنهم يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، رجالٌ المساجد مأواهم، والله جل جلاله معبودهم ومولاهم، تركوا المعاصي خوفاً من الحساب وبادروا إلى الطاعة وحسن الأعمال، ركبوا فلك السلامة، وجروا بريح الاستقامة، فقطعوا بحار العصف والندامة، ونجوا من أهوال يوم القيامة، صحبوا القرآن بحسن العمل، ولم يغتروا بطول الأمل، ونصبوا أمام أعينهم قرب الأجل، فلو رأيتهم لرأيت قوماً يتلون كتاب الله بشفاه ذابلة، ودموع وابلة، وظرفات قاتلة، وأجسام ناحلة، وخواطر في عظمته ـ جل جلاله ـ حائرة.
إنهم رجال إذا نظروا اعتبروا، إذا سكتوا تفكروا، وإذا ابتلوا استرجعوا، وإذا جهل عليهم أحد حلموا، إذا سئلوا بذلوا، قد علموا بالكتاب والسنة، ونطقوا وبالصواب والحكمة، وحاسبوا أنفسهم قبل يوم الحساب، وخافوا من عقوبة رب الأرباب.
فكونوا ـ أيها المسلمون ـ مثلهم، كي تفوزوا بالجنة والنعيم ورؤية المولى تبارك وتعالى.
اللهم اجعلنا من الفائزين يوم الدين، اجعلنا يا مولانا عندك من المقبولين من الذين تخاطبهم يوم القيامة: يا أوليائي طالما نظرت إليكم الدنيا وقد ذبلت شفاهكم، وغارت أعينكم، وجفت بطونكم، كونوا اليوم في نعيمكم، وتعاطوا الكأس فيما بينكم، وصدق الله تبارك وتعالى وهو يقول: كُلُواْ وَ?شْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى ?لأَيَّامِ ?لْخَالِيَةِ [الحاقة:24].
وقد ورد عن بعض علماء السلف أنه قال: بلغنا أنه يوضع للصائمين مائدة يأكلون عليها، والناس يحاسبون في الحساب، فيقولون: يا رب نحن نحاسَب، وهم يأكلون، فيقال لهم: إنهم طالما صاموا وأفطرتم، وقاموا ونمتم.
فاجتهدوا أيها المسلمون في هذا الشهر الفضيل حتى تكونوا من عتقاء الله في النار، وحتى تكونوا من أصحاب الجنة، فأبشروا، فهذه أبواب الجنة الثمانية في هذا الشهر لأجلكم قد فتحت، ونسماتها على قلوب المؤمنين قد نفحت، وأبواب الجحيم كلها لأجلكم مغلقة، أقدام إبليس وذريته من أجلكم موثقة.
عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى بالدعاء، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة
فيا فوز المستغفرين استغفروا الله.
[1] رواه البخاري تعليقًا غير مجزوم به كتاب الصيام باب إذا جامع في رمضان (2/683)، ووصله الترمذي كتاب الصوم باب ما جاء في الإفطار متعمدًا (723) وقال: "لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وسمعت محمدًا يقول: أبو المطوس اسمه يزيد بن المطوس ولا أعرف له غير هذا الحديث"، وأبو داود كتاب الصيام، باب التغليظ في من أفطر عمدًا (2396)، وابن ماجه كتاب الصوم، باب ما جاء في كفارة من أفطر يومًا من رمضان (1672)، والنسائي في الكبرى: كتاب الصوم (2/24/3279)، وابن خزيمة في صحيحه كتاب الصوم باب التغليظ في إفطار يوم من رمضان متعمدًا من غير رخصة إن صح الخبر فإني لا أعرف ابن المطوس ولا أباه غير أن حبيب ابن أبي ثابت قد ذكر أنه لقي أبا المطوس (1987)، قال الحافظ في الفتح (4/161): "واختلف فيه على حبيب بن أبي ثابت اختلافاً كثيرًا، فحصلت فيه ثلاث علل: الاضطراب، والجهل بحال أبي المطوس، والشك في سماع أبيه من أبي هريرة".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الملك العلام، الذي أبدع خلق الأنام، وأوجب عليهم الصيام، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، ونشهد أن محمداً عبده رسوله، أكثر صيامه لله، وخشع في عبادته لمولاه، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك النبي المصطفى والحبيب المجتبى، والآل المستكملين الشرف، والأتباع الحنفا.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، تتحدث الأنباء عن اجتماعات فلسطينية إسرائيلية سرية عقدت في سويسرا لمواصلة ما انتهت إليه المفاوضات المتعسرة والخروج من المأزق الحرج الذي وصلت إليه مفاوضات التسوية للتوصل إلى صيغة جدية لوقف ما يسمى إطلاق النار، لازال المفاوضون يلهثون وراء السراب ويتحلقون حول موائد المفاوضات، والمفاوضون وللأسف يتذرعون بأن قدرنا كتب علينا أن نعيش سوياً على هذه الأرض، فهل يستطيع المفاوضون أن يصلحوا ما أفسده الاحتلال ودمره الأعداء؟
كفانا مهازلاً وتنازلات، كفانا تمسكاً بحبال واهية من الأوهام والأحلام، هل يستطيع المفاوضون تحقيق ما عجزت عن تحقيقه كل المؤتمرات والاجتماعات واللقاءات بدءً من مدريد وانتهاءً بشرم الشيخ والقاهرة؟ لم تحقق لشعبنا الفلسطيني المسلم سوى المزيد من المعاناة وتكريس الاحتلال، فماذا بقي لنا أن نتفاوض عليه؟ انظروا إلى آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية، وهي تدمر ثلاثة أبراج سكنية في مدينة غزة، ألا تشبه هذه الهجمات الصاروخية على الأبراج السكنية هجمات الحادي عشر من أيلول، والتي من أجلها قامت الدنيا ولم تقعد، وتهافت زعماء العالم العربي والإسلامي وهم يعلنون شجبهم واستنكارهم، فلماذا لا نسمع اليوم استنكاراً وشجباً لتدمير البنية التحتية لشعبنا الفلسطيني؟ ما ذنب خمسة آلاف عائلة فلسطينية تعيش في العراء نتيجة تدمير الأبراج الثلاثة؟ أليس هذا هو الإرهاب بعينه؟
أيها المسلمون، عقب كل اتفاق تزداد مأساة شعبنا المسلم، فماذا حصل بعد أن وعدت أمريكا بوعود كاذبة بإقامة دولة فلسطينية من خلال تطبيق ما يسمى خارطة الطريق وفق التصور الأمريكي؟ وذلك لذر الرماد وللتغطية على العدوان المبيت ضد شعب العراق المسلم، إسرائيل وكعادتها رفضت خارطة الطريق في حين اعتبرها الفلسطينيون خطوة ايجابية، إسرائيل صعدت من عدوانها، ولما عجزت عن وقف العمليات المسلحة شرعت في بناء الجدار الفاصل، فما هو هذا الجدار؟ وما هي تداعياته ومخاطره على الأرض الفلسطينية وشعبنا الفلسطيني المسلم؟
الجدار الفاصل أو الجدار العنصري البغيض الذي يهدف إلى عدم إقامة أي كيان فلسطيني مستقل، ويهدف إلى حماية المستوطنات كهدف استراتيجي للحيلولة دون إزالتها، وهي المستوطنات التي أقيمت على أرضنا عنوة، وتضم قربة 200 ألف مستوطن.
الجدار الفاصل يعمق الشعور بالكراهية والحقد بين الجانبين، هذا الجدار سيجعل من المدن الفلسطينية مجرد كنتونات معزولة، مما سيؤثر على الحياة الاجتماعية الاقتصادية، ويزيد من حالات البؤس والضياع، إن خطورة هذا الجدار تكمن في أنه يمتد من أقصى شمال الأرض الفلسطينية إلى أقصى جنوبها بطول 590 كيلو متر، ويؤدي إلى عزل 70 ألف فلسطيني داخل حدود ما يسمى الخط الأخضر، وسيفقد شعبنا المسلم 50 من أرضه الزراعية على امتداد وعرض هذا الجدار، وبالتالي يفقد المزارعون 30 من الآبار والمياه الجوفية.
إن تكرار المأساة الفلسطينية منذ عام 1948 وحتى اليوم تسير وفق نهج صهيوني مبرمج واحد، وإن أخذت أشكالاً وأبعاداً مختلفة، وهي جعل فلسطين خالصة لليهود، فمتى يدرك قادة وشعوب وحكام الأمة وعلماؤها أن صراعنا في أرض فلسطين هو صراع عقدي بين الكفر والإيمان، وبين أصحاب الحق وأصحاب الباطل؟ متى تدرك أمتنا أن خلاصها من هذا الوهن والفرقة والتشرذم والضياع لن تكون عبر ما يسمى الجمعية العمومية أو مجلس الأمن أو الاتحاد الأوروبي أو المؤتمر الإسلامي أو جامعة الدول العربية؟، فلا نهضة لنا إلا بالإسلام، ولا عزة للمسلمين إلا بدولة الإسلام، فواجب العلماء يقتضي في هذا الشهر الفضيل وسائر الأشهر شهر الانتصارات أن يعملوا على ترسيخ الفكر الإسلامي ومفهوم الإسلام كنظام حياة، وأن من ركائزه إقامة دولة الإسلام لتحمي الرعية وتحرر المقدسات، وعلى القادة والحكام أن يكونوا أنصاراً ودعاة للإسلام لا حرباً عليها، وعلى الشعوب أن تنفض عن كاهلها الخوف والوهن والتبعية لتعود للأمة هيبتها ومكانتها.
أيها الصائمون، أيها المؤمنون، أيها المرابطون في هذه الرحاب الطاهرة وفي هذه الأرض المقدسة، في رحاب المسجد الأقصى المبارك، لقد شددتم الرحال إلى هذه البقاع الطاهرة رغم الحواجز العسكرية القاهرة، ورغم وجود العقبات الكثيرة، ولكنكم وبحمد الله وفقكم الله تبارك وتعالى للوصول إلى مسرى نبيه، فبادروا بالأعمال الصالحة.
كما ونهيب بكم أن تمدوا يد العون والمساعدة لإخوانكم الذين أصيبوا بالضرر نتيجة التصعيد العسكري الغاشم الذي حدث لأهالي رفح والذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، فلجنة إغاثة منكوبي رفح في انتظاركم لتساعدوهم، وتذكروا أن أجر الصدقة مضاعف في شهر رمضان.
اللهم إنا نسألك ونتوجه إليك في هذه الساعة، ولعلها ساعة إجابة، أن تنصر الإسلام وتعز المسلمين.
(1/2810)
مفسدات الصيام
فقه
الصوم, الطهارة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
5/9/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصوم أمانة. 2- أصول المفطّرات. 3- الجماع في نهار رمضان وما يترتب عليه. 4- إخراج المادة المنوية. 5- تعمد الأكل والشرب. 6- حكم الإبر المغذّية. 7- حكم القيء للصائم. 8- حكم إخراج الدم للصائم. 9- أمور علاجية لا تؤثّر على الصيام. 10- الحيض والنفاس مفسدان للصيام. 11- حكم القطرة والإبر العضلية والوريدية والكحل. 12- آداب الصيام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ ممّا ائتمَن الله عليه عبدَه المؤمن فريضةَ الصّيام، فصيام رمضانَ فريضة افترضَها الله عليك، وائتمنَك على هذه الفريضة، ائتمَنك على أدائها، بمعنى أنْ تلتزمَ بذلك وقتًا، ثمّ تلتزم البعدَ عمّا ينافي هذا الصّيام، فيكون صيامك لله صيامَ صِدق على الحقيقة، في وقتِه ثمّ البعد عن كلّ ما يُفسد هذا الصيام، والبعد أيضًا عمّا ينقِّصُ ثوابَه؛ ليكونَ صيامك صيامًا كاملاً بتوفيقٍ من الله، وليصدق عليك ((مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه)) [1].
أيّها المسلم، إنّ الله جلّ جلاله بيّن لنا في كتابه العزيز أصولَ المفطّرات وهي ثلاثة، فقال تعالى: وَكُلُواْ وَ?شْرَبُواْ حَتَّى? يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ?لْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ ?لْخَيْطِ ?لأسْوَدِ مِنَ ?لْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ ?لصّيَامَ إِلَى ?لَّيْلِ [البقرة:187]، فذكر صنفين: الأكل والشرب، وقال: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ?لصّيَامِ ?لرَّفَثُ إِلَى? نِسَائِكُمْ [البقرة:187]، فذكر النوعَ الثالث وهو مباشرة النّساء. إذًا فأصول المفطّرات الأكل والشّرب ومواقعَة النّساء، فإنّ حقيقة الصّيام هي الإمساك عن الأكلِ والشرب ومواقعة النّساء وسائر المفطّرات التي دلّت عليها سنّة محمّد.
فأعظم ما ينافي الصّيام مباشرة النّساء في نهار رمضان، فإنّ مجامعة المرأة في نهار رمضان منافية لحقيقةِ الصّيام بإجماعِ أمّة الإسلام، لدلالة القرآن ودلالة السنّة على ذلك.
أتى رجلٌ النبيّ فقال: يا رسول الله، هلكتُ وأهلكت، قال: ((ما ذاك؟)) قال: أتيتُ امرأتي في رمضان، قال: ((هل تجِد رقبةً تعتقها؟)) قال: لا، قال: ((هل تستطيع أن تصومَ شهرين متتابعين؟)) قال: لا، قال: ((هل تستطيع أن تطعِم ستّين مسكينًا؟)) قال: لا، فسكت النبيّ ، ثمّ أُتي النبيّ بمِتكَل من تَمر فيه خمسة عشر صاعًا، فقال: ((خذه فتصدّق به)) ، قال: أعَلى أفقر منّي يا رسول الله؟ فوالله، ما بين لابتَي المدينةِ أهلُ بيت أفقر من أهل بيتي، فضحِك ثمّ قال: ((خذه فأطعِمه أهلك)) [2].
إذًا فالجِماع منافٍ للصيام، مفسدٌ له، حرامٌ على المسلم تعمّدُه، آثم بذلك، يترتّب عليه الكفّارة المغلّظة مع معصيةِ الله ورسوله في الإقدام على ذلك. لهذا، المسلمُ يتّقي ذلك طاعةً لله، وهي ابتلاء وامتحان له، لكن المؤمن يتغلّب على نزعات الهَوى وشهوات النّفس طاعةً لله، فيتركها مع القدرةِ عليها تقرُّبًا إلى الله ولعلمِه باطِّلاع الله عليه، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46].
ثانيًا: ممّا يفسِد الصيام تعمُّد إخراجِ المادّة المنويّة، سواء كان بتَكرار نظرٍ زائد، أو سواء كان بالعادةِ السرّية المستهجَنَة، فإنّ هذا يسبّب فسادَ الصوم، أو كان بمباشرة امرأتِه بدون جماع، مِن وسائلَ يمكن ثوران الشّهوة، فيؤدّي ذلك إلى إخراج المادّة المنوية، فإنّ ذلك يفسد صيامَ هذا اليوم وإن لم تجِب كفارةٌ لأنّ الكفارة لا تجب إلاّ بالجماع، لكنّه بوسائله إذا خرجت المادّة المنويّة أفسدت صيامَ ذلك اليوم لأنّ الله يقول في حقّ الصائم: ((يدَع طعامَه وشرابه وشهوتَه لأجلي)) [3] ، ولذا لمّا أخبرت عائشة أمّ المؤمنين أنّ النبيّ ربّما قبّل وهو صائم قالت: ولكنّه كان أملكَكم لإربه [4] ، أي: أنّه كان مسيطرًا على شهوته، متحكِّمًا في أمره، لا تطغى عليه شهوته.
إذًا فالمسلم يجتنب كلَّ وسيلة يمكنها أن تؤدّيَ إلى ما لا يرضى، اتقاءً للمحرَّم وبُعدًا عنه. أمّا لو أنزلَ الصّائم في النّهار بطريق الاحتلام فإنّ هذا أمر معفوٌّ عنه؛ إذ لا قدرةَ له على ذلك، وهو ممّا غُلب عليه، أو كان مجرّد تفكير من غير نظر، فإنّ ذلك أيضًا لا يؤثّر عليه.
وممّا ينافي الصيامَ تعمُّد الأكل أو الشّرب بإدخال الطعامِ أو الشّراب إلى الجسد بأيّ طريق ممكِن، من طريق الفمِ أو غيره، فإنّ من أدخل إلى جوفه مطعومًا أو مشروبًا نافى حقيقةَ الصّيام التي لأجلها فُرِض الصّيام، فإنّ مَن تعمّد الأكلَ أو الشرب فإنَّ ذلك منافٍ لصيامه، لأنّ الله يقول: ثُمَّ أَتِمُّواْ ?لصّيَامَ إِلَى ?لَّيْلِ ، وأباح في الليل الأكلَ والشرب إلى أن يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أي: إلى أن يتبيّن الفجر، فإذا تبيّن الفجر برؤية الخيط الأبيض فإن هذا موجب للإمساك، أو كنتَ معتمِدًا على أذان المؤذّن، فمتى أذّن المؤذّن معلِمًا بدخول وقت الفجر وجب عليك الإمساك عن الطعام والشراب.
أمّا لو وقع من المسلم في نهار رمضان أكلٌ أو شرب نسيانًا فقط فإنّ الله يعفو عنه، ونبيّنا يقول: ((من نسِي فأكل أو شرب فليتمَّ صومَه، فإنّما أطعمه الله وسقاه)) [5].
ويُلحَق بهذا الإبَر المغذِّية التي يُعطاها بعضُ المرضى لتكونَ عِوضًا عن تناولِ الطّعام والشّراب من طريق الفم، فإنّها أيضًا مفسِدة للصيام لأنّها تمدّ الجسد بالغذاء، وهي قائمة مقامَ تناوُله من الفم، فهي إذًا مفسِدة للصّيام ومنافيَة له.
وممّا يفسِد صيامَ المسلم ـ أيّها الإخوة ـ تعمُّد إخراج القيء، فإنّ تعمّدَ إخراج القيء مفسدٌ للصّيام لحديث أنّه قال: ((من ذرَعه القيء فلا قضاءَ عليه، ومن استقاء فعليه القَضاء)) [6] ، فإذا غلب القيء عليه ولا بدّ مِن خروجه ولم يكن له سببٌ في ذلك فليدَعه يخرج ولا يمنَعه ولا شيءَ عليه، لكن لو تعمّد القيء لثِقل الطّعام على معدته، فتعمّد القيءَ ليرتاح من ذلك الطّعام، فإنّ ذلك مفسِد لصيامه، فإن كان لضرورةٍ فلا إثمَ عليه وعليه القضاء، وإن كان لغير ضرورةٍ أثِم وعليه القضاءُ مع إكمالِ ذلك اليوم.
وممّا يفسِد صيامَ الصائم أيضًا إخراج الدّم، فإخراج الدّم من الجسَد بطريق الحِجامة هذا مفسِد للصيام، لأنّ النبيّ قال: ((أفطر الحاجِم والمحجوم)) [7] ، والحِجامة إخراجُ الدّم الفاسد، وهو إخراج دمٍ كثير يؤدّي إلى ضعفِ الصائم ولا يستطيع الجمعَ بين إخراج هذا الدّم وبين الصّيام.
وكذلك لو اضطرّ إلى إسعافِ محتاج للدّم، فاضطرّ إلى سحبِ دمٍ منه لضرورةِ إنقاذِ حياة إنسان، فإنّ له أن يسحبَ الدّم، ولكن يقضي هذا اليوم، لأنّ ذلك مثل الحِجامة أو أشدّ منها، لكن لو خرج الدّم من الإنسان مِن غير اختياره؛ رعاف من طريق الأنف، سعالٌ من طريق الفم، ناسور أو باسور، خرَج الدّم من غير اختياره ومن غير طلبه، سقط عليه شيء فأخرج الدّم، وطئ شيئًا فشقّ جلده فأخرج الدّم، فإنّ هذا لا شيءَ عليه؛ لأنّه لم يكن متعمِّدًا لإخراجه، ولا سببَ له في ذلك، فهذا أمر لا يؤثّر عليه.
أمّا لو اضطرّ إلى تحليلِ الدّم وأخذ عيّناتٍ منه لأجل علاجٍ وتشخيصِ أمراض فإنّ هذا التحليل للصائم لا يضرّه وهو صائم، إن استعمله في اللّيل فهو أفضل، وإن اضطرّ إليه في النّهار فيُرجى أن لا يُؤثّر؛ لأنّ هذا دمٌ يسير، فلا أثرَ له ولا يلحَق الصّائم ضررٌ بذلك.
احتياج الصّائم إلى قلعِ سنِّه أثناء النهار لا يؤثّر عليه، خروجُ هذا الدّم المصاحب لقلع السِّنّ لا يؤثّر على الصائم. استعمالُ الصّائم للبخاخ لأجلِ داء الرّبو أو غيره إذا صُرف له فإنّ ذلك لا يؤثّر على صيامه. شمّه بعضَ الأشياء التي جُعلت علاجًا لبعض الأشياء فإنّ هذا أيضًا لا يؤثّر على صوم الصّائم.
خروج حيضِ المرأة مفسدٌ لصيامِها ولو لم يبقَ من النّهار إلا جزءٌ يسير، فإنّ ذلك منافٍ للصّيام إذِ الحائض ممنوعة من الصّيام والصلاة، مأمورة بقضاءِ الصوم دونَ قضاء الصلاة.
وممّا ينبَّه عليه أنّ بعضَ المسائل قد تُشكل على المرأةِ المسلمة في نهار الصّيام، وذلك من أمور.
أوّلاً: ليُعلم أنّ النّفاس لا يسمّى نفاسًا إلاّ إذا خرج من المرأة ما ظهر فيه تخطيط إنسان، فإذا سَقط منها ما ظهر فيه تخطيط إنسان فهذا يسمّى نفاسًا، وهذا لا يكون في الغالبِ إلاّ بعد ما يمضي على الجنين أكثرُ من ثمانين يومًا، أمّا ذا سقط منها ما بين الشّهرين ونحو ذلك، فإنّ هذا لا يسمّى نفاسًا، لأنّه لم يتبيّن فيه خلق إنسان.
أيّتها المرأة المسلمة، إنّ طُهر الحائض قبلَ صلاة الفجر يوجِب عليها الإمساكَ ولو لم تغتسل إلا بعد [طلوع] الفجر، إذا كان هذا الطّهر سابقًا لوقتِ الفجر فإنّه يجب عليها الإمساك ولو لم يكن الاغتسال إلا بعد [طلوع] الفجر.
أيّتها المرأة المسلمة، خروج الدّم غير دَم الحيض لا يوجِب فسادَ الصيام، إنّما يفسد الصيام دمُ الحيض المعتاد المعروف الذي تعرِفه المرأة وتعتاد عليه. كونُ دم الحيض قد يتقدّم أيّامًا أو قد يتأخّر فإنّ ذلك مفسِد للصّيام وإن تقدّم عن وقته أو تأخّر عن وقته. المرأة المسلمة تترك الصّيام أثناءَ الحيض، والحيضُ المعتبَر هو الحيض الذي تعرِفه بمواصفاته الخاصّة عندها، فإذا وجدت ذلك وجب عليها الفطرُ وحرُم عليها الصّيام، ولكن يتساءل كثيرٌ من النّساء عن أمورٍ تخفى عليهنّ في هذا الموضوع.
فمِن ذلك أوّلاً: أنّ بعض النّساء يكون لها عادة شهريّة تُقدّر بأيّام سبعة أو ثمانية، وربّما جاوَز الدّم هذا الوقتَ بأيام، فيقال: هذا الدم الزائد على الوقت إذا كان هذا الدّم زادَ على زمن الحيض فهو ملحَق بالحَيض حتى يمضي خمسةَ عشرَ يومًا، فهو أكثر دمِ الحيض، وما زاد عليه فيجب عليها أن تغتسِل وتصوم.
أمّا خروج أشياء سابقة للحيض أو لاحقةٍ له من كُدرة أو صُفرة فإذا كانت متّصلةً بدم الحيض فإنّها تحسَب من أيّام الحيض، أمّا إذا رأت المرأة طهرَها كاملاً، ثم خرج منها أشياء ليست مِن دم الحيض أو أشياء متقطِّعة فإنّها لا تعتبرها من دم الحيض، إذ هذا الخارج الذي لا يشبِه الحيضَ وإنما هو دمٌ عاديّ فهذا لا يؤثّر على صيام المرأة، ولا يمنعها مواصلةَ الصّيام.
أيّها المسلم، احفَظ صيامَك وصُنه عن كلّ المفسدات، وخذ الاحتياطَ لنفسك، فإنّ الله سائلك عن هذا الصّيام: هل أدّيتَ الأمانةَ فيه المطلوبة شرعًا أم لا؟ أسأل الله لي ولك الفقهَ في الدين، وأن يتقبّل عملنا وعملَكم، وأن يجعلَ أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَـ?لَكُمْ [محمد:33].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الصوم، باب: من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية (1901)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الصوم، باب: إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق (1936)، ومسلم في الصيام، باب: تغريظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم (1111) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الصوم، باب: فضل الصوم (1894)، ومسلم في الصيام (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الصوم (1927)، ومسلم في الصيام (1106).
[5] أخرجه البخاري في الصوم (1933)، ومسلم في الصيام (1155) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه أحمد (2/498)، وأبو داود في الصوم (2380)، والترمذي في الصوم (720)، والنسائي في الكبرى (3130)، وابن ماجه في الصيام (1676) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن الجارود (385)، وابن خزيمة (1960، 1961)، وابن حبان (3518)، والحاكم (1/426)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الإرواء (923).
[7] أخرجه أحمد (3/465)، والترمذي في الصوم (774)، والطبراني في الكبير (4/242) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (1964)، وابن حبان (3535)، والحاكم (1/428)، وقال الترمذي: "وفي الباب عن علي وسعد وشداد بن أوس وثوبان وأسامة بن زيد وعائشة ومعقل بن سنان ـ ويقال: ابن يسار ـ وأبي هريرة وابن عباس وأبي موسى وبلال... وذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج"، وهو في صحيح سنن الترمذي (621).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، استعمالُ المسلم للعلاج مِن طريق القطَر في العين أو مِن طريق القطَر في الأذن هذا لا يؤثّر على صيام الصّائم. استعماله الإبَر العضَلية أو الوريديّة لأجل فقط العلاجِ الخاصّ هذا لا يؤثّر على صوم الصّائم؛ لأنّ هذا لا يُلحَق بمطعوم ولا بمشروب، فلا يؤثّر ذلك على صيام الصائم. وضعُه كحلاً في عينيه ودواءً في عينيه قطرَة أو غيرها كلّ هذا لا يؤثّر على صيام الصّائم.
أيّها المسلم، إنّ هناك آدابًا للصّيام يجب عليك أن تتأدّب بها ليكون صيامك إن شاء الله صيامًا مقبولاً، فأوّل ذلك أن تعلمَ أنّ الصائم يجب عليه أن يهتمّ بالصّلوات الخمس، وأن يحافِظ عليها في وقتِها جماعةً في المسجد، وأنّ هذا أمر واجب دائمًا وأبدًا، لكن في شهر رمضان يتأكّد عليك، ويجِب أن تعظِّم الصلوات الخمس، وتعظّم أداءها في الوقت وأداءَها جماعة في المساجد، فهذا هو دين الإسلام.
سُئِل ابن عبّاس رضي الله عنهما عن رجلٍ يقوم الليل ويصوم النّهار ولا يحضر الجمعةَ ولا الجماعة، قال: (هو في النّار) [1] ؛ لأنّ أداء الفريضة أمرٌ لا بدّ منه في رمضان أو غيره.
أيّها المسلم، ليكن الصوم مهذِّبًا لسلوكِك، مؤدّبًا لك بآداب الإسلام، فاحذَر في صومك الكذِب، واحذر الغِشّ، واحذَر الخداع، واحذر قولَ الزور، واحذر شهادةَ الزور، واحذَر السِّخاب والسِّباب والشِّتام والأقوالَ البذيئة، ونبيّنا يقول للصائم: ((فإن سابّه أحد أو شاتمه فليقل: إنّي امرؤ صائم)) [2] ، أي: فليذكّر أنَّ صومَه يمنعه من أنّه يخوض مع الجاهلين ومع السّفهاء في سفهِهم ومع أهلِ الجهالة في جهالتهم.
أيّها الصّائم، لم تؤمَر بالصّيام امتحانًا لصبرِك على الظّمَأ والجوع، ولكن لتهذيبِ أخلاقِك وتأديبِك بالآدابِ الشّرعية، يقول : ((مَن لم يدَع قولَ الزّور والعمَل به والجهلَ فليس لله حاجة في أن يدَع طعامَه وشرابَه)) [3].
أيّها الصائم، إيّاك والكذب، وإيّاك وشهادةَ الزور، وإيّاك والأقوالَ الباطلة، إيّاك والأقوال الفاجِرة، إيّاك والأقوال البذيئة، إيّاك والسّماع للباطل والمسلسلاتِ الهابطة الماجِنة المنافيَة للقيَم والأخلاق والمعاديَة لتعاليم الإسلام، فإنّك صائم، فصُن سمعَك عمّا لا يليق، وصن سمعَك عن استماعِ الباطل، وصُن لسانَك عن النّطق بالباطل، وصُن جميعَ جوارحِك عن عملِ الباطل.
إنّ الصومَ يجب أن يكونَ على سمعك وبصرك وعقلِك وفكرِك وسائر جوارحك، يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنها: (إذا صمتَ فليصُم سمعك وبصرك عن المحارم، ودَع عنك أذى الجار، ولا تكن في صومِك وفِطرك سواء) [4].
لا بدّ أن يكونَ الصيام مؤثرًا على المسلم في أقوالِه وأعماله، فأقواله طيّبة، وأعماله حسَنة، وتصرّفاته على ما يوافِق الشّرع، فلا يقول إلاّ خيرًا، ولا يسمَع إلا خيرًا، ولا يفكِّر إلاّ فيما يعود عليه بالنّفع في دينِه ودنياه، وليستغلَّ أيّام وليالي صيامِه فيما يصلح دينَه ويقوّم سلوكَه، وليحذَر استماعَ الباطل واستماعَ الملاهي واستماعَ المسلسلات الهابِطة الضالّة المحارِبة لله ورسولِه ولدينِه وقيَم الأمّة وفضائلها، وليكن على حذرٍ من هذا كلِّه، فإنّه صائم، فيصون سمعَه عن استماع الباطِل، وعينيه عن رؤيةِ الباطل، ولسانَه عن التكلّم بالباطل، وليُدم فكرَه فيما يعود عليه بالخير، هكذا الصائم، فلا يكون الصّائم مغتابًا لعباد الله، ولا ساعيًا بينهم بالنّميمة، ولا مروّجًا للأكاذيب والأباطيل، ولا داعيًا إلى ضلال ومُجون، ولا داعيًا إلى شرّ وفسادٍ، وإنّما هو مسلم صامَ رمضانَ صومًا صحيحًا صادقًا بكلّ ما تؤدّيه الكلمة من معاني، صامَ لسانه إلاّ من ذكر وقرآن وما ينفعه، صامَت عيناه فصرَف نظرَه عن محارمِ الخَلق، وصرَف نظره عن محارِم الله، وصرَف نظره عن النّظر إلى ما قد يلقي في قلبه شرًّا، صامَت الأذنان فلم تستمِع الحرام والباطل، ولزِم طاعةَ ربّه، واشتغل بما يعود عليه وبما يصون صومَه عن هذه الأباطيل وعن هذه المحرّمات وعن هذه المسلسَلات الباطلة التي تدعو إلى كلّ شرّ، وفي بعضها سخريّة بالإسلام واستهزاءٌ بأحكامِه وانتقاص لتعاليمِه الحقّة، ولا شكّ أنّ هذا مِن أعظم الباطل.
وفَّق الله المسلمين لالتزام الإسلام في أقوالِهم وأعمالهم، وصان صيامَهم عن كلّ ما يفسده.
فاتّقوا الله ـ عباد الله ـ في صيامكم، واتلوا كتابَ الله، وتدبّروه التدبّر الصحيح، ففيه خيرٌ في دينكم ودنياكم، إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]. اتلوا كتاب الله تلاوةَ المتدبّر المتعقّل المتأمِّل، وقِفوا عند حدوده، وامتثلوا أوامره، واجتنِبوا نواهيَه، وتأدّبوا بآدابه في أحوالكم كلِّها لعلّكم تفلحون.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدي...
[1] أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (16/243).
[2] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (1904)، ومسلم في كتاب الصيام (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[3] أخرجه البخاري في الأدب (6057) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب (2/422) بنحوه.
(1/2811)
مآثر شهر القرآن
فقه
الزكاة والصدقة, الصوم
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
12/9/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مواسم الخيرات والطاعات. 2- فرصة شهر رمضان. 3- من فضائل شهر رمضان. 4- مغبّة الجهل بحقيقة الصيام. 5- حال الغافلين في هذا الشهر. 6- من مآثر رمضان. 7- دعوة للرجوع إلى كتاب الله تعالى. 8- ذكرى بدر الكبرى. 9- إحباط كيد الحاقدين الخائنين. 10- الحث على الصدقة وإخراج الزكاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، واعلموا أنّ الاستمساكَ بالتّقوى خير مطيّة ومنجاة، وبلوغُها لدى البرَرَة أفضل أمنية مرتجاة، هي زادُ الرّوح وقوت القلوب، وبها يستجلَب المرغوب ويؤمَن المرهوب وتستدفَع الخطوب، وهي خير ما يبلّغ لرضا علاّم الغيوب.
أيّها المسلمون، في غمرةِ المادّيات وامتزاج الشّبهات بالشّهوات تُجِمّ النفوس في رحلتها إلى الله والدار الآخرة، ويعتَوِرها الفتور، وتتخلّلها الرتَابة والقصور، ولحكمةٍ بالغةٍ خصَّ الباري جلّت حكمته هذه الأمّة بمواسمَ للطاعات وأزمنةٍ للقربات وفرَص للخير سانحات، مَن اهتبلها وأمضى فيها راحلةَ جسدِه نال الفوزَ والسّعادة، بَلْه مرضاةَ ربّه وزيادَة، ومن تغافل عنها ولَهَا تصرَّم حبل يقينِه ووَهى، والنّاس في ذلك بين تقيٍّ مرحوم وشقيٍّ محروم.
إخوةَ الإيمان، ومن أجلِّ هذه الأزمنةِ المباركة ما منّ الله جلّ وعلا عليكم ببلوغِه وموافاتِه وأنتم ترفُلون فِي ثيابٍ من الخيرِ ضافِية وحياةٍ آمنة صافية، إنّه شهر القرآن والفُرقان، شهرُ الصيام والقيام، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
ها أنتم أولاءِ تتضرّعون أريجَ أيّامه العاطرة وتُحيون لياليَه الزُّهرَ الغامرة، شهرٌ مبارك أغرّ، هو روضة بالخيرِ عناء، ومورِد بالبرّ والهدى معطاء، ومشعَل بالمكرُمات والهبات لألاء. في رمضان قلوبٌ أنِست بجنب الرّحيم الغفّار، وألسنةٌ لهجت بالتّوبة والدعاء والحمد والاستغفار، نفوسٌ سعِدت بالتّلاوة والتسبيح وتألّقت بالتهجُّد والتراويح، دأبُها الخضوع والخشوع، ومقلٌ أسهدَها التّفريط فأرسلت أحرَّ الدّموع، كلُّ ذلك طاعةً لله وابتغاءً لمراضيه، ولَكَم يُغبَط الموفَّقون على تذوّقهم حلاوةَ الطّاعة في رمضانَ وغيره، وتحليقِهم بجناحَي الرّغبة والرّهبة في كلّ أوقاتهم وحالاتهم، ولن يقدرَ قدرَ هذا الشّهر المبارك ويدرِك أسرارَه إلا من أنار الله بصيرتَه وأيقظَ حسَّه وزكّى نفسه، فيا لله هل يستقلّ بوصفِ هذا الضيفِ الكريم المبارك أفصحُ لسان أو يترجِم عن أفضالِه وخيراته أساطينُ البيان؟! كلاّ.
معاشرَ المسلمين، إنّ شهر رمضان ليمثِّل جامعةً شمّاء للخير والبرّ ومدرسةً فيحاء للحِلم والصّبر ومنارةً قعسَاء للإيمانِ والتّقوى، وسُلّمًا لتآلف الأمّة وتعاطفِها وتماسكِها واتّحادها، يزكّي الأرواحَ، ويحدوها إلى بلادِ الأفراح، ويسُلّ سخائمَ النّفوس وأمراض القلوب، ويربّي الإراداتِ الواهنةَ على الحَزم والتّصميم، وذلك بالتحرّر من الشّهوات والانعتاق من الاسترسال في الرّغبات والملذّات، وتلك هي الحكمة العظيمةُ من تذييل آيةِ الصوم بالومضة الرائعة من وَمضَات الأسلوبِ القرآنيّ البديع في قولِه سبحانَه: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، أي أنّ ثمرةَ جوع البطون وظمَأ الهواجر هي التّقوى، وكفى بها عُروةً وثقى.
أيّها الإخوة الصّائمون، وممّا ينِدّ فيه الفهمُ لدى بعض الصّائمين هداهم الله ـ وهو يخالِف حكمةَ الصّوم ويجافِي أصلَ مشروعيّته ـ قصورُ فهمِهم لهذه الشعيرةِ العظيمة وحصرُها في الإمساكِ عن الطّعام والشراب والمفطِّرات الحسّيّة، مسترسِلين في اقتراف الآثام، سائمِين جوارحَهم في مراتِع الغيبة والنّميمة والبغيِ والبهتان والشائعاتِ والأراجيف والذنوب والعِصيان، ومن كان هذا شأنَه في أوقات أحوجَ ما تكون النفوس فيها إلى التّزكية الروحيّة والتصفية النفسيّة والتزوّد إلى الدّار الآخرة فليس لله حاجةٌ في أن يدعَ طعامه وشرابه، كما صحّ بذلك الخير عن سيّد البشر عليه الصلاة والسّلام عند البخاريّ وغيره [1].
معاشرَ الصائمين، ها هي العشرُ الأُوَل من رمضان قد تصرَّمت، وعشره الثانيةُ عشرُ المغفرة قد ازدَلفت لساحتِنا وتشوّفت، وفئامٌ من أبناءِ الأمّة لا يزالون في غفلتِهم سادرين، وعن الخيراتِ والقرُبات محجِمين غيرَ مبادرين، بل إنّ الشهرَ ـ يا عبادَ الله ـ أوشك أن ينتصِف، وكثير من الناس من نفسِه لم ينتصِف.
إنّ النفس لتأسى وتلتاع حين تَرى أقوامًا لا سيّما من الشّباب والفتياتِ يقطِّعون النهارَ بالنّوم ملءَ الأجفان والأحداق، ويبدِّدون اللّيالي بذرعِ الطّرقات والأسواق، مطلقين الأبصارَ والأسماعَ فيما حرّم الله. عجبًا لهؤلاء، أينَ آثار الصومُ الظاهرة والباطنة؟! أين دور الرّقابة الأسريّة والرعاية الأبوية؟! أما آن للقلوبِ الغافلة أن تلينَ في شهر القرآن ولزواجر القرآن؟! أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ [الحديد:16]، وَيْكأنَّ غُثائية الأمّةِ قد استمرَؤوا مخازيَ بعض الفضائيّات وسعارها وصغارها في شهر البطولات والعفّةِ والعزّة والكرامات، فلم يبالوا بذلك باله، ويحَهم إن لم يتوبوا إلى الله ويؤوبوا إلى فقهِ حِكَم الصّيام ولذّة المناجاة في التهجّد والقيام، لمُتبَّرٌ ما هم فيه من فكرٍ منهزِم وسلوكٍ منخرم، والله المستعان.
فيا بغاةَ الخير هَلمّوا وأقبِلوا، ويا بغاةَ الشرّ كفّوا وأقصِروا، لا بدَّ وقد تفاقمتِ الشرور جرّاء العولمةِ والانفتاح مِن العناية بالثّوابت والتمسّك بالأصول وإعزازِ جانبِ الحِسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو طوق النّجاة وصمام الأمان لما يرهَق المجتمعاتِ من قَتَرة وأحزان.
أمّةَ القرآن، ومِن مآثر هذا الشّهر الغفيرة ذلكم الارتباط الوثيقُ بين رمضانَ والقرآن؛ حيث انبثق نور القرآن في ليلةٍ من ليالي هذا الشهر الكريم، رفيعةِ الذّكر عظيمة القدر، هي خيرٌ من ألف شهر. في هذه الليلة السَّنية اتّصل نور السماء بالأرض وأُنزِل القرآن المعجزةُ الخالدة على قلبِ محمّد ، قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [المائدة:15]، لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء:10] أي: فخرُكم وشرفكم، كيف لا وهو الملاذ عند الفِتن والمنقِذ من المصائب والمِحَن؟! لقد أحيَى الله بهذا القرآن مواتَ الأمم، وأنقذَ عقائدَها وأخلاقَها من مهاوي العَدم، حرَّر العقل الإنسانيَّ من قيود الأوهام، وأطلقه باحثًا بنورِ العلمِ في الأكوان، سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53].
فلا عَجَب ـ عبادَ الله ـ أن تألّقت أرقى مدنيّة عرفتها الإنسانيّة وأروع حضارةٍ عرفها التأريخ، حضارةِ العدل والفضائل والصّدق والسلامِ وأعلى المكارم، والتي لن تتحقّق لأرقى الأمم حضارةً وثقافة إلاّ إذا اقتبست من أصوله وسارت على شعاعِ هديه ونوره. ولئن جال الغيور بالنّظر في أحوالِ المسلمين اليومَ وما لفّها من التنازع والاختلافِ والتردِّي في سراديب الذّلَّة والضّعف والمهانة لعلم يقينًا أنّ مردَّ ذلك كلّه إلى هجر القرآن ونبذِ العمل بأحكامه وآدابه والتّجافي عن التّحاكمِ والردِّ إليه.
فاتّقوا الله يا أمّة القرآن، وتواردوا على كتاب ربّكم شعوبًا ودوَلاً، شبابًا وشِيبًا، رجالاً ونساءً، علماءَ وعامّة، تلاوة وتدبّرًا، تعلّمًا وتفقُّهًا، عملاً وتخلّقًا، ملتمِسين فيه الشّفاءَ لأدوائكم والكبحَ لأهوائكم، واقفين على مواطنِ الهداية التي اهتدى وسعِد بها أسلافكم، ويومئِذ تستعيدون مجدَكم الغابرَ التّليد وعزَّكم المشرِق العتيد، وتستردّون بإذن الله قدسَكم الفقيدة وأراضيَكم السليبة، خرّج الإمام مسلم في صحيحه أنّ رسولَ الله قال: ((إنّ الله يرفع بهذا الكتابِ أقوامًا ويضَع به آخرين)) [2].
ولهذا ضربَ السلف الصّالح رحمهم الله أروعَ النماذج في العناية بالقرآن في شهرِ القرآن وختمِه كثيرًا فيه، يقول الإمام الزهري رحمه الله: "إذا دخَل رمضان إنّما هو شهر تلاوةِ القرآن وإطعامِ الطعام" [3] ، ولمّا دخل رمضان ترك الإمام مالكٌ رحمه الله مجالسَ الحديث والفقه، وأقبل على القرآن. ألا ما أحوجَ الخلفَ للسّير على منهج السلف ليتحقّق لهم صلاح الحال والمآل.
أمّة الصيامِ والقيام، ونعطِف بكم ـ يا رعاكم الله ـ إلى التّذكير بيومٍ أغرَّ من أيّام هذه الأمّة الخوالِد، تحقّق فيه نصرٌ مؤزَّر وفتح مبين، غيّر وجهَ التأريخ وغدا غرّةً في جبين أمّة الإسلام وبطولاتها، إنّه يوم الفرقان الذي فرّق الله فيه بين الحقّ والباطل، يومَ التقى الجمعان: جمع التّوحيد والإيمان وجمع الكفر والأوثان، في السابعَ عشَر من رمضان، فانتصَر المسلمون في غزوة بدرٍ الكبرى وهم قلّة، وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123] على جيش الكفر العرَمرَم، فكان في هذه الغزوةِ التأريخية من مواقعَ للعِبَر ومكامِن للعظات للمدّكر ما يجِب أن نستلهمَه ونستبصرَه، سيّما وقد أحدقت بنا الفتنُ وادلهمّت وتسوّرتنا المِحَن وعمَّت، ونجَمت لوثاتٌ فكريَّة مارقةٌ عن المِلّة والجمَاعة، وما تداعَى على أمَّتنا من شُذّاذ الآفاقِ وضِئضِئيهم في خرقٍ سافر للعهود والمواثيق، يترجِم عن ذلك بجلاء صلفُهم السّافر على ثرى فلسطينَ المجاهِدة تقتيلاً وتشريدًا، وهم بذلك يقدِّمون للعالَم بأسره رسالةً مسطّرة بأحرفٍ سوداء كالِحة ومِدادٍ قاتِمة أنّهم أربابُ الإرهابِ الدّوليَ بلا منازع وأعداءُ السّلام العالميّ، وما الأوضاعُ في بلاد الرّافدَين بأحسنَ حالاً من أختِها في أولى القبلتين ومسرَى سيّد الثقلين، وهكذا في سلاسلِ جراحات أمّتنا المنكوءَة في بعضِ البلاد الأخرى المنكوبَة.
أمّة الإسلام، مِن مواقفِ التأمّل والاعتبار في أُولى مواقفِ العزّة والانتصار أنّ شهر رمضان شهرُ الجدّ والمصابرة والفتوحاتِ والمثابَرة، وقوّةُ الإيمان وصحّة المعتَقد فوقَ العَدَد والعُدد، كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249]. ومِن ذلك أنّ نصرَ الله لا يُستجلَب إلاّ بنصرةِ دينِه، إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
أمّة الإسلام، ومَع ما قرّرته الشّريعة من حُرمة الشّهر الكريم شهرِ الوحيِ والتنزيل وشهرِ المغفرة والرّحمات فلا تزال صدورٌ غلت مراجلُها بالبغضاءِ والحسَد وعقولٌ انحرفت عن سواءِ الدّين والرَّشَد قد ركِبت متنَ الغلوّ والجهل، تحاوِل زعزعةَ أمن هذه الديارِ الآمنة، وتنشر الفسادَ والإجرام في رُباها الحالِمة، فانتهكت حرمةَ الزمان والمكان، وامتشقَت أيديها أعمالَ الإرهاب والعنفِ والتّفجير وأفعالَ الإجرام والإفسادِ والتدمير، فكان سعيُهم في وبال وشأنهم في سِفال بمَنّ الله وفضلِه، حيث ردّ كيدَهم وأحبط مكرَهم، وكان لهم بواسِل الأرصَاد بالمِرصاد.
ألا فليعلَم كلُّ غِرٍّ مأفون سلَك مسالكَ الإجرام ـ لا سيّما في الشهر الكريم والبلدِ الحرام الذي يأمَن فيه كلُّ شيء من الطّير والحيوانُ والشجر والنبات والجماد، فكيف بالمسلم؟! ـ أنّ اللهَ سبحانه فاضحُه لا محالة، وحافظٌ هذه الدّيار المباركة من كيد الكائدين وحِقدِ المفسِدين الحاقدين المعتدين، وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].
وهيهات أن يكونَ إصلاحٌ مرتَجى بإثارةِ الشّغب والفوضى وسلوكِ مسالك العنفِ وحمل السّلاح وزعزعة الأمنِ والانتحار بأخَرَة، نسأل الله حسنَ الخاتمة، لا سيّما في البلدِ الحرام والزّمن الكريم الحرام، فرُحماك ربَّنا رحماك، واللهمّ سلِّم سلّم، ونعوذ بالله من الرّدَى بعد الهُدى، ومن تفطّن لآثار تلك النابِتة النّشاز استشعرَ أهمّيّة العنايةِ بالجيل وتربيّة النشءِ على منهَج الوسطيّة والاعتدال، وتلك مسؤوليّةٌ عظيمة مهمّة، مشترَكَة بين المسجدِ والأسرة والمدرسةِ والجامعةِ ووسائلِ الإعلام، ليؤدّي كلٌّ دورَه التربويَّ في المجتمع صلاحًا وإصلاحًا، والله المسؤول أن ينصرَ دينَه ويعليَ كلمتَه، ويحفظنا والمسلمين من مضلاّت الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنّه خير مسؤول وأكرم مأمول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه كان للأوّابين غفورًا.
[1] أخرجه البخاري في الصوم (1903) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (817) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[3] أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (6/110-111).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يسَّر مَن أعطى واتّقى لليُسرى، ومن بَخل واستغنى للعُسرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، أوجب الزكاةَ لإغاثةِ المحتاجِ والملهوف، ودفعًا للنّوائب والصّروف، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله، أجودُ الناس بالنّدى والمعروف، وعلى آله وصحبه الباذلين ممّا ملكت أيديهم كلَّ الصنوف، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فاتقوا الله أيّها المسلمون.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ من صام حقًّا وقام لله صِدقًا رقَّ قلبه ولانَ طبعُه وحلّقت في مدارَات الطّهر روحه وأُرهِفت أحاسيسُه وجاشَت بالبَذل نفسُه وفاضَت بالعطاء كفّه، فاغتنموا ـ وفقكم الله ـ هذا الشهرَ الكريم للاستجابةِ لثالثِ أركانِ الدّين ألا وهو الزّكاة، فإنّما هي قرينةُ الصلاة في كتابِ الله، وهي في المجتمَع ـ لعَمرو الحقّ ـ مواساة وتراحمٌ وتلاحم ونماء، لا جبايةٌ وإعناتٌ وعنَاء، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].
ألا فجُودوا ـ أيّها الكرَماء النبلاء ـ ممّا أفاض الله عليكم، وابسطوا الأياديَ بالنّوال والعطاء، لتبدّدوا بذلك همومَ المَدينين وغمومَ المعسِرين وعَوَز المحتاجين وخصاصَةَ المكروبين، ولتفوزوا بأغلى المِنَن مرضاةِ ربِّ العالمين، وقد وعَد سبحانه المنفِقين بالخلفِ الجزيل، فقال عزّ من قائل: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].
يذكَّر بذلك ـ أيّها الأحبّة في الله ـ في الوقتِ الذي اشتدّت فيه الحملاتُ الضّارية على أمّتنا، وشُوِّهت فيه الأعمال الخيريّة والإغاثية، ممّا لا ينبغي أن يفتَّ في الأعضاد ولا يثبّطَ الهِمَم والعزائم، ولكن ليَكن ذلك تحتَ مِضلّة مأمونَة وجهاتٍ موثوقة.
وإنّ لكم في التّنافس في الخيرِ والتسابقِ إليه أسوةً حسنة في نبيّكم حيث كان أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسُه القرآن، فلرسول الله حين يلقاه جبريلُ أجودُ بالخير من الرّيح المرسلة.
بارك الله لكم في أموالِكم، وبسط لكم في أرزاقكم، وأخلف عليكم خيرًا، ووقى أمَّتنا مضِلاّت الفِتن والغوائل والشّرور والقلاقل، إنّه جواد كريم.
ألا وصلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد سيِّدِ الأنام، خيرِ من صلّى وصام وأفضلِ من تهجّد لله وقام، كما أمركم بذلك المولى الملكُ العلاّم، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّد الأولين والآخرين وخاتم النبيّين وأشرف المرسلين نبيّنا محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحابتِه الغرّ الميامين والتابعين ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنّا معهم برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهمّ أعزّ الإسلامَ والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين...
(1/2812)
شهر التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
12/9/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تهنئة المسلمين الذين تمكنوا من أداء صلات الجمعة في الأقصى الأسير. 2- بعض فضائل رمضان. 3- شروط التوبة النصوح. 4- الدعوة للتوبة والاستغفار. 5- الحث على أداء الزكاة. 6- الحذر من الذنوب وخطر التهاون فيها. 7- جدار الفصل العنصري الذي يقيمه اليهود. 8- حق العودة إلى الوطن لإخواننا المهجرين من فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها الصائمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، نحن الآن في الثلث الثاني من شهر رمضان المبارك، هذا الشهر الذي أوله رحمة، أوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، نسأل الله العلي القدير أن يرحمنا برحمته، وأن يغفر لنا ذنوبنا وأن يعتقنا وإياكم من النار بفضل هذا الشهر العظيم.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، يا من تخطيتم حواجز الاحتلال، أنتم اليوم في الجمعة الثانية من شهر رمضان المبارك، فمن أدى صلاة الجمعة في المسجد الأقصى المبارك في هذا الشهر المبارك فقد جمع ثلاث فضائل، الجمعة لها فضيلة، والصوم له فضيلة، والأقصى له فضيلة، فهذه الفضائل لها منزلة عالية في قلوب المؤمنين، فطوبى لمن جمع هذه الفضائل في هذا اليوم وأداها على وجهها الصحيح وحافظ عليها.
فاحمدوا الله أيها المصلون الذي أنعم عليكم بهذه الفضائل، هذه الفضائل التي حرم منها ما يزيد عن مائة ألف مصلي نتيجة الإغلاقات على المدن والقرى والمخيمات، ونسأل الله رب العالمين أن يتقبل منا ومنكم هذه الطاعات وأن يفرج الكرب ويرفع المعاناة عن إخواننا المحاصرين في أرضنا المباركة.
وحياكم الله أيتها الجماهير الإسلامية المؤمنة التي تحتشد الآن في رحاب المسجد الأقصى المبارك، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على تعلق المسلمين بأقصاهم رغم العقبات والحواجز، ونسأل الله العلي الكبير أن تكونون أيها المسلمون على قلب رجل واحد في ظل راية لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، في هذا الشهر المبارك تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار وتربط الشياطين بالسلاسل، لقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)) [1] ، والحكمة من ذلك أيها المصلون حتى يكون للناس حوافز للإقبال على الله رب العالمين، وليتوبوا توبة خالصة له عز جل، فإن باب التوبة مفتوح ينتظر التائبين المستغفرين العابدين.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، لقد ذكر القرآن الكريم اثنين وثمانين موضعاً للتوبة، وذلك لبيان أهمية موضوع التوبة ولتشجع العاصين على التوبة وحثهم عليها، ويقول سبحانه وتعالى في سورة التحريم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً [التحريم:8]، وذكر علماء التوحيد شروطاً للتوبة النصوح، وهي الشرط الأول أن يقلع التائب عن المعصية أي أن يبتعد عنها، والشرط الثاني أن يندم على فعلها ما صدر منه من موبقات ومحرمات، الشرط الثالث أن يعزم على أن لا يعود إلى مثلها مرة أخرى.
هذه الشروط - أيها المصلون - بحق التائب عن معصية تتعلق بحق الله تعالى فقط، أما إذا كانت المعصية لها علاقة بحقوق الناس، فإنه بالإضافة على الشروط الثلاثة يوجد شرط رابع، وهو أن يؤدي التائب حق الناس، فإن كان مالاً رده إليهم وإن كان غيبة أو نميمة أو نهشاً للأعراض فلا بد من طلب العفو والمسامحة ممن آذاهم، أما سماسرة السوء فجريمتهم تتعلق بحق الله وحق العباد معاً.
ونلفت نظر أهل بيت المقدس إلى أن السماسرة قد نشطوا في هذه الأيام لشراء بيوت في البلدة القديمة من مديتنا المباركة المقدسة، فكونوا على حذر منهم.
فعليكم ـ أيها المسلمون ـ الالتزام بالتوبة النصوح، كما عليكم الإكثار من الاستغفار وتلاوة القرآن الكريم وبخاصة في هذا الشهر الكريم، شهر الصيام، لقد كان رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار بقوله: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) [2] ، فهذا الرسول صلوات الله وسلامه عليه يستغفر الله ويتوب إليه أكثر من سبعين مرة باليوم الواحد، مع أن الله عزل وجل قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكيف بغيره من الناس!! فالمسلم بحاجة إلى الاستغفار بصورة مستمرة، وبحاجة إلى تلاوة القرآن الكريم بدلاً من الثرثرة وكلام الدنيا الفانية.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، نتساءل: هل الذي يمتنع عن إخراج الزكاة تقبل توبته؟ والمعلوم أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وهي واجبة على الموسر، وهي في نفس الوقت حق للفقير، ويقول الله عز وجل في سورة الذاريات: وَفِى أَمْو?لِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَ?لْمَحْرُومِ [الذاريات:19]، وفي سورة المعارج: وَ?لَّذِينَ فِى أَمْو?لِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لّلسَّائِلِ وَ?لْمَحْرُومِ [المعارج:24، 25]، فلا بد على كل موسر أن يزكي ماله لأن الزكاة هي حق الله وحق العباد، ونحث الموسرين أن ينتهزوا شهر رمضان المبارك لإخراج زكوات أموالهم التي فيها طهارة لهم: خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، وليكسبوا الثواب المضاعف، وليسدوا رمق إخوانهم المحتاجين والمنكوبين نتيجة نسف المنازل وتهجير الآلاف منها، والخير موجود في هذه الأمة إلى يوم القيامة إن شاء الله، وتحية إكبار للمحسنين الذين قدموا مساعداتهم للجان الزكاة وللجان التكافل الاجتماعي.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، ونذكركم بإخراج صدقة الفطر أيضاً، وأجاز الحنفية إخراجها نقداً لمنفعة الفقراء، وكل قطر من الأقطار الإسلامية يقدرها على ضوء معدل الأسعار للمواد الأساسية التي هي غالب قوت أهل البلد، وفي فلسطين قدرت صدقة الفطر بدينار أردني واحد، أو بسبعة شواقل عن كل فرد كحد أدنى، في حين قدرها إخوتنا في مناطق 1948 بعشر شواقل على ضوء الأسعار لديهم، وكلما زاد المسلم في رفع قيمة هذه الصدقة، فإنه يكسب ثواباً ويسد حاجة إخوانه الفقراء.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، لا تستخفوا بذنوبكم، فتوهموا أنفسكم أنكم مبرؤون من الذنوب والآثام، فالمؤمن الصادق هو الذي يعد الذنب ثقيلاً عليه كالجبل، لما ورد في صحيح البخاري عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((المؤمن يرى ذنبه كالجبل يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب مر على أنفه فأثاره)) [3] ، فالاستخفاف بالذنوب والاستهزاء والسخرية ليس من علائم الخير ولا من دلائل الإيمان، بل هو من دلائل الفسوق والنفاق والعصيان والمكابرة.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، سارعوا إلى التوبة النصوح في أقرب وقت، لأن الله عز وجل لا يقبل التوبة ممن حضرته الوفاة، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)) [4] ، أي ما لم يحتضر للموت، فما دام الإنسان لا يعلم أين ومتى تكون وفاته، فعليه بالتوبة المبكرة دون تسويف ولا تأجيل، جاء في الحديث النبوي الشريف: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)) [5] صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم اجعلنا من التوابين ومن المتطهرين، اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالاستجابة فيا فوز المستغفرين.
[1] أخرجه البخاري في الصوم (1899)، ومسلم في الصيام (1079).
[2] أخرجه البخاري في الدعوات، باب: استغفار النبي... (6307).
[3] أخرجه البخاري ـ موقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه ـ في كتاب الدعوات، باب: التوبة (6308).
[4] أخرجه أحمد (2/153)، والترمذي في الدعوات، باب في فضل التوبة والاستغفار... (3537)، قال: حسن غريب، وأخرجه أيضاً ابن ماجه في الزهد، باب: ذكر التوبة (4253)، وصححه ابن حبان (الإحسان ـ 2/395)، رقم (628)، والحاكم (4/286)، وحسّنه الألباني في صحيح الترمذي (2802)، وصحيح ابن ماجه (3430)، وصحيح الجامع (1903).
[5] أخرجه ابن ماجه في الزهد، باب: ذكر التوبة (4250)، والطبراني في الكبير (10/150)، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه. وعزاه الهيثمي للطبراني، وقال: رجاله رجال الصحيح، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، مجمع الزوائد (10/200)، وحسّنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3427)، وصحيح الجامع (3008).
_________
الخطبة الثانية
_________
أحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلاة وسلام دائمين على يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، هناك مسألتان تتعلقان بمصالح المسلمين لا مجال لتجاهلهما، بل يتوجب علينا شرعاً التعرض إليهما، وهما: أولاً: الجدار الأمني الفاصل، وهو في حقيقته جدار عنصري غير أمني، إنه سرطان سيمتد في بلادنا، ليقطع أوصال البلاد والعباد، إنه سرطان يضاف إلى سرطان المستعمرات وسرطان الطرق الالتفافية.
ومؤخراً أعلن عن امتداد جديد لهذا الجدار اللعين يعزل مناطق مخيم شعفاط ورأس خميس وضاحية البريد والرام وبئر نبالا، يعزلها عن مدينة القدس، وليخنق مدينة القدس، إن هذا الجدار سيلتهم الأرض ويمزق البلاد ويشتت العباد، إن المخططات التي ستنفذ ستحكم الطوق على مدينة القدس، لتصبح هذه المدينة الأسيرة سجناً كبيراً، وليمنع مئات الآلاف من المواطنين من الوصول إلى هذه المدينة الأسيرة ويحرمهم من الصلاة في المسجد الأقصى المبارك.
مررت على القدس الشريف مسلما على ما تبقى من ربوع كأنجم
ففاضت دموع العين مني صبابة على ما مضى من عصره المتقدم
وإن هذا الجدار اللعين سيحاصر جميع المناطق الفلسطينية، فقد حاصر فعلاً مناطق سلفيت وطولكرم وقلقيلية وعشرات القرى المجاورة لها.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، والسؤال: هل هذا الجدار سيوفر الأمن والسلام لشعب إسرائيل؟ والجواب بالطبع: لا، لأن أساليب القهر والقمع والعنف والاغتيال والاعتقال ونسف المنازل لا تؤدي حتماً إلى الأمن والسلام والاستقرار، ثم ما الهدف من إغلاق الحواجز قبيل المغرب في شهر رمضان المبارك!!؟ أليس الهدف منه هو التنغيص والتضييق على الصائمين حتى لا يصلوا إلى بيوتهم في الوقت المناسب للإفطار.
إن شعبنا المرابط يدرك تماماً أنه المستهدف، وأن بلاده أيضاً مستهدفة، ولن يستسلم لهذه الإجراءات العنصرية الظالمة، ويتوجب على الأنظمة في العالم العربي والإسلامي أن تفيق من سباتها وأن تتحمل مسؤولياتها تجاه الأخطار المحدقة بفلسطين وشعب فلسطين، فالمسلمون أمة واحدة ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) [1].
أيها المسلمون، أيها الصائمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، وأما الموضوع الثاني فيتعلق بحق عودة اللاجئين إلى ديارهم وديار آبائهم وأجدادهم، وهذا الموضوع لا يتعلق بستة ملايين لاجئ فحسب، بل يتعلق بأهل فلسطين وجميع المسلمين في أرجاء المعمورة، لنؤكد بأن حق العودة هو حق شرعي ثابت من الثوابت الإسلامية التي لا مجال للاجتهاد فيها، والفتاوى الدينية التي صدرت سابقاً ولاحقاً في هذا الموضوع واضحة وصريحة ونؤكد عليها.
وإذا لم يستطع اللاجئون الآن العودة إلى ديارهم فإنه لا يجوز أن نتنازل عن هذا الحق أو أن نقبل حلولاً ممسوخة غير مشروعة، فالحق قائم إلى يوم الدين ولا يسقط بتقادم الزمان مهما طال الوقت، وشعبنا أبيّ صبور لن يتنازل عن حقوقه المشروعة، وإن الله عز وجل لن يتخلى عن المؤمنين الذين ينصرونه إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم.
[1] أخرجه البخاري في الصلاة، باب: تشيك الأصبح في المسجد وغيره (481)، ومسلم في البر والصلة والآداب، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (2585).
(1/2813)
فضل الصدقة وبذل المعروف
فقه
الزكاة والصدقة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
12/9/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1-حاجة المسلم إلى أخيه. 2- لذّة بذل المعروف. 3- فضائل الصدقة وفوائدها. 4- آداب الصدقة. 5- عموم مفهوم الصدقة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسِي بتقوى الله، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:107].
إخوةَ الإسلام، فِي هذهِ الحياة الدّنيا متاعبُ وأعباء وفقرٌ أحداثٌ جسام، والإنسان لا غنى له عن أخيه؛ يشدّ عضدَه، ويقوِّي عزمتَه، ويخفِّف شِدّته، ويفرِّج كربَه، طمعًا في الأجر وطلبًا للفضَل، وبهذا يقوم المجتمعُ على أسُسٍ قويّة وقواعدَ متينة في نظامٍ من التّكافل والتّعاون. ومِن أبرزِ صوَر التّكافلِ صدقةُ التطوّع التي هي دليلُ صدقِ الإيمان، قال : ((والصّدقة بُرهان)) أخرجه مسلم [1].
إنّها رقّة القلب والرّحمة الفيّاضة التي تدفع المسلمَ لإسداء المعروفِ وإغاثةِ الملهوف ومعاونة المحتاج والبرِّ بالفقراء والمساكين والعطفِ على الأراملِ ومسحِ دموعِ اليتامى والإحسانِ إليهم وإدخالِ السرور على نفوسهم، قال تعالى: إِنَّ ?لْمُصَّدّقِينَ وَ?لْمُصَّدّقَـ?تِ وَأَقْرَضُواْ ?للَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَـ?عَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد:18]. أيّ حافزٍ للصدقة أوقع وأعمقُ من شعورِ المعطي بأنّه يقرِض الغنيَّ الحميدَ، وأنّه يتعامل مع مالك الملك، وأنّ ما ينفِقه مخلَفٌ عليه مضاعفًا، وله بعدَ ذلك كلِّه أجرٌ كريم؟! قال تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ?لرَّازِقِينَ [سبأ:39]، قال المفسّرون: يخلَف عليكم في الدّنيا بالبَدَل وفي الآخرةِ بالجزاء الثواب، وقال رسول الله : ((ما مِن يومٍ يصبح العبادُ فيه إلا ملكان ينزِلان، فيقول أحدهما: اللهمّ أعطِ منفِقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهمّ أعطِ مُمسكًا تلفًا)) أخرجه البخاري ومسلم [2].
الصدقةُ ـ عبادَ الله ـ سبب لحبِّ الربّ كما جاء في الحديث القدسي: ((وما يزال عبدِي تقرَّب إلي بالنّوافل حتّى أحبَّه)) أخرجه البخاري [3]. هي كفّارة للذّنوب والخطايا كما جاء في حديثِ حذيفةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((فتنةُ الرّجل في أهله وولدِه وجارِه تكفّرها الصّلاة والصّدقة والمعروف)) أخرجه البخاري [4]. إذا حشِر الناس يوم القيامة واشتدَّ الكرب ودنَت الشّمس من رؤوس الخلائق فإنّ المتصدّقين يتفيّؤونَ في ظلِّ العرش، وتسترُهم صدقاتُهم من لفحِ جهنّم كما ثبت في الحديث: ((سبعةٌ يظلّهم الله في ظلّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلّه)) ، وذكر منهم: ((ورجلٌ تصدّق بصدقةٍ فأخفاها، حتّى لا تعلمَ شماله ما تنفق يمينه)) [5].
مِن فضل الصّدقة أنّها تربَّى لصاحبها حتى تكونَ كالجبل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من تصدَّق بعدل تمرةٍ من كسبٍ طيّب، ولا يقبَل الله إلا الطيّب، وإنّ اللهَ يتقبّلها بيمينِه، ثمّ يربّيها لصاحبِها، كما يربّي أحدُكم فَلوَّه حتّى تكونَ مثلَ الجبل)) [6]. مِن فضلِها أنّها تطفِئ الخطيئةَ وغضَب الربّ كما جاء في حديثِ معاذ الطويل: ((ألا أدلّك على أبوابِ الخيرِ؟! الصومُ جنّة، والصدقة تطفِئ الخطيئةَ كما يطفِئ الماء النّار)) أخرجه الترمذي وابن ماجه [7] ، وفي الحديثِ: ((صدقةُ السّرّ تطفئ غضبَ الربّ)) أخرجه الطبرانيّ من حديث أبي أمامة [8]. الصدقةُ تقِي صاحبَها عن النار، فعن عديّ بن حاتم قال: سمعت رسول الله يقول: ((اتّق النارَ ولو بشقِّ تمرة)) [9]. الصدقة تطهِّر النفوسَ وتزكّيها، قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]. في الصّدقة إدخالُ السرورِ على المساكين، وأفضلُ الأعمال إدخالُ السّرور على قلوبهم، قال : ((أفضل الأعمالِ أن تدخِلَ السرورَ على أخيك المؤمن، أو تقضيَ عنه دينًا، أو تطعِمه خبزًا)) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة [10].
في الصدقةِ إرضاءُ الله تعالى، النجاةُ من الهَلكة، تمام الإحسان، قال تعالى: وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ?لتَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]. الصدقةُ تغيظ الشّيطان وتوجِب الغُفران، قال تعالى: ?لشَّيْطَـ?نُ يَعِدُكُمُ ?لْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِ?لْفَحْشَاء وَ?للَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268]. ومن آثارها العجيبةِ في الدّنيا ما روِي عن رسول الله أنّه قال: ((بينا رجل في فلاةٍ من الأرض، فسمِع صوتًا في سحابةٍ: اسقِ حديقةَ فلان، فتنحّى ذلك السحاب، فأفرغَ ماءه في حرَّة، فإذا شرجةٌ من تلك الشِّراج قد استوعَبَت ذلك الماءَ كلَّه، فتتبّع الماءَ، فإذا رجلٌ قائِم في حديقتِه، يحوّل الماءَ بمسحاته، فقال له: يا عبد الله، ما اسمك؟ قال: فلان، بالاسم الذي سمع في السحابة، فقال له: يا عبد الله، لمَ تسألني عن اسمي؟ فقال: إنّي سمعت صوتًا في السّحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسقِ حديقةَ فلان لاسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أما إذ قلتَ هذا فإنّي أنظُر إلى ما يخرُج منها، فأتصدّق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثَه، وأردّ فيها ثلثَه)) أخرجه مسلم [11].
الصدقةُ تخلِّص المسلمَ من الشّحّ، إذ ليسَ في المروءَة من شيءٍ أن يرى الغنيّ أخاه الفقير يتضوّر جوعًا وتفتِك به الحاجة، ثمّ لا تتحرّك مشاعرُه ولا تهتزّ عواطفه لتخفيف ضائقةِ إخوانِه، ومِن أخلاقِ النبيّ الجودُ والكرم، بل كان يعطِي عطاءَ لا يخشى الفقر، ويقول : ((أنفِق ينفِق الله عليك)) [12]. الصدقة لا تنقص المالَ، بل تكون سببًا لزيادتِه ونمائِه وبركتِه، يرزق الله المتصدّقَ ويجبره وينصره، في حديث: ((ما نَقصت صدقةٌ من مال، وما زادَ الله عبدًا بعفوٍ إلاّ عِزّا، وما تواضَع أحدٌ لله إلاّ رفعه الله)) أخرجه مسلم [13].
الصدقات سببٌ في بسطِ الرّزق وطول العمر، تدفَع البلاءَ والأمراضَ عن المتصدّق وأهلِ بيته، تمنَع ميتةَ السّوء ومصارعَ السوء، لما روى أنسٌ أنّ رسول الله قال: ((باكِروا بالصّدقة، فإنّ البلاءَ لا يتخطّى الصّدقة)) رواه البيهقي مرفوعًا [14] ، وقال : ((داوُوا مرضَاكم بالصّدقة)) أخرجه البيهقي [15] ، وعن عمرو بنِ عوفٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنّ صدقةَ المسلم تزيد في العمُر، وتمنَع ميتةَ السوء، ويذهِب الله بها الكبرَ والفقر)) رواه الطبرانيّ [16] ، وقال : ((صنائعُ المعروف تقِي مصارعَ السوء والآفاتِ والهَلَكات)) أخرجه الحاكم عن أنس رضي الله عنه [17].
بالصّدقة يعين الله المتصدّقَ على الطاعة، يهيّئ له طرقَ السّداد والرشاد، يذلِّل له سبلَ السعادة، قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى? وَ?تَّقَى? وَصَدَّقَ بِ?لْحُسْنَى? فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى? [الليل:5-7].
إخوةَ الإسلام، إنّ في بذلِ الصّدقات وإيجادِ المشاريع الخيريّة علاجًا لمشكلةِ الفقر التي وضع الإسلام لها حلولاً، وجعَل البرَّ والإحسان من بين تلك الحلول، والصدقة علاجُ حسَد الفقراءِ للأغنياء، تحمِي المجتمع من جرائم السّطوِ والانتقام، وقد حذّر النبيّ أمّتَه من خطورةِ سلوكِ الفقير حيث قال: ((إنّ الرجلَ إذا غرِم حدّث فكذَب ووَعد فأخلف)) رواه البخاريّ ومسلم [18].
وإذا كنّا نطمَع في هذا الفضل فعلينا أن نلتزمَ آدابَ الصّدقة التي من أجلِّها أن تكونَ من كسبٍ طيّب ومالٍ حلال، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيّبَـ?تِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267]. لا تُقبل الصدقة إذا كانت من حرام لحديث النبيّ : ((من اكتسَب مالاً من مأثم فوصَل به رحمَه أو تصدّق به أو أنفقَه في سبيل الله جُمع ذلك كلّه، فقذِف به في جهنّم)) رواه أبو داود [19]. ومن آدابِها أن تكونَ خالصةً لوجهِ الله تعالى، لا يشوبها رياءٌ ولا سمعة، وأن يوجّه نيّتَه في الصّدقة إلى الله، قال رسول الله : ((إنّما الأعمال بالنّيات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى)) [20]. أن لا يستكثرَ بصدقته لقوله تعالى: وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6]، وهنا إظهارُ جلالُ الإسلام وجماله الذي ينهَى عن المنّ الثقيلِ والرّياء الذّميم، قال تعالى: قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263]، ولو أنّ المحسِنين يعلمون ما يقاسِيه الفقراء عند السّؤال من عنتٍ وذلٍّ ولوعةٍ وحسرة ما قلّبوهم على جمراتِ المنِّ ولا جرّعوهم غضاضةَ الفقر ومرارةَ الرياء. ما أكثرَ الكرماءَ والمحسِنين، ولكن ينبغي أن لا نستذلَّ بأموالنا الرّجال ونستعبِد النّفوس. فالعاقل يسابِق في ميدانِ الخيراتِ بالصّلة والبرّ والإحسان، ينفق على الفقراء الذين عضّهم البؤس، يحسَبهم أغنياءَ من التعفّف، وهم يقاسون ألمَ الجوعِ والفَقر والشدّة والعُسر، ليس هم أولئك الذين اتّخذوا من التسوّلَ مِهنةً ومن الشحاتةِ حِرفة حتّى غدَا بعضُهم من الموسِرين الأغنياء، وفي صحيحِ البخاريّ أنّ رسولَ الله قال: ((ليسَ المسكينُ الذي يطوف على النّاس، تردّه اللّقمة واللّقمتان والتّمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجِد غنًى يغنيه، ولا يفطَن به فيتصدَّق عليه، ولا يقوم فيسأل النّاس)) أخرجه البخاري [21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ لي ولكم فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الطهارة (223) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1442)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1010) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6502) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1435)، وأخرجه أيضا مسلم في الإيمان (144).
[5] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1423)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1031) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1410)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1014).
[7] سنن الترمذي: كتاب الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (2616)، سنن ابن ماجه: كتاب الفتن، باب: كفّ اللسان في الفتنة (3973)، وأخرجه أيضا أحمد (5/231)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه الحاكم (4/286-287)، وذكره الضياء في المختارة (405)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/299): "رجاله رجال الصحيح، غير عمرو بن مالك الجنبي وهو ثقة"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1122).
[8] المعجم الكبير (8/261)، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (2/15)، والهيثمي في المجمع (3/115)، وله شواهد كثيرة، ولذا حسنه الألباني في صحيح الترغيب (889)، وانظر: السلسلة الصحيحة (1908).
[9] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1413، 1417)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1016).
[10] أخرجه الطبراني في الصغير (861) والأوسط (6026) والكبير (12/453) عن ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه، وأشار المنذري في الترغيب إلى ضعفه (3/265-266)، وقال الهيثمي في المجمع (8/191): "فيه مسكين بن سراج وهو ضعيف"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2623).
[11] صحيح مسلم: كتاب الرقاق (2984) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[12] أخرجه الطبراني في الأوسط (8536) عن قيس بن سلع الأنصاري رضي الله عنه، وقال: "تفرد به سعيد بن زياد أبو عاصم"، قال الهيثمي في المجمع (3/128): "ولم أجد من ترجمه"، وأورده الألباني في ضعيف الترغيب (542).
[13] صحيح مسلم: كتاب البر (2588) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[14] شعب الإيمان (3/214)، والسنن الكبرى (4/189)، وقال: "إن رفعه وهم"، وأخرجه أيضا ابن عدي في الكامل (3/248)، وروى الخطيب في تاريخ بغداد (9/339) أن ابن أبي شيبة سئل عن هذا الحديث فقال: "من روى هذا الحديث يحتاج إلى أن يقلع له أربعة أضراس"، وحكم عليه ابن الجوزي بالوضع، وقال المنذري في الترغيب (2/11): "رواه البيهقي مرفوعا وموقوفا على أنس، ولعله أشبه"، وقال الألباني في ضعيف الترغيب (522): "ضعيف جدا".
[15] السنن الكبرى (3/382) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط (1963) والكبير (10/128)، وابن عدي في الكامل (6/341)، وأبو نعيم في الحلية (2/104، 4/237)، والقضاعي في مسند الشهاب (691)، وقال البيهقي: "إنما يعرف هذا المتن عن الحسن البصري عن النبي مرسلا"، ورجح إرساله ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/494)، وقال المنذري في الترغيب (1/301): "المرسل أشبه"، وقال الهيثمي في المجمع (3/64): "فيه موسى بن عمير الكوفي وهو متروك".
[16] المعجم الكبير (17/22)، قال الهيثمي في المجمع (3/110): "فيه كثير بن عبد الله المزني وهو ضعيف"، وأورده الألباني في ضعيف الترغيب (526).
[17] مستدرك الحاكم (1/124) من طريق الحسن عن أنس رضي الله عنه، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3795).
[18] صحيح البخاري: كتاب الاستقراض (2397)، صحيح مسلم: كتاب المساجد (589) عن عائشة رضي الله عنها.
[19] المراسيل (131) عن القاسم بن مخيمرة، وأخرجه ابن المبارك في الزهد (625)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1721).
[20] أخرجه البخاري في بدء الوحي (1)، ومسلم في الإمارة (1907) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[21] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1479) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في الزكاة (1039).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ العالمين، الرّحمن الرحيم، أحمدُه سبحانه وأشكره أن هدانا للصّراط المستقيم، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريك له العظيم الحليم، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، الصّدقة لها معنًى واسع، فهِي تشمَل عملَ كلّ خير، إرشادُ الضالّ، إماطةُ الأذى، العدلُ بين اثنين، التبسّم في وجه أخيك المسلم، غرسُ شجرة، تعليمُ علمٍ نافع، إصلاح ذات البَين، الكلمَة الطيّبة صدقة، قال رسول الله : ((على كلّ مسلمٍ صدقة)) ، فقالوا: يا نبيَّ الله، فمن لم نجد؟ قال: ((يعمل بيده فينفَع نفسَه ويتصدّق)) ، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: ((يعين ذا الحاجةِ الملهوف))، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: ((فليعمَل بالمعروف وليمسك عن الشرّ، فإنّها له صدقة)) أخرجه البخاري [1].
الإمساك عن الشرّ صدقةٌ، خاصّة في هذا الشّهر المبارك الذي تهفو فيه القلوب إلى بارئها خوفًا وخشيَة، يمسِك المسلم عن الشرّ طلبًا للأجرِ وابتغاءً للفضل. بينما يستمرِئ من لا خلاقَ لهم المعصية، وينتهِكون حرمةَ هذا الشّهر الذي يصفَّد فيه مردةُ الشياطين، وأفظعُ من ذلك الذين يتطاوَلون على ثوابتِ الدّين ومسلّماتِه، يجعَلون من هديِ المصطفَى مادّةَ سخريّة واستِهزاء، يشوّهون سنّة اللّحية وينفّرون من أحكام الدّين كالحجاب، ويميّعون الدّينَ مع الهمزِ واللّمز للصّالحين من المؤمنين، باسم التسليةِ والتّرفيه وتقويمِ المجتمع. وهل يقوَّم المجتمع بتسفيهِ الحجاب واحتقار المَحرَم ودغدَغة مشاعرِ المرأة بالتمرّد على قوامَة الرّجل؟! إنّ هذا الفعلَ عواقبُه وخيمة، وضررُه عظيم في الدّنيا والآخرة.
ندعو الجميعَ إلى التّوبة في شهر التّوبة والإنابة في شهر الأوبَة، حتى يرفعَ الله ما حلَّ بنا من قحطٍ وشدّة وجدب وما نزل بأمّتنا من ذلٍّ وهوان، قال تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
ألا وصلّوا ـ عبادَ الله ـ على رسولِ الهدى، فقد أمَركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولِك محمّد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1445) عن أبي موسى رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في الزكاة (1008).
(1/2814)
من فقه الزكاة – المفسدون في الأرض
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, الفتن
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
12/9/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفاوت الناس في الرزق. 2- فرضية الزكاة. 3- فوائد الزكاة. 4- الأموال الزكوية. 5- زكاة النقدين. 6- زكاة عروض التجارة. 7- زكاة الأراضي والعقارات. 8- زكاة الأسهم. 9- زكاة السيارات والدور المؤجّرة. 10- مصارف الزكاة. 11- تقديم ذوي الحاجات والأقارب. 12- وعيد مانع الزكاة. 13- تحريم السعي في الأرض بالفساد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، إنّ اللهَ جلّ وعلا حكيمٌ عليم عندما جعل خلقَه متفاوتين في الرّزق، فمِن موسَّعٍ عليه ومنهم من دون ذلك ابتلاءً وامتحانًا، وسّع على بعضِ خلقِه فأعطاهم من أصنافِ المال ما أعطى ليبتليَه هل يقوم بشكرِ هذه النّعمة، فيشكر اللهَ على هذه النّعمة ويؤدّي حقّها ويقوم بواجبها، ويعلم حقًّا أنّها من الله فضلاً وإحسانًا وكرمًا؟ ومن عبادِ الله من ضُيِّق عليه في رزقه ابتلاءً وامتحانًا، هل يصبر ويرضى أم يتسخَّط؟ فَأَمَّا ?لإِنسَـ?نُ إِذَا مَا ?بْتَلـ?هُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ?بْتَلَـ?هُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ كَلاَّ [الفجر:15-17]، ليس من وسّعنا عليه في الرّزق دليلاً على الرّضا، ولا من ضُيّق عليه دليل على السّخَط، ولكنّه الابتلاء والامتحان.
حبّ المال غريزَة في نفوس البشر، وَتُحِبُّونَ ?لْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، وَإِنَّهُ لِحُبّ ?لْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8].
أيّها المسلم، إنّ الله جلّ وعلا افترض الزّكاةَ في أموال الأغنياء ابتلاءً وامتحانًا، فالمؤمن الصّادق آمن بفرضيّة الزكاة، آمن بها إيمانًا جازمًا، إيمانًا صادقًا، علم أنّها الرّكن الثالث مِن أركان دينِه، وأنّ إسلامَه لا يكمُل ولا يستقيم إلاّ بأداء هذه الفريضة. إذًا فهو مؤمنٌ بفرضيّتها، مصدّق موقن، ثمّ مع هذا الإيمان ينفّذ حقيقةَ هذا الإيمان، فيخرِج زكاة ماله طيّبةً بها نفسُه، قريرة بها عينُه، يحمد الله ويثني عليه عند إخراجها، لماذا؟ لأنّه تدبَّر وتفكّر ورأى نِعَم الله عليه وفضلَه عليه وإحسانَه إليه، فشكر الله على نعمتِه وعلى فضلِه وإحسانه، فطابت نفسه بأداء تلك الزّكاة، وحمِد الله على نعمةِ الغنى والفضل، ثم حمده تعالى أيضًا على أن شرح صدرَه لأداء هذه الزّكاة، لإخراجها، لإيصالها إلى مستحقّيها.
أيّها المسلم، فريضة الزّكاة أمرٌ مستقرّ لدى المسلمين، دلّ على ذلك كتاب الله وسنّة محمّد وأجمع المسلمون على هذا إجماعًا قطعيًّا لا اختلافَ بينهم فيه، وأنّ منكِرَ وجوبها أو الجاحدَ لها هذا بلا شكّ مرتدّ عن الإسلام ليس من المسلمين، ومن شكَّ فيها أو في وجوبِها فإنّه ضالّ مضِلّ ليس من المسلمين، فلا بدّ من إيمانٍ جازم بها، إيمانًا صادقًا لا يعتريه شكّ ولا ارتياب.
يقول الله جلّ وعلا : وَأَقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ وَآتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَ?رْكَعُواْ مَعَ ?لرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، وقال: وَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَمَا تُقَدّمُواْ لأنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:110]، وقال: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَذَلِكَ دِينُ ?لقَيّمَةِ [البينة:5]، وبيّن جلّ وعلا فضلَ هذه الزكاة وفوائدها فقال: خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَو?تَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ [التوبة:103]، خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً بمعنى الزّكاة المفروضة، تُطَهّرُهُمْ فالزكاة تطهِّر قلب المصلّي وتزكّي نفسَه، تطهّر قلبَه من مرض النّفاق والارتياب، تطهِّر قلبَه من داء الشحّ والبخل والأنانية، تطهّر مالَه فتزيل شوائبَه، فيبقى المال مالاً طاهرًا نقيًّا، وهي تزكِّي أخلاقَه وتزيد في ماله، ((وما نقصت صدقةٌ من مال)) [1] ، بل تزيده، بل تزيده.
أيّها المسلم، ونبيّنا يبيّن الأركانَ التي بُني الإسلام عليها فيقول: ((بنِي الإسلام على خمس: شهادةِ أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا عبده ورسوله وإقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة وصوم رمضان وحجِّ بيت الله الحرام)) [2].
أيّها المسلم، في إخراجِ الزكاة مصالحُ وفوائد تعود على الفردِ المزكّي وتعود على المجتمع المسلم وعلى الأفرادِ الذين أخذوا الزّكاة.
أيّها المسلم، إنّ الزكاة مواساةٌ من الأغنياء لإخوانِهم الفقراء، مواساة لهم وتضميدٌ لجراحهم وإسعاف لهم في مهمّاتهم وملمّاتهم.
إنّ أداءَ الزكاة يقوّي الروابطَ بين أفرادِ المجتمع المسلم، بين غنيّه وفقيره، يقوّي الروابطَ بينهم، فالنفوس مجبُولة على حبِّ من أحسن إليها، وعلى مودّة من أحسنَ إليها. إذًا فإذا أدّى الأغنياء زكاةَ أموالِهم لإخوانِهم الفقراء تقوّت أواصرُ المودّة وارتبَط الجميع بعضه ببعض. ومِن فوائدِها تقليص الجرائمِ وإغناء النّفوس عن التطلّع إلى طلبِ المال بالوسائل المحرّمة. ففيها تقوية الأواصر، وفيها تقليصٌ للجرائم وإغناء النفوس بالحلال عن الحرام، وفيها شكر الله والثناءُ عليه والاعتراف له بالفضل والإحسان.
أيّها المسلم، الزّكاة ليست مِنّةً منك ولا مجرّد تفضّل منك، ولكن حقٌّ أوجبَه الله في مالك، افترض عليك أداؤه، فأدِّ تلك الزكاةَ عن نفسٍ طيّبة، واحمد الله على هذه النّعمة، فهي ليست تفضّلاً، ولكن حقوق واجبة وفريضة مفروضة في مالك ليُمتحَن بها إيمانك، هل أنت مؤمن حقًّا تخالف هوى النّفوس ومشتهياتِها، فتقدّم تلك الزكاةَ طاعةً لله والتماسًا لثوابه؟
أيّها المسلم، إنّ الزكاةَ لم تأتِ لإجحاف أموالِ الأغنياء واقتطاع أموالهم، لا، وإنّما جاءت لتعود على أموالهم بالخير والبركة، فهي لا تنقص الأموال وإن نقَص العدد، لكن البركةَ تحلّ في ذلك المالِ الذي أُدّي فيه الزّكاة. فهي تحصّن المالَ بتوفيق الله مِن الكوارث والحوادث، وفي الأثر: ((حصِّنوا أموالكم بالزّكاة)) [3].
أيّها المسلم، أوجَب الله الزّكاة في أنواعٍ من الأموال، أوجبها في الخارج مِن الأرض من الحبوب والثّمار المكِيلة المدَّخَرة إذا بلغت نصابًا خمسةَ أوسُق، أوجبها في بهيمةِ الأنعام من الإبلِ والبقر والغنَم إذا بلغت النصابَ ومضى عليها حولٌ، أوجبها في عروض التّجارات، أوجبها في النّقدين من الذّهب والفضّة.
هذه هي أصنافُ الأموال التي تجب فيها الزّكاة، فلم يوجِبها الله في مقتنيات الإنسان من فُرُش وأواني ومراكِب ومساكن، وإنّما أوجبها في الأموال النّامية التي يقصَد من خلالها نموّ المال وزيادته.
أيّها المسلم، أوجَبها الله عليك في النّقدين الذّهب والفضة أو الأوراقِ النّقدية القائمة مقامها، فهي تمثّلها وتقوم مقامَها، فلا بدَّ من زكاةٍ فيها. وجعل رسول الله نصابَ الفضّة مائتي دِرهم إسلاميّ، ما يعادل ستّة وخمسين ريالاً عربيًّا سعوديًّا، ونصابَ الذهب عشرين مثقالاً إسلاميًّا، ما يعادل أحدَ عشر جُنَيهًا وثلاثة أسباع جنَيه سعوديّ، هذا هو نصاب النّقدين الذّهب والفضّة، فيجِب على المسلم أن يُخرجَ ربعَ عشر النّقدين الذهب والفضّة، ومقداره اثنان ونصف في المائة، خمسة وعشرون ريالاً في الألف.
أيّها المسلم، أوجب الله عليك الزّكاةَ في عروض التّجارة، وهي السّلَع التجاريّة المعدَّة للبيع على اختلافِ أصنافها وأنواعها، قال سمرة بن جندب رضي الله عنه: أمرنا رسول الله أن نخرجَ الزكاة ممّا نعدُّه للبيع [4]. فكلّ ما أعِدّ للبيع وجَب على المسلمِ أن يقوّمَه عند الحَول، فيزكّيه بإخراج رُبع عشر قيمته. فالسِّلع التجاريّة على اختلافها وتنوّعها؛ موادّ غذائيّة أو أثاثًا أو غير ذلك، سِلعًا مختلفة من جميع أنواع السِّلع يقوّمها مالكها عندَ الحَول، فيقوّم الموجوداتِ في مسكنه أو معرضه، يقوّم الموجود كلَّه، فيزكّيه بإخراج رُبع عشر قيمتِه الشرائيّة دونَ أن ينظر إلى قيمتِه الأصليّة هل وافقت ذلك أو نقصت؟ إنّما المهمّ أن يقوّم الموجودات عندَه عند رأس العام، أي: عند الشّهر الزّكويّ الذي حدِّد لزكاة أمواله، فيقوّمها ويُخرِج ربعَ عشر قيمتِها على اختلافِ تلك السّلع وتنوّعها، ملابس أو غيرها، أواني أو أراضي أو غير ذلك مِن الممتلكات؛ لأنّه اقتناها بنيّة التجارة ونيّة الاستفادة منها، فيجب أن يقوّمَها على رأسِ الحول ويخرجَ ربعَ عشر قيمتها.
أيّها المسلم، البعضُ قد يتساءل في هذا ويودِع أموالَه في أراضٍ مثلاً، ويقول: لا أريد بيعَها لهذا العام ولا للأعوام الآتية، إذًا لماذا وضعتَ النقود فيها؟ يقول: أريد بها حفظَ مالي، فيقال: هذا مقصودٌ به التّجارة من قريبٍ أو بعيد، فيجب أن تقوّمَه وأن تخرجَ ربعَ عشر قيمتِه.
أيّها المسلم، جميع السِّلَع التجاريّة أراضي كانت أو موادّ بناء أو مواد غذائيّة أو ملابس أو أواني، بل كلّ ما عُرض للبيع فإنّك تقوّم الموجوداتِ عندك على رأس العام، فتخرج ربعَ عشر قيمتها الشرائيّة الحاضرة، هذا هو الواجب عليك.
أيّها المسلم، إنّ هذه الزكاةَ حقّ لله، فيجب أن تتّقي الله في إخراجها، وأن تحاسبَ نفسك، فتعدّ رصيدَك البنكيّ، وتعدّ عروض التجارة الموجودة، فتزكيها بإخراج ربعِ عشر قيمتها.
أيّها المسلم، قد تكون الأموال ليست في سلَع ولا ممتلكات، ولكنّها أسهمٌ متداوَلة خاضعة للعَرض والطلب، دائمًا تساهِم وتعرِض أسهمَ المال، تشتري عندَ هبوط الأسعار، وتبيع عند ارتفاع الأسعار، فنقول: أيّها المسلم، هذه الأسهم التي بهذه الصّورة يجب أن تزكّيها بقيمتِها الحاضرة عند مضيّ الحول بإخراج ربعِ عشر قيمتِها، أمّا لو كانت الأسهمُ مجمّدةً للاستفادة فقط من أرباحها فالأرباح تزكَّى بعد قبضِها إذا مضى عليها سنَة. وأمّا أسهمٌ متداوَلة خاضِعة للعرض والطّلب، تشتَرَى عند النزول وتُباع عند ارتفاع السّعر، فهذه تزكِّيها بإخراجِ رُبع عشر قيمتِها عند الحول؛ لأنّها عبارةٌ عن مال تملكه بيدِك.
أيّها المسلم، ما في منزلك من أثاثٍ وأواني وسيّارات ومسكن هذه لا زكاةَ فيها، يقول : ((ليس على المسلم في عبدِه ولا فرسه صدقة)) [5].
السّيارات التي للأجرة إنّما يُزكَّى أجرتُها إن مضى عليها سنَة دون استهلاكها. المصانع القائمة لا تزكَّى. العمارات المؤجّرة لا تزكَّى أعيانها، إنّما تزكّى أجرتها إذا مضى عليها سنَة بعد عقد الإجارة، أمّا أعيانها فإنّها لا تزكَّى إلا إذا كانت معدَّةً للتجارة، فتقوّمها عند رأس الحول. الأراضي المختلِفة تزكّى إلاّ إذا اشتريتَها واقتنيتَها لأجل سكنٍ عليها أو لأجل استثمارها، أمّا إذا كان الشراء لقصد الانتفاع من قيمتِها عند غلاءِ السّعر فهذه تزكَّى، فإنّها عروض تجارة.
أيّها المسلم، هذه الزّكاة أمانةٌ عندك، والله سائلك عنها: هل أخرجتَها كاملةً؟ هل أوصلتها وأدّيتَها إلى مستحقّيها؟ فإنّ الله تعالى لم يترك الزّكاةَ لأمورِ الخلق، ولكنّه تعالى قسمها بنفسه، فلم يكِلها إلى ملَك مقرَّب ولا نبيّ مرسَل، قال تعالى: إِنَّمَا ?لصَّدَقَـ?تُ لِلْفُقَرَاء وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْعَـ?مِلِينَ عَلَيْهَا وَ?لْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى ?لرّقَابِ وَ?لْغَـ?رِمِينَ وَفِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60]. فقسّم الله الزكاةَ إلى هؤلاء الأصنافِ، فهم محلّ الزّكاة: الفقراء الذين لا يجِدون كفايةً أو يجدون ولكن أقلّ من كفايتِهم فيعطَون من الزّكاة ما يكفيهم لعامِهم، المسكين الذي يجِد نصفَ كفايته ونحو ذلك يُعطَى ما يكمّل به كفايتَه، هؤلاء الفقراء والمساكين يُعطَون من الزّكاة ما يكفيهم، شريطةَ أن يكونوا عاجزين عنِ العمل، لا قدرةَ لهم على الاكتساب، ولا يستطيعون التحرّك، فإن كانوا قادرين على العمل بأبدانهم، أصحّاءَ الأبدان، قادرين على الاكتساب، فلا ينبغي أن نعينَ الكسلانَ على كسلِه.
نبيّنا أرحم الخلق بالخلق جاءه رجلان يسألانِه الصّدقة، فقلِّب فيهما النّظر، فرآهما جلدَين أي: قويّين، قال: ((إن شئتما أعطيتكما، ولا حظَّ فيها لغنيٍّ ولا لقويٍّ مكتسِب)) [6] ، وقال أيضًا: ((لا تزال المسألة بأحدِهم حتّى يلقى الله وليس في وجهِه مزعة لحم)) [7] ، وقال أيضًا : ((مَن سأل النّاس تكثُّرًا فإنّما يسأل جمرًا، فليستقلَّ أو ليستكثِر)) [8] ، وقال: ((إنّ هذا المال حلوَة خضِرة، فمن أخذه بسماحةِ نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشرافِ نفسٍ لم يُبارَك له فيه، وكان كمن يأكل ولا يشبَع)) [9].
أيّها المسلم، ويُعطَى من الزّكاة الغارمون، والغارمون هم [أولاً: من] غرِم لمصلحة الأمّة، بأن أصلحَ بين الفئاتِ المتنازعة والقبائل المتناحِرة، ودفع من مالِه ما أصلحَ به الخلاف، فيُعطَى لأنّ أمرَه عامّ، حتى ولو كان غنيًّا. ثانيًا: م َ ن غر ِ م لمصلحة ِ نفسه، فتحمّل ديونًا في ذم ّ ته، فيُعان من الز ّ كاة ما يقض ِ ي به دين َ ه، ولكن لا ينبغي أن نعوّ ِ دَ من يتلاعب بحقوق الن ّ اس ويستدين وي ُ همل، وإن ّ ما يُعط َ ى من استدان لأمر ٍ ما لأجل الضرورة والحاجة، فهذا هو الغارم الذي يُعط َ ى من الز ّ كاة ما يعينه على قضاء دين ِ ه.
أي ّ ها المسلم، ويُعط َ ى ابن الس ّ بيل الذي انقطع عن بلد ِ ه ما يوص ِ له، ويعط َ ى في سبيل الله المجاهد ون لإعلاء دين الله.
قال العلماء: الزكاة لا تُبن َ ى بها الم س اجد، ولا تُطب َ ع منها الكتب، ولا يكفّن منها الموتى، ولكن ّ ها لأصناف ٍ خاص ّ ة يجب أن نقتص ِ ر على ذلك كما بيّن الله في كتابه.
أي ّ ها المسلم، لا يجوز أن تسق ِ ط الدين َ في ذمّة الفقير وتعتب ِ ره من الز ّ كاة، لأن ّ الزكاة أخذ ٌ وإعطاء.
أي ّ ها المسلم، خُصَّ بزكات ِ ك ذوي الحاجات الذين قال الله فيهم مبيِّنًا حال َ هم: يَحْسَبُهُمُ ?لْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ ?لتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَـ?هُمْ لاَ يَسْئَلُونَ ?لنَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273]، وفي الحديث: ((ليس المسكينُ الذي تردّه اللّقمة واللّقمتان، إنّما المسكين الذي لا يجد غنًى يغنيه، ولا يفطَن له فيتصدّق عليه، ولا يسأل النّاس فيعطوه)) [10]. هذا هو المسكين الذي لا يعرف الن ّ اس حال َ ه، والذي لا يسأل، والذي لا يج ِ د ما يغنيه.
أي ّ ها المسلم، احذ َ ر من هؤلاء ال ذ ين يتعلّلون ويظه ِ رون عاهاتٍ وأمراضًا والله معافيهم منها، فإنّ إعطاء َ هم عونٌ لهم على جريمتهم.
أي ّ ها المسلم، خُصَّ بزكاتك أقارب َ ك الفقراء من أرحام ِ أمّك وأبيك، فإن وُجد فيهم فقير فهو أحقّ بها من غيره ل أنّه قال: ((الصّدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرّحم اثنتان: صدقة وصِلة)) [11].
ابح َ ث عن المعو ِ زين من أيتام ٍ وأرامل وعاجزين عن العمل ِ حت ّ ى تقع الزكاة موقع َ ها بتوفيق ٍ من الله.
أي ّ ها المسلم، اشكر الله على أن جعلك يدًا معطي َ ة، ولم تكن يدًا آخذة، اشكر الله على فضل ِ ه وإحسانه، واحمده على توفيقه وإعانت ِ ه لك في إخراج زكاة مالك، فإن ّ ها بلاء، والشيطان يثب ِّ ط ابن َ آدم عن هذا، ?لشَّيْطَـ?نُ يَعِدُكُمُ ?لْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِ?لْفَحْشَاء وَ?للَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].
أدِّ زكاةَ مالك، وحاسب قبل َ أن تُحاسب على ذلك، قبل أن تُحس َ ب عليك يوم َ لقاء الله، واحذ َ ر البخل َ والشح ّ بها، فإن ّ هذا بلاء عظيم.
اسم َ ع ـ أخي المسلم ـ الوعيد َ الش ّ ديد لمن تهاون بأمر ِ الز ّ كاة، يقول الله جل ّ وعلا: وَلاَ يَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [آل عمران:180]، شجاع ٌ أقرع يأخذ بلِهزم َ تيه يقول: أنا كنز ُ ك أنا مالك، والله يقول : وَ?لَّذِينَ يَكْنِزُونَ ?لذَّهَبَ وَ?لْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ?للَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى? عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى? بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـ?ذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35].
بيّن النبي ّ ذلك بقوله: ((ما مِن صاحبِ ذهبٍ ولا فضّة لا يؤدّي منها حقّها إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّحت له صفائح من نار، فأحمِيَ عليها في نار جهنّم، فيكوَى بها جنبه وجبينه وظهرُه، كلّما بردت أعيدَت عليه، في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ حتى يرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار)) ، قالوا: فالإبل يا رسول الله؟ قال: ((ولا صاحب إبِل لا يؤدّي منها حقَّها إلا إذا كان يوم القيامة بطِح لها بقاعٍ قَرقَر، لا يُفقد منها فصيل واحد، تطؤه بأخفافها وتعضّه بأفواهها، كلّما مرّ عليه أُولاها رُدَّ عليه أُخراها، في يومٍ كان مقداره خمسين ألفَ سنة حتى يرى مصيره إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار)) ، قيل: فالبقر والغنم؟ قال: ((ولا صاحب بَقر ولا غنمٍ لا يؤدّي منها حقّها إلا إذا كان يوم القيامة بُطِح لها بقاعٍ قرقر، ليس فيها عقصاء ولا جَلحاء ولا عضباء، تنطحُه بقرونِها وتطؤه بأظلافِها، كلّما مرّ عليه أولاها رُدَّ عليه أُخراها، في يومٍ كان مقداره خمسين ألفَ سنة حتى يرى مصيرَه إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار)) [12].
فيا مَن منَّ الله عليه بالمال، احم َ د الله وأدِّ الحق َّ الواجب، ولا تتهاون فتلقى الله بالت ّ ب ِ عات، فينتفع ُ به غيرك وتشقى به يوم َ القيامة عياذًا بالله من الخسران.
أدّوا زكاة َ أموالكم، وأوص ِ لوها إلى المستحق ّ ين، وات ّ قوا الله في هذا كل ِّ ه لعل ّ كم تفلحون، يقول الله جل ّ وعلا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ عَنِ ?للَّغْوِ مُّعْرِضُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَو?ةِ فَـ?عِلُونَ [المؤمنون:1-4].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإي ّ اكم بما فيه من الآيات والذ ّ كر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ّ ه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في البر (2588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (8)، ومسلم في الإيمان (16) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه.
[3] أخرجه الطبراني في الأوسط (1963) والكبير (10/128)، وابن عدي في الكامل (6/341)، وأبو نعيم في الحلية (2/104، 4/237)، والقضاعي في مسند الشهاب (691)، والبيهقي في الكبرى (3/382) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقال البيهقي: "إنما يعرف هذا المتن عن الحسن البصري عن النبي مرسلا"، ورجح إرساله ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/494)، وقال المنذري في الترغيب (1/301): "المرسل أشبه"، وقال الهيثمي في المجمع (3/64): "فيه موسى بن عمير الكوفي وهو متروك"، وأورده الألباني في ضعيف الترغيب (456).
[4] أخرجه أبو داود في الزكاة (1562)، والبيهقي في الكبرى (4/146)، وضعفه ابن حزم في المحلى (5/234)، والهيثمي في المجمع (3/69)، والألباني في تعليقه على المشكاة (1811).
[5] أخرجه البخاري في الزكاة (1464)، ومسلم في الزكاة (982) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه أحمد (17972)، وأبو داود في الزكاة (1633)، والنسائي في الزكاة (2598)، والبيهقي في الكبرى (7/41) عن عبيد الله بن عدي أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي يسألانه من الصدقة... الحديث، قال أحمد ـ كما في التلخيص (3/108) ـ: "ما أجوده من حديث"، وصححه الألباني في الإرواء (876).
[7] أخرجه البخاري في الزكاة (1475)، ومسلم في الزكاة (2540) واللفظ له من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[8] أخرجه مسلم في الزكاة (1041) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في الزكاة (1472)، ومسلم في الزكاة (1035) من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في الزكاة (1479)، ومسلم في الزكاة (1039) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] أخرجه أحمد (4/214)، والترمذي في الزكاة (658)، والنسائي في الزكاة (2582)، وابن ماجه في الزكاة (1844) من حديث سلمان بن عامر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3514)، والحاكم (1/431-432)، ووافقه الذهبي، لكن في السند الرباب بنت صليع الضبية الراوية عن سلمان، قال الذهبي في الميزان (7/468): "لا تعرف إلا برواية حفصة بنت سيرين عنها"، وقال ابن حجر في التقريب (8582): "مقبولة".
[12] أخرجه مسلم في الزكاة (987) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أم ّ ا بعد: يقول الله جل ّ وعلا في كتابه العزيز: قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِ?لأخْسَرِينَ أَعْمَـ?لاً ?لَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104].
هذه الآية عندما يتأم ّ لها المسلم ويتأم َّ ل بعضَ أحوال الن ّ اس الذين سعي ُ هم في ضلال وخس َ ارة، وتصرُّفاتهم كل ّ ها تصر ّ فات باطلة ٌ وتصر ّ فات تخال ِ ف شرع َ الله ودين َ ه، ومع هذا يظن ّ ون أنّهم يحس ِ نون ص ُ نع ً ا، ويحسبون أن ّ هم على حق ّ ، والواقع أن ّ هم على باطل ٍ وضلالة، فم ِ ن المصيبة انتكاس ُ الف ِ طَر، وأن ّ العبد َ يرى الباطل حق ّ ًا والحق ّ باطلاً، أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَنًا فَإِنَّ ?للَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء [فاطر:8].
إذا انتكس َ ت الفطرة فرأى الباطل َ حق ّ ًا ورأى الحق ّ باطلاً فتلك المصيبة العظيمة ُ والبلي ّ ة الكبيرة، أن يتصوّر الباطل والسعي َ في الباطل، يتصوّر أن ّ ه حق ّ ، وأن ّ ه على هد ً ى في تصر ّ فاته، ولا يعلم المسكين أن ّ تصرفات ِ ه كلَّها خاط ِ ئة خارجة عن منهج الله، سعي ٌ في الأرض فسادًا.
أي ّ ها المسلم، إن ّ الله جل ّ وعلا من حكمت ِ ه أن يكشف َ أهل َ الإجرام على حقيقتهم، وأن يبيّن باطل َ هم، فمن أسرّ سريرة ً ألبسه الله رداء َ ها علانية، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًا فشر ّ ًا.
هؤلاء الذين اعتنقوا هذه المبادئ َ الهدّامة والأفكار السي ّ ئة والآراء الشاطّة الخارج َ ة عن منهج الله، تبيّن فسادُ تصو ّ رهم ونواياهم السي ّ ئة، وذلك أن ّ هم أتوا إلى أشرف ِ بقعة ٍ على وجه الأرض، التقى فيها فئات ٌ كثيرة من المسلمين، صائمون مصل ّ ون مطيعون، فأراد َ أولئك المجرمون أن يكدِّروا على أهل ِ الخير خير َ هم، وعلى أهل العبادة ِ عبادت َ هم، وعلى أهل ِ الص ّ فاء والخير صفاء َ نفوسهم وطيب َ قلوبهم، لماذا اختاروا هذه البقعة المشر ّ فة وهذا المكان الطاهر؟ أل ِ خير ٍ يريدون؟ لا والله، ليس لهم هدفٌ صالح ولا مقص َ د حسن، ولكن الشيطان استحو َ ذ عليهم، فأنساهم ذكر َ الله وصدّهم عن طريق ِ الله المستقيم.
ليحذ َ ر المسلم أن يتماد َ ى في خطئ ِ ه، وأن يتمادى في ضلال ِ ه، وأن يلجّ في طغيان ِ ه، ليحذر المسلم أن يلق َ ى الله َ على هذا المنهج ِ السي ّ ئ والفكر الخاطئ.
إن ّ احترام َ الدماء واحترام َ الأموال والأعراض وأمن ِ الأم ّ ة أمر مطلوب من كل ّ مسلم، وإن ّ من يسعى في الأرض فسادًا ويساع ِ د المجرمين ويكون مطي ّ ةً لأعداء الإسلام ليقض ُ وا به وط َ رَهم وينف ّ ذوا عليه أغراض َ هم لدليل ٌ على ضعف ِ إيمانه وقل ّ ة بصيرته.
أي ّ ها المسلم، إن ّ الله حرّم دماء َ الأم ّ ة وأموالها، ((إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام)) [1].
هؤلاء الفئة ُ المجرمة انتهى ببعضهم المطاف إلى أن قتلوا أنفس َ هم والعياذ بالله، وعجّلوا بأنفس ِ هم لعذاب الله، ومن قتل نفس َ ه بشيء ٍ عُذِّب به يوم َ القيامة، وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29].
فلفساد ِ التصو ّ ر وقل ّ ة الإيمان وضعف ِ البصيرة أقد َ موا على ما أقدموا عليه، هذا والعياذ بالله دليل ٌ على فساد ِ القلوب ومرض ِ ها وأن ّ الباطل تركّ َ ز في نفوسهم حت ّ ى ظنّوا أن ّ الباطل َ والفساد حق ّ وصلاح، والله يقول: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا [الأعراف:56].
فليستيق ِ ظ المسلم من غفلتِه، وليت ُ ب إلى رب ّ ه، وليتب إلى الله من خطئ ِ ه وزلَلِه، وليُع ِ د محاسبة َ نفسه، هل هذا الطريق الذي سلكه طريق ٌ يحب ّ ه الله ورسوله أم طريق يبغ ِ ضه الله ورسوله؟ ومن تدبّر وتعقّل بإيمان وبصيرة عل ِ م أن ّ هذه الط ّ رق طرق ُ بلاء ٍ وفساد وشر ّ وف ِ تنة والعياذ بالله، وأن ّ ها أمور تخض َ ع لأعداء ِ الإسلام، يسي ّ رون َ هم كيف يشاؤون، يأمرونهم بما لا خير َ فيه، فل ِ ضعف البصيرة ِ تصوّروا الباطل َ حق ّ ًا والحق َّ باطلاً.
فليحذ َ ر المسلم، وليعل َ م أن ّ هذه الفتنَ والبلايا إن ّ ما تصدر ما ب ي ن جاهل ٍ لا يميّز حق ّ ًا من باطل وما بين ـ والعياذ بالله ـ م َ ن امتلأ قلبه ح ِ قدًا وكراهية للإسلام وأهل ِ ه، غاظه ما يرى م ِ ن أمنٍ واست ِ قرار ور َ غدٍ وطم َ أنينة، فيريد ـ والعياذ بالله ـ أن يجعل َ بلاد َ الإسلام تعيش فوض ً ى وف ِ تنًا، كما حلّ بغيرهم من هذه البلاد، ولكن نسأل الله أن يوف ّ ق الجميع َ لما يرضيه، وأن يعين َ قادة َ الأم ّ ة وأن يوفّقهم للقيام بالواجب، وأن يعين َ هم على كل ّ خير، ويرزق َ هم دائمًا اليق َ ظة والانتباه َ لاحتواء ِ هذه الأخطار وللقضاء على أهلِها، حت ّ ى يكفّ شرُّهم ويسل َ م المسلمون من ضرر ِ هم.
لا بد ّ للمسلم إذا عل ِ م من بعض أولئك أن يبيّ ِ ن له الحق َّ ويحذّره من الل ّ جاج في الباطل، ويبيّن له حرمةَ دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وأن ّ الس عيَ في الفساد ليس َ م ِ ن الإيمان، بل منهج ٌ بعيد عن منهج ِ الحق ّ واله ُ دى، ففي شهر ِ رمضان شهر ِ الص ّ يام والقيام وتلاوة القرآن يسعى المسلم في الخير، ويدعو إلى الخير، لا يكون في هذا الش ّ هر عونًا للمجرمين، وعونًا للمنحرفين، وعونًا للمفسدين، لا، بل المسلم بعيد ٌ كلَّ الب ُ عد عن هذا، ((المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويدِه، والمؤمن من أمِنه المسلمون على دمائهم وأموالهم)) [2].
فنسأل الله أن يوفّق المسلمين جميعًا للف ِ قه في دينه، وأن يجن ِّ بهم هذه الآراء الش ّ اطّة والأفكار المنحر ِ فة التي لا ص ِ لة لها بدين ِ نا، لا صلة َ لها بإسلامنا، بل ديننا براء ٌ من هذه الأمور كلِّها ومن أهل ِ ها، لأن ّ ها أمور تخالف الشرع، لا يرتاب مسلم في هذا، أن ّ ها أمور تخال ِ ف الشرع، وأن ّ ها معصية لله ورسوله، وأن ّ ه اعتناق لمذهب الخوارج ِ المنحرف الذين استحلّوا دماء َ المسلمين وأموال َ هم بمجر ّ د أخطاء زعموا أنّها أخطاء ومخالفة، وكلّ هذه فرق ٌ ضال ّ ة، المسلم دائمًا يسعى في الخير جُهدَه، ويأمر بالخير جهد َ ه، وينهى عن الشر ّ جهدَه، لكن ّ ه لا يعرّض الأم ّ ة للأخطاء، ولا يسعى في الأرض فسادًا، بل هو المصلح والد ّ اعي إلى الخير، متجنّب للفساد، يأمر بالخير ويدعو إليه، هكذا حال المؤمن ِ الص ّ ادق.
نسأل الله للجميع الثبات َ على الحق ّ والاستقامة َ على الهدى، وأن يجن ِّ ب بلاد َ المسلمين الفتن َ ما ظهر منها وما بطن.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصل ّ وا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محم ّ د كما أمركم بذلك ربكم : إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم ّ صل ِّ وسل ِّ م وبارك على عبدك ورسولك محم ّ د، وارض اللهم ّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في الحج (1218) من حديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي.
[2] أخرجه أحمد (2/379)، والترمذي في الإيمان (2627)، والنسائي في الإيمان (4995) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (180)، والحاكم (22)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2118)، والجزء الأول منه في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو وأبي موسى وجابر رضي الله عنهم.
(1/2815)
أعمال القلوب
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
19/9/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مواسم الخيرات. 2- فضائل شهر رمضان. 3- ضرورة العناية بأعمال القلوب. 4- أهمية أعمال القلوب. 5- الإحسان والمراقبة. 6- حقيقة الخشوع وفضله. 7- إعلان النكير على حادث التدمير والتفجير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتّقوا الله رحِمكم الله، واجعَلوا مراقبتَكم لمن لا تغيبون عن ناظرِه، واصرِفوا شكرَكم لمن لا تنقطِع عنكم نعمُه، واعملوا بطاعةِ من لا تستغنون عنه، وليكُن خضوعكم لمن لا تخرجُون عن ملكِه وسلطانه، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:235].
أيّها المسلمون، امتنَّ الله على عبادِه بمواسمَ خيرات وأيّامٍ مباركات، تضاعَف فيها الحسنات وتمحَى فيها السيّئات، مواسم ومناسبات يتسابَق فيها المتسابقون ويتنافس فيها المتنافسون، قد أفلح فيها ـ والله ـ من تزكّى، وخابَ من أخلَد إلى الأرض وآثَر الحياة الدّنيا. وشهرُكم هذا ـ يا عباد الله ـ مِن أفضلِ الشهور، أنزِل فيه القرآن، تفتَّح فيه أبواب الجنّة وتغلَق فيه أبواب النار، صيامُ الصائم يشفَع له عندَ ربه، وخَلوف فمِ الصّائم أطيبُ عند الله من ريح المسك. شهرُكم هو شهر القرآن وشهر الصّدقات وشهر الجود وشهر التّراويح وقيامِ اللّيل. وَصف ربّكم أيّامه بأنّها أيّام معدودات، إشارةً إلى سرعةِ انقضائها، وتنبِيهًا إلى خفّة ظلِّها على المشمِّرين العامِلين. وها أنتُم على أبوابِ عشرِه الأخيرة، وهي أفضلُ العَشر، فهل رجعتم على أنفسِكم بالمحاسبة؟! يا باغيَ الخير أقبِل، ويا باغيَ الشر اقصر، وللهِ عتقاء من النّار. كلّما استحكمتِ الغفلة وطالَ الأمَد قلَّت هِمَم السّالكين، وضعُفت عزائمُ المتعبّدين، فكثُر الكلام وقلَّ العمل، فلا حول ولا قوّةَ إلاّ بالله العليِّ العظيم.
أيّها الإخوة في الله، وإنّ ممَّا يعين على المحاسبةِ الجادّة أن ينظرَ العبدُ في أعمالِ القلوب؛ كيفَ الحال مع تدبّر القرآن؟ وكيفَ الشّأن في الخشوع عندَ ذكرِ الله؟ مَن كانتِ الآخرة همَّه جمَع الله عليه شملَه.
عبادَ الله، أعمالُ القلوب يسأل عنها السّائلون ويتطلَّع إليها العامِلون ويشتغِل بتحصيلها وتحقيقِها المخلِصون. أعمال القلوبِ هي أصلُ الأعمال، وأعمالُ الجوارِح تابعةٌ لها ومعتمِدة عليها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أعمالُ القلوب من أصولِ الإيمان وقواعدِ الدين، مثلُ محبّةِ الله ومحبّة رسولِه محمّد والتوكّل على الله وإخلاصِ الدّين له والشّكر على نِعمه والصّبر على حكمِه والخوفِ منه والرّجاء فيما عنده"، قال رحمه الله: "والنّاس في أعمالِ القلوب ظالمٌ لنفسه ومقتصِد وسابق بالخيرات بإذن الله".
أعمالُ القلوبِ ـ أيها المسلمون ـ مِن أهمِّ الواجبات وأعظمِ القرُبات وأفضلِ الأعمال، فهي واجبةٌ مطلوبة كلَّ وقت وعلى جميعِ المكلَّفين، وهي آكَد شعَب الإيمان، وصلاح الجسَد مرتبِط بصلاحِ القلب كما في الحديثِ الصّحيح: ((ألا وإنَّ في الجسد مضغةً، إذا صلَحت صلَح الجسد كلّه، وإذا فسَدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب)) [1]. إنَّ عبوديّة القلبِ أعظمُ من عبوديّة الجوارح وأكثر وأدوَم، وصلاحُ حركاتِ جوارحِ العبدِ بحسَب صلاح حركاتِ قلبه، فإذا كان القلب سليمًا عامِرًا بمحبّة الله ومحبّة ما يحبّه الله وخشيةِ الله وخشيةِ الوقوع فيما يبغِضه الله صلَحت حركات جوارِحه كلِّها.
ومِن أجلِ مزيدِ تأمّل في هذا الأمرِ العظيم والمقامُ مقامُ محاسبة وأنتم في هذا الشّهر الكريم تتقرَّبون إلى الله بصالحي أعمالهم وتستغلّون شريفَ أيّامِكم انظُروا ـ رحمكم الله ـ في أمرَين عظيمَين لهما شأنٌ كبير في أعمالِ القلوب ودقّة المحاسبة. تأمّلوا في صفتَي الإحسان والمراقبة.
أمّا الإحسان فهو لبُّ الإيمان وروحُه وكماله، بل إنَّ صفةَ الإحسان ـ رحمكم الله ـ تجمَع جميعَ خصالِ التعبُّد ورتبِها، فالعبادَات كلُّها منوطَة بالإحسان، فالإحسان جامعٌ لجميع شعَب الإيمان وأعمالِ القلوب، وكيف لا يكون ذلك وقد بيّنه نبيّنا محمّد بقوله: ((الإحسان أن تعبدَ الله كأنّك تراه)) [2]. فأحسِنوا حفِظكم الله، فإنّ الله يحبّ المحسنين، واجتهِدوا فرحمةُ الله قريبٌ من المحسنين، وأبشِروا فهل جزاءُ الإحسانِ إلا الإحسان؟!
الإحسانُ ـ أيها الإخوة في الله ـ يقتضي من المسلمِ إتقانَ العمل إتقانَ مَن يعلم علمَ اليقين أنّ الله عزّ وجلّ مطّلعٌ عليه محيط به ومحيطٌ بعمله.
أمّا المراقبة فهي عِلم القلبِ بقربِ الربّ، ومَن راقب اللهَ في سرِّه حفِظه في علانيّته، ومراقبةُ الله في الخواطر تحفَظ حركاتِ الظواهر.
أيّها المسلمون وأنتم في هذه الأيّام الفاضِلة وعلى أبوابِ هذه العَشر الأخيرَة المباركة حيث أعظمُ ما يُرجى مِن تحرّي ليلةِ القدر، فمن قامَها إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه، والمقام مقامُ محاسبة، ويا باغيَ الخير أقبل، ويا باغيَ الشرّ اقصر. حاسِبوا أنفسَكم ـ رحمكم الله ـ في عملٍ من أعمالِ القلوب طالما اجتَهد في تحقيقِة المجتهِدون وحرص في تحصيلِه الجادّون المشمِّرون، ذلكم هو عبادةُ الخشوعِ ومقام الخشوع، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ [الحديد:16].
الخشوعُ ـ أحسَن الله إليكم ـ يجمَع التعظيمَ لله والمحبّةَ والذلَّ والانكسار، وكلّما كان القلب أشدَّ استحضارًا لعظمةِ ربِّه وجلالِه كان أشدَّ خشوعًا، وإنّما يضلّ القلبُ إذا غفَل عن اطّلاع الله عليه ونظرِه إليه. الخشوعُ هو قيام القلبِ بين يدَي الرّبِّ بالخضوع والتذلُّل والانكسار. الخشوع لينُ القلبِ ورقّته وحُرقة. وإذا خشَع القلب تبِعته الجوارح، فإذا خشَع القلب خَشع السّمع والبَصر والرّأس والوجهُ والصّوت وسائر الجوارح. وإنّ من المأثورِ الصّحيح عن نبيّنا محمّد أنّه كان يقول في ركوعِه: ((خشعَ لك سمعِي وبصري ومخِّي وعظمي)) [3] ، وفي رواية: ((وما استقلَّت به قدمي)) [4] أخرج الحديث مسلم في صحيحه. خشوعُ القلبِ سكونُه عن الخواطرِ والإرادات الرّديئة، خواطر وإرادات تنشَأ من اتّباع الهَوى ووُرود المشاغلِ والصّوارفِ فإذا خشَع القلبُ زالت مظاهرُ التعاظُم والترفُّع والكِبرياء.
أيّها المسلمون، ويتفاوَت الخشوعُ في القلب بحسَب تفاوتِ معرفتِها لربّها الذي تخشَع له، وبحسَب مشاهدةِ القلوب لصفاتِ علاّم الغيوب. فمن علِم قربَ الله منه واطِّلاعه على سرِّه وضميرِه ومراقبتَه لحركاتِه وسكناتِه استحيَى من الله حقَّ الحياء، ومن اطّلع قلبُه على جلالِ الله وعظمتِه وكمالِه زادت محبّتُه لربّه وعظم شوقُه للقائه، ومَن عرَف بطشَ الله وانتقامَه وغَيرتَه على حُرماته خافَ منه وانكسَر قلبُه بين يدَيه، قال بعض السّلف: "خشعَت قلوبُهم فغضّت أبصارهم". وأكملُ خشوع خشوعُ نبيّنا محمّد ، فقد كان إذا قامَ إلى الصّلاة خفَض رأسَه تواضُعًا لله، ولم يلتفِت، ولم يتكلّم، وكان يُسمع له أزيز وهو صوتُ البكاءِ الخافِت.
وبعد: أيّها المسلمون، راجِعوا أنفسَكم رحمكم الله، واجتهِدوا في التعرّض لنفحَات ربّكم، وتأسّوا بعبَاد الله الصالحين القانتِين الخاشِعين، يخرّون للأذقانِ يبكون، يبيتون لربِّهم سجَّدًا وقيامًا، تفيض أعيُنهم من الدّمع، تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، إذا ذكِر الله وجِلت قلوبهم وإذا تلِيَت عليهم آياتُ ربّهم زادَتهم إيمانًا، تطمئنّ قلوبهم بذكر الله. فأروا الله من أنفسِكم خيرًا في هذه الأيّام المباركة.
اللهمّ إنّا نسألك قلوبًا خاشِعة وألسنةً ذاكرة وعلومًا نافعة، ونعوذ بك من قلوبٍ لا تخشَع وأعيُن لا تدمَع ونفوسٍ لا تشبع ودعاءٍ لا يُرفَع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58].
نفعنِي الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبهديِ محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفِروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في التفسير (4777)، ومسلم في الإيمان (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (771) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
[4] هذه الرواية أخرجها أحمد (1/119)، وأبو عوانة في المستخرج (1608)، والدارقطني (1/342)، والبيهقي في الكبرى (2/87)، وصححها ابن خزيمة (607)، وابن حبان (1901)، وصححها الألباني في صفة الصلاة (133).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله لا يقول إلا حقًّا، ولا يعِد إلا صِدقًا، أحمدُه سبحانه وأشكره، من أطاعه فهو الأتقى، ومن عصاه فهو الأشقى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، تبارك تدبِيرًا وأحسَن خلقًا، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله، سيّدُ الخَلق طُرًّا وأرفعُهم ذِكرًا وأعظمُهم قدرًا، صلّى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار من المهاجرين والأنصار، والتابعين ومن تبِعهم بإحسان ما تعاقبَ اللّيل والنهار.
أمّا بعد: فإنّ العملَ الصالح هو ما باشَر القلوبَ، فأوجبَ لها السكينةَ والخشيَة والإخباتَ لله والتواضعَ له والذلَّ بين يديه، يقول بعض السلف: "من خشَع قلبه لم يقربْه الشّيطان".
أيّها المسلمون، وإذا كان الخطيبُ والواعظ يذكِّر المسلمين في هذا الشّهر الكريمِ بالإحسان في العمل وحُسنِ مراقبةِ الله وخشيتِه وخشوعِ القلب له حتّى لا يقربَه الشيطان فأين ورَعُ المتديّنين وتعفُّف المؤمنين الذين يرجُون رحمةَ الله ويخافون عذابَه ويحبّون ما يحبّ الله ورسوله ويكرَهون ما يكرهه الله ورسوله؟! أين ورعُهم وتعفّفهم عن إيذاءِ المؤمِنين والمؤمناتِ ونشرِ الرّعب والخَوف وإزهاقِ الأرواحِ المعصومة وإراقةِ الدماء المحرمّة؟! هل يريدون أن يجعلوا مِن أنفسهم وقودًا لفتنةٍ عمياء؟! ما هي الغايةُ من الإجرامِ الأسودِ الذي انقضَّ على الأطفالِ والنّساء في شهرِ الإسلام وفي عاصمةٍ مسلمة وفي بلدٍ مسلم، بل هو بلد الحرمين الشريفين؟! سفَكوا وقتَلوا ودمَّروا، أيّ تفسيرٍ لهذا الإجرام؟! وأيّ تعليلٍ لهذا السلوك؟! بل أيّ فكرٍ أو مذهبٍ أخذ هؤلاءِ الشبابَ من بيوتِهم وبيوت آبائهم وأمّهاتهم، بيوتٍ مسلمَة وبيئةٍ إسلامية، وجعَلهم يستقطِنون هذا الفكرَ الرهيب والتصوّر المنحرفَ، لتصدرَ عنهم هذه العمليّات اليائسةُ البائسة، ليقتَلَ معصومون مسلِمون مسالِمون في منازلِهم؟!
إنَّ المتأمّل والمعتبِر يجِد نفسَه منجرًّا ليعقِد هذه المقارنةَ، قتلَى في فلسطين من الأطفال والنساءِ والرّجال، تُنسَف مساكِنهم وتدمَّر ممتلكاتُهم، وقتلَى في الرّياض من الأطفال والنّساء والرّجال تنسَف مساكنهم وتدمَّر ممتلكاتهم، إسرائيلُ الإرهابيّة تفسِد في فلسطين، وهؤلاء يفسدون في الرياض، إسرائيلُ تكرَه المسلمين في فلسطِين وتباشِر قتلهم وحِصارهم وتشريدَهم، تُرى ماذَا يريد هؤلاء القتَلةُ في الرياض؟! هل التقَى الهدفان: إرهابُ إسرائيل وإرهاب هؤلاء؟! هل المقصودُ قتلُ المزيدِ مِن العربِ والمسلمِين وإثارة الرّعب وخَلق أجواء مِن الاضطِراب والعُنف؟! بل هل هناك تنسيقٌ بينهم؟! ولئِن استُبعِد التّنسيق فهل يستبعَد الاختراق وتوظيفُ العقول وغسل الأدمغة؟! هل هي فتنةٌ تطلّ برئسِها عياذًا بالله؟!
إنّ المجتمعَ كلَّه يجِب أن يرتفعَ صوته وأن تتوحّد كلمته وجهودُه من أجلِ حماية البلادِ والعباد من القَتل والاستباحةِ والتّدبير الأسود، فالضرر والهلاكُ لن يستثنيَ أحدًا.
إنَّ المسؤوليةَ على الجميع وليس على أجهزةِ الأمنِ وحدَها وهي أجهزةٌ موفَّقة منصورة بإذن الله.
إنَّ مقاومةَ هذا الفكرِ يجب أن تكونَ مفتوحة في كلّ قطاعات الأمّة والدّولة، مع القيام بدورِ خاصٍّ لوسائلِ الإعلام، يبرز فيه دورُ المواطنِ باعتباره شريكًا حقيقيًّا، وعلى وسائلِ الإعلامِ تعريفُه بالحقائقِ ووضعُه في صورةِ الموقف كما هي وليس كما تريدُ بعضُ وسائل الإعلام له أن يعرِف. يجب أن يؤخَذَ الأمر بحزم وأن تزالَ كلّ المعوِّقات حتّى تتمكّن البلاد مِن توظيفِ كلِّ إمكاناتِها وطاقاتِها وطاقاتِ أبنائِها في عملٍ طويل شاقّ، فهذه أعمالٌ إجراميّة إرهابيّة يجب أن يقاومَها الجميع. ولئن كان من البيِّن الواضِح أنّ المجرمَ لا بدّ أن يؤخَذ بجريمتِه ويلقى جزاءَه العادل، ولكن ينضمّ إلى ذلك أنّ الفكرَ يجب أن يقابلَ بالفكر، والكلمة تحاوِرها الكلِمة.
حفِظ الله على هذه البلاد أمنَها وإيمانَها، ووفّق قيادتَها وولاةَ أمرِها لكلّ خير، وزادَهم تمسّكًا بدين الله والعمَل على رفعتِه، وحفِظ ديارَ المسلمين من كلّ سوء ومكروه، إنّه سميع مجيب.
ألا فاتّقوا الله رحمكم الله، فالصّوم جُنّة ووِقاية، فصوموا لعلكم تتّقون. والصّوم يحفَظ الصّائم من اللّغو والرفَث وقولِ الزّور، فلا يجهَل ولا يصخب ولا يسبّ ولا يشتُم، فكيف به يقتُل ويفسد؟!
ألا وصلّوا وسلّموا على الرحمةِ المسداة والنِّعمة المسداة نبيِّكم محمّد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربّكم جلّ في علاه فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد وعلى آله وأزواجِه، وارض اللهمّ عن الخلفاءِ الرّاشدين الأربعة...
(1/2816)
فريضة الزكاة – حادث التفجير
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, الفتن
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
19/9/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عناية الإسلام بعلاج مشكلة الفقر. 2- فرضية الزكاة. 3- فضائل الزكاة. 4- وعيد مانع الزكاة. 5- مغبة ترك الزكاة. 6- استنكار حادث التفجير. 7- عظم جرم الاعتداء على الأنفس المعصومة. 8- من أحكام الزكاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فتمسّكوا بها قولاً وعملاً، وعضّوا عليها سرًّا وجهرًا.
عبادَ الله، إنّ دينَ الإسلام دينٌ تضمّنت أحكامُه ما يكفل إصلاحَ هذه الحياةِ وقيامَها على أكمل الوجوه وما يتضمّن إقامة مجتمعٍ مثاليّ يتراحم أبناؤه ويتعاونون على مشاقّ هذه الحياة، لذا جاءت عنايتُه بعلاج مشاكلِ الفقر بما لم يسبِق له نظير، لا فيما يتعلّق بجانبِ التربية والتّوجيه، ولا فيما يتعلّق بجانب التّشريع والتنظير، ولا فيما يتعلّق بجانب التّطبيق والتّنفيذ.
وفي الوقتِ الذي ترى الدّراسات الاجتماعيّة والاقتصادية أنّ مشكلةَ الفقر معضِلة اجتماعيّة عجَز العالم المعاصرُ عن حلّها والقضاء عليها فإنّ علاجَ الفقر في الإسلام له في القرآن العناية البالغةُ، وله من السّنة الاهتمامُ البارز، بل إنّ الدراساتِ المنصِفةَ تثبت بكلّ برهان ساطعٍ أنّ الإسلام عالجَ مشاكلَ الفقر بالعلاج الجذريّ الأصيل المُقامِ على بنيانِ العدل ومبدَأ التكافُل الاجتماعيّ بنظامٍ متعدّد الأوجهِ متينِ الأسُس راسِخِ القواعِد شامِل الإصلاح.
ومِن هنا جاءت فريضةُ الزّكاة في الإسلام، فريضةٌ معلومة من الدّين بالضّرورة، فرضيتُها ثابتة بالآيات القرآنيّة والسنّة المتواترةِ وإجماعِ الأمّة كلِّها، يوصَم بالفسق من منعَها، ويُحكم بالكفر على من أنكرَ وجوبَها.
الزّكاة شعيرة كبيرةٌ وعبادة عظيمة، فريضةٌ دوريّة منتظِمة، دائمةُ الموارد مستمرّة النفع والمقاصِد، فريضةٌ مقاصِدها إغناء الفقراء وذوي الحاجات إغناءً يستأصِل شأفةَ العوَز من حياتِهم ويُقدِرهم على أن ينهَضوا وحدَهم. هي حقٌّ للفقراء في أموالِ الأغنياء، ليس فيها معنًى مِن معاني التفضُّل والامتِنان، وليست إحسانًا اختياريًّا، إنّما فريضةٌ تتمتّع بأعلى درجاتِ الإلزامِ الخلُقيّ والشرعيّ، يقول ربّنا جلّ وعلا: تِلْكَ ءايَـ?تُ ?لْقُرْءانِ وَكِتَـ?بٍ مُّبِينٍ هُدًى وَبُشْرَى? لِلْمُؤْمِنِينَ ?لَّذِينَ يُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَهُم بِ?لآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [النمل:1-3].
معاشرَ المسلمين، الزّكاة سببٌ للنّجاة من كلّ مرهوب، وطريقٌ للفوز بكلّ مرغوب فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى? لاَ يَصْلَـ?هَا إِلاَّ ?لأَشْقَى ?لَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى? وَسَيُجَنَّبُهَا ?لأَتْقَى ?لَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى? [الليل:14-18]. وسيّدنا وحبيبُنا ونبيّنا محمّد يقول موجِّهًا للأمّة: ((اتقوا الله ربَّكم، وصلّوا خمسَكم، وصوموا شهرَكم، وأدّوا زكاةَ أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنّة ربّكم)) صحّحه الحاكم ووافقه الذهبي.
إخوةَ الإيمان، لقد وجّه الله جلّ وعلا وعيدَه الشديد لمانِعي الزّكاة والمتهاونين فيها فقال: وَ?لَّذِينَ يَكْنِزُونَ ?لذَّهَبَ وَ?لْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ?للَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى? عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى? بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـ?ذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35]، بل وجعلها الله جلّ وعلا أحدَ المقوّمات التي يتميّز بها المؤمن من المنافق: ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لْمُنَـ?فِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ [التوبة:67]، ونبيّنا حذّر أمتَه من التهاون في الزكاةِ والتساهل في إخراجها بأساليبَ شتّى وتوجيهاتٍ لا تُحصَى، فقد أنذر عليه الصلاة والسلام من التهاون بالزّكاة وحذّر على ذلك بالعذاب الغليظِ في الآخرة، لينبّه القلوبَ الغافلة ويحرّكَ النفوس الشّحيحة إلى الحِرص عليها والاهتمام بشأنها، فقد روى البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاتَه مُثِّل له يومَ القيامة شجاعًا أقرع ـ أي: كناية عن أخبث الحيّات ـ له زبيبتان، يطوّقه يومَ القيامة، ثمّ يأخذ بلهزمَتَيه ـ يعني بشدقيه ـ ثمّ يقول: أنا مالك، أنا كنزك)) ثم تلا النبيّ قوله جلّ وعلا: وَلاَ يَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [آل عمران:180].
وروى مسلم في صحيحِه عن النبيّ أنّه قال في الحديث الطويل: ((ما مِن صاحبِ ذهبٍ ولا فضّة لا يؤدّي منها حقّها إلاّ إذا كان يوم القيامة صُفِّحت له صفائح من نار، فأحمِي عليها في نارِ جهنّم، فيكوَى بها جنبُه وجبينه وظهره، كلّما بردَت أعيدَت له في يوم كان مقداره خمسين ألفَ سنة، حتى يُقضى بين العباد، فيُرى سبيله إمّا إلى الجنة وإما إلى النّار)) الحديث.
وقد جاءت امرأةٌ إلى رسولِ الله ومعها ابنةٌ لها، وفي يدِ ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها النبيّ : ((أتعطِين زكاةَ هذا؟)) قالت: لا، قال: ((أيسرُّك أن يسوِّرك الله بهما يومَ القيامة سوارين من نار؟!)) قال: فقلعَتهما فألقتهما إلى النبيّ وقالت: هما لله عزّ وجلّ ولرسوله. رواه أبو داود والترمذيّ وهو حديث حسن.
فيا مَن أنعم الله عليهم بالنّعم المتوافِرة وفضّلهم بالأموالِ المتكاثِرة، تذكّروا من يعيشون تحت وطأة البؤس ويقاسون همومَ الحاجة، تذكّروا أنّ مِن أعظم الوِزر وأكبرِ الجرم أن يتناسى أهل الجود والغِنى الفقراءَ الذين لا موردَ لهم والنّساء اللاتي لا عائلَ لهنّ والأيتام الذين لا آباء لهم والمشرَّدين الذين لا سكَن لهم، فدينكم جليّ واضحٌ في أوامرِه الإلزاميّة وتوجيهاته القاطِعة التي تذكّركم بعِظم فريضةِ الزّكاة التي تعتمِد في تنفيذها على القوّة والسّلطان، مع اعتمادها على الضّمير والإيمان، وَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتُواْ ?لزَّكَو?ةَ [النساء:77]، قال ابن مسعود رضي الله عنه: أُمرتُم بإقامةِ الصلاة وإيتاء الزكاة، ومَن لم يزكِّ فلا صلاةَ له، فربّنا جلّ وعلا يقول: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ?لدّينِ [التوبة:11].
معاشرَ الأمّة، إنّ على الأمّة الإسلاميّة أن تدركَ أنّ مِن أسباب خذلانِها وعوامل هزيمتِها تعطيلَ بعض أبنائها فريضةَ الزكاة، فإنّ الله جلّ وعلا يقول: وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لأمُورِ [الحج:40، 41]. ولذا فمِن وصايا السنّة المطهَّرة للمجتمع المسلم التذكيرُ بأنّه متى فشا تركُ الزكاة نُزعت البركات ووقعَت البلايا والمجاعات، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما منَع قوم الزكاةَ إلاّ ابتلاهم الله بالسّنين)) رواه الطبرانيّ في الأوسط ورواته ثقات، وعنده أيضًا وعند ابن خزيمة مرفوعًا: ((مَن أدّى زكاة ماله فقد ذهَب عنه شرّه)) ، وفي حديثٍ آخر: ((ولم يمنَعوا زكاةَ أموالهم إلا مُنعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطَروا)).
معاشرَ المسلمين، إنّكم في شهرِ رمضان، شهر ترقّ فيه الطّباع وتتهذّب فيه النّفوس وتتحرّك المشاعر الطيّبة وتحنو إلى الخيرِ النفوس الخيِّرة.
فيا أيّها الأغنياء الفُضلاء، تذكّروا الأيتامَ والضعفاء والأراملَ والفقراء، فلهم في أموالِكم حقوق مفروضةٌ وواجبات لازمة، أنتم مسؤولون عنها ومحاسَبون عليها، يقول الخليفة الراشد علي رضي الله عنه: (إنّ الله فرض على أغنياءِ المسلمين في أموالِهم بقدر ما يسَع فقراءَهم، ولن يجهدَ الفقراء إذا جاعوا إلاّ بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإنّ الله يحاسِبهم حسابًا شديدًا) سنده جيد.
فاتّقوا الله عبادَ الله، وأدّوا زكاةَ أموالكم طيّبةً بها نفوسكم، تحصّنوا بالزّكاة من شرور أموالِكم، وطهّروا بها دينَكم ودنياكم، خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].
فيا مَن أضعفته نفسُه عن إخراجِ ما أوجب الله، ألا تخشى من سَخط الله؟! ألا تخشى أن يعتريَك ما يصيبك في مالِك ويصيبك في بدنك، فيحرمك من لذّة الانتفاع به؟! فنبيّنا يقول: ((تعِس عبد الدّينار، تعِس عبد الدّرهم، تعس عبدُ الخميلة، تعِس عبد الخميصة، إن أُعطي رضِي، وإن لم يُعطَ سخِط، تَعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)) رواه البخاري، وفي الحديث أيضًا: ((ينادى في كلّ صباح ومساءٍ ملكان: اللهمّ أعطِ كلَّ منفقٍ خلفًا وكلّ ممسك تلفًا)) رواه البخاري.
إخوةَ الإيمان، لقد فوجِئ المسلمون في كلّ مكانٍ كما فوجِئ غيرُهم بحدَثٍ جسيم وواقعةٍ عظيمة يشيب الولدان لهولِها ويتصدّع القلب حزنًا لفظاعتها ويعجز القلمُ واللسان عن تصوير مآسيها أو الإحاطة بإدراكِ مضامين ضررِها وشرّها وهول قُبحِها وإجرامها، إنّها ـ عبادَ الله ـ حادثةُ التفجير الواقعِ في الرّياض في ليلةِ الأحد الماضي، والعجَب العُجاب أن يكونَ ذلك في شهرٍ أعلى الله شأنَه وأكرم منزلتَه، لذا فهي حادثةٌ تضمّنت جرائمَ عظمى وقبائح كبرى، نالت ضروريّات الدنيا والدين معًا، وأضرّت بالبلاد والعبادِ جميعًا. إنّها حادثة يجمِع المسلمون على استنكارِها وقُبحها وتجريمها، ويتّفق علماء الأمّة على عِظم جرمِها وكبير وِزرها، ولا غروَ فهي واقعةٌ اجتمع لها من عناصِر المحرّمات القطعيّة كمٌّ هائل، وتضمّنت من أسباب المخالفةِ للوحيَين شيئًا كثيرًا، وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا [الأعراف:56]، وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64].
حادثةٌ ينتظِمها قولُه جلّ وعلا: وَ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بِغَيْرِ مَا ?كْتَسَبُواْ فَقَدِ ?حْتَمَلُواْ بُهْتَـ?نًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب:58].
جنايةٌ لا يقِرّها عقل ولا يؤيِّدها منطقٌ ولا تقرّها شريعة، فرسولنا يقول: ((كلّ المسلمِ على المسلِم حرام؛ دمُه وماله وعِرضه)) ، ((إنّ دماءَكم وأموالكم وأعراضَكم عليكم حرام، كحرمة يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهركم هذا)) ، ويقول : ((لن يزال المؤمنُ في فسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا)) رواه البخاري.
عبادَ الله، أيّها المسلمون في كلّ مكان، إنّ هذه الحادثةَ قد نالت مِن المسلمين الغافِلين الآمنين، قتَلت وأصابت وأحرَقت وهدّمت وخرّبت، فبأيّ ذنبٍ قُتلت تلك الأنفس؟! وبأيِّ حقّ دُمِّرت تلك المباني؟! ما هو موقِف الفاعلين أمامَ الربّ جلّ وعلا وقد قال لعباده: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]؟! إنّه اعتداءٌ على تعاليمِ الإسلام الحقِّ الذي حرصَ كلَّ الحِرص على حماية الضروريّات الخمس، كيف وقد قال سيّدنا ونبيّنا : ((من حمَل علينا السّلاح فليس منا)) ، ((من أشار إلى أخيه بحديدةٍ فإنّ الملائكة تلعنه)) ؟!
إنّه عمل تضمّن كلَّ تخريبٍ واشتمل على كلّ فساد، ترويعٌ للمسلمين وقتلٌ للمؤمنين ونقضٌ للمواثيق والعهود، ولقد قال : ((ومن خرج على أمّتي يضرِب بَرّها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمِنها ولا يفي لذي عهدٍ عهدَه فليس منّي ولستُ منه)) عياذًا بالله من ذلك.
كيف موقفُ أولئك المنتهكِين للحرماتِ يومَ يعرَضون على الله وقد حذّرهم بقوله: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:68، 69]؟! كيف موقفُ أولئك المقدِمين على قتلِ المسلمين وقد قال النبيّ : ((أكبرُ الكبائرِ الإشراك بالله وقتل النّفس وعقوق الوالدين وقولُ الزور)) ؟! كيفَ هم وأينَ هم من قولِ المصطفى : ((إذا التقى المسلمان بسيفَيهما فالقاتل والمقتول في النار)) ، قلت: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: ((إنّه كان حريصًا على قتل صاحبه)) ، فإذا كان هذا الوعيدُ على مجرّد القصد من المقتول، فكيف بمَن تعمّد وقصَد ثمّ فعل؟!
إنّ الإسلامَ شدّد في قضيّة الدماء المعصومةِ وقتلِ الأنفس البريئة، قال عليه الصلاة والسلام: ((كلّ ذنبٍ عسى الله أن يغفرَه إلاّ من مات مشركًا أو مؤمن قتلَ مؤمنًا متعمّدًا)) ، وفي حديثٍ عند النسائيّ بسند حسن: ((كلّ ذنب عسى الله أن يغفرَه إلاّ الرجل يقتل المؤمنَ متعمّدًا أو الرّجل يموت كافرًا)). بل إنّ الإسلامَ يرى أنّ قتلَ نفسٍ واحدة معصومة أشدّ عند الله جلّ وعلا من زوالِ الدنيا بأسرها، ((لزوال الدنيا أهونُ عند الله من قتلِ رجلٍ مسلم)) رواه النسائيّ بسند حسن.
إنّ هذه الحادثةَ وقعت على أبرياء آمنين، يعيشون موسِمًا طيّبًا، إنّها ليالي رمضان، فيفاجؤون بتلك المصيبةِ العظمى بدون ذَنب ارتكبوه ولا عن جرمٍ عمِلوه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من أمّن رجلاً على دمِه فقتله فإنّه يحمِل لواءَ غدرٍ يومَ القيامة)) رواه ابن ماجه. وإذا كان الأمر كذلك فكيفَ بهذه الأنفسِ التي كانت تعيش في ظلّ أمنِ هذا المجتمع المسلم وأخلاقِ المجتمعِ المؤمن.
إنّ الدماءَ خطرُها كبير، وموقفُ الحساب فيها عسير، فنبيّنا يقول: (( يجيء المقتول بالقاتل يومَ القيامة، ناصيتُه ورأسه بيده، وأوداجه تشخَب دمًا، يقول: يا ربّ، قتلني هذا حتى يدنِيه من العرش)) رواه أحمد بسند قويّ، وفي الصحيحين: ((إنّ أوّل ما يقضى بين الناس في الدماء)) ، ومِن هنا يوجِز عبد الله بن عمر رضي الله عنه مشكاةَ النبوّة ومدرستَها بقوله: (إنّ من ورطات الأمور التي لا مَخرج لمن أوقعَ نفسَه فيها سفكَ الدّم الحرام بغير حلِّه)، لذا فإنّنا ومِن هذا المِنبر المبارك الطّاهر ننادي من تسوِّل له نفسه مثلَ هذه الأفعال الشنيعةِ أن يخشَوا ربّهم جلّ وعلا ويتّقوا خالقَهم عزّ وجلّ، والله جلّ وعلا يتوب على من تاب وأناب وأصلح وأحسَن، فسيّدنا ونبيّنا يقول: ((من زلّ فليتُب، ولا يتمادَ في الهلكة، إنّ من يتمادى في الجَور كان أبعدَ عن الطريق)).
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا وإيّاكم بالسنّة، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والش ّ كر له على توفيقه وامتنان ِ ه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد َ ه لا شريك له تعظيمًا لشأنه ، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الدّاعي إلى رضوانه ، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابِه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله جلّ وعلا.
أيّها المسلمون، الزّكاة حقٌّ معلوم قدّر الشرع أنصبتَه ومقاديرَه وحدودَه وشروطَه ووقتَ أدائه وطريقة أدائه، حتى يكونَ المسلم على بيّنة من أمره ومعرفةٍ بما يجب عليه وكَم يجِب ومتى يجب.
فعلى كلّ مسلم أن يكونَ على بيّنة من تلك الأحكامِ وعلى درايةٍ بتلك التعاليم عن طريق سؤالِ أهل العلم والاستيضاح من أولي العرفان، فَ?سْأَلُواْ أَهْلَ ?لذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43].
فالزّكاة تجِب في الأثمانِ وهما الذّهب والفضّة بأنواعهما، ويلحَق بهما الأوراق الماليّة التي جعلها الناس أثمانًا وأقيامًا، كما تجب في الخارجِ من الأرضِ مِن كلّ حبّ وثمَر يُكال ويدَّخر، كما تجِب في بهيمةِ الأنعام وعروض التّجارة وهي كلّ ما أُعِدّ للبيع والاكتساب أيًّا كان نوعُها، سواء كانت من العقارات كالأراضي والدّور أو كانت من غيرها، فإذا حال الحولُ على هذه العروض قوِّمت قيمةَ السوق وأخرَج مالكها زكاتَها من مقدار قيمتِها ربعَ العشر، أمّا من أعدّ عقارًا للإيجار لا للبَيع والاتّجار فالزّكاة في أجرةِ العقار إذا حال عليها الحول.
ثمّ اعلموا أنّ الله جلّ وعلا أمرنا بأمرٍ تزكو به أنفسُنا وتعظم به درجاتنا، ألا وهو الإكثار من الصّلاة والسّلام على النبيّ الكريم.
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاءِ الراشدين...
(1/2817)
مفسدون في أثواب المصلحين
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
19/9/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصدق وذم الكذب. 2- استعمال إبليس وفرعون لسلاح الكذب. 3- التحذير من دعاة الضلال. 4- نصائح للشاب المسلم. 5- فضل العشر الأواخر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، في الصّحيح عنه أنّه قال: ((عليكم بالصّدق، فإنّ الصّدقَ يهدي إلى البرّ، وإنّ البرَّ يهدي إلى الجنّة، ولا يزال العبدُ يصدُق ويتحرّى الصدقَ حتّى يكتَبَ عند الله صدّيقًا. وإيّاكم والكذبَ، فإنّ الكذبَ يهدي إلى الفجورِ، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال العبد يكذِب ويتحرّى الكذبَ حتّى يكتَب عندَ الله كذّابًا)) [1].
نعم أيّها المسلم، إنّ الكذبَ خلقٌ ذميم، خلق رذِيل، خلقٌ من أسوَأ الأخلاق، خلق يهدِي إلى الفجور، والفجور طريقٌ النّار، خلُق المنافقين، إنّ المنافقين هم الكاذبون، خلقٌ يدعو إليه النّفاق والحسَد والإخبَار بخلافِ الواقع.
أيّها المسلم، إنّ الكذبَ بلاءٌ وفساد، فهو أعظمُ سلاحٍ لمحاربةِ القيَم والفضائل.
أخي المسلم، لقد بيَّن الله لنا في كتابِه العزيز أنّ الكذبَ أعظم سلاحٍ استطاع بِه إبليس إغواءَ أبينا آدم وأمِّنا حوّاء. أسكنَ الله آدمَ الجنّة وزوجتَه وأباح لهما كلَّ ما فيها غيرَ شجرة واحدة عيّنها لهما ونهاهما عن قربانها: وَلاَ تَقْرَبَا هَـ?ذِهِ ?لشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ?لْظَّـ?لِمِينَ [البقرة:35]، لكن عدوّ الله استعمل الكذبَ في إغواءِ أبينا وأمّنا، فقال: مَا نَهَـ?كُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـ?ذِهِ ?لشَّجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ?لْخَـ?لِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ ?لنَّـ?صِحِينَ فَدَلَّـ?هُمَا بِغُرُورٍ [الأعراف:20-22]، فكان سببًا في إخراجِ أبينا وأمِّنا من الجنّة وإهباطِهما إلى الأرض، كلّ هذا بِكذبِ إبليس، فجعل الكذبَ سلاحًا له في إغواء الأبوين عليهما السلام، ولكنّ الله تاب عليهما وألهَمهما التوبةَ والإنابةَ إليه، قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الأعراف:23]، فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:37].
أخي المسلم، إنّ الله جلّ وعلا بيّن لنا أيضًا نوعًا آخر، فرعون عدوّ الله الذي قال لقومِه: أنا ربّكم الأعلى، ماذا قال لقومه؟ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]. هو يقتل يظلِم الخلقَ كما قال الله: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى ?لأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ [القصص:4]، إذًا هو يقول لقومه في ظلمِه وسفكِه الدّماء وقتلِه الأبرياءَ والأنبياء يقول لهم: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيلَ الرشاد. فالقتل والظلمُ والعدوان في رأيِ فرعونَ هو سبيلُ الرّشاد، الظلم وسفكُ الدّماء وقتلُ الأبرياء وتدميرُ الممتلكات وظلمُ العباد يقول فرعون اللعين عنه: وما أهديكم إلا سبيلَ الرّشاد.
انظر إلى هذا الانحراف والضلال والكذِب المحض أنّ سفكَ الدماء وقتل الأبرياء وظلمَ العباد صيّره فرعون سبيلَ الرشاد في رأيه، وهو القائلُ لقومِه عن موسى عليه السلام: إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى ?لأرْضِ ?لْفَسَادَ [غافر:26]. إذًا فالكذبُ استعمله فرعون لإغواءِ قومِه وحملِهم على الجرائم التي يسلكها وقومُه وإذلالِ البشر والظلم والعدوان.
أيّها المسلم، إنّ مِن عبادِ الله مَن يحسِن القولَ ويعجِبك كلامُه وربّما خدعَك بعضُ أقوالِه واستحسنتَ بعضَ آرائه، ولكنّها في الواقعِ على خلافِ الحقّ والهدى، وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ?للَّهَ عَلَى? مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ?لْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى? سَعَى? فِى ?لأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ?لْحَرْثَ وَ?لنَّسْلَ وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْفَسَادَ [البقرة:204، 205].
هو يدّعي الإصلاحَ فيما يقول، ويدّعي الخير فيما يتصرّف فيه، ويظهِر أنّه جانِبُ الحقِّ وإنقاذ الإنسان ورحمةِ الخلقِ والعطفِ عليهم، لكن بأيّ سبيل؟ بظلمِ العبادِ، بقتل الأبرياء، وتدمير الممتلكات، بإشاعةِ الفساد، بالظّلم المتعدّي للحدود والعياذ بالله.
أخي المسلم، احذَر الكذبَ قولاً، واحذر أقوامًا من الكذّابين، أرادوا بالأمّة شرًّا، وأرادوا بالأمّة فسادًا، وقد أخرَجوا فسادَهم بجانبِ الإصلاح فيما يزعمون، فاتّق الله أيّها المسلم، ولا تصغ لأيّ مقالةٍ وآراء، لا تصغِ لكلّ مقالةٍ وكلّ رأي إلاّ بعد التّمحيص والتدبّر في المراد والنّوايا والمقاصد وما وراءَ ذلك القولِ، حتى تكون على بصيرةٍ من أمرك.
أخي المسلم، عليك بالعلمِ والتعلّم والتبصُّر في دينِك، واحذَر أن تشذَّ عن جماعةِ الأمّة أو يحملك أقوامٌ على معاداةِ أمّتك والخروجِ على منهجِهم والشّذوذ عن جماعتِهم بأيّ دعوًى وبأيّ رأيٍ يقولون.
أخي المسلم، هل قتلُ الأبرياء إصلاح؟! وهل تدميرُ الممتلكاتِ إصلاح؟! وهل ترويع الآمنين إصلاح؟! وهل مدّ اليدِ مع كلّ عدوّ للأمّة إصلاح؟!
أخي المسلم، إنّ الله جلّ وعلا حذّرنا من هذه الفئَةِ قديمًا، فقال عن المنافقين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ قال الله: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12]. صدق الله، تلك مقالة قديمةٌ حديثة، كلّ مفسدٍ وظالم يرى أنّه مصلح، ويرى أنّه على حقّ وإن كان في باطِن أمرِه يعلم الكذب، فالله يقول عن فرعونَ: وَجَحَدُواْ بِهَا وَ?سْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14].
أخي المسلم، أيّها الشاب المسلم، اتّقِ اللهَ في نفسك، واتّق الله في أمّتك، واتّق الله في دينك، واتّق الله في أهلِ بيتك، واتّق الله في سرِّك وعلانيّتك.
أيّها الشّاب المسلم، اتّق الله دائمًا وأبدًا، وكن على بصيرةٍ من أمرِك. احذر ـ أخي الشابّ المسلم ـ احذر طاعة من يحمِلونك على السّوء والفساد. احذَر طاعةَ مَن يريدونك جسرًا يعبُرون عليه لينالوا من عقيدتِك ومِن أمّتك ما ينالون. احذَر أن تكونَ مطيّة لهم. احذَر أن تكونَ أُلعوبةً بأيديهم، يسخِّرونك كيف يشاؤون، ويوجّهونَك كيف يريدون، مِن غير عقلٍ ومن غير تفكّر. احذَر أن تكونَ إمَّعة، إن أحسَنَ النّاس [أحسنت]، وإن أساءَ النّاس [أسأتَ]، إيّاك وذلك، فالزم الإحسانَ والخير، وابتعِد عن السّوء والفساد.
أيّها الشابّ المسلِم، تُب إلى الله من خطئِك، وأنِب إلى الله مِن زللِك، وأيّ فكرٍ تحمله يخالف الحقَّ فباب التّوبة مفتوحٌ لمن أراد أن يتوبَ إلى الله من ذنبه وخطئه، قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53].
أخي الشابّ المسلم، فئةٌ توحِي إليك أن تتركَ الدراسة والتعليم، وأن تبقَى على جهلِك وبعدِك عن الخير والهدى؛ لأنّك إذا استمررتَ على جهلِك وأمّيّتِك استطاعوا أن يوصِلوا إليك أفكارَهم، وأن يغروك بباطلهم، وأن يملؤوا قلبَك حِقدًا على أمّتك ومجتمعك. هؤلاء فئةٌ يدعونك إلى تركِ التعلّم والتّعليم، يدعونك إلى نبذِ العمل في بلادِك، يدعونَك أن تكونَ فوضويًّا سائبًا متسكِّعًا، لا تألو على خيرٍ ولا تنتمِي إلى خير. لماذا؟ ليسَ هذا رحمةً بك ولا إحسانًا إليك، ولكنّه الخداع والغرور، فتُب إلى الله، واتّق الله في نفسك، واتّق الله في أبوَيك وأهلِك، إيّاك أن تفجعَهم بالمصائبِ وأن تقضيَ على حياتِهم بالتصرّفات اللاأخلاقيّة واللاإنسانيّة.
أيّها الشابّ المسلم، لا تظنَّ عدوّك يحسن إليك ولا أن عدوَّك يؤهّلك لخير، ولا أنّ عدوّك يريد لك الإصلاح، ولكن ـ والله ـ يريد أن يجعلَك جِسرًا يعبُر به على أمّتك، ليدمّر بك قيمَهم وليحاربَ بك أخلاقَهم وليقضيَ بك على كيانِهم وليجعلَك ألعوبةً بيده، يسخرّك كيف يشاء، ويملِي عليك كلَّ يومٍ فكرًا، ويحقّق كل يوم رأيًا، فاتّق الله في نفسِك، واتّق الله في أمّتك، تعلّم واعمَل واستقِم وادع إلى الخير وتخلّق بالأخلاق الكريمة، وثِق بالله ثمّ بأمّتك وبمجتمعك المسلم الذي لا يزال ولله الحمد على خير، لا شكّ أنّ عندَ الأمّة أخطاء، ومن منّا معصوم من الخطأ؟! وأيّ مجتمع يخلو من خطأ؟! ولكن الأخطاء تعالَج بحكمة، والأمور تؤخَذ ببصيرة، والإصلاحُ على مراحِل، والله على كلّ شيء قدير. أمّا أن تكونَ فوضويًّا، أو تمدّ يدَيك إلى من لا يرحمُك ولا يبالي بك ولا يهتمّ بك، وإنّما يريد قضاءَ غرضِه بك ثمّ لا يبالي بأيّ الأوديةِ هلكتَ.
فاتّق اللهَ وتدبّر وتعقّل وانظُر عواقبَ الأمور وزِن الأمورَ بالميزان العادل، ولا تقبَل من كلّ قائل قولاً ولا مِن كل راءٍ رأيًا، حتى تتحقّق هذه الآراءَ وتعرِضها على ذوي العقول والأفكار وأهلِ العلم والبصيرةِ، لتقدِم في أمورِك على بصيرةٍ وعلم. أمّا أن يُزجّ بك في المتاهات ويقضَى بك الأغراض وينسحِب عنك الأعداء وتبقَى ضحيّة لتلك الأفكارِ وأسيرًا لتلك الآراء فإنّي أربأ بك عن هذا، وأدعوك إلى التّوبة إلى الله، أدعوك إلى التّوبة إلى ربّك والإنابة إليه في هذه الأيّام المباركة؛ لأن من لقيَ الله وليس في قلبِه بيعةٌ لإمامِه لقيَ اللهَ وميتتُه ميتة جاهليّة، ولقيَ الله ولا حجّةَ له، وهذا أمرٌ لا يليق بك أيها المسلم.
إنّ الكذبَ استعمله الأعداء في تدميرِ الخلافةِ الإسلاميّة، فما قتِل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه خير الخلقِ في زمنه إلاّ بأكاذيب الكاذبين وفسادِ المفسدين، وما دمِّر الإسلام وأهله إلاّ على أيدِي الكاذبين ومن لا بصيرةَ عندهم ممّن أحسنوا الظنَّ بأعدائهم، حتّى قضى الأعداءُ على الإسلام على أيدِي من لا بصيرةَ ولا علمَ عنده.
فتدبّر وتعقّل وتفكّر، فعسى الله أن يهديَك سواءَ السبيل، وعسى الله أن يمنَّ عليك بتوبةٍ نصوح، تمحو بها ما مضى، تقلِع عن هذا الخطأ، وتندم وتستغِفر، وتقبِل على مصالحِ نفسك ومستقبلك الذي يتمنّاه لك أبواك ومجتمعُك، لتساهمَ في بناء المجتمع المسلمِ على أسُس من الأخلاق والفضائل.
أسأل الله أن يحفظَ شبابَنا من كلّ سوء، وأن يحيطَهم بعنايتِه ويستنقذَهم من الغوايَة، ويردّهم إلى الحقّ ردًّا جميلاً، وعلى الآباءِ والأمهات جميعًا أن يكونوا عونًا لشبابِهم على الخيرِ، محذِّرين لهم من الشرّ، مراقبين أخلاقَهم وجلساءهم ومن يصاحبهم ومن يسافرون معه حتّى ينقِذوا شبابَهم من هذه الغوايات ويخلّصونهم من هذا البلاء.
أسأل الله أن يمنَّ على الجميع بالتّوبة النصوح والاستقامة على الخير، وأن يحفظَ مجتمَعنا من كلّ بلاء، وأن يبقيَ علينا دينَنا وأمنَنا وقيادتَنا على الخيرِ والهدى، إنّه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الأنفال:25].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في البر (2607) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ خيرَ أيّام شهرِكم ولياليه أيامُ وليالي العشرِ الأخيرة منه، فإنّ العشرةَ الأخيرة من هذا الشّهر هي أفضلُ أيامِ شهركم.
نبيّكم اعتكفَ في العشرِ الأُوَل والوسطى، فلمّا أخبِر أنّ ليلةَ القدر في العشرِ الأخيرة من رمضان جعَل اعتكافَه في العشر الأخيرة من رمضان [1]. نبيّكم كان يجتهِد في هذه العشرِ ما لا يجتهد في بقيّة أيّام الشهر. نبيّكم إذا دخلَت هذه العشرُ شدّ مئزرَه ـ اعتزل النساء ـ وأحيى ليله وأيقظ أهلَه، فأحيى ليلَه بالصّلاة والذّكر والدّعاء وكلّ الأعمال الصالحة، وأيقظَ أهلَه للطاعةِ وحثّهم على الخير. كانَ يخلِط العشرين الأولى بصلاةٍ ونوم، فإذا جاء العشرُ شمّر وشدّ المئزر.
أيّها المسلم، إنّها ليال وأيام مباركة، فيها ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر، إمّا في أشفاعِه وإمّا في أوتاره، فالتمِسها رحمك الله، وجدَّ واجتهد في هذه العشرِ الكريمة، وتُب إلى الله من زللِك وخطئك، واسأل الله قبولَ العمل، وإيّاك أن تمضيَ تلك الأيّام والليالي في خسارةٍ وإعراضٍ عن الخير، فمِن الحرمان العظيم والخسارةِ الفادحة أن يضيِّع المسلم هذه اللياليَ والأيام دون أن يستغلّها في خير ويتقرّب إلى الله فيها بما يرضيه.
فاجتهِدوا ـ رحمكم الله ـ في هذه الليالي والأيّام، وأكثِروا فيها من ذكر الله وتلاوة القرآن, واحرِصوا على نصيبٍ من قيام الليل في هذه الليالي المباركة، فعسى الله أن يمنَّ على الجميع بقبولِ العمل والتوفيق لما يحبّه ويرضاه، إنّه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتُها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد امتثالاً لأمرِ ربّكم إذ يقول: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد سيّد ولد آدم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وارضَ اللهمّ على آله وصحبِه أجمعين...
[1] أخرجه البخاري في فضل ليلة القدر، باب تحري ليلة القدر (2018)، ومسلم في الصيام، باب فضل ليلة القدر (1167) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بمعناه.
(1/2818)
بين يدي ذكرى بدر
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
غزوات, قضايا دعوية
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعرض المسلمين في مكة لصنوف العذاب والاضطهاد. 2-بعض صور الإيذاء التي نالت النبي. 3- شجون المسلمين تجيش في ذكرى بدر. 4- نصر الله المؤمنين في بدر. 5- بعض دروس الغزوة. 6- فضل العشر الأواخر من رمضان. 7-فضائل الصيام ورمضان. 8- منزلة المسجد الأقصى عند المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد ، أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ، أيها المرابطون في أرض الإسراء والمعراج، فمنذ أن جهر الرسول الأعظم بدعوته ورسالته قرر المشركون أن لا يألو ا جهدا ً في محاربة الإسلام وإيذاء الداخلين فيه والتعرض لهم بألوان العذاب والإيلام، وانفجرت مكة وبمشاعر الغضب وظلت عشرة أعوام تعتبر الرسول وأتباعه عصاة ثائرين، فزلزلت الأرض من تحت أقدامهم، واستباحت في الحرم الآمن دما ء هم وأموالهم وأعراضهم، وجعلت مقامهم م ح لا ً لضيم وللويل.
إخوة الإيمان ، وصاحبت هذه الأحقاد حرب من السخرية والتحقير ، قصد بها تخذيل المسلمين وتوهين قواهم المعنوية، فرمي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته بتهم هازلة وشتائم سفيهة ، وتألفت جماعة لاستهدا ف الإسلام ورجاله على نحو ما تفعل الصحافة المعارضة عندما تنشر عن الخصوم نكتا ً لاذعة وصورا ً مضحكة ، للحط من مكانتهم لدى الجماهير.
أيها المؤمنون ، بهذين اللونين من العداوة وقع المسلم ون بين شقي الرحى، فرسولهم ينادى ويرمى ب الجنون، وَقَالُواْ ي?أَيُّهَا ?لَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ ?لذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ويوسم بالسحر والكذب وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّنذِرٌ مّنْهُمْ وَقَالَ ?لْكَـ?فِرُونَ هَـ?ذَا سَـ?حِرٌ كَذَّابٌ ، ويشي ّ ع ويستقبل بنظرات ملتهمة ناقمة وعواطف منفعلة هائجة وَإِن يَكَادُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَـ?رِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ?لذِكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ.
أيها المرابطون ، فليس حظ سائر المسلمين بأفضل من هذه المعاملة، فهم في غدوهم وروا ح هم محل التندر واللمز إِنَّ ?لَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا ?نقَلَبُواْ إِلَى? أَهْلِهِمْ ?نقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَـ?فِظِينَ.
فانقلبت هذه الحرب إلى تنكيل وسفك دماء بالنسبة إلى المستضعفين من المسلمين، فمن ليست له عصبية تدفع عنه لا يعصمه من الهوان والقتل شيء، بل يحبس على الآلام حتى يكفر أو يموت أو يسقط إعياء.
أيها المؤمنون ، وي ط ول الحديث لو ذهبنا نستعرض نماذج عن العذاب الذي لاق ا ه رسولنا الكريم وصحاب ت ه الغر الميامين، ولكنني سأكتفي بما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حيث قال: ( بين ا النبي صلى الله عليه وسلم ساجد ، وحوله ناس من قريش جاء عقبة بن أبي معيط ب س لا جزور ، فقذفه على ظهره الشريف، فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها ، فأخذته ع ن ظهره ودعت على من صنع ذلك ).
وما رواه الإمام البخاري عن خباب بن الأرت أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة ، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت : يا رسول الله ألا تدعو الله لنا، ف نظر إليه وهو محمر الوجه وقال: (( قد كان من قبلكم ليمشط ب أ مشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ، لا يصرف ه ذلك عن دينه، أي ما يرده ذلك عن دينه، وليتمن الله ه ذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله ))، وفي رواية : (( والذئب على غنمه )).
أيها المؤمنون ، وإن كنتم تتعجبون من هذا العذاب والأذى ، وتستغربون أن يكون ذلك في سبيل الله عز وجل، فاعلموا أن هذا هو السبيل الوحيد وتلك هي سنة الله في جميع عباده الذين آمنوا به، وتمضي الأيام والشهور والسنوات ويدخل الإسلام المدينة ، ويهاجر إليها المسلمون ، وأخذوا يستعدون حتى لا تق ت حم المدينة عليهم من أقطارها.
أيها المؤمنون ، إن أجمل ذكريات الأمة الإسلامية نصر الله لنبيها وتأييده لدينها ، فالأمة الإسلامية في مجموعها ما برحت تشرئب لمثل ذلك النصر على أعدائها، وما فت ئ ت تعيش سعيدة في دنيا ذكرياتها، يحدوها الأمل بعز الإسلام وإشراق نوره وتبديد الظلام ، وإن طال زمانه.
وفي مثل هذا الشهر المبارك وبعد منتصف ه قبل ألف وأربعة م ا ئة وثلاث وعشرين عام ، خرج رسول السلام في ثلة من أصحابه ، وض آ ل ة في عدده م وعدته م، خرج يقابل جموع قريش في صولتها وكثرة عددها ووفرة عدتها، وهو موقن أن الغلبة له عليها، مؤمن أن الله وحده هو الحق ونعم الوكيل، نزلها في بدر وقد شق عليه ما رأى من طغيانها وإعلانها ا لعداء لله ورسوله، فتوجه إلى الله بدعائه قائلا ً : (( اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك )) ، ولم يرجع يديه إلا والملائكة تنزل مددا ًً تقاتل في صفوف المسلمين ، ويمتن الله على عبده وعلى المسل م ين بهذا النصر المبين قائلا: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ?للَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، إلى أن قال : وَمَا جَعَلَهُ ?للَّهُ إِلاَّ بُشْرَى? لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا ?لنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَكِيمِ.
أيها المسلمون ، إن غز وة بدر الكبرى هي الغزوة الأولى من نوعها في تاريخ الإسلام ، والتي أعز الله فيها الإسلام وأهله ، ومرغ أنف الشرك في أوحال الهزيمة بعد أن قذفت قريش في خضم هذه المعركة برجالها وصناديدها، ولكن الله جعل كيدهم في نحوره م، لأنهم خرجوا ، والغرور يمل أ نفوسهم ، والشيطان فيها حليفهم، إنه يوم الفرقان، إن اليوم الذي قتل فيه صناديد الشرك وأئمة الكفر من أ هل مكة، والجدير بالذكر أن المسلمين لم يكن خروجهم للقت ا ل ، إنما كان للاستيلاء على القافلة، على قافلة قريش الذين أخرجوا المهاجرين من ديارهم وأمولهم، فأراد الله للعصبة المسلمة غير ما أرادت لنفسها من الغنيمة ، أراد الله أن تنفلت منها القافلة وأن تلقى عدوها من صناديد قريش الذين حاربوا دعوة السلام ومكروا مكرهم لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما بلغوا بأصحابه - الذين اتبعوه على الهدى - غاية التعذيب والتنكيل والأذى.
إخوة الإيمان ، لقد أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الغزوة فرقانا ً بين الحق والباطل، وفرقانا ً في خط سير التاريخ الإسلامي، ومن ث َ م فرقانا ً في خط سير التاريخ الإنساني، فأراد الله عز وجل أن يظهر فيها الآمال البعيدة بتدبيره لهم ، ولو كرهوه في أول الأمر، كما أراد الله سبحانه وتعالى أن يتعلم المؤمنون عوامل النصر وعوامل الهزيمة ، وأن يأخذوها مباشرة من الله عز وجل، وهو في ميدان المعركة وأمام مشاهدها.
وفي هذه الغزوة تجلت نعم الله تعالى على عباده المؤمنين ، يظهر ذلك من خلال قوله تعالى: إِذْ يُغَشّيكُمُ ?لنُّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن ?لسَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ?لشَّيْطَـ?نِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى? قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ ?لاْقْدَامَ ، ومن خلال قول تعالى إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ?لْمَلَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ?لرُّعْبَ فَ?ضْرِبُواْ فَوْقَ ?لاعْنَـ?قِ وَ?ضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذ?لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ ذ ?لِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَـ?فِرِينَ عَذَابَ ?لنَّارِ.
إخوة الإيمان ، كما تجلت في هذه الغزوة روح الإيمان والإخلاص لله تعالى ومبدأ الإعداد والتخطيط الدقيق من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لهذه الغزوة، كما تجلى مبدأ الأخذ بالأسباب ومبدأ الشورى بين القائد والجيش.
أيها المسلمون ، إن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يذكرون بهذه الأيام من هذا الشهر المبارك هذه الذكرى الجميلة ، ذكرى غزة بدر الكبرى، ويرفعون أيد ي هم إلى الس م اء كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضار ِع ين إلى المولى أن ينصرهم على أعدائهم، قائلين في حرقة ألم مما يصيبهم من أعداء الإسلام: (( ا ل لهم أ نشدك عهدك ووعدك الذي وع د تنا )) ، فهم في هذه الذكرى فرحون مغتبطون ، وه م في هذه الذكرى أيضا ً راجون وخائفون، راجون رحمة الله ونصره كما رحم ونصر أسلافهم، وخائفون من بوادر بدرت وفتن كقطع الليل المظلم عليهم أقبلت.
فيا أيها الصائمون ، كونوا عباد الله إخوانا ً، واجعلوا هذا الشهر المبارك شهر عبادة وفضيلة وتوبة، كونوا كالسابقين الأولين، واجعلوا هذا الشهر شهر ب ِ ر ورحمة وتوسعة على الفقراء، وحافظوا على حرمة هذا الشهر، وبادوا إلى إخراج زكاة أموالكم، وأكثروا من قراءة القرآن والتدبر في معانيه ومدارسة السنة النبوية الشريفة، بخاصة أنكم في العشر الأواخر من رمضان، تحروا فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وقولوا فيها : (( اللهم إنك عفو كريم تحب العفو ، فاعفوا عنا يا كريم )) ، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( من تطوع فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيمن سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كم ن أدى سبعين فريضة فيما سواه )).
وإنه - يا عباد الله - موسم للعبادة عظيم ، فاغتنموا فرصه ، وقوموا من ليله ما تيسر، فقد صح عن سيد الأنام أنه قال: (( من قام رمضان إيمانا ً واحتسابا ً غفر له ما تقدم من ذنبه )).
أما النهاية مسك الختام فالفرحة عند لقاء الملك العلام ، والأمن يوم الفزع الأكبر كما جاء في الحديث الشريف (( للصائم فرحتان : فرحة عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه )) ، وقد ورد أنه توضع لهم مائدة تحت العرش يأكلون منها ، والناس ما برحوا في الحساب، ثم ي ُ دعون إلى دخول الجنة ، إلى دار السلام من باب يقال له الريان، جاء في الحديث (( فإذا دخلوا أغلق ، من دخل فيه شرب ، ومن شرب لم يظم أ أبد اً)) ، فيا لعظيم الفضل ويا لسعادة الصائمين، وكما قال : (( التائب من الذنب كمن لا ذنب له )).
ا دعو ا الله وأ نتم موق ن ون بالإجابة ، فيا فوز المستغفرين ، استغفروا الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي المتقين ، وناصر المؤمنين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمد اً عبد ه ورسوله ، سيد الأولين والآخرين ، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد ، أيها المسلمون ، إن مما يثلج الصدور ويبعث الأمل في القلوب مشاهدة هذا الزحف المبارك وهذا العرس الرمضاني وهذه الجموع الحاشدة التي وصلت إلى المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثاني المسج د ين وثالث الحرمين الشريفين، وصلت إليه من كل أنحاء فلسطين، بالرغم من الحواجز العسكرية المقامة على الطرقات وعلى مداخل القرى والمدن، وبالرغم من وعورة الطريق وصعوبة المواصلات وضيق الحال، جاءت هذه الجموع لتأكد إسلامية أرض الإسراء والمعراج ومدى تمسكها فيه.
أيها المسلمون ، إن المسجد الأقصى المبارك هو رمز عقيدة المسلمين، بنته الأنبياء وانتسب إليه كثير من العلماء، وسكنه وشد إليه الرحال كثير من الأولياء، وسقط على أرضه قوافل الشهداء، وهو عش العلماء، وعقر دار الإسلام في نهاية الزمان، وأهله مرابطون إلى يوم الدين ، والركعة فيه بخمس مئة ركعة، وعلى أرضه المباركة المقدسة تعيش الطائفة الظاهرة المنصورة، كما أن النبي سليمان عليه دعا الله أن يغفر ذنوب كل من يمم وجهه للصلاة فيه.
ولكن الذين يزعمون أنهم من أتباع الأنبياء يمنعون أهل فلسطين من الوصول إليه من أ جل الصلاة فيه، إن هذا التصرف يتنافى مع أبسط حقوق الإنسان ومع حرية العبادة التي كفلته قوانين الأرض والسماء.
أيها المرابطون ، إن القدس بمساجدها ومبانيها الإسلامية الأصيلة وما تحتله في الضمائر من مكانة إنما مبعثه عقيدة الإسلام، فالصحابة رضوان الله عليهم والخلفاء الأمويون والعباسيون والعثمانيون حافظوا على مكانة القدس من منطلق الإيمان الصحيح بالإسلام، ومن واجب الجيل المعاصر أن يحذو حذو السابقين حتى تكون القدس في بؤرة حياتهم.
وإن كل مساس بالمسجد الأقصى المبارك هو مساس بمشاعر المسلمين في أرجاء المعمورة ، لأنه شريان القلوب ومهوى أفئدة المسلمين ومحط أنظارهم وسر وجودهم على الأرض المباركة، فلا تكتمل عقيدة المسلم إلا إذا آمن بأن المسجد الأقصى المبارك هو جزء من عقيدته ودينه.
إن كل المحاولات التي تجرى لتغير معالم القدس والمساس بمكانة المسجد الأقصى المبارك ستبوء بالفشل مهما كانت ، إن شاء الله تعالى.
أيها المسلمون ، وعندما تصبح القدس متعمقة الجذور في النفوس والقلوب ستتفتح ز هور أشجارها وستشرق شمسها ، وستبدد ظلمة ليلها ، وستفتح قلبها وذراعيها لاستقبال من يكسر القيود والأغلال التي تكبلها ، وما ذلك على الله بعزيز ، ولله در القائل:
يا قدس مهما الليل طال فلن يدوم الاحتلال
الكفر ولّى لن يعود ولست في هذا مغال
الفجر آت لا محال والظلام إلى زوال
لاحت تباشر الصبا ح وجاء دور ك يا بلال
(1/2819)
بين يدي ذكرى بدر
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
غزوات, فضائل الأزمنة والأمكنة
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
19/9/1422
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
- تعرض المسلمين في مكة لصنوف العذاب والاضطهاد. 2-بعض صور الإيذاء التي نالت النبي. 3- شجون المسلمين تجيش في ذكرى بدر. 4- نصر الله المؤمنين في بدر. 5- بعض دروس الغزوة. 6- فضل العشر الأواخر من رمضان. 7-فضائل الصيام ورمضان. 8- منزلة المسجد الأقصى عند المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد ، أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ، أيها المرابطون في أرض الإسراء والمعراج، فمنذ أن جهر الرسول الأعظم بدعوته ورسالته قرر المشركون أن لا يألو ا جهدا ً في محاربة الإسلام وإيذاء الداخلين فيه والتعرض لهم بألوان العذاب والإيلام، وانفجرت مكة وبمشاعر الغضب وظلت عشرة أعوام تعتبر الرسول وأتباعه عصاة ثائرين، فزلزلت الأرض من تحت أقدامهم، واستباحت في الحرم الآمن دما ء هم وأموالهم وأعراضهم، وجعلت مقامهم م ح لا ً لضيم وللويل.
إخوة الإيمان ، وصاحبت هذه الأحقاد حرب من السخرية والتحقير ، قصد بها تخذيل المسلمين وتوهين قواهم المعنوية، فرمي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته بتهم هازلة وشتائم سفيهة ، وتألفت جماعة لاستهدا ف الإسلام ورجاله على نحو ما تفعل الصحافة المعارضة عندما تنشر عن الخصوم نكتا ً لاذعة وصورا ً مضحكة ، للحط من مكانتهم لدى الجماهير.
أيها المؤمنون ، بهذين اللونين من العداوة وقع المسلم ون بين شقي الرحى، فرسولهم ينادى ويرمى ب الجنون، وَقَالُواْ ي?أَيُّهَا ?لَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ ?لذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ويوسم بالسحر والكذب وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّنذِرٌ مّنْهُمْ وَقَالَ ?لْكَـ?فِرُونَ هَـ?ذَا سَـ?حِرٌ كَذَّابٌ ، ويشي ّ ع ويستقبل بنظرات ملتهمة ناقمة وعواطف منفعلة هائجة وَإِن يَكَادُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَـ?رِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ?لذِكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ.
أيها المرابطون ، فليس حظ سائر المسلمين بأفضل من هذه المعاملة، فهم في غدوهم وروا ح هم محل التندر واللمز إِنَّ ?لَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا ?نقَلَبُواْ إِلَى? أَهْلِهِمْ ?نقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَـ?فِظِينَ.
فانقلبت هذه الحرب إلى تنكيل وسفك دماء بالنسبة إلى المستضعفين من المسلمين، فمن ليست له عصبية تدفع عنه لا يعصمه من الهوان والقتل شيء، بل يحبس على الآلام حتى يكفر أو يموت أو يسقط إعياء.
أيها المؤمنون ، وي ط ول الحديث لو ذهبنا نستعرض نماذج عن العذاب الذي لاق ا ه رسولنا الكريم وصحاب ت ه الغر الميامين، ولكنني سأكتفي بما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حيث قال: ( بين ا النبي صلى الله عليه وسلم ساجد ، وحوله ناس من قريش جاء عقبة بن أبي معيط ب س لا جزور ، فقذفه على ظهره الشريف، فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها ، فأخذته ع ن ظهره ودعت على من صنع ذلك ).
وما رواه الإمام البخاري عن خباب بن الأرت أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة ، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت : يا رسول الله ألا تدعو الله لنا، ف نظر إليه وهو محمر الوجه وقال: (( قد كان من قبلكم ليمشط ب أ مشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ، لا يصرف ه ذلك عن دينه، أي ما يرده ذلك عن دينه، وليتمن الله ه ذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله ))، وفي رواية : (( والذئب على غنمه )).
أيها المؤمنون ، وإن كنتم تتعجبون من هذا العذاب والأذى ، وتستغربون أن يكون ذلك في سبيل الله عز وجل، فاعلموا أن هذا هو السبيل الوحيد وتلك هي سنة الله في جميع عباده الذين آمنوا به، وتمضي الأيام والشهور والسنوات ويدخل الإسلام المدينة ، ويهاجر إليها المسلمون ، وأخذوا يستعدون حتى لا تق ت حم المدينة عليهم من أقطارها.
أيها المؤمنون ، إن أجمل ذكريات الأمة الإسلامية نصر الله لنبيها وتأييده لدينها ، فالأمة الإسلامية في مجموعها ما برحت تشرئب لمثل ذلك النصر على أعدائها، وما فتئت تعيش سعيدة في دنيا ذكرياتها، يحدوها الأمل بعز الإسلام وإشراق نوره وتبديد الظلام ، وإن طال زمانه.
وفي مثل هذا الشهر المبارك وبعد منتصفه قبل ألف وأربعة مائة وثلاث وعشرين عام ، خرج رسول السلام في ثلة من أصحابه ، وضآلة في عدده م وعدته م، خرج يقابل جموع قريش في صولتها وكثرة عددها ووفرة عدتها، وهو موقن أن الغلبة له عليها، مؤمن أن الله وحده هو الحق ونعم الوكيل، نزلها في بدر وقد شق عليه ما رأى من طغيانها وإعلانها ا لعداء لله ورسوله، فتوجه إلى الله بدعائه قائلا ً : (( اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك )) ، ولم يرجع يديه إلا والملائكة تنزل مددا ًً تقاتل في صفوف المسلمين ، ويمتن الله على عبده وعلى المسلمين بهذا النصر المبين قائلا: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ?للَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، إلى أن قال : وَمَا جَعَلَهُ ?للَّهُ إِلاَّ بُشْرَى? لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا ?لنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَكِيمِ.
أيها المسلمون ، إن غز وة بدر الكبرى هي الغزوة الأولى من نوعها في تاريخ الإسلام ، والتي أعز الله فيها الإسلام وأهله ، ومرغ أنف الشرك في أوحال الهزيمة بعد أن قذفت قريش في خضم هذه المعركة برجالها وصناديدها، ولكن الله جعل كيدهم في نحوره م، لأنهم خرجوا ، والغرور يمل أ نفوسهم ، والشيطان فيها حليفهم، إنه يوم الفرقان، إن اليوم الذي قتل فيه صناديد الشرك وأئمة الكفر من أ هل مكة، والجدير بالذكر أن المسلمين لم يكن خروجهم للقت ا ل ، إنما كان للاستيلاء على القافلة، على قافلة قريش الذين أخرجوا المهاجرين من ديارهم وأمولهم، فأراد الله للعصبة المسلمة غير ما أرادت لنفسها من الغنيمة ، أراد الله أن تنفلت منها القافلة وأن تلقى عدوها من صناديد قريش الذين حاربوا دعوة السلام ومكروا مكرهم لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما بلغوا بأصحابه - الذين اتبعوه على الهدى - غاية التعذيب والتنكيل والأذى.
إخوة الإيمان ، لقد أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الغزوة فرقانا ً بين الحق والباطل، وفرقانا ً في خط سير التاريخ الإسلامي، ومن ث َ م فرقانا ً في خط سير التاريخ الإنساني، فأراد الله عز وجل أن يظهر فيها الآمال البعيدة بتدبيره لهم ، ولو كرهوه في أول الأمر، كما أراد الله سبحانه وتعالى أن يتعلم المؤمنون عوامل النصر وعوامل الهزيمة ، وأن يأخذوها مباشرة من الله عز وجل، وهو في ميدان المعركة وأمام مشاهدها.
وفي هذه الغزوة تجلت نعم الله تعالى على عباده المؤمنين ، يظهر ذلك من خلال قوله تعالى: إِذْ يُغَشّيكُمُ ?لنُّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن ?لسَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ?لشَّيْطَـ?نِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى? قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ ?لاْقْدَامَ ، ومن خلال قول تعالى إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ?لْمَلَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ?لرُّعْبَ فَ?ضْرِبُواْ فَوْقَ ?لاعْنَـ?قِ وَ?ضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذ?لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ ذ ?لِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَـ?فِرِينَ عَذَابَ ?لنَّارِ.
إخوة الإيمان ، كما تجلت في هذه الغزوة روح الإيمان والإخلاص لله تعالى ومبدأ الإعداد والتخطيط الدقيق من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لهذه الغزوة، كما تجلى مبدأ الأخذ بالأسباب ومبدأ الشورى بين القائد والجيش.
أيها المسلمون ، إن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يذكرون بهذه الأيام من هذا الشهر المبارك هذه الذكرى الجميلة ، ذكرى غزة بدر الكبرى، ويرفعون أيديهم إلى السماء كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضارعين إلى المولى أن ينصرهم على أعدائهم، قائلين في حرقة ألم مما يصيبهم من أعداء الإسلام: (( اللهم أ نشدك عهدك ووعدك الذي وعدتنا )) ، فهم في هذه الذكرى فرحون مغتبطون ، وهم في هذه الذكرى أيضا ً راجون وخائفون، راجون رحمة الله ونصره كما رحم ونصر أسلافهم، وخائفون من بوادر بدرت وفتن كقطع الليل المظلم عليهم أقبلت.
فيا أيها الصائمون ، كونوا عباد الله إخوانا ً، واجعلوا هذا الشهر المبارك شهر عبادة وفضيلة وتوبة، كونوا كالسابقين الأولين، واجعلوا هذا الشهر شهر بِر ورحمة وتوسعة على الفقراء، وحافظوا على حرمة هذا الشهر، وبادوا إلى إخراج زكاة أموالكم، وأكثروا من قراءة القرآن والتدبر في معانيه ومدارسة السنة النبوية الشريفة، بخاصة أنكم في العشر الأواخر من رمضان، تحروا فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وقولوا فيها : (( اللهم إنك عفو كريم تحب العفو ، فاعفوا عنا يا كريم )) ، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( من تطوع فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيمن سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه )).
وإنه - يا عباد الله - موسم للعبادة عظيم ، فاغتنموا فرصه ، وقوموا من ليله ما تيسر، فقد صح عن سيد الأنام أنه قال: (( من قام رمضان إيمانا ً واحتسابا ً غفر له ما تقدم من ذنبه )).
أما النهاية مسك الختام فالفرحة عند لقاء الملك العلام ، والأمن يوم الفزع الأكبر كما جاء في الحديث الشريف (( للصائم فرحتان : فرحة عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه )) ، وقد ورد أنه توضع لهم مائدة تحت العرش يأكلون منها ، والناس ما برحوا في الحساب، ثم يُدعون إلى دخول الجنة ، إلى دار السلام من باب يقال له الريان، جاء في الحديث (( فإذا دخلوا أغلق ، من دخل فيه شرب ، ومن شرب لم يظم أ أبد اً)) ، فيا لعظيم الفضل ويا لسعادة الصائمين، وكما قال : (( التائب من الذنب كمن لا ذنب له )).
ا دعو ا الله وأ نتم موقنون بالإجابة ، فيا فوز المستغفرين ، استغفروا الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي المتقين ، وناصر المؤمنين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمد اً عبد ه ورسوله ، سيد الأولين والآخرين ، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد ، أيها المسلمون ، إن مما يثلج الصدور ويبعث الأمل في القلوب مشاهدة هذا الزحف المبارك وهذا العرس الرمضاني وهذه الجموع الحاشدة التي وصلت إلى المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثاني المسج د ين وثالث الحرمين الشريفين، وصلت إليه من كل أنحاء فلسطين، بالرغم من الحواجز العسكرية المقامة على الطرقات وعلى مداخل القرى والمدن، وبالرغم من وعورة الطريق وصعوبة المواصلات وضيق الحال، جاءت هذه الجموع لتأكد إسلامية أرض الإسراء والمعراج ومدى تمسكها فيه.
أيها المسلمون ، إن المسجد الأقصى المبارك هو رمز عقيدة المسلمين، بنته الأنبياء وانتسب إليه كثير من العلماء، وسكنه وشد إليه الرحال كثير من الأولياء، وسقط على أرضه قوافل الشهداء، وهو عش العلماء، وعقر دار الإسلام في نهاية الزمان، وأهله مرابطون إلى يوم الدين ، والركعة فيه بخمس مئة ركعة، وعلى أرضه المباركة المقدسة تعيش الطائفة الظاهرة المنصورة، كما أن النبي سليمان عليه دعا الله أن يغفر ذنوب كل من يمم وجهه للصلاة فيه.
ولكن الذين يزعمون أنهم من أتباع الأنبياء يمنعون أهل فلسطين من الوصول إليه من أ جل الصلاة فيه، إن هذا التصرف يتنافى مع أبسط حقوق الإنسان ومع حرية العبادة التي كفلته قوانين الأرض والسماء.
أيها المرابطون ، إن القدس بمساجدها ومبانيها الإسلامية الأصيلة وما تحتله في الضمائر من مكانة إنما مبعثه عقيدة الإسلام، فالصحابة رضوان الله عليهم والخلفاء الأمويون والعباسيون والعثمانيون حافظوا على مكانة القدس من منطلق الإيمان الصحيح بالإسلام، ومن واجب الجيل المعاصر أن يحذو حذو السابقين حتى تكون القدس في بؤرة حياتهم.
وإن كل مساس بالمسجد الأقصى المبارك هو مساس بمشاعر المسلمين في أرجاء المعمورة ، لأنه شريان القلوب ومهوى أفئدة المسلمين ومحط أنظارهم وسر وجودهم على الأرض المباركة، فلا تكتمل عقيدة المسلم إلا إذا آمن بأن المسجد الأقصى المبارك هو جزء من عقيدته ودينه.
إن كل المحاولات التي تجرى لتغير معالم القدس والمساس بمكانة المسجد الأقصى المبارك ستبوء بالفشل مهما كانت ، إن شاء الله تعالى.
أيها المسلمون ، وعندما تصبح القدس متعمقة الجذور في النفوس والقلوب ستتفتح ز هور أشجارها وستشرق شمسها ، وستبدد ظلمة ليلها ، وستفتح قلبها وذراعيها لاستقبال من يكسر القيود والأغلال التي تكبلها ، وما ذلك على الله بعزيز ، ولله در القائل:
يا قدس مهما الليل طال فلن يدوم الاحتلال
الكفر ول ّى لن يعود ولست في هذا مغال
الفجر آت لا محال والظلام إلى زوال
لاحت تباشر الصبا ح وجاء دور ك يا بلال
(1/2820)
بين يدي ذكرى بدر
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
غزوات, فضائل الأزمنة والأمكنة
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
- تعرض المسلمين في مكة لصنوف العذاب والاضطهاد. 2-بعض صور الإيذاء التي نالت النبي. 3- شجون المسلمين تجيش في ذكرى بدر. 4- نصر الله المؤمنين في بدر. 5- بعض دروس الغزوة. 6- فضل العشر الأواخر من رمضان. 7-فضائل الصيام ورمضان. 8- منزلة المسجد الأقصى عند المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد ، أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ، أيها المرابطون في أرض الإسراء والمعراج، فمنذ أن جهر الرسول الأعظم بدعوته ورسالته قرر المشركون أن لا يألو ا جهدا ً في محاربة الإسلام وإيذاء الداخلين فيه والتعرض لهم بألوان العذاب والإيلام، وانفجرت مكة وبمشاعر الغضب وظلت عشرة أعوام تعتبر الرسول وأتباعه عصاة ثائرين، فزلزلت الأرض من تحت أقدامهم، واستباحت في الحرم الآمن دما ء هم وأموالهم وأعراضهم، وجعلت مقامهم م ح لا ً لضيم وللويل.
إخوة الإيمان ، وصاحبت هذه الأحقاد حرب من السخرية والتحقير ، قصد بها تخذيل المسلمين وتوهين قواهم المعنوية، فرمي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته بتهم هازلة وشتائم سفيهة ، وتألفت جماعة لاستهدا ف الإسلام ورجاله على نحو ما تفعل الصحافة المعارضة عندما تنشر عن الخصوم نكتا ً لاذعة وصورا ً مضحكة ، للحط من مكانتهم لدى الجماهير.
أيها المؤمنون ، بهذين اللونين من العداوة وقع المسلم ون بين شقي الرحى، فرسولهم ينادى ويرمى ب الجنون، وَقَالُواْ ي?أَيُّهَا ?لَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ ?لذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ويوسم بالسحر والكذب وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّنذِرٌ مّنْهُمْ وَقَالَ ?لْكَـ?فِرُونَ هَـ?ذَا سَـ?حِرٌ كَذَّابٌ ، ويشي ّ ع ويستقبل بنظرات ملتهمة ناقمة وعواطف منفعلة هائجة وَإِن يَكَادُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَـ?رِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ?لذِكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ.
أيها المرابطون ، فليس حظ سائر المسلمين بأفضل من هذه المعاملة، فهم في غدوهم وروا ح هم محل التندر واللمز إِنَّ ?لَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا ?نقَلَبُواْ إِلَى? أَهْلِهِمْ ?نقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَـ?فِظِينَ.
فانقلبت هذه الحرب إلى تنكيل وسفك دماء بالنسبة إلى المستضعفين من المسلمين، فمن ليست له عصبية تدفع عنه لا يعصمه من الهوان والقتل شيء، بل يحبس على الآلام حتى يكفر أو يموت أو يسقط إعياء.
أيها المؤمنون ، وي ط ول الحديث لو ذهبنا نستعرض نماذج عن العذاب الذي لاق ا ه رسولنا الكريم وصحاب ت ه الغر الميامين، ولكنني سأكتفي بما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حيث قال: ( بين ا النبي صلى الله عليه وسلم ساجد ، وحوله ناس من قريش جاء عقبة بن أبي معيط ب س لا جزور ، فقذفه على ظهره الشريف، فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها ، فأخذته ع ن ظهره ودعت على من صنع ذلك ).
وما رواه الإمام البخاري عن خباب بن الأرت أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة ، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت : يا رسول الله ألا تدعو الله لنا، ف نظر إليه وهو محمر الوجه وقال: (( قد كان من قبلكم ليمشط ب أ مشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ، لا يصرف ه ذلك عن دينه، أي ما يرده ذلك عن دينه، وليتمن الله ه ذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله ))، وفي رواية : (( والذئب على غنمه )).
أيها المؤمنون ، وإن كنتم تتعجبون من هذا العذاب والأذى ، وتستغربون أن يكون ذلك في سبيل الله عز وجل، فاعلموا أن هذا هو السبيل الوحيد وتلك هي سنة الله في جميع عباده الذين آمنوا به، وتمضي الأيام والشهور والسنوات ويدخل الإسلام المدينة ، ويهاجر إليها المسلمون ، وأخذوا يستعدون حتى لا تق ت حم المدينة عليهم من أقطارها.
أيها المؤمنون ، إن أجمل ذكريات الأمة الإسلامية نصر الله لنبيها وتأييده لدينها ، فالأمة الإسلامية في مجموعها ما برحت تشرئب لمثل ذلك النصر على أعدائها، وما فتئت تعيش سعيدة في دنيا ذكرياتها، يحدوها الأمل بعز الإسلام وإشراق نوره وتبديد الظلام ، وإن طال زمانه.
وفي مثل هذا الشهر المبارك وبعد منتصفه قبل ألف وأربعة مائة وثلاث وعشرين عام ، خرج رسول السلام في ثلة من أصحابه ، وضآلة في عدده م وعدته م، خرج يقابل جموع قريش في صولتها وكثرة عددها ووفرة عدتها، وهو موقن أن الغلبة له عليها، مؤمن أن الله وحده هو الحق ونعم الوكيل، نزلها في بدر وقد شق عليه ما رأى من طغيانها وإعلانها ا لعداء لله ورسوله، فتوجه إلى الله بدعائه قائلا ً : (( اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك )) ، ولم يرجع يديه إلا والملائكة تنزل مددا ًً تقاتل في صفوف المسلمين ، ويمتن الله على عبده وعلى المسلمين بهذا النصر المبين قائلا: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ?للَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، إلى أن قال : وَمَا جَعَلَهُ ?للَّهُ إِلاَّ بُشْرَى? لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا ?لنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَكِيمِ.
أيها المسلمون ، إن غز وة بدر الكبرى هي الغزوة الأولى من نوعها في تاريخ الإسلام ، والتي أعز الله فيها الإسلام وأهله ، ومرغ أنف الشرك في أوحال الهزيمة بعد أن قذفت قريش في خضم هذه المعركة برجالها وصناديدها، ولكن الله جعل كيدهم في نحوره م، لأنهم خرجوا ، والغرور يمل أ نفوسهم ، والشيطان فيها حليفهم، إنه يوم الفرقان، إن اليوم الذي قتل فيه صناديد الشرك وأئمة الكفر من أ هل مكة، والجدير بالذكر أن المسلمين لم يكن خروجهم للقت ا ل ، إنما كان للاستيلاء على القافلة، على قافلة قريش الذين أخرجوا المهاجرين من ديارهم وأمولهم، فأراد الله للعصبة المسلمة غير ما أرادت لنفسها من الغنيمة ، أراد الله أن تنفلت منها القافلة وأن تلقى عدوها من صناديد قريش الذين حاربوا دعوة السلام ومكروا مكرهم لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما بلغوا بأصحابه - الذين اتبعوه على الهدى - غاية التعذيب والتنكيل والأذى.
إخوة الإيمان ، لقد أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الغزوة فرقانا ً بين الحق والباطل، وفرقانا ً في خط سير التاريخ الإسلامي، ومن ث َ م فرقانا ً في خط سير التاريخ الإنساني، فأراد الله عز وجل أن يظهر فيها الآمال البعيدة بتدبيره لهم ، ولو كرهوه في أول الأمر، كما أراد الله سبحانه وتعالى أن يتعلم المؤمنون عوامل النصر وعوامل الهزيمة ، وأن يأخذوها مباشرة من الله عز وجل، وهو في ميدان المعركة وأمام مشاهدها.
وفي هذه الغزوة تجلت نعم الله تعالى على عباده المؤمنين ، يظهر ذلك من خلال قوله تعالى: إِذْ يُغَشّيكُمُ ?لنُّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن ?لسَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ?لشَّيْطَـ?نِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى? قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ ?لاْقْدَامَ ، ومن خلال قول تعالى إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ?لْمَلَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ?لرُّعْبَ فَ?ضْرِبُواْ فَوْقَ ?لاعْنَـ?قِ وَ?ضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذ?لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ ذ ?لِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَـ?فِرِينَ عَذَابَ ?لنَّارِ.
إخوة الإيمان ، كما تجلت في هذه الغزوة روح الإيمان والإخلاص لله تعالى ومبدأ الإعداد والتخطيط الدقيق من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لهذه الغزوة، كما تجلى مبدأ الأخذ بالأسباب ومبدأ الشورى بين القائد والجيش.
أيها المسلمون ، إن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يذكرون بهذه الأيام من هذا الشهر المبارك هذه الذكرى الجميلة ، ذكرى غزة بدر الكبرى، ويرفعون أيديهم إلى السماء كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضارعين إلى المولى أن ينصرهم على أعدائهم، قائلين في حرقة ألم مما يصيبهم من أعداء الإسلام: (( اللهم أ نشدك عهدك ووعدك الذي وعدتنا )) ، فهم في هذه الذكرى فرحون مغتبطون ، وهم في هذه الذكرى أيضا ً راجون وخائفون، راجون رحمة الله ونصره كما رحم ونصر أسلافهم، وخائفون من بوادر بدرت وفتن كقطع الليل المظلم عليهم أقبلت.
فيا أيها الصائمون ، كونوا عباد الله إخوانا ً، واجعلوا هذا الشهر المبارك شهر عبادة وفضيلة وتوبة، كونوا كالسابقين الأولين، واجعلوا هذا الشهر شهر بِر ورحمة وتوسعة على الفقراء، وحافظوا على حرمة هذا الشهر، وبادوا إلى إخراج زكاة أموالكم، وأكثروا من قراءة القرآن والتدبر في معانيه ومدارسة السنة النبوية الشريفة، بخاصة أنكم في العشر الأواخر من رمضان، تحروا فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وقولوا فيها : (( اللهم إنك عفو كريم تحب العفو ، فاعفوا عنا يا كريم )) ، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( من تطوع فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيمن سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه )).
وإنه - يا عباد الله - موسم للعبادة عظيم ، فاغتنموا فرصه ، وقوموا من ليله ما تيسر، فقد صح عن سيد الأنام أنه قال: (( من قام رمضان إيمانا ً واحتسابا ً غفر له ما تقدم من ذنبه )).
أما النهاية مسك الختام فالفرحة عند لقاء الملك العلام ، والأمن يوم الفزع الأكبر كما جاء في الحديث الشريف (( للصائم فرحتان : فرحة عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه )) ، وقد ورد أنه توضع لهم مائدة تحت العرش يأكلون منها ، والناس ما برحوا في الحساب، ثم يُدعون إلى دخول الجنة ، إلى دار السلام من باب يقال له الريان، جاء في الحديث (( فإذا دخلوا أغلق ، من دخل فيه شرب ، ومن شرب لم يظم أ أبد اً)) ، فيا لعظيم الفضل ويا لسعادة الصائمين، وكما قال : (( التائب من الذنب كمن لا ذنب له )).
ا دعو ا الله وأ نتم موقنون بالإجابة ، فيا فوز المستغفرين ، استغفروا الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي المتقين ، وناصر المؤمنين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمد اً عبد ه ورسوله ، سيد الأولين والآخرين ، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد ، أيها المسلمون ، إن مما يثلج الصدور ويبعث الأمل في القلوب مشاهدة هذا الزحف المبارك وهذا العرس الرمضاني وهذه الجموع الحاشدة التي وصلت إلى المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثاني المسجد ين وثالث الحرمين الشريفين، وصلت إليه من كل أنحاء فلسطين، بالرغم من الحواجز العسكرية المقامة على الطرقات وعلى مداخل القرى والمدن، وبالرغم من وعورة الطريق وصعوبة المواصلات وضيق الحال، جاءت هذه الجموع لتأكد إسلامية أرض الإسراء والمعراج ومدى تمسكها فيه.
أيها المسلمون ، إن المسجد الأقصى المبارك هو رمز عقيدة المسلمين، بنته الأنبياء وانتسب إليه كثير من العلماء، وسكنه وشد إليه الرحال كثير من الأولياء، وسقط على أرضه قوافل الشهداء، وهو عش العلماء، وعقر دار الإسلام في نهاية الزمان، وأهله مرابطون إلى يوم الدين ، والركعة فيه بخمس مئة ركعة، وعلى أرضه المباركة المقدسة تعيش الطائفة الظاهرة المنصورة، كما أن النبي سليمان عليه دعا الله أن يغفر ذنوب كل من يمم وجهه للصلاة فيه.
ولكن الذين يزعمون أنهم من أتباع الأنبياء يمنعون أهل فلسطين من الوصول إليه من أ جل الصلاة فيه، إن هذا التصرف يتنافى مع أبسط حقوق الإنسان ومع حرية العبادة التي كفلته قوانين الأرض والسماء.
أيها المرابطون ، إن القدس بمساجدها ومبانيها الإسلامية الأصيلة وما تحتله في الضمائر من مكانة إنما مبعثه عقيدة الإسلام، فالصحابة رضوان الله عليهم والخلفاء الأمويون والعباسيون والعثمانيون حافظوا على مكانة القدس من منطلق الإيمان الصحيح بالإسلام، ومن واجب الجيل المعاصر أن يحذو حذو السابقين حتى تكون القدس في بؤرة حياتهم.
وإن كل مساس بالمسجد الأقصى المبارك هو مساس بمشاعر المسلمين في أرجاء المعمورة ، لأنه شريان القلوب ومهوى أفئدة المسلمين ومحط أنظارهم وسر وجودهم على الأرض المباركة، فلا تكتمل عقيدة المسلم إلا إذا آمن بأن المسجد الأقصى المبارك هو جزء من عقيدته ودينه.
إن كل المحاولات التي تجرى لتغير معالم القدس والمساس بمكانة المسجد الأقصى المبارك ستبوء بالفشل مهما كانت ، إن شاء الله تعالى.
أيها المسلمون ، وعندما تصبح القدس متعمقة الجذور في النفوس والقلوب ستتفتح ز هور أشجارها وستشرق شمسها ، وستبدد ظلمة ليلها ، وستفتح قلبها وذراعيها لاستقبال من يكسر القيود والأغلال التي تكبلها ، وما ذلك على الله بعزيز ، ولله در القائل:
يا قدس مهما الليل طال فلن يدوم الاحتلال
الكفر ولّى لن يعود ولست في هذا مغال
الفجر آت لا محال والظلام إلى زوال
لاحت تباشر الصبا ح وجاء دور ك يا بلال
(1/2821)
حبل الله
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الزكاة والصدقة, القرآن والتفسير
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
26/9/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مثل شهر رمضان. 2- رحيل شهر رمضان. 3- سبيل الصلاح والإصلاح. 4- الاستفادة من القرآن في شهر القرآن. 5- الوسطيّة الحقّة. 6- فضل القرآن وعظمته. 7- ضرورة اغتنام ما بقي من الشهر. 8- من أحكام زكاة الفطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ؛ إذ بها المعتَصَم وإليها الملتزَم، فما خاب من عمِل بها، ولا حار من لامَست شغافَ قلبه، بها النّجاة وفيها الحياة، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54، 55].
أيّها المسلمون، إنّ مثَل شهرِ رمضان المبارك كمثَل حبلٍ متين وثيقِ الفَتل، من تمسّك به فكأنّما هو يُمدِد بسببٍ إلى السّماء من الإيمانِ والمسارعةِ إلى الخيرات، ثمّ إنّ الانسجام المتكاملَ مع رَوحانيةِ هذا الشّهر لا يكفله إلاّ الانسجامُ التامّ مع أُطُر الشريعةِ الغرّاء وثوابتِها المتينة والمفهوم الصحيح لمعنى شهرِ رمضان المبارك ومعنى حرمتِه وعظمته، وإلاّ فهيهاتَ هيهاتَ أن تستجلَب القشعريرة المصاحبةُ لهذا الشّهر وسطَ زوابع وهَت فيها حبالُ التمسّك الصريح بشِرعةِ الله ومنهاجه، وحاضرُ الأمّة ومستقبلها مرهونٌ بمقدارِ الفهمِ الصّحيح لحقيقةِ هذا الشهر وما يحمِله من المعاني المؤثّرة سلبًا وإيجابًا على واقعِها، وإذا ما تحقّقت في المجتمعاتِ المسلمة صورةُ الالتزام بصِبغة الله فإنّها حينذاك تُعَدّ مجتمعاتٍ حيّة بتلاؤمِ شرائحِها وانتظامِها كانتظام خَرَز قلادةٍ طوِّقت حول العُنق، في حالةٍ يسودها رضَا النّاس بربّهم ثمّ رضاهم بأنفسهم وولاتِهم وعلمائهم وذوي الإصلاحِ فيهم، والرّضا عن الآخرين مِن خلالِ ما يُشاهَد في هذا الشّهر المبارك من ممارساتٍ حياتيّة باديَة للعيان، تعدّ محكًّا ولا شكّ في الحكم على مثلِ هذه المجتمعاتِ قُربًا من الله أو بُعدًا.
أيّها المسلمون، إنّ شهرَكم هذا قد تقارب تمامُه وتصرَّمت لياليه الفاضلةُ وأيّامه، وآذن للمَلأ برحيله، وإذا لم يكن هذا الشهر هو شهرَ التّوبة فمتى تكون التّوبة إذًا؟! وإذا لم يكن هذا الشهرُ هو شهرَ التصحيح والتغيير على الأحسن فمتى يكون التصحيح إذًا؟! وسنظلّ نقول: متى إذًا؟ ومتى إذًا؟ ومتى إذًا؟!
إنّ المجتمعاتِ المسلمة مهما غفلت عن المحاسبةِ والتّصحيح تجاهَ التّقصير أو تناءت عن الوصولِ إليه أو تجاهَلت الإحساسَ الصادقَ بالذّنب والتفريط في جنب الله فستظلّ أسيرةَ الفوضى والعشوائيّة، منقادةً لا قرارَ لها، تتهاوى بها مضاربُ اللاعبين بها في كلّ اتجاهٍ ومسلك، فإذا هي تُصعِد ولا تَلوي على شيء، بل هي موثَقَة بكلكَلها وكأنّها وسطَ عُنقِ زجاجة لا تستطيع الحِراك من خلاله.
ألا إنّ العقولَ السويّة والفطرَ السّليمة لن تخرجَ عن إطارها المرجوِّ لها إذا اعتبرَت البحثَ عن الصّلاح هو البرنامجَ الوحيد لكلّ إصلاح، وإذا كانت صبوةُ المجتمعاتِ المتدنّية دائمةَ الإلحاح على ذويها تحاوِل العِوجَ بسلوكِهم بين الحين والآخر فلن يُكفكِفَ شرَّ هذه الصبوةِ علاجٌ مؤقّت أو خلق مسبَّباتٍ في غير موضعِها أو بردود أفعالٍ لا تلبَث أن تذهبَ أدراجَ الرّياح، بل إنّها تحتاج إلى عامِل لا يقلّ قوّةً عنها ليعيدَ التوازنَ على عجلٍ عند الاختلال، ألا وهو عاملُ المحاسبة والتّصحيح، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11].
أيّها المسلمون، كتابُ الله جلّ وعلا هو إعلامُ المسلمين الصادِق ومنبَع التوجيه والتربيّة الصافية، الذي لا تشوبه مطامِع ولا تكدّره حظوظ، فهو ليس إعلامًا يُذكِي الخنَا أو يُضرم الجريمةَ أو يحلق الأخلاقَ الفاضلة والمُثُل السامية، كلا، إنّه إعلامٌ من ربّ العالمين، لا تطفَأ مصابيحه، ولا يهزَم أنصاره، هو الحقّ ليس بالهزل، بالحقّ أنزله الله، وبالحقّ نزل، مَن عمل به أُجِر، ومن حكَم به عدَل، ومن ابتغى الهدى من غيرِه أضلّه الله، به يرفَع الله أقوامًا ويضَع آخرين.
إنّ جموعَ المسلمين عن اليمينِ وعن الشّمال عِزين شَرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا قد أمضَوا خمسةً وعشرين يومًا مع كتابِ ربّهم، ينهلون من منابعِه ويرَون عجائبَه وأمثالَه وأقسامَه وإعجازَه، ولقد أخذَت بألبابهم قصصُ القرآن كلَّ مأخذ، حيث تنوّعت في قصصِ الأنبياء والمرسلين وفي قصصٍ قرآنيّ يتعلّق بحوادثَ غابرة، كقصّة الذين خرَجوا من ديارِهم وهم ألوفٌ حذرَ الموت فقال لهم الله: موتوا، ثمّ أحياهم، وقصّةِ طالوت وجالوت وابنَي آدم وأهل الكهف وذي القرنين وقارونَ وفرعون وهامان وأصحابِ السّبت وأصحاب الأخدود وغيرهم. ومحصَّلةُ هذه القصصِ كلّها العاقبة الحسنى للمؤمنين والخسرانُ والبوار للمعاندين المستكبرين أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الأعراف:49].
كلُّ هذا القصصِ ـ عبادَ الله ـ ليثبّت الله به أفئدةَ العباد ويذكي روحَ الإيمان في قلوبهم وليبيّن لهم أنّه إنّما خلقَ الجنَّ والإنس ليعبَد وحدَه في الأرض، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111].
عبادَ الله، من خلالِ عرضِ المسلمين للكتابِ المباركِ في هذا الشّهر فإنّهم يدركون جيّدًا أنّ الله فضّل هذه الأمّة من بين الأمم الغابرة برسالةِ محمّد ، وشعارُها هو الوسطية، فهي الأمّة الوسَط التي تكون شهيدةً على الناس ويكون الرّسول عليها شهيدًا، والوَسَط كما قاله المفسرون هو العَدل الخِيار، لا كما يفهمه البعضُ من أنّ الوسطَ هو الشيء الذي يكون بين طرفين، كلاّ، بل هو الحقّ ولو تعدّدت الأطراف، وهو الحقّ ولو لم يكن ثمَّة إلاّ طرفان، فالوَسط هو ما وافق أمرَ الله وأمرَ رسوله وإن كنتَ وحدَك، ومِن هذا نعلم يقينًا غلطَ فِئتين من الناس، إحداهما فئةٌ مغالية متنطّعة سالكة مسالكَ يعلوها الشططُ والعريّ عن الأثارة العلمية، فهي تجتهِد دونَ علم وتعمل دون رويّة، فتفسُد وتُفسِد، ومن ثمّ تقع فيما عاب الله به أهلَ الكتاب بقوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77]. والفئةُ الأخرى فئةٌ منحرِفة تشَنشِن حولَ الفئةِ الأولى، فتدعو بسببِ ذلك إلى وسطيّةٍ ابتدعوها ما كتبَها الله عليهم، بل هي متطرِّفة أيضًا عن الحقّ؛ لأنّها ترى الوسطيّة في التخلّي عن الثوابتِ الشرعيّة والتّشكيكِ في مسلَّمات الدين والدّعوة إلى تهميشِ الأسُس والركائز التي قامت عليها أمَم الإسلام ودوَل الإسلام رَدحًا من الزمن، ليُجهَز عليها إبّانَ ممارساتٍ شاذّة من الفئةِ الأولى ليست هي من أصولِ الإصلاح ولا هي من بابتِه، وإنّما علّق عليها الهادِمون المعاولَ ليشوِّشوا بها على بني الملّة ويهوِّشوا، ولتكونَ للحاسدين تكأةً للقضاء على البقيّة الباقية من صورِ التديّن الذي لا تحيَى المجتمعاتُ إلاّ به، ومن ثمّ تقع هذه الفئةُ فيما عابَ الله به اليهودَ بقوله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].
ولِذا ـ عبادَ الله ـ فإنّ أيَّ هَبوبٍ لرياح التّغيير التي تتلو الزّوابع والمدلهمّات ينبغي أن يكونَ مبعثَها كتابُ الله وسنّة رسوله ، عملاً بوصيّة النبيّ لأمّته في حجّة الوداع: ((وإنّي قد تركتُ فيكم ما لن تضلّوا بعدي إن اعتصمتم به: كتاب الله)) رواه أبو داود وابن ماجه [1].
إنّه بمثل هذا علّمنا القرآن، وبهذا يشهَد كلّ من كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد مِن خلالِ عرضِ هذا القرآن في هذا الشهر المبارك، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82].
إنّ القرآنَ هو الحياةُ وهو النّجاة في زمنٍ أفلسَت فيه النُظم ووهنَت فيه العولمةُ الحرّة المزعومة في السّياسة تارةً وفي العلومِ الدنيويّة أخرى وثالثةً في القهرِ والجبروت ورابعة في الغزوِ الأخلاقيّ والثقافيّ المترجَم عبرَ وسائل تتلقّفها أقطار المسلمين يمنةً ويسرة إلاّ من رحِم الله. ويا ليت شِعري هل تدرِك أفئدةُ الكثيرين قولَ النبيّ لعائشة رضي الله عنها في ليلةٍ من اليالي: ((يا عائشة، ذرينِي أتعبَّد لربّي)) ، قالت: قلت: والله، إنّي لأحبُّ قربَك وأحبّ ما يسرّك، قالت: فقام فتطهّر، ثمّ قام يصلّي فقرأ القرآنَ، ثمّ بكى حتّى رأيتُ دموعَه قد بلغت حِقويه، ثمّ جلس فحمِد الله وأثنى عليه، ثمّ بكى حتّى رأيتُ دموعَه قد بلغت حجرَه، ثمّ اتّكأ على جنبه الأيمن ووضع يدَه تحت خدّه، ثمّ بكى حتّى رأيت دموعَه قد بلغت الأرض، فدخل عليه بلال فآذنه بصلاةِ الفجر وقال: ما يبكيك؟ قال: ((لقد نزلت عليَّ الليلة آيات، ويلٌ لمن يقرؤها ولم يتفكّر فيها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ [آل عمران:190-193] )) رواه ابن حبّان بسندٍ جيّد [2].
اللهمَّ اجعل القرآنَ العظيم ربيعَ قلوبنا ونورَ صدورنا وجلاءَ أحزاننا وذهابَ همومنا وغمومِنا، برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.
[1] سنن أبي داود: كتاب المناسك (1905)، سنن ابن ماجه: كتاب المناسك (3074) من حديث جابر رضي الله عنه الطويل في صفة حجة النبي ، وهو عند مسلم في الحج (1218).
[2] صحيح ابن حبان (620)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1468).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ العالمين، والصّلاة والسّلام على أشرفِ الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فاتّقوا الله أيّها المسلمون، واعلَموا أنّ عشرَكم هذه عناقِد تناقصت وخرَزُ عقدٍ لم يبقَ منها إلا القليل، فمن كان منكم محسنًا فيه فعليه بالإكمال، ومن كان مقصِّرًا فليختِمها بالإنابة والاستغفار، فهنيئًا لمن تفكّر في ذنوبه فبكى، وأسِف على ما كان منه فرفَع أكفَّ الضّراعة إلى ربّه وشكا.
ألا فاتّق الله ـ أيها المسلم ـ فيما بقي، وأقبِل على ربّك إقبالَ التائبَ الآيِب، وانظر كيف سار المتّقون في هذا الشهرِ ورجعتَ، ووصَلوا إلى المقصِد وانقطعتَ، وأجابوا الداعيَ لكنّك قد امتنعتَ، لقد تفكّروا في تفريطِهم فأنّوا، وتلهّفوا إلى رحمةِ الباري فحنّوا.
ألا ترى ـ أيّها المسلم ـ أنّ منزلةَ شهر رمضان مع بقيّة الشهور كمنزلةِ يوسفَ عليه السلام مع إخوانِه الأحدَ عشر، وأنّ يعقوبَ عليه السّلام لم يرتدَّ بصره بشيءٍ من ثيابهم، وارتدّ بقميصِ يوسفَ عليه السلام بصيرًا، فكذلك المذنِب إذا شمّ روائحَ رمضان وجلسَ فيه مع الذّاكرين وقرأ القرآنَ فإنّه يرتدّ إليه قلبه وتحيَى فيه نفسُه المطمئنّة، ويا لله ما أسعدَ من وفّقه الله لقيام ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر. فهل لك ـ أيّها المسلم ـ أن توافقَ هذه الليلةَ إن كانت فيما بقي، لتحظَى بثوابِ عبادةٍ تعادِل ثلاثةً وثمانين عامًا. ألا إنّ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
صعد رسول الله درجاتِ المنبر، فلمّا رقِي عتبةً قال: آمين، ثم رقِي عتبةً أخرى فقال: أمين، ثم رقِي عتبةً ثالثة فقال: آمين، ثم قال: ((أتاني جبريلُ فقال: يا محمّد، من أدركه رمضانُ فلم يُغفَر له فأبعدَه الله، قلتُ: آمين)) الحديث رواه ابن حبان وغيره [1].
ثمّ اعلموا ـ أيّها المسلمون ـ أنّ الله قد فرَض عليكم صدقةَ الفطر على الحرّ والعبد والذكر والأنثى والصغيرِ والكبير، صاعًا من برٍّ أو أقِط أو تمر أو زبيب أو شعير أو ممّا يقتاتُه أهلُ البلد، والصاع النبويّ يساوي بالوزن المتعارَف اثنين من الكيلو ومائتين غرامًا بالاحتياط.
ووقتُ وجوبِها يبدأ من ليلةِ العيد، والمستحبّ من صُبح العيدِ قبلَ الصلاة، ولا بأس في إخراجِها قبلَ العيد بيومٍ أو يومين.
كما يُسَنّ التكبير ليلةَ العيد إلى الصلاة واستحباب أكلِ ثلاثِ رُطَبات قبل أداء صلاة العيد اقتداءً بنبيّنا ، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
تقبّل الله منّا ومنكم صالحَ الأعمال، وجعلنا وإيّاكم وإخوانَنا المسلمين مِن عتقائه من النّار، إنّه سميع مجيب.
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خيرِ البريّة وأزكى البشريّة محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب صاحبِ الحوض والشّفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبّحة بقدسِه وأيّهَ بكم أيّها المؤمنون، فقال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...
[1] صحيح ابن حبان (409) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الطبراني (19/291)، قال الهيثمي في المجمع (10/166): "فيه عمران بن أبان، وثقه ابن حبان، وضعفه غير واحد، وبقية رجاله ثقات". وله شاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري في الأدب المفرد (646)، والبزار، وأبو يعلى (5922)، والطبراني في الأوسط (8131، 8994)، والبيهقي (4/304)، وصححه ابن خزيمة (1888)، وابن حبان (907)، وقال الهيثمي في المجمع (10/167): "فيه كثير بن زيد الأسلمي، وقد وثقه جماعة وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات". وله شاهد آخر من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، أخرجه الطبراني (19/144)، والبيهقي في الشعب (1572)، وصححه الحاكم (7256)، قال الهيثمي في المجمع (10/166): "رجاله ثقات". وهذه الأحاديث الثلاثة صححها الألباني في صحيح الترغيب (995، 996، 997). وفي الباب أيضا عن عمار بن ياسر وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله وابن عباس وابن مسعود وأنس وعبد الله بن الحارث رضي الله عنهم، انظر: مجمع الزوائد (10/164-166).
(1/2822)
وداع رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, فضائل الأعمال
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
26/9/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاعتبار بانقضاء الأوقات والأعمار. 2- اغتنام ما بقي من الشهر. 3- الحثّ على مداومة الصالحات. 4- علامة القبول والخسران. 5- استمرار الباقيات الصالحات بعد رمضان. 6- زكاة الفطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التّقوى، فخير الزّادِ ما صحِبه التّقوى، وخيرُ العملِ ما قارنه الإخلاصُ للمولى.
أيّها المسلمون، لقد يسّر الله طرقَ الخيرات، وتابع لعبادِه مواسمَ الحسنات، وربُّنا وحدَه هو مصرِّف الأيّام والشهور، يُولِجُ ?لَّيْلَ فِى ?لنَّهَارِ وَيُولِجُ ?لنَّهَارَ فِى ?لَّيْلِ [الحج: 61]، جعل لكلِّ أجلٍ كتابًا، ولكلّ عملٍ حسابًا، وجعل الدّنيا سوقًا يغدو إليها النّاس ويروحون، فبائعٌ نفسَه فمعتِقها أو موبِقها، والأيّام أجزاءٌ من العُمر ومراحل في الطّريق تفنى يومًا بعد يوم، مُضيُّها استنفادٌ للأعمار واستكمال للآثار وقربٌ من الآجال وغَلقٌ لخزائن الأعمال.
مضَت ليالٍ غرٌّ بفضائلها ونفحات ربّها، وأوشك باقيها على الرّحيل وكأنّها ضربُ خيال، لقد قطعت بنا مرحلةً من حياتنا لن تعود. هذا هو شهرُكم، وهذه هي نهايته، كم من مستقبلٍ له لم يستكمِله، وكم من مؤمِّلٍ أن يعودَ إليه لم يدرِكه، فاغتنِم ما بقي من الشّهر بمضاعفةِ الطّاعات، فأيّام رمضانَ تسارع مؤذنةً بالانصراف والرّحيل، وما الحياة إلاّ أنفاسٌ معدودة وآجال محدودة، وإنّ عمُرًا يقاس بالأنفاسِ لسريعُ الانصرام.
ومرورُ الأيّام يذكِّر بقربِ الرحيل، واحذَر الاغترارَ بالسّلامة والإمهالِ ومتابعة سوابغ المُنى والآمال، فالأيّام تُطوى والأعمار تفنَى، فاستلِفِ الزمن وغالِب الهوى، واجعَل لك في بقيّة الليالي مدَّخرًا فإنّها أنفس الذّخر، وابكِ على خطيئتِك واندَم على تفريطِك، واغتنِم آخرَ ساعاتِه بالدّعاء، ففي رمضانَ كنوزٌ غالية، وسلِ الكريمَ فخزائِنه ملأى ويداه سحَّاء الليل والنّهار، واستنزِل بركةَ المالِ بالصدقة، وحصِّن مالَك بالزكاة، وكن للقرآن تاليًا، وودِّع شهرَك بكثرةِ الإنابة والاستغفار وقيامٍ لله مخلصٍ في دُجى الأسحار، وإن استطعتَ أن لا يسبقَك إلى الله في بقيّة شهرك أحدٌ فافعل، فلحظاتُ رمضانَ الأخيرة نفيسة، ولعلّك لا تدرِك غيرَه، وافتَح صفحةً مشرقة مع مولاك، واسدِل الستارَ على ماضٍ نسيتَه وأحصاه الله عليك، وعاهِد نفسَك في هذا الشّهر بدوامِ المحافظةِ على الصّلوات الخمس في بيوتِ الله وبرِّ الوالدين وصلةِ الأرحام وتطهير مالِك عن المحرّمات والشّبهات وحفظِ لسانِك عن الكذب والغيبة وتطهير القلب من الحسَد والبغضاء وغضّ البصر عن المحرّمات والقيامِ بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستدرك هفواتِ الفوات، فالترحُّل من الدنيا قد دنا، والتحوّل منها قد أزِف، والرشيد من وقف مع نفسه وقفةَ حساب وعِتاب، يصحّح مسيرتَها ويتدارك زلّتها، يقول ابن حبّان رحمه الله: "أفضل ذوي العقولِ منزلةً أدومُهم لنفسه محاسبة، والسعيدُ من استودع صالحًا من عملِه، والشقيّ من شهِدت عليه جوارحه بقبيح زَلَله".
والطاعة ليس لها زمنٌ محدود، ولا للعبادةِ أجل معدود، ويجب أن تسير النفوسُ على نهج الهدى والرّشاد بعد رمضان، فعبادة ربِّ العالمين ليست مقصورةً على رمضان، وليس للعبد منتهى من العبادةِ دون الموت، وبئس القوم لا يعرفون الله إلاّ في رمضان.
أيّها المسلمون، إنّ للقبول والرِّبح في هذا الشّهر علامات، وللخسارة والرّدّ أمارات، وإنّ من علامة قبول الحسنةِ فعلُ الحسنة بعدها، ومِن علامةِ السيّئة السيّئة بعدها، فأتبِعوا الحسنات بالحسنات تكن علامةً على قبولها، وأتبِعوا السيّئات بالحسنات تكن كفارةً لها ووقايَة من خطرِها، قال جلّ وعلا: إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذكِرِينَ [هود: 114]، ويقول النبيّ : ((اتّقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئةَ الحسنة تمحُها، وخالقِ الناسَ بخلقٍ حسن)) رواه الترمذي. ومَن عزم على العودِ إلى التّفريط والتقصير بعد رمضان فالله يرضى عمّن أطاعه في أيّ شهر كان، ويغضَب على من عصاه في كلّ وقت وآن، ومدارُ السعادةِ في طول العمر وحسنِ العمل، يقول المصطفى : ((خير النّاس من طال عمره وصلح عملُه)). ومداومة المسلمِ على الطاعة من غير قَصر على زمنٍ معيّن أو شهر مخصوص أو مكان فاضل من أعظم البراهينِ على القبول وحسنِ الاستقامة.
أيّها المسلمون، إن انقضى موسم رمضانَ فإنّ الصيام لا يزال مشروعًا في غيره مِن الشهور، فقد سنّ المصطفى صيامَ يوم الاثنين والخميس، وقال: ((إنّ الأعمالَ تعرَض فيها على الله، فأحبّ أن يعرَض عملي وأنا صائم)) ، وأوصَى نبيّنا محمّد أبا هريرة رضي الله عنه بصيام ثلاثةِ أيّام من كلّ شهر وقال: ((صوم ثلاثةِ أيّام من كلّ شهر صومُ الدهرِ كلّه)) متّفق عليه. وأتبِعوا صيامَ رمضان بصيام ستّ من شوال، يقول عليه الصلاة والسلام: ((مَن صام رمضانَ ثمّ أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدّهر)) رواه مسلم.
ولئن انقضى قيامُ رمضان فإنّ قيامَ الليل مشروع في كلّ ليلة من ليالي السّنة، وقد ثبت عن النبي أنّ الله ينزل إلى السّماء الدنيا كلَّ ليلة حين يبقى ثلثُ الليل الآخر ويقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟.
وأحبّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ، والمغبون من انصرَف عن طاعةِ الله، والمحروم من حُرِم رحمةَ الله، والخطايا مطوَّقة في أعناق الرّجال، والهلاك في الإصرارِ عليها، وما أعرَض معرضٌ عن طاعتِه إلا عثَر في ثوب غفلتِه، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبينَ الخلق، فإيّاك والمعاصيَ بعد شهرِ الغفران، فالعاصي في شقاءٍ، والخطيئة تذلّ الإنسانَ وتخرِس اللّسان، يقول أبو سليمان التّيميّ: "إنّ الرجلَ يصيب الذنبَ في السرِّ فيصبح وعليه مذلّته"، وأقبِح بالذّنب بعدَ الطاعة والبُعدِ عن المولى بعدَ القرب منه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل: 97].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا مزيدًا.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، فالأعمال بالخواتيم، وفي ختامِ شهركم اجتهِدوا في الإكثار من الاستغفار يُغفَر لكم ما اقترفتم من خللٍ وتقصير، ومَن أحسن وأصلح فيما بقي غُفر له ما أسلف، ومن داوم على التقصير أُخِذ بما سلف وبما بقي.
وإنّ مِن مسالك الإحسان في ختام شهركم إخراجَ زكاة الفطر، ففيها أُلفة القلوب وعطف الغنيّ على أخيه الفقير، فرضها رسول الله طهرةً للصّائم وطْعمة للمساكين، ومقدارها صاع من طعامٍ من غالب قوتِ البلد، ووقتُ إخراجها الفاضلُ يوم العيد قبلَ الصلاة، ويجوز تقديمها قبل ذلك بيومٍ أو يومين، فأخرِجوها طيّبةً بها نفوسكم، وأكثروا من التكبير ليلةَ العيد إلى صلاة العيد تعظيمًا لله وشكرًا له على التّمام، قال عز وجل: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 185].
واشكروا ربَّكم على تمامِ فرضكم، وليكن عيدُكم مقرونًا بتفريج كربةٍ وملاطفةٍ ليتيم، وابتهجوا بعيدكم بالبقاء على العهدِ وإتباع الحسنةِ بالحسنة، وإيّاكم والمجاهرةَ في الأعياد بقبيح الفعال والآثام، يقول أحد السلف: كلّ يوم لا يُعصَى الله فيه فهو عيد، وكلّ يوم يقطعه المؤمن في طاعة مولاه وذكره فهو عيد.
ثمّ اعلموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيّه فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهمّ صلّ وسلّم وزد وبارك على نبيّنا محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
(1/2823)
الصدور من سيّد الشهور
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
4/10/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة انقضاء الأعمار. 2- أقسام الناس في استغلال المواسم. 3- مفاهيم يجب أن تصحّح. 4- المحرومون في رمضان وبعد رمضان. 5- قوافل أهل التقوى والإيمان. 6- دعوة للمحاسبة الجدية والمراجعة الصادقة. 7- تجريم أعمال التخريب والتفجير. 8- استحباب صيام ست من شوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسي بتقوى الله، فهي أربَح بضاعَة، واستقيموا على أعمالِ الخير والطّاعة إلى أن تقومَ السّاعة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
معاشرَ المسلمين، مِن الأمور المحكَمات والقضايا المسلَّمات التي غنِيت عن الدّلائل والبيّنات كونُ الزّمان سريعَ الانقضاء وشيكَ التحوُّل والانتهَاء، شهرُه الغابر لا يؤوب، وأمسُه الدّابر لا يعود، وهذا الزّمان ولا ريبَ ظرفٌ لأعمالِنا وتِرةٌ مِن أعمالنا، مَن استنبتَ فيه جلائلَ الأعمال والطّاعات واستبذَر فيه وافرَ الحسنات والقرُبات كانت حياتُه الدّنيا كروضةٍ فاحَت بعبَق الأزاهير، وفي أُخراه يُلقَّى المسرّاتِ والتباشير. وأمّا من أودع فيه الآثامَ والمعاصي كانت دنياه كصحراءَ قاحلةٍ ماحلة، حلّ بصاحبِها غيث النبوّة والهدى، فلم يِسعَدْ ولم ينتفِع، وفي الآخرة لم يُفلِح ولم يرتفِع.
ذلكم ـ أيّها المسلمون ـ مثلٌ لا شِيةَ فيه، يُضرَب لقومٍ طائعين ثابتِين جادّين، لمرضاةِ الله منبَرين، وفي الهدى والاستقامة متبارين، ذلك سَدَمهم [1] وهِجِّيراهم على كلّ الأحوال وفي كلّ الأوقات، لا ينقُضون عهدًا مع الله أبرَموه، ولا ينكثون أمرًا أحكَموه، وقوم ازدَلفوا إلى الله في أيّام معدوداتٍ، وما أن بانت حتى خارت عزائمُهم وانحلّت لديهم حُظَى الطّاعة وانضَوَوا في زمرةِ أهل الغفلةِ والإضاعة عياذًا بالله.
إخوةَ الإسلام، ونقِف بكم وقفةَ مذكِّر ملتَاعٍ مع الشّهر الذي لا يُملّ حديثه ولا يخلَق قديمه وحديثه، إنّه شهر رمضانَ الذي غربَت عنّا شمسه وأفل دونَنا نجمه، وقد عمِرت أيّامه ولياليه بالصّالحات والخيرات؛ بالصّيام والقيام، بالتّلاوة والبرّ والنّدى. أمَا كنّا بالأمس القريب نتشّوق للقائِه ونتطّلع لبهائِه ونتمنّى أن لو طال وما تصرّم كطيفِ الخيال؟! اللهمّ فتقبّل ما أودعنا فيه من صالحِ العمل، وكفّر عنّا ما كان فيه من وزرٍ وزلَل، واغفر اللهمّ ما اجترَحنا فيه من نقصٍ أو خلل، بمنّك وجودك يا حليمُ يا كريم.
إخوةَ العقيدة، وفي هذه الأيّام المترَعة بالسّرور والبهجة تجنون غراسَكم الطيّب بما أحلّ الله لكم من المباحات والطيّبات، وذلكم دليلٌ على شرَف ما كنتم فيه من شعيرة جليلةٍ وركن ركين من أركان هذا الدّين.
وفي هذا الأوان يتأكَد علينا ـ معاشرَ الأحبّة في الله ـ أن نضعَ الهناء موضعَ النّقَب في تصويبِ مسار كثيرٍ من النّاس في علاقتهم ببارئِهم في رمضانَ وبعد رمضان وتسديدِ فهومٍ كثيرة جنحَت عن منهجِ السداد والتوفيق في الإفادة من أزمنةِ البرّ والخير والقُربى.
فمِن ذلكم ما يجِب استصحابه واستدامتُه من رَوح رمضان ومضامينِه وآثاره ودلالاتِه المتوهّجة الأصيلةِ كالصّبر والاجتهادِ والتّراحم والتّلاحم والتّواصل وحالِ السلفِ بعده مِن محاسبةِ الذات ومجاهدةِ النفس والانتصار عليها الذي يفتح أرحبَ المجالات للانتصار على العدوّ واستدامة الإنفاق والبذلِ في المجالات الخيريّة وفتح آفاقِ العمل الخيريّ وتنسيقه، لا تركه وتحجيمُه، مستمسكين به كثابتٍ من ثوابتِ الدين، لا تمسّه المتغيّرات ولا تحجّمه المستجدّات ولا يفتّ في عضدِ أهلِه مسعورُ الحملاتِ ولا شديدُ الهجمات.
ومِن ذلك أن يكونَ هذا الفراق للشّهر الكريم إيذانًا بالعَودة الصّادقة إلى التّسابق في ميادين العِبادة والاستقامة اقتداءً بحالِ المصطفى ، ونقطةَ استئناف لاستجاشةِ مكنوناتِ النّفوس وطاقاتِها وتحويلها مِن الغفلة والتّناحر والاختلافِ إلى اليقظةِ والاتّحاد والائتلاف واستنهاضِ القيَم الزاكية والمُثل العليا وتطويقِ الأجيال لا سيّما الشباب بالاهتمام والتوجيهِ والأخذ بحجَزِهم عن مهاوي الأفكارِ المنحرفة والمذاهب الهدّامة في وقتٍ يحاول فيه الحسَدةُ لأمنِنا خرقًا ولأبوابِنا طرقًا.
إخوةَ الإيمان، ومِن المفاهيم المنتكِسة والأحوال المنعكِسة لدى فئامٍ من النّاس أنّ رمضان شهرُ العبادة وهَجر الموبقات، فإذا تولّى اندفعوا في الشّهوات والمعاصي اندفاعَ الأعشى، وهذا ما يُدهِش اللبَّ ويشِي برقّة الدّين وضعفِ الإيمان، وإلاّ فبأيّ كتابٍ أم بأيّة سنّة يكون المسلم في رمضانَ متنسِّكًا وفي شوّال متهتّكًا؟! أوَليسَ ربّ الشهور واحدًا وعلى الأعمالِ مطّلعًا مشاهدًا؟! وأيّنا يضمن الرّضا عن حاله وقَبول أعماله؟! وقد كان السّلف الصالح رحِمهم الله لقبولِ العمل أشدَّ اهتمامًا منهم بالعمل، والله عزّ وجلّ يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
سبحانَ الله عبادَ الله، أين القلوب التي خشَعت وبالدّعاء اضَّرعت ولهَجت؟! أين لذّة المناجاة؟! أين بردُ اليقين الذي باشر القلوبَ وعَمرها وجلاّها وغمرها؟! أما ارتوَت من الآيات البيّنات وزواجرِ القرآن الواعظات؟! وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [النساء:66].
لقد باءَ هؤلاء بالحظّ الأوكَس والجزاء الأبخَس إن لم يتوبوا إلى الله ويثبتوا على ما كانوا عليه في شهر رمضان، وبِئس القوم لا يعرِفون اللهَ إلا في رمضان، وكفى بالقرآنِ الكريم مشنِّعًا بحالِ هؤلاء وأضرابهم: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا [النحل:92].
يا لفداحةِ المصيبة ويا لعِظم الحِرمان أن يحورَ أقوامٌ بعدَ الهدى إلى الضّلال وبعد الرّشاد إلى الغِواية، وهل المؤمن الذي يرجو نجاتَه ويخشى ربَّه وملاقاتَه إلاّ من ظلَّل الإيمان حركاتِه وسكناته طيلةَ حياته؟! فهو في عبوديّة دائمةٍ وصِلة مستمرّة بين يدَي الله وحالةٍ من الإخلاص العَميق في طاعتِه وتقواه وتقرّبِه لمولاه، لا يفرّق بين زمانٍ وزمان، ممتثِلاً قولَ الحقّ تبارك وتعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].
أمّةَ الإسلام، ولتجدُنّ أشدَّ النّاس حِرمانًا من الخير وبُعدًا عن مرضاةِ المولى جلّ وعلا مَن لم يرفعوا بالطّاعة رأسًا طيلةَ شهرٍ كامل، بل ربّما سلخًا من أعمارهم، ولم يؤثِّر فيهم ركبُ المسلمين المقبِلين على حياضِ الهدايةِ وأنهارِ الغفران في موسمٍ لا يقدّر بمال ولا يُعوَّض بحال، حتى غدَت قلوبهم كالكوزِ مجخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكِر منكرًا إلاّ ما أشرِب مِن هواه، غادَرهم رمضان وهم ساهون، وأظلّهم العيد السعيدُ وهم بعدُ غافلون، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146]. يقول ابن الجوزيّ رحمه الله: "ربّما رأى العاصِي سلامةَ بدنِه ومالِه فظنّ أن لا عقوبَة، وما علِم أنّ غفلتَه عمّا عوقِب به هي العقوبة" [2].
والدّعوة الصّادقة الحرّاءُ موجّهة لهؤلاءِ السّادرين الصّادفين أن يتوبوا إلى الله ويُقلِعوا عمّا هم فيه ويندَموا عمّا فرّطوا في جنبِ الله، فالتّوبة ليس دونها بابٌ يوصَد ولا عملٌ يرَدّ ويوأد، يقول جلّ وعلا: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82].
أمّةَ الإسلام، وبإزاءِ تلك المفاهيمِ الخاطئة والفِئام المتخاذِلة الغافلة تشعّ في الآفاق أنوارُ قوافلِ أهل التّقى والإيمان، سقَى الكتاب والسنّة قلوبَهم عزمًا وأمَلاً، وأدركوا أنّ للدرجات العُلا من الجنّة ـ فضلاً عن ديمومَة الاتّصال بالله وخشيتِه بالغيب والثّبات على طاعتِه ـ مواسمَ للبرّ يجِب أن تنتهَز همّةً ونشاطًا وارتجاءً لما عندَ الله واغتباطًا، هم الذين وصفَهم البَاري بقولِه سبحانه: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:15، 16]. ومِن بديع الكلامِ القيّم للعلاّمة ابنِ القيّم رحمه الله قوله فيهم: "فإنّ هؤلاء المستكثِرين مِن الطّاعات الذائقين لرَوح العبادَة الرّاجين ثوابَها قد رُفِع لهم عَلَم الثواب وأنّه مسبَّب عن الأعمال، فشمّروا إليه، راجين أن تقبَل منهم أعمالهم بفضلِ الله، خائفين أن تردَّ عليهم، فهم مستكثرون بِجهدهم من طاعتِه بين خوفِه ورجائه" [3].
الله أكبر، هذا هو الفقه الحقيقيُّ للمتاجرةِ مع الله سبحانه، فهنيئًا لكم أيّها المستقيمون، وطوبى لكم ـ أيّها المنيبون ـ بما صبرتم وقُمتم وصمتُم وتلَوتم وبذَلتم وشكَرتم، واللهَ اللهَ ـ يا رعاكم الله ـ في الثّبات الثّباتِ في الحياة إلى الممات.
أمّةَ الخير والاستقامة، وبعدَ أن عاشتِ الأمّة الإسلامية ترتوي شهرًا كاملاً من نميرِ القرآن الكريم وتستضيء بنورِه المبين، وبعدَ أن أعقبَها عيدُ الفطر المبارك فإنّها مدعوَّة بإلحاحٍ إلى أن تفيءَ إلى ميدان المحاسبَة الجدّية العمليّة، سيما وهي تتجرّع من كأسِ الضعف والهزائمِ كلَّ صابٍ [4] وعلقَم، والمآسي تسفع وجهَها في كثيرٍ من أراضيها، حريٌّ بها أن تستعصمَ بكتاب الله وسنّة رسوله ، في تفتّحٍ واعٍ وفكرٍ نيِّر معتدِل وبصيرة نافذة ونظرة صائِبة متّزنة في تقويمِ القاضيا والمتغيِّرات والمراجعات الجادّة في الفكر والمنهَج دونَ تلكُّؤ أو هوادَة، بما يحقِّق المصالحَ ويدرأ المفاسدَ ويُعلي رايَة الدين ويحرس القيَمَ والفضيلة ويحفَظ الأمنَ والاستقرار حتّى لا تُخرَق السفينة، في ترفّعٍ عن كلّ المغرِياتِ والمثبِّطات، وإقصاءٍ لكلّ عواملِ الانهزام النفسيّ والإحباط الداخليّ، مع استئصالٍ لجذور المذاهبِ المنحرِفة والأفكارِ الضّالة التي تنصّلت من أصولِ الدين العاصمةِ للدّماء والأموالِ والمقرِّرَة لحرمةِ المسلمين والمعاهَدين والمستأمَنين، يقال هذا والنّفس كلمَى والقلب يدمَى غداةَ الأحداثِ الإجراميّة الغاشمَة والجرائم المُريعة الآثمة التي ولغ فاعلوها في الدّماء المعصومةِ والأنفس البريئةِ المكلومة، حيث تسلّلت الأيادي الحمراءُ والمخالب السّوداء تحت ستورِ الظلام، فأمعنت تفجيرًا وتدميرًا في شهر القداسةِ وينبوع الرّحمة وفي آمنِ الديار وأزهرِ الرّياض عاصمةِ بلاد التّوحيد وحاضرَة بلادِ الحرمَين الشّريفين، غيرَ عابِئةٍ بالمثُل والقيَم في الاستنكافِ مِن قتل النّساء والأطفال والشّيوخ، فضلاً عن أحكام الشريعةِ الغرّاء، ربّاه أقُدَّت قلوبهم من صَخر أم رُمِيت عقولهم في بَحر؟! لكنّه الجهل والهَوى، فبأيّ حالٍ استقبل هؤلاء اليَتامى والثّكالى والزّمنى والأيامى أيامَ العيد السعيد؟! أيّ ذنبٍ اقترفوه؟! وأيّ جُرم اجترَحوه؟! وايمُ الله، إنّهم لمسؤولون عن كلّ قطرةِ دمٍ أهرقوها وكلّ نفسٍ أزهقوها وكلّ فتنة جرّوها على البلاد والعِباد.
وهنا ـ يا محبّ ـ وقفةُ تأمّل ومقارنةٍ بين حالِ هؤلاء وبين ما يعيشه إخواننا المستضعفون في دينهم في الأرض المبارَكة فِلسطين وفي مواقعَ أخرى، وسينقلب إليك الطرف خاسئًا وهو حسير، وتتيقّن أنّ الإرهاب هو الإرهاب، وتتّضح معالمُ الاتّفاق والافتراق في المقدّمات والنّتائج والأسبابِ والمسبَّبات والوسائلِ والمقاصد والآثار والعواقِب والمنفِّذين والضّحايا، فضلاً عن الزّمان والمكان، فتأمّل جيّدًا واحكُم متجرِّدًا، ثمّ اسأل اللهَ السلامة والعافيةَ ودوامَ الأمن والأمانِ في بلادنا وفي جميع بلادِ الإسلام.
لقد ساءَ فهمُه وطاش سهمه من ظنّ التفجيرَ معبَرًا لحقٍّ أو سُلّمًا لإصلاح أو مَركبًا لدَحر عدوّ، كلاّ ثمّ كلاّ، لا يقول بذلك غِرّ مَذِق، فضلاً عن عاقلٍ ينتسِب إلى الدّين.
ألا فتوبوا إلى الله، وارعَووا عمّا أنتم فيه من فِكر نشاز، فالرّجوع إلى الحقّ خيرٌ من التّمادي في الباطل، فلأن يتّبعَ ناشدُ الحقّ من دلّه في الرّجوع إليه أولى ثمّ أولى من الاستمرارِ في الباطل الذي كان عليه.
ثبَّت الله العائدِين الرّاجعين إلى الحقّ، وهدى إليه من تنكّب طريقَ الهدى بمنّه وكرمه، ألا ففيئوا جميعًا إلى لزومِ جماعةِ المسلمين وإمامِهم، فهو أنجَى لكم وأزكى، وإنّ الغُيُر لينشدون إيلاءَ هذه الظواهرِ الساخنةِ حقَّها ومستحقَّها بالتدابير الواقيةِ وتشخيص الأسبابِ الفاعلة ووصفِ العلاجات النافعةِ بالأساليب النّاجعة، فذلك ـ لعمرو الحقّ ـ أسلم وأعلمُ وأحكم، وأصلَحُ ـ والله ـ للبِلاد والعِباد، وكان الله في عونِ العامِلين المخلِصين لدينِهم وأمنِهم وبلادِهم ومجتمعاتِهم، إنّه خير مسؤولٍ وأكرَم مأمول.
أقول ما سمِعتم، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] السّدَم: الحرص واللهج بالشيء.
[2] صيد الخاطر (104).
[3] مدارج السالكين (1/260-261).
[4] الصّاب: عصارة شجر مرّ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، أعظَمَ للمتقين أجورَهم، وأفاض عليهم أيّامَ صومِهم وعيدِهم حبورَهم، وشرح بالهدى والخيراتِ صدورَهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وفّق عبادَه للطاعات وأعان، وأشهد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله خير من علّم أحكامَ الدين وأبان، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه شموسِ الهدى والإيمان، صلاةً زاكيَة دائمة ما دام النيِّران، متعاقبةً ما تعاقب الجديدان، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، ووالوا شهرَكم وعيدَكم بالشكر والحمدِ والثناء، فلأنتم بمنِّ الله وفضله في نعمٍ غامرة، تنوء بشكرِها الجوارح الباطنَة والظاهرَة.
واعلموا ـ وفّقني الله وإيّاكم ـ أنّ ربَّكم عزّ وجلّ يتحبَّب إليكم بمواسمِ الخير لرفعةِ درجاتِكم وزيادةِ حسناتِكم وتكفير سيّئاتكم وتهذيبِ أرواحكم، ومِن ذلك ما ندَبكم إليه في شهرِكم هذا شهرِ شوّال من صيامِ ستّة أيّام منه غيرِ لازمةِ التّتابع لما خرّجه مسلم في صحيحه من حديث أبي أيّوب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من صامَ رمضانَ ثمّ أتبعه ستًّا من شوّال كان كصيام الدهر)) [1].
فيا له من فضلٍ عظيم وثوابٍ جسيم من ربٍّ رحيم ومولى كريم، فاسعَوا ـ يا رعاكم الله ـ إلى إعتاقِ نفوسِكم من التّخاذل وفكاكِها، وأدرِكوا أنفسَكم بالصالحات قبل عجزِها وهلاكِها، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ كلامَ الله أبلغ ما وُعِظ بِه قلبٌ فخشع، وعزّ به المؤمن لربّه وخضَع، ووقَر في النّفس فهدى ونفَع.
ثمّ صلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على النبيّ الخاتم محمّدٍ أبي القاسِم الخِيار من بني هاشم سيّد العرَب والأعاجم، فقد أمركم بذلك ربّكم جلّ وعلا في محكَم تنزيله وأصدقِ قيلِه فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم على سيّد الأوّلين والآخرين وخاتم الأنبياء والمرسلين نبيّنا محمّد بن عبد الله وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحابتِه الغرّ الميامين وأزواجه أمّهات المؤمنين، والتّابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدّين...
[1] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1164).
(1/2824)
شكر النعم ونعمة الأمن
الأسرة والمجتمع, الإيمان
خصال الإيمان, قضايا الأسرة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
4/10/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب شكر الله تعالى. 2- أعظمُ الشكر. 3- ثوابُ الشكر وأجر الشاكرين. 4- الشكر صفة الأنبياء والصالحين. 5- حقيقة الشكر. 6- لا يبلغ العبد تمام شكر الله تعالى. 7- شكر الله تعالى على نعمة الطاعة. 8- فضل نوافل العبادات. 9- نعمة الأمن وضرورة المحافظة عليها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، فتقوى الله خيرُ ما عمِلتم وأفضل ما اكتسبتم.
أيّها المسلمون، إنَّ شكرَ الله على نعمِه التي لا تعَدّ ولا تُحصَى أوجبُ الواجبات وآكَد المفروضات، قال الله تعالى: وَوَصَّيْنَا ?لإِنْسَـ?نَ بِو?لِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى? وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ ?شْكُرْ لِى وَلِو?لِدَيْكَ إِلَىَّ ?لْمَصِيرُ [لقمان:14]، وقالَ تعالى: فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَ?شْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152]، وقال تعالى: وَ?شْكُرُواْ نِعْمَتَ ?للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [النحل:114].
والشّكرُ لله تعالى يقابِل الكفرَ بالله تعالى، قال الله عز وجل: إِنَّا خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـ?هُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَـ?هُ ?لسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:2، 3].
وأعظمُ الشّكرِ الإيمانُ بالله تعالى وأداء فرائضه وواجباته والبعدُ عن محرّماته، ثمَّ شكر بقيّة النّعم إجمالاً وتفصيلاً. كما أنّ أعظمَ كفرانِ النّعم الكفرُ بالرسالةِ بالإعراض عن الإيمانِ بالله وحده وتركِ فرائضِ الله وواجباتِه وفِعل المعاصي، ثمّ كفرانُ بقيّة النّعم.
والشّكرُ لله تعالى ثوابُه عظيم وأجره كريم، ينجي الله به من العقوبات، ويدفَع الله به المكروهاتِ، قال الله عزّ وجلّ: مَّا يَفْعَلُ ?للَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ وَكَانَ ?للَّهُ شَـ?كِرًا عَلِيمًا [النساء:147]، وقال عزّ وجلّ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِ?لنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَـ?صِبًا إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَـ?هُم بِسَحَرٍ نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ [القمر:33-35].
والشّكرُ تَزيد به النّعم وتدوم به البرَكات ويندفع به كلّ مكروه، قال الله عزّ وجلّ: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
وإذا عايَن الشّاكرون بهجةَ الجنّة ونعيمَها ولذّةَ عَيشها قالوا: ?لْحَمْدُ للَّهِ ?لَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا ?لأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ?لْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ ?لْعَـ?مِلِينَ [الزمر:74].
والشّكرُ صِفة الأنبياءِ والمرسلين وعبادِ الله الصّالحين، قال الله تعالى عن نوحٍ عليه السلام: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء:3]، وقال عن إبراهيم الخليل عليه السّلام: إِنَّ إِبْر?هِيمَ كَانَ أُمَّةً قَـ?نِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأنْعُمِهِ ?جْتَبَـ?هُ وَهَدَاهُ إِلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [النحل:120، 121]، وقال عزّ وجلّ: وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ?لشَّكُورُ [سبأ:13].
وحقيقةُ الشّكر ومعناه الثّناءُ على المنعِم جلّ وعلا بنعمِه وذكرُها والتحدّث بها باللسان، قال الله تعالى: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأعراف:69]، وقال تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ [الضحى:11].
والشّكرُ أيضًا محبّةُ المنعِم جلّ وعلا بالقلبِ والعملُ بما يرضيه، قال عزّ وجلّ: ?عْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ?لشَّكُورُ [سبأ:13]، وقال : ((أحبّوا الله مِن كلِّ قلوبكم لما يغذوكم به من النّعَم)) [1] ، وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يقوم من الليل حتى تتفطّر قدَماه، فقلتُ: يا رسولَ الله، تفعل هذا وقد غفَر الله لك ما تقدّم من ذنبِك وما تأخّر؟! فقال: ((أفَلا أكون عبدًا شكورًا؟!)) رواه البخاري [2]. فدلَّ على أنَّ العملَ بالطّاعة شكرٌ لله عزّ وجلّ.
والشّكرُ أيضًا استعمالُ النِّعمة فيما يحبّ الله تعالى، فأعضاءُ البَدَن إذا استعمَلها المسلمُ في طاعةِ الله واستخدَمَها العبدُ فيما أحلّ الله له فقَد شكَر اللهَ على أعضاءِ بدنه، وإذا استخدم العبدُ أعضاءَ بدنِه في معاصي الله فقد فاتَه شكرُ الله وحارَب ربَّه بنِعم الله تعالى عليه. والمالُ إذا أنفَقه المسلمُ في الواجبِ والمستحَبّ أو المباح يبتغي بذلك ثوابَ الله فقد شَكر الله على نعمَة المال، وإذا أنفقه العبدُ في معاصِي الله أو المكروهات أو في فضول المباحَات المضِرّة فقد فاتَه شكرُ الله عزّ وجلّ، واستعان بالمال على ما يُغضِب ربَّه، ويكون وبالاً عليه في الدّنيا والآخرة. وإذا تمتَّع العبدُ بالطيّبات والمباحات وشكرَ الله عليها وعلِم من قلبِه أنها نعمُ الله عليه تفضَّل بها على عبادِه فقد أدّى ما عليه في هذه النّعم، وإذا نسِي المنعِمَ جلّ وعلا فقَد عرّض النّعمَ للتغيُّر، قال الله تعالى: وَضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ?للَّهِ فَأَذَاقَهَا ?للَّهُ لِبَاسَ ?لْجُوعِ وَ?لْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النّحل:112].
ومَهما اجتهَد المسلم وشَكر فلن يستطيعَ أن يقومَ بشكرِ نعَم الله على التّمام لقول الله تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?للَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل:18]، ولقولِ النبيّ : ((لن يدخلَ الجنةَ أحدٌ منكم بعمَله)) ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلاّ أن يتغمّدنيَ الله برحمتِه)) [3]. ولكن حسبُ المسلمِ أن يعلمَ بأنّه عاجزٌ عن شكرِ نعمِ ربِّه، وأنّه لو شكَر على التّمام فالشّكر يحتاج إلى شكر، وحسبُه أن يمتثلَ أمرَ ربّه، ويبتعدَ عن معصيتِه، وأن يسدّد ويقارب.
وأعظمُ نعمةٍ على المكلّفين طاعة الله عزّ وجلّ، فإذا وُفِّق المسلم لطاعةٍ فعليه أن لا يبطلَها بمعصيةٍ مضادّة بعدها، وأن لا يأتيَ بما ينقِصها، وأن يتبِعها طاعةً أخرى، فإنّ الحسناتِ بعدَ الحسنة شكرٌ للحسَنة وزيادةُ ثواب الله عزّ وجلّ، وما مِن طاعةٍ فرضها الله تعالى إلاّ شرع من جِنسها من الطاعات ما يزداد به المسلم إلى الله قربى وما يُدخِل الله به عبدَه الجنّاتِ العلا، فالصلاة والزكاة والصيام والحجُّ وغيرُها شرع الله نوافلَ مثلَها، تجبر نقصَها، وتكمِّل ما فات منها، ويتسابَق فيها المتسابِقون في الخيرات، فمَن صامَ رمضانَ وأتبعه سِتًّا من شوّال كان كصيام الدّهر، كما في صحيح مسلم من حديث أبي الدّرداء رضي الله عنه [4]. ونوافلُ الصّيام المستحبّة الأخرى يرفع الله بها الدرجاتِ ويكفِّر بها السيّئات. ونوافل الصّلاة المعلومة والنّفقات التي تأتي بعدَ الزّكاة ونوافل الحجّ والعمرة والنّوافل الأخرى شكرٌ عمليّ لله تعالى، يزكّي الله بها العباد، ويجزي الله بها أعظمَ الثّواب في يومِ المعاد.
عبادَ الله، ما أحسنَ الطاعاتِ بعدَ الطاعات؛ لأنّ في ذلك رضوانَ الله تعالى وزيادةَ ثوابِه والحرزَ مِن عقابِه، وما أجمل الحسنات بعد سيئة تُعمَل، قال الله تعالى: وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114]، وما أقبَحَ السيّئات بعدَ الحسنات؛ لأنّ في ذلك غضَبَ الله تعالى ونَقص ثوابِه أو حِرمان الثّواب بالكلّيّة وإبطال العمل، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33].
فدومُوا على طاعةِ ربّكم ـ معشرَ المسلمين ـ في الشّهور والأيّام، فربُّ رمضان هو ربُّ الشّهور والأعوام، وهو أحقّ أن يعبَد ويوحَّد في كلِّ زمان ومكان، قيل لبشر الحافي رحمه الله: إنّ قومًا يجتهدون ويعبدون الله في رمضان، فإذا ولّى تركوا، فقال: "بئس القوم لا يعرفون الله إلاّ في رمضان". فليس للمؤمن راحةٌ قبلَ لقاءِ ربّه، والله يقول: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] يعني الموت.
فيا فوزَ من قدّم لأهوال القيامةِ الأعمالَ الصالحات، ويا ندامةَ من نسيَ آخرتَه ووجد في قبره السيئاتِ والموبقات.
عبادَ الله، استقيموا على صراط الله المستقيم، وتمسّكوا بسنّة نبيّكم الموصوفِ بالخلُق العظيم، واحذَروا الشيطان والهوى فإنّه كان في شهرِ رمضان مأسورًا، ويريد أن يأخذَ منكم بثأره فيجعلَ الأعمال الصالحةَ هباءً منثورًا، فاستعينوا عليه بربِّكم، وردّوه خائبًا مدحورًا، بالمدامة على طاعةِ ربّكم، ليكونَ سعيكم مشكورًا، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ نَسُواْ ?للَّهَ فَأَنسَـ?هُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ لاَ يَسْتَوِى أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ وَأَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ هُمُ ?لْفَائِزُونَ [الحشر:18-20].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيهِ مِن الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيّد المرسَلين وبقولِه القويم، أقول قولي هذَا، وأستغفر الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفِروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في المناقب (3789)، والطبراني في الكبير (3/46، 10/281)، وأبو نعيم في الحلية (3/211)، والبيهقي في الشعب (408، 1378) من طريق هشام بن يوسف، عن عبد الله بن سليمان النوفلي، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما وليس فيه: ((من كل قلوبكم)) ، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (4716)، وقال الذهبي في السير (9/582): "هذا حديث غريب فرد، ما رواه عن ابن عباس إلا ولده علي، ولا عن علي إلا ابنه محمد أبو الخلفاء، تفرد به عنه قاضي صنعاء عبد الله بن سليمان، ولم يروه عنه إلا هشام... وليس النوفلي بمعروف"، وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي (792).
[2] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4837)، وأخرجه أيضا مسلم في صفة القيامة (2820).
[3] أخرجه البخاري في الرقاق (6463، 6467)، ومسلم في صفة القيامة (2816، 2818) من حديث أبي هريرة ومن حديث عائشة رضي الله عنهما.
[4] أخرجه مسلم في الصيام (1164) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الجلالِ والإكرام، ذِي المُلك الذي لا يُرام والعزِّ الذي لا يُضام، أحمَد ربّي وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدّوس السلام، وأشهد أنّ نبيَّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله، بعثَه الله بالهدَى والرّحمة والسّلام، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمّد، وعلى آلِه وصحبِه الكِرام.
أمّا بعد: فاتّقوا الله حقَّ تقاته، والزموا طاعاتِه، وجانِبوا محرَّماته.
واعلموا ـ عبادَ الله ـ أنّ نعمةَ الأمنِ مِن تمام الإسلام وجزءٌ لا يتجزَّأ منه، قال الله تعالى: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِ?لْعُمْرَةِ إِلَى ?لْحَجّ فَمَا ?سْتَيْسَرَ مِنَ ?لْهَدْىِ [البقرة:196]، وقال تعالى: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ [البقرة:239]، وقال عزّ وجلّ: فَإِذَا ?طْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ كَانَتْ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ كِتَـ?بًا مَّوْقُوتًا [النساء:103].
وجعل الله تعالى الأمنَ ظِلاًّ ظليلاً ليعبدَه فيه العابِدون، ويأمنَ فيه الخائِفون، ويطمئنَّ الوجِلون، قال الله عزّ وجلّ: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور:55]. وقرَن النبيّ بين الأمنِ والإيمان، فكان يقول إذا رَأى الهلالَ: ((اللهمَّ أهِلَّه علينا بالأمنِ والإيمان والسّلامةِ والإسلام، هلالَ خيرٍ ورشدٍ، ربيِّ وربُّك الله)) [1].
ومَن كفَّ يدَه ولسانَه عن أذيّة المسلمين والإضرارِ بهم ولم يعتدِ على الخلقِ وعزَّز الأمنَ وقوّاه ونصرَه وشكَر الله على نعمةِ الأمن فقد قام بشكرِ هذه النّعمة، ومن لم يفعل ذلك فقد كفر بنعمةِ الأمن.
وإنّ شبابًا غُرِّر بهم ودُفِعوا بمكرٍ خادِع إلى ظلماتِ فتنةٍ مهلِكة، قد ركِبوا جرمًا كبيرًا، واقترفوا إثمًا عظيمًا وفسادًا عريضًا، يُهلِك الحرثَ والنّسلَ، ويورث الدَّمارَ والعارَ والعياذ بالله.
وإنّ عمليّة تخريبٍ واحدة جمعت بين جرائمَ عِدّة، جمعت بين قتل النفس، فمنفِّذها قاتِل لنفسه، وقد قال الله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ عُدْو?نًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30]، وعصوا اللهَ ورسولَه، وجمَعت بينَ قتل النّفوس المحرَّمة مِن مسلمين وغير مسلمين، وجمَعت بين إتلافِ أموال معصومةٍ وروَّعت الآمنين، وجمعت بين عِصيان وُلاة الأمر الذين أمَر الله بطاعتِهم، وجمعت بين عصيانِ الوالدين لمن له والدان، وجمَعت بين مخالفةِ المؤمنين والإفسادِ في الأرض، قال الله تعالى: وَمَن يُشَاقِقِ ?لرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ?لْهُدَى? وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ?لْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى? وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء:115].
يا شبابًا غُرِّر بِهم فحمَلوا السّلاحَ، كيف توجِّهون السّلاحَ إلى إخوانِكم في الإيمان رجالِ الأمن الذين يسهَرون على مصالحكم؟! كيف تدمِّرون بيوتَكم بأيديكم؟! كيفَ تخرجُون على ولاةِ أمركم وتفارقون جماعةَ المسلمين وتقتلون فيهم؟! كيف تنقادون مع كلِّ فاتِنٍ مَفتون؟! كيف تقدِمون على نارِ جهنّم والعياذ بالله ولا تخافون عاقبةَ أفعالِكم؟! الخطأ في هذهِ الأمور غيرُ مغفور، والعذرُ غيرُ مقبول؛ لأنّها حقوقُ الله وحقوق العباد.
إنّ إبليس لا يريد منكم أكثرَ مِن هذه الأفعالِ الإرهابيّة التخريبيّة، اللهَ اللهَ في المسلمين وفي بلادكم بلادِ الإسلام وفي أنفسكم، سلِّموا أنفسَكم، واكشفوا لولاةِ أمركم الحال وخبايا أهلِ الفتنةِ لتنطفئ نارُ التخريب والتّدمير والإفساد، فالرجوع في الدنيا خيرٌ من الندَم في الآخرة.
أناشِد مَن يبلغه كلامي ويصِل إليه ويسمَع هذه الخطبةَ أن يتّقي الله في الإسلامِ والمسلمين، ومَن لديه شبهاتٌ فليبحَث في أمرِها مع هيئةِ كبارِ العلماء، قال الله تعالى: فَ?سْأَلُواْ أَهْلَ ?لذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43].
إنّ أعداءَ الإسلام لا يتمنَّون للمسلمين أكثرَ مِن هذه الأفعالِ الآثمة الظالمةِ المفسدة المدمِّرة.
عبادَ الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمامِ المرسلين.
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وسلّم تسليمًا كثيرًا. اللهمّ وارضَ عن الصّحابة أجمعين...
[1] أخرجه أحمد (1/162)، والترمذي في الدعوات، باب: ما يقول عند رؤية الهلال (3451)، والدارمي في الصوم (1688)، والحاكم (7767) من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، وليس فيه: ((هلال خير ورشد)) ، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الألباني لشواهده في السلسلة الصحيحة (1816).
(1/2825)
جولة في واقعنا المرير
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
محمد أحمد حسين
القدس
4/10/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقارنة بين أحوالنا وأحوال سلفنا. 2- صفحات مضيئة في تاريخنا العظيم. 3- التتار يعودون من جديد إلى بغداد. 4- جدار الفصل العنصري جريمة يهودية جديدة على أرض الإسراء. 5- صمود وثبات شعب فلسطين المسلم. 6- التحذير من الاقتتال بين أبناء فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره لقوله تعالى: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ما هي صورة أعيادنا في هذه الأيام مقارنة بصورة أعياد سلفنا الصالح؟ فإن المتتبع لتاريخ الأمة الإسلامية يجد فرقاً شاسعاً وبَوناً واسعاً بين ما كان عليه سلفنا الصالح في رمضان وفي أعيادهم، وبين ما نحن عليه في هذه الأيام، فقد كان رمضان دائماً عند سلفنا الصالح شهر عزة وانتصارات وفتوحات وجهاد، وأصبح اليوم عندنا شهر استحواذ واستجداء من قوى الكفر والظلام، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ألم تكن بدر في شهر رمضان المبارك!! وهي أول لقاء بين الكفر والإيمان، وانتصرت فيه القلة القليلة على الكثرة الكثيرة التي جاءت بشركها وشركائها وأحلافها تحارب الله ورسوله، فكان النصر المبين للمسلمين ولقيادتهم الحكيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَمَا ?لنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ?للَّهِ [آل عمران:126].
فقد حاول الشرك ـ أيها الإخوة ـ أن يقضي على المؤمنين في المدينة المنورة، فحاصرها يوم الأحزاب، وانفضت الأحزاب ولم تحاصر المدينة بعد ذلك أبداً، بل انطلق جند الإيمان بجزيرة العرب يفتحون مكة المكرمة في شهر رمضان.
وفي العام الثامن من الهجرة الشريفة، دانت الجزيرة العربية بعد فتح مكة، وأصبحت الوفود تتوافد على نبينا عليه الصلاة والسلام من جميع أقطار هذه الجزيرة معلنة إسلامها وإيمانها واتباعها للحق الذي أنزل على سيدنا محمد عليه الصلاة وأفضل التسليم، وكان ذلك الفتح المبين والنصر العظيم، إِذَا جَاء نَصْرُ ?للَّهِ وَ?لْفَتْحُ وَرَأَيْتَ ?لنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ ?للَّهِ أَفْو?جاً فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَ?سْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوبَا [سورة النصر].
وبعد ذلك ـ أيها الإخوة في الله ـ انطلقت جيوش المسلمين في ظل الخلافة الراشدة تفتح بلاد الشام وبلاد العراق وما وراء النهرين، وتصل دولة الإسلام إلى حدود الصين شرقاً، وإلى المحيط الأطلسي غرباً، حتى إن قائدها خاض مياه المحيط بفرسه وهو يقول: "اللهم لو كنت أعلم أرضاً بعد هذا البحر لخضته مجاهداً في سبيلك".
واليوم ـ أيها المؤمنون ـ تصبح بلاد العرب بل وديار المسلمين قواعد للكفر والكافرين للقضاء الإسلام وأهله، ألم يقرؤوا قول الله تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]، إن الغزو الذي يشهده العالم الإسلامي اليوم وفي رمضان وفي هذه الأعياد التي تذكرنا بالماضي المجيد، إنها حرب على الإسلام وأهله وحرب على ديار الإسلام، مهما حاولوا أن يجملوا صورة هذه الحرب بالمصطلحات الرنانة أو المصطلحات المطاطة، فهم حينما يحاربون الإسلام، ويقولون: نحن نحارب الإرهاب، وأي إرهاب أكبر من قتل الأطفال والنساء والشيوخ في العراق وفي أفغانستان، وهنا في فلسطين؟ حتى في يوم العيد يُقتل شهيد، طفل لم يجاوز عمره تسع سنوات، هل كان هذا الطفل إرهابياً حتى يقتل؟!! أما كانت براءة الطفولة تدفعه للعب والمرح والشعور ببهجة العيد، إن كان للعيد في هذه الديار بهجة!.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون في كل مكان، إن المتتبع أيضاً لغزوات النبي صلى الله عليه وسلم ولجهاد المسلمين خلال فترة التاريخ الإسلامي، يوم كانت دولتنا واحدة، يوم كان خليفتنا يحكم بكتاب الله، ويسير على سنة رسول الله كانت هي المبادرة دائماً لرد العدوان والمعتدين، ألم تفتح عمورية جراء اعتداء الروم على أطراف دولة الخلافة الإسلامية، ويصر المعتصم ـ الذي غاب من بين حكامنا اليوم ـ أن يفتح هذه المدينة، تلبية لنداء امرأة قالت: "وا معتصماه".
ألم يُهزم مغول العصور السابقة في عين جالوت في هذه البقاع الطاهرة، في هذه الديار يوم بادر المسلمون بقيادة قطز وبيبرس، وخاضوا المعركة تحت شعار التوحيد، لم يخوضوها باسم القومية ولا باسم الإقليمية ولا باسم الاشتراكية ولا باسم الديمقراطية ولا باسم العروبة ولا بأي اسم آخر، بل خاضوها تحت شعار التوحيد "وا إسلاماه".
وكان النصر بجانبهم، وكان تأييد الله حليفهم، ورد المغول على أعقابهم بعد أن كانوا دمروا حاضرة الخلافة الإسلامية، بغداد، التي ألقوا بكتب دار الحكمة وبكل مكتباتها في مياه دجلة، حتى اسودت المياه من حبر حضارة المسلمين وعلومهم، وما أشبه اليوم بالبارحة، فقد نهبت مكتبات عاصمة الرشيد جراء الغزو البربري وغزو مغول العصر في هذه الأيام، ألم تنهب المتاحف! ألم تنهب الجامعات! ألم تدمر حضارة العراق، تلك الحضارة الممتدة من يوم الفتح الإسلامي الأول إلى يومنا الحاضر!! نهبت ودمرت تحت أي مسمى، تحت استيراد الديمقراطية لأولئك الذين قدموا على طائرات ودبابات أمريكا وحلفائها، ليصنعوا للعراق حرية!! فكان من بركات حكمهم في هذه الأيام أن عيّد العراق ثلاثة أيام مختلفة بعيد الفطر السعيد.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون في كل مكان، يجب أن تسمى الأمور بمسمياتها، فلا يجوز أن تدغدغ عواطف الأمة بالشعارات البراقة، فالغزو هو الغزو، والاستعمار هو الاستعمار، والاحتلال هو الاحتلال، الغاية منه السيطرة على ديار الإسلام والمسلمين وفرض الأمر والواقع على ديارهم ونهب مقدراتهم، الغزو مهما حاول أن يجمل صورته، فهو في الصورة القبيحة دائماً.
وإن ما يجري في العراق أكبر شاهد على بشاعة الغزو والاحتلال، وما يجري عندنا هنا في هذه الديار المباركة أرض الإسراء والمعراج، أرض القبلة الأولى للمسلمين ديار المسجد الأقصى المبارك، ثالث مسجد تشد إليه الرحال بوابة الأرض إلى السماء، ماذا يجري في هذه الديار؟ حصار، إغلاق، قتل وتشريد، بناء لجدار الفصل العنصري، الذي يمثل النكبة الثالثة لفلسطين، إذا كان عام 1948م عام النكبة الأولى العام الذي شرد فيه الفلسطينيون من أرضهم وديارهم أرض آبائهم وأسلافهم، ثم تبعتها النكبة الثانية التي سميت ـ زوراً وبهتاناً ـ بالنكسة.
النكبة الثانية التي اكتمل فيها احتلال فلسطين ووقوع القدس ومسجدها الأقصى المبارك أسيرة الاحتلال وأراضٍ عربية لا زالت ترزح تحت نير الاحتلال في الجولان السوري.
وهذه النكبة الثالثة التي تتمثل في هذا الجدار العنصري الذي يمزق ما تبقى من أرض الضفة الغربية، هذه النكبة أشد وطأة من سابقاتها، ما زالت دول العروبة ومعها دول منظمة المؤتمر الإسلامي تحلم بالشرعية الدولية وتحلم بالحلول السلمية، مع أن العدو لا يعطي للحلول السلمية بالاً، ولا يقيم لها وزناً ما دامت أحول أمتنا تشبه أحوالها يوم دخل المغول بغداد، ويوم جاء الصليبيون إلى هذه الديار، وصيّر الله لها صلاح الدين والدنيا، فحررها، وأعاد لها بهجة الإيمان وعزة الإسلام، ورحم الله القائل:
المسجد الأقصى له آية سارت فصارت مثلاً فاخرا
كلما غدا للكفر مستوطناً أن يبعث الله له ناصرا
اللهم نسألك نصرك الذي وعدت، اللهم مُدنا بمددك يا رب العالمين، ورد المسلمين إلى جادة الصواب، اللهم وحد قلوبهم، ووحد رايتهم، ووحد حاكميهم حتى يخوضوا في سبيل دعوتك الجهاد والمعارك التي تعيد للأمة عزتها، وللمسلمين كرامتهم، إنك يا مولانا على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، فقد جاء في الحديث النبوي الشريف عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها)) [1] ، أو كما قال.
فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
[1] أخرجه مسلم في الفتن (2889).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه أجمعين.
واعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أن الله أمر أمراً ابتدأ به بنفسه وثنّاه بملائكة قدسه، فقال جل وعلا ـ ولم يزل قائلاً عليماً ـ: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، لبيك، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن سائر القرابة الصحابة والتابعين وارض اللهم عن عمي نبيك اللابسين من التقوى أفضل لباس، الحمزة والعباس، وارض اللهم عن سيدي شباب الجنة، الحسن والحسين، وأمهما فاطمة الزهراء، وارض اللهم عن سائر أزواج نبيك وأمهات المؤمنين، وعن جميع الأنصار المهاجرين والقرابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المرابطون في هذه الديار المباركة، إن صبركم وثباتكم وصمودكم وتشبثكم بأرضكم ووطنكم والحرص على مقدساتكم هي أكبر مقومات الصبر والثبات والنصر في هذه الديار المباركة، لقد أذهل صمودكم، ليس العدو وحده، بل أذهل العالم، فبإمكانياتكم المحدودة قهرتم جيش الدفاع الذي لا يقهر، حسب مقولة الإسرائيليين، بثباتكم أيها الإخوة فوتُّم كل المخططات الرامية إلى تصفية هذه القضية المقدسة، قضية أرض الإسراء والمعراج.
فمزيداً من التعاون والتكاتف، وانبذوا الفتنة من بينكم، واحرصوا أن يكون الدم في هذه الديار المقدسة دما محرماً إراقته بين الإخوة.
أيها المؤمنون، فإنه كما ورد عن حبيبنا الأعظم صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا، وأشار إلى صدره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) [1] ، فإذا كان احتقار المسلم يخرج الإنسان من الدين والعقيدة، فكيف بقتل المسلم، احرصوا أن تكونوا صفاً واحداً كما أرادكم رسول الله، الفئة الصابرة والمجاهدة حتى يأتيها نصر الله، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قلنا: أين هم يا رسول الله؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)) [2].
أيها المسلمون، أذكركم بسُنّة كريمة ثوابها جزيل وأجرها عظيم، وهي الصيام في شهر شوال، فقد جاء في الأثر عن سيد البشر صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كمن صام الدهر كله)) [3] ، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا منكم الصلاة والصيام والقيام وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب البر (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] رواه أحمد في مسنده من حديث أبي أمامة (21816) قال الهيثمي: رواه عبدالله وجادة عن خط أبيه والطبراني ورجاله ثقات. مجمع الزوائد (7/288).
[3] أخرجه مسلم في الصيام (1164).
(1/2826)
عيد الفطر 1424هـ: العمل الخيري
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
1/10/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مطلب الفرح والسعادة في العيد. 2- حرب المصطلحات. 3- الحملة الشّرسة على العمل الخيريّ. 4- حقيقة العمل الخيريّ. 5- فضائل العمل الخيريّ وثماره. 6- فضل القائمين على الأعمال الخيريّة. 7- شقاء البشريّة في حالة انعدام العمل الخيريّ. 8- ضرورة توخّي الصدق والشفافية في العمل الخيريّ. 9- مفاسد تحجيم العمل الخيريّ. 10- الإشادة بتوبة المفتين بمشروعية الأعمال التخريبية. 11- فرح المسلم بالعيد. 12- زكاة الفطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها النّاس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتّقوا الله رحمكم الله، فالتّقوى خير ذخرٍ يُدّخر، واتقوا الفواحشَ ما بطن منها وما ظهَر، ولا تغرّنّكم الحياة الدنيا، ولا يغرّنّكم بالله الغرور.
أيّها المسلمون، تقبَّل الله طاعاتِكم وصالحَ أعمالكم، وقبِل صيامَكم وقيامكم، وجعلنا وإيّاكم جميعًا ممّن ينادَى: كُلُواْ وَ?شْرَبُواْ هَنِيئًَا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى ?لأَيَّامِ ?لْخَالِيَةِ [الحاقة:24].
شعارُكم التّكبير، ونداؤكم التّوحيد: الله أكبَر، الله أكبر، لا إلهَ إلاّ الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
حقٌّ لأهلِ الإسلامِ أن يفرَحوا بعيدِهم ويتزاوَروا ويتبادَلوا التّهاني، مطلوبٌ منهم أن يُسعِدوا أنفسَهم وأهليهم ويسعِدوا الفقراءَ واليتامى والمحاويج، فشهرُ رمضانَ شهر البرّ والإحسانِ والجود، وهو متوّج بتقديم زكاةِ الفطر.
الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحانَ الله بكرة وأصيلاً.
أيّها المسلمون، ومع كلِّ هذه الأعمالِ والاستبشار بالعِيد وفرحتِه غيرَ أنّه لا بدّ من كلمةِ حقّ تُقال في هذه الأيّام وفي هذه الظروفِ التي تحيط بعيدِنا أهل الإسلام وبأمّتنا وبالعالم أجمَع.
إنّ الجهادَ في سبيل الحقيقة هو ما يجِب أن يُبذَل في هذا الوقت وفي هذا العصرِ الذي لم يسبق له مثيلٌ في تاريخ الإنسانيّة من حيث القوّةُ القاهرة لسلطانِ التّضليل وتشويه الحقائق. إنّ تقنيات الإعلام وتصريحاتِ السّاسة وكتاباتِ المثقّفين في الخارج أوجدت خلطًا ولَبسًا يدعو إلى الدّهشة ممّا يحتِّم على طلاّب الحقّ ودعاتِه المجاهدةَ لإيضاحِ الحقيقة والتصدّي لهذا اللّبس ونصر الحقّ، يجب على كتّابِ المسلمين وعلمائهم وساستِهم ومثقّفيهم أن يبذُلوا في هذا السّبيل أقصى الجهود وعلى كلّ المستويات، إنّ لزامًا على كلّ من يَرى الخطأ أن يصحِّح، ومن يرى الانحرافَ أن يعدِّل.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلمون، الإرهابُ مرفوضٌ والأعمال الإرهابيّة كلُّها إجرَام، ويجب التصدّي لها بكلّ قوةٍ وسدُّ كلِّ الأبواب الموصلةِ إليها، فقتل النّفوس المعصومةِ إرهاب، وتدمير الممتلكات وترويعُ الآمنين كلُّ ذلك إرهاب، ومع هذا كلِّه فإنّ مِن المطلوب المتعيِّن وضعَ تعريفٍ محدّدٍ متَّفق عليه للإرهاب حتّى لا تؤخَذ دوَلٌ ولا أفراد ولا منظّمات ولا مؤسّسات ولا جمعيّات باسم الإرهاب، بينما يوجَد مثلها ونظائرُها في الطرَف الآخر ولا تُتَّهم بالإرهاب.
إنّ هناك مناطقَ ساخنةً في العالم وبؤَرًا ملتهِبة، ولكن مع الأسف لا يتعامل معها الإعلام ولا خطابُ السّاسة بمعيار واحدٍ، فهذه منظّمة إرهابيّةٌ وتلك غيرُ إرهابيّة، وطبيعة عمَلِهما واحدٌ ونشاطهما واحد، بل إنّ بعضَها قديمًا كان يُسمَّى حركةَ مقاومَة وبعضها حركةَ تمرُّد وبعضها حركةَ انفصال، ثمّ تحوّلت جميعًا ليطلَق عليها حركات إرهابيّة، تغيّر الاسمُ ولم يتغيّر المسمَّى.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلمون، والمناسبة مناسبةُ عيد، وجعل الله أعيادَكم مباركة، لا بدّ مِن أن يُثارَ حقّ الفقراءِ واليتامى والأرامل والمرضى والمحتاجين، كيفَ سيأتي عليهم هذا العيدُ وأعمال البرّ ومؤسّساتُ الخير وجهود الإغاثة ممّن اكتوَت بهذا الخلطِ في المفاهيم وتأثّرت بهذا اللّبس في المصطلحات. إنّ العملَ الخيريّ هو كفُّ الرحمةِ التي يسوقها الله عزّ وجلّ لتمتدَّ على كلّ أرضٍ وتجوبَ كلَّ قطر، لتمسحَ دموعَ اليتامى وتبدِّد أحزانَ الثكلَى وتقتلعَ مآسيَ الأرامل وترعى الأطفالَ وتحنوَ على المنكوبين وتعالجَ المرضى وتنشرَ العلمَ في الجاهلين. كم للشّتاء القارس مِن رزايا، وكم للحروب من ضَحايا، وكم للفقر من أنياب، فيطرُق العمل الخيريّ برجالِه ونسائِه ومؤسّساته ومحسِنيه أبوابَ هؤلاء جميعًا ليحملَ لهم بإذن الله الفرجَ بعدَ الشدّة والسرورَ بعد الحزن والبسمةَ بعد الدّمعة والنورَ بعد الظّلمة، في لمسةٍ حانِية ويدٍ مشفِقة، في وجهِ قسوةِ الأيام الضّارية.
العمل الخيريُّ هو ملتقى الحضاراتِ، وهو جامعُها، وهو المقرّب بين الشّعوب، وهو بريد السّلام واستقرار العالم.
الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، وصلّى الله على نبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبِه وسلّم تسليمًا كثيرًا.
معاشرَ الإخوة، أمّا في الإسلام فإنّ أعمالَ الخير من المطلوبات الكبرى في الدّين، وليس شيئًا فرعيًّا أو أمرًا جانبيًّا، فضلاً عن أن يكون معرّةً تُنكَر أو تهمةً تدفَع، بل إنّه مطلوب كما يُطلَب الركوع والسّجودُ وأنواع العبادة، وذلك كلُّه سبيل الفلاح، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?رْكَعُواْ وَ?سْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَ?فْعَلُواْ ?لْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَـ?هِدُوا فِى ?للَّهِ حَقَّ جِهَـ?دِهِ [الحج:77، 78].
أيّها الإخوة في الله، وإذا كان ذلك كذلك فليُعلَم أن نجاحَ العملِ الخيريّ يُعَدّ مقياسًا وتقويمًا لمستوى عيشِ الأمَم والأفرادِ والدّول، وعاملاً من عوامِل التوازُن والتكامُل بينَ الأغنياء والفقراء.
العمل الخيريّ صمّام أمان، بل هو بإذن الله الأمن الوقائيُّ في المجتمعاتِ وبين الدّوَل، فهو يساعِد على تقليص الجريمةِ ونزعِ مخالب الشحّ والحَسَد، فثماره وآثاره تعُمّ الجميعَ القاصيَ والداني، ويتحقّق به التوازن السياسيُّ والاقتصادي وكبحُ جِماح طغيان قطاعٍ على قِطاع. وليس من المبالغةِ القولُ بأنّ العمل الخيريَّ يُعدّ من خطوطِ الدّفاع الأولى للدّول والأمَم، والإجهاز على هذا الخطّ بتشويهٍ أو تشكيك أو إضعاف أو تحجيم هو إجهازٌ على قوّةٍ من أهمّ القوى المساندة لأيّ دولةٍ أو مجتمع، فلا بدّ من التنبّه ودقّة النّظر والتدبّر والاعتبارِ والحذَر من مكرِ الماكرين وكيدِ الكائدين.
العاملون في الجمعيّاتِ الخيريّة هم سفراء شُرَفاء، يحمِلون الإخلاصَ والحبّ مِن دولِهم ومواطنيهم، وعملُ الخير ينطلق من أفئدَتِهم قبلَ أن توزّعه أيديهم، ولا نزكّي على الله أحدًا، بل الله يزكِي من يشاء، ووقوع الأخطاءِ الفرديّة والاجتهاد الخاطِئ لا يؤثّر على القاعدةِ ولا يشوِّش على شرفِ المهمّة ونُبلِ أهلها.
إنَّ القائمين على الأعمالِ الخيريّة قد تجاوزوا مصالحَهم الذاتيّة وعاشوا لغَيرهم، بل عاشوا للفقراءِ واليتامى والمرضَى والأرامِل وأُسَر القتلى والشّهداء، وتفانَوا وضحَّوا وبَذَلوا في سبيلِ تحقيقِ المصالح العامّة ابتغاءَ رضوان الله.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
معاشرَ الإخوة، أيّ شقاءٍ سيحلّ بالبشريّة إذا حيل بينها وبين هذا الخير؟! وأيّ بؤسٍ سوف يعشعِش في أجوائها إذا اغتيل هذا العطاء؟! كم ستكون الصّدمة إذا توقّفت قوافلُ الخير ومسيرات البرّ وحُجِب النّور ورُدِم أهل العطاء وأغلِق باب المعروف؟! سوف تكون الكارثة التي تحلّ بالأرض وأهلِ الأرض، وحينئذٍ لا تعاونَ ولا تآزر ولا تواصُل ولا تراحمَ ولا بذلَ ولا عطاء، ليهلك المتخَم بتخمتِه، ويموتَ الجائع بجوعه، ويرتكسَ العالم في مستنقَع الأنانيّة البغيضةِ والأثرَة المقيتة، وتفترس هؤلاء الضّعاف ذئاب البشر، فلا حول ولا قوّة إلا بالله.
أيّها المسلمون، يجب الوقوفُ الحازم أمامَ حملاتِ التشويهِ التي تستهدف هذا العملَ المبرور، إنّها حملات جُمِّدت فيها حساباتٌ وصودِرت مدَّخرات وأقفِلت مؤسّسات، مع مراقبةٍ متعسِّفة تنفّر من العملِ الخيريّ. حملةُ تشويهٍ امتدّت إلى كلّ ما ارتبط بالعمَل الخيريّ من مصارِف وبيوت تجارة وأموال وشخصيّات محسِنَة وجهاتٍ مانحة، وطالت معظمَ الدّول.
أيّها المسلمون، ومع الثقةِ الكبرى بجمعيّاتنا الخيريّة وهيئاتنا ورجالِنا فإنّ من الحزم والحقّ تحرّي الصّدق وتوخّي الشفافية والوضوح في جميع الأعمالِ والتزام الأنظمةِ المرعيّة والضبط في موارد المالِ ومصارفِه وإعلان ذلك للكافّة بالوسائل المناسِبة والدقّة في محاسبة النّفس من التزام الصّلاح والورَع وروح المسؤوليّة وإخلاص النيّة وصواب العمَل وحسن التسيير والتدبير، والله بما تعملون محيط.
وبعدُ: أيّها المسلمون، فإنّ ثمارَ العمل الخيريّ وإنجازاته الجبارة هي بعدَ فضل الله جهودٌ مشتركة لمجتمع آمنت قيادتُه وآمَن أغنياؤه وآمَن أفراده بمسؤوليّتهم تجاهَ ربّهم ودينِهم وإخوانِهم. فالله اللهَ أن تضعفَ العزائم أو تنقبِض الأيدي مِن البسط أو تضعف الثقة بالله الذي يعمَل من أجلِه العاملون، ويستعين به الجادّون، ويتوكّل عليه المتوكّلون، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فبادروا ـ رحمكم الله ـ حتّى تغبرّ أقدامكم في السّير في ركابِ الخير واللحاق بقوافله ودعمِ مسيرتِهِ والذّبّ عن حياضِه وكفّ ألسُن الإعلامِ والأقلام عن الوقوع في أعراضِه.
وعلى الجميع الاستفادةُ من عِبر التاريخ، فلا طريقَ إلى العزّة إلاّ بالله ثمّ بالقوّة والوحدَة شعوبًا ودوَلاً ومؤسّسات، وعجلةُ التاريخ تدور بسوادِها وبياضها تدوينًا وتسجيلاً وعبَرًا ودُروسًا، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ بَصِيرٌ بِ?لْعِبَادِ [غافر:44].
اللهمّ اجعلنا للخير أهلا وللأهل خيرًا، ووفّقنا لعمل الخير وخير العمَل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى? فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى? وَ?تَّقَى? وَصَدَّقَ بِ?لْحُسْنَى? فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى? وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَ?سْتَغْنَى? وَكَذَّبَ بِ?لْحُسْنَى? فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى? وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى? [الليل:4-11].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبهديِ محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، وسلامٌ على عبادِه الذين اصطفى، والحمد لله بجميع محامِده، والشكر له على جميلِ عوائده، الله أكبر لا إله إلا الله، سبحانه وبحمدِه، تقدّست صفاته، وحسُنت أسماؤه، توافر برُّه، وتكاثر عطاؤه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، تمّت كلمته، ووسِعت رحمته، وعمّت نعمتُه، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله، خاتم أنبيائه، وسيّد أوليائه، صلّى الله وسلّم وبارك عليه أتقى البريّة وأزكاها، وعلى آله وأصحابه أفضل الأمّة وأتقاها، والتّابعين ومن تبعهم بإحسان، صلواتٍ وسلامًا وبركات لا تتناهى.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، إنّ تحجيمَ المؤسّساتِ الخيريّة مآله تحجيمٌ للأمَم والدّول، وإذا ضعُفت هذه الهيئات وانحسَر عملُها المبارك فكم من محرومٍ سيتخرّج من مدارس الحرمان، وكم من جاهلٍ سوف يتعلّم من عصابات الإجرام، وكم من يتيم سوفَ يهيم، وكم من جائع سوف يهلك، وكم من مريضٍ سوف يقطّعه الأنين، وكم من ضالّ سوف يتشرّد، وكم من منحرِف سوف يؤذي ويخرّب، لماذا؟ لأنّ كلّ هؤلاء سوفَ يعيشون في مجتمعاتٍ لا ترحمهم وبين أناسٍ لا يعبؤون بهم ولا يحمِلون همَّهم.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
معاشرَ الأحبّة، ونحن في العيد ونعيش وظيفةَ العيد من التواصُل والتّزاور والتّسامح فإنّ ما حصل من تراجعاتٍ ومراجعات من بعض الذين أصدَروا فتاوى خاطِئةً وأعلنوا بشجاعةٍ عن خطئِهم وضلال طريقِهم فهي مراجعاتٌ في الصّواب ورجوع إلى الحقّ، وهذه فضيلة ونعمةٌ تستحقّ الإشادةَ والثناء، كما أنّها من علاماتِ توفيق الله لهذه البلادِ وقيادتها وحسن تعاملها وعلاجها في مثلِ هذه الأحداث. أرانا الله جميعًا الحقَّ حقًّا ورزقنا اتّباعه، وأرانا الباطلَ باطلاً ورزقنا اجتنابه.
إنّ على الجميع من مواقع مسؤوليّاتهم أن يسعَوا في ردمِ الفجَوات والسّعي في منهج الوَسط والاعتدال من جميع الفئاتِ والفعاليّات. لا بدّ من تشجيع كلّ موقفٍ يبعِد عن التصنيفات أو التعصُّبات من جميع الأطرافِ والاتّجاهات، يجب الوقوفُ بحزم أمامَ كلّ قولٍ أو عمل من شأنه أو يؤدّيَ إلى صِدام أو تناقضٍ أو استفزاز، وليبتعدِ الجميع عن الخطابات الإعلاميّة الاستفزازيّة، فالحقّ لا تبليه الآراءُ المتطرّفة من أيّ جانبٍ غلُوًّا كان أو جفاءً، وكفى تجاربَ فالخسارةُ فادحةٌ والكاسبُ هو العدوّ، والعدوّ وحدَه.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
فاهنؤوا بعيدكم، والزَموا حدودَ ربّكم، وصوموا عن المحارم كلَّ دهرِكم، تكن لكم أعيادٌ في الأرض وأعياد في السماء. وفَرَح المسلمين بعيدهم ليس فرحَ لهوٍ تُقتَحم فيه المحرّمات وتنتهَك فيه الحُرمات، ولكنّه فرحٌ وزينة وعبادةٌ وصِلة، إنّ من الخطأ الفاضِح أن يظنَّ المسلم أنّ غيرةَ الله على حدودِه ومحارمِه في رمضانَ أشدّ منها في غيرِ رمضان، فيتساهَل في العيدِ بانتهاكِ المحرَّمات والممنوعَات.
الله أكبر، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحانَ الله بكرةً وأصيلاً.
ألا فاتّقوا الله رحِمكم الله، فهنيئًا لمَن صام وقام وجبَر الكسرَ وواسى المكلومَ وأطعم البائسَ الفقير، وما اشتكى فقيرٌ إلاّ بقدرِ ما قصّر غنيّ.
وإنّ من أعمال هذا اليومِ إخراجَ زكاةِ الفطر، فأخرجوها طيّبةً بها نفوسُكم، ومقدارُها صاعٌ من طعامٍ من غالبِ قوتِ البلد كالأرز والتّمر والبرّ عن كلّ مسلم. ووقتُ إخراجِها الفاضل يومُ العيد قبلَ الصلاة.
ومِن مظاهرِ الإحسانِ بعدَ رمضان استدامةُ العبدِ على المنهج المستقيم ومداومة الطّاعة وإتباع الحسنةِ الحسنة، فذلك من قَبول الطاعات، وقد ندَب نبيّكم محمّد بأن تتبِعوا رمضانَ بستٍّ من شوّال [1] ، فمن فعَل ذلك فكأنّما صام الدّهر كلّه.
تقبّل الله منّا ومنكم الصيامَ والقيامَ وسائرَ الطاعات.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
ألا وصلّوا وسلِّموا على الرّحمة المهداة والنّعمة المسداة، نبيّكم محمّدٍ رسول الله، فقد أمركم بذلك ربّكم فقال عزّ قائلاً عليمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وأزواجِه وذرّيّته، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في الصيام (1164) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
(1/2827)
رمضان بين السلف والخلف
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القتال والجهاد, غزوات
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
27/9/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انصرام رمضان وتقضي لياليه. 2- رمضان عند السلف الصالح. 3- رمضان شهر الانتصارات (بدر – فتح مكة). 4- عفو النبي عن قريش، ووفاؤه لخديجة يوم الفتح. 5- بعض أحوالنا المزرية في رمضان. 6- استعراض أحوال المسلمين في العالم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله، عباد الله، اتقوا الله في سركم وجهركم، اشكروه على ما منّ عليكم من صيام وقيام هذا الشهر الكريم، الذي فضله وشرفه وجعل عشره الأخيرة من أفضل أيامه، وخصّه بليلة هي خير من ألف شهر، وأنزل فيه القرآن، فالسعيد من اغتنم هذه الليالي وعرف قدرها وقام بحقها واستغل أوقاته بالإحسان والبر والصلاة وتلاوة القرآن وذكر الله تبارك وتعالى، قام هذه الليالي بقلب خاشع منيب، وأخلص عمله لربه الحسيب الرقيب.
عباد الله، بعد أيام قليلة يكون رمضان قد أخذ أوراق العباد ليعرضها على الله، رمضان انفرط عقده، وتناثرت حبات لياليه وأيامه، ونراه الآن يجهز نفسه لا ليسافر إلى واشنطن ولا إلى موسكو، ولكن إلى هناك، وما أدراك ما هناك، حيث لا هناك هناك، فالله لا يحويه مكان، ولا يجري عليه زمان، رمضان ذهبت السكرة وحلت الفكرة، رمضان سوق قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر.
فيا شهر الصيام فدتك نفسي تمهل في الرحيل والانتقال
فما أدري إذا ما الحول ولّى وعدت بقابل في خير حال
أتلقاني مع الأحياء حيا أو أنك تلقني في اللحد بال
فهذه سنة الدنيا دواما فراق بعد جمع واكتمال
عباد الله، تعالوا وإيانا لنودع هذا الشهر الكريم ونسلم عليه، فنقول: السلام عليك يا شهر رمضان، السلام عليك في الأولين وفي والآخرين وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين، سلام عليك يوم حللت ديار المؤمنين، فنورتها بالقرآن، سلام على قلوبنا التي قربتها لمعرفة الواحد الديان، سلام عليك يوم وصلت أرحامنا، وطهرت نفوسنا، سلام عليك يوم ينادي المنادي: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، سلام عليك يوم جمعت شملنا وعمرت بيوتنا، سلام عليك وعلى صلاة التراويح وعلى ليلة القدر.
وبعدك يا رمضان، تحزن المساجد، وتطفأ المصابيح، وتنقطع صلاة التراويح، ونعود إلى العادة، ونترك شهر العبادة، والمساجد تشكو إلى الله من قلة الراكعين والساجدين والعابدين، رمضان، يا شهر الصيام، لماذا أراك حزيناً؟ فأجاب: وكيف لا أحزن وأهلي جميعاً دون خلق الله ماتوا، ما للمنازل أصبحت لا أهلُها أهلي، ولا جيرانها جيراني.
تعالوا أيها المؤمنون، لنرى كيف كان رمضان عند سلفنا الصالح؟ وكيف أصبح في هذه الأيام! يقول رمضان: كنت عندهم قرآناً وصياماً ونصراً وقدراً وفتحاً وبِراً، كنت قرآناً وصياماً، لأن القرآن والصيام يشفعان لصاحبهما يوم القيامة، وكنت نصراً لهم في يوم بدر، يوم التقى الجمعان، يوم الفرقان، يوم تحرك معسكر الشرك بصولجانه وقواته، ووقفوا أمام ثلاث مائة وأربعة عشر رجلاً، وصفهم القائد الرباني العظيم: ((اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم)).
وقفوا أمام قوم غلاظ الأكباد، جفاة الطباع، قساة القلوب، فماذا حدث في ذلك اليوم؟ ميزان القوى غير متكافئ، ولكن متى كانت قوة العبد تغني عن قوة الرب، إذا بالقائد العظيم الملهم ينادي صاحب العرش العظيم يقول: ((اللهم إن قريشاً قد أقبلت بخيلها تحادُك، وتكذب نبيك، اللهم أنجز لي ما وعدتني)).
كان هذا في يوم بدر، يوم النصر الحقيقي الذي لا جدل فيه، ولا التواء، ولا متاجرة، ولا مداهنة، ولا مساومة، ولا أنصاف حلول، فالعقيدة لا تقبل المساومة ولا تقبل أنصاف الحلول، ليس بين الإيمان والكفر حد وسط، وإذا بالملاك جبريل يقود كتيبة من الملائكة، هبطوا إلى الأرض، هبطوا إلى أرض المعركة، ألف من الملائكة لا تستطيع الأسلحة البشرية أن تؤثر في أجسامهم، عباد الله هل يهزم جيش فيه الله تبارك وتعالى؟ هل يهزم جند عاشوا ويعيشون مع الله تبارك وتعالى؟ إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ?لْمَلَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ?لرُّعْبَ فَ?ضْرِبُواْ فَوْقَ ?لاعْنَـ?قِ وَ?ضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12]، لَّقَدْ رَضِيَ ?للَّهُ عَنِ ?لْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ?لشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ?لسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَـ?بَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح:18].
عباد الله، رمضان شهر الفتح، ففي العام الثامن من الهجرة، وفي اليوم العاشر من رمضان دخل القائد العظيم والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مكة، ولما دخلها قالوا له: انزل بيتك يا رسول الله، انزل ببيتك القديم، فقال لهم: ((وهل ترك المشركون لي بيتاً أنزل فيه)) حتى بيته أخذوه! إذاً فأين ينزل.
وهنا يمر شريط الذكريات ذكريات الوفاء، ونبينا صلى الله عليه وسلم كله وفاء، قال: ((اضربوا لي خيمة أمام قبر خديجة)) ، وخديجة تحت أطباق التراب، لكنه لا ينسى أيامها، تلك أيام الوفاء، وجلس أمام قبرها يستعيد الذكريات.
وفي ساعة صفت سماؤها، وشهدتها الملائكة، جلس التاريخ على ركبتيه وتمرغ بين يديه، وإذا بقوات المصطفى صلى الله عليه وسلم تحاصر مكة حصاراً محكم الحلقات، وإذا بالرسول عليه الصلاة والسلام يلقي بيانه المشهور أمام أهل مكة، أهل مكة الآن يستمعون جميعاً أمام البيت الحرام، يستمعون إلى القائد المنتصر العظيم، نبينا صلى الله عليه وسلم الآن يقف خطيباً، ويلقي ببيانه الحاسم، وينظر إلى وجوه ذكرته بالعداء، وجوه ناصبته الكراهية والحقد إحدى وعشرين سنة، إحدى وعشرين سنة وهي تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان بإمكانه أن يشير بإحدى أصابعه إلى أحد قواته المسلحة، كان بإمكانه أن يلقي إليهم بالإشارة من سبابته، وأن يحول شوارع مكة إلى أنهار من الدماء، ولكن تدرون ماذا فعل؟؟ ما كان يتهدد وما كان يتوعد، وما عرف السجون، ما سمع بالمعتقلات، ولا أقر الظلم حتى مع الكافر، النفوس الكبار فوق الأحقاد، فوق الضغائن، فوق الرذائل، فوق التشفي، لا تعرف حقداً ولا حسداً، وهل هناك يا عباد الله نفساً أكبر من نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وبين تيجان السرور وأكاليل السرور وباقات العطور وهلالات النور وكنوز الدر المنشور سأل المصطفى عليه الصلاة والسلام: يا أهل مكة، ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: (خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم)، فماذا أجابهم؟؟ الذين خاطبه ومولاه بقوله: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]، قال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء، لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين)).
أيها المؤمنون، إذا أردنا زعامة فليس لنا أسوة إلا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أردنا سياسة فليس لنا سياسة إلا في منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أردنا حكماً فليس هناك إلا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هكذا كان رمضان عند المسلمين الأوائل كان حلماً وصياماً ونصراً وفتحاً وبراً وقدراً، فكيف أصبح الآن؟؟ كيف أصبح رمضان يا معاشر المؤمنين؟ أصبح سهرات حتى الفجر، شاشات التلفزة كلها فوازير، وكلها مما حرم الله تبارك وتعالى، والناس حريصون كل الحرص على أن لا يفوتهم حرف واحد من فوازير رمضان، كيف لا؟ والحرف بعشر حسنات(سخرية)!!
أصبح ليله مجوناً، ونهاره إفطاراً، انظروا إلى أماكن اللهو، فهل تروا منهم صائماً! هل تروا مكاناً فارغاً! ترى الجميع - والعياذ بالله - يحاربون الله ويجاهرون بالمعصية، يا رمضان إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولكن لا نقول ما يغضب الله، إنا على فراقك يا رمضان لمحزونون، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وداعاً يا شهر الصيام، والله ما ندري كم واحداً منا ستأكلهم الأرض بين رمضان هذا ورمضان القادم، اللهم إن كنت تعلم أن لنا بقية من العمر فوفقنا لما فيه رضاك يا رب العالمين، وإن كنت تعلم أننا سنقضي رمضان القادم في الدار الآخرة فاجمع بيننا وبين رسولك المصطفى صلى الله عليه وسلم.
عباد الله، امتثلوا أوامر الله جل جلاله، واجتنبوا ونواهيه وزواجره، واعلموا أن الله قد أمركم في محكم تنزيله بالصلاة والسلام على رسوله، فقال إعلاء لقدر نبيه وتعظيماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك النبي المصطفى والحبيب المجتبى، إمام المرسلين وخاتم النبيين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأمة المهديين، أولي القدر العلي، والفضل الجلي، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن عمي نبيك حمزة والعباس، وعن سيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين المطهرين من الأرجاس، وعن أمهما السيدة فاطمة الزهراء وعن سائر أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ارض اللهم عنا بمنّك وكرمك وعفوك وإحسانك يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، وانصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، واختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله، توجهوا إلى المولى الكريم، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الذي غمر العباد بإنعامه، وعمر قلوب العباد بأنوار الدين وأحكامه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، المبعوث بالحكمة وفصل الخطاب، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ونبيك وآله وأحبابه وأصحابه.
أما بعد: فيا عباد الله، تمر أمتنا الإسلامية بأحلك وأدق وأخطر مراحل وجودها، إذ تتلاحق الأحداث وتتعاظم الهجمة الصليبية الحاقدة على الإسلام في كل مكان، تحت مسميات وذرائع خبيثة بدعوى محاربة الإرهاب، وتشبه هذه الأحداث المتلاحقة الظروف والمؤامرات التي حيكت في الظلام للقضاء على دولة الخلافة في العام 1924م، ولا بد من رصد هذه الأحداث وطرحها أمامكم لتروا بأعينكم ما يجري على الساحة الإسلامية.
لماذا ـ أيها المسلمون ـ لم يوقِّع الانفصاليون في جنوب السودان على اتفاقية السلام برعاية أمريكا رغم أن هذه الاتفاقية تدعو إلى اقتسام السلطة وإعطاء حكم ذاتي واستقلال لجنوب السودان؟
اسمعوا جيدا السبب، يصر الانفصاليون وبدعم أمريكي صليبي حاقد أن تعلن حكومة الخرطوم إلغاء الدين الإسلامي كدين رسمي للدولة، الله أكبر على كل الحاقدين، الله أكبر على كل العملاء المتساقطين.
أيها المسلمون، الأحداث التي وقعت في أرض السعودية مؤخراً، مَن وراءها؟ وماذا يقصد منها؟ والجواب: المسلمون براء من هذه الأحداث والتي يقصد منها الإساءة إلى الإسلام في مهد دولة الإسلام، التي أرسى قواعدها نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم في مهبط الوحي، وانطلاقة الدعوة الإسلامية، أعداء الإسلام يخططون لزعزعة الاستقرار في أرض السعودية والحجاز، حتى تجد أمريكا الذريعة في التدخل المباشر ورسم سياستها العدوانية ضد المسلمين في أرضهم وفي أماكن عبادتهم، تحت ذريعة عجز الحكومة عن مواجهة المتطرفين أو الجماعات الدينية المتشددة أو تنظيم القاعدة.
أمريكا تصعد عدوانها ضد الشعوب الإسلامية، وتهدد باستخدام القوة العسكرية ضد سوريا وإيران، لماذا كل ذلك أيها المسلمون؟ لأن أمريكا تريد تطبيع سوريا للدخول في مفاوضات مع إسرائيل، لتمكن هذه الأخيرة من فرض شروطها، وبخاصة تحقيق انسحاب سوريا من لبنان، وتخليها عن حزب الله اللبناني، وعدم إيواء أي معارض للسياسة الأمريكية في المنطقة.
وما قرار المقاطعة الاقتصادية ضد سوريا إلا لدعم التهديدات الإسرائيلية المتواصلة بشن المزيد من الغارات على سوريا، فإسرائيل تعاني من المأزق الحرج الذي وقعت فيه بفعل تبادل الأسرى مع حزب الله، لإصرار حزب الله إطلاق كل الأسرى اللبنانيين دون قيد أو شرط.
ونحن من هنا نهيب بجميع المسئولين أن يعملوا على إطلاق سراح أسرانا في السجون الإسرائيلية، فهذا هو حقهم، وهذا هو طريقهم، ونحن من هذا المكان الطاهر نتوجه إلى العلي الكبير أن يمن عليهم بالصحة والعافية، اللهم أطلق سراح أسرانا وارحم ضعفهم يا رب العالمين.
أيها المسلمون، أمريكا لا تزال تواصل الضغط المبطن بالتهديدات ضد إيران لوقف برنامجها النووي، ويأتي هذا التهديد نتيجة للضغوط الصهيونية على أمريكا، لأن برنامج إيران النووي يشكل خطراً كبيراً على دولة إسرائيل، ومن المؤسف حقا أيها المسلمون أن قادة وحكام الأمة يتخبطون باتخاذ أي موقف حاسم ضد أعدائها ولمواجهة المخططات الاستعمارية، ويحكمون على واقع الأمور من منطلق الخذلان واليأس والتشرذم، همهم الوحيد هو الحفاظ على عروشهم وإن كان ذلك على حساب كرامتهم أو كرامة شعوبهم.
أين أموال المسلمين ونحن في شهر رمضان، في شهر الصدقات والمَبرات؟؟ إنها في البنوك الأمريكية، في البنوك السويسرية وهي رهينة بأيدي الأعداء، فإذا ما عصى التلميذ معلمه سرعان ما تجمد أمواله وأموال المسلمين.
أموال المسلمين ـ يا عباد الله ـ تستخدم في ضرب المسلمين، وها هم بعض حكام العرب يلاحقون الشباب المسلم في كل موقع ومكان لإرضاء الإدارة الأمريكية.
أما عندنا هنا في أرض فلسطين، نحن شعب فلسطين، فإننا نواجه العدوان وحيدين ليس معنا إلا الله، نتحمل قسوة الاحتلال ومرارة القهر وقوات الاحتلال تمعن في قهر شعبنا وقتل أبنائنا وهدم منازلنا والاستيلاء على المزيد من أرضينا، وما الجدار الفاصل إلا حلقة من حلقات التآمر على شعبنا، وما التصريحات المبطنة هنا وهناك عن إمكانية التخلي عن حق العودة إلا حلقة من حلقات التنازل عن وجودنا، وعن أرضنا، وعن حقنا.
الرئيس الأمريكي وكعادته عاد وهدد الفلسطينيين بعدم إقامة دولة فلسطينية على حد زعمه وقوله، إن لم يتم سحق ما أسماه الإرهاب الفلسطيني، فهل يخضع الفلسطينيون لهذه التهديدات؟ ألا يزال الفلسطينيون مخدوعين بالوعود الأمريكية الكاذبة؟ إنها المؤامرة يا عباد الله، إنها المؤامرة على أرضكم، إنها واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
ورغم هذا الوقع المؤلم، تذكروا دائماً أن النصر مع الصبر، فإن تباشير النصر تدل أنه آت لا محالة، وأن الفرج مع الشدة، والظلام الدامس يدفعه فجر ساطع، وفجر الخلاص قريب بإذن الله تبارك وتعالى.
عباد الله، ها هو شعب العراق الأشم يذيق المحتل الضربات الموجعة تلو الضربات، وها هم الجنود الأمريكان يغوصون في الوحل ثانية، وها هي أمريكا تتكبد الخسائر في أفغانستان، وها هي بريطانيا تضرب في أرض تركيا.
عباد الله، إن على الأمة الإسلامية من أجل النهوض من كبوتها أن تنفض عن كاهلها الوهن والتبعية والمهانة، وأن تعود إلى الله تبارك وتعالى، أن تعود إلى تطبيق شرعه ومنهاجه دستوراً ونظام حياة، وأن تعمل على إقامة دولة إسلامية، ففيها عزة المسلمين وكرامتهم، ولا بد من الإعداد السليم والتخطيط الجيد والتجهيز المادي وتجميع الصفوف صدق النوايا والعزائم، حتى إذا قامت دولة الإسلام في أي بقعة من بقاع الأرض وجدت رصيدا هائلاً من المسلمين يدرؤون عنها كل المخططات الصليبية الحاقدة للنيل منها أو من إجهاضها، فصراعنا صراع عقدي بين الكفر والإيمان بين الحق والباطل، وصدق الله تبارك وتعالى وهو يقول: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?دُ [غافر:51].
(1/2828)
عيد الفطر 1424هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
1/10/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لكل أمة عيد. 2- عيدا المسلمين. 3- الحكمة من الانتقال من الصيام إلى الفطر. 4- أهمية التوحيد. 5- شهادة أنّ محمدًا رسول الله. 6- التكافل الاجتماعي وزكاة الفطر. 7- التواصل بين المسلمين والتآلف فيما بينهم. 8- إظهار شعائر الإسلام. 9- الحث على المحافظة على أركان الإسلام العملية. 10- الحث على مكارم الأخلاق. 11- التحذير من الشرك. 12- التحذير من كبائر الذنوب. 13- موعظة للنساء. 14- من سنن العيد. 15- معنى التكبير ومناسبته لتمام الصيام. 16- الحث على شكر النعم. 17- التذكير بالموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ أيّها المسلمون ـ بالمسارعةِ إلى مرضاتِه والبعدِ عن محرّماتِه، فالتّقوى هي الوسيلةُ إلى الرّبّ الكريم، وهي بابُ جنّات النّعيم، جعلها الله هي الزّادَ ليومِ المعاد.
واعلموا ـ عبادَ الله ـ أنَّ لكلِّ أمّةٍ مِن الأمَم عيدًا يعود عليهم في يومٍ معلوم، يتضمَّن عقيدتَها وأخلاقَها وفلسفةَ حياتِها، فمِن الأعيادِ ما هو منبثِق مِن الأفكارِ البشريّة البعيدة عن وحيِ الله تعالى، وهي أعيادُ العقائد غيرِ الإسلاميّة، وأمّا عيد الفطر وعيد الأضحى فقد شرعه الله تعالى لأمّة الإسلام، قال الله تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا [الحج:34]، روى ابن جرير في تفسيره عن ابن عبّاس قال: (منسكًا أي: عيدًا) [1] ، فيكون معنى الآية أنّ الله جعل لكلّ أمّة عيدًا شرعيًّا أو عيدًا قدريًّا.
وعيد الفطر وعيد الأضحى يكونان بعدَ ركنٍ مِن أركان الإسلام، فعيدُ الفِطر يكون بعدَ عبادةِ الصّوم وعيد الأضحى بعد عبادة الحجّ، عن أنسٍ رضي الله تعالى عنه قال: قدِم رسول الله المدينةَ ولهم يومان يلعبون فيهما قال: ((ما هذان اليومان؟)) قالوا: كنّا نلعب فيهما في الجاهليّة، فقال: ((قد أبدلكم الله خيرًا منهما: يومَ الأضحى ويوم الفطر)) رواه أبو داود والنسائيّ [2].
فعيد الفطر يعقُب الصيامَ والقيام، فشهر رمضانَ زمنٌ فاضل تضاعَف فيه الأعمال الصّالحة، وشرع الله فيه الاجتهادَ في الطاعة وبذلَ الوُسع في القرُبات وإقبالَ القلب على الله تعالى وطلبَ الآخرة الباقية اغتنامًا للوقتِ الفاضِل المبارَك واستفادةً وكسبًا لساعاتِ العُمر القليلة وابتغاءَ الزّلفى بأنواع الحسناتِ التي يرضى بها الربّ عن العبد، حتى إذا استنفد الإنسان المسلم جهدَه وبذل وسعَه في الطاعات واندفعت طاقتُه صاعدةً في سُلَّم الخيرات، فلمّا ارتقى المسلمُ هذه الدرجاتِ المنيفةَ وتصرّمت وولّت ساعات الصّيام الشريفةُ وكادت تهبّ رياح الملَلَ والسآمة شرع الله الفطرَ ليتمتّع المسلم بعد الصيام بما أباح الله من الطيِّبات والحلال الطيّب النافع من غير سرَف ولا تبذير، وليوسّعَ على نفسه ممّا خوّله الله من آلائه بلا خُيَلاء ولا مفاخَرة، وفي الحديث: ((إنّ اللهَ يحبّ إذا أنعم على عبدٍ أن يرى أثرَ نعمتِه على عبده)) [3]. فينتقل المسلم بتوجيهٍ ربانيّ من حالٍ إلى حالٍ، وليعلم بأنّ الربّ جلّ شأنه هو الذي يأمر بالطّاعة وينهى عن المعصيَة، وأنّ الله هو الذي يحلّ الحلال ويحرّم الحرام ويشرع الدينَ ويقضي الأمور، وهو أعلم بما يُصلِح عبادَه، قال الله تعالى: قُلْ أَنزَلَهُ ?لَّذِى يَعْلَمُ ?لسّرَّ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان:6]، وقال تعالى: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
بالأمس فرَض الله عليك الصومَ، واليومَ أوجب الله عليك الفطر، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنّ رسول الله نهى عن صيامِ يومين: يوم الفطر ويوم النّحر. رواه البخاري ومسلم [4]. لتستسلمَ وتنقاد ـ أيّها المسلم ـ لشرع الله استسلامَ العبدِ الخاضع لمولاه الذي يرجو رحمةَ الله ويخاف عذابَه. ثم إنّ هذا التحوّلَ من الاجتهاد في الخيرات في رمضان إلى إذنِ الشرع بالتمتّع بالطيّبات والمباحات بعد رمضان إعدادٌ للنّفس وترويحٌ للقلب وتربيَة للبدن ليتهيّأ لأعمالٍ صالحة لا تنتهي مدّةَ الحياة، وليتقوّى بالطيّب النافعِ على عبادةِ الربّ جلّ شأنه، فإنّ القلوبَ تحتاج إلى استصلاح بما أرشد إليه الشرعُ الحكيم، قال عليّ رضي الله عنه: (روِّحوا القلوبَ ساعة، فإنّها إذا أُكرِهت عمِيت) [5] ، وكان أبو الدّرداء يقول: (إنّي لأستجمّ نفسي بشيءٍ من المباح لأتقوّى بذلك فيما بعدُ على الحقّ) [6] ، وعن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: (على العاقل أن يكون له ثلاثُ ساعات: ساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يحاسِب فيها نفسَه، وساعة يخلو فيها بمطعمِه ومشربِه) رواه ابن حبّان [7] ، وعن أبي ذرّ أيضًا: (ما يكون العاقل ظاعنًا إلاّ في ثلاث: تزوّد لمعاد، أو مرمّة لمعاش، أو لذّةٍ في غير محرَّم) رواه ابن حبّان [8] ، وكان ابن عبّاس رضي الله عنهما يذاكر أصحابَه بالتّفسير والفرائض، فإن آنَس منهم السآمَةَ أفاض في أشعار العرب وأيّامها، وكان يمزح ولا يقول إلا حقًّا [9].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلمون، العيدُ يتضمّن معانيَ ساميةً جليلة ومقاصدَ عظيمة فضيلة.
أُولى معانِي العيدِ في الإسلام توحيدُ الله تعالى بإفراده سبحانه بالعبادةِ في الدّعاء والخوف والرّجاء والاستعاذة والاستعانة والتوكّل والرغبة والرهبة والذّبح والنذرِ وغير ذلك من أنواعِ العبادة، وهذا التوحيدُ هو أصل الدّين الذي ينبني عليه كلُّ فرعٍ من الشريعة، وهو تحقيق معنى "لا إله إلا الله" المدلولِ عليه بقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، الذي نقرؤه في صلاةِ العيد وفي غيرِها من الصّلوات، والتوحيدُ هو الأمر العظيم الذي بتحقيقه يدخل الإنسان جنّاتِ النعيم، وإذا ضيَّعه الإنسان لا ينفعه عمَل.
والمتأمِّل في تاريخ البشريّة يجِد أن الانحرافَ والضلالَ والبدع وقع في التّوحيد، فتمسَّك ـ أيّها المسلم ـ بهذا الأصلِ العظيم، فهو حقّ الله عليك، وعهدُ الله الذي أخذه على بني آدم في عالَم الأرواح، وقد أكَّد القرآنُ العظيم توحيدَ الله بالعبادَة وعظَّم شأنَه، فما من سورةٍ في كتاب الله تعالى إلاّ وهي تأمر بالتوحيد نصًّا أو تضمّنًا أو التزامًا، أو تذكر ثوابَ الموحّدين أو عقوباتِ المشركين، فمن وفى بحقّ الله تعالى وفى الله له بوعدِه تفضُّلاً منه سبحانه وتعالى، عن معاذِ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((حقّ الله على العبادِ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحقّ العباد على الله أن لا يعذّبَ من لا يشرك به شيئًا)) رواه البخاري [10]. فالتّوحيد أوّل الأمر وآخره.
وثاني معاني العيدِ تحقيق معنى شهادة أنّ محمّدًا رسول الله عليه الصلاة والسلام التي ننطق بها في التشهّد في صلاةِ العيد وغيْرها من الصلوات، إذ معنى شهادةِ أنّ محمّدًا رسول الله طاعة أمره واجتنابُ نهيه وتصديق أخباره وعبادةُ الله بما شرَع مع محبّته وتوقيرِه، قال الله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِين [النور:54].
ومِن حكم العيدِ وعظيم فوائدِه التكافلُ الاجتماعيّ بين المسلمين، ومِن مظاهر هذا التّكافل الإسلاميّ زكاةُ الفطر التي فرضَها النبيّ على المسلم صَغيرًا كان أو كبيرًا، كما في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: كنّا نخرج زكاةَ الفطر صاعًا من طعام أو صاعًا من شعير أو صاعًا من تَمر أو صاعًا من أقِط أو صاعًا من زبيب. متّفق عليه [11]. ويجزئ هذا المقدارُ من كلّ حبٍّ يقتاتُه أهل كلّ بلد كالأرز والذّرة والدُّخن ونحو ذلك، والتي استحبّ كثير من أهلِ العلم إخراجَ هذه الزكاة يومَ العيد قبل الصلاة، وإن كان جائزًا إخراجُها قبل العيد بيوم أو يومين. وهي طهرةٌ للصّائم من اللّغو والرّفث وطعمة للمساكين، ومع أنّها بهذه الصّفة فهي مع ما يتصدّق به المسلم لتأمين مطالبِ العيد للمحتاجين سدٌّ لحاجة الفقراءِ والمساكين وتراحمٌ وتعاطفٌ بين أعضاءِ المجتمع الإسلاميّ كما روى البخاري ومسلم من حديث النّعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((مثلُ المؤمنين في توادّهم وتراحمِهم وتعاطفهم مثَل الجسدِ الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالسّهر والحمّى)) [12].
وأمّةُ الإسلام لا تزال بخيرٍ ما حرصت على التكافلِ الاجتماعيّ فرحم قويّها ضعيفَها، وكبيرُها صغيرَها، ووقّر صغيرها كبيرَها، عن أبي الدّرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ابغوني في الضّعفاء، فإنّما تنصَرون وترزَقون بضعفائِكم)) رواه أبو داود بإسنادٍ جيّد [13]. ولا يوفَّق لوصيّته عليه الصلاة والسلام إلاّ من سبقت له من الله السعادةُ ووجبت له الرّحمة.
ومِن حكمِ العيد وعظيمِ نفعِه التواصلُ بين المسلمين والتزاور وتقاربُ القلوب وارتفاع الوحشة وانطفاء نارِ الأحقادِ والضغائن والحسَد. فاقتدارُ الإسلام على جمعِ المسلمين في مكانٍ واحد لأداء صلاةِ العيد آيةٌ على اقتداره على أن يجمعَهم على الحقّ، ويؤلِّفَ بين قلوبِهم على التقوى، فلا شيءَ يؤلِّف بين المسلمين سِوى الحقّ لأنّه واحد، ولا يفرّق بين القلوبِ إلا الأهواء لكثرتِها.
والمحبّةُ بين المسلمين غايةٌ عظمى من غاياتِ الإسلام، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تدخلوا الجنّة حتى تؤمِنوا، ولا تؤمِنوا حتّى تحابّوا، أوَلا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلامَ بينكم)) رواه مسلم [14].
فجاهِد نفسَك ـ أيّها المسلم ـ أن تكونَ سليمَ الصّدر للمسلمين كلِّهم، فسلامةُ الصدر نعيمُ الدنيا وراحة البدَن ورضوان الله في الأخرى، عن عبد الله بن عمرو قال: قيل: يا رسول الله، أيّ الناس أفضل؟ قال: ((كلّ مخمومِ القلب صدوق اللسان)) ، قالوا: فما مخمومُ القلب؟ قال: ((هو التّقيّ النقيّ، لا إثمَ فيه ولا بغيَ ولا غلَّ ولا حسَد)) رواه ابن ماجه بإسناد صحيح والبيهقيّ [15].
ومِن حِكَم العيدِ ومنافعِه العظيمةِ شهودُ جمع المسلمين لصلاةِ العيد، ومشاركتُهم في بركة الدّعاء والخير المتنزّل على جمعِهم المبارك، والانضواءُ تحت ظلال الرحمَة التي تغشى المصلين، والبروزُ لربّ العالمين، إظهارًا لفقر العبد لربّه، وحاجته لمولاه، وتعرُّضًا لنفحات الله التي لا تُحدُّ ولا تُعدُّ، عن سعيد بن أوس الأنصاريّ عن أبيه مرفوعًا: ((إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبوابِ الطّرق فينادون: اغدوا ـ يا معشرَ المسلمين ـ إلى ربّ كريم، يمنّ بالخير ثمّ يثيب عليه الجزيلَ، لقد أمِرتم بقيام الليل فقمتُم، وأمِرتم بصيام النهار فصمتُم، وأطعتم ربَّكم، فاقبضوا جوائزَكم، فإذا صلّوا نادَى منادٍ: ألا إنّ ربّكم قد غفر لكم، فارجعوا راشدين إلى رحالِكم، فهو يوم الجائزة، ويسمّى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة)) رواه الطبراني في الكبير [16] ، وروي عن ابن عبّاس مرفوعًا: ((إذا كان عيد الفطر قال الله لملائكته: ما جزاءُ الأجير إذا عمِل عمله؟ قالوا: إلهنا وسيّدنا، أن توفِّيَه أجرَه، قال الله: أشهِدكم أنّي قد جعلتُ ثوابَهم من صيامِهم وقيامهم رضواني. فوَعزّتي وجلالي، لا يسألوني في جمعِهم هذا لآخرتهم إلاّ أعطيتهم إيّاه، ولا لدنياهم إلاّ نظرتُ لهم، انصَرفوا مغفورًا لكم)) [17].
ولأجل ما ينزِل الله من الخيراتِ والبركات على جمع صلاة العيدِ حثَّ الشرعُ على حضورِ النّساء لصلاةِ العيد غيرَ متبرِّجاتٍ وغير متعطّرات، عن أمّ عطية رضي الله عنها قالت: أمرَنا رسول الله أن نخرجهنَّ في الفطر والأضحى العواتقَ والحيَّضَ وذواتِ الخدور، فأمّا الحيَّض فيعتزلنَ الصلاة ويشهدنَ الخيرَ ودعوة المسلمين. رواه البخاريّ ومسلم وغيرهما [18].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلمون، إنّ من غايات العيد أيضًا ومنافعه إعلانَ تعاليم شرائع الإسلام ونشرَها في المجامع ومشاهدِ المسلمين، وتبليغها على رؤوس الأشهاد، ليأخذها ويتلقّاها الجيل عن الجيل، والآخرُ عن الأوّل، علمًا وعملاً تطبيقيًّا، فتستقرّ تعاليمُ الإسلام في سويداء القلوب، ويحفَظها ويعمل بها الكبير والصغيرُ والذّكر والأنثى، وخطبةُ العيد التي شرعها رسول الله تشتمِل على أحكامِ الإسلام السّامية وتشريعاتِه الحكيمة. وظهور فرائضِ الإسلام وتشريعاته وأحكامِه هي القوّة الذاتية لبقاء الإسلام خالدًا إلى يوم القيامة، فلا يُنسى، ولا يُغيَّر، ولا تُؤوَّل أحكامه، ولا تنحرِف تعاليمه.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عبادَ الله، الصلاةَ الصلاةَ فإنّها عِماد الإسلام، وناهيةٌ عن الفحشاء والآثام، وهي العهد بين العبد وربِّه، من حفظها حفظ دينه، ومن ضيَّعها فهو لما سواها أضيَع، وأوّل ما يُسأل عنه العبد، فإن قُبِلت قبِل غيرها من الأعمال، وإن ردَّت ردَّت سائِر العمل. وأدّوا زكاةَ أموالكم طيّبةً بها نفوسُكم، تطهِّروا بها نفوسَكم، وتحفَظوا بها أموالَكم من المهالِك، وتحسِنوا بها إلى الفقراء والمساكين من المسلمين، وتثابوا على ذلك أعظمَ الثّواب، فقد أعطاكم الكثير، وأمركم بإخراج اليسير. وصوموا شهرَ الصيام، وحجّوا بيتَ الله الحرام، فإنّهما من أعظم أركانِ الإسلام.
وعليكم ببرِّ الوالدين وصِلة الأرحام والإحسان إلى الفقراء والأيتام، فذلك عملٌ يعجِّل الله ثوابَه في الدنيا مع ما يدَّخر الله لصاحبه في الآخرة من حُسن الثّواب، كما أنَّ العقوقَ والقطيعة ومنعَ الخير ممّا يعجّل الله عقوبته في الدنيا، مع ما يؤجَّل لصاحبه في الآخرةِ من أليمِ العقاب.
وارعَوا ـ معشرَ المسلمين ـ حقوقَ الجار ففي الحديث: ((لا يؤمِن من لا يأمَن جاره بوائقَه)) [19] أي: شرَّه. ومُروا بالمعروف، وانهَوا عن المنكر، فإنّهما حارسان للمجتمع وسياجان للإسلام وأمان من العقوباتِ التي تعمُّ الأنام. وإيّاكم وأنواعَ الشرك التي تبطِل التّوحيد، التي يقع فيها من لا علمَ له كدعاء الأنبياء والصالحين والطواف على قبورهم وطلب الغوث منهم، أو طلب كشفِ الكربات والشدائد منهم، أو دعائهم دون الله بجلب النفع أو دفع الضرّ، أو الذبح أو النذر لغير الله، قال الله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، وقال عزّ وجلّ: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
وإيّاكم وقتلَ النّفس المحرّمة والزّنا، فقد قرن الله ذلك في كتابه بالشّرك بالله فقال: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:68، 69]، ومعنى أَثَامًا بئرٌ في قعر جهنّم، وفي الحديثِ عن النبي : ((لا يزال المرء في فسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا)) [20] ، وعن الهيثم بن مالك الطائيّ عن النبيّ قال: ((ما مِن ذنب بعد الشّرك أعظم عند الله من نطفةٍ وضعها رجل في رحمٍ لا يحلُّ له)) رواه ابن أبي الدنيا [21].
وعملُ قوم لوط أعظم من الزّنا، فقد لعن عليه الرسول [22]. والسِّحاق نوعٌ من الزنا وخبثٌ من الخبائث المحرّمة. وإيّاكم والربا فإنّه محق للكسب وغضبٌ للرب، عن البراء بن عازب رضي الله عنه مرفوعًا: ((الرّبا اثنان وسبعون بابًا، أدناها مثلُ إتيان الرّجل أمَّه)) رواه الطبراني في الأوسط [23].
وإيّاكم والتعرضَ لأموالِ المسلمين والمستضعفين، فإنّ اختلاطَه بالحلال دمارٌ ونار. وإيّاكم والرشوةَ وشهادةَ الزور فإنّها مضيِّعةٌ للحقوق مؤيِّدة للباطل، ومن كان مع الباطل أحلَّه دارَ البوار وجلَّله الإثمَ والعار، فقد لعن رسول الله الراشيَ والمرتشي [24] ، وقرن الله شهادةَ الزور بالشّرك بالله.
وإيّاكم والخمر وأنواعَ المسكرات والدّخان والمخدِّرات، فإنّها تفسِد القلب، وتغتال العقل، وتدمّر البدن الذي هو أمانة عندك، وتمسَخ الخُلُق الفاضل، وتُغضِب الربَّ، وتفتِك بالمجتمع، ويختلّ بسببها التدبير، عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((كلّ مسكرٍ حرام، وإنّ على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيَه من طينة الخبال)) ، قالوا: يا رسول الله، وما طينةُ الخبال؟ قال: ((عرَق أهل النار)) أو ((عصارة أهل النار)) رواه مسلم والنسائي [25].
وإياكم والغيبة والنميمةَ فإنّ المطعون في عرضِه يأخذ من حسناتِ المغتاب بقدرِ مظلمتِه، عن حذيفةَ مرفوعًا: ((لا يدخل الجنة قتَّات)) يعني: نمّام. متفق عليه [26].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
قال الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله لي ولكم.
[1] أخرجه ابن جرير في تفسيره (17/198)، وعزاه السيوطي في الدر (6/47) لابن أبي حاتم.
[2] أخرجه أحمد (3/103)، وأبو داود في الصلاة (1134)، والنسائي في العيدين (1556)، وصححه الحاكم (1/434)، والضياء في المختارة (1911)، وصححه الحافظ في الفتح (2/442)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (1004).
[3] أخرجه أحمد (2/182)، والترمذي في الأدب (2819) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه الحاكم (7188)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2260).
[4] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1996)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (827) بمعناه.
[5] انظر: إحياء علمو الدين (2/30، 4/376)، وأخرج ابن عبد البر في جامع بيان العلم (659)، والخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (2/129)، والسمعاني في أدب الإملاء (ص68) من طريق النجيب بن السري عن علي كلاما نحوه، وهذا سند منقطع، انظر: المراسيل لابن أبي حاتم (ص424-425).
[6] ذكره ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص274)، وابن عبد البر في بهجة المجالس (ص115)، والبغوي في شرح السنة (13/184)، والذهبي في السير (5/421).
[7] صحيح ابن حبان (361).
[8] هو نفس الرواية السابقة، أخرجها ابن حبان (361)، وأبو نعيم (1/166-167) عن أبي ذر عن النبي أنها من أمثال صحف إبراهيم عليه السلام في حديث طويل، قال الألباني في ضعيف الترغيب (1352): "ضعيف جدا".
[9] أخرج أحمد (2/340)، والبخاري في الأدب المفرد (265)، والترمذي في البر (1990) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله إنك تداعبنا! قال: ((إني لا أقول إلا حقا)) ، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وهو في صحيح سنن الترمذي (1621).
[10] صحيح البخاري: كتاب الجهاد (2856)، وأخرجه أيضا مسلم في الإيمان (30).
[11] أخرجه البخاري في الزكاة (1506)، ومسلم في الزكاة (985).
[12] أخرجه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر (2586) واللفظ له.
[13] أخرجه أحمد (5/198)، وأبو داود في الجهاد (2594)، والترمذي في الجهاد (1702)، والنسائي في الجهاد (3179)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4767)، والحاكم (2/116، 157)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (779).
[14] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (54).
[15] أخرجه ابن ماجه في الزهد (4216)، والطبراني في مسند الشاميين (1218)، وأبو نعيم في الحلية (1/183)، قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (2/127): "هذا حديث صحيح حسن"، وصحح سنده المنذري في الترغيب (3/349)، والبوصيري في مصباح الزجاجة، وهو في صحيح الترغيب (2889).
[16] المعجم الكبير (1/226)، قال الهيثمي في المجمع (2/201): "فيه جابر الجعفي، وثقة الثوري، وروى عنه هو وشعبة، وضعفه الناس، وهو متروك"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (670).
[17] أخرجه البيهقي في الشعب (3695)، وضعفه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/535)، وأشار المنذري في الترغيب (2/60) إلى ضعفه، وحكم عليه الألباني بالوضع في ضعيف الترغيب (594).
[18] أخرجه البخاري في الحج (1652)، ومسلم في العيدين (890) واللفظ له.
[19] أخرجه البخاري في الأدب (6016) من حديث أبي شريح رضي الله عنه.
[20] أخرجه البخاري في الديات (6862) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[21] عزاه السيوطي في الجامع لابن أبي الدنيا، وأخرجه ابن الجوزي من طريقه في ذم الهوى (ص190)، والهيثم بن مالك الطائي تابعي ثقة، فهو مرسل، والراوي عنه أبو بكر بن أبي مريم ضعيف، ولذا ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1580).
[22] أخرج أحمد (1/309)، وأبو يعلى (2539)، والطبراني (11546)، والبيهقي (8/231) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((لعن الله من عمل عمل قوم لوط)) في حديث طويل، وصححه ابن حبان (4417)، والحاكم (4/356)، وأورده الألباني في صحيح الترغيب (2421).
[23] المعجم الأوسط (7151)، قال الهيثمي في المجمع (4/117): "فيه عمر بن راشد وثقه العجلي وضعفه جمهور الأئمة"، وحكم عليه أبو حاتم بالانقطاع كما في العلل لابنه (1/381)، ولكن له شواهد يصحّ بها، ولذا صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1871).
[24] أخرجه أحمد (6532)، وأبو داود في الأقضية (3580)، والترمذي في الأحكام (1337)، وابن ماجه في الأحكام (2313) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (586)، وابن حبان (5077)، والحاكم (4/102، 103)، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح سنن أبي داود (3055).
[25] صحيح مسلم: كتاب الأشربة (2002).
[26] أخرجه البخاري في الأدب (6056)، ومسلم في الإيمان (105).
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر عدَد ما خلق في السّماء، الله أكبر عددَ ما خلق في الأرض، الله أكبر عدَد ما أحصاه كتابه، الله أكبر مِلءَ ما أحصاه كتابه. الحمد لله العزيز الوهّاب، منزلِ الكتاب، مجري السّحاب، هازم الأحزاب، أحمده سُبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفِره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له الرّحيم التوّاب، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله خير من صلّى وصام وتاب وأناب، صلّى الله عليه وبارك عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم المآب.
أمّا بعد: فاتّقوا الله أيّها المسلمون، واجعلوا التقوى عدّتكم لدنياكم وآخرتِكم، فقد فاز المتّقون وخير الفاسقون.
واعلموا ـ عبادَ الله ـ أنّكم في عيدكم هذا إمّا محسنٌ فيما مضى فليحمَدِ الله على ما منّ عليه من الطاعات، وليستقِم على الصّراط المستقيم حتّى يأتيَه الموت وهو على ذلك، وليخشَ على خاتمتِه، وإمّا مسيء فيما مضى فبابُ التوبةِ مفتوح، فليُصلح عمله فيما بقي من أجله، فإنّ أحدَنا لا يدري متى يأتيه رسولُ ربّه.
يا نساءَ المسلمين، اتّقين اللهَ تعالى في واجباتكنّ التي طوَّقت أعناقكنّ، أحسِنَّ إلى أولادكنّ بالتربية الإسلاميّة النافعة، واجتهدنَ في إعداد الأولاد إعدادًا سليمًا ناجحًا، فإنّ المرأة أشدُّ تأثيرًا على أولادها من الأب، وليكن هو مُعينًا لها على التّربية، وأحسِنَّ إلى الأزواج بالعشرة الطيّبة، وبحفظ الزوج في عرضه ومالِه وبيته، ورعاية حقوق أقاربِه وجيرانه وضيفه، ففي الحديث عن النبيّ قال: ((إذا صلَّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحجَّت بيت ربها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجَها، قيل لها: ادخلي الجنة من أيّ أبواب الجنّة شئتِ)) [1].
وعليكِ ـ أيّتها المرأة المسلمة ـ أن تشكري نعمةَ الله عليك حيث حفظ لك الإسلام حقوقَك كاملة، ولا تنخدِعي بالدّعايات الوافدة فإنّ مكانتك في هذه البلاد أحسنُ مكانةٍ في هذا العصر، وتأمّلي ـ أيتها المؤمنة ـ حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهدتُ الصلاة يومَ الفطر مع رسول الله ، فنزل نبيّ الله حتى أتى النساء مع بلال فتلا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة:12]، ثم قال: ((أنتن على ذلك؟)) ، فقالت امرأة: نعم يا رسول الله. رواه البخاريّ [2]. ولأحمد من حديث أميمة بنت رقيقة: ((ولا تنوحي ولا تبرّجي تبرّجَ الجاهلية الأولى)) [3] ، ولأحمد أيضا من حديث سلمى بنت قيس: ((ولا تغششن أزواجكن)) [4]. ومعنى "بهتان يفترينه": لا يلحِقن بأزواجهنّ غيرَ أولادهم، وهذا التشريع لكُنّ للعمل بالآية أبَدًا.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عبادَ الله، يُسنّ الغسل للعيد بعدَ الفجر، وإذا اغتسل قبلَ الفجر كأهلِ الحرمَين لمشقّة الرجوعِ إلى البيت فقد أجزأه، وأن يمسَّ من الطّيب، ويتهيّأ في سمتِه على ما أمر الشرع، ويخرجَ إلى العيد ماشيًا إن تيسّر وعُدِمت المشقّة، ويرجع إلى بيته من طريقٍ أخرى استحبابًا، ويُسنّ التكبيرُ حتى يخرج الإمام للصّلاة، ويبتدئ من أوّل ليلة عيد الفطر، وصفته: الله أكبر يكرّره، أو يقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، ونحوه.
ومعنى التكبير تعظيم الله وتقديسه وتنزيهُه عن مشابهةِ خلقه، وتعظيم أمره فلا يضيَّع، وتعظيم نهيِه فلا ينتهَك، ومن حِكم التكبير إعلانُ انتصار نوازعِ الخير وصفاتِ الفضل في النّفس البشريّة على نوازع الشرّ وصفاتِه ومغالبةُ الهوى وقمعه وأسره واستصغار ما يحول بين المسلم وبين التقرّب إلى الله ويصدّ عن سبيلِ الله من هوًى أو شهوات أو أهل أو مال أو شيطان أو إنسان، فإنّ المسلم في جهادٍ مع نفسه لربّه، وفي جهادٍ مع شيطانه، وفي جهادٍ مع المعوِّقات التي تحول بينه وبين مرضاة ربّ العالمين، ألا ترى أنّ التكبير يُشرَع في الجهادِ الأكبر ومشاهدةِ النّصر على الأعداء؟! فإنّ الاستعلاء على هوى النفس وعلى المعوّقات عن القربات انتصارٌ على الشرّ وأسبابه، فما أعظمَ المناسبة بين تمام الصّيام والتكبير، فالحمد لله الذي شرع لنا ما ينفعنا وعلّمنا ما لم نكن نعلم.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عبادَ الله، إن عدوّكم إبليس وجنودَه كانوا مأسورين في رمضانَ، ويريد اللعين أن يأخذَ بثأره فيجعلَ الأعمال هباءً منثورًا، فادحروه بعزّة الله خائبًا مثبورًا، بالدّوام على التّقوى ليكون سعيُكم مشكورًا، وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـ?ثًا [النحل:92].
أيّها المسلمون، اشكُروا الله واحمدوه على نعمه الظّاهرة والباطنة، اشكُروه على نعمة الإسلام، واحمدوه على نعمةِ الأمن والإيمان وتيسُّر الأرزاق وتوفّر المنافع والمرافق والتمتّع بالطيّبات التي لا تحصَى، واشكروا الله على اجتماعِ الكلمة في بلادكم هذه، واشكروه على إطفاء الفتَن عنكم التي تُستحلُّ فيها الحرمات وتختلف فيها القلوب. وشُكر الله على ذلك بطاعة الله واجتناب معصيته وملازمة التوبة.
أيّها المسلمون، اعلموا أنّه ليس السعيد من تزيّن وتجمَّل للعيد فلَبِس الجديدَ، ولا من خدمته الدنيا وأتَته على ما يريد، لكنّ السعيد من فاز بتقوى الله تعالى، وكتب له النجاةَ من نار حرّها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلها الزقّوم والضريع، وشرابهم الحميم والصّديد، وفاز بجنّات الخلدِ التي لا ينقص نعيمُها ولا يبيد.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عبادَ الله، تذكَّروا ما أنتم قادِمون عليه من المَوت وسكراتِه، والقبرِ وظلُماته، والحشر وكرباته، وصحائفِ الأعمال والميزان والصِراط ورَوعاته، واذكروا من صلّى معكم في هذا المكان فيما مضى من الزمان، من الأخلاّء والأقرباء والخلاّن، كيف اخترمهم هادِم اللذات، فأصبحوا في تلك القبور مرتهَنين بالأعمال، فأحدهم إمّا في روضة من رياض الجنان، وإمّا في حفرة من حفَر النّيران، فتيقَّنوا أنّكم واردون على ما عليه ورّدوا، وشاربون كأسَ المنيّة الذي شرِبوا، فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33].
أينَ الأممُ الخالية؟ وأين القرون الماضيَة؟ أين منهم ذوو الملكِ والسّلطان؟ وأين منهم ذوو الأكاليل والتّيجان؟ وأين تلك العساكر والدّساكر؟ أين الذين جمَعوا الأموال، وغرَسوا الأشجار، وأجرَوا الأنهار، وشيَّدوا الأمصار؟ أين منهم الغنيّ والفقير والصغير والكبير؟ أتى عليهم الموتُ فنقلهم من القصورِ إلى القبور، ومن أنسِ الأهل والأصحابِ إلى اللّحد والتّراب، فلا تركنوا إلى هذه الدّنيا التي لا يؤمَن شرّها، ولا تفي بعهدها، ولا يدوم سرورها، ولا تُحصى آفاتها، ما مثلُها إلاّ كمائدة أحدكم، تُعجب صاحبَها ثم تصير إلى فناء وإلى ما تعلمون، دارٌ يبلى جديدها، ويهرم شبابُها، وتتقلّب أحوالها، فاتّخذوها مزرعةً للآخرة، فنِعم العمل فيها.
عبادَ الله, إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد. اللهمّ وارضَ عن الخلفاء الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (1/191) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وليس فيه: ((وحجت بيت ربها)) ، قال المنذري في الترغيب (2/671): "رواة أحمد رواة الصحيح خلا ابن لهيعة، وحديثه حسن في المتابعات"، وعزاه الهيثمي في المجمع (4/306) للطبراني في الأوسط وقال: "فيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وقال الألباني في صحيح الترغيب (1932): "حسن لغيره".
[2] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4895)، وأخرجه أيضا مسلم في العيدين (884).
[3] أخرجه أحمد (2/196) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن أميمة بنت رقيقة أتت تبايع النبي ، فكان مما قال لها النبي ذلك، وحسن الألباني إسناده في جلباب المرأة المسلمة (121).
[4] مسند أحمد (6/379)، وأخرجه أيضا أبو يعلى (7070)، والطبراني في الكبير (24/296)، قال الهيثمي في المجمع (6/38): "رجاله ثقات".
(1/2829)
السعداء والأشقياء بعد رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
4/10/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الاستقامة على طاعة الله تعالى. 2- باب الخير لم يغلق. 3- أصناف الناس بعد رمضان. 4- الحياة الطيبة. 5- حياة الشقاء. 6- صيام التطوع. 7- صلاة التطوع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ من كمال إيمان العبدِ استقامتَه على طاعة الله ومواصلة الأعمال الصالحة والعلمَ اليقينيّ أنّ الله جلّ وعلا إنّما خلقه لعبادته، خلقه ليعبده وحدَه لا شريكَ له، لينفّذ فرائضَه ويقومَ بما أوجب عليه، وليعمرَ هذه الأرض بطاعةِ الله، ثُمَّ جَعَلْنَـ?كُمْ خَلَـ?ئِفَ فِى ?لأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14].
أيّها المسلم، فالاستقامة على طاعة الله دليل على قوّة الإيمان وحقيقةِ الإيمان، فإنّ المستقيمَ على الشيء إنّما يستقيم عليه لعلمِه الحقّ بأنّ هذا طريقُ الحقّ والهدى، فاستقام عليه وداوَم عليه إيمانًا بالله وتعظيمًا لأوامره، ولذا أثنى الله على المستقيمين بقوله: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ [فصلت:30]، استقاموا على هذا الإيمان فلم ينحرفوا عنه يمنةً ولا يسرةً، لماذا؟ لأنّهم على يقين أنّ هذا الطريق الذي سلكوه واستقاموا عليه هو الطريق الحقّ الذي أمرهم الله به. وربّنا جلّ وعلا جعل حياةَ المسلم كلَّها طاعة له، وإنّما تنقضي الأعمال بموتِ العبد ومفارقتِه الدنيا، وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99].
أيّها المسلم، لئن كان الله جلّ وعلا خصّ بعضَ الشهور بالفضائلِ فلا يلزَم من ذلك انقطاعُ العمل في غير ذلك، فرمضان سيّد الشهور وأفضل الشهور، وقد أودع الله فيه من أسبابِ مضاعفة الحسناتِ وتكفير السيّئات ما لا يخفى، ولكن هل بعد انقضاء رمضان تُطوَى صحائفُ الأعمال؟! هل بعد قضاء رمضان تُعطَّل تلك الأعمال الصّالحة؟! هل بعد قضاء رمضان يعود الإنسان إلى جهلِه وغفلتِه؟! هل بعد رمضان يهجر الأعمال؟! كلاّ يا أخي، إنّ هذا لهو التصوّر الخاطِئ والفَهم غير السّليم، فرمضان إنّما جاء ليروِّض النفوسَ وليعدَّها للمستقبل وليهيّئها للخير ويحملها على الخير، ويكون فرصةً للتوبة والإنابة والرجوع إلى الله. ثمّ هو يعطي المسلمَ قوّةً في العمل، وجعل الله رمضانَ مكفِّرًا لما بينه وبين رمضان الآتي، ((الصّلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضانُ إلى رمضان مكفّرات لما بينهنّ ما اجتُنِبت الكبائر)) [1].
يا أخي، صمتَ رمضان وتقرّبتَ إلى الله بما يسّر من صالحِ الأعمال، فما هي العزيمة بعدَ ذلك؟ هل كانت العزيمة والنّية الاستمرارَ على الخير الذي ألفتَه في رمضان وذُقتَ لذّةَ الطاعةِ ونعيمَ المناجاة وأثر الأعمال الصالحة فعقدتَ العزمَ على مواصلة الطاعةِ بالطاعة وإتباع الحسناتِ بالحسنات لكي يستمرَّ لك الخير ويبقى لك الخير؟ وهذا من شكرِ نعمة الله عليك أن تواصلَ العملَ بالعمل، فنِعَم الله عليك مترادِفة متتابِعة، وكلّ نعمةٍ تحتاج منك إلى شكرِ الله، ولا أعظمَ شكرًا لله من طاعتِه والقيام بما أوجب والبُعد عمّا نهى عنه.
أيّها المسلم، هكذا يكون المؤمنون المستقيمون، أمّا مَن ضعف إيمانُه فإنه إذا انقضى رمضان عنه فكأنّ الأعمال الصالحةَ لا مجالَ لها ولا محلّ لها ولا وزنَ لها، الصلوات الخمس يُتساهَل بها، المساجدُ تعطَّل عن الجماعات، كتابُ الله تهجَر تلاوته، اللّسان الذي كان مهذّبا ممنوعًا عن الغيبة والنّميمة والأقوالِ الرذيلة اليومَ ينبسِط في القيل والقال وغيبةٍ ونميمة وبهتان وأقوالٍ بذيئة سيّئة، البصرُ الذي أُمِر بغضِّه انطلق هنا وهناك، والجوارحُ التي أمِر بالمحافظة بها على طاعةِ الله أعطِي لها السّراح أن تعملَ ما تشاء.
يا أخي المسلم، ليس هذا حالَ من ذاق لذّةَ الطاعةِ وأنِسَ بنعيم المناجاة.
أيّها المسلم، إنّ من ذاق لذّةَ الطاعةِ على الحقيقة لا يسأم العبادةَ ولا يملّها، اسمَع الله يقول: مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97]، مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? ، والعمل الصالحُ الخالص لله الموافِق لشرعه، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً فالحياة الطيّبة هي لذّة المناجاة لله، قوّة الاتّصال بالله والثّقة بالله والاعتمادُ على الله والأُنس بطاعةِ الله والرّاحة بالقيام بما أوجَب الله. إنّ الحياة الطيّبةَ لا يحقِّقها مالٌ تكسبهُ ولا جاه تناله ولا بَنونَ ولا عُمر مديد، وإنّما يحقّقها الارتباط بالله جلّ وعلا. فالمؤمنون الصّادقون الذين هم دائمًا على صِلة بربّهم بذكره بعبادتِه بالثّناء عليه بالقيام بواجبه هم الذين يتنعّمون في هذه الحياة حقَّ التنعّم ويجِدون الحياة طيّبة هنيئةً مباركة، حياةُ المؤمن الصادِق حياةٌ كلُّها خير؛ صبرٌ على البلاء وشُكر في الرخاء وقيامٌ بالواجب ونية صادِقة وتحرّك في كلّ الأعمال على وفق ما يحبّ الله ويرضاه، فهؤلاء حياتهم طيّبةٌ وحياتهم راحةُ بال وانشراح صدرٍ وقرّة عين، ولذا يقول المصطفى : ((وجُعلت قرّة عيني في الصّلاة)) [2] ، وكان يواصل في صيامه ويقول: ((إنّ لي مطعِمًا يُطعمني وساقيًا يسقيني)) [3] ، قال العلماء: قوّة مناجاتِه لربّه وقوّة تعلّق قلبِه بربّه قام مقامَ الطعام والشراب له. فالحياة الطيّبة حياة الخَير، الحياة التي يعمل بعدها المؤمن بتوفيق من الله أن ينتقلَ إلى دارِ كرامة الله، تلك الدّار التي لا رحيلَ عنها، لا يبغون عنها حولاً، إِنَّ ?لْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ فِى جَنَّـ?تٍ وَعُيُونٍ [الدخان:51، 52]، وقال: إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّـ?تُ ?لْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَـ?لِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً [الكهف:107، 108]. هكذا المؤمن حياتُه طيّبة لأنّ آماله بالله قويّة، أنّ الله سيستجيب له ويحقّق له مطلوبَه ويحقّق له وعدَه الصادقَ الذي وعد به المتّقين، وعد به المستقيمين، وعد به أهلَ الإيمان الصادِق، وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا [النور:55]، وقال الله: هَـ?ذَا يَوْمُ يَنفَعُ ?لصَّـ?دِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِىَ ?للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [المائدة:119].
إذًا، فالمؤمنُ في هذه الحياةِ حياتُه طيّبة، حياةُ راحةٍ لأنّه يعمل ويجِدّ، وهو على يقينٍ بأنّ الله جلّ وعلا سيحقّق وعدَه لعباده الصادقين المخلِصين، ولن يخلِف الله وعدَه، وهو أرحم الراحمين وأكرَم الأكرمين.
أمّا غير المؤمن فحياته شقاءٌ وتعَس ونكَد، كلّما فقد من دنياه شيئًا عاش في همّ وغمٍّ وحزن؛ لأنّه لا صلةَ له بربّه، فلا يملأ فراغَه إلاّ الدنيا وحطامُها، قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:124]، فجعل حياتَه حياةَ ضنك، حياةَ تعاسةٍ وشقاء وإن نال من الدّنيا وجاهِها وثروتِها ما نال، لكن يبقى القلب شقيًّا تعِسًا لأنّه لا يدري أين مصيره، مصيرُه مصيرٌ مظلم، مصير سيّئ، أمّا المؤمن فلا، على يقينٍ وعلى بصيرة، يعبد الله على بصيرة، ويستقيم على هذا الدين، وكلُّه أملٌ ورجاء في الله أن لا يخيِّب ظنَّه وأن يحقّقَ له مطلوبَه، والله لا يخلِف الميعاد.
عليك ـ أيّها المسلم ـ أن تستقيمَ على هذا الدّين في رمضانَ وفي غير رمضان، وليكن رمضانُ حاملاً لك على الخير، سائقًا لك إلى الخير، لتستقيم على طاعة رَبّك في كلّ أوقاتك.
أسأل الله أن يثبّت الجميعَ على دينه، وأن لا يزيغَ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يعيذَنا من أسبابِ حبطان الأعمال، إنّه على كلّ شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الطهارة (233) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (3/128)، والنسائي في عشرة النساء، باب: حب النساء (3939)، وصححه الحاكم (2/174)، والمقدسي في المختارة (4/367)، وابن حجر في الفتح (3/15)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (1809، 3291).
[3] أخرجه البخاري في الصوم (1963) عن أبي سعيد رضي الله عنه، وجاء عن غيره من الصحابة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، لئن كانَ شهر الصيامِ مضى ـ نسأل الله أن يعيدَ أمثالَه علينا وعليكم بالخير واليُمن والبركة ـ فإنّ الأعمال الصالحةَ ما انقضَت.
لا شكّ أنّ صيام رمضان هو الركن الرابعُ من أركان الإسلام، ولكن مع هذا فعبادةُ صيام التطوّع باقيَة، فهناك ستّة أيّام من شوّال، يقول فيها نبيّكم : ((من صام رمضانَ وأتبعه بستٍّ من شوّال كان كمن صامَ الدّهر)) [1] ، فصيامُها شكر لله على إكمالِ الصيام والقيام، شكرٌ لله على التوفيق للقيام بالواجِب، وهي أيضًا ترفَع خلَل الصيام، وتكفّر ما عسَى أن يقع منّا من خلَلٍ في صيامِنا.
أيّها المسلم، وهناك صيامُ غيرِ الستّ من شوّال، النبيّ يقول في أيّام عشرِ ذي الحجّة: ((ما من أيّامٍ العمل الصالحُ فيهنّ أفضل من هذه الأيّام العشر)) ، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله إلاّ رجل خرج بنفسه ومالِه فلم يرجع من ذلك بشيء)) [2] ، وقال في يوم عرفة: ((أحتسبُ على الله أن يكفّرَ السنةَ الماضية والآتية)) [3] ، وقال في يوم عاشوراء: ((أحتسب على الله أن يكفّرَ السنةَ الماضية)) [4] ، وشرع صيامَ ثلاثة أيّام من كلّ شهر، قال أبو هريرة رضي الله عنه: أوصاني خليلي أن أصومَ من كلّ شهر ثلاثةَ أيّام وأن أصلّيَ ركعتي الضّحى وأن أوترَ قبل أن أنام [5] ، وصيامُ الاثنين يقول فيه نبيّكم : ((ذاك يومٌ ولِدت فيه، ويوم بُعثتُ فيه، ويومٌ أنزِل عليّ فيه)) [6] ، وصيام الاثنين مع الخميس تقول عائشة: كان رسول الله يتحرّى صيامَ الخميس والاثنين [7] ، وأخبر أنّ الأعمال تعرَض على الله في ذلك اليومين فقال: ((أحِبّ أن يُعرَض عملي على ربّي وأنا صائم)) [8] ، وكان يكثِر أن يصومَ في شعبانَ ما لا يصوم في بقيّة الشهور [9] ، لأنّ الناس يغفلون عنه قبلَ رمضان
[1] أخرجه مسلم في الصيام (1164) عن أبي أيوب رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الجمعة (969) عن ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
[3] أخرجه مسلم في الصيام (1162) عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في الصيام (1162) عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الصوم (1981)، ومسلم في صلاة المسافرين (721).
[6] أخرجه مسلم في الصيام (1162) عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[7] أخرجه الترمذي في الصوم (745)، والنسائي في الصيام (2186، 2187، 2360، 2361، 2362، 2363، 2364)، وابن ماجه في الصيام (1739)، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (595).
[8] أخرجه أحمد (2/329)، والترمذي في الصوم (747)، وابن ماجه في الصيام (1740) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وقال البوصيري في الزوائد: "إسناده صحيح رجاله ثقات، روى الترمذي بعضه"، وصححه الألباني في الإرواء (949). وله شاهد من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه عند أحمد (5/200، 204، 208)، وأبي داود في الصوم (2436)، والنسائي في الصيام (2358)، وصححه ابن خزيمة كما في الفتح (4/236).
[9] أخرجه البخاري في الصوم (1969، 1970)، ومسلم في الصيام (782، 1156) عن عائشة رضي الله عنها بمعناه.
(1/2830)
السعداء والأشقياء بعد رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
4/10/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الاستقامة على طاعة الله تعالى. 2- باب الخير لم يغلق. 3- أصناف الناس بعد رمضان. 4- الحياة الطيبة. 5- حياة الشقاء. 6- صيام التطوع. 7- صلاة التطوع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ من كمال إيمان العبدِ استقامتَه على طاعة الله ومواصلة الأعمال الصالحة والعلمَ اليقينيّ أنّ الله جلّ وعلا إنّما خلقه لعبادته، خلقه ليعبده وحدَه لا شريكَ له، لينفّذ فرائضَه ويقومَ بما أوجب عليه، وليعمرَ هذه الأرض بطاعةِ الله، ثُمَّ جَعَلْنَـ?كُمْ خَلَـ?ئِفَ فِى ?لأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14].
أيّها المسلم، فالاستقامة على طاعة الله دليل على قوّة الإيمان وحقيقةِ الإيمان، فإنّ المستقيمَ على الشيء إنّما يستقيم عليه لعلمِه الحقّ بأنّ هذا طريقُ الحقّ والهدى، فاستقام عليه وداوَم عليه إيمانًا بالله وتعظيمًا لأوامره، ولذا أثنى الله على المستقيمين بقوله: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ [فصلت:30]، استقاموا على هذا الإيمان فلم ينحرفوا عنه يمنةً ولا يسرةً، لماذا؟ لأنّهم على يقين أنّ هذا الطريق الذي سلكوه واستقاموا عليه هو الطريق الحقّ الذي أمرهم الله به. وربّنا جلّ وعلا جعل حياةَ المسلم كلَّها طاعة له، وإنّما تنقضي الأعمال بموتِ العبد ومفارقتِه الدنيا، وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99].
أيّها المسلم، لئن كان الله جلّ وعلا خصّ بعضَ الشهور بالفضائلِ فلا يلزَم من ذلك انقطاعُ العمل في غير ذلك، فرمضان سيّد الشهور وأفضل الشهور، وقد أودع الله فيه من أسبابِ مضاعفة الحسناتِ وتكفير السيّئات ما لا يخفى، ولكن هل بعد انقضاء رمضان تُطوَى صحائفُ الأعمال؟! هل بعد قضاء رمضان تُعطَّل تلك الأعمال الصّالحة؟! هل بعد قضاء رمضان يعود الإنسان إلى جهلِه وغفلتِه؟! هل بعد رمضان يهجر الأعمال؟! كلاّ يا أخي، إنّ هذا لهو التصوّر الخاطِئ والفَهم غير السّليم، فرمضان إنّما جاء ليروِّض النفوسَ وليعدَّها للمستقبل وليهيّئها للخير ويحملها على الخير، ويكون فرصةً للتوبة والإنابة والرجوع إلى الله. ثمّ هو يعطي المسلمَ قوّةً في العمل، وجعل الله رمضانَ مكفِّرًا لما بينه وبين رمضان الآتي، ((الصّلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضانُ إلى رمضان مكفّرات لما بينهنّ ما اجتُنِبت الكبائر)) [1].
يا أخي، صمتَ رمضان وتقرّبتَ إلى الله بما يسّر من صالحِ الأعمال، فما هي العزيمة بعدَ ذلك؟ هل كانت العزيمة والنّية الاستمرارَ على الخير الذي ألفتَه في رمضان وذُقتَ لذّةَ الطاعةِ ونعيمَ المناجاة وأثر الأعمال الصالحة فعقدتَ العزمَ على مواصلة الطاعةِ بالطاعة وإتباع الحسناتِ بالحسنات لكي يستمرَّ لك الخير ويبقى لك الخير؟ وهذا من شكرِ نعمة الله عليك أن تواصلَ العملَ بالعمل، فنِعَم الله عليك مترادِفة متتابِعة، وكلّ نعمةٍ تحتاج منك إلى شكرِ الله، ولا أعظمَ شكرًا لله من طاعتِه والقيام بما أوجب والبُعد عمّا نهى عنه.
أيّها المسلم، هكذا يكون المؤمنون المستقيمون، أمّا مَن ضعف إيمانُه فإنه إذا انقضى رمضان عنه فكأنّ الأعمال الصالحةَ لا مجالَ لها ولا محلّ لها ولا وزنَ لها، الصلوات الخمس يُتساهَل بها، المساجدُ تعطَّل عن الجماعات، كتابُ الله تهجَر تلاوته، اللّسان الذي كان مهذّبا ممنوعًا عن الغيبة والنّميمة والأقوالِ الرذيلة اليومَ ينبسِط في القيل والقال وغيبةٍ ونميمة وبهتان وأقوالٍ بذيئة سيّئة، البصرُ الذي أُمِر بغضِّه انطلق هنا وهناك، والجوارحُ التي أمِر بالمحافظة بها على طاعةِ الله أعطِي لها السّراح أن تعملَ ما تشاء.
يا أخي المسلم، ليس هذا حالَ من ذاق لذّةَ الطاعةِ وأنِسَ بنعيم المناجاة.
أيّها المسلم، إنّ من ذاق لذّةَ الطاعةِ على الحقيقة لا يسأم العبادةَ ولا يملّها، اسمَع الله يقول: مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97]، مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? ، والعمل الصالحُ الخالص لله الموافِق لشرعه، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً فالحياة الطيّبة هي لذّة المناجاة لله، قوّة الاتّصال بالله والثّقة بالله والاعتمادُ على الله والأُنس بطاعةِ الله والرّاحة بالقيام بما أوجَب الله. إنّ الحياة الطيّبةَ لا يحقِّقها مالٌ تكسبهُ ولا جاه تناله ولا بَنونَ ولا عُمر مديد، وإنّما يحقّقها الارتباط بالله جلّ وعلا. فالمؤمنون الصّادقون الذين هم دائمًا على صِلة بربّهم بذكره بعبادتِه بالثّناء عليه بالقيام بواجبه هم الذين يتنعّمون في هذه الحياة حقَّ التنعّم ويجِدون الحياة طيّبة هنيئةً مباركة، حياةُ المؤمن الصادِق حياةٌ كلُّها خير؛ صبرٌ على البلاء وشُكر في الرخاء وقيامٌ بالواجب ونية صادِقة وتحرّك في كلّ الأعمال على وفق ما يحبّ الله ويرضاه، فهؤلاء حياتهم طيّبةٌ وحياتهم راحةُ بال وانشراح صدرٍ وقرّة عين، ولذا يقول المصطفى : ((وجُعلت قرّة عيني في الصّلاة)) [2] ، وكان يواصل في صيامه ويقول: ((إنّ لي مطعِمًا يُطعمني وساقيًا يسقيني)) [3] ، قال العلماء: قوّة مناجاتِه لربّه وقوّة تعلّق قلبِه بربّه قام مقامَ الطعام والشراب له. فالحياة الطيّبة حياة الخَير، الحياة التي يعمل بعدها المؤمن بتوفيق من الله أن ينتقلَ إلى دارِ كرامة الله، تلك الدّار التي لا رحيلَ عنها، لا يبغون عنها حولاً، إِنَّ ?لْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ فِى جَنَّـ?تٍ وَعُيُونٍ [الدخان:51، 52]، وقال: إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّـ?تُ ?لْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَـ?لِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً [الكهف:107، 108]. هكذا المؤمن حياتُه طيّبة لأنّ آماله بالله قويّة، أنّ الله سيستجيب له ويحقّق له مطلوبَه ويحقّق له وعدَه الصادقَ الذي وعد به المتّقين، وعد به المستقيمين، وعد به أهلَ الإيمان الصادِق، وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا [النور:55]، وقال الله: هَـ?ذَا يَوْمُ يَنفَعُ ?لصَّـ?دِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِىَ ?للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [المائدة:119].
إذًا، فالمؤمنُ في هذه الحياةِ حياتُه طيّبة، حياةُ راحةٍ لأنّه يعمل ويجِدّ، وهو على يقينٍ بأنّ الله جلّ وعلا سيحقّق وعدَه لعباده الصادقين المخلِصين، ولن يخلِف الله وعدَه، وهو أرحم الراحمين وأكرَم الأكرمين.
أمّا غير المؤمن فحياته شقاءٌ وتعَس ونكَد، كلّما فقد من دنياه شيئًا عاش في همّ وغمٍّ وحزن؛ لأنّه لا صلةَ له بربّه، فلا يملأ فراغَه إلاّ الدنيا وحطامُها، قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:124]، فجعل حياتَه حياةَ ضنك، حياةَ تعاسةٍ وشقاء وإن نال من الدّنيا وجاهِها وثروتِها ما نال، لكن يبقى القلب شقيًّا تعِسًا لأنّه لا يدري أين مصيره، مصيرُه مصيرٌ مظلم، مصير سيّئ، أمّا المؤمن فلا، على يقينٍ وعلى بصيرة، يعبد الله على بصيرة، ويستقيم على هذا الدين، وكلُّه أملٌ ورجاء في الله أن لا يخيِّب ظنَّه وأن يحقّقَ له مطلوبَه، والله لا يخلِف الميعاد.
عليك ـ أيّها المسلم ـ أن تستقيمَ على هذا الدّين في رمضانَ وفي غير رمضان، وليكن رمضانُ حاملاً لك على الخير، سائقًا لك إلى الخير، لتستقيم على طاعة رَبّك في كلّ أوقاتك.
أسأل الله أن يثبّت الجميعَ على دينه، وأن لا يزيغَ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يعيذَنا من أسبابِ حبطان الأعمال، إنّه على كلّ شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الطهارة (233) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (3/128)، والنسائي في عشرة النساء، باب: حب النساء (3939)، وصححه الحاكم (2/174)، والمقدسي في المختارة (4/367)، وابن حجر في الفتح (3/15)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (1809، 3291).
[3] أخرجه البخاري في الصوم (1963) عن أبي سعيد رضي الله عنه، وجاء عن غيره من الصحابة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، لئن كانَ شهر الصيامِ مضى ـ نسأل الله أن يعيدَ أمثالَه علينا وعليكم بالخير واليُمن والبركة ـ فإنّ الأعمال الصالحةَ ما انقضَت.
لا شكّ أنّ صيام رمضان هو الركن الرابعُ من أركان الإسلام، ولكن مع هذا فعبادةُ صيام التطوّع باقيَة، فهناك ستّة أيّام من شوّال، يقول فيها نبيّكم : ((من صام رمضانَ وأتبعه بستٍّ من شوّال كان كمن صامَ الدّهر)) [1] ، فصيامُها شكر لله على إكمالِ الصيام والقيام، شكرٌ لله على التوفيق للقيام بالواجِب، وهي أيضًا ترفَع خلَل الصيام، وتكفّر ما عسَى أن يقع منّا من خلَلٍ في صيامِنا.
أيّها المسلم، وهناك صيامُ غيرِ الستّ من شوّال، النبيّ يقول في أيّام عشرِ ذي الحجّة: ((ما من أيّامٍ العمل الصالحُ فيهنّ أفضل من هذه الأيّام العشر)) ، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله إلاّ رجل خرج بنفسه ومالِه فلم يرجع من ذلك بشيء)) [2] ، وقال في يوم عرفة: ((أحتسبُ على الله أن يكفّرَ السنةَ الماضية والآتية)) [3] ، وقال في يوم عاشوراء: ((أحتسب على الله أن يكفّرَ السنةَ الماضية)) [4] ، وشرع صيامَ ثلاثة أيّام من كلّ شهر، قال أبو هريرة رضي الله عنه: أوصاني خليلي أن أصومَ من كلّ شهر ثلاثةَ أيّام وأن أصلّيَ ركعتي الضّحى وأن أوترَ قبل أن أنام [5] ، وصيامُ الاثنين يقول فيه نبيّكم : ((ذاك يومٌ ولِدت فيه، ويوم بُعثتُ فيه، ويومٌ أنزِل عليّ فيه)) [6] ، وصيام الاثنين مع الخميس تقول عائشة: كان رسول الله يتحرّى صيامَ الخميس والاثنين [7] ، وأخبر أنّ الأعمال تعرَض على الله في ذلك اليومين فقال: ((أحِبّ أن يُعرَض عملي على ربّي وأنا صائم)) [8] ، وكان يكثِر أن يصومَ في شعبانَ ما لا يصوم في بقيّة الشهور [9] ، لأنّ الناس يغفلون عنه قبلَ رمضان.
وهناك ـ يا أخي ـ التطوّع بالصلوات، فالصّلوات النوافل شرِع التطوّع بها، وربّك يقول: ((ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به وبصرَه الذي يبصِر به ويدَه التي يبطِش بها ورجلَه التي يمشي بها، ولئن سألنِي لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه)) [10].
فشرع لنا نوافلَ قبل الصلواتِ الخمس وبعدها، يقول عبد الله بن عمر: حفظتُ عن رسول الله ركعتين قبلَ الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء، وأمّا الفجر فساعةٌ ما كنتُ أدخل على النبيّ فيها، فأخبرتني حفصة رضي الله عنها أنّ النبيّ إذا ختم المؤذّن قام وصلّى ركعتين [11]. وحثّ على ركعتَي الفجر فتقول عائشة: لم يكن النبيّ على شيءٍ من النوافلِ أشدّ تعاهدًا منه على ركعتَي الفجر [12] ، وكان يقول: ((ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما عليها)) [13] ، وكان لا يدَع الوترَ ولا ركعتَي الفجر لا حضرًا ولا سفَرًا. وحَثّ على ثِنتَي عشرةَ ركعة في اليوم، ففي حديث أمّ حبيبة: ((من صلّى ثنتَي عشرةَ ركعة في يومِه وليلته بنى الله له بيتًا في الجنّة؛ أربعًا قبل الظهرِ وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الفجر)) [14].
ويا أخي المسلم، الأعمالُ الصّالحة لا تنقطِع إلاّ بموتك، ((إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُه إلاّ من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو عِلم يُنتفَع به، أو ولدٍ صالح يدعو له)) [15].
فاحرصوا على صالِح الأعمال، واعمُروا أوقاتكم بطاعةِ ربّكم لتكونَ حياتك حياةَ خير وسعادة، أسأل الله أن يثبّتنا وإياكم على دينِه، إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتُها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في الصيام (1164) عن أبي أيوب رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الجمعة (969) عن ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
[3] أخرجه مسلم في الصيام (1162) عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في الصيام (1162) عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الصوم (1981)، ومسلم في صلاة المسافرين (721).
[6] أخرجه مسلم في الصيام (1162) عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[7] أخرجه الترمذي في الصوم (745)، والنسائي في الصيام (2186، 2187، 2360، 2361، 2362، 2363، 2364)، وابن ماجه في الصيام (1739)، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (595).
[8] أخرجه أحمد (2/329)، والترمذي في الصوم (747)، وابن ماجه في الصيام (1740) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وقال البوصيري في الزوائد: "إسناده صحيح رجاله ثقات، روى الترمذي بعضه"، وصححه الألباني في الإرواء (949). وله شاهد من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه عند أحمد (5/200، 204، 208)، وأبي داود في الصوم (2436)، والنسائي في الصيام (2358)، وصححه ابن خزيمة كما في الفتح (4/236).
[9] أخرجه البخاري في الصوم (1969، 1970)، ومسلم في الصيام (782، 1156) عن عائشة رضي الله عنها بمعناه.
[10] أخرجه البخاري في الرقاق (6502) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] أخرجه البخاري في الجمعة (1181)، ومسلم في صلاة المسافرين (729) بنحوه.
[12] أخرجه البخاري في الجمعة (1163)، ومسلم في صلاة المسافرين (724).
[13] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (725) عن عائشة رضي الله عنها.
[14] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (728) وليس فيه بيان محالّ الركعات، وإنما هو عند الترمذي في الصلاة (415)، والنسائي في قيام الليل (1801، 1802)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (339).
[15] أخرجه مسلم في الوصية (1631) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/2831)
مواعظ من سورة ق
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
11/10/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القرآن الكريم معجزة الإسلام الخالدة. 2- وقفات مع آيات السورة. 3- الإفادة من العظات المستقاة منها. 4- طلب البركة من الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعروةِ الوثقى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ، فمن اتّقى الله وقاه، ومِن كلِّ ما أهمَّه كفاه، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3].
وبعد: أيّها المسلمون، لقد بعَث الله كلَّ نبيٍّ بمعجزةٍ وآية لقومِه، وأنزل على رسولِه محمّدٍ أعظمَ معجزة وأبلغَ آية، فهي باقيَةٌ إلى قيامِ الساعة، إنّه القرآن الكريم، كلامُ الله عزّ وجلّ المنزَّل المحفوظ، تبيانٌ لكلّ شيء، يهدِي للتي هي أقوم، فهو الكتاب المحكَم، الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1]، ما وعِظ الواعظون بمثلِه، ولا أصاب الحاكمون بدونِه، ولا استدلّ العالِمون إلاّ بنوره، سمَّاه الله تعالى موعظةً فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57].
ولقد كانت سنّة النبيّ أن يعِظ به ويذكِّر استجابةً لنداءِ ربّه: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45]، وفي صحيح مسلم عن أمّ هشام بنتِ حارثة بن النّعمان قالت: كان تَنُّورنا وتنّورُ رسول الله واحدًا سنتَين أو سنةً وبعضَ سنة، وما أخذتُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلاّ عن لسان رسول الله يقرؤُها كلَّ يوم جمعةٍ على المنبر إذا خطَب الناس [1]. قال ابن كثير رحمه الله: "والقصدُ أنّ رسول الله كان يقرأ بهذه السّورة في المجامع الكِبار كالعيد والجُمَع لاشتمالِها على ابتداءِ الخلق والبَعث والنّشور والمعادِ والقيام والحساب والجنّة والنّار والثواب والعقاب والتّرغيب والتّرهيب والله أعلم" [2].
أيّها المسلمون، إنّ العمل بالموعظةِ خيرٌ وثباتٌ وأجر وهداية، وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء: 66-68].
فلنتفيّأ ظلالَ هذه السورةِ إحياءً للسنّة والتماسًا للهداية ووَعظًا للقلوب.
أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم، بسم الله الرّحمن الرحيم: ق وَ?لْقُرْءانِ ?لْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ ?لْكَـ?فِرُونَ هَـ?ذَا شَىْء عَجِيبٌ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ?لأَرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَـ?بٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُواْ بِ?لْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ في أمر مريج أي: مختلِط وملتبِس، وهو حال كلِّ من ابتعد عن هديِ القرآن وكذّب بالحقّ وابتغى هديًا غيرَ هدي الله، فهو متخبِّط في آرائه ومواقفِه، متحيِّر في حياتِه وتصرّفاته، يتبَع الهوى وتتعارَض عنده المفاهيمُ والقيَم.
ثمّ وجّه الله تعالى إلى التفكّر والنّظر في صنعِ الله الذي أتقن كلَّ شيء، وهل غيرُ الله يأتي بمثلِه؟! تعالى الله، بل هل يمكن أن تقومَ المخلوقات بنفسها؟! إنّ هذا لبرهانٌ عظيم على قدرة الله تعالى وأنّه الإله الحقّ: أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى ?لسَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَـ?هَا وَزَيَّنَّـ?هَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَ?لأَرْضَ مَدَدْنَـ?هَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَو?سِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى? لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ ?لسَّمَاء مَاء مُّبَـ?رَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّـ?تٍ وَحَبَّ ?لْحَصِيدِ وَ?لنَّخْلَ بَـ?سِقَـ?تٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رّزْقًا لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذ?لِكَ ?لْخُرُوجُ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَـ?بُ ?لرَّسّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْو?نُ لُوطٍ وَأَصْحَـ?بُ ?لأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ ?لرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أَفَعَيِينَا بِ?لْخَلْقِ ?لأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ تعالى الله، إنّ الذي خلق وأنشأ المخلوقاتِ من العدَم ولم يعيَ بخلقهنّ قادرٌ على إعادتِها سبحانه.
ثمّ يبيّن الله تعالى ما يكون عند البعثِ والنشور، وهو الخَلق الثّاني، خَلقُ البعثِ والإعادة، ويقدّم لذلك بتذكيرٍ لخلق الله للإنسان وأنّ الله تعالى لا تخفَى عليه خافية، بل يعلم وسوسةَ الصّدور ومكنونَ القلوب، فكيف بالقول والعمَل؟! مهما خفِي فكلّ ذلك مرصود ومسطور، فليأخذِ المسلم أهبتَه، وليعدّ للموقفِ عدَّته، فمن عمل مثقالَ ذرّة من خيرٍ أو شرّ وجدَه ورآه أمامَه، فحاسِبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا: وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ?لْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى ?لْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ، ولكن لا مفرَّ ولا مهرَبَ ولا مَحيدَ من المَوت، فهو مصيرُ كلِّ حيّ، ولن يفلتَ مِن هذا المصير مسلِم ولا كافِر، ومع شدّته وكُربتِه فإنّ ما بعدَه أشدُّ وأفظع مِن أحوال القبرِ والبرزَخ، ثمّ البعث والنّشور والحِساب بعدَ النّفخ في الصّور، فيقول الله: وَنُفِخَ فِى ?لصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ ?لْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ، فيقال له: لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَـ?ذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ ?لْيَوْمَ حَدِيدٌ ، ففي هذا الموقفِ العصيب تُنشَر الصّحف ويبصِر النّاس منازلَهم في الجنّة أو في النّار، عندها يختصِم أهل النّار ويتحاجّون كما ذكر الله ذلك في مواضعَ عدّة من كتابه، وهنا قال: وَقَالَ قَرِينُهُ هَـ?ذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّـ?عٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ ?لَّذِى جَعَلَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هًا ءاخَرَ فَأَلْقِيَـ?هُ فِى ?لْعَذَابِ ?لشَّدِيدِ قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَـ?كِن كَانَ فِى ضَلَـ?لٍ بَعِيدٍ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِ?لْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ ?لْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ?مْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ وَأُزْلِفَتِ ?لْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَـ?ذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِىَ ?لرَّحْمَـ?نَ بِ?لْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ?دْخُلُوهَا بِسَلَـ?مٍ ذَلِكَ يَوْمُ ?لُخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ.
وفي عَطفٍ بيانيّ عجيب يعود آخر السّورة على جميع ما سبَق بتوكيدٍ للقضايا السّابقة من البعثِ والخلق ومصير الخلائق وهلاكِ القرون السّالفة وأحوال القيامة: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُواْ فِى ?لْبِلَـ?دِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِى ذ?لِكَ لَذِكْرَى? لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ?لسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فَ?صْبِرْ عَلَى? مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ?لشَّمْسِ وَقَبْلَ ?لْغُرُوبِ وَمِنَ ?لَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَـ?رَ ?لسُّجُودِ ، وفيه إشارةٌ إلى أنّ الصلاة وذكرَ الله تعالى من وسائل الصّبر والثبات، وَ?سْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ?لْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ ?لصَّيْحَةَ بِ?لْحَقّ ذَلِكَ يَوْمُ ?لْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ?لْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ ?لأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكّرْ بِ?لْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعنا بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الجمعة (873).
[2] تفسير القرآن العظيم (4/221).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، لم يزل بالمعروف معروفًا، وبالكرَم والإحسان موصوفًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح للأمّة وجاهد في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه أجمعين.
وبعد: أيّها المسلمون، اشكروا الله تعالى على ما منَّ به عليكم من الغيثِ والأمطار، واسألوا الله البركةَ فيه وأن يعُمَّ ديارَ الإسلام به، فليس القحطُ أن لا تمطَروا، بل القحط أن تمطَروا فلا يبارك لكم فيه، فالزَموا أسبابَ البركة، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف: 69].
فاللهمّ لك الحمد على ما أوليتنا من نعمِك الجزيلةِ وآلائك الجليلة. اللهمّ لك الحمد حتّى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا. اللهمّ اجعل ما أنزلته قوّةً لنا على طاعتِك وبلاغًا إلى حين. اللهمّ أنبِت به الزرع، وأدرَّ به الضّرع، وأغزِر به لنا المَاء. اللهمّ اجعلها سقيا رحمة، وزِدنا من بركاتِك ورحمتِك وفضلك ورزقِك، وعمَّ بفضلك جميعَ ديار الإسلام، يا حيّ يا قيّوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...
(1/2832)
حيّ على العمل الصالح
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
11/10/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مزرعة الحياة الدنيا. 2- الوسيلة إلى الله تعالى. 3- سبب السعادة والشقاء. 4- عظم أهوال يوم القيامة. 5- حقيقة العمل الصالح. 6- التذكير بالموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله أيّها المسلمون، فتقوى الله تنجِي من عذابٍ شديد، ويهدَى صاحبُها لكلّ أمرٍ رشيد.
عبادَ الله، إنّ الحياةَ الدنيا دار عملٍ للصالحات ودارُ ابتلاء بالسيّئات، مَن أحسن فيها العمل جزاه الله بخيرِ الثواب، ومن أساء العملَ جزاه الله بأليم العذاب، ويتفضّل الله على المحسنين، ويحلم على الجاهلين، ويتقبّل توبةَ التائبين. وجعل الله العملَ الصالحَ وسيلةَ قربى لربّ العالمين، قال الله تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ: 37]، ومن أساءَ العملَ في الدّنيا وقدِم على ربّه مضيِّعًا للفرائض مقترفًا المحرّمات كافرًا بربّه لا يقبَل الله منه فديةً، ولا يقبَل الله مالاً ولا شفاعة شافِع، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران: 91]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة: 36، 37]، وقال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة: 48] والآيات في هذا كثيرة، ومِن النّاس من يخلِط عملاً صالحًا وآخرَ سيّئًا، فتناله الشّفاعة بإذن الله إذا سلِم من الشّرك.
ومِن رحمةِ الله وحكمتِه وقدرته أن جعلَ فعلَ الأعمال الصالحة وتركَ الأعمال المحرّمة سببَ التقرّب إليه وسببَ الدخول في جنّات النعيم والنجاةِ من عذابٍ أليم، ولم يجعل ذلك بسببٍ آخر، قال رسول الله : ((قال الله تعالى: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحَرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أحبَّه، فإذا أحببته كنتُ سمعَه الذي يسمع به وبصرَه الذي يبصِر به يدَه التي يبطِش بها ورِجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه)) رواه البخاريّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [1] ، ومعنى قوله تعالى: ((كنت سمعَه الذي يسمَع به وبصرَه الذي يبصِر به ويدَه التي يبطِش بها ورجلَه التي يمشِي بها)) معنى ذلك أنّ الله تبارك وتعالى يحفَظ على هذا العبد جوارحَه بطاعةِ ربّه والبُعدِ عن معصيتِه فيستعمِله فيما يرضِيه.
أيّها المسلم، لن تسعدَ في الدنيا والآخرة إلاّ بما يوفّقك الله له من العملِ الصّالح والعِلم النّافع، ولن تشقَى إلاّ ببُعدك عن العلمِ النّافع والعمل الصّالح، وربّك جلّ وعلا لن يظلِم أحدًا مثقالَ ذرّة، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، وفي الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثمّ أوفّيكم إيّاها، فمن وجَد خيرًا فليحمدِ الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنّ إلاّ نفسه)) رواه مسلم من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه [2].
وليكن همُّك ـ يا عبدَ الله ـ إصلاحَ العمل وحفظ حدودِ الله، فقد جعل الله العمل الصالحَ وقايةً للعبد من كربات الدنيا والآخرةِ، عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((تُدنَى الشمس يومَ القيامة من الخلقِ حتى تكون منهم كمقدار ميل)) ، قال: ((فيكون النّاس على قدرِ أعمالهم في العرق؛ فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى رُكبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجِمه العرق إلجامًا)) وأشار رسول الله إلى فيه. رواه مسلم والترمذي [3].
وفي هذا الموطِن يصيب الناسَ من الكرب والشدّة ما لا يقدرون على تحمُّله.
واذكر ـ أيّها المسلم ـ أهوالَ يومِ القيامة حينَ لا يذكُر أحدٌ أحدًا، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذكرتُ النّار فبكيت، فقال رسول الله : ((ما يبكيك؟)) قلت: ذكرتُ النّار فبكيت، فهل تذكرون أهلِيكم يومَ القيامة؟ قال: ((أمّا في ثلاثة مواطن فلا يذكُر أحدٌ أحدًا: عند الميزان حتى يعلم أيخفّ ميزانه أم يثقل، وعند تطايُر الصّحف حتّى يعلم أين يقع كتابُه في يمينه أم في شمالِه أم مِن رواء ظهره، وعند الصّراط إذا وضِع بين ظهرَي جهنّم حتى يجوز)) رواه أبو داود [4]. قال الله تعالى: فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 33-37]، يسأل الرجل ولدَه حسنةً واحدة فلا يعطيه، ويسأل الرجلُ زوجته حسنةً فلا تعطيه، ويقول كلّ أحدٍ: نفسي نفسي، ويتمنّى المؤمن لو يلقى الله بعملِ سبعين نبيًّا. وفي الحديث: ((يُؤتَى بجهنّم تُقاد بسبعين ألفَ زمام، في كلّ زمام سبعون ألفَ ملك)) [5] ، فلا يبقَى ملكٌ مقرّب ولا نبيّ مرسَل إلاّ جثا على ركبتَيه.
فاستكثر ـ أيّها المسلم ـ مِن العمل الصّالح في هذه الدّار، فليس بعدَ هذه الدّار إلا الجنّة أو النّار.
واعلم أنّ العمل الصالحَ الذي يرضى الله به عن العبدِ وينفعه هو ما كان خالصًا لوجهِ الله، يريد به المسلم وجهَ الله وثوابه، ولا يريد به رياءً ولا سمعة ولا محمَدةَ النّاس وثناءهم ولا عرضًا من أعراض الدّنيا، والشرطُ الثّاني أن يكونَ العمل على هديِ رسول الله ووفقَ سنّته، قال الله تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر: 3]، وفي حديث عائشة رضي الله عنها قال النبيّ : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ)) [6] ، قال الله تعالى: وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة: 105].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر والحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6502).
[2] صحيح مسلم: كتاب البر والصلة (2577).
[3] صحيح مسلم: كتاب الجنة (2864).
[4] سنن أبي داود: كتاب السنة (4755)، وأخرجه أيضا أحمد (6/101) مختصرا، وصححه الحاكم (8722) فقال: "هذا حديث صحيح، إسناده على شرط الشيخين لولا إرسال فيه بين الحسن وعائشة، على أنه قد صحّت الروايات أن الحسن كان يدخل وهو صبي منزل عائشة رضي الله عنها وأم سلمة"، وأورده الألباني في ضعيف سنن أبي داود (1018).
[5] أخرجه مسلم في كتاب الجنة (2842) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[6] أخرجه مسلم في الأقضية (1718) وهو في البخاري بلفظ آخر.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على توفيقه وامتنانه، والشّكر له على فضلِه وإحسانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الدّاعي إلى رضوانه، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبِه وإخوانه.
أمّا بعد: فاتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون.
عبادَ الله، لقد أنشأكم [الله عزّ وجلّ] في هذه الدّار، وآتاكم من الأسبابِ والنّعَم ما يعينكم على طاعتِه، ووعَدكم وعدَ الحقّ، وأنتم ترونَ القرونَ والأجيال تمضي إلى ربّها، ولا يرجع أحدٌ إلى الدّنيا، وبالموت ينقطِع العمل، وفي هذا أعظمُ داعٍ إلى المسارعة إلى فعلِ الخيرات وأكبر زاجرٍ عن المحرّمات، قال الله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس: 31، 32]، وفي الحديث: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم نافع أو ولدٍ صالح يدعو له أو صدقة جارية)) [1] ، وفي الحديثِ الآخر: ((إذا مات الميّت تبِعه ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقَى واحد، يتبعه أهلُه وماله وعملُه، فيرجع أهلُه وماله، ويبقى عمله)) [2] ، إمّا أن يكونَ مؤنسًا له، أو يكون موحِشًا له في قبرِه، قال الله تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ [الزمر: 55-59].
فأصلِحوا ـ عبادَ الله ـ ما بينكم وبين ربّكم يصلِح لكم دنياكم وأخراكم، ويصلِح لكم ما بينكم وبين الناس.
عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقد قال : ((من صلّى عليّ صلاة واحدةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...
[1] أخرجه مسلم في الوصية (1631) عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في الرقاق (6514)، ومسلم في الزهد (2960) عن أنس رضي الله عنه.
(1/2833)
الصبر
الإيمان
حقيقة الإيمان
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
11/10/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمر القرآن المؤمنين بالصبر والمصابرة. 2- منزلة الصبر في الإسلام. 3- الابتلاء سنة الله في المؤمنين. 4- جزاء الصبر في الدنيا. 5- ذنوبنا وعصياننا سبب بلائنا. 6- خلاص المسلمين من بلاياهم مرهون بعودتهم إلى دينهم. 7- واجب المسلمين تجاه أرض الإسراء والمعراج. 8- فضل المسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أيها المؤمنون، أيها المرابطون، يقول الله تعالى في كتابه العزيز وهو أصدق القائلين: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، إنه نداء رب السماء للذين آمنوا، فقد نادهم الحق جل جلاله بالصفة التي تربطهم به والتي تلقي عليهم الأعباء وتكرمهم في الأرض كما تكرمهم في السماء، إنه نداء للصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى، وسياق سورة آل عمران حافل بذكر الصبر وبذكر التقوى، كما سياق السورة حافل كذلك بالدعوة إلى الاحتمال والمجاهدة ودفع الكيد والمكر، وعدم الاستماع أو الإنصات لدعاة الهزيمة والبلبلة، ومن أجل هذا ختمت السورة بالدعوة إلى الصبر والمصابرة وإلى المرابطة والتقوى.
أيها المرابطون، إن لكل أمر عتاداً وسلاحاً، وإن عتاد الشدائد الصبر، حقاً إنه عتاد يبعث على الطمأنينة، ترقب به النفس المؤمنة بلوغ الأماني، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (خير عيشنا بالصبر)، وقال الخليفة علي رضي الله عنه: (إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد)، وأردف ذلك بقوله: (ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له).
أيها المؤمنون، لقد ذكر الله سبحانه الصبر في تسعين موضعاً من كتابه الكريم، يرغب فيه ويقرنه بالأعمال الصالحة التي تقرب العبد إليه، ويأمر به كوسيلة من وسائل الخير وسبيل إلى الفلاح والفوز ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة:153]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ما أعطي أحد عطاءً خير وأوسع من الصبر)) [1] ، وإن أعظم مواقف الصبر صبر المرء على البلاء وتجلده أمام الخصوم والكوارث، إنه موقف أولي العزم من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وإن أشد الناس بلاء الأنبياء، فلقد أوذوا في الله فكانوا أئمة للصابرين، أوذي الحبيب محمد صلوات الله وسلامه عليه بما لا يُحتمل من الأذى فصبر، وكانت له العاقبة على القوم الظالمين الكافرين.
ولقد كان الجزاء على الصبر عظيما بقدر عظم البلاء كما ورد في الحديث الشريف: ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم)) [2].
والصبر ـ أيها المسلمون ـ هو زاد الطريق في دعوتنا الإسلامية، إنه طريق طويل شاق مملوء بالعقبات والأشواك، مفروش بالدماء والأشلاء وبالإيذاء والابتلاء، إنه الصبر على أشياء كثيرة، الصبر على شهوات النفس ورغائبها وأطماعها، الصبر على شهوات الناس وجهلهم وغرورهم واعوجاجهم واستعجالهم للثمار والنتائج، الصبر على ظهور الباطل ووقاحة الطغيان وانتفاش الشر والخيلاء، الصبر على قلة الناصرين وضعف المعينين ووساوس الشياطين في ساعات الكرب والضيق، الصبر على مرارة الجهاد والمرابطة في سبيل الله وما تثيره في النفس الإنسانية من انفعالات متنوعة من الألم والغيظ والضيق، وضعف الثقة في الخير أحياناً، وقلة الرجاء أحياناً، للفطرة البشرية، والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة وفي ساعة الانتصار والرخاء، في تواضع وشكر، وبدون خيلاء، وبدون اندفاع إلى الانتقام، والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله تعالى واستسلام لقضائه وقدره.
والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من الصبر، فكانوا أكثر فهماً من غيرهم لمعنى الصبر وحقيقته.
أيها المؤمنون، لقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبداً، ولا تستسلم للنوم، فما هادنها أعداؤها منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة وعرضها على الناس.
أيها المسلمون، إن الشر لا يستريح لمنهج الخير العادل المستقيم، كما أن الطغيان لا يسلم للعدل والمساواة والكرامة، فلا بد من الصبر والمصابرة والمرابطة كي لا تؤخذ الأمة الإسلامية على حين غِرة من أعدائها الدائبين في كل زمان ومكان.
إن طبيعة الدعوة الإسلامية أنها لا تريد الاعتداء ولا تحبه، ولكنها تريد أن تقيم في الأرض منهجها القويم ونظامها السليم حتى يكون رحمة للعالمين، والتقوى هي جماع الأمر كله، فهي الحارس اليقظ في الضمير، تحرسه أن يعتدي، وتحرسه أن يحيد عن الطريق المستقيم، وبذلك يتحقق قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
أيها المسلمون، لقد جرت سنة الله تعالى أن يبتلي عباده بالخير والشر، ويمتحن إيمانهم بالمصائب تارة، وبالنعم تارة أخرى، يمتحنهم بالشدة بعد الرخاء، وبالرخاء بعد الشدة، لينظر مبلغ شكر الشاكرين ومدى صبر الصابرين والمحتسبين، وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، وإن ما ابتُلي به السلف الصالح من تكالب المعتدين عليهم، وتكتل المجرمين لسفك دمائهم البريئة، وغزوهم في ديارهم هو بلا شك بلاء ومحنة وشر مستطير، ولكنهم حينما قابلوا ذلك بالصبر الجميل والتضحية في أرفع مجالاتها أعقبهم الله الخير بعد الشر، أعقبهم اندحار قوى الشر والعدوان وردها على أعقابها، وإحباط خططها الأثيمة وَرَدَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى ?للَّهُ ?لْمُؤْمِنِينَ ?لْقِتَالَ وَكَانَ ?للَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً [الأحزاب:25].
وتلك هي المنّة العظيمة، المنّة التي يجب أن تقدر وأن تقابل بالشكر للمنعم العظيم، وهي المعجزة الخارقة، لأن هذا الاندحار وفشل الكافرين لم يكن كما تعلمون لتفوق في العدد والعدة وإنما كان بفضل الله ورحمته وكرمه على عباده، ثم ببركة التوجه إلى الله وحده في تفريج الكرب وكشف الشدة واللجوء والتضرع إليه والاستعانة به والتوكل عليه.
أيها المسلمون، يجب أن نعترف بهذه الحقيقة، كما يجب أن نعترف بأخطائنا وأن نتوب من ذنوبنا، لأن الذنوب من أعظم وسائل النقم والبلاء، أجل، يجب أن نرجع إلى الله ونسأله المغفرة من ذنوبنا، فلقد فرطنا كثيرا في جانبه، حتى أصبح في الناس من يتشكك في وجود الباري جل جلاله، وأصبح في الناس من ترك الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه، والتي هي عمود الدين، فلا حظّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وأصبح في الناس مَن منع الزكاة عن مستحقيها، وأصبح فيهم من يرتكب المنكرات والفواحش جهاراً نهاراً، وأصبح فيهم كاسيات عاريات يُغرين بالإثم والرذيلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها كما جاء في الحديث الشريف [3].
وهذه نماذج من الذنوب والمعاصي، وكلها أسباب للنقم وعومل لسخط الله تعالى ولحلول المصائب والكوارث، فإن الله سبحانه قد رتب الجزاء على العمل، قال تعالى: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، كما قال : ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)) [4].
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله
[1] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: الاستعفاف عن المسألة (1469)، ومسلم في الزكاة، باب: فضل التعفف والصبر (1053) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (5/427) عن محمود بن الربيع رضي الله عنه، قال الهيثمي:" رواه أحمد ورجاله ثقات". مجمع الزوائد (2/291)، وذكره الحافظ في الفتح (10/108) وقال:" رواته ثقات، إلا أن محمود بن لبيد اختلف في سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه وهو صغير، وله شاهد من حديث أنس عند الترمذي وحسنه". وحديث أنس أخرجه الترمذي في الزهد، باب: ما جاء في الصبر على البلاء (2396) وحسّنه، وابن ماجه في الفتن، باب: الصبر على البلاء (4031)، وصححه الضياء في المختارة (2350، 2351)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (146)، وصحيح سنن الترمذي (1954).
[3] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)). أخرجه مسلم في اللباس والزينة، باب: النساء الكاسيات المائلات المميلات (2128).
[4] أخرجه ابن ماجه في الزهد، باب: ذكر التوبة (4250) والطبراني في المعجم الكبير (10/150) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال الهيثمي: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه". مجمع الزوائد (10/200)، وذكر له البوصيري ما يقويه. مصباح الزجاجة (4/247-248)، وحسّن إسناده الحافظ في الفتح (13/471)، وحسنه أيضاً الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3427)، وصحيح الترغيب (3145)، وأخرجه الطبراني أيضاً في الكبير (22/306) عن أبي سعيد رضي الله عنه، قال الهيثمي: "رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم" مجمع الزوائد (10/200).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله ثم الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، والصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله، وعلى آلك وأصحابك أجمعين.
وبعد: أيها المسلمون، أيها المرابطون، في هذه الظلمة الحالكة التي يتخبط الناس فيها على غير هدى ترتسم علامة سؤال كبيرة على لوحة الأفق، أين سبيل الخلاص؟ وكيف؟ وبماذا؟ والحيرة المرهقة وزعت الأفكار وشتت الأذهان، فمنهم من يلتمسه من هنا، ومنهم من يلتمسه هناك، ناسين أو متناسين أن سبيل الخلاص قد بينه وحده رب العالمين في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، قال جل جلاله: إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].
فالخلاص يتمثل باتباع منهج القرآن الكريم عقيدة وعملا وسلوكاً دون مواربة أو التواء، وباستئناف الحياة الإسلامية من جديد.
المسلمون اليوم وفي كل مكان ومنهم أهل الرباط تحاك ضدهم المؤامرات والدسائس، والعمل على تنفيذها جار على قدم وساق، وإنهم اليوم وقد تتالت عليهم الفتن، وهم في أمس الحاجة إلى بناء مجتمعاتهم على الأمثلة الرفيعة التي ضربها سلفنا الصالح في التماسك والتضامن والتعاون، إنهم اليوم في محنة أخطار محدقة بهم، كخطر السياسة المرسومة لهم من قبل الخصوم والأعداء، لتفريق كلمتهم وتمزيق شملهم، حتى لا يكونوا حرباً عليهم.
أيها المؤمنون، إن أكثر من مليار مسلم مفروض أن لا يُغلبوا من قِلة، ولكن الواقع المرير أنهم غلبوا فعلا رغم كثرتهم، لعدم وجود القيادة الحكيمة التي تقودهم والتي توجههم نحو حياة أفضل، وتعمل على توحيد صفوفهم ولمّ شملهم وجمعهم على الحق المبين.
ولتلافي ذلك يجب على المسلمين حتماً أن يصححوا أوضاعهم، وأن يفيقوا من سباتهم، ولا يكفي إبداء الشعور الطيب دون خطوات إيجابية، بعبارة أخرى وأدق لا يكفي من المسلم مجرد التألم والأسى وسكب الدموع على ما نزل بالمسلمين وبديارهم ومقدساتهم من بلاء ومحن، بل يجب عليه أن يرفع الصوت عالياً مستنكراً الجرائم التي تنزل بهم، مقاوماً لها بمختلف الوسائل، إسهاماً في رفع كابوس المحن عنهم، حتى يشعر الأخ المسلم المنكوب أن إلى جواره إخوة له يشدون من أزره ويقفون إلى جانبه.
فها هي أرض الإسراء والمعراج وفي مقدمتها بيت المقدس والمسجد الأقصى المبارك مازالت مسرحاً للأحداث الأليمة المتمثلة بالنهب والسلب وسفك الدماء البريئة والإبعاد لأبنائها وحصار المدن والقرى وإلى غير ذلك، كما أصبحت ميداناً للتنافس من أجل التحدث عنها وفي إعلان الوصاية عليها والتفاوض على ثغورها ضاربين بالثوابت الدينية والحقوق التاريخية عرض الحائط.
إن الاجتهاد ـ إخوة الإيمان ـ يكون في أمور غير واضحة المعالم والأحكام، خالية من النصوص الشرعية.
إلى زمن غير بعيد، أي قبل زوال دولة الخلافة ما كان أحد يجرؤ على التنازل عن شبر واحد منها، لعلمهم بأنها أرض إسلامية وقفية بقرار رباني.
أيها المرابطون، إنه ليس بإمكان أحد ولا باستطاعته، أياً كان أن يحرم فرداً واحداً من أهلها وممن نشأوا وعاشوا على ظهرها من حق العودة إليها، كما أنه ليس من حق أحد أن يتجاهل حق أكثر من مليار مسلم بهذه الأرض المباركة وفي بيت المقدس المزين بالمسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال، فالنصوص الشرعية والآثار الواردة بهذا الخصوص لم تعد خافية على أحد، ويرجع ارتباط فلسطين بالإسلام إلى اتخاذ بيت المقدس قبلة للصلاة منذ البعثة، وقد ارتبطت قدسية المسجد الأقصى بالعقيدة الإسلامية، وتوثقت قدسيته بحادثة الإسراء والمعراج وبالفتح الإسلامي لبيت المقدس وما حوله في عهد أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله عنه، فعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمس مائة صلاة)) [1] ، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معاذ، إن الله عز وجل سيفتح عليكم الشام من بعدي، من العريش إلى الفرات رجالهم ونساؤهم وإماؤهم مرابطون إلى يوم القيامة، فمن اختار منكم ساحلاً من سواحل الشام فهو في رباط إلى يوم القيامة)) [2] ، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من المرابطين في هذه الأرض المباركة.
[1] عزاه الحافظ في الفتح للبزار، وقال: "قال البزار: إسناده حسن". فتح الباري (3/67)، وعزاه الهيثمي للطبراني، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات، وفي بعضهم كلام، وهو حديث حسن". مجمع الزوائد (4/7)، ولم أجده في المطبوع من مسند البزار ومعجم الطبراني الكبير بعد طول البحث. قال المناوي: "فيه سعيد بن سالم ـ يعني القداح ـ ليس بذاك عن سعيد بن بشير قال الذهبي: شبه المجهول". فيض القدير (4/435)، وقال الألباني: "منكر". ضعيف الترغيب (757).
[2] لم أجده بعد طول البحث.
(1/2834)
جريمة الانتحار – شكر نعمة المطر
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
11/10/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب تعظيم سنة النبي. 2- تحريم الدماء المعصومة. 3- تحريم قتل الإنسان نفسه. 4- وعيد من قتل نفسه. 5- التحذير من أصحاب الأفكار الضالة. 6- الشجاعة الحقيقية. 7- نعمة الحياة. 8- شكر نعمة المطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، اتّقوا ربَّكم بفعل أوامره واجتنابِ نواهيه وتصديقِ أخباره، فذاك خُلق أهلِ النّهى.
أيّها المسلم، اتّق الله في سنّة نبيّك، فاقبَلها واسمَع وأطِع لها، فإنّ طاعةَ الرسول هي طاعة الله، مَّنْ يُطِعِ ?لرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ?للَّهَ [النساء: 80]، وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ [الحشر: 7].
لا تقدِّم على سنّته قولَ قائلٍ أو رأيَ ذي رأي أو هوَى صاحِب هوى، أَفَرَأَيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ?للَّهُ عَلَى? عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى? سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى? بَصَرِهِ غِشَـ?وَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ?للَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23].
عظِّم حرماتِ الله بامتثالِ الأوامر واجتناب النواهي.
أيّها المسلم، إنّ من تعظيم حرماتِ الله تعظيمَ الدّماء المعصومة، فقتلُ المسلم جريمة نكراء، كبيرةٌ من كبائر الذنوب، مِنْ أَجْلِ ذ?لِكَ كَتَبْنَا عَلَى? بَنِى إِسْر?ءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ?لأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ?لنَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32]، وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، وقال: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـ?لِحًا [الفرقان: 68-70] الآية، ويقول جلّ وعلا: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا [النساء: 92] أي: ليس له أن يتعمّد قتلَه، فذاك من كبائرِ الذنوب، وفي الحديث الصحيح: ((اجتنِبوا السّبعَ الموبقات)) فذكر الشركَ والسحرَ وقتلَ النفس [1] ، و((لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنّفس، والتّارك لدينه المفارق للجماعة)) [2] ، و((من قتل معاهَدًا لم يرَح رائحة الجنة)) [3].
أيّها المسلم، إنّ من أعظم النّفوس حرمةً عند الله نفسَك التي بين جنبيك، فنفسك أمانةٌ في عنقِك، لا تتعدّى عليها، ولا تعرض لها بسوء، فأنتَ مسؤول عنها، فيجِب المحافظة على النّفس، ومحاولةُ قتل النفس من كبائر الذنوب، سببٌ للعذاب يومَ القيامة وسخطِ الله وعضبِه، قال الله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء: 29]، فنهانا عن قتلِ أنفسنا لأنّه تعالى بنا رحيم، ولذا وجَب على المسلم الصبرُ على البلاء، وحرم عليه الاستعجال بقتل نفسِه، بل نُهي عن تمنّي الموت، وأُمر بالصّبر والاحتساب.
أيّها المسلم، إنّ سنّة نبيّك بيّنت عِظم قتلِ الإنسان نفسَه، وأنّ قتل الإنسان نفسَه كبيرة من كبائر الذنوب، تُوعِّد عليها بالنار يومَ القيامة، ففي الصحيح أنّه قال: ((من قتل نفسَه بشيء في الدّنيا عُذِّب به يومَ القيامة)) [4] ، أي: يكون عذابُه بذلك النّوع الذي أزهَق به نفسَه، وفي الصحيح أيضًا أنّه قال: ((من تردّى من جبل فقتل نفسَه فهو في نار جهنّم يتردّى فيها خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا، ومن احتسَى سُمًّا فقتل نفسَه فسمُّه في يده يحتسيه في نارِ جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسَه بحديدةٍ فحديدته في يدِه يجأ بها بطنَه يوم القيامة في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا)) [5] ، ويقول : ((الذي يطعَن نفسَه يطعنها في نار جهنّم، والذي يقتحِمها ـ أي: النار ـ يقتحهما يومَ القيامة، والذي يخنق نفسَه يخنقها في النار يوم القيامة)) [6].
أيّها المسلم، قتلُ النّفس سببٌ لسوء الخاتمةِ وورودِ النّار والعياذ بالله. في عهد النبيّ رجلٌ غازٍ مع النبيّ لا يدَع للمشركين شاذّة ولا فاذّة إلاّ قضى عليها، فقال النبيّ : ((هو في النّار)) ، فقال بعض الصحابة: إن يكن هذا في النّار فمن يدخلُ الجنة؟! لِما رأى من شجاعتهِ ودفاعِه، فلمّا آلمته الجِراح أخذ سهمًا من كنانتِه فانتحر وقتلَ نفسه، فجاء الرجل إلى النبيّ يعدو وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنّك رسول الله؛ الذي قلتَ: إنّه في النار قد صدَق الله حديثَك، قد أخذ سهمًا من كنانتِه فانتحر [7]. وفيهِ أيضًا أنّ رجلاً أصابته جراح، فجزع فأخذ سكّينًا فحزَّ بها يدَه فلم يرقأ الدّم حتى مات، فقال الله: ((بادرَني عبدي بنفسِه قد حرّمت عليه الجنّة)) [8].
أيّها المسلم، هذه أحاديثُ صحيحة صريحة تبيِّن لك جريمةَ قتل النّفس، وأنّها خطيرة عظيمة، تدلّ على ضَعفٍ في الإيمان وقلّة في الصبر، وعلى فسادٍ في العقل وسوءٍ التصوّر والعياذ بالله.
أيّها المسلم، بأيّ حقٍّ تقتل نفسَك؟! وعلى أيّ دليل تعتمد؟! وبأيّ سلطان تلقى الله يومَ القيامة؟!
احذَر ـ أخي ـ أن تكونَ فريسةً للأعداء، يقضون بك أهواءَهم وينفِّذون بك أغراضَهم. هل حاسبتَ نفسَك عند الإقدام على هذه الجريمةِ وهي قتل النفس، الانتحار، تفجير النّفس؟! هل سألتَ نفسك: لماذا فعلت؟ ولمصلحة من تَفعل؟
إنّك تقدِم على أمرٍ خطير فيه إنهاءٌ لحياتِك، فهل تكون حياتك حياةَ شقاء وتختِم حياتك بسوء الفعل وتلقى الله بهذه الخاتمةِ السيّئة؟! قد قتلتَ نفسك، فعصيتَ ربّك، وخالفت هديَ نبيّك، وضربتَ به عرضَ الحائط.
أيّها المسلم الذي يخاف الله ويرجوه، إيّاك أن تنخدعَ بالشعاراتِ الزّائفة، إيّاك أن يستدرجَك الشيطان وتمضيَ في الهوى وتصمّ أذنَك عن سماعِ الحقّ وعن العملِ به، وتنخدعَ بآراء الضّالين وآراء المفسِدين والذين يقضون بك أغراضَهم وهم لم يفعلوا شيئًا، إنّما يريدونك ضحيّة لهذه الجريمةِ النّكراء دونَ تأمّل وتعقّل.
تعقّل في نفسك، واحذَر الاندفاع والحمَاس بلا دليلٍ والشعاراتِ الزّائفة والانقيادَ إلى الهوى، تأدّب بآداب نبيّك الذي أمرك بأن تحافظَ على نفسك، ونهاك عن الإقدام على هذه الجريمة.
أيّها المسلم، هل تريد أن تلقى ربَّك وقد ختِم لك بسوء في يومٍ يتبرّأ منك القريب، يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ?مْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 34-37].
حياةٌ متّعك الله بها فاستغِلَّها إلى أن يأتيَك الأجلُ المكتوب، واحذَر أن تكونَ سببًا لإزهاق نفسِك تحت أيّ ظرفٍ ما، فالذين يرَون الانتحارَ وقتلَ الإنسان نفسَه يرونَه شجاعةً إنّ هؤلاء هم الجُبناء حقًّا، الشجاعةُ الحقّة هي الثبات على الحقّ، الثبات على المبدَأ السليم، الدعوة إلى الخير، ((ليس الشديد بالصُّرَعة، إنّما الشديد الذي يملِك نفسَه عند الغضب)) [9].
هؤلاء الذين يفجِّرون أنفسَهم ويقتلون أنفسَهم قد عجَّلوا بأنفسهم إلى النّار والعياذ بالله، عصَوا ربَّهم وخالفوا سنّةَ نبيّهم وأطاعوا الأهواءَ والآراء الباطلةَ والدّعوات الكاذبةَ الخادعة التي لا تنبني على أصلٍ، ولكنها خِداع ومكر، أحسنوا الظنَّ بأعدائهم، وظنّوا أنّ هذا العملَ شريف، ولعمرو الله إنّه من الأعمال الفاجرةِ الظالمة.
فالعبد ما دام في الحياةِ فإنّه يستقيم ويعمَل عملاً صالحًا ويرجو أن يوفَّق لتوبةٍ نصوح في ساعةٍ ما من عمره، فيلقى الله على حُسن حال، فإنّ العبد يعمَل بعمل أهل النّار حتى ما يكون بينه وبينَها إلا ذراع، فيسبِق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنّة فيدخلها، وربّما عمل بعمل أهل الجنة حتّى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها.
فاستقِم على الطاعةِ والهدى، وحافِظ على نفسك، والزَم الطريق المستقيم. والدعوةُ إلى الخير والإصلاح لا تكون بتفجيرِ النفوس، لا تكون بقتلِ الإنسان نفسَه، فتلك لم تحقِّق لأهلها خيرًا ولم تجلِب لهم خيرًا، إنّما هي من دُعاة الباطل، إنّما هي من آراء الضّالين الذين يزجّون بشباب الأمّة في أمورٍ ومتاهات لا يعرِفون نتائجها.
فليتّق المسلم ربَّه، وليمسِك لسانَه عن الباطل، ولا يعين ذا جهلٍ على جهله، وإنّما ينصَح ويوجِّه ويدعو إلى الخير.
أسأل الله أن يحفظنا وإيّاكم بالإسلام، وأن يعيذنا من شرّ أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا ومِن دعاة الضلالة ومن أئمّة الضلال الذين يصدّون النّاس عن سبيلِ الله ويغوونهم ويوقِعونهم في الباطل، عياذًا بالله من سوءِ الخاتمة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الوصايا (2767)، ومسلم في الإيمان (89) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الوصايا (6878)، ومسلم في القسامة (1676) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الجزية (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[4] أخرجه البخاري في الأدب (6105)، ومسلم في الإيمان (110) عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الطب (5778)، ومسلم في الإيمان (109) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الجنائز (1369) عن أبي هريرة رضي الله عنه وليس فيه ذكر التقحم، وإنما هو عند أحمد (2/435)، وهو في السلسلة الصحيحة (3421).
[7] أخرجه البخاري في الجهاد (2898)، ومسلم في الإيمان (112) عن سهل بن سعد رضي الله عنه بنحوه.
[8] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3463) واللفظ له، ومسلم في الإيمان (113) عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في الأدب (6114)، ومسلم في البر (2609) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، نعمُ الله عظيمة وآلاؤه جسيمة، ومِن نعمه علينا هطولُ هذه الأمطار العظيمة النافعة التي أحيى الله بها الأرضَ بعد موتها، وأعاد للنفوس النشاطَ والقوّة، والحمد لله على فضلِه.
نعمةٌ من نعم الله تحتاج منّا إلى شكر الله عليها والقيام بما أوجبَ الله وأن يُعلمَ أنّ هذا فضل من الله تفضّل به علينا، يقول الله جلّ وعلا: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى: 28]، ويقول: وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء: 30]، ويقول: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم: 49، 50].
فسبحانَ القادرِ على كلّ شيء، سبحانَ من إذا قال للشّيء: كن فيكون، بينما النّاس يرَون جدبَ الأرض وقلّة المياه أو غورَها في بعض الأماكن إذا هم بهذا الغيثِ المبارك، يملأ أوديتَهم، ويشاهدونه وقد اهتزّت الأرض وربَت من هذا الخيرِ العظيم، وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحج: 5، 6].
كان نبيّكم يقول: ((اخرُجوا بنا إلى هذا القريبِ عهدٍ بربّه)) [1] ، فهو قريب عهد بربّه، ينظر إلى هذا الماءِ المبارك، فيزداد فرحًا وسرورًا.
وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان: 48]، فهو ماءٌ مبارك، وماءٌ طهور، وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [النبأ: 14-16]، ومنّ الله علينا بقوله: أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ [الواقعة: 68، 69].
فاشكروا الله على نعمائِه، واستعينوا بذلك على طاعتِه، يقول : ((عجب ربّك من قنوطِ عبادِه وقرب غِيَره، ينظر إليكم أَزِلين قنِطين، فيظلّ يضحك، يعلم أنّ فرجَكم قريب)) [2].
فسبحانَ القادر على كلّ شيء، سبحانّ المتفضّل والمنعِم والمعطي، لا مانعَ لما أعطى، ولا معطيَ لما منع، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82].
فلا إله إلا الله، ما أعظمَ فرجَه، وما أعظم فضله وإحسانَه، فعلينا أن نستعينَ بهذه النّعم في إرضاءِ مَن أنعم بها وتفضّل، في الحديث: ((يقول الله: أنا والجنّ [والإنس] في نبَأ عظيم، أخلقُ ويُعبَد غيري، وأرزق ويشكَر سواي، خيري إليهم نازلٌ وشرّهم إليّ صاعد، أتودّدُهم بالنّعم ويتباعَدون عنّي بالمعصية)) [3].
فاشكروا اللهَ على نعمتِه، وقيّدوها بشكر الله والثناءِ على الله والاعتراف له بالفضلِ وأن تكون سببًا لعلاج القلوبِ واستقامة الحال، فلِلّه الفضلُ والمنّة أوّلاً وآخرًا، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7].
فقابِلوا نعمَ الله بشكرِها، وقابلوها بالثناءِ عليه، وقابلوها بالقيام بما أوجَب، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك: 30]، إنّما يأتي به الله القادر عليه، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ [النمل: 62].
فاحمَدوا الله على نعمائه، واشكروه على فضله وإحسانِه، واسألوه المزيدَ من كرمِه وجوده، واستعينوا بما أنعَم عليكم على مرضاتِه عنكم.
نسأل الله شكرَ نعمتِه وحسنَ عبادتِه وأن يجعلَنا من الشّاكرين الذاكرين، إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتُها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرج مسلم في الاستسقاء (898)، وأحمد (3/133، 267) واللفظ له عن أنس رضي الله عنه قال: أصابنا مطر ونحن مع رسول الله ، فخرج رسول الله فحسر ثوبه حتى أصابه، فقلنا: يا رسول الله، لم صنعت هذا؟ قال: ((إنه حديث عهد بربه)).
[2] ذكره بهذا اللفظ ابن تيمية في المجموع (3/139) وحسنه. وأخرج شطره الأول أحمد (4/11، 12)، وابن ماجه في المقدمة (181) عن أبي رزين لقيط بن عامر رضي الله عنه، وأورده الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه (31). وأما شطره الثاني فأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1/286)، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (4/13) عن لقيط بن عامر رضي الله عنه أيضا، وصححه الحاكم (8683)، وأخرجاه أيضا والطبراني في الكبير (19/212) عن عاصم بن لقيط مرسلا، قال الهيثمي في المجمع (10/340): "رواه عبد الله والطبراني بنحوه، وأحد طريقي عبد الله إسنادها متّصل ورجالها ثقات، والإسناد الآخر وإسناد الطبراني مرسل عن عاصم بن لقيط إن لقيطا"، وضعفه الألباني في ظلال الجنة (636).
[3] ذكره بنحوه ابن القيم في مدارج السالكين (1/194)، وروى بعضه الطبراني في مسند الشاميين (974)، والبيهقي في الشعب (4/134) عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2371).
(1/2835)
أهمّيّة النصيحة وآدابها
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
18/10/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معرّة التنافر والتدابر. 2- طريقة تقويم المجتمعات. 3- الفرق بين مجتمع النصح ومجتمع الغش. 4- أهمية النصيحة. 5- حقيقة النصيحة. 6- خطورة الاستنكاف عن بذل النصيحة وعن قبولها. 7- آداب النصيحة. 8- وجوب قبول النصح والنقد من أي شخص كان. 9- العدل والإنصاف. 10- الدين النصيحة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها النّاس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فهي للنّفس زِمام، وللهوَى خِطام، وللشّهوات والملذّات فِطام، فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ي?أُوْلِى ?لألْبَـ?بِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].
أيّها النّاس، النُّفرة والتّدابر سِمةٌ من سِمات المجتمعاتِ المنفكّة، ومعرَّةٌ كبرى تأسَف لها قلوبُ المشفقين من ذوي البصائر، وإنّ قلّةَ الإنصاف وشيوعَ المذَق لهما معوَلان من معاوِل تقويض البِناء للصَّرح الإسلاميّ الشامخ، والنقدُ الموجَّه والنّصح الهادِف الموافقان لمرادِ الله ورسولِه هما لبِنتان من لبِنات الحِصنِ العزيز للمجتمَع المسلِم المتكامِل الذي تجتمع قلوبُ بنيه على رعايةِ الصّالح العامّ الخاضع لرضا الله جلّ وعلا، لا رضا الأهواءِ والشّهوات والأنفس التي تألَف ما يُسخِط الله لا ما يرضيه.
ومِن هنا فإنّ لكلّ رامقٍ بعَين البصيرة أن يقرِّر حكمَه على المجتمعاتِ سلبًا وإيجابًا مِن خلال ما يشاهِده في السّلوك العامّ والأنماط التي تخضَع للمعايير الآنفِ ذكرُها.
ألا إنّ الفرقَ واضح والبَون شاسع بين مجتمَع تغشاه النصيحة على قبولٍ وترحاب وبين مجتمعٍ آخر يجعل أصابعَه في آذانه ويستغشِي ثيابَه ويصرّ ويستكبر استكبارًا، أَمْ نَجْعَلُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ كَ?لْمُفْسِدِينَ فِى ?لأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ?لْمُتَّقِينَ كَ?لْفُجَّارِ [ص:28].
أيّها المسلمون، لقد كانت مبايعةُ الصحابة رضوان الله عليهم للنّبيّ قائمةً على ركائزَ عظمى ومقرراتٍ جليلة كان من أهمِّها بذلُ النّصح للمسلمين والإشفاقُ عليهم والحِرص لهم، ففي الصحيحين من حديث جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: بايعتُ النبيّ على إقامِ الصلاة وإيتاء الزكاة والنّصحٍ لكلّ مسلم [1].
النّصيحة ـ عبادَ الله ـ كلمةٌ يُعبّر بها عن جملةٍ هي إرادةُ الخير للمنصوحِ له، وأصل النّصح هو الخُلوص والصّفاء والصّدق وعدمُ الغشّ، ولذا كان لِزامًا على كلّ مجتمعٍ مسلم أن يجعلَ لهذه الشّعيرة محلاً واسعًا في حياتِه اليوميّة واهتمامًا بالغًا لا يقلّ مستوًى عن الاهتمام بالجوانب الصحيّة والجوانبِ الأمنيّة والجوانبِ المعيشيّة.
والحقُّ الذي لا غبارَ عليه أنّه لا خيرَ في مجتمعٍ أفئدةُ بنِيه في التّناصح هواء، ولا خيرَ في مجتمعٍ آذان ذويه كالأقماعِ يدخل النّصحُ مع اليُمنَى فلا يلبَث أن يخرجَ مع اليُسرى.
إنّ استنكافَ المجتمعات والأفراد عن بذلِ النّصح والتقويمِ لهو سببٌ للعوَج والتّية في الدّنيا والعقوبةِ والمقتِ من ربّ العالمين في الآخرة، لَّن يَسْتَنكِفَ ?لْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا للَّهِ وَلاَ ?لْمَلَئِكَةُ ?لْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا [النساء:172].
إنّ اللّجاجةَ والنّفرةَ من أصواتِ النّاصحين المخلصين ليُعدُّ طبعًا لئيمًا مِن طبائع أعداءِ الأنبياء وخصومِهم، وهو فتوقٌ لا يرقعه أيّ رتوق لا يكون مصدَره النّصح لله ولرسوله ، ولذا قال الله تعالى عن ثمودَ عليه السلام: فَتَوَلَّى? عَنْهُمْ وَقَالَ يَـ?قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ ?لنَّـ?صِحِينَ [الأعراف:79].
إنّ النصحَ بين المسلمين أفرادًا ومجتمعًا ليعدُّ أمارةً من أماراتِ الاهتمام بالصّلاح والإصلاح، وبإحياء الشّعيرة المفروضةِ شعيرةِ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في واقعِ حياتِهم وبيانِ حجّة أهل السنّة والجماعة وجهادهم لنصرةِ الحقّ بالقلم واللّسان كما قد كانت النّصرة كرّاتٍ ومرّات بالسّيف والسّنان، ولا أقلَّ من ذلك على وجهِ فرض الكفاية، فضلاً عن خطورةِ إهمال هذا الباب والوقوع في مغبّة مجانبته، ومن ثمَّ الاتِّصاف بما حذّر منه النبيّ بقوله: ((من لا يهتمّ بأمر المسلمين فليسَ منهم)) رواه الطبراني [2].
النّصح ـ أيّها المسلمون ـ ينبغي أن يقومَ على آدابٍ جُلَّى وسِماتٍ غُداف، تجعل الحقَّ من خلاله مقبولاً والنّصحَ بين النّاس منشورًا وبَاذلَه والمتسبِّب فيه مأجورًا غيرَ مأزور.
فينبغي للنّاصح أن يقومَ بالنّية الخالصةِ لله، وإلاّ كان نفاقًا ورياءً، كما ينبغي أن ينطلقَ نصحه من بابِ المحبّة والإشفاق بالآخرين، فهو أحرَى لأن يباركَ الله فيه ويبلغَ به المقصود، وقد قال الفضيل رحمه الله: "الحبُّ أفضل من الخَوف، ألا ترى إذا كان لك عبدان مملوكان أحدُهما يحبّك والآخر يخافك، فالذي يحبّك منهما ينصحُك شاهدًا كنتَ أو غائبًا لحبِّه إياك، والذي يخافك عسَى أن ينصحَك إذا شهدتَ لِما يخافك، ويغشّك إذا غبتَ عنه ولا ينصحُك" [3].
يضاف إلى ذلك ـ عبادَ الله ـ الصدقُ في النّصيحة والسِّتر وإرادة الإصلاح، لا إظهار الشّماتة والتّعيير؛ لأنّ السِّترَ في النّصح من سماتِ المؤمن الصادق، فإنّ المؤمنَ يستر وينصَح، والفاجر يهتِك ويُعيِّر.
كما ينبغي للنّاصح أن يصابرَ ويجاهدَ نفسَه على تحمُّل أعباءِ هذا المَيدان وما قد يناله فيه من صُوَر الشّماتة والاستكبار، ولقد أحسنَ ابن القيّم رحمه الله حينَ قال: "فالسعيدُ الرّابح من عامَل الله فيهم ولم يعامِلهم في الله، وخاف الله فيهم ولم يخَفهم في الله، وأرضى الله بسخَطهم ولم يرضِهم بسخطِ الله, وراقَب اللهَ فيهم ولم يراقبهم في الله" [4].
ثمّ اعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أنّه لا يضرّ المرءَ ما يلاقيه ممّن يشرَقون بالنّصح ويتأفّفون بالتّوجيه والإرشاد ويهوِّشون ويشوِّشون بادِّعاء الكمالِ الزائِف الذي يستنِكرون بسببه نصحَ النّاصحين، بل يعدّونه ضربًا من ضروبِ التّعيير والتدخّل فيما لا يعني، ويا لله ما اعتذارُ المرءِ إذا عُدّت محاسِنُه التي يدلِي بها ذنوبًا وعُدوانًا؟!
إنّ المسلمَ إذا نظرَ بعين الصّدق والتجرُّد والإنصاف وجعَل طلبَ الحقّ هو الدّيدنَ لقَبِل ما يُوجَّه إليه من نصحٍ ونقدٍ في الحقّ، ولعلِم أنّ الأمةَ الإسلامية لا تقوم إلا بالتناصح الجادِّ وبقولِها للمصيب: "أصبتَ" وللمخطئ: "أخطأتَ"، وأن لا يكونَ للسّخط والشنآن أو المودّة والقُربى تأثيرٌ في الميزان، وإنّما يكون العدلُ وحدَه في الغضَب والرّضا والمودّة والعداوة كما قال الباري جلّ شأنه: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِ?لْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ ?لْو?لِدَيْنِ وَ?لأقْرَبِينَ [النساء:135]، وكقوله سبحانه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِ?لْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ?عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة:8].
وإنّه لَيُعلم مِن هذا ـ عبادَ الله ـ أنّ عينَ الرّضا قد تكلّ عن كلّ عيبٍ، كما أنّ عينَ السّخط لا تبدِي إلا المساوئ، وأنّ المرء قد ينظر بعينِ عداوةٍ لو أنّها عينُ الرّضا لاستحسنَ ما استقبَح.
وجِماع الأمرِ في هذا هو العدلُ والإنصاف، ورحِم الله الإمامَ أبا عبد الله ابن بطّة حينما تحدّث عن النّصح وقبولِ الصَواب من الغير فقال: "واغتمامُك بصوابِه ـ أي: بصوابِ ناصحك ـ غشٌّ فيه وسوء نيّة في المسلمين، فاعلم ـ يا أخي ـ أنّ من كرِه الصوابَ من غيرِه ونصَر الخطأ من نفسِه لم يؤمَن عليه أن يسلبَه الله ما علِمه وينسيَه ما ذكره، بل يُخاف عليه أن يسلبَه الله إيمانَه؛ لأنّ الحقَّ من رسول الله إليك افتُرِض عليك طاعتُه، فمن سمِع الحقَّ فأنكرَه بعد عِلمه له فهو من المتكبّرين على الله" انتهى كلامه رحمه الله.
ولقد أحسنَ ابن قتيبةَ أيضًا وهو يشكو أهلَ زمانه في القرنِ الثالث الهجريّ وما يعانيه من بَعض الآبين للنّصح والمستنكفين عنه وما يلاقيه النّاصحُ في أوساطهم، فيقول رحمه الله: "إنّ الناصحَ مأجور عند الله، مشكورٌ عند عبادهِ الصالحين الذين لا يميل بهم هوًى ولا تدفعهم عصبيّة ولا يجمعهم على الباطل تحزّبٌ ولا يلفتهم عن استبانةِ الحقّ حدٌّ، وقد كنّا زمانًا نعتذِر مِن الجهلِ فصِرنا الآن نحتاج إلى الاعتذار من العلم، نؤمّل شكرَ النّاس بالتنبيه والدّلالة، فصرنا نرضَى بالسّلامة، وليس هذا بعجيبٍ مع انقلابِ الأحوال، ولا ينكَر مع تغيّر الزمان، وفي الله خلفٌ وهو المستعان" انتهى كلامه رحمه الله.
فلا إله إلا الله، ما أشبهَ الليلةَ بالبارحة واليومَ بالأمس، وها هو التّاريخ يعيد نفسَه.
ألا فاتّقوا الله معاشرَ المسلمين، واعلَموا أنّ الأمةَ لا يزال فيها النّاصح والمنصوحُ والرادُّ والمردود عليه، والحقّ ضالّة المؤمِن أنّى وجدَها أخذَ بها، وليس بضائِره ما يتبعُه ما دام قصدُه الإصلاحَ ما استطاع، ولقد صدق الله: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَ?عْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ?تَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [القصص:50].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (57)، ومسلم في الإيمان (56).
[2] المعجم الصغير (ص188) من حديث حذيفة رضي الله عنه، وفي سنده جعفر بن أبي عبد الله، هو وأبوه ضعيفان. وعزاه الهيثمي في المجمع (10/248) إلى الطبراني من حديث أبي ذر رضي الله عنه وقال: "فيه يزيد بن ربيعة الرحبي وهو متروك". وأخرجه الحاكم (4/320) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وفي سنده إسحاق بن بشر ومقاتل بن سليمان، قال الذهبي في التلخيص: "ليسا بثقتين ولا صادقين". وأخرجه البيهقي في الشعب (7/361) من حديث أنس رضي الله عنه وضعفه. وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (309، 310، 311، 312).
[3] انظر: جامع العلوم والحكم (ص78-79).
[4] طريق الهجرتين (ص108).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحدَه، والصّلاة والسّلام على من لا نبيّ بعده.
وبعد: فيا أيّها النّاس، لقد جاءت عباراتُ النبيّ خثيثةً في جوامعِ كلِمٍ هي قليلةٌ في المبنى، ولكنّها عظيمة المعنى، حيث يقول النبيّ : ((الدّين النصيحة)) قالها ثلاثًا، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابِه ولرسوله ولأئمّةِ المسلمين وعامّتهم)) رواه مسلم [1].
قال النوويّ رحمه الله: "هذا حديثٌ عظيم الشّأن، وعليه مدارُ الإسلام، وأمّا ما قاله جماعاتٌ من العلماءِ أنّه أحدُ أرباع الإسلام ـ أي: أحدُ الأحاديث الأربعة التي تجمَع أمورّ الإسلام ـ فليسَ كما قالوه، بل المدارُ على هذا وحدَه" [2].
فالواجب على العاقلِ ـ عبادَ الله ـ لزومُ النصيحةِ للمسلمين كافّة، وتركُ الخيانةِ لهم بالإضمار والقول والفعل معًا، وخيرُ النّاس أشدُّهم مبالغةً في النّصيحة، كما أنّ خيرَ الأعمال أحمدُها عاقبةً وأحسنها إخلاصًا، وضربُ النّاصح خيرٌ من تحيّة الشانِئ، ولا يمنَع من التّمادي في النّصح والإكثارِ فيه عدمُ القبول مِن المخالِف أو عدمُ رضاه؛ لأنّ العبدَ المسلم مأمورٌ بالتماسِ رضا الله وحدَه ولو كان بسخطِ النّاس، فلقد كتَب معاوية رضي الله عنه إلى عائشةَ رضي الله تعالى عنها أن اكتبي إليّ كتابًا توصِيني فيه ولا تكثِري عليّ، فكتبَت عائشة إلى معاوية: سلامٌ عليك، أمّا بعد: فإنّي سمعت رسول الله يقول: ((مَن التمسَ رضا الله بسخَط النّاس كفاه الله مؤونةَ النّاس، ومن التمَس رضا النّاس بسخَط الله وكَلَه الله إلى النّاس)) رواه التّرمذي [3].
ولأجل ذا كان النّاصح العاقلُ ـ عبادَ الله ـ مَن مقالُ حالِه ساعةَ يتصدّى للنّصح والإرشاد: لا نريدُ منكم جزاءً ولا شكورًا، إنّا نخاف من ربّنا يومًا عبوسًا قمطريرًا.
يقول ابن القيّم رحمه الله: " إذا رُزق العقلُ الغريزيّ عقلاً إيمانيًّا مستفادًا من مشكاةِ النبوّة، لا عقلاً معيشيًّا نفاقيًّا يظنّ أربابُه أنّهم على شيء، ألا إنّهم هم الكاذبون، فإنّهم يرونَ العقلَ أن يُرضوا الناسَ على طبقاتِهم ويسالِموهم ويستجلِبوا مودّتهم ومحبّتهم، وهذا مع أنّه لا سبيلَ إليه فهو إيثارٌ للرّاحة والدّعَة ومؤونةِ الأذى في الله والمحبّة فيه والبُغض فيه، وهو إن كان أسلمَ في العاجلةِ فهو الهَلك في الآجلة، فإنّه ما ذاق طعمَ الإيمان من لم يحبَّ في الله ويبغِض فيه، فالعقلُ كلّ العقل ما أوصَل إلى رضا الله ورسوله " انتهى كلامه رحمه الله [4].
ولقد صدق الله جلّ وعلا إذ يقول: ?دْعُ إِلِى? سَبِيلِ رَبّكَ بِ?لْحِكْمَةِ وَ?لْمَوْعِظَةِ ?لْحَسَنَةِ وَجَـ?دِلْهُم بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [النحل:125]، فَإِذَا ?لَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34].
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشريّة محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحبِ الحوض والشّفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكتِه المسبِّحة بقدسه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون، فقال جلّ وعلا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...
[1] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (55) عن تميم الداري رضي الله عنه.
[2] شرح صحيح مسلم (2/37).
[3] أخرجه ابن المبارك في الزهد (199)، ومن طريقه الترمذي في الزهد (2414) عن رجل من أهل المدينة قال كتب معاوية إلى عائشة رضي الله عنها وذكر الحديث مرفوعا، وصححه ابن حبان (276)، والألباني في صحيح الترغيب (2250)، ثم أخرجه الترمذي عقب المرفوع من طريق آخر عنها موقوفًا، ورجح الوقف أبو حاتم وأبو زرعة كما في العلل لابن أبي حاتم (2/103) وكذا العقيلي في الضعفاء. ولا يبعد أن يصحّ مرفوعا أيضا لأنّ له طرقًا أخرى كما بينه الألباني في تحقيق الطحاوية (278).
[4] مفتاح دار السعادة (1/117).
(1/2836)
التديُّن
الإيمان
حقيقة الإيمان
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
18/10/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فطرة التديّن. 2- الدين حصانة للفرد والمجتمع. 3- أثر التديّن على الأفراد والمجتمعات. 4- من فضائل الإسلام ومحاسنه. 5- حاجة الناس إلى التديّن. 6- فضائل التديّن وآثاره. 7- التحذير من المشوِّهين لحقيقة التديّن. 8- التديّن الحقيقيّ والتديّن الصناعيّ. 9- تفنيد زعم أنّ التديّن سبب التطرّف. 10- ضرورة تغذية منابع التديّن في هذا العصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسِي بتقوى الله، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
مِن خصائِص الإنسانِ أنّه بفطرتِه يميل إلى التديُّن، فالتديُّن فِطرةٌ غرزَها الله في البَشر، وقد كانوا أوّلَ الأمرِ على التوحيدِ قبلَ أن تزيِّن لهم الشياطين عبادةَ الطّواغيت واتخاذَ الأصنام، فالدّين ضرورةٌ لحياةِ النّاس، والإسلام دينُ اللهِ الحقّ الذي رضيَه الله دينًا لعبادِه أجمعين. عقيدتُه واضحة، بعيدةٌ عن إغراقِ الوهم والجنوح الخياليّ وتحكُّم الأهواء، قال تعالى: لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ?للَّهِ ذَلِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الروم:30].
في الوقتِ الذي تتزايد فيه الانحرافات والجرائمُ والأمراض النفسيّة وتبرزُ مظاهر التطرّف والغلوّ تأتي النصوصُ الشرعيّة وتسندُها الدّراسات العلميّة والخبرات العمليّة لتؤكِّدَ أنّ الدينَ حصانةٌ للمجتمع والمتديّن أكثرُ سعادةً وأفضل صحّةً واستقرارًا في حياتِه.
إنَّ الفردَ حين يتديَّن ويتمسَّك بتعاليم دينِه يسمو فيثبُت ولا يتزعزَع طاعةً لله وطلبًا لمرضاته.
ومِن أبرز أمثلةِ التديُّن سلوكُ سحرةِ فرعونَ بعد التزامهم بدين الله، لمّا آمنوا بموسى ألقِيَ السحرةُ ساجدين، فقال لهم فرعون: ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ?لَّذِى عَلَّمَكُمُ ?لسّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلأصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَى? رَبّنَا مُنقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَـ?يَـ?نَا أَن كُنَّا أَوَّلَ ?لْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:49-51]. إنّهم لم يتركوا دينَهم الذي باشر قلوبَهم ورضُوا به، فاطمأنّت نفوسُهم إليه، وباعوا له الدنيا طمعًا في مغفرةِ الله وما عندَه وهو خيرٌ وأبقى.
وفي تاريخ أمّة محمّد يظهر أثرُ التديُّن جلِيًّا في سلوك الأفراد، فقد فشا في المجتمعِ قبلَ الإسلام الخمرُ والميسر والظلمُ والنّهب والتناحُرُ والحروب، فلمّا جاء الدينُ طهَّر قلوبَهم وهذّب سلوكهم وضرَبوا أروعَ الأمثلة في تزكيةِ النفس والإيثار والكرَم وصلةِ الرحم ودفعِ الظلم ونُصرة الضَّعيف، حتّى إنّ أحدَهم ليقدّم نفسَه للقتل جزاءَ ذنبٍ اقترفَه ولم يكن يعلَم به بشر، هذا هو أثر التديُّن بالدّين الحقّ.
إنّ أيَّ حضارةٍ مِن الحضارات لن تجدَ هويّتها بين الأمم إذا كانت بلا معتقدٍ دينيّ، والذي يقرأ تأريخ الأممِ السابقة التي كانت بلا عقيدةٍ اندثرت حضارتُها في مدّةٍ قصيرة ولم تستطع البقاءَ، وتحوّلت بفضلِ التديُّن بدين الإسلام قبائلُ السّلب والنهبِ إلى دولةٍ ذات حضارة، يحكمها منهجٌ صالح لكلّ زمانٍ ومكان، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً [النحل:97].
دينُ الإسلام قدّم للمؤمنين سكينةَ النّفس وطمأنينةَ القلب، حجَب عن المجتمع الانحرافَ والاضطراب والتمزّقَ والضّياع، هيّأ السَّعادةَ والحضارة الزاكيَة الحقّة، كما تُسلَبُ الطمأنينة ويضعُف الأمن في انتزاع الإنسان نفسَه من الدّين، فالدّين شفاءُ الصّدر وتِرياقٌ لأمراض القلَق والحَيرة، قال رسول الله : ((ذاق طعمَ الإيمان من رضيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمّد رسولاً)) أخرجه مسلم [1].
ومهمَا زادَت مخترعاتُ الحضارةِ والمترَفات الصناعيّة فسيبقى النّاس في حاجةٍ إلى الدّين والتديّن، الناسُ فقراءُ إلى خالقِهم وبارئهم، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ أَنتُمُ ?لْفُقَرَاء إِلَى ?للَّهِ [فاطر:14]، قال أحدُ السّلف: "ليس الدّين بمجرّد تَرك المحرَّمات الظاهرةِ، بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبةِ لله، وأكثر المتديِّنين لا يعبؤون منها إلاّ بما شاركهم فيها عمومُ النّاس، أمّا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والنّصيحة لله ورسوله وعبادِه ونصرةُ الله ورسوله ودينه وكتابِه فهذه الواجباتُ لا تخطر ببالِهم، فضلاً عن أن يريدوا فعلَها، وفضلاً عن أن يفعَلوا، وأقلّ الناس دينًا وأمقتُهم إلى الله من تَرك هذه الواجباتِ وإن زهد في الدّنيا جميعِها، وقلّ أن ترَى منهم من يحمرّ وجهُه ويمعِّره لله ويغضَب لحرماتِه ويبذل النفيسَ في نصرةِ دينه، وأصحابُ الكبائر أحسنُ حالاً عند الله من هؤلاء" انتهى كلامه رحمه الله.
إخوةَ الإسلام، التديُّن يعني الاستقامة والطهرَ والعفاف وغضَّ البصر والبعدَ عن الفجور والخمور والمخدِّرات وأذيّة المؤمنين باللّسان واليد. التديُّن يمنَح صاحبَه عاطفة جيّاشةً تجعله نبعَ خيرٍ يتدفّق لتنميةِ المجتمع وتقويةِ أواصره. التديُّن يقذِف في قلب صاحبِه رقابةً ذاتيّة تجعله لبنةَ بناءٍ، يحرُس الفضيلة، يحافِظ على أمنِ المجتمع، يحميه من مجرمٍ رذيل أو فكرٍ دخيل. التديُّن له أثرٌ في السّلوك، يربِّي على الأوبَة الصادِقة والإنابة العاجلة، قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ ?تَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ ?لشَّيْطَـ?نِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201].
أزلّ الشيطانُ آدم، وزيّن له الأكلَ من الشجرة، فعاد إلى ربِّه وصدَق في عهده، فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ?لتَّوَّابُ ?لرَّحِيمُ [البقرة:37].
إنّ المتديّنَ ليس معصومًا، فهو كغيرِه من البَشر، قد يزلّ، وقد يغفل، فإذا تذكَّر تابَ وآب وأناب، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لتَّوبِينَ وَيُحِبُّ ?لْمُتَطَهّرِينَ [البقرة:222].
التديّن ـ عبادَ الله ـ ليس مجموعةَ قيودٍ وأغلال تقضي على حريّة الإنسان كما يصوّره من لا يفقَه حقيقةَ الإسلام، إنّما هو سموٌّ بالنّفس، طهارةٌ للقلب، مكارِم أخلاق. إنّ التديُّن يجعل للحياةِ معنًى ساميًا وهدفًا عاليًا ونعيمًا لا يدانيه نعيمٌ إلاّ نعيم الجنّة.
لقد شوِّهت حقيقةُ التديُّن بممارساتِ تُجّار الدّين الذين جعلوا الدينَ شعارًا للابتزاز والتكسُّب، وهذا أصابَ الدينَ في الصّميم وصرفَ عن الدّين الحقّ، قال رجل من المسلمين لعالمٍ من التّابعين: كيف رأيتَ أصحابِي؟ قال: "أرى صلاةً كثيرة وصيامًا، ولكنّي لا أرى عليهم نورَ الإسلام"، وسأل رجلٌ الفضيلَ بن عياض: لِم كان كلام السّلف الصالح أنفعَ من كلامنا؟ قال: "لأنّهم تكلَّموا لعزِّ الإسلام ونجاةِ النفوس ورضا الرحمن، ونحن نتكلّم لعزِّ النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق" [2] ، حتّى الكلام دخلت عليه الصّناعة، قال عليّ بن الفضيل بن عياض رحمه الله : يا أبتِ، ما أحلى كلامَ أصحابِ محمد ! قال: "يا بنيّ، أوَتَدري لِم حَلاَ؟" قال: لا يا أبت، قال: "لأنّهم أرادوا به اللهَ تبارك وتعالى" [3].
يجِب أن تميّزَ الأمّة بين التديُّن الذي يمثِّل وسطيةَ الدين وبينَ المناهج والأفكار التي سلكت غيرَ سبيل المؤمنين كما تميّز بين الصّورة والحقيقةِ. هناك من يفهَم الدّين على أنّه مجرّدُ مظاهرَ وشكلياتٍ ومجموعة من الطّقوس، ويقيسون تديّنهم وتديُّنَ الآخرين بالحِفاظ على هذه الشّكليات، أمّا جوهرُ الدين وترجمته إلى سلوكٍ في الحياة فهذه أمورٌ لا تشغَل بالَ هؤلاء الذين جعلوا من الدّين جسدًا بلا روح ولفظًا بلا مضمون.
إنّ الدينَ الحقيقيّ لا يأبَه بالشّكليات، لا يعوِّل على المظهريّة، قال : ((إنّ الله لا ينظر إلى صورِكم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالِكم)) أخرجه مسلم [4].
والتّقوى محلُّها الصّدر، وقد نظر عمر بن الخطاب إلى رجلٍ مُظهِرٍ للنّسك متماوتٍ، فضربه بدرّته قائلاً: (لا تُمِت علينا دينَنا) [5]. هذا التديُّن الصناعيّ الظاهريّ لا تنهضُ به حياةٌ ولا يرشُد به مجتَمَع.
لم تكن مهمّتُه أن يلتوَ على النّاس كتابَه فحسب، فإنّ رسالتَه يستحيل أن تتمَّ بجملةٍ من الأحكامِ والعلوم يشحن بها عقولَ السامعين، كما أنّ البشرَ لا يبلغون كمالَهم وصلاحَهم بالمعرفةِ المجرّدة، وإنّما بإقرار الفضائلِ وإطفاء الرّذائل وتربيةِ النفوس على الحقِّ والخير، وهذه تتطلّب جُهدًا ومجاهدةً وزمنًا.
شتّان ما بين تديُّن حقيقيٍّ وتديّن مظهريّ، قال : ((إنّ الرجل ليعمل عملَ أهل الجنّة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإنّ الرجلَ ليعمل عملَ أهل النّار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنّة)) متفق عليه [6]. هذا الحديث يصِف ضروبًا من النّاس، تخالف ظواهرُ أحوالهم خفايا نفوسهم.
تلمحُ في أهلِ الدّنيا رجالاً تحسبُهم مغرقين في حبِّها، فإذا دقّقتَ النظرَ في طويّتهم سطعَت بحبِّ الله والشوق إلى لقائِه، وقد تلمَح في أهل الدّين رجالاً عليهم سِيما الصّالحين وإخباتُ المنيبين، فإذا رجعتَ الطّرفَ وجدتَ رغبةً في الحياة وحِرصًا على زُخرفها. إنّ هؤلاء وأولئك تناقِض ظواهرهم بواطنَهم.
إخوةَ الإسلام، يجِب أن يُغرَس التديُّن على علمٍ صحيح وفهمٍ سليم من القرآن الكريم والسنّة النبويّة لنقضيَ على المفاهيم المغلوطَة عن التديّن، خاصةَ من يزعم بلسانِ الحال أو المقال أنّ التديُّنَ عاملٌ رئيسيّ في بروز مظاهرِ الغلوّ والتطرّف. ألم يكن أنبياء الله ورسلُه في أعلى مقامات التديُّن؟! فهل نسِمُهم بالتطرّف والغلوّ أو نجعلهم سببًا في نشوئه؟! حاشا وكلا ومعاذَ الله، كبُرت كلمةً تخرج من أفواههم.
هناك فئامٌ ضلّوا الطريقَ وخرجوا عن المنهَج الوسط، هؤلاء لا يمثِّلون الأمّة وليسوا حجّةً عليها، وعلى هذا فإنّ الاصطيادَ في الماء العكِر من بعض الأقلام وتعميمَ الأحكام على كلّ مؤمنٍ تقيٍّ منكَرٌ من القول وزور. انتقاصُ العلماءِ وتشويهُ شخصيّة المتديِّن والغمز واللمزُ للهيئات الشرعيّة واللِّجان الدائمة ونسبةَ أيِّ سلوكٍ خاطئ إليها ينبِئ عن خلَلٍ في الفِكر وسوء الطويّة.
إنّ هذا العملَ الذي يسخَرُ من الإسلام ويشوّه أهلَه والممتثِلين هديَه أنشأَ أجيالاً تشكر غيرَ المسلمين وتحترمهم، وتهاجِم الإسلامَ وتحتقر أهلَه. الذين يربطون أيَّ سلوكٍ منحرفٍ بالتديّن يقلِبون المفاهيم، ويزوِّرون الحقائق، ويضلّون الأمّةَ، ويرتكبون جرمًا في حقّ الإسلام وأهلِه. ونحن أمامَ جِيل جديدٍ يتطلّب الحالُ تقويةَ صلتِه بالدّين واعتزازه بالإسلام؛ لنضمنَ له قوةً وبقاء، وللمجتمع سلامًا وأمانًا.
قال: فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ?لْمُخْلَصِينَ [ص:82، 83].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (34) عن العباس رضي الله عنه.
[2] روي هذا من كلام حمدون بن أحمد القصار رحمه الله، رواه أبو نعيم في الحلية (10/231)، والبيهقي في الشعب (2/297)، وانظر: صفة الصفوة (4/122).
[3] أخرجه البيهقي في الشعب (2/299).
[4] صحيح مسلم: كتاب البر (2564) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] انظر: النهاية في غريب الحديث (3/370).
[6] أخرجه البخاري في الجهاد (2898)، ومسلم في الإيمان (112) عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله على إحسانِه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانِه.
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوَى الله.
إنّ الدينَ هو العلاج الناجعُ لمشكلاتِ الأمّة بجميع ضروبِها، قال تعالى: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
لقد دعا رسولُ الله إلى الإسلامِ دينًا قِيمًا ملَّةَ إبراهيمَ حنيفًا، وما دام هذا الصراطُ مستقيمًا فإنّه لا يضلّ سالكه ولا يُهدى تاركه، إذ ليس بعد الحق إلا الضلال، وليس أمامَ تاركِ النّور إلاّ الظّلمات، فَذَلِكُمُ ?للَّهُ رَبُّكُمُ ?لْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ ?لْحَقّ إِلاَّ ?لضَّلاَلُ فَأَنَّى? تُصْرَفُونَ [يونس:32].
إنّ أعظمَ مهمّةٍ في هذا العصرِ تغذيةُ منابع التديُّن، وترسيخُ العقيدةِ والمنهَج الوسَط، فالشبابُ بلا عقيدةٍ لا تطيب لهم حياةٌ ولا تستقيم أمورُهم، بل يجترِفهم التيّار أينما سار، فهو مرّةً متشدِّدٌ، وتارةً متردِّد، وطورًا متبدِّد، قليلُ الخيرِ لنفسِه ولمجتمعِه، قال تعالى: أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـ?هُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ?لنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ?لظُّلُمَـ?تِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا [الأنعام:122].
ألا وصلّوا ـ عبادَ الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلّم على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/2837)
حقوق الإنسان
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
18/10/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذكرى ما يسمى بإعلان حقوق الإنسان. 2- فشل الإعلان وضياع أبسط الحقوق الإنسانية للمسلمين. 3- المخدوعون من المسلمين يصدقون هذا السراب. 4- سبق الإسلام إلى تقرير حقوق الإنسان. 5- نماذج من ممارسة حقوق الإنسان في المجتمع المسلم. 6- تحريم المرور بين يدي المصلي. 7- بطلان التنازل عن حائط البراق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في سورة الحجرات: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، قبل يومين مرت ذكرى ما يسمى بيوم حقوق الإنسان، تلك الحقوق التي أعلنتها هيئة الأمم قبل خمسة وخمسين عاما، فقد أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة الاعتراف بكرامة الإنسان وبحريته وعدم سجنه ونفيه حينما يعبر عن رأيه، إلى آخر الديباجة المدونة في ملفات الأمم المتحدة.
أيها المسلمون، بمناسبة يوم حقوق الإنسان، لم تحتفل الأمم المتحدة بهذا اليوم في هذا العام كعادتها، بل مرت هذه المناسبة مروراً عابراً لماذا؟ لأن الأمم المتحدة قد شعرت بأن ما يعلن لم يطبق، وأن ما دوِّن بقي حبراً على ورق، والذي يبدو أن الأمم المتحدة قد خجلت أن تحتفل بحقوق الإنسان لكثرة المآسي والظلامات التي لاقاها ويلاقيها الإنسان الضعيف المشرد في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها، وأخذ العالم يشكل جمعيات للرفق بالحيوان بعد أن فشل في الرفق بالإنسان، وشعرت أن الأمم المتحدة قد هيمنت عليها أمريكا، فلم تعد هناك أمم متحدة.
أيها المسلمون، لا يزال العالم يتخبط في تشريعاته للقوانين الوضعية، ولا يزال بعض المسلمين المغفلين ممن يعتبرون أنفسهم مثقفين يلهثون وراء التقاليد الغربية والأفكار المستوردة ووراء الدولارات الخادعة، ولم يفهم هؤلاء بأن ديننا الإسلامي العظيم كان ولا يزال قادراً على حل المشاكل الإنسانية، وهو أول من حفظ للإنسان حقوقه وكرامته، وبيّن ما له وما عليه منذ خمسة عشر قرناً.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، جاء ديننا الإسلامي العظيم، وقرر أول ما قرر بأن العبودية لله وحده، وليس لأي مخلوق كان، وأن الإنسان مرتبط بربه ارتباطا مباشرا لقوله عز وجل: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً [النساء:36]، وهذا المبدأ قد شرحه الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، من خلال مخاطبته ليزدجر آخر ملك من ملوك الفرس حيث قال له: (لقد بعث الله فينا رجلا معروفا في حسبه ونسبه، وأصبح هذا الرسول فيما بيننا وبين رب العالمين، وأخرجنا من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام)، ثم وقعت القادسية فكان النصر فيها للمسلمين.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، لقد قرر ديننا الإسلامي العظيم قبل خمسة عشر قرناً بأن الإنسان مكرم لا مهان، لقوله عز وجل: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ [الإسراء:70]، ونظر الإسلام إلى الإنسان بأنه حر، وليس عبدا، وتمثل ذلك بقول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)، هذه العبارة الذهبية التي نطق بها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في وجه عمرو بن العاص والي مصر وقتئذ لماذا؟ لأن ابن عمرو قد اعتدى على المصري القبطي دون وجه حق، فأنزل عمر عقابه على المعتدي، فهذه عدالة الإسلام وهذه رعايته للإنسان، فأين كرامة الإنسان في أمريكا من هذه الحادثة الإنسانية؟
لقد شاهدتم عبر شاشات التلفاز قبل أيام قليلة كيف أن الشرطة الأمريكية قد ضربت أمريكياً أسوداً حتى الموت، ما ذنبه؟؟ لأنه إنسان أسود، وذلك على مرأى من الناس، فلو كان هذا الإنسان أبيضاً هل يضرب حتى الموت؟؟ فأين ما تسمى بجمعيات حقوق الإنسان التي تتلقى ملايين الدولارات؟ وأين جمعيات الرفق بالحيوان حتى ترفق بالإنسان.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، لقد منح الإسلام للناس حرية العقيدة بقوله عز وجل: لا إِكْرَاهَ فِى ?لدّينِ قَد تَّبَيَّنَ ?لرُّشْدُ مِنَ ?لْغَيّ [البقرة:256]، واعتبر ديننا الحنيف أن الناس جميعاً متساوون في الحقوق الإنسانية، وأن الأفضلية فيما بين الناس (المسلمين) تعتمد على التقوى، لقوله سبحانه وتعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13]، ولقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى)) [1] ، فأين هذه القيم الرفيعة فيما بين المسلمين اليوم، وقبل أن نسأل أو أن نلوم الشعوب والأمم الأخرى علينا نحن المسلمين أن نسأل أنفسنا وأن نحاسب أنفسنا لعدم التزامنا بهذه القيم السامية، فالعصبية الجاهلية الإقليمية والقومية قد أخذت منا كل مأخذ، فأين التقوى وأين الأخوة الإيمانية؟
أيها المسلمون، لقد منح ديننا الإسلامي العظيم حرية الكلمة وشجع على قول الحق والصدق لقوله سبحانه وتعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِى ?لاْمْرِ [آل عمران:159]، وفي آية أخرى وَأَمْرُهُمْ شُورَى? بَيْنَهُمْ [الشورى:38]. ولقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تُودع منها)) [2] ، فالرسول عليه الصلاة والسلام يحذر من السكوت على الظالم، وهذا هو الملاحظ في عصرنا الحاضر فقد انطبقت نبوءة الرسول عليه الصلاة والسلام على أمتنا الإسلامية التي تهاب وتخاف من الظالم، فلا تقول له: أنت ظالم، وفي حديث نبوي آخر: ((إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) [3] ، وقال الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيتُ الله فلا طاعة لي عليكم)، فأين حكام العالم الإسلامي اليوم من هذه المقولة السامية التي قيلت قبل خمسة عشر قرناً؟؟ (أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم).
أيها المسلمون، أسوق مثالين لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، المثال الأول: صعد عمر بن الخطاب مرة على المنبر فقال: (إن وجدتم فيّ اعوجاجاً فقوموني)، فيقف أعرابي قائلاً: والله لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بحدِّ سيوفنا، فلم يغضب عمر من قول الأعرابي ولم يعتقله، ولم يوجه له تهمة التآمر والخيانة، بل قال: (الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوِّم اعوجاج عمر).
المثال الثاني: يصعد عمر مرة أخرى على المنبر فيقول: (اسمعوا وأطيعوا)، فيعترضه رجل قائلاً: لا سمع ولا طاعة، فلم يتأثر عمر من هذه الاعتراض، ولم يغضب، بل استفسر قائلاً: (لماذا لا تريد السمع ولا الطاعة؟) فقال الرجل: إنك يا أمير المؤمنين تلبس رداءً فضفاضاً وإن قطع القماش التي قسمتها علينا لا تكفي الواحد منا، فمن أين لك هذا الرداء الفضفاض؟؟ فتبسم عمر وقال لابنه عبد الله: أخبر هذا الأعرابي من أين الرداء الذي ألبسه، فأخبر عبد الله: لقد تبرعت بحصتي لوالدي، فضم حصته إلى حصتي، فأصبحتا ثوباً فضفاضاً.
وحين تبينت الحقيقة الواضحة لهذا الرجل قال: الآن نسمع ونطيع، وقال عمر قولته المشهورة: (لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها).
أيها المسلمون، هذا هو دينكم العظيم، دين العدل، دين الحرية، دين الحضارة، دين الإنسانية، هذا دينكم الذي يحفظ للمواطن كرامته وماله وعِرضه، وأعطاه حقوقه ومنحه حرية الكلمة، وشجعه على قول الحق والصدق، فعودوا إلى دينكم في هذه الحياة، وفي الآخرة فهو منجاكم، وهو نصركم، جاء في الحدث الشريف: ((من أعطى الذلة من نفسه طائعاً غير مكره، فليس مني)) [4] صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[1] أخرجه أحمد (5/411)، والحارث بن أبي أسامة في مسنده (زوائد الهيثمي 1/193) عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وسمّاه الطبراني في الكبير (18/12)، العداء بن عمرو رضي الله عنه. قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، مجمع الزوائد (3/266)، وصححه الوادعي في الصحيح المسند من أسباب النزول (1536).
[2] أخرجه أحمد (2/189)، والحارث بن أبي أسامة في مسنده (زوائد الهيثمي 2/763)، والحاكم (4/108) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وضعفه البيهقي بقوله: محمد بن مسلم هذا هو أبو الزبير، ولم يسمع من عبد الله بن عمرو بن العاص. السنن الكبرى (6/95)، وضعفه أيضاً الألباني في ضعيف الترغيب (1392).
[3] أخرجه أحمد (3/19)، وأبو داود في الملاحم، باب: الأمر والنهي (4344)، والترمذي في الفتن، باب: ما جاء أفضل الجهاد وكلمة عدل عند سلطان جائر (2174)، وابن ماجه في الفتن، باب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4011) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وصححه الحاكم (4/551)، والألباني في السلسلة الصحيحة (491)، وصحيح سنن ابن ماجه (3240)، وأخرجه النسائي في البيعة، باب: فضل من تكلم بالحق عند إمام جائر (4209)، عن طارق بن شهاب رضي الله عنه، وصححه الضياء في المختارة (8/110-116).
[4] أخرجه الطبراني في الأوسط (1/151)، عن أبي ذر رضي الله عنه، وعزاه الهيثمي للطبراني، وقال: فيه يزيد بن ربيعة الرحبي وهو متروك. مجمع الزوائد (10/248)، وضعفه أيضاً الألباني في السلسلة الضعيفة (310)، وضعيف الترغيب (1062، 1886).
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلاة وسلام دائمين إلى يوم الدين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم على آل سيدنا إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المصلون، قبل البدء في موضوع الخطبة الثانية، أشير إلى مسألة فقهية تتعلق بالمرور بين يدي المصلي، لقد لوحظ مؤخراً وبخاصة أيام الجمع بأن المصلين يقطعون صلاة بعضهم بعضاً، وذلك من خلال المرور بين يدي المصلي، وكأن هذا المرور أصبح شائعاً ومعتاداً، وكأن الناس يشعرون أنهم في سجن، ويريدون الخروج من المسجد بسرعة، ولا ينتبهون للحكم الفقهي حيث نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن المرور بين يدي المصلي، من خلال عدة أحاديث نبوية شريفة، وعليه ينبغي للشخص حين الانتهاء من صلاته للسنة البعدية أن يلتفت خلفه، ليتأكد أن الذي وراءه قد انتهى من صلاته أم لا، ونأمل من إخوتنا المسافرين الذين يرغبون في الجمع والقصر مع العصر أن يتريثوا بعض الوقت ليتمكن المصلون من الانتهاء من صلاة السنة البعدية.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، في اليوم الذي نشرت فيه الصحف المحلية ما يسمى "بوثيقة جنيف"، في نفس اليوم نشر خبر حول البدء ببناء مستوطنة جديدة على جبل المكبِّر، هذا الجبل الذي كبَّر عليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وسميت هذه المستوطنة المستعمرة "بالمنظر الذهبي"، لأنها تطل على المسجد الأقصى المبارك من الجهة الجنوبية، كما نشر خبر آخر في اليوم نفسه، بأن سلطات الاحتلال عازمة على مواصلة بناء الجدار الفاصل العنصري اللا أمني، فماذا ينتظر أولئك الذين وقعوا على وثيقة جنيف؟؟ إنهم يتوهمون بأن الاحتلال الإسرائيلي سيتوقف عن مخططاته التوسعية، وعن القتل وسفك الدماء، وما جرى أمس في رفح يؤكد على ذلك، وعن الأساليب القمعية من الدمار والتخريب ونسف المنازل، ثم ماذا بقي من الأرض التي سيفاوضون عليها إذا أقرينا بوجود المستوطنات؟؟ ثم من فوضهم ليتحدثوا باسم اللاجئين؟؟ مع التأكيد على أن حق العودة هو حق شرعي لا يسقط مع مرور الزمان.
أيها المسلمون، من أعطى الحق لهؤلاء الذين وقعوا على الوثيقة اللعينة؟ من أعطاهم الصلاحية لتسليم حائط البراق لسلطات الاحتلال؟ وهل فرض الأمر الواقع يغير من الأحكام الشرعية؟ هذا الحائط الذي هو جزء من سور المسجد الأقصى المبارك، وهو وقف إسلامي من الناحية الشرعية، حتى إن عصبة الأمم التي تعتبر مؤسسة كافرة غير إسلامية، قبل ما يزيد عن سبعين عاماً، قد اعترفت بملكية حائط البراق للمسلمين، باعتباره وقفاً إسلامياً، وباعتبار أن هذا الحائط هو جزء من سور الأقصى، فالمؤسسات غير الإسلامية اعترفت، وأقرت بأن حائط البراق للمسلمين، ويأتي هؤلاء ليسلموه لليهود، ويطلقون عليه زوراً وبهتاناً "حائط المبكى"، هذا تصرف باطل ومخالف لأحكام الشريعة الإسلامية.
وعليه فإن هذه الوثيقة المزعومة غير شرعية، ولا نعترف بها، لا سابقاً، ولا لاحقاً، وسبق أن تعرضنا لهذا الموضوع مرتين في يوم عيد الفطر، وكذلك قبل ذلك بشهر، كما يرفض المسلمون سائر المبادرات المحلية والدولية التي تمس حق شعبنا في العودة إلى أرضه أو تساوم على القدس ومقدساتها.
أيها المسلمون، سيظل أبناء أرض الإسراء والمعراج أوفياء لبلادهم التي باركها الله وقدسها وقرر إسلاميتها مهما طالت مدة الاغتصاب والاحتلال والاستعمار، هذه الأرض التي ورثناها، أمانة غالية عن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ويتوجب على شعبنا الفلسطيني المرابط المزيد من الترابط والتعاون ورصّ الصفوف ووحدة الموقف للمحافظة على مقدساته ومقدراته وحقوقه المشروعة، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
(1/2838)
التحذير من فتنة المال
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
18/10/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بطلب الرزق. 2- عظم خطورة فتنة المال. 3- السؤال عن المال يوم القيامة. 4- مفاسد المال الحرام وأضراره. 5- ضرورة على التدقيق في المحاسبة. 6- فضل الخازن الأمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله وأطيعوه، وعظِّموا أوامرَه ولا تعصوه، وراقبوا أمرَه ونهيَه مراقبةَ من يخاف الله ويرجوه.
أيّها المسلم، إنّ اللهَ جلّ وعلا يقول في كتابه العزيز: هُوَ ?لَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ?لأَرْضَ ذَلُولاً فَ?مْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ?لنُّشُورُ [الملك:15]، ويقول: فَ?بْتَغُواْ عِندَ ?للَّهِ ?لرّزْقَ وَ?عْبُدُوهُ وَ?شْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت:17].
فأمَر المسلمَ بطلب الرّزق، أمره أن يسعَى في طلب الرّزق، فطلبُ الرزق لا بدَّ له من أسباب، والله جلّ وعلا قدّر الأسباب، وهو المالك لها والمدبِّر لها، فعلى العبدِ أن يأخذَ بكلِّ سببٍ نافع يوصلُه إلى تحقيق أمانيه بتوفيقٍ من الله.
والله جلّ وعلا أمَر رسلَه بقوله: ي?أَيُّهَا ?لرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَ?عْمَلُواْ صَـ?لِحًا إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]. فتأمّل ـ أخي ـ هذه الآية، أمرٌ للرّسل أن يأكلوا من الطيّبات، وما هي الطيّبات؟ هي الأمور المباحات التي أباحها الله لنا وهيَّأها لنا ورزقنا إيّاها. الطيِّب كلُّ أمرٍ مباح، وكلّ طيِّب أيضًا أن تصِل إلى الحصولِ عليه بالأسباب التي أذِن الله فيها شرعًا. وَ?عْمَلُواْ صَـ?لِحًا ، أمرَهم بالعمل الصّالح بعد الأكلِ من الطيّبات؛ لأنّ الأكلَ الطيّبَ الخالي من الحرام المباحَ في ذاته الذي حصل عليه بالأسباب الشرعيّة التي أذِن الله فيها هو الذي يُعين على العمل الصالح، فالمكاسب الطيّبة المباحةُ سببٌ لقوّة الإيمان في القلب، وسببٌ لقيام الجوارح بما أوجَب الله. وخاطَب عبادَهُ المؤمنين بما خاطب به أنبياءَه المرسلين، فقال وهو أصدق القائلين: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـ?كُمْ وَ?شْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]، فأمرنا أن نأكلَ من طيّبات ما أباح لنا، ولا يتمّ ذلك إلاّ إذا حصلنا عليها بالأسباب التي أذن الله فيها شرعًا.
أيّها المسلم، إنّ فتنةَ المال فتنةٌ لكلِّ مفتون إلاّ من عصَم الله. إنّ حبَّ المال غريزةٌ في نفس العبد، وَتُحِبُّونَ ?لْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، وَإِنَّهُ لِحُبّ ?لْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، وهو زينةٌ في هذه الدنيا، ?لْمَالُ وَ?لْبَنُونَ زِينَةُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا [الكهف:46]، ولكن سبيلُ الحصول عليه يختلف من إنسانٍ إلى آخر، فالمؤمن الذي يتّقي اللهَ ويخاف اللهَ ويرجو ثوابَ الله يسلُك في سبيل الحصول على الرزق المسالكَ الطيّبة والأسبابَ المأذون فيها شرعًا، حتى يكون تناوله لهذا المال بالطريق الذي أذِن الله له فيه، هكذا يكون المؤمنُ حقًّا، لا يخدعه المالُ، ولا تغرّه الدنيا بزخارفها، فيوقع نفسَه في الحرام، وإنّما لديه إيمانٌ يردعُه وورعٌ يحميه، إيمانٌ قويّ في قلبه لا يمكِن أن تزعزعَه زخارف الدّنيا ولذّاتها، ولكن يقِف موقفَ المؤمن التقيّ عند أيِّ مكسَبٍ يريدُه، فإن تكن تلك المكاسب مكاسبَ طيّبة مكاسبَ أَذن الله فيها سلكَها وسار عليها، وإن تكن مكاسبَ خبيثة ابتعد عنها وتركها، قُل لاَّ يَسْتَوِى ?لْخَبِيثُ وَ?لطَّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ?لْخَبِيثِ [المائدة:100]. فهو لا يغترّ بالمكاسب الخبيثةِ ولو كان وراءها الأرباحُ الكثيرة، لا ينخدع بها ولا يغترّ بها، لماذا؟ لِعلمه أنّ الله حرَّم ذلك عليه، ولعلمِه أنّ الله سيحاسِبه ويجازيه على ذلك.
أيّها المؤمن، لا يحملنَّك حبُّ الدّنيا على أن تسلكَ فيها الطرقَ السيّئة والحيَل الخبيثة لكي تصلَ إلى هذا المال من غير مبالاةٍ أمِن حلال أم من حرام.
أيّها المسلم، إنّك مفارقٌ الدّنيا ولا بدّ، وسيسألك الله عن هذا المالِ: من أين أتاك؟ وعن هذا المال: فيم أنفقتَه؟ فإن يكن وصولُ هذا المال إليك بطريقٍ أذِن الله فيه شرعًا فنِعم المال الصّالح للرجل الصالح، وإن كان وصولُ هذا المال بالطّريق المحرَّم فإنّ ذلك لا خيرَ فيه. ثمّ سيسألك على الإنفاق: هل أنفقتَه في وجوهِ الخير، أم أنفقته فيما يصدّك عن سبيل الله وفيما يثقِّل أوزارك يومَ القيامة؟
أيّها المسلم، إنَّ هذا المالَ فتنةٌ، فتنة وحقًّا أن يكون فتنة، فهو فتنةٌ لكلِّ مفتون، فتنةٌ سواء في طلبِه وجمعِه، فتنة في جمع هذا المال وتنميتِه، فتنةٌ في التكاثر والمباهاة به، فتنةٌ في إنفاقه، فالموفَّق يكون جمعُه للمال من طريق شرعي، ثمّ إذا حصل على هذا المال لا يحملهُ المال على الأشر والبطَر والطغيان، كَلاَّ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَيَطْغَى? أَن رَّءاهُ ?سْتَغْنَى? [العلق: 6، 7]. ثم ينفقه فيما يقرِّبه إلى الله من نفقاتٍ واجبة وزكاةٍ مفروضة وأمور برٍّ تقرّبه إلى الله ويثقل بها ميزانُه يومَ قدومه على الله.
أيّها المسلم، إنّ هذا المالَ بلاءٌ وامتِحان، بلاءٌ لإيمانك، بلاء ليقينِك، فالمؤمن يتخلَّص من هذا البلاء بالطّريق المشروع، ويتخلَّص من بلائه بإنفاقه في الطّرق المشروعة وأداءِ حقِّ الله الواجب فيه.
أيّها المسلم، كم من إنسانٍ جمَع الأموال من طرقٍ شتَّى، لا يبالي من حلالٍ أتته أو من حرام، يرحَل عنها ويندَم ولا ينفعه النّدم، يندم حينما يعايِن ملكَ الموت، وحينما يدنو رحيله من هذه الدنيا، فيتذكّر تلك الأموال التي جمعها وكدّسها من طرقٍ شتّى ملتويَة لا خيرَ فيها، فيندم ويتمنّى أن يعودَ ليصحِّح وضعَه ولا ينفعه ذلك. دنيًا جمعَها، عليه غرمُها، ولغيره غُنمها، عليه إثمها، ولغيره مصلحتُها ومنفعتها.
فاتّق الله ـ أخي المسلم ـ في مالك، اتّق الله فيه تقوًى تقيك عن محارم الله.
أيّها المسلم، إنّ هذا المالَ الحرام لا خيرَ فيه، ولا منفعةَ فيه، إن أنفقتَ منه لم تؤجَر عليه، إن تصدّقتَ منه لم تُقبل صدقتك، إن أمسكته لم يبارَك لك فيه، إن دعوتَ اللهَ وأنت تأكل الحرامَ لم يستجِب الله دعاءك، إن خلّفته وراءك خلّفت وراءك النّار والبلاء، وانتفع به من انتفع، وتحمّلتَ الأوزارَ والآثام.
فيا أخي المسلم، اتّق الله في نفسك، اتّق الله في هذا المال، في الحديث يقول : ((لكلّ أمّة فتنة، وفتنةُ أمّتي بالمال)) [1] ، وأخبرنا أنّه يأتي على النّاس زمان لا يبالي الرجلُ اكتسبَ من حلال أو من حرام [2]. حقًّا إنّ هذا خبرُ صِدق، فكم من عبادِ الله من لا يبالي بمكاسبِه؛ يأكل الرّبا، ويستبيح الرّشوة، ويظلم الناسَ، ويجحد الحقوق، ويغشّ ويدلّس ويخدع ولا يبالي بذلك، يأكل الرّبا، ويستحلّ الرّشوة، ويجحَد الحقوق، ويخون الأمانة، ويتوسّل إلى المال بأيّ سبيل أمكنه، الحرامُ ما عجز عنه، والحلال ما حلّ بيده، لا يبالي ولا يتّقي ولا يرعوِي ولا يهتمّ بذلك، فأين الإيمان بالله؟! وأين الإيمان بلقاءِ الله؟!
إنّك ـ أيّها المسلم ـ حينما تقدم على أكلِ الحرام، حينما تُعامل بالرّبا، وحينما تستحلّ الرشوة، وحينما تجحَد الحقوق، وحينما تغشّ وتدلّس، وحينما تخون الأمانة، وحينما تسوء معاملتك في المال أين إيمانك الذي يردعُك؟! أين إيمانك الذي يحجزك عن هذا الحرام؟! فاتّق الله في نفسِك، وتتدبّر أمرَك قبل لقاء ربّك.
أمّا المؤمن الذي يخاف اللهَ ويرجوه فهو الذي يأخذ المال من حِلّه، ويضعه في محلِّه، إن أكَله أُجِر عليه، إن تصدّق قُبِلت صدقتُه، إن أمسكه بورك له فيه، إن دعا الله أجاب الله دعوتَه، إن خلّفه خلّف وراءه خيرًا وعاش مَن بعده في سعادة ونعمةٍ من الله.
أيّها المسلم، كيف ترضى أن تخلِّف لمن بعدك مكاسبَ خبيثة، جنَيتها من طرقٍ خبيثة، لا تبالي ولا تستحي ولا تخجَل من الله، فتؤكِّل مَن بعدك حرامًا، تخلِّف لهم الحرامَ من مكاسبَ خبيثة وبيوعاتٍ محرّمة، من مخدّرات وأمورٍ حرّم الشارع بيعَها. فاتّق الله في نفسك، اتّق الله في مكسَب المال، لا تكتسبه إلاّ من طريق الحلال. إيّاك والرّبا والرّشى، إيّاك والخيانةَ، إيّاك والغشّ، إيّاك والخداع، إيّاك وبيعَ الأمور التي حرّمها الشارع عليك، فإنّ اللهَ حرّم عليك بيوعاتٍ محرّمة، فاتّق الله في نفسِك، وإيّاك أن تقدمَ عليها، بل ليكُن عندك خوفٌ من الله وورعٌ واتقاءٌ للمشتبِهات، حتّى تسلَم على دينك، فمن اتّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضِه، ومن وقع في الشّبهات وقع في الحرام.
نبيّنا يقول: ((لا الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُفتحَ عليكم الدّنيا فتنافسوها، فتهلككم كما أهلكت من قبلكم)) [3].
فابتغِ الرزقَ بالطّرق الحلال، وأجمِل في الطلب، ولا يحملنّك حبُّ المال على أن تطلبَه بمعاصي الله، فما عند الله لا يُنال إلا بطاعتِه، والرّزق المكتوبُ لك لا بدَّ آتيك، يطلب العبدَ رزقُه كما يطلبه أجلُه، فخُذ بالأسباب النّافعةِ، خذ بالأسباب المباحة، ليكن بيعُك واضحًا، وليكن تعاملك صحيحًا، ولتكن كلُّ معاملاتِك على وفق ما شرع الله، لتكونَ من المتقين. اسمَع نبيّك وهو يقول: ((إن الله طيّب لا يقبل إلا طيّبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَ?عْمَلُواْ صَـ?لِحًا [النحل:51]، وقال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـ?كُمْ [البقرة:172])) ، ثم ذكر النبيّ الرجلَ يطيل السّفر، أشعَث أغبَر، يمدّ يديه إلى السماء: يا ربّ، يا ربّ، يا ربّ، قال: ((ومطعمُه حرام، وملبسه حرام، وغذّي بالحرام، فأنّى يُستجاب لذلك؟!)) [4]. أنّى يستجاب لذلك معناه: أنّ هذا أتى بالأسباب التي يُرجَى بها قبولُ الدعاء مِن كونه مسافرًا ودعاءُ المسافر مستجاب، مِن كونه رافعًا يدَيه، مِن كونه مستعينًا لربّه، لكن أكلُ الحرام حال بينه وبين قَبول دعائه، أيُّ مصيبةٍ أعظم من أن يردَّ الله دعاءك ولا تنتفع من دعائك؟!
فاحذَر ـ أيّها المسلم ـ أكلَ الحرام، حاسِب نفسَك في الدنيا، عُد إلى نفسك، وقيّم أموالَك، واتَّق الله في الحرام فلا خيرَ فيه، ولا تخلّفه لمن قد ينتفع به، وتحمِل أنت الآثامَ والأوزار، وتلقى الله بالتّبعات يومَ قدومِك على الله، يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ [عبس:34-36]، ولا يرحمُه إلا الله باريه. فاتّق الله في نفسِك، ولا تغرّنّك الدنيا ولا تخدَعنّك مكاسبُها، قِف عند نفسِك، وحاسِب نفسَك عند كلِّ صفقةٍ تجاريّة؛ أفيها حرامٌ أم لا؟ اتّق الله في المعاملات، واتّق الله في الرّبا، وكن بعيدًا كلَّ البعد عنه، لتكون من المؤمنين حقًّا. إيّاك والخداعَ والغشَّ وظلمَ العباد وخيانتهم، إيّاك والكذب وكتمَ العيوب، إيّاك وإيّاك من كلّ ما حرّم الله عليك. هذا هو الواجب على المسلم الذي يخاف الله ويرجوه.
قال الله جلّ وعلا: ي?أَيُّهَا ?لرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَ?عْمَلُواْ صَـ?لِحًا إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (4/160)، والترمذي في الزهد (2336)، والطبراني في الكبير (19/179) عن كعب بن عياض رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وصححه ابن حبان (3223)، والحاكم (7896)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (592).
[2] أخرجه البخاري في البيوع (2059، 2083) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في المغازي (4015)، ومسلم في الزهد (2961) عن عمرو بن عوف رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في الزكاة (1015) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، سعد بن أبي وقّاص أحدُ السابقين الأوّلين، وأحدُ أهلِ بدر وبيعةِ الرضوان، وأحد العشرةِ الذين شهد لهم الرّسول بالجنّة، وأحد الستّة الذين توفّي النبيّ وهو عنهم راضٍ بشهادةِ عمر رضي الله عنه [1] ، قال: يا رسولَ الله، ادعُ الله أن يجعلني مجابَ الدّعوة، قال: ((يا سعدُ، أطِب مأكلَك تُستجَب دعوتُك. فوالذي نفسي بيده، إنّ العبدَ ليقذف باللّقمةِ من الحرام في جَوفه ما يقبَل الله منه عملاً أربعين يومًا، وكلّ لحمٍ نبَت من سُحتٍ فالنّار أولى به)) [2].
فيا أخي المسلم، قِف عند نفسِك وقفةَ المحاسِب المدقِّق النّاظرِ في مآله وما سيؤول أمرُه إليه، حاسِب نفسك، ونقِّ مكاسبَك، فالمكاسب الطيّبة تعينك على فعلِ الخير، تكون سببًا للِين قلبك، وسببًا لصلاح عملك، وسببًا لاستقامتِك في كلّ أحوالك. أمّا المكاسب الخبيثة فإنّه يُحال بينك وبين إنفاقها في الخير، فتنفِقها سرفًا أو تبذيرًا، وتباهي بها، وترائي بها، وتكون سببًا لسخَط الله عليك واقتحامِك لمحارم الله.
فاتّق الله ـ يا أخي ـ في نفسك، اتّق الله في هذا المال، فإنّ الأموالَ الخبيثة لا بدّ أن تعودَ على أهلها بالوبال، لا بدّ أن تعودَ على أهلها بالأمراضِ الخطيرة، بالأمراض الفتّاكة، لا بدّ أن يكونوا في شقاءٍ في حياتِهم مهما كثُرت أموالهم، فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْو?لُهُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ?للَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَـ?فِرُونَ [التوبة:55]. يعذَّبون في الدّنيا بجمعها، يُعذَّبون بالشّقاء عليها، يُعذّبون أن لا يوَفَّقوا لخيرٍ فيها، يُعذَّبون أن تكونَ الأشياء الصالحة ثقيلةً عليهم والإنفاقُ في المحرّمات يسيرًا عليهم، لو طُلب ريالٌ في حلال لثقُل عليهم، ولو طُلبَت الملايين في الحرام لجادوا بها والعياذ بالله، فهم ينفقون في الحرام، في معاصي الله، فيما يبعِدهم عن الله؛ لأنّ هذا المال الحرامَ قسَّى القلوبَ وأثقلَ الخيرَ عليها وحالَ بينها وبين الخير.
يا أخي المسلم، المكاسبُ الخبيثة لا خيرَ فيها، المالُ الذي لم تُؤدَّ زكاته فإنّه مالٌ خبيث، المال الناتج من المعاملات الرّبويّة مالٌ خبيث، المال الذي أُخِذ غلولاً واستغلالاً للأموال العامّة مالٌ خبيث، الأموال التي يأخذها بعض المخادِعين والمكّارين الذين يظلِمون الناسَ حقوقَهم ولا يعطونهم إلى أن يتنازلوا عن بعضِها أو معظمِها، كلّ هذه مكاسبُ خبيثة، كلّ درهم دخل مالك من غير حلِّه فاعلم أنّه حرام عليك. اتّق الله في مكاسبِك، وحاسِب الأموالَ قبل أن تُحسَبَ عليك، وقبل أن تلقى اللهَ بالتّبعات، فتندم ولا ينفعك النّدم. راقبِ الله، وخَفِ الله، فإنّ الأمر قد يأتيك فجأة وأنت لم تعُدَّ حسابَك ولم تقيّم أموالك، فتلقى الله بالتبعات.
أسأل الله أن يطهِّر مكاسبَنا من كلّ خبيث، وأن يكفيَنا بحلاله عن حرامه وبطاعتِه عن معصيته وبفضله عمّن سواه، إنّه على كلّ شيء قدير.
أيّها المسلم، إنّ النبيّ قال: ((الخازن المسلم الذي يؤدِّي ما أمِر بتأديتِه كاملاً موفَّرًا مع طيب نفسِه أحدُ المتصدّقين)) [3]. فسمَّى الخازنَ الذي اؤتمن ثم نفّذ ما اؤتمن عليه طيّبةً به نفسُه من غير مِنّةٍ كأنّه متصدّق على الغير. هكذا الدّين، فكيف بمن كانوا على الأموال، لا يعطون الناسَ حقوقَهم إلى أن يظلموهم ويقتطِعوا جزءًا منها، ويراوغون ويأتون بالحِيَل الشتّى، حتى يتعبَ من له الحقّ، فيخضَع لطلبهم لحاجتِه، فلا يعطونَه إلاّ نصفَ ما يستحقّ أو أقلّ أو أكثر، بماذا استحللتَ هذا المال؟ أنت خازن مأمورٌ بأن تؤدّيَ ما طُلبَ منك وما أُمرتَ بتسليمِه، فكونُك تمارِس الضغطَ على المستحقّين وتتعِبهم حتّى يتنازلوا عن بعضِ حقوقِهم لأجلِ أن تأخذَه فهذا المال الذي أخذتَه اعلم أنّه حرام عليك؛ لأنّك أخذتَه بغير حقّه.
فليتّق المسلمون ربَّهم، وليحذروا من الغلول واستغلال النّاس بأمورٍ غير مشروعة، عافانا الله وإيّاكم من المصائب.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد امتثالاً لأمر ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرج ذلك البخاري في الجنائز (1392)، ومسلم في المساجد (567).
[2] أخرجه الطبراني في الأوسط (6495) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأشار المنذري في الترغيب (2/345) لضعفه، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص100): "إسناده فيه نظر"، وقال الهيثمي في المجمع (10/291): "فيه من لم أعرفهم"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1071).
[3] أخرجه البخاري في الزكاة (1438)، ومسلم في الزكاة (1023) عن أبي موسى رضي الله عنه بنحوه.
(1/2839)
حلاوة الإيمان
الإيمان
فضائل الإيمان
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
25/10/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أصناف الناس في هذه الحياة. 2- فضل الإيمان وحلاوته. 3- منافذ الوصول إلى حلاوة الإيمان. 4- أثر صحة الإيمان على الحياة. 5- أثر ضعف الإيمان وفقدانه. 6- شقاء أصحاب الحضارة المادية المعاصرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فتقواه خيرُ زاد، وهي نِعم العدّة ليوم المعاد، فاتّقوا الله حيثما كنتم، وقوموا بالأمرِ الذي من أجلِه خُلِقتم، وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـ?كُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].
أيّها المسلمون، يجِد المتبصِّر في أمور الحياةِ وشؤون الأحياءِ يجِد فئاتٍ مِن النّاس تعيش ألوانًا من التعبِ والشقاء، وتنفث صدورُها أنواعًا مِن الضّجَر والشّكوى، ضجرٌ وشقاء يعصِف بالأمانِ والاطمِئنان، ويُفقِد الراحةَ والسعادة، ويتلاشى معه الرّضا والسّكينة، نفوسٌ منغمِسةٌ في أضغانِها وأحقادِها وبؤسِها وأنانيّتها.
ويعود المتبصِّر كرّةً أخرى ليرَى فئاتٍ من النّاس أخرى قد نعِمت بهنيءِ العيش وفُيوض الخَير، كريمةٌ على نفوسها، كريمة على النّاس، طيّبة القلبِ سليمة الصدر طليقة المحيَّا.
ما الذي فرّق بين هذين الفريقين؟ وما الذي باعَد بين هذين المتباعِدين؟ إنّه الإيمان وحلاوةُ الإيمان، ((ذاق طعمَ الإيمان من رضيَ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد رسولاً)) حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد ومسلم وغيرهما من حديث العبّاس بن عبد المطلب [1] ، كما أخبر عليه الصّلاة والسلام أنّ ثلاثًا مَن كنّ فيه وجَد حلاوةَ الإيمان: أن يكونَ الله ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبّه إلاّ الله، وأن يكرهَ أن يعودَ في الكفر بعد إذ أنقذَه الله منه كما يكرَه أن يقذَف في النّار. مخرّج في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه [2].
أيّها الإخوةُ في الله، للإيمان طَعمٌ يفوق كلَّ الطعوم، وله مذاقٌ يعلو على كلّ مذاق، ونشوةٌ دونَها كلُّ نشوة. حلاوةُ الإيمان حلاوةٌ داخليّة في نفسٍ رضيّة وسكينة قلبيّة، تسري سَرَيان الماءِ في العود، وتجري جَرَيان الدّماء في العروق، لا أرَقَ ولا قلق، ولا ضِيق ولا تضيِيق، بل سعَةٌ ورحمة ورضًا ونعمة، ذ?لِكَ ?لْفَضْلُ مِنَ ?للَّهِ وَكَفَى? بِ?للَّهِ عَلِيمًا [النساء:70]، ذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الحديد:21].
الإيمانُ بالله هو سكينةُ النّفس وهداية القلب، وهو منارُ السّالكين وأمَل اليائسين وأمانُ الخائِفين ونُصرة المجاهدِين، وهو بشرَى المتّقين ومِنحَة المحرومين. الإيمانُ هو أبو الأمَل وأخو الشّجاعة وقرينُ الرجاء، إنّه ثقةُ النّفس ومجدُ الأمّة وروحُ الشعوب.
وأوّلُ منافِذ الوصولِ إلى حلاوةِ الإيمان وطَعم السّعادة الرّضَا بالله عزّ وتبارك ربًّا، ربًّا مدبّرًا، فهو القائمُ على كلّ نفسٍ بما كسبَت، رحمنُ الدنيا والآخرة ورحيمُهما، قيّوم السماوات والأرضين، خالق الموتِ والحياة، مُسْبغُ النِّعم، مجيب المضطرّ إذا دعاه، وكاشف السّوء أَعْطَى? كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى? [طه:50]، سوّى الإنسان، ونفخ فيه من روحِه، أطعمَه من جوع، وكسَاه من عُري، وآمنه من خَوف، وهداه مِن الضّلالة، وعلّمه من بَعد جَهالة.
إيمانٌ بالله تستسلِم معه النّفس لربّها، وتنزع إلى مرضاتِه، تتجرّد عن أهوائِها ورغباتِها، تعبدُه سبحانَه وترجوه وتخافه وتتبتّل إليه، بِيده الأمرُ كلّه، وإليه يُرجَع الأمر كلّه. رضًا بالله ويقين يدفَع العبدَ إلى أن يمدّ يديه متضرِّعًا مخلِصًا: "اللهمّ إنّي أعوذ برضاك من سخَطك، وبمعافاتك مِن عقوبتِك، وبك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنتَ كما أثنيتَ على نفسِك".
ومذاقُ الحلاوة الثّاني ـ يا عبادَ الله ـ الرّضا بالإسلام دينًا، دينٌ من عندِ الله، أنزله على رسوله، ورضيَه لعبادِه، ولا يقبَل دينًا سواه.
اسمَعوا إلى هذا التّجسيد العجيبِ للرّضا بدين الله؛ عضِب عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّةً على زوجته عاتِكة فقال لها: والله لأسوأنّك، فقالت له: أتسطيعُ أن تصرفَني عن الإسلام بعدَ إذ هداني الله إليه؟ فقال: لا، فقالت: أيّ شيء تسوؤني إذًا؟! الله أكبر، إنّها واثقةٌ مطمئنّة راضية مستكينة ما دام دينُها محفوظًا عليها حتّى ولو صُبَّ البلاء عليها صبًّا، بل إنّ إزهاقَ الروح مستطابٌ في سبيل الله على أيّ جنبٍ كان في الله المصرَع.
الإسلامُ منبَعُ الرّضا والضّياء، ومصدرُ السّعادة والاهتداء.
ومذاقُ الحلاوةِ الإيمانيّة الثالث الرّضا بمحمّد صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه رسولاً ونبيًّا. محمّدٌ النّاصح الأمين والرّحمة المهداة والأسوة الحسَنَة عليه الصلاة والسلام، فلا ينازِعه بشرٌ في طاعة، ولا يزاحِمه أحدٌ في حُكم، فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:65]. الرّضا بمحمّد اهتداءً واقتداء، وبسنّته استضاءةً وعملاً.
أيّها الإخوة، إذا صحَّ الإيمان ووقر في القلبِ فاضَ على الحياة، فإذا مشَى المؤمن على الأرضِ مشى سويًّا، وإذا سار سار تقيًّا، ريحانةٌ طيّبةُ الشّذى، وشامةٌ ساطعة الضّياء، حركاته وسكناتُه إيمانيّة مستكينة، ((فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمَع به، وبصرَه الذي يبصِر به، ويدَه التي يبطِش بها، ورجلَه التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه)) [3].
من ذاقَ حلاوةَ الإيمان طابَ عيشُه وعرف طريقَه، ومن عرف طريقَه سار على بصِيرة، ومن سارَ على بصيرةٍ نال الرّضا وبلغَ المُنى.
نَعم، يمضِي في سبيلِه، لا يبالي بِما يلقى، فبصرُه وفكره متعلِّق بما هو أسمَى وأبقى، يـ?أَيَّتُهَا ?لنَّفْسُ ?لْمُطْمَئِنَّةُ ?رْجِعِى إِلَى? رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً [الفجر:27، 28]، أَفَمَن شَرَحَ ?للَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ فَهُوَ عَلَى? نُورٍ مّن رَّبّهِ [الزمر:22].
هَل رأيتَ ـ رحمَك الله ـ زِيًّا ومنظرًا أحسنَ وأجمل من سَمت الصّالحين؟! وهل رأيتَ ـ وفّقك الله ـ تَعبًا ونصبًا ألذّ من نعاسِ المتهجّدين؟! وهل شاهدتَ ـ حفِظك الله ـ ماءً صافيًا أرقَّ وأصفى من دموع النّادمين على تقصيرهم ومتأسِّفين؟! وهل رأيتَ ـ رعاك الله ـ تواضُعًا وخضوعًا أحسنَ من انحناء الراكعين وجِباه السّاجدين؟! وهل رأيتَ ـ عافاك الله ـ جنّةً في الدّنيا أمتع وأطيب من جنّة المؤمن وهو في محراب المتعبِّدين؟! إنّه ظمأ الهواجِر ومجافاة المضاجع، فيا لذّةَ عيشِ المستأنسين. هذه حلاوتُهم في التعبُّد والتحنّث.
أمّا حلاوتُهم في سَبح الدّنيا وكدِّها وكدحِها فتلك عندهم حلاوةٌ إيمانيّة، تملأ الجوانِحَ بأقدار الله في الحياة، اطمئنانٌ بما تجري به المقادير، رضًا يسكن في الخواطِر، فيُقبِل المؤمن على دنياه مطمئنًّا هانئًا سعيدًا رضيًّا مهما اختلفت عليه الظروفُ وتقلّبت به الأحوال والصّروف، لا ييأس على ما فات، ولا يفرَح بطَرًا بما حصّل. إيمانٌ ورضًا مقرون بتوكّلٍ وثبات، يعتبِر بما مضَى، ويحتاط للمستقبَل، ويأخذ بالأسبابِ، لا يتسخّط على قضاءِ الله، ولا يتقاعَس عن العمل، يستفرغ جهدَه من غير قلَق، شعارُه ودثارُه: وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِ?للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88]. موقنٌ أنّ ما أصابَه لم يكن ليخطِئَه، وما أخطأه لم يكن ليصيبَه، لو اجتمع أهلُ الأرض والسماوات على نفعِه بغير ما كتِب له فلن يستطيعوا، ولو اجتَمَعوا على منعِه ممّا قدِّر له فلن يبلُغوا، لا يهلِك نفسَه تحسّرًا، ولا يستسلِم للخَيبة والخُذلان، معاذَ الله أن يتلمّس الطمأنينةَ في القعودِ والذّلّة والتّخاذل والكسَل، بل كلّ مساراتِ الحياة ومسالكِها عنده عملٌ وبلاء وخير وعدل وميدانٌ شريف للمسابقاتِ الشّريفة، جهادٌ ومجاهدة في رَبَاطة جأش وتوكّل وصبر، ظروف الحياةِ وابتلاءاتُها لا تكدِّر له صفاءً، ولا تزعزِع له صبرًا، ((عجبًا لأمر المؤمِن، وأمرُه كلّه خير، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرّاء صبر فكان خيرًا له، ولا يكون ذلك إلاّ لمؤمن)) [4].
بالإيمانِ الرّاسخ يتحرّر المؤمن من الخوفِ والجُبن والجزَع والضَّجر، قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ ?للَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـ?نَا وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51]، لا مانعَ لما أعطى ربُّنا، ولا معطيَ لما منَع، ولا ينفع ذا الجدِّ منه الجدّ، وربّك يبسط الرزقَ لمن يشاء ويقدر.
حلاوةٌ ورضًا تقوم في حياة الكِفاح على هذه الأصول والمبادئ، إذا أُعطي تقبَّل وشكر، وإذا مُنع رضِي وصبَر، وإذا أمِر ائتمَر، وإذا نُهِي ازدجَر، وإذا أذنَب استغفَر.
بهذا الإيمان وبهذا المذاقِ ينفكّ المؤمن من رِقَّة الهوَى ونزعات النّفس الأمّارةِ بالسّوء وهمزاتِ الشياطين وفِتن الدّنيا بنسائِها ومالِها وقناطيرها ومراكبها وسائر مشتهياتِها وزينتِها.
سعادةٌ وحلاوة مِلؤها القناعة. سعادةٌ وحلاوة يتباعد بِها عن الشحِّ والتّقتير والبخل والإمساك، وينطلِق في معانِي الكرمِ والإيثار والعطاء.
إنّ في حلاوةِ الإيمان ترطيبًا لجَفاف المادّة الطاغية، وحدًّا من غلواءِ الجشَع والجزَع، وغَرسًا لخِلال البِرّ والرّحمة، ومن ثَمّ تتنزّل السّكينة على القلوب، وتغشى الرحمةُ النّفوس، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة:157]، أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ?لإيمَـ?نَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ [المجادلة:22].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبهديِ محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (1/208)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب: الدليل على أنّ من رضي بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا فهو مؤمن وإن ارتكب المعاصي الكبائر (34).
[2] أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب: حلاوة الإيمان (16)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب: بيان خصال من اتصف بهنّ وجد حلاوة الإيمان (43).
[3] جزء من حديث قدسي أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب: التواضع (6502) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب: المؤمن أمره كله خير (2999) عن صهيب رضي الله عنه نحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، لا مانعَ لما أعطى، ولا معطيَ لما منَع، أحمده سبحانه وأشكره، فضلُه مرتَجَى وفي عفوِه الطّمَع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له منَح الخيرَ وللمكروه دفع، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمَّدًا عبده ورسوله دَعا إلى الحقّ وجاهَد في الله وأشاد منارَ الإسلام ورفع، صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه أهلِ الإيمان والرّضا والتّقى والورَع، والتّابعين ومن تبِعهم بإحسان إلى يومِ الدين، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فاتّقوا الله رحِمكم الله، فالسّعيد من خاف يومَ الوعيد، وراقب ربَّه واتّقاه في ما يبدئ وما يُعيد.
أيّها المسلمون، مَن ضعُف إيمانُه يضجّ مِن البلاء لأنّه لا يعرِف المبتَلِي، ويخاف السَّفرَ لأنّه لا زادَ له، ويضِلّ الطريقَ لأنّه لا دليلَ معه. فيا لَخسارةَ المستوحشِين، فَوَيْلٌ لّلْقَـ?سِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ ?للَّهِ [الزمر:22].
من فقَد الإيمانَ انفرَط أمرُه وانحلّ عِقده، يقول ويفعَل من غيرِ رقيب، ويسير في دنياه من غير حَسيب، سيرتُه مطبوعةٌ بطابَع الأثَرَة والأنانية، معدومُ الثّقة بنفسه وبالنّاس، يحلّ التّدابُر عندَه محلَّ التّراحُم، والتفرّقُ محلَّ التعاون. بغيرِ الإيمان وحلاوةِ الإيمان يعودُ النّاس وحوشًا ضَارية، يقطَعون حبالَهم مع الله ومع النّاس، انقادوا لنفوسِهم الأمّارة بالسّوء، واجتالتهم شياطينُ الجنّ والإنس.
والحضارة المعاصِرة بمادّيتها المغرِقة وتِقانيتها الجافّة خيرُ شاهدٍ على أنّ السعادةَ والحلاوة لا تحقِّقها شهواتُ الدّنيا ولا مادّيّاتها، لا ترَى المرءَ فيها إلاّ منهومًا لا يشبَع، شهواتُه مستعِرة، ورغباتُه متشعّبة، يجرّه الحِرص على الخِصام فيشقى ويُشقِي، ويغرِس العداوةَ والعدوانَ حيثما حلّ وارتحَل.
لقد أورثَتهم حياتُهم هذه أمراضًا نفسيّة واضطراباتٍ اجتماعيّةً وتقلّبات فكريّة، كان مفزعُهم إلى المخدّرات والمهدِّئات والعيادَات النّفسيّة والعلاجاتِ العصبيّة، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:124]، وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ?لسَّمَاء [الأنعام:125].
ألا فاتّقوا الله رحِمكم الله، وآمِنوا بربّكم، وأطيعوا رسولَكم، واستمسِكوا بدينِكم.
رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمّد نبيًّا ورسولاً.
ثمّ صلّوا وسلّموا على الرّحمة المهداة والنّعمة المسداة، نبيّكم محمّد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربّكم جلّ في علاه، فقال عزّ شأنه قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد النبيّ الأميّ العربيّ الهاشميّ، وعلى آله الطيّبين الطّاهرين...
(1/2840)
التّذكير بخطورةِ التّكفير
أديان وفرق ومذاهب, التوحيد
فرق منتسبة, نواقض الإسلام
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
25/10/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مراعاة الأولويات وترتيب المهمّات. 2- خطورة مسألة التكفير. 3- مفاسد المسارعة في التكفير. 4- نصوص الوعيد في تكفير المسلم. 5- أقوال العلماء في التحذير من المسارعة في التكفير. 6- التكفير حقّ لله تعالى ولرسوله. 7- ضوابط التكفير. 8- ضرورة الاحتياط في قضية التكفير. 9- التحذير من مسلك الإرجاء. 10- ضرورة تحكيم الكتاب والسنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فبها تسعَد حياتُنا وتفوز أُخرانا.
معاشرَ المسلمين، إنّ من أهمِّ المهمَّات وأوجبِ الواجبات أن يعيَ كلُّ مسلمٍ أنّ دينَ الإسلام دين راعَى الأوليّات ورتّب المهِمّات، وأولى عنايتَه التّامّةَ بأن يأخذَ كلّ شيءٍ قدرَه، وأن توزَن القضايَا بميزانِها الصّحيح ومنظورها الشرعيّ، وأن تدرَكَ تفاصيلُها وفروعُها دونَ غلوٍّ وإفراط، ودونَ جفاءٍ وتفريط، وأن لا يطغَى جانبُ الهوى في حكمٍ مِن الأحكام ولو كان القصدُ حسنًا والهدفُ نبيلاً.
ومِن هنا فهناك مسائلُ في هذا الدّين خطيرٌ أمرُها عظيمٌ شأنها دقيقٌ فهمُها، هي مزلّة أقدامٍ ومضلّة أفهام، ومِن أخطر هذه القضايا قضيّةٌ يتعثّر في ساحتِها مَن ليس بمحقِّقٍ فقيهٍ دقيق، ويتبلّد عندَ تشعُّب طرائقِها مَن ليس بعالِمٍ ربّانيّ ضليع. قضيّة غلا فيها أقوامٌ وفرّط في فهمِها آخرون. قضيةٌ لا يهتدِي إلى ما هو الصّواب فيها إلاّ من استنار بهديِ الوحيَين ونهَج منهجَ الصّحابة والتّابعين. قضيّةٌ أحكمَ علماء الإسلام المحقِّقون قواعدَها، وأرسَوا أقسامَها وشُعبَها، وأصّلوا أصولَها وضوابطَها، وبيّنوا شروطَها وموانعَها.
ذلكم هي قضيّة التّكفير والحكمِ به على آحادِ المسلمين أو مجتمعاتِهم.
نَعَم، إنّها قضيّة مهمّة ومسألةٌ عظيمة، لا يجوز لكلّ أحدٍ اقتحامُها ولا التنصُّب لها. ذلكم أنّ التّسارع في التكفِير والوقوعَ فيه أو الخلطَ في أحكامِه والكلامِ عنه بلا ضابطٍ قرآنيّ ولا فهمٍ محمديّ ولا إجماع من أهلِ الحلّ والعقد كلُّ ذلك ينجُم عنه شرور عُظمى وفتنٌ كبرى، فكم مِن فتنٍ وقعَت فيها الأمّة الإسلاميّة بسبَب اعتقادٍ خاطئ في تكفير المسلمين، وجرّاءَ الوقوع في هذه القضايا بدونِ إتقانِ العلماء المحقّقين والالتفاتِ للإجماع المستَبين.
ما كلُّ مَن طلب المعالي نافذًا فيها ولا كلّ الرّجال فحولاً [1]
إنّ التّسارعَ في التّكفير والوقوعَ فيه بدون القواعد التي قعّدها العلماء المحقِّقون، وبدون النّظر إلى الشّروط وانتفاءِ الموانع المرعيّة في النّصوص وفقَ فهمٍ لا تلابسه غمّة ولا تعتريه لُبسة، كلّ ذلك خطرٌ عظيم وشرّ مستبين، عانت الأمّة منه منذ عصرِ الصحابة رضي الله عنهم، عانَت منه رزايَا كبرى ومحنًا شتّى، فحينئذ حريٌّ بالمسلمين جميعًا أن يدرِكوا الضّررَ الذي يصيب الأمّةَ من التّسارع في تلك القضايا أو الكلام عليها من كلِّ أحدٍ، ممّا يفرِض على العلماء والدّعاةِ والمفتين والفقهاء السّعيَ في بيان الحقّ الذي يرضَى به ربّ العالمين ويتبيّن معه الحقّ من الباطل والصّوابُ من الخطأ.
ومِن هنا ـ أمّةَ الإسلام ـ فتجرُّؤ كلِّ أحدٍ على طَرقِ هذه القضيّة المهمّة تترتّب عليه عواقب وبِيلة ونتائجُ بشِعة في الدّنيا والآخرة.
يقول القرطبيّ رحمه الله: "وبابُ التّكفير بابٌ خطير أقدَم عليه كثير من النّاس فسقَطوا، وتوقّف فيه الفحولُ فسلِموا، ولا نعدِل بالسّلامة شيئًا".
حينئذٍ ـ عبادَ الله ـ وقفَت النّصوص الشرعيّة مِن هذه القضيّة موقفًا صارمًا ومنهجًا جازِمًا، كلّ ذلك دَرءًا للفِتن عن المسلمين ومنعًا لمكائِد الشّيطان اللّعين.
معاشرَ المؤمنين، إنّ من أساليب النّصوص الشرعيّة في منع تكفيرِ المسلم بلا حجّةٍ من القرآن ولا فهمٍ من السنّة ما هو معلوم من دين الإسلامِ بالضرورة مِن وجوب صيانةِ عِرض المسلم واحترامه وتجنُّب القدحِ في دينهِ بأيّ قادحٍ إلاّ بدليل جليٍّ وبرهان نبويٍّ، فكيف إذا كان القدحُ بالتكفير لشبهةٍ عارضةٍ أو فهم غير سويٍّ؟! فذلك حينئذ جنايةٌ عظيمة وجراءةٌ واضحة، والله جلّ وعلا يقول: وَلاَ تَنَابَزُواْ بِ?لأَلْقَـ?بِ بِئْسَ ?لاسْمُ ?لْفُسُوقُ بَعْدَ ?لإِيمَانِ [الحجرات:11]، قال جماعة من المفسرين: "هو قول الرّجل لأخيه المسلم: يا فاسق، يا كافر"، ونبيّنا يقول في الحديث الصّحيح: ((سِباب المسلم فُسوق، وقِتاله كفر)) [2].
معاشرَ المؤمنين، والشّريعة وهي التي تعتمِد على إقامةِ الحجّة وقطعِ المعذِرة لم تكتفِ نصوصُها بتلك التّوجيهات العامّة، بل جاءت الأدلّة الخاصّةُ في موضوعِها الصّريحةُ في توجيهاتها، كلُّها تحذِّر من التعجُّل في التكفير والتسارع في ذلك بلا تأصيل شرعيٍّ ولا منهج نبويّ، يقول : ((من حَلف بملّة غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال، ومن قتل نفسَه بشيء عُذِّب به في نار جهنّم، ولعنُ المؤمن كقتلِه، ومَن رمى مؤمنًا بكُفر فهو كقتلِه)) رواه البخاري [3].
قال ابن عبد البرّ رحمه الله: "القرآن والسنّةُ ينهيَان عن تفسيقِ المسلم وتكفيرِه ببيانٍ لا إشكالَ فيه.. ـ إلى أن قال: ـ فالواجبُ في النّظر أن لا يكفَّر إلاّ من اتّفق الجميعُ على تكفيرِه، أو قامَ على تكفيره دليلٌ لا مدفعَ له من كتابٍ أو سنّة" انتهى [4].
أيّها المسلمون، لقد حذّر النبيّ أمّتَه من التّساهل في تكفير المسلمين أو التّهاون في الأحكام عليهم بذلك بما هو أعظمُ زاجر وأكبرُ واعظٍ، فيقول : ((أيّما رجلٍ قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدُهما، إن كان كما قال وإلاّ رجعت عليه)) [5].
قال ابن حجر رحمه الله: "إنّ المقول له إن كان كافرًا كُفرًا شرعيًّا فقد صدَق القائل وذهب بها المقول له، وإن لم يكن كذلك رجعَت للقائل معرّةُ ذلك القول وإثمُه" [6].
ومِن هنا ـ عبادَ الله ـ مضى العلماءُ من السّلف والخلف يحذّرون من التعجّل في التكفير والمسارعةِ في الوقوع في حكمٍ بذلك على أحدٍ من المسلمين، فكلامهم في خطرِ ذلك مِن الكثرة بمكان بحيثُ يتعذّر استقصاؤه أو الوقوفُ عند نهايته، ولكن لا بدّ من تشنيفِ الأسماع بتحقيقاتِهم والاستبصار بأحكامِهم والتبصّر في كلامهم المتِين وورعِهم العظيم، ممّا يتّضح معه أنّ الخوضَ في مسائلِ التكفير مِن أعظم مسائلِ الدّين وأكثرها دقَّةً، وأنّه لا يتمكّن منها إلاّ الأكابر مِن أهل العلم الربانيّين ذوي العِلم الواسع والفهم الثّاقب والخِبرة الطويلة والرّأي السديد والورَع الشّديد، وأنه لا يجوز لآحادِ المسلمين الخوضُ في مثل هذه القضايا، بل مِن الخطأ العظيم والإثم المُبين أن يتجاسَر على المسارعة إلى مثل هذه القضايَا الخطيرةِ من لا يبلغ عُشرَ مِعشار علمِ هؤلاء الأئمّة المتقدّمين، ولا يبلغ شأوَ أولئك الأعلامِ العاملين.
قال أبو حامدٍ الغزاليّ رحمه الله: "والذي ينبغي الاحترازُ منه التكفيرُ ما وُجد إليه سبيلاً، فإنّ استباحةَ الدماء والأموالِ من المصلّين إلى القبلة المصرّحين بقول: لا إله إلا الله محمّد رسول الله، كلّ ذلك خطأ، والخطأ في تركِ ألفِ كافر في الحياةِ أهونُ من الخطأ في دمٍ لمسلم" انتهى [7].
وقال ابن ناصر الدّين الدمشقيّ رحمه الله: "فلَعنُ المسلم المعيَّن حرام، وأشدّ منه رميُه بالكفر وخروجِه عن الإسلام، وفي ذلك أمورٌ غير مرضيّة"، ثمّ عدّدها رحمه الله، ثمّ ساق الأحاديثَ التي في الترهيبِ من التّكفير، ثمّ قال: "فهل بعدَ هذا الوعيدِ من مزيدٍ في التّهديد؟!" انتهى كلامه [8].
أخي المسلم، واسمَع لقولِ عالمٍ آخر من علماء المسلمين وهو ابن الوزير رحمه الله حيث يقول: "إنّ الوقفَ عن التّكفير عند التّعارض والاشتباه أولَى وأحوط، وذلك أنّ الخطأ في الوقف على تقديره تقصيرٌ في حقٍّ من حقوق الغنيّ الحميد العفوّ الواسِع أسمَح الغُرَماء وأرحمِ الرّحماء وأحكَم الحكماء سبحانه وتعالى، والخطأُ في التّكفير على تقديره أعظمُ الجنايات على عبادِه المسلمين المؤمنين، فقد أخلّ ـ أي: المكفِّر ـ بحقّ المخلوقِ المسلم، بل تعدّى عليه، وظلَمه أكبرَ الظّلم وأفحشَه، فأخرجه من الإسلامِ وهو يشهَد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا رسول الله وأنّ جميع رسلِه وكتبِه وما جاء فيها عن الله عزّ وجلّ حقّ لا شكّ فيه ولا ريبَ في شيء منه على الجملة، وإنّما أخطأ في بعضِ التّفاصيل، وقد صرّح بالتّأويل فيما أخطأ فيه.. ـ إلى أن قال: ـ وقد عُوقبَت الخوارجُ أشدَّ العقوبةِ وذُمَّت أقبحَ الذمّ على تكفيرهم لعصاةِ المسلمين مع تعظيمهم في ذلك لمعاصِي الله وتعظيمهم لله تعالى بتكفير عاصيه، فلا يأمَن المكفِّر أن يقعَ في مثلِ ذنبِهم، وهذا خطرٌ في الدين جليل، فينبغي شدّةُ الاحتِراز فيه من كلّ حليم نبيل، ولأجل هذا عُذِر المتوقِّف في التّكفير، وكان هذا هو الصّحيح عند المحقّقين، بل كما قامت عليه الدّلائل والبراهين" انتهى كلامه المتين.
أمّة الإسلام، التّكفير حكمٌ شرعيّ وحقٌّ محضٌ لله ولرسوله ، وعلى هذا تواتَر كلام أهل العلم وتناقله الخلفُ عن السّلف، يقول ابن القيّم رحمه الله:
الكفرُ حقُّ الله ثمّ رسولِه بالنّصّ يثبتُ لا بقولِ فلان
من كان ربّ العالمين وعبده قد كفّراه فذاك ذو كفران [9]
حينئذٍ إذا ثبَت في الشّرع أمرٌ ما وأنّه مكفِّر فلا بدّ مِن انطباقِ هذا الحكمِ على القائل المعيَّن أو الفاعِل المعيَّن، بحيث تتمّ شروطُ التّكفير في حقِّه وتنتفي موانعُه، وفقَ نظرٍ دقيق من عالمٍ محقِّق.
وفي مثلِ هذا تتكاثر أقوالُ أهل العلم وتتضافر، وكلُّها تنصّ على أنّه ليس لأحدٍ أن يكفِّر أحدًا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تُقام عليه الحجّة وتُبيَّن له المحجَّة، فمَن ثبت إسلامُه بيقين لم يزُل عنه ذلك بشكٍّ، بل لا يزول إلاّ بعد إقامةِ الحجّة وإزالة الشّبَه.
يقول الشّوكانيّ رحمه الله: "اعلَم أنّ الحكمَ على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلمٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدِم عليه إلاّ ببرهانٍ أوضحَ من الشّمس" [10].
ويقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "وبالجملة فيجب على من نصَح نفسَه أن لا يتكلَّم في هذه المسألة ـ أي: التكفير ـ إلاّ بعلمٍ وبرهان من الله جلّ وعلا، وليحذَر من إخراج رجلٍ من الإسلام بمجرّد فهمِه واستحسان عقله، فإنّ إخراجَ رجلٍ من الإسلام أو إدخالَه من أعظم أمور الدّين، وقد استزلّ الشيطانُ أكثَر النّاس في هذه المسألة" انتهى [11].
معاشرَ المسلمين، يجِب على آحادِ النّاس الحذَر كلَّ الحذَر من الوقوع في مثل هذه القضايا العظيمةِ أو الكلامِ عنها أو تنصيبِ النّفس في الخوض في تفاصيلها، لا مِن جهةِ النّفي ولا من جهةِ الإثبات.
قال ابنُ أبي العزّ رحمه الله: "واعلَم أنّ بابَ التكفير وعدمَ التكفير بابٌ عظمَت الفتنة والمِحنة فيه، وكثُر فيه الافتراق، وتشتّتت فيه الآراء والأهواء" انتهى [12].
ومِن هنا فيجِب أن تُترَك الأحكامُ في مثل ذلك للعلماءِ الربانيّين والأئمّة المهتدين، ليقرّروا ما يرضِي اللهَ جلّ وعلا ويرضي رسولَه في هذه القضايا وأمثالِها، ومع هذا شدّد أهلُ العلم المتقدّمون في مصنّفاتهم في هذه القضيّة، وبيّنوا أنّ على المفتي أن يغلِّب سدَّ الذّرائع وأن يحتاط في الفتوَى، ومِن كلامهم في ذلك قولُهم: "ينبغي للمفتِي ـ والمراد المفتي الذي اكتمَلت فيه شروط الفتوى ـ أن يحتاطَ في التّكفير ما أمكنَه لعِظمِ خطرِه وغلبةِ عَدمِ قصدِه، سيّما العوامّ"، ويقول بعضهم: "إذا كان في المسألةِ وجوهٌ توجِب الكفرَ ووجه واحدٌ يمنعه فعلى المفتي أن يميلَ إلى الوجهِ الذي يمنَع التكفيرَ تحسينًا للظنّ بالمسلِم، إلاّ إذا صرّح بإرادةِ موجَب الكفرِ فلا ينفعُه التأويل حينئِذ"، ويقول آخر: "لا يكفَّر بالمحتمِل؛ لأنّ الكفرَ نهايةٌ في العقوبة، فيستدعي نهايةً في الجنايَة، ومع الاحتمال لا نهاية".
ذلكم ـ عبادَ الله ـ أنّ المقرّر عندَ أهل السنّة والجماعة أنّ الكفرَ شعَبٌ متعدِّدة، وله مراتبُ، منها ما يخرِج من الملّة، ومنها ما لا يخرِج من الملّة، ولا يلزَم من قيام شعبةٍ من شعبِ الكفرِ بالعبدِ أن يصيرَ كافرًا الكفرَ المطلَق، حتّى تقومَ به حقيقةُ الكفر.
إخوةَ الإسلام، ومِن متحذلِقةِ الكتَّاب من يطالعُ المسلمين بكتاباتٍ يرتقي بها مرتقًى صعبًا، ويطرُق ما لا إحاطةَ عنده به ولا علمَ لدَيه حوله، فتراه يبتغي طبَّ زُكامٍ فيُحدِث جُذامًا، عندَه جنايةٌ على قواعدِ القرآن والسنّة، ولديه مخالفةٌ صريحة لأصولِ أهل السنّة والإيمان، فتراه يقرّر في كتاباتِه نسفَ اعتبار الأصولِ المعتَبرة في القرآن والسنّة لهذه القضايا المهمّة، ويخالف بذلك ما عليه أهلُ العلم والعِرفان وذوي التّحقيق والبيان، فيقع بذلك في عقيدةِ الإرجاء المخالفةِ لعقيدة أهلِ السنّة والجماعة، ولا سلامةَ من ذلك إلاّ بردّ الأمرِ إلى أهله وعدَمِ طرقِ ما لا يفقهه إلاّ العلماء المخلِصون والفقهاء المتخصِّصون، فَ?سْأَلُواْ أَهْلَ ?لذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنّة، ونفعنا بما فيهما من البيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] هذا البيت لأبي الطيب المتنبي، انظر: خزانة الأدب (1/189).
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (48)، ومسلم في الإيمان (64) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[3] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6105) عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه، وروى مسلف في الإيمان (110) بعضه.
[4] التمهيد (17/21-22).
[5] أخرجه البخاري في الأدب (6104)، ومسلم في الإيمان (60) واللفظ له عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[6] فتح الباري (10/466-467).
[7] التفرقة بين الإيمان والزندقة. انظر: فتح الباري (12/300).
[8] الرد الوافر (ص11-13).
[9] من الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، المشهورة بنونية ابن القيم.
[10] السيل الجرار ().
[11] الدرر السنية ().
[12] شرح العقيدة الطحاوية (ص355).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقِه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فهي وصيّة الله جلّ وعلا للأوّلين والآخرين.
عبادَ الله، آنَ للأمّة الإسلاميّة أن تفقهَ حاضرَها وماضيَها، وآن أن تتبصَّر بيقينِ الواقع والتّجربةِ والبرهان أنّ تبنّي الأحزابِ المتعدِّدة والقوميّات المختلِفة والعنصريّات المتفرّقة وأنّ السعيَ وراءَ الشعارات الزائفةِ والرّايات المهلهلَة كلُّ ذلك ما قاد الأمّة إلاّ إلى هاويةٍ سحيقة وهزائمَ منكرة، وما جرّ لها إلاّ خزيًا وعارًا وذلاًّ وهوانًا، فلا هي ـ والله ـ بنَت مجدًا ولا حقَّقت عِزًّا ولا أسعَدت أحدًا.
نعَم، آن للأمّة أن تتذكّر بجدٍّ وحزم وصِدقٍ أنّ عدولَها عن كتاب ربِّها وسنّة نبيّها وأنّ الاستعاضةَ عن ذلك بقوانينَ وضعية ودساتير بشريّةٍ كلّ ذلك ما حقَّق لها إلا الشقاءَ ولا أوقعها إلاّ في البلاء.
ألا فيا عقلاَء الأمّة وحكماءَها، الدعوةَ الدعوةَ لإصلاح الأحوالِ مِن منطلقاتِ قرآننا وسنّة نبيّنا، ولنحرِص جميعًا على اتّفاق الكلمة ووَحدة الصفّ على شرع الله جلّ وعلا والاقتداءِ بسيّد البشريّة عليه أفضل الصلاة والسلام، فلن يُصلِح آخرَ هذه الأمّة ويُسعدَها وينجيَها إلاّ ما أصلح وأسعدَ أوَّلها.
ألاَ وقد حان الوقتُ للعالَم الإسلاميّ أن يُسلمَ القيادَ للقرآن الكريم والسنّة النبويّة على الفهمِ الصحيح الذي سار به الصّحابة والتّابعون، وسعدت به البشريّة جمعاء، وأنارت به الأرض كلّّها عدلاً ورحمةً، إصلاحًا وحِكمة، نجاةً وفلاحًا، نورًا ونجَاحًا.
ثمّ إنّ اللهَ أمرنا بأمرٍ عظيم تزكو به حياتُنا وتسعَد به أُخرانا، ألا وهو الإكثارُ من الصلاة والسّلام على النبيّ الكريم.
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا ونبيّنا محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الراشدين...
(1/2841)
خلق الإحسان
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
25/10/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- علو مرتبة الإحسان. 2- حقيقة الإحسان. 3- الإحسان في القرآن الكريم. 4- الإحسان فيما بين العبد وبين ربه. 5- الإحسان فيما بين العبد وبين غيره من العباد والبهائم. 6- الإحسان في العمل وفي الدعوة إلى الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جلّ جلاله في كتابه العزيز: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإحْسَانِ [النحل:90].
أخبرنا تعالى أنّه يأمرنا بالإحسان. الإحسانُ خلقٌ كريم وعمل من أفضل الأعمال، بل مرتبةُ الإحسان في الدّين هي أعلى المراتب، فللإسلام مراتبُه الثلاث: الإسلام والإيمان والإحسان، فالإحسان أعلى مراتِب الإيمان.
أيّها المسلم، إنّ دينَ الإسلام جاء لينظِّم حياةَ المسلم حتى تكون حياتُه حياةَ خير، وحياةً ينعَم بها في دنياه ويسعَد بها يوم لقاء الله. دينُ الإسلام جاء ليرشِدَ المسلم إلى أن يكونَ مسلمًا حقًّا باعتقاده وقوله وعمله، ليكون عضوًا نافعًا في أمّته، وليسعد في نفسه، وليسعد به مجتمعُه المؤمن، بل تسعد به الخليقة كلّها.
هكذا دينُ الإسلام الذي بعثَ الله به محمّدًا ، جاء بكلّ خير وصدَق الله: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3].
أيّها المسلم، فما حقيقة هذا الإحسان؟ الإحسانُ هو إتقان الشيء وإكماله، هو إتقان العمَل وإكماله على الوجه المرضيّ، وهذا الإحسانُ جاء ذكرُه في القرآن في آيٍ كثيرة.
فأوّلاً: أمر الله به فقال: وَأَحْسِنُواْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، وَ?بْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ?للَّهُ ?لدَّارَ ?لآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ?لدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ?للَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77].
ثانيًا: جاء في القرآنِ بيانُ فضلِ المحسنين، وأنّ الله أحاطهم بعنايته وأيّدهم بنصره، فأخبر جلّ وعلا أنّه مع المحسنين: إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّ?لَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128]، معيّةٌ خاصّة تقتضي هدايتَهم وعونَهم وأن يمدَّهم بنصرٍ منه وتأييد. وأيضًا جاء في القرآن بيانُ حال المحسنين، وأنّ الإحسانَ سببٌ ينقذ الله به العبدَ من المهالك، فيجعلُ له من كلّ همٍّ فرجًا، ومن كلّ ضيق مخرجًا، ومن كلّ بلاءٍ عافية، ويخلّص مِن مكر أعدائه، قال يوسف عليه السلام: قَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ ?للَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ?لْمُحْسِنِينَ [يوسف:90]. والمحسنون يمدّهم الله بعونِه، ويعطيهم فرقانًا يفرّقون به بين الحقّ والباطل، فلا يلتبس الحرام عليهم من الحلال، ولا طريقُ الحقّ من طريق الهدى، قال تعالى عن يوسف عليه السلام: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ?سْتَوَى? ءاتَيْنَـ?هُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ [القصص:14].
الإحسانُ خلقٌ يكتسِب أهلُه الثناءَ من الله ثم الثناءَ من عباده، قال تعالى عن أنبيائه: سَلَـ?مٌ عَلَى? نُوحٍ فِى ?لْعَـ?لَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ [الصافات:79، 80]، وقال: سَلَـ?مٌ عَلَى? إِبْر?هِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ [الصافات:109، 110]، وقال عن موسى وهارون: سَلَـ?مٌ عَلَى? مُوسَى? وَهَـ?رُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا ?لْمُؤْمِنِينَ [الصافات:121، 122].
أيّها المسلم، وحقيقةُ الإحسان الكامِل ما بيّنه محمّد في حديث جبريل لمّا سأله قال: يا محمّد، ما الإحسان؟ قال: ((أن تعبدَ الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك)) [1] ، أن تعبدَ الله كأنّك تراه، أي: عبادةَ الموقن الجازِم الذي كأنّه يرى الله، وإن لم تراه فاعلم أنّه يراك ومحيطٌ بك، قال تعالى: وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ?لأرْضِ وَلاَ فِى ?لسَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذ?لِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [يونس:61].
أيّها المسلم، الإحسانُ فيما بينك وبين الله، والإحسان فيما بينك وبين عبادِ الله. فالإحسان فيما بينك وبين الله امتثال أوامر الله جلّ وعلا بتنفيذِها حسب ما أمرك الله، والابتعاد عن مناهِي الله وعن كلّ وسيلةٍ تقرّبك إلى ذلك، ثمّ إحسانك إلى عبادِ الله بأنواع البرّ والمعروف والإحسان. ومن الإحسانِ ما هو مفروض، ومنه ما هو كمال وعملٌ صالح، يزداد به العبد قربةً إلى الله جلّ وعلا.
أيّها المسلم، فعلُ الإحسان ضدّ الإساءة، لِيَجْزِىَ ?لَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى ?لَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِ?لْحُسْنَى [النجم:31]. وإنّ للمحسنين ثوابًا عظيمًا عند الله، هَلْ جَزَاء ?لإِحْسَـ?نِ إِلاَّ ?لإِحْسَـ?نُ [الرحمن:60]، إِنَّ ?لْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـ?تٍ وَعُيُونٍ ءاخِذِينَ مَا ءاتَـ?هُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ [الذاريات:15، 16]، وقال: إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف:30].
أيّها المسلم، فأعظمُ الإحسان عليك إحسانُك لأعمالك فيما بينك وبين الله، أن تخلصَ لله عملَك، فتبتغي بعملك وجهَ الله والدارَ الآخرة، ثمّ تحسن العملَ فيكون عملك على وفق ما شرع الله ورسوله، فإنّ الله لا يقبل عملَ عامل إلا إذا كان عمله خالصًا لوجه الله، وكان عمله على وفق ما شرع الله، فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـ?لِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف:110].
إحسانُك في توحيدِ الله بأن تعبدَ الله وحده لا شريك له، لا تجعل له شريكًا ولا ندًّا، تعلم أنّ العبادةَ بكلّ أنواعها حقّ لربّنا جلّ وعلا، ذَلِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ?لْبَـ?طِلُ وَأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْعَلِىُّ ?لْكَبِيرُ [لقمان:30]، لَهُ دَعْوَةُ ?لْحَقّ وَ?لَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء [الرعد:14]. فالموحّدون لله المخلِصون لله توحيدَهم هم المحسِنون حقًّا، الذين قالوا: "لا إله إلا الله" بألسنتِهم، وعمِلوا بمقتضاها بجوارحهم، واعتقدوا معناها بقلوبهم، فعبدوا الله وحده وأخلَصوا له الدين.
أيّها المسلم، إحسانُك في صلاتك أداءُ أركانِها وواجباتِها واستكمالُها بأداء سننِها، أداؤها في الوقتِ الذي أوجب الله عليك أن تؤدّيها فيه، أداؤها في المسجِد والجماعة، فكلّ هذا من إحسان العبادةِ لله، كَانُواْ قَلِيلاً مّن ?لَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِ?لأَسْحَـ?رِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17، 18]. إحسانُك العملَ في صلاتك بأدائها على الوجهِ الذي يرضِي اللهَ عنك، ثم تكمّل هذا الإحسانَ بنوافل الصلوات الخمس، وما يزيد [على] ذلك من النوافل التي تكون زادًا لك يوم قدومك على الله.
إحسانُك في زكاتِك إخراجُها وإحصاؤها وإيصالُها إلى مستحقّيها لتكونَ ممّن قال الله: وَ?لَّذِينَ فِى أَمْو?لِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لّلسَّائِلِ وَ?لْمَحْرُومِ [المعارج:24، 25].
إحسانُك في صيامك وحجِّك بإكمالهما على الوجه المرضيّ الذي شرعَه الله ورسوله.
أيّها المسلم، ثمّ إحسانُك فيما بينك وبين عباد الله، فقد أوجب الله عليك الإحسان إلى الوالدين: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا [الإسراء:23]، وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا [النساء:36]. وأمر بالإحسان للرّحم بصلتها كما أمرك الله به، ورغّبك بالإحسان إلى الجيران والإحسان إلى المساكين والإحسان إلى الأيتام والإحسان إلى الأرامل، فكلّ ذلك من المعروفِ الذي تنال ثوابَه يومَ قدومِك على الله. بَل أمرك نبيّك بالإحسان حتّى للبهائم، يقول : ((دخلَت امرأة النارَ في هرّة؛ لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خَشاش الأرض)) [2] ، وأخبَر أنّ في البهائم أجرًا في سقيِها وإطعامها ولو كانت غيرَ مأكولة اللّحم. أخبرنا أنّ رجلاً ممّن قبلنا كان يمشي في البرّيّة فاشتدّ به الظمأ، فرأى بئرًا فنزل وشرِب، ثم لمّا صعد رأى كلبًا يأكل الثّرى من الظمأ، فقال: لقد بلغ بالكلب من الظّمأ مثلُ ما بلغ بي، فنزل البئرَ وملأ خفّيه من الماء، وأمسكَهما بفيه، ثمّ سقى بهما الكلب، قال النبيّ : ((فشكر الله له فأدخله الجنّة)) ، قالوا: أوَلنا في البهائم مِن أجر؟! قال: ((إنّ في كلّ كبدٍ رطبة أجر)) [3] ، وأخبر أنّ بغيًا من بني إسرائيل سقت كلبًا على ظمأ فشكر الله لها فغفر لها ذنبها [4].
أيّها المسلم، وحتى الإحسان إلى البهائم في قتلِها، يقول : ((إنّ الله كتب الإحسانَ على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسِنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسِنوا الذِّبحة، وليحدَّ أحدكم شفرتَه، وليرِح ذبيحتَه)) [5]. وحتى قتل الإنسان في الحدود الشرعيّة أو القصاص أُمرنا بالإحسان، فنصوص الشريعة تنهى عن المُثلة، ونهى النبيّ عن قتل الحيوان صبرًا [6] ، كلّ ذلك رفقًا وإحسانًا حتى في تنفيذ الحدود.
أيّها المسلم، فأحسِن إلى الأبوين خدمةً ونفقةً وطاعةً وسمعًا لهما ومخاطبةً لهما بأحسن الخطاب، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23، 24].
أيّها المسلم، أحسِن إلى الجار بكفِّ الأذى وبَذل المعروف، أحسِن إلى الرّحم بالصلة والإحسان إليهم، أحسِن إلى الأيتام والمساكين، فارحم ضعفَهم وعجزَهم، واسعَ لهم في الخير لتكونَ من المحسنين.
أيّها المسلم، أحسِن إلى أولادِك بتربيتهم على الخير وبتوجيهِهم لطرقِ الهدى وحملهم على الأخلاقِ الفاضلة والنأيِ بهم عن كلّ الأعمال الرذيلة والرديئة. أحسِن إليهم بالإنفاق عليهم. أحسِن إليهم بتزويجهم وإحصانِهِم عمّا حرّم الله عليهم. أحسِن إلى الزّوجة بالإحسان إليها ومعاشرتِها بالمعروف، بل قد أمَر الله المسلمَ أن يكونَ إحسانه لامرأته حتّى في فراقها: ?لطَّلَـ?قُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـ?نٍ [البقرة:229]، أي: فليكن فراقك إذا أردتَ الفراقَ يكون بإحسانٍ بلا عنفٍ ولا شقاق ولا نِزاع.
أيّها المسلم، أحسِن إلى النّاس في تعاملك معهم، فاصدُقهم في التّعامل، وإيّاك والكذبَ والغشّ والخيانة.
أيّها المسلم، أحسِن إلى النّاس حتى في مخاطبتهم، فكما أنّ الإحسان في الأعمال فالإحسان أيضًا في الأقوال، قال تعالى: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، وقال جل جلاله: وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ كَانَ لِلإِنْسَـ?نِ عَدُوّا مُّبِينًا [الإسراء:53]. ابتعِد عن فاحش القول، فإنّ ذلك ضدّ الإحسان، فليس المؤمن بالسّبّاب ولا باللعّان ولا بالفاحش ولا بالبذيء.
أيّها المسلم، أحسِن التعاملَ مع الناس، فأعطِ أهلَ الحقوق حقوقَهم، وأعطِ المؤجّرين أجرتَهم، وأعطِ العمّالَ حقّهم، وأحسِن في التعامل مع الآخرين، فإنّ التعاملَ بالإحسان خلُق أهل الإيمان.
أيّها المسلم، أحسِن في العمل الذي عُهِد إليك به، أحسِن [فيه] أداءً، وأحسِن فيه وقتًا، وأحسِن تعاملَك مع مَن تتعامل معه، فتعطي الناسَ حقوقَهم وتعامِلهم بالعدل والإحسان فيما بينهم، لتكونَ من المحسنين حقًّا.
أحسِن إلى اليتيم فارحَم ضعفَه وعجزَه ويُتمه، وارفق به. أحسِن إلى كلّ إنسانٍ على قدر حالِه، فالإحسان خُلق المسلم، يسير به في حياته؛ لأنّ حياة المسلم حقًّا حياةُ خضوعٍ لشرع الله، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163]. فحياة المسلم لله، يعمَل فيها بشرع الله، ويسير فيها على وفق ما بيّن الله له في كتابه وما بيّنه له رسوله ، فإذا استعمل الإحسانَ في كلّ شيء في موضعه كان من المحسنين الذين وعدهم الله الثوابَ العظيم.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (50)، ومسلم في الإيمان (9، 10) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه أيضا مسلم في الإيمان (8) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3318)، ومسلم في السلام وفي البر والصلة (2242، 2243) عن ابن عمر وعن أبي هريرة رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري في المساقاة (2363)، ومسلم في السلام (2244) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3467)، ومسلم في السلام (2245) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه مسلم في الصيد والذبائح (1955) عن شداد بن أوس رضي الله عنه.
[6] أخرج مسلم في الصيد والذبائح (1959) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله أن يقتَل شيء من الدوابّ صبرًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ الإحسانَ خلُق المؤمن في أعماله التي رُبطت به، فهو ينفِّذ العملَ الذي أنيط به خيرَ أداء، إحسانًا في العمل فلا تجده ضجرًا ولا قلِقًا من أعمالٍ يؤدّيها، ولا تجده غاشًّا ولا خائنًا ولا مرتشيًا، ولا تجده مماطِلاً بالنّاس، ولا ظالمًا للناس، ولا مفضِّلاً أحدًا على أحد لقرابةٍ أو صداقة أو نحو ذلك، وإنّما طريقُه طريقٌ مستقيم في إحسانِه وتعامله مع عباد الله، ناهجًا قولَ الله: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِ?لْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ ?لْو?لِدَيْنِ وَ?لأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَ?للَّهُ أَوْلَى? بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لْهَوَى? أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135].
الدعاةُ إلى الله وإلى رسولِه هم مِن أولى النّاس أن يكونوا في دعوتِهم محسنين، محسنين للجاهِل، يعلمون جهلَه، ويعلمون قلّة علمِه، فيرفقون به ويتلطّفون به، ويوضّحون له الحقّ بدليله، قاصدين هدايتَه واستصلاحَه، قال جلّ وعلا لموسى وهارون: فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى? [طه:44]. وسيّد الأولين والآخرين وإمامُ الأنبياء والمرسلين محمّد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه كان أعظمَ الخَلق إحسانًا للخَلق، قال الله عنه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، فكان محسِنًا في دعوتِه، يصيبُه البلاء والأذى ويقول: ((اللهمّ اغفِر لقومي فإنّهم لا يعلمون)) [1] ، يستأذِنه ملكُ الجبال أن يطبق على قريش أخشبَيها [2] فيقول: ((أتأنّى بهم؛ لعلّ الله أن يخرجَ من أصلابهم من يعبده لا يشرِك به شيئًا)) [3] ، يخاطبُ أهلَ مكّة عامَ الفتح: ((ما أنتم ترَونَ أنّي فاعلٌ بكم؟)) قالوا: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، قال: ((اذهَبوا فأنتم الطلقاء)) [4].
رأى الخَلقُ من سيرته النبيلةِ وأخلاقه الكريمة وتعامله الجمّ ما دعا الخلقَ إلى الإيمان به والاقتناع به، وأنّه رسول الله حقًّا صلوات الله وسلامه عليه؛ حلمٌ على الجاهل، ورفقٌ به وعطفٌ وإحسان إليه، وهكذا الدّاعي إلى الله، يقصِد بدعوته وأمرِه ونهيِه محبّةَ الخلق والرّحمةَ بهم والإشفاق عليهم ومحبةَ وصول الخير إليهم، لا يريد انتقامًا منهم، ولا يريد تعاليًا عليهم، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر كذلك، يقصد الرحمة والإحسانَ والإشفاق، فليس شامتًا ولا عائبًا ولا مستهزِئًا، ولكن رحيم بالأمّة، محسن إليهم، يحبّ الإحسانَ وإنقاذَهم من جهالات الضّلال.
القاضي في محكمتِه يحسِن لخصومِه بالعدل بينهم، واستماعِ حججِ الطّرفين، والحكم فيما يظهَر له بما يوافق الشرع، فلا يميل بهِ الهوى لواحدٍ دونَ الآخر، ولا يحاول إلحاقَ الضررِ بالآخر، وإنّما هو عدلٌ ومحسِنٌ في قضائه، يحسِن إلى الشهودِ فلا يلحِق الضررَ والأذى بهم، بل يمكّن كلاًّ من أداء شهادتِه، ويهيّئ له المجال، فلا يلحق به ضررًا.
وهكذا كلّ مسؤول عن قطاع من قطاع الأمّة، فإنّه واجب عليه الإحسانُ إليهم وحملُهم على الخير والقيام بما أوجب الله، هكذا المؤمنون حقًّا، أهلُ إحسانٍ فيما بينهم وبين ربّهم، وأهلُ إحسان فيما بينهم وبين عبادِ الله.
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ السداد والعونَ على كلّ خير، وأن يهديَنا صراطَه المستقيم، وأن يجعلنا وإيّاكم ممّن عرفَ الحقَّ فعمِل به وسار على نهجه، إنّه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه الطبراني في الكبير (6/120، 162)، والبيهقي في الشعب (1448) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (973)، وقال الهيثمي في المجمع (6/117): "رجاله رجال الصحيح".
قال الحافظ في الفتح (11/ 196): "المراد بالمغفرة في قوله في الحديث الآخر: ((اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) العفو عمَّا جنوه عليه في نفسه لا محو ذنوبهم كلها، لأن ذنب الكفر لا يمحى، أو المراد بقوله: ((اغفر لهم)) اهدهم إلى الإسلام الذي تصحّ معه المغفرة، أو المعنى: اغفر لهم إن أسلموا. والله أعلم".
[2] الأخشبين بالمعجمتين، قال ابن حجر في الفتح (6/316): "هما جبلا مكّة أبو قبيس والذي يقابله وكأنّه قعيقعان... وسمّيا بذلك لصلابتهما وغلظ حجارتهما, والمراد بإطباقهما أن يلتقيا على من بمكّة, ويحتمل أن يريدَ أنّهما يصيران طبقًا واحدًا".
[3] أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة (3231)، ومسلم في الجهاد، باب: ما لقي النبي (1795) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.
[4] أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (4/412) فقال: "حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله قام على باب الكعبة فقال:..." فذكره في حديث طويل، وهذا سند معضل. وروي عن قتادة السدوسي مرسلاً، أخرجه الطبري في تاريخه (2/161) من طريق ابن إسحاق.
(1/2842)
هدي السلف
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
25/10/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصبر على البلاء. 2- رحمة النبي. 3- موقف رسول الله من المتزلفين. 4- موقف لعمر بن عبد العزيز مع المداحين. 5- موقف لعمر بن الخطاب قبيل وفاته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، خمسة أمور يثقل ميزان العبد يوم القيامة: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والولد الصالح إذا مات واحتسبه والداه عند الله، والولد إذا مات في حياة والديه، فقال والداه: إنا لله وإنا إليه راجعون، أتدرون ماذا يحدث يا عباد الله؟ يجمع الله الملائكة التي قبضت روحه، ويقول لهم: ((أقبضتم روح ولد عبدي؟ فتقول الملائكة: نعم يا ربنا، فيقول الله تعالى: فماذا قال عبدي عندما مات ولده؟ فتقول الملائكة: حمدك واسترجع أي قال: "الحمد لله، وإنا لله، وإنا إليه راجعون"، فيقول الله عز وجل: "يا ملائكتي ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد)) [1].
سيدي يا رسول الله مات أبناؤك جميعاً أمام عينيك، وبقي لك إبراهيم، وبعد ما بلغ سنة وأربعة أشهر نام على فراش الموت، فكان الحبيب صلى اله عليه وسلم ينظر إليه ويقول: ((يا إبراهيم، أنا لا أملك لك من الله شيئاً)).
عباد الله، يقول الله تبارك وتعالى في وصف أصحاب رسول الله: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، فلماذا أصبح بعض المسلمين في هذه الأيام قساة القلوب غلاظ الأكباد جفاة الطباع؟ ونبينا صلى الله عليه وسلم كان أرحم الناس بالمساكين، وكان أرحم الناس بابن السبيل، وكان أرحم الناس بالأرامل والمصابين، وكان أرحم الناس بالناس أجمعين.
دخل الصلاة صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فصلى وراءه أعرابي، وقبل أن يكبر الأعرابي تكبيرة الإحرام دعا الله قائلاً: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً.
وظن أنه بذلك يجامل الحبيب صلى الله عليه وسلم، وكان النبي عليه الصلاة والسلام لا يحب التزلف، وكان أبعد الناس عن المتزلفين، كان لا يحب المجاملات الزائفة ولا الكلمات الرخيصة، لم يكن كهؤلاء الذين يطربون ويمرحون ويفرحون إذا قيلت فيهم العبارات الرنانة، إذا وصل الناس إلى هذا الأمر وأثنوا على الحكام، وصار النفاق طريق النجاة، وصار الكذب سلم المرقاة، وصار الكذاب صدوقاً، والكذاب صدوقاً، وقربنا الأعداء، وبعدنا الأصدقاء، فقل على الدنيا العفاء.
عباد الله، فماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال ارحمني ومحمداً، ولا ترحم أحداً سوانا، بعدما فرغ من صلاته، نظر إلى الأعرابي وهو غاضب وقال: ((يا أعرابي، كيف تضيق رحمة الله التي وسعت كل شيء)) [2].
لو قيلت هذه العبارة أمام حاكم من حكام اليوم لمنح قائلها وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، وبوأه أرفع المناصب، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الرحمة المهداة الذي خاطبه الله تبارك وتعالى بقوله: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107].
عباد الله، رجل يدخل على أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، ويطريه ويمدحه ويقول له: ما أعدلك ما أعظمك، وعمر يضع يديك بين كفيه مطرقاً إلى أن فرغ من كلامه، فقال له أمير المؤمنين: أفرغت من كلامك يا هذا؟ قال: نعم، قال له: إن هذا الجسد الذي تمدحه، لو أنك زرته بعد ثلاثة أيام من دفنه لوليتَ فراراً، لملئت منه رعباً، جسد فانٍ من التراب، وإلى التراب، ولذلك لما عرفوا هذه الحقيقة العليا أغلقوا الأبواب في وجه المنافقين والكذابين، لأن النفاق إذا نبت في الأرض أذهب خيرها، وأضاع قيمتها، وزالت أخلاقها، وذهب كرامتها، وولت عزتها وأصبحت الحياة بلا قيمة.
عباد الله، ما قيمة الحياة إذا كانت نفاقاً، أمير المؤمنين عمر رضي الله وهو على فراش الموت دعا ابنه عبد الله وقال له: "ارفع رأسي عن الوسادة، وضعها على الأرض، لعل الله ينظر إلي، ورأسي على الأرض، فيرحمني".
سبحان الله، عمر أحد المبشرين بالجنة، الذي وقف الرسول معه ومعهما أبو بكر وعثمان على جبل أحد ذات يوم، فارتج الجبل بهم، فقال صلى الله عليه وسلم للجبل: اسكن أُحد فإن فوقك نبياً وصديقاً وشهيدين، عمر الذي قال فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم: ((عمر رجل جعل الله الحق على قلبه ولسانه، ولو كان فيكم محدَّثون ـ أي ملهمون ـ لكان عمر)) [3].
ومع ذلك ينام على فراش الموت، ويجد وهو يضع رأسه على الوسادة أن فيه شيئاً من الكبرياء، وهو في مقام التواضع في سكرات الموت، وهو الذي لقيه صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال له: يا عمر، لقد رأيت الليلة قصراً من قصور الجنة، ورأيت أمامه حورية تتوضأ، فسألته: قصر من هذا؟ فقالت: قصر عمر، وأنا إحدى نساء عمر، قال الحبيب لعمر: ((فلما علمت أنها زوجتك صرفت وجهي عنها، ولم أنظر إليها خشية أن تغار يا عمر)) ، فقال له عمر رضي الله عنه: وعليك أغار يا رسول الله؟ [4]
عباد الله، إن عمر طعن في الخنجر وهو يصلي الفجر بالمسلمين إماماً، طعن ثلاثة طعنات بخنجر مسموم، ونزف دماً، ولما لم يستطع إتمام الصلاة استخلف عبد الرحمن بن عوف ليكمل بالمسلمين الصلاة، وحُمل العملاق إلى داره، حُمل الأسد على أعناق الرجال، فلما أفاق من إغماءته كان أول سؤال سأله لمن حوله: (هل صلى المسلمون الفجر؟) بالله عليكم أي حاكم على وجه الأرض في هذه الشدة الشديدة وفي ساعة العسرة عندما تبلغ القلوب الحناجر يقول: أصلى المسلمون الفجر؟
إن ثمة أناساً لا يسألون عن المسلمين ولا عن صلاتهم، إنما يسألون: أين فلان ولماذا ربى لحيته؟ ولماذا تحجبت فلانة؟ وتكتب التقارير وترفع، إلى أين؟ هل ترفع إلى رافع السماء بلا عمد؟ لا، إنما ترفع إلى من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ترفع من أجل محاربة الإسلام والمسلمين، لماذا كل ذلك؟ ألا تخافون من الله تبارك وتعالى؟ ألا تعلمون أن الله يعلم السر وأخفى؟ ألا تعلمون أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ فما لحاكم يسأل: أصلى المسلمون الفجر في هذه الأيام؟ سؤال خطير، وإذا قاله الحاكم فإنما يخشى عليه، ولكن إذا علمت أن السائل عمر فلا عجب، فإن عبقريته كوّنها الله ذرة ذرة، فعمَر هو عمر الرجل الذي لم يستطع الغرور أن يقتحم عليه أسوار نفسه المنيعة.
ثم ماذا يا أمير المؤمنين؟ يقول لابنه: يا عبد الله أغمض عيني قبل أن تصعد الروح إلى خالقها، وجهني إلى القبلة، ابسطوا كفني في ثياب بيض، لا إسراف فيها، فإن يكن لي عند الله خير أبدلني ثياباً من سندس وإستبرق، وإن يكن لي عند الله غير ذلك سلب الثياب عني.
ثم قال: اقتصدوا في قبري، لا توسعوا قبري، لا تسرفوا في قبري، إن يكن لي عند الله خير وسّعه علي، جنة عرضها السماوات والأرض، وإن يكن لي عند الله غير ذلك ضيّقه علي، حتى أشعر كأن أضلاعي قد اختلفت بعضها ببعض، أسرعوا في السير بي، فإن يكن لي عند الله خير قدموني إليه، وإن يكن عند الله غير ذلك فإنما هو شر تلقونه عن أكتافكم.
يا عبد الله، لا تذكروني بما ليس بي، فإن الله أعلم بحالي منكم، ولا تُخرجوا ورائي نائحة ولا ناراً.
ثم يسأل رضي الله عنه: من الذي قتلني؟ فقالوا له: غلام مجوسي، اسمه أبو لؤلؤة، فيخر ساجداً لله، وبعد السجود يرفع رأسه، ويقول: الحمد الله الذي جعل مصرعي على يد رجل كافر لم يسجد لله سجدة يحتج بها علي أمام الله، ثم قال لولده: اذهب إلى أم المؤمنين السيدة عائشة، وقل لها: عمر يستأذنك أن يدفن بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم، قل لها: عمر، ولا تقل لها: أمير المؤمنين، فلست اليوم أميراً للمؤمنين، كان رضي الله عنه حساساً، حتى في استعمال الألفاظ، وكان دقيقاً حتى في اختيار الكلمات.
ويذهب ابنه إلى أُمنا السيدة عائشة، ويستأذنها، فتقول: يا عبد الله، لقد كنت أود أن أدفن أنا في هذا المكان مع زوجي ومع أبي، مع والدي أبي بكر رضي الله عنه، أمَا وقد طلبه أمير المؤمنين فأنا أفضِّل أمير المؤمنين على نفسي.
ويرجع عبد الله إلى عمر ويقول له: لقد أذِنت يا أبتاه، فيقول رضي الله عنه: ارجع إليها واستأذنها مرة أخرى، فربما رضيت في حياتي حياء مني، ورجعت عنه بعد وفاتي.
أين هذا يا عباد الله من الذين يغتصبون الأراضي في هذه الأيام؟ أين الذين يغتصبون العقارات؟ أين الذين يغتصبون القصور؟ أين الذين يغتصبون الأموال؟ عمر رضي الله عنه إنما يستأذن في أمتار، لا ليبني عليها عمارات شاهقة، ولا ليقيم عليها برجاً عالياً، وإنما ليدفن فيها، ويدفن مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: بعد أن دفن أمير المؤمنين في حجرتي مع رسول الله ومع أبي، كنت أدخل عليهما بقميص نومي، فلما دفن عمر استحييت أن أدخل عليهما بقميص النوم، حياء من عمر، كيف لا وهي الخبيرة العالمة بقوله تبارك وتعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أَمْو?تاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، كان رضي الله عنه تحت أطباق التراب في حجرة السيدة عائشة، إلا أنه حي، ولذلك استحيت أن تدخل عليه، وهو تحت أطباق التراب.
هؤلاء رجال رباهم خير الرجل، كان عمر بين الناس رجلاً، وكان بين الرجال بطلاً، وكان من الأبطال مثلاً، هؤلاء الذين قال الله تبارك وتعالى في وصفهم: تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ?للَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَـ?هُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ?لسُّجُودِ [الفتح:29].
عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى، وتذكروا أنكم بين يديه وفي رحاب مسجده الأقصى، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] أخرجه أحمد (4/415)، والترمذي في الجنائز، باب: فضل المصيبة إذا احتسب (1021) وقال: حسن غريب عن أبي موسى رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (2948 ـ الإحسان ـ)، وحسّنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (814)، وصحيح الجامع (795)، وصحيح الترغيب (2012).
[2] أخرجه بمعناه البخاري في الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم (6010) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[3] أخرجه بنحوه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار (3469) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه (2398) عن عائشة رضي الله عنها.
[4] أخرجه البخاري في المناقب، باب مناقب عمر بن الخطاب (3679)، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه (2394) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الذي يعلم السر وأخفى، وإليه المرجع والمآب، وأحاط بكل شيء علماً، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله فرد صمد، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أكمل البرية خَلْقا وخُلُقا وسؤدداً، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك النبي المجتبى والحبيب المصطفى، وآله المستكملين الشرفا، والتابعين لهم على الهدى.
أما بعد: يا عباد الله، اتقوا الله وتذكروا أن الدنيا دار بلاء، ومنزل قلق وعناء، وقد نزعت عنها نفوس السعداء، وانتزعت في الكره من أيدي الأتقياء، فأسعد الناس بها أرغبهم عنها، وأشقاهم بها، أرغبهم فيها، طوبى لعبد اتقى فيها ربه، وناصح نفسه، وقدم توبته، وأخّر شهوته، قبل أن تلفظه الدنيا إلى الآخرة، فيصبح في بطن موحشة غبراء، لا يستطيع أن يزيد في حسنة، ثم ينشر، فيحشر، ثم إلى جنة يدوم نعيمها، أو إلى نار لا ينفذ عذابها، فاتقوا الله يا عباد الله، واشكروه على ما منّ عليكم به من بركات السماء، وتوجهوا إلى تبارك وتعالى ليجعله غيث رحمة ونعمة.
(1/2843)
التشنيع على غلاة التجريح والتبديع
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الكبائر والمعاصي, قضايا دعوية
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
3/11/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمة الإسلامية بين الماضي والحاضر. 2- مقصد التآخي والائتلاف. 3- الداء العُياء والغائلة الحالقة. 4- جريمة الوقيعة في العلماء والدعاة إلى الله. 5- صفات الجرّاحين الجُدُد ومسالكهم. 6- روائع من كلام السلف وأدبهم. 7- دعوة للحسنى. 8- حاجة الأمة إلى الوحدة والتواصي بالحق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسِي بتقوَى اللهِ عزّ وجلّ، فإنّ التّقوَى هي الحَبلُ الأقوَى للفوزِ بجنّة المَأوَى، تربِط على القلوب ساعةَ الفتَن، وتُنير الدروبَ أوقاتَ الأزَمَات والمِحَن. مَن غمرتِ التّقوى قلبَه سلِمت طويّتُه من الضّغَن، وهُدِي إلى خيرِ سبيلٍ وأقوَم سَنَن.
أيّها المسلمون، لا يجِد النّاظر في تأريخ أمّتِنا عنَاءً في الوقوفِ على تميُّز حضارتها وتحقُّق قيادتِها وسيادتِها وريادتِها على العالَم بأسرِه رَدحًا من الدّهر وأحقابًا من الزمان، ومَردُّ تلك الغَلَبة وذيّاك العلُوّ إلى الاعتصامِ بالوحيَين الشّريفَين ولزومِ قاعدةِ الوَحدة والائتلاف ونَبذ الفُرقة والاختلاف، تحقيقًا لقوله سبحانه: إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92].
كما لا يلقَى المتأمّل في وضعها الراهِن عَناء في القولِ: إنّ أمّتَنا أظلّها زمان حالِكٌ بالغوائِل والمدلهمّات، مع سَيرٍ في حرّةٍ كأداء، تتناوشها نِصال أعداءٍ ألِدّاء، وترمُقُها مُقًلٌ حاسِدة وأحداق حاقِدة أضمَرَتِ الكيدَ والعداء، مع ما تعانيه من شتاتٍ ذاتيّ ونفورٍ داخليّ وصراعٍ بينيّ وفهمٍ آحاديّ لكثير من القضايا وطُفُوِّ أفكار منحَرفة هدّامة وظهورِ فئامٍ مرقت عن صفِّ الملّة والجماعة، فلم يزد ذلك في جسَد الأمّة إلاّ أوصابًا وتَفريقًا وجروحًا وتمزيقًا.
ولله سبحانه في ذلك كلِّه الحكمة البالغةُ كما قال سبحانه: وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]. وكم للمِحن والأزماتِ مِن شأنٍ عريض في صقل الأمَم ورُقيِّها، ولكن كلّ يومٍ يمضي من حياةِ الأمّة لا تشخِّص فيه عِللَها ولا تأخذ فيه بأسبابِ النهوض من كبوتها لَيؤخِّرها أمدًا بعيدًا ويزيدُ من تمكُّن اليأس والقنوطِ لدى كثيرٍ من الشرائح والأوساط في جَدوَى تماثُلها للشّفاء واستئنافِ تسنُّمها لذُرَي العلياء.
أمّة الإسلام، وتِلك وفقةُ تذكيرٍ لتثبيتِ أهمِّ المعالم على جَنَبات طريقِ النّهضة الواعِية التي ينبغِي أن ينتهِجَها أهلُ الحقّ، تكون بيانًا للآسي وتذكرةً للنّاسي وتعليمًا للجاهِل وتنبيهًا للذّاهل وإسهامًا في لمِّ الشتاتِ وذمّ الفُرقة والانبتات والنّأيِ بالأحبّة عن وَحَر الصّدور ودَرَن المقاصدِ وبواعِث الشّرور.
إخوةَ الإيمان، إنّ شريعتَنا الغّراءَ قصَدت إلى الألفةِ والوِفاق، ونأت عن مسالِكِ التّنازع والشّقاق والافتراق، ونادَت بالمحبّة والإخاء، وحَضّت على التّسامُح والتّراحُم والتّناصُر والتّلاحُم، سيما بين أهلِ الحقّ، أهلِ المشرَب الواحدِ والمنهَج الواحد، والكتابُ والسنّة زاخران بالبراهين المشرِقةِ على تلك الصفاتِ المتَوهِّجة بكلّ معاني الغاياتِ السامِية.
يقول سبحانه: وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، وفي ذلك امتنانٌ بتغيِير الحالِ المتشتِّت الشّنيع إلى الحالِ المنتَظِم البَديع.
ومِن مشكاةِ النبوّة وإشراقاتِها قولُه عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاريّ ومسلم: ((إنّ مِن أحبِّكم إليّ وأقربِكم منّي مجلسًا يومَ القيامة أحاسِنَكم أخلاقًا، الموطّئون أكنافًا، الذين يألفون ويُؤلفون)) [1].
أمّة القرآن والسّنّة، مَن كتمَ داءَه أسهَده وأضنَاه وأضجَره وعنّاه، وإنّ من الأدواء التي ينبغِي أن تُشخَّصَ في عُنفوان الأسَى واللّوعةِ ما هو كائنٌ مِن وَحشة وتنافُر وجفاءٍ وتدابُر بلغ حدَّ التجريحِ والتّحذير والتسفيهِ والتّشهير مِن قِبَل أهلِ الملّة بَعضِهم بعضًا، ممّن سلكَ سبيلَ الحقّ عقيدةً وعبادة وسلوكًا، وممّن ينتسِبون إلى الخيرِ والدّعوة والغيرةِ على الحُرُمات، الحريصين على سلامةِ الأمّة من التعثُّر والانزلاق، الوَجِلين على وَحدة الصّفّ مِن التصدُّع والانشقاق.
وإنّ مِن المصائبِ الفادِحَة أن يتطاولَ بعض أهلِ الملّة الواحدةِ على مقاماتِ إخوانِهم مِن العلماءِ الأجلاّء والدّعاة النُّبَلاء، حطًّا مِن أقدارهم ووقيعةً في أعراضِهم وإيضاعًا خِلالَهم ونزعًا للثقة والمرجعيّة منهم.
وإنّ الرّزِيّة لتعظُم حين يكون ذلك على قصدِ الازدِراء والتّعيير والثَّلبِ والتّشهير عبرَ قنواتٍ سيّارة من صُحفٍ ومجلات وفضائيّات وشبكاتِ معلومات، بكلّ تَخَلٍّ عن التورُّع التأثُّم، يقول محذِّرًا ومتوعِّدًا: ((يا معشرَ مَن آمن بلسانِه ولم يدخلِ الإيمان قلبَه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتّبعوا عَوراتِهم، فإنّه من تتبّع عوراتِهم تتبّع الله عورتَه، ومن تتبّع الله عورتَه يفضحه ولَو في جوفِ بيتِه)) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذيّ [2] ، وقال الإمام أحمد رحمه الله: "الوقيعةُ في أهلِ العِلم ـ ولا سيّما أكبارهم ـ مِن كبائِر الذنوب"، وقال مالك بن دينار: "كفى بالمرءِ شرًّا أن لا يكونَ صالحًا وهو يقَع في الصالحين" [3].
فما بال أقوامٍ مِن أهلِ الملّة الواحِدة ـ هداهم الله ـ من تكون غايةُ دنياه وأكبرُ همِّه ومُناه تتبّعَ العثراتِ وتصيُّدَ الزّلاّت والنّفخَ في الهِنَاتِ الهَيِّنات والتشهيرَ بها عبرَ المجالس والمنتديات؟! لا يفتؤون هَمزًا، ولا ينفَكّون لمزًا، ولا يبرَحونَ غمزًا. ديدنُهم التشويش، ومطيّتُهم التحريش، وسجيّتُهم الإثارةُ والتهويش. قاموسُهم سُوءُ الظنّ، ومعاجِمُهم الأذَى والمنّ، يبادِرون بالاتّهام، ويستَعجِلون بالجفاء والاصطلام [4] ، يكثِرون الوقيعةَ والعِتاب، ولا يتورّعون عن الشّتائم والسّباب. يطعَنون إخوانَهم فِي الخواصِر، ويصوِّبونَ سهامَهم تلقاءَ القفى. إذا رَأَوك في نعمةٍ حسَدوك، وإن توارَيتَ عنهم اغتابوك.
إن يسمَعوا هَفوةً طاروا بِها فرحًا وما علِموا مِن صالحٍ كتَموا
يعمَلون ليلَ نهارَ على الحطّ من الأقدار والنيلِ من الكفاءات وتَشويهِ صورةِ البُرآء الأخيارِ النّزهاء، يتحرّكون كالخفافيشِ في الظّلام، ويعمَلون خلفَ الكواليس، تنكّرت منهم الوجوه والقسمات، وتغيّرتِ البَسَمات، واصفرّت السُّبُحات. في الرّخاءِ أحبّة أخلاّء، وفي الشّدّة أعداءٌ ألدّاء، يستوي في ذلك الأقرباءُ والأصفِياء. لا يلتمِسون المعاذير، ويسعَون لإسقاطِ أهلِ الفضلِ والمشاهير، يبثّون عنهم الشائِعات، ويختلقون ضدَّهم الوِشايات، فسبحانَ ربّيَ العظيم، ألا يخافون الله ربَّ العالمين؟! إلى الله المشتَكى، ولا حولَ ولا قوّةَ إلاّ بالله العليِّ العظيم.
بل يتحرّونَ لذلك بعضَ المواقِع العنكبوتيّة، بل سَمِّها الثعبانيّة الفتّاكة، زاعِمين بيانَ الحقِّ والإصلاح، والواقعُ أنّهم مثلُ الذّباب يراعِي موضعَ العِلَل. ولا يبالون أن يكونَ جمعُهم من قالةِ السوء والمجاهيل، أو مِن ثنايا مؤلّفاتٍ لم يَطَأها قلمُ التّنقيح، ولم يخطَّها يراعُ النّسخ والتّوضيح.
وعلى إِثرِ تلك الأوهامِ والهفواتِ التي تقبَل التأويلَ والاغتفار في غَزيرِ الحَسَنات يكون الولاء والبراء والهجرُ والجفاء والوُدّ والعداء، عبرَ التصنيف والتعصُّب والتحيُّز والتحزّب.
ويُشغَل بذلك طلبةُ العلمِ المبتدِئون والمثقّفون والمصلِحون بلهَ العوامّ، ويتلقّفُها في كلّ الأصقاعِ الشانِئون والمغرِضون، وتهدَر ملكاتٌ وأوقات بين رادٍّ ومردودٍ عليه، وتُعقَد المجالس فريًا في الأعراضِ بكلماتٍ جارِحة وعِبارات مسفّة قاسيَةٍ وقذائفَ كأنّها شواظٌ من نار، تشِي بسوءِ الدِّخلةِ والمأرب، ضاربةً بعفّةِ اللّسان نزاهةَ النفسِ كلَّ مضرَب، كان الأولى فيها صرفَها شطرَ الفِرق المنحرِفة المناوِئة لأهلِ الإسلام الساعيَةِ في تقويضِ أمنِها وخَلخَلة صفِّها، وإنّي أعيذ الأصفياءَ وطلاّبَ الخير وشداتَه أن يتشبّهوا بصِفةِ فرقةٍ ضالّة حذّرنا منها المعصومُ فيما أخرَجَه أحمد والشّيخان: ((قومٌ يقرؤون القرآنَ، لا يجاوِز حناجرَهم، يمرقون من الإسلامِ كما يمرُق السّهم مِن الرميّة، يقتلون أهلَ الإسلام ويَدَعون أهلَ الأوثان)) [5].
ومِن الوَمَضات اللّطيفةِ للقاضِي إياس بنِ معاوية الذي صارَ مثلاً في الفِطنة والذّكاء ما أوردَه الحافظ ابن كثير رحمه الله عن سفيان بن حسين قال: ذكرتُ رجلاً بسوءٍ عندَ إياس بن معاوية، فنظر في وجهي وقال: أغزوتَ الروم؟! قلت: لا، قال: السّندَ والهِند والتّرك؟! قلتُ: لا، قال: أفسَلِم منك الرومُ والسّند والهِندُ والتّرك ولم يسلَم منك أخوك المسلم؟! قال: فلم أعُد بعدَها أبدًا [6]. وقال ابن سيرين رحمه الله: "ظلمُك لأخيكَ أن تَذكرَ مِنه أسوأَ ما تعلَم وتكتُمَ خيرَه" [7]. وقال ابن المبارَك: "المؤمن يلتمِس المعاذيرَ، والمنافِق يتتبّع الزّلاّت" [8]. وقال آخر: "المسلم يستُر وينصَح، والمنافِق يهتِك ويفضَح" [9]. هذا في حقّ آحادِ المسلمين وعوامّهم، فكيفَ إذا كان مِن أهلِ العِلم والفضل والخير والسّبق والدعوةِ وقضى سَحابةَ عمره عالمًا محقّقًا أو داعيًا متألّقًا أو كان مِن ذوي الهيئات والمروآت؟! فإنّ إمساكَ اللّسان عنهم وصونَهم عن الرَّشَق والتوهين آكدُ وأوجب.
أنصارَ السنّة ودعاتَها، وفي سَتر الزّلّة وسدِّ البادِرةِ والخَلّة ما وَرَد عن عمَر رضي الله عنه أنّه قال: (لا تَظنّنّ بكلمةٍ صدَرَت من أخيكَ سوءًا وأنتَ تجِد لها في الخير محمَلاً) [10]. وعن سعيد بنِ المسيّب رحمه الله قال: "ليسَ مِن عالمٍ ولا شريف ولا ذي فضلٍ إلاّ وفيه عَيب، ولكن مَن كان فضلُه أكثرَ من نقصِه ذهبَ نقصُه لفضلِه" [11].
ومِن الكلام الذهبيّ للإمام الذهبيّ في ترجمةِ الحافظ محمد بن نصرٍ قوله رحمه الله: "ولو أنّا كلّما أخطأ إمامٌ في اجتهادِه في آحادِ المسائِل خطأً مغفورًا له قُمنا عليه وبدّعناه وهجَرناه لمَا سلِم معنَا ابن نصرٍ ولا ابن مَنده، ولا مَن هو أكبر منهما، والله هو هادِي الخَلق إلى الحقّ، وهو أرحمُ الرّاحمين، فنعوذ بالله من الهوَى والفَظاظة" [12].
وهُنا صرخةُ تحذير وتنبيهٍ وتنذير لأهلِ الإسلام أن كفانا جفاءً واختِلافًا، وحيّهلاً اعتِصامًا وتجرُّدًا وائتلافًا، ماذا دَهَانا؟! عجيبٌ أمرُنا ذا الزّمانا،
مرادُ النّفوس أعلى مِن أن نتعادَى فيه أو نتفانَى
لوسائلِ الإعلام المؤتَمَنة على الأفكار والأقلامِ أن تتّقيَ الله في صِدق الكلمةِ وانتقاء النشر وعُمق الطّرح، فليسَ كلّ مَن خطّ سوادًا في بياض نُشِر له، فوضَعَ وخبَّ في أعراضِ الفضلاء والعُلماء والنّبلاء، وليس هو مِن طرازِهم ولا مِن علمِهم في قبيلٍ ولا دبير، حتّى غدَا الثّلب والسّلب مَركبًا وطيئًا وسَابلةً لمن تعرِف وتُنكِر.
ألا كلاّ ثمّ كلاّ للتّعقُّبات والرّدودِ الرّعناء التي تثيرُ كوامنَ النّفوس والشّحناء، وتورِي زِنادَ الكوامِن والبغضاء، ورحِم الله امرأً عرَف قدرَ العلماءِ وقدرَ نفسِه، وتابَ ممّا خطَّته يده في طِرسِه [13] ، وليَكِل شأنَ النّقد والتّقويم إلى مَن رسَخت في العِلم أقدامُهم، وأتقَنوا ضوابطَ النّقد والحِوار، وقاموا على آدابِ الخلافِ وقواعدِه خيرَ قِيام، وهَل يملِك ميزانَ الاعتدالِ في نقدِ المنهَج والرّجال إلاّ العلماء الأفذاذُ الذين تُنَاخُ بعِلمِهم الرّحال وتُحدَى بهم المطايا والآمال؟! يقول الإمام الذهبيّ: "الكلامُ في العلماءِ مفتقِر إلى العدلِ والورَع" [14] ، ألا ما أحوجَه في زمنِنا هذا إلى لجانٍ متخصِّصةٍ وهيئاتٍ عاليَة.
أيّها المسلمون، إنّ السّاحة العلميّة والحلائبَ الدعويّة والمجالسَ والمنتدياتِ المعرفيّة والحواريّة ووَحدةَ الأمة المفكّكة لا يزالان في ظَمَأ هائلٍ لترسيخِ حقائقِ التآخي الوَريف والتناصُح الشفيف المرتكزَين على الصّدق والإنصافِ والتواضُع والحِرص على إظهارِ الحقِّ دونَ زُخرفٍ في القول مموَّه، أو باطنٍ بالحسَد مشوَّه، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].
ومِن الرّوائعِ الكثيرةِ في أدَب أسلافِنا عندَ الاختلاف وحِفاظِهم على المودّة والصّفاءِ والإذعان للحقّ حيث استبانَ وكانَ دونَ تَمَعُّر أو تَنقُّص أو استعلاءٍ ما أوردَه الذهبيّ عن الحافظِ أبي موسَى الصّدَفي أنّه قال: ما رأيتُ أعقلَ من الشافعيّ، ناظرتُه يومًا في مسألةٍ ثمّ افترقنا، ولقيَني فأخذَ بيدي ـ تأمّلوا يا رَعاكم الله، ألا ما أزكاه مِن أدَب ـ ثمّ قال: يا أبَا موسى، ألا يستقيمُ أن نكونَ إخوانًا وإن لم نتّفِق في مسألة؟! [15] ، علّق الذهبيّ قائلاً: "هذا يدلّ على كمالِ عَقلِ هذا الإمام وفِقهِ نفسِه، فما زال النُظراء يختَلفون" انتهى كلامه رحمه الله [16].
ألا مَا أحوجَنا إلى مثلِ هذه الأفهامِ والعقول، وذاك السّمت والهَدي، وتلك المنهجيّة والإصابة، لا كثرة الهَذر والاسترسالِ في الطّعون، وليسَ العهد ببعيدٍ عن سيرةِ أئمّتنا وعلمائِنا، رحِمَ الله أمواتَهم ووفّق أحيَاءَهم.
فيا أهلَ السنّة الميامين، حنَانيكم ببعضكم حنانَيكم، ولُطفًا لطفًا بإخوانِكم، ورِفقًا رِفقًا بالعلماءِ والدّعاة وأهلِ الخيرِ والصّلاح والإصلاح، والقصدَ القصدَ تبلُغوا، فإنّ المنبتَّ لا أرضًا قطع، ولا ظَهرًا أبقى. ورحِم الله امرَأ أنصَف من نفسِه فبادر باتّهامها، وأنصف إخوانَه فحفِظ ودَّهم، وأحبَّ الخيرَ والإصابةَ لَهم، ولم يُعنِ الشيطانَ عليهم.
إنّ مِن النّبلِ والشّجاعة مواجهةَ إخوانِك بأخطائِهم إن حَصَلت، وإنّ من اللّؤم والخِسّةِ والدّناءةِ الطّعونَ الخلفيّة وبثَّ الكوامنِ النفسيّة وتغليبَ النظراتِ الحزبيّة والاحتكامَ إليها في تقويمِ أهلِ الفضل، فلا يعرِف الفضلَ لأهلِ الفضلِ إلاّ ذووه، وليَكُن ملءَ دواخِلِكم وشغلَ جوارِحِكم قولُ الحقّ سبحانه: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح:29].
وحيّهلاً بالنّقدِ العلميّ البنّاء والحوارِ المؤصَّل النّزيه، ولكن مِن المؤهَّلين والأكفَاء، حوارٍ هادف ونصحٍ بنّاء، تحفّه مشاعِر الودّ وترِفُّه نسائمُ الإنصاف، قد خلِيَ من الهوَى والعصبيّة، وعَريَ عن التّصنيف والحزبيّة، وساعتئذ ستكتالُ لكم أمّتُكم جزيلَ الدعاءِ والثّناء، والله وحدَه المستعان، وهو القائل سبحانه: فَأَمَّا ?لزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ?لنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ?لأرْضِ كَذ?لِكَ يَضْرِبُ ?للَّهُ ?لأمْثَالَ [الرعد:17].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنّة، ونفعَني بما فيهما من الآياتِ والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولوالديَّ ووالدِيكم ولجميعِ المسلمين والمسلمات، من جميع الذنوب والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو التوّاب الرحيم.
[1] أخرجه معمر في جامعه (11/144 ـ مصنف عبد الرزاق ـ) عن هارون بن رئاب مرسلا، وجاء بنحوه موصولا عن عدد من الصحابة، منهم أبو هريرة وأبو سعيد وأبو ثعلبة وجابر وابن مسعود رضي الله عنهم، وقواه الألباني في السلسلة الصحيحة (751).
[2] أخرجه أحمد (4/420)، وأبو داود في الأدب (4880)، وأبو يعلى (7423)، والروياني (1312) عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، وهو في صحيح سنن أبي داود (4083). وأخرجه الترمذي في البر (2032) عن ابن عمر رضي الله عنهما بمعناه، وصححه ابن حبان (5763)، والألباني في صحيح سنن الترمذي (1655). وفي الباب عن ثوبان والبراء وبريدة وابن عباس رضي الله عنهم.
[3] أخرجه البيهقي في الشعب (5/316).
[4] الاصطلام: الاستئصال والإبادة.
[5] صحيح البخاري: كتاب التوحيد (7432)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1064) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[6] أخرجه البيهقي في الشعب (5/314).
[7] انظر: التمهيد (23/22)، وصفة الصفوة (3/245).
[8] انظر: إحياء علوم الدين (2/177).
[9] انظر: جامع العلوم والحكم (ص82).
[10] أخرجه المحاملي في أماليه (460)، والبيهقي في الشعب (6/323-324).
[11] أخرجه الخطيب في الكفاية (ص79)، وانظر: التمهيد (11/170)، وصفة الصفوة (2/81).
[12] سير أعلام النبلاء (14/40).
[13] الطرس: الصحيفة.
[14] سير أعلام النبلاء (8/448).
[15] سير أعلام النبلاء (10/16).
[16] سير أعلام النبلاء (10/17).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله الواحدِ الخلاّق، أمرَنا بالتّآلفِ والوِفاق، ونَهَانا عن سُبُل التفرّق والشّقاق، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له شهادةً تَملأ النفوسَ مِن الخشيةِ والإشفاق، وأصلّي وأسلّم على نبيّنا محمّد بن عبد الله صلاةً وسلامًا تامّين كاملين ما تعاقب أُفول وإشراق، وعلى آله وصحبِه أئمّة الهدَى باتّفاق، ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يومِ التّلاق.
أمّا بعد: فاتّقوا اللهَ عبادَ الله، وليكُن مِنكم بحسبانٍ لا يَريب أنّ أمّتَكم الإسلاميّة لفي أشَدّ ما تكون حاجةً إلى التّواصي بالحقّ والتجرُّد والتّوافُر على الكلِمةِ الطيّبة البنّاءة التي تشعّ منها الخشيَة والتقوَى وإحسانُ الظنّ بالبُرآء الأتقياء والالتفاف حولَ الولاةِ والعلماء وتأكيدُ المواثيق والعُرى في عَميق مصداقيّتهم ومَكينِ مرجعيّتهم، مع الترصُّد صفًّا واحدًا كالبنيَان المرصوص ضدَّ التيّارات الجارِفة والأفكار المسمومَة القاتِلة التي لا تَزال عَقابيلها تؤرِّق النفوسَ وتزَعزِع أمنَ المجتمع.
وإنّ الصّدوفَ عن هذا المَهيَع الوارِف وفي هذه الآوِنة تحديدًا وادِّعاءَ الاختلاف فيما يسوغُ فيه الخِلاف والانشغال بالعيوب والمثالب وبُنيّات الطّريق وأخطرُ من ذلك المسَاس بالثّوابت والتعدّي على الأصول ليُعَدّ عقوقًا للأمّة وتَخاذلاً عن نصرتها وعلاجِ قضاياها المهمّة والملحّة. وإنّ من العارِ والحَماقة أن ينشغِلَ الأخ بأخيه والعدوّ يتفرّج من حولِهم، وليس هذا ـ وايم الله ـ لخَطَأ إقرارًا أو على باطلٍ إصرارًا، ولكنّه عين الحكمَة وتحقيقِ المصالح للأمة ودرء المفاسد عنها.
أيّها الأحبّة في الله، ولي نحمدَ السُّرى ونسعَدَ بتباشيرِ ابنلاجِ الصّباح بقطعِ دابرِ التنافر والتناثُر وبَتر داءِ التّشهي بِلمزِ وهَمز وغَمز الأماجِد ودَحر كيدِ المفسِدين الذين يُرنِّقون [1] سَلسَال وحدتنا وشموخِنا علينا جميعًا أن نتنادى ـ الدعاةُ والعلماء، أهلُ الحِسبة والأدباء، أربابُ الفِكر والأقلامِ والثقافة والإعلام ـ إلى الشّعور بروحِ الجَسَد الواحد الذي إن اشتَكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجَسَد بالسّهر والحمّى، حمايةً لسفينةِ المجتمع من الإغراق بأيدي أقوامٍ سفهت أحلامُهم وارتَكَسَت في حَمأة التّبديع التّفسيق والتّكفيرِ أقدامُهم، بل تعدّى الأمر إلى حَمل السّلاح والتّفجير وسَفك الدّماء والتّدمير، فسفينةُ الأمّة كلُّها لا ترسو إلاّ على جودِيِّ الأمنِ والإيمان في منأًى عن مِطرقةِ الجَهل وسِندان الهَوى.
فَيَا ساهيًا قد غرَّه الجهلُ والهوى صريعَ الأماني عمّا قريبٍ ستندَمُ
أفِق قبلَ أن يأتيَ اليوم الذي ليسَ بعده سِوى جنّةٍ أو حَرِّ نار تضرَمُ [2]
وهيهاتَ أن تجنيَ بعض الأقلام ثَمَرًا يانعًا في علقمِ النّيلِ مِن ثوابِت الأمّة أو التمرّغ في [أوحال] الوقيعةِ برُموزها تحتَ أيّ دعوًى عريضة.
عبادَ الله، الدّعوةُ موجّهة من مِنبر المسجدِ الحرام حِفاظًا على الأمّة وأمنِ المجتمع إلى الفارّين مِن وجهِ العدالةِ والمطلوبين أمنيًّا أن يبادِروا إلى تسليمِ أنفسِهم ليحكمَ فيهم شرعُ الله المطهَّر وحكمُه العادل، وفي ذلك تحقيقُ الخير لهم ولأُسَرِهم ومجتَمَعهم وبلادِهم في العاجِل والآجل، وأيّما مسلمٍ في كلّ مكان تلقّى ما أنيط به مِن أمانةٍ ومسؤوليّة بعَزم وصِدق وبصيرةٍ نافذةٍ فلن تعجزَه الأوهامُ عن الوصول إلى الحقّ والحقيقة، ولن يثنيَه الديجور عن مواصلةِ طريقِ التقدّم والعبور، والله مِن وراء القصد، وهو الهادِي إلى سواءِ السّبيل.
هذا وأسأل اللهَ جلّت حكمته وعمّت نعمتُه أن يديمَ علينا نعمةَ الأمن والإيمانِ، فضلاً وجودًا ومَنًّا، لا باكتسابٍ مِنّا، إنّه جواد كريم.
ألا وصلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على حبيب الحقّ وشفيع الخلق الهادي البشير والسّراج المنير كما أمركم بذلك المولى اللطيف الخبير، فقال تعالى قولا كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلِّم وبارك على سيّد الأوّلين والآخرين وخاتَم الأنبياء وأشرف المرسلين نبيّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وصحابتِه الغرّ الميامين، والتّابعين ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
[1] أي: يكدّرون.
[2] من ميمية ابن القيم، طريق الهجرتين (ص95).
(1/2844)
الأمر بالمعروف
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
3/11/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بالمعروف من سمات المجتمع المسلم. 2- تصحيح الصديق لمفهوم خاطئ في الأمر بالمعروف. 3- عذاب الله للأمم حين تركت الأمر بالمعروف. 4- الأمر بالمعروف مسئولية كل مسلم بحسبه. 5- أحوال المسلمين في أرض فلسطين. 6- دعوة للاستمساك بهدي الله واجتناب المعاصي أسباب الهزيمة والخور.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أيها المسلمون، أيها المؤمنون، أيها المرابطون ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس، فإن المجتمع الصالح الراشد هو المجتمع الذي يتعاون أفراده على الخير، وتتضافر جهودهم لدفع الشر ونفي الخبث والأخذ على يد الظالم، وذلك ما ينطبق تمام الانطباق على المجتمع الصالح الذي وصف واقعَه ربُ العزة بقوله: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَيُطِيعُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ?للَّهُ إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].
وأوضح سبحانه أن عوامل الصلاح والرشاد هي الأخذ في سبل الطاعة، وفي طليعتها أداء الفرائض، وإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الأسس الصحيحة التي وضعها الإسلام، وأمر بها وشجع عليها رب العالمين بقوله: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، فالمرء يكمل نفسه ويزكيها بالطاعة، ويكمُل مجتمعه ويرتفع إلى مراقي الفلاح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أيها المسلمون، وقديماً رد الخليفة أبو بكر رضي الله تعالى عنه على من يتنصل من إقامة الأمر بالمعروف بدعوى أن ذلك لا يعنيه، فقال: يا أيها الناس إنكم تسمعون هذه الآية: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ?هْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الناس إذا رأو الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقابه)) ، والظالم هو كل من تعدى حقوق الله وانتهك محارمه بأي قول أو فعل، فإن جنايته ـ إذا لم يُقَوّم ويؤخذ على يديه ـ سوف تعُمُّ الصالح والطالح كما قال تعالى: وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الأنفال:25].
أيها المسلمون، وإن السعيد من وعظ بغيره، وكم سمع الناس من أخبار الماضين وأخْذِ الله للطغاة الظالمين، لمجاوزتهم حدود الله، مما فيه عظة وعبرة، كما قال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَـ?لِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً ءاخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مّنْهَا يَرْكُضُونَ لاَ تَرْكُضُواْ وَ?رْجِعُواْ إِلَى? مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَـ?كِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُواْ ي?وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَـ?لِمِينَ فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى? جَعَلْنَـ?هُمْ حَصِيداً خَـ?مِدِينَ [الأنبياء:11-15].
وفيما صح به النقل عن سيد المرسلين من أخبار بني إسرائيل قوله: ((إن أول النقص في بني إسرائيل، أنه كان الرجل يلقى الرجل ـ أي على المعصية ـ، فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79])).
أيها المسلمون، ولقد حذر الرسول صلوات الله وسلامه عليه في كثير من أحاديثه الأمةَ الإسلامية أن يصيبها مثل ما أصاب بني إسرائيل، إذا سلكوا مسالكهم واقتدوا بأفعالهم، بإضاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فضلاً عن التضامن في الباطل والتضافر على هدم معالم الحق.
أيها المؤمنون، إنها والله مسؤولية عظيمة حمّلها رسول الهدى كلَ فرد في الأمة حسب إمكانياته للأخذ في سبل الصلاح والإصلاح، وللقضاء على الفساد في مهده، على القريب والبعيد، والرئيس والمرؤوس على حد سواء، إنكم إن فعلتم ذلك كنتم على جانب عظيم من الصلاح والحفاظ على تراث سلفكم الصالح الذين رفع الله ذكرهم، وامتدحهم في محكم الكتاب بجميل أعمالهم فقال: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110].
التائب من الذنب كمن لا ذنب له، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله ثم الحمد الله، الحمد لله يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بعدله، نحمده سبحانه على نعمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، رفع من شأن التضامن والتعاون في الإسلام وشجع عليه بقوله وفعله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
وبعد: أيها المسلمون، إن المجتمع الصالح الراشد هو المجتمع الذي يتخذ من إشعاع الوحيين ـ أي القرآن والسنة ـ دستوراً يطبقه بكل دقة وأمانة، سواء ما يتصل بحقوق الخالق في الطاعة وإخلاص العبادة، أو ما يتصل بحقوق المخلوق من الاعتصام والتضامن ونبذ الفرقة، استجابة لقول الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً [آل عمران:102، 103]، واستجابة لقوله تعالى: وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:46].
أيها المؤمنون، إن المسلمين إذا لم يجتمعوا على الحق فرّقهم الباطل، وإذا لم يتضامنوا على جمع الكلمة ونصر الله، مزقهم الأعداء، وكان لهم معهم في كل يوم معركة، مستغلين انقسامهم وتفرقهم، إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
إن القافلة يجب أن تسير حتماً إلى الأمام لكسب الوقت ولتحقيق الأهداف المرجوة، فمقدساتنا وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال يقع تحت الاحتلال، والأرض تصادر هنا وهناك لإنشاء المستوطنات عليها، جدار الفصل العنصري يبتلع الأرض ابتلاعاً، وهدم البيوت لا يتوقف، والحصار يفرض على المدن والقرى بجميع أشكاله وألوانه، والناس لا يستطيعون الوصول إلى المسجد الأقصى للصلاة فيه، والدماء البراءة تسفك صباح مساء، فنحن في وضع لا نحسد عليه، فاللهم لا حول ولا قوة إلا بك.
ولكن أيها المرابطون، أمام الصبر والثبات والتعاون على البر والتقوى، وأمام اتحاد الكلمة ستفشل كل هذه المحاولات والممارسات التي تتنافى مع أبسط حقوق الإنسان، وستتحطم بمشيئة الله على صخرة صماء، وعندها ستتحرر البلاد من نير الاحتلال ويسود الأمن والسلام مصداقاً لقوله تعالى: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47].
أيها المؤمنون، ولنتذكر وصية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في رسالته التي وجهها إلى قائد معركة القادسية، سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما، والتي يقول فيها: (فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب)، وفي فقرة أخرى من هذه الوصية يشدد ويدعو للابتعاد عن المعاصي فيقول: (وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليكم من عدوكم، إنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عُدتنا كعِدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا بالقوة، وإن لم ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا)، ونسألك اللهم العون على أنفسنا والنصر على أعدائنا.
(1/2845)
صلة الرحم
الأسرة والمجتمع
الأرحام
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
3/11/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عناية الإسلام ببناء المجتمع المتلاحم. 2- الأمر بصلة الرحم. 3- تقديم حق الأرحام. 4- فضل صلة الأرحام. 5- سبل صلة الرحم. 6- ضرورة الصبر على ذي الرحم. 7- التحذير من القطيعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقّ التقوى، فبتقوى الله تُستجلَبُ النّعم، وبالبُعد عنها تحلّ النقَم.
أيّها المسلمون، يهدِف الإسلام إلى بناءِ مجتمعٍ إسلاميّ متراحمٍ متعاطِف، تسودُه المحبّةُ والإخاء، ويهيمِن عليه حبّ الخيرِ والعَطاء.
والأسرةُ وحدة المجتمع، تسعَد بتقوى الله ورعايةِ الرّحِم، اهتمّ الإسلامُ بتوثيق عُراها وتثبيتِ بنيانها، فجاء الأمر برعايةِ حقّها بعدَ توحيد الله وبرّ الوالدين، قال جلّ وعلا: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا وَبِذِى ?لْقُرْبَى? [النساء:36]. وقُرِنَت مع إفراد الله بالعبادةِ والصّلاة والزّكاة، عن أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى النبيّ فقال: أخبِرني بعملٍ يدخلني الجنّة، قال: ((تعبد الله ولا تشرِك به شيئًا، وتقيمُ الصلاة، وتؤتي الزكاةَ، وتصِلُ الرّحم)) متفق عليه [1].
أُمِرَت الأمم قبلَنا بصِلة أرحامِها، قال سبحانه: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـ?قَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ?للَّهَ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى ?لْقُرْبَى? [البقرة:83]، ودَعا إلى صِلتها نبيّنا محمّد في مَطلع نبوّته، قال عمرو بن عبَسَة: قدمتُ مكّةَ أوّلَ بعثةِ النبيّ ، فدخلتُ عليه فقلت: ما أنت؟ قال: ((نبيّ)) ، قلت: وما نبيّ؟ قال: ((أرسَلَني الله)) ، قلت: بِمَ أرسلك؟ قال: ((بصلةِ الأرحام وكسرِ الأوثان وأن يُوحَّد الله)) رواه الحاكم [2] ، وسأل هرقل أبا سفيان عن النبيّ : ما يقول لكم؟ قال: يقول: ((اعبُدوا الله وحدَه ولا تشركوا به شيئًا)) ، ويأمرنا بالصّلاة والصِّدق والعَفاف والصّلَة. متفق عليه [3].
وأمَر بها عليه الصلاة والسلام أوّلَ مقدمِه إلى المدينة، قال عبد الله بن سلام: لمّا قدم النبيّ المدينةَ انجفلَ الناس إليه ـ أي: ذهَبوا إليه ـ فكان أوّل شيء سمعتُه تكلَّم به أن قال: ((يا أيّها الناس، أفشوا السّلام، وأطعِموا الطّعام، وصِلوا الأرحامَ، وصَلّوا بالليل والنّاس نِيام، تدخلوا الجنّة بسلام)) رواه الترمذيّ وابن ماجه [4]. وهي وصيّة النبيّ ، قال أبو ذر: أوصاني خليلِي بصِلة الرّحم وإن أدبَرت. رواه الطبراني [5].
صِلة ذوي القربَى أمارةٌ على الإيمان، ((من كان يؤمِن بالله واليومِ الآخر فليصِل رحِمَه)) متفق عليه [6]. وقد ذمّ الله كفّارَ قريش على قطيعةِ رحمِهم فقال عنهم: لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [التوبة:10].
القيامُ بها برٌّ بالوالدَين وإن كانوا أمواتًا، جاء رجل إلى النبيّ فقال: يا رسول الله، هل بقيَ من برّ أبويَّ شيءٌ أبرّهما به بعد موتهما؟ قال: ((نعم، الدعاءُ لهما، والاستغفار لهما، وإنفاذُ عهدِهما مِن بعدهما، وصِلة رحمِك التي لا رحمَ لك إلاّ من قِبَلهما)) رواه أبو داود [7].
خلق الله الرحمَ، وشقَقَ لها اسمًا من اسمِه، ووعَد ربُّنا جلّ وعلا بوصلِ مَن وصلَها، ومَن وصَله الرحيمُ وصلَه كلُّ خير ولم يقطَعه أحد، ومن بَتَره الجبّار لم يُعلِه بشرٌ وعاشَ في كَمَد، وَمَن يُهِنِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ [الحج:18].
والله يُبقي أثرَ واصلِ الرّحم طويلاً، فلا يضمحِلّ سريعًا كما يضمحِلّ أثر قاطعِ الرّحم، قال النبيّ : ((قال الله للرّحم: أما ترضينَ أن أصلَ من وصلك وأن أقطعَ من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك)) متفق عليه [8] ، ((والرحمُ معلّقة بالعرش تقول: مَن وصلني [وصله الله]، ومن قطعني [قطعه الله])) [9].
صلةُ الرّحم تدفَع بإذن الله نوائبَ الدّهر، وترفع بأمرِ الله عن المرء البَلايا، لمّا نزل على المصطفى ?قْرَأْ بِ?سْمِ رَبّكَ ?لَّذِى خَلَقَ [العلق:1] رجع بها ترجِف بوادرُه حتّى دخل على خديجةَ فقال: ((زمِّلوني)) ، فأخبرَها الخبَر، وقال: ((قد خشيتُ على نفسِي)) ، فقالت له: كلاّ والله، لا يخزيكَ الله أبدًا؛ إنّك لتصلُ الرّحم، وتحمِل الكَلّ، وتكسِب المعدومَ، وتَقري الضّيف. رواه البخاري [10].
أمَرَ الله بالرّأفة بهم كما نرأَف بالمِسكين، قال عزّ وجلّ: وَءاتِ ذَا ?لْقُرْبَى? حَقَّهُ وَ?لْمِسْكِينَ وَ?بْنَ ?لسَّبِيلِ [الإسراء:26]. حقُّهم في البذلِ والعطاء مقدّمٌ على اليتامَى والفقراء، قال سبحانَه: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فَلِلْو?لِدَيْنِ وَ?لأقْرَبِينَ وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ [البقرة:215]. السخاءُ عليهم ثوابٌ مضاعفٌ من ربِّ العالمين، قال عليه الصّلاة والسّلام: ((الصدقةُ على المسكين صدقة، وعلى القريب صدقةٌ وصِلة)) رواه الترمذي [11]. وأوّلُ مَن يُعطَى مِن الصدقة هم الأقربون مِن ذوي المَسكنَة، تصدّق أبو طلحة رضي الله عنه ببستانِه، فقال له النبيّ : ((أرَى أن تجعلَها في الأقربين)) ، فقسمَها أبو طلحة على أقاربِه وبني عمّه. متفق عليه [12]. يقول عليّ رضي الله عنه: (لأن أصِل أخًا مِن إخواني بدِرهم أحبّ إليّ من أن أتصدّق بعشرين درهمًا) [13].
الباذلُ لها سخيُّ النّفس كريم الشّيَم، يقول الشعبيّ رحمه الله: "ما ماتَ ذو قرابةٍ لي وعليه دينٌ إلاّ وقضيتُ عنه دينه" [14].
الجارُ من ذوي الأرحام أخصُّ بالرّعاية والعنايةِ مِن غيره، قال سبحانه: وَ?لْجَارِ ذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْجَارِ ?لْجُنُبِ وَ?لصَّـ?حِبِ بِ?لجَنْبِ [النساء:36].
دعوتُهم وتوجيهُهم وإرشادهم ونُصحهم ألزمُ من غيرِهم، قال جلّ وعلا: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ?لأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]. وإكرامُ ذوي القراباتِ مأمور به على أن لا يكونَ في التّقديم بخسٌ لأحدٍ أو هضمٌ لآخرين، قال سبحانه: وَإِذَا قُلْتُمْ فَ?عْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى? [الأنعام:152].
في صلةِ الرّحم ثمراتٌ هي أسُسٌ في بِناء الحياة؛ محبّة الأهل، بَسط الرّزق، بركةُ العُمر، يقول : ((صِلة الرّحم محبّةٌ في الأهل، مثراة في المالِ، منسَأَة في الأثر)) رواه أحمد [15] ، وعند البخاريّ ومسلم: ((من أحبَّ أن يُبسَط له في رزقه ويُنسَأ له في أثَره فليصِل رحمَه)) [16] ، قال ابن التّين: "صلةُ الرّحم تكون سببًا للتوفيقِ والطاعة والصيانة عن المعصيةِ، فيبقى بعدَه الذكرُ الجميل فكأنّه لم يمُت" [17].
صِلتُها عبادةٌ جليلة مِن أخصِّ العبادات، يقول عمرو بن دينار: "ما مِن خطوة بعد الفريضةِ أعظمُ أجرًا من خطوةٍ إلى ذي الرّحم" [18]. ثوابُها معجَّل في الدنيا ونعيمٌ مدَّخرَ في الآخرة، قال : ((ليس شيء أُطِيع الله فيه أعْجَل ثوابًا من صِلةِ الرحم)) رواه البيهقيّ [19].
والقائمُ بحقوقِ ذوي القربَى موعودٌ بالجنّة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أهلُ الجنة ثلاثة: ذو سلطانٍ مُقسط، ورجلٌ رحيم رقيقُ القلب بكلّ ذي قُربى ومسلم، ورجلٌ غنيّ عفيف متصدِّق)) رواه مسلم [20].
بصلتِهم تقوَى المودَّة وتزيدُ المحبَّة وتتوثَّق عُرى القرابةِ وتزول العداوة والشّحناء، فيها التعارفُ والتواصلُ والشعور بالسّعادة.
صِلة الرّحم والإحسان للأقربين طرقُها ميسَّرة وأبوابها متعدِّدة، فمِن بشاشةٍ عند اللّقاء ولينٍ في المُعاملة، إلى طيبٍ في القول وطلاقةٍ في الوجه، زياراتٌ وصِلات، مشاركةٌ في الأفراح ومواساةٌ في الأتراح، وإحسان إلى المحتاج، وبذل للمعروف، نصحُهم والنّصح لهم، مساندةُ مكروبِهم وعيادة مريضهم، الصفحُ عن عثراتهم، وترك مضارّتهم. ولا يكن أهلُك أشقى الخلقِ بك، والمعنى الجامِع لذلك كلّه إيصالُ ما أمكَن من الخير، ودفعُ ما أمكنَ منَ الشرّ.
صلةُ الرّحم أمارةٌ على كَرَم النّفس وسَعَة الأفُق وطيبِ المنبَتِ وحُسن الوَفاء، ولهذا قيل: مَن لم يصلح لأهلِه لم يصلح لك، ومَن لم يذبّ عنهم لم يذبَّ عنك. يقدِم عليها أولو التّذكرة وأصحاب البصيرة، أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ ?لْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى? إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ?لألْبَـ?بِ [الرعد:19].
أيّها المسلمون، إنّ ذوي الرّحِم غيرُ معصومين، يتعرّضون للزّلَل، ويقَعون في الخَلل، وتصدُر منهم الهَفوة، ويقَعون في الكبيرة، فإن بَدَر منهم شيءٌ من ذلك فالزَم جانبَ العفوِ معهم، فإنَّ العفوَ من شِيَم المحسنين، وما زادَ الله عبدًا بعفو إلاّ عِزًّا، وقابِل إساءَتهم بالإحسان، واقبل عُذرَهم إذا أخطؤوا، لقد فعل إخوة يوسفَ مع يوسفَ ما فعلوا، وعندما اعتذروا قبِل عذرهم وصفَح عنهم الصفحَ الجميل، ولم يوبِّخهم، بل دعا لهم وسأل الله المغفرةَ لهم، قال: لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ ?لْيَوْمَ يَغْفِرُ ?للَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ ?لرحِمِينَ [يوسف:92].
غُضَّ عن الهفواتِ، واعفُ عن الزّلاّت، وأقِلِ العثرات، تجنِ الودَّ والإخاء واللينَ والصفاء، وتتحقَّق فيك الشهامةُ والوفاء. داوِم على صِلة الرّحم ولو قطعوا، وبادِر بالمغفرة وإن أخطؤوا، وأحسِن إليهم وإن أساؤوا، ودَع عنك محاسبةَ الأقربين، ولا تجعَل عِتابَك لهم في قطعِ رحمِك منهم، وكُن جوادَ النّفس كريمَ العطاء، وجانب الشحَّ فإنّه من أسباب القطيعة، قال عليه الصلاة والسلام: ((إيّاكم والشّحَّ؛ فإنّ الشحّ أهلك من كان قبلكم؛ أمرهم بالبُخل فبخلوا، وأمرهم بالظّلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعةِ فقطعوا)) متفق عليه [21].
إنّ مقابلةَ الإحسانِ بالإحسان مكافأةٌ ومجازاة، ولكن الواصلَ من يَتفضَّل على صاحبِه، ولا يُتَفضّل عليه، قال عليه الصلاة والسلام: ((ليسَ الواصل بالمكافئ، ولكنّ الواصلَ مَن إذا قطعَت رحمُه وصَلها)) رواه البخاري [22]. قيل لعبد الله بن مُحَيريز: ما حقّ الرّحم؟ قال: "تُستَقبَل إذا أقبَلت، وتُتْبَع إذا أدبَرت" [23] ، وجاء رجلٌ إلى النبيّ فقال: يا رسولَ الله، إنّ لي قرابةً أصِلهم ويقطعونني، وأُحسِن إليهم ويسيؤون إليّ، وأحلم عليهم ويجهَلون عليّ، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لئن كان كما تقول فكأنّما تسِفُّهم المَلّ، ولا يزال معك من الله ظهير ما دمتَ على ذلك)) رواه مسلم [24].
وكلّ رحِم آتيةٌ يومَ القيامةِ أمامَ صاحبها، تشهَد له بصلةٍ إن كانَ وصلها، وعليه بقطيعةٍ إن كان قطعَها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأُوْلُواْ ?لأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى? بِبَعْضٍ فِي كِتَـ?بِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ [الأنفال:75].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر اللهَ لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه غفور رحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1396)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (13).
[2] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (832).
[3] صحيح البخاري: كتاب بدء الوحي (7)، صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1773) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[4] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2485)، سنن ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيهما، باب: ما جاء في قيام الليل (1334)، وأخرجه أيضا أحمد (5/451)، وصححه الحاكم (3/14)، والمقدسي في الأحاديث المختارة (6/431)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2019).
[5] المعجم الأوسط (7739)، وأخرجه أيضا أحمد (5/159، 173)، وصححه ابن حبان (449)، وقال الهيثمي في المجمع (10/263): "أحد إسنادي أحمد ثقات"، وقال في موضع آخر (8/154): "رجال الطبراني رجال الصحيح غير سلام بن المنذر وهو ثقة"، وحسن إسناده الألباني في تخريج أحاديث المشكاة (5187).
[6] أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6138) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرج مسلم في الإيمان (48) أصله وليس فيه هذا الجزء.
[7] سنن أبي داود: كتاب الأدب (5142) عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (3/497)، والبخاري في الأدب المفرد (35)، وابن ماجه في الأدب (3664)، والبيهقي (4/28)، وصححه ابن حبان (418)، والحاكم (7260)، لكن في سنده علي بن عبيد مولى أبي أسيد والراوي عنه، قال الذهبي في الميزان (5/174): "لا يعرف"، وقال الحافظ في التقريب: "مقبول"، والحديث أورده الألباني في ضعيف الأدب المفرد (5).
[8] صحيح البخاري: كتاب الأدب (5987)، صحيح مسلم: كتاب البر (2554) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه مسلم في البر (2555) عن عائشة رضي الله عنها.
[10] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4954) عن عائشة رضي الله عنها، وأخرجه أيضا مسلم في الإيمان (160).
[11] سنن الترمذي: كتاب الزكاة (658) من حديث سلمان بن عامر رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (4/214)، والنسائي في الزكاة (2582)، وابن ماجه في الزكاة (1844)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (2385)، وابن حبان (3514)، والحاكم (1/431-432)، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح الترغيب (892).
[12] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1461)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (998) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[13] انظر: إحياء علوم الدين (1/220).
[14] انظر: سير أعلام النبلاء (4/298-299).
[15] مسند أحمد (2/374) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الترمذي في البر (1979)، وصححه الحاكم (7284)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (276).
[16] أخرجه البخاري في الأدب (5986)، ومسلم في البر (2557) من حديث أنس رضي الله عنه.
[17] انظر: فتح الباري (10/416).
[18] أخرجه ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق (245).
[19] السنن الكبرى (10/35) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الخطيب في تاريخه (5/183)، وفي سنده اختلاف، فقد رواه معمر في جامعه (11/170 ـ مصنف عبد الرزاق ـ) عن يحيى بن أبي كثير مرسلا، قال البيهقي: "الحديث مشهور بالإرسال"، وانظر: السلسلة الصحيحة (978).
[20] صحيح مسلم: كتاب الجنة (2865) عن عياض المجاشعي رضي الله عنه نحوه.
[21] أخرجه أحمد (2/159، 191، 195)، وأبو داود في الزكاة (1698)، والنسائي في الكبرى (6/486) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان (5176)، والحاكم (1516)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1489).
[22] صحيح البخاري: كتاب الأدب (5991) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[23] أخرجه ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق (256).
[24] صحيح مسلم: كتاب البر (2558) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانِه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، الروابطُ تزداد وُثوقًا بالرّحم، وقريبُك لا يَمَلّك على القرب ولا ينسَاك في البُعد، عِزّهُ عزٌّ لك، وذلّه ذلٌّ لك، ومعاداة الأقاربِ شرّ وبلاء، الرّابح فيها خاسِر، والمنتصِر مهزوم.
وقطيعة الرّحم مِن كبائر الذّنوب، متوَعَّد صاحبُها باللّعنةِ والثبور، قال تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:22، 23]. التدابرُ بين ذوِي القربَى مؤذِنٌ بزوالِ النِّعمة وسوءِ العاقبةِ وتعجيل العقوبة، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنّةَ قاطع)) رواه البخاري [1] ، قال ابن حجَر: "القاطعُ للرّحم منقطِعٌ مِن رحمة الله" [2].
عقوبتُها معجَّلة في الدّنيا قبلَ الآخرة، يقول النبيّ : ((ما مِن ذنبٍ أجدر أن يعجِّل الله لصاحبِه العقوبةَ في الدّنيا مع ما يدَّخره له في الآخرة من البغي ـ أي: الظلم ـ وقطيعة الرحم)) رواه الترمذي [3]. وهي سببٌ للذلّة والصّغار والضّعفِ والتفرّق، مجلبة للهمّ والغمّ.
قاطعُ الرّحم لا يثبُت على مؤاخاة، ولا يُرجَى منه وفاء، ولا صدقٌ في الإخاء، يشعر بقطيعةِ الله له، ملاحَقٌ بنظرات الاحتِقار مهما تلقَّى من مظاهِر التبجيل. لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يستوحِشون مِن الجلوس مع قاطِع الرّحم، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (أحرِّج على كلِّ قاطعِ رحمٍ لَمَا قام من عندنا) [4] ، وكان ابن مسعود رضي الله عنه جالسًا في حلقةٍ بعدَ الصبح فقال: (أنشد الله قاطعَ رحمٍ لَمَا قام عنَّا فإنّا نريدُ أن ندعوَ ربَّنا؛ وإنّ أبوابَ السماء مُرتَجَة ـ أي: مغلقة ـ دونَ قاطِع الرّحم) [5]. ومن كان بينه وبين رحمٍ له عداوة فليبادِر بالصّلة، وليعفُ وليصفح، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ?للَّهِ [الشورى:40].
وإنّ لحسنِ الخُلُق تأثيرًا في الصّلة، والزَم جانبَ الأدَب مع ذوي القربَى، فإنّ مَن حفظ لسانَه أراح نفسَه. وللهديّة أثر في اجتلابِ المحبّة وإثباتِ المودّة وإذهاب الضغائن وتأليف القلوب، والرأيُ الذي يجمَع القلوبَ على المودّة كَفٌّ مبذول وبرّ جميل، وإذا أحسنتَ القولَ فأحسِن الفعل ليجتمعَ معك فصاحةُ اللّسان وثَمَرةُ الإحسان.
ثمّ اعلموا أنّ الله أمركم بالصّلاة والسّلام على نبيّه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وزِد وبارك على نبيّنا محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] صحيح البخاري: كتاب الأدب (5984) عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في البر (2556).
[2] فتح الباري (10/418).
[3] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة (2511) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (5/36)، وأبو داود في الأدب (4902)، وابن ماجه في الزهد (4211)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (455، 456)، والحاكم (2/356)، ووافقه الذهبي، وهو في السلسلة الصحيحة (918).
[4] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (61)، والبيهقي في الشعب (6/224).
[5] أخرجه البيهقي في الشعب (6/224).
(1/2846)
ذم الاستهزاء بالدين وأهله
الإيمان, التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, نواقض الإسلام, نواقض الإيمان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
3/11/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعظيم المؤمن لله تعالى ولرسوله ودينه. 2- ظاهرة الاستهزاء بالله وبرسول الله وبدين الإسلام. 3- الاستهزاء بالدين وأهله دليل على النفاق. 4- من مظاهر الاستهزاء بالله وبرسوله وبأحكام الإسلام. 4- تعظيم السلف للسنة. 5- الاستهزاء من أخلاق أعداء الرسل. 6- نصيحة للكتّاب وأرباب الأقلام. 7- مغبّة ردّ السنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ المؤمنَ حقًّا معظِّمٌ لله، معظِّمٌ لرسول الله، معظِّمٌ لدينه، فهو يعظِّم الله في قلبِه، ففي قلبِه مِن إجلالِ الله وتعظيمِ الله ما الله بهِ عليم. يُعظِّم أمرَ الله، ويعظِّم نهيَه، يعظّم أسماءَه وصفاتِه، فيكون إيمانه بالله إيمانًا صادقًا. ثمّ هو يعظّم رسولَ الله ، فيؤمِن أنّه عبد الله ورسوله، ختَم الله به الرّسالاتِ كلَّها، ويؤمن حقًّا أنّه قدوَة كلِّ مسلم، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ [الممتحنة:6]. وهو يعظِّم دينَ الله، فيحبّ هذه الشريعة، ويوالي هذه الشريعةَ، ويعتقد كمالَها وشمولَها وتمامَها، فيرضَى بها كما رضيَها الله لنا، ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]، هكذا يكون المؤمن حقًّا.
أيّها المسلم، وممّا يؤسَف له ما يقَع فيه بعضُ المنتسبِين إلى الإسلام؛ إمّا مِن طريق السّخريَة والهَزل، أو من طريق الجِدِّ والعياذ بالله، يقعون في الاستهزاء بالله، في الاستهزاء بسنّة رسول الله، في السُّخرية بأهلِ الإيمان، في الاستهزاء بشرع الله، بأوامر الله ونواهي الله. فترى بعضَهم ـ والعياذ بالله ـ يتفوّه بألفاظٍ قبيحة، فيها سخرية بالخالِق جلّ وعلا، فيها انتقاصٌ لربّ الأرباب، ويتكلّم بكلماتٍ فيها سُخرية بمحمّد ، وفيها استهزاء بسنّته، واستهزاء بالمتَّبعين والمقتفين أثرَه. وتراه أحيانًا يسْخر بأوامرِ الإسلام ونواهِي الإسلام، ويستهزئ بها، ويسخَر بها، ولا يقيم لها وزنًا. ذا يدلّ على نفاقٍ في القلب، على مرضٍ في القلب؛ إذ لو كان مؤمنًا حقًّا لقدر الله حقَّ قدره، قال تعالى في حقّ أولئك: وَمَا قَدَرُواْ ?للَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91]، فالذي يقدر الله حقّ قدرِه هو المؤمِن به، المعظِّم لأوامِره ونواهيه، هو الذي يديم ذكرَ الله والثناءَ على الله وتنزيهَ الله عمّا لا يليق به مِن العيوب والنّقائص. والمؤمن حقًّا يُعظِّم رسولَ الله، يعظّم سنّته، يعظّم أوامرَه ونواهيَه، يعظِّم أهلَ الإيمان، ويوالي أهلَ الإيمان، يعظّم هذه الشريعة، ويعمَل بها، ويعتقِد كمالَها وشمولها.
أيّها المسلم، إنّ الاستهزاءَ بالإسلام مرضٌ في القلب، يدلّ على فسادِ القلب، وعلى ذهابِ الإيمان مِن القلب؛ إذ لو كان في القلب إيمان حقًّا لما صار هذا الاستهزاءُ منه.
وقد جعل الله الاستهزاءَ بشريعتِه دليلاً على النّفاق، قال تعالى: وَإِذَا لَقُواْ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى? بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ?للَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [البقرة:76]. فأخبر الله عن المنافقين أنّهم إذا لَقوا المؤمنين أظهَروا لهم الإيمانَ والاتّباع والثناءَ عليهم وسلوكَ طريقهم، وإذا خَلَوا إلى شياطينهم من شياطين الإنس قالوا: إنّا معكم، ولكنّنا معهم مستهزئون وساخِرون، ولسنا على ما هم عليه من الطريق الذي يسلكونه، هكذا حال المنافق، فليحذَر المسلم من أن يزلَّ لسانه بكلماتٍ بذيئة قد يخرج بها من الدين مِن حيث لا يشعر، قال تعالى عن هؤلاء المستهزئين السّاخرين: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ [التوبة:65، 66]، لئن سألتَ المنافقين عن بعض ما يقولون وما تتفوّه به ألسنتُهم قالوا: إنّما نحن نخوض ونلعَب، يعني: لسنا جادّين، ولكنه خوضٌ ومزاحٌ وهزل، قال الله: قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ ، فأثبت إيمانًا، ثمّ حكم عليكم بالكفر بهذا الاستهزاءِ بعد الإيمان.
أيّها المسلم، فاتقِ الله في نفسِك، وعَظّم ربَّ العالمين، وعظّم رسولَه، وعظِّم دينَه، وأحبَّ أهلَ الإيمان، ووالِ أهلَ الإيمان، واحذَر انتقاصَهم والسّخريةَ بهم وبدينِهم، فإنّك إذا استهزأتَ بدينهم فإنّما ذاك استهزاءٌ بربّك واستهزاء بنبيّك.
أيّها المسلم، هذا الاستهزاء القبيحُ يقع فيه بعض النّاس، فبعضهم ـ والعياذ بالله ـ قد يستهزئ بربّ العالمين، ويسخَر من ربّ العالمين، ويتفوّه لسانه بكلماتٍ قبيحةٍ بذيئة تدلّ على فَقد الإيمان من القلبِ والعياذ بالله، وهذا هو الكفر والضّلال، قال الله عن اليهود: وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ يَدُ ?للَّهِ مَغْلُولَةٌ ، قال الله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، وقال عنهم: لَّقَدْ سَمِعَ ?للَّهُ قَوْلَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ إلى آخر الآية [آل عمران:181]، فهذه حال اليهود، وصفوا اللهَ بالفقر، وصفوه بأنّ يدَه مغلولة، تعالى الله عن قولهم عُلوًّا كبيرًا.
وهكذا أشباه اليهودِ ممّن يسخَرون بربّ العالمين، ويستهزئون بأسمائِه وصفاتِه، ويسخرون مِن أفعاله وقضائِه وقدَره؛ إذِ المؤمِن يؤمِن بالله، ويؤمن بقضائِه وقدرِه، ويعلَم أنّ الله حكيم عليم، وأنّ كلَّ قضاءٍ وقدَر قضاه وقدّره مبنيٌّ على كمالِ حكمةٍ وكمالِ علم وكمال رحمة وكمال عَدل، هكذا يكون المؤمن حقًّا.
ثمّ المؤمن أيضًا يعظّم سنّةَ محمّد ، يعتقِد كمالَها، وأنّ محمّدًا لا يقول إلاّ حقًّا، ولا ينطِق إلاّ بالحقّ، قال الله جلّ وعلا: وَمَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم:3، 4]، ويقول : ((ألا إنّي أوتيتُ القرآنَ ومثلَه معَه)) [1] ، فسنّته وحيٌ أوحاها الله إليه، إذًا فتعظيمُ سنّته من تعظيم الله، ومحبّة سنّته من محبّة الله، طاعتُه طاعةٌ لله، قال جلّ وعلا: مَّنْ يُطِعِ ?لرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ?للَّهَ [النساء:80]، وقال جلّ جلاله: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الحَشر:7].
إذًا فالذي يسخَر بالسنّة أو يستهزئ بها أو يحتقِرها أو يعتقِد نقصانَها أو أنّها عملٌ قديم وتراثٌ سابِق لا مجالَ لها ولا عملَ بها هذا يدلّ على فسادِ إيمانه.
فليتّقِ المسلم ربَّه، وليعلَم أنّ هديَ محمّد هديٌ لجميع أمّته إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومن عليها وهو خير الوارثين، وربّنا يقول: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، ولن يُصلحَ آخرَ هذه الأمة إلاّ ما أصلحَ أوّلَها.
أيّها المسلم، كلّ سُنّةٍ سمعتَها من رسول الله فاقبَلها، واعمَل بها قدرَ استطاعتِك، ولينشَرِح لها صدرُك، ولتقرَّ بها عينك، فإنّ هذا دليل الإيمانِ الصّادق. أمّا من يردّ سنّتَه مستهزئًا بها ساخرًا بها محتقرًا لها غيرَ رافع الرّأس بها فإنّما يدلّ على نفاقٍ في قلبه، ونبيّنا يقول: ((عليكم بسنّتي وسنّةِ الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي)) [2].
أيّها المسلم، البعضُ من الناس ـ هدانا الله وإيّاهم ـ يتفوّهون أحيانًا بكلماتٍ لا يقدرون لها قدرَها، ولا يفهمون النتائجَ المترتّبةَ عليها، فتراه يسخَر بشيء من السنّة، إذا ذكرتَ له سنّة محمّد وأدَبًا من آداب محمّدٍ لم يقبلها منك؛ [فيسخر] منها ويستهزئ بها ويردّها والعياذ بالله. إذا قلتَ له: إنّ سنّةَ محمّدٍ دلّت على وجوبِ إعفاء اللّحية فإنّه يسخر منك، وربما استهزأ بها، ولا يدري المسكين أنّ هذه سخريةٌ برسول الله. هو لو حلَقها لارتكَب محرَّمًا، ولكن إذا استهزَأ بها صار الاستهزاءُ أشدَّ وأعظمَ إثمًا من حلقِها. تذكرُ له سنّةَ رسول الله في أنّ الإسبالَ من كبائرِ الذنوب، لكنّه لا يقبَل ذلك منك، تذكر له أنّ سنّة رسول الله تحرّم على الرّجل لبسَ الذهب والتحلّي بالذّهب فلا يرضى منك ذلك. تذكرُ له أدبَ رسول الله في الأكل باليمين فلا يرضَى منك ذلك. كلّما ذكرتَ له سنّةً من سنّة محمّد فإنّه يردّها من غيرِ مبالاةٍ ولا قبول لها، وذاك ـ والعياذ بالله ـ دليل على ما في القلب من مَرض.
أيّها المسلم، لقد كان أصحاب محمّد يشتدّ غضبُهم على مَن ردّ سنّةً من سنّة محمّد مهما كان عندَه من التأويل، حدّث عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما قائلاً: إنّ النبيّ قال: ((إذا استأذنَت أحدَكم امرأتُه إلى المسجدِ فلا يمنَعها)) ، فقال رجل من أبنائه: والله لنمنعهنّ، قال: فسبّه عبدُ الله سبًّا شديدًا ما سمعتُه سبَّه مثلَه قطّ وقال: أقولُ لك: قال رسول الله وتقول: لأمنعهنّ! [3]. انظر إلى هذا، قد تكون غَيرةٌ حَمَلته، لكن سنّة محمّد أولى بالاتّباع والسّمع والطاعَة، فكيفَ بمَن يسخَر ويستهزِئ بأهلِ الإيمان، يستهزئ بالمتّبعين للسنّة والعاملين بها والمستقيمين عليها؟! كم من كُتّابٍ خطّوا بأقلامِهم أقوالاً ومقالاتٍ فيها سوءٌ وفُحش من سخرية بالإسلام، وسخريةٍ بأوامر الإسلام، وسُخرية بنواهي الإسلام، فليتّق المسلم ربّه، وليحاسِب نفسَه قبلَ أن يقول ما لا يُعذَر به، في الحديث: ((إنّ الرجلَ ليتكلّم بالكلمةِ مِن سخَط الله، لا يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، يكتب الله عليه سخطه إلى يوم القيامة)) [4].
أيّها المسلم، يسخَر بعضُ النّاس بحجابِ المرأة الذي دعَت إليه الشريعةُ ورغّبت وأمرت به، فيسخَر بهذا الحجاب، ويصِفه بأوصافٍ [ممّا يدلّ] على ما في القلبِ من نفاق. إذا ذكرتَ له شرعَ الله في تعدُّدِ الزوجات سخِر منك ومِن شريعتك ومن نبيِّك والعياذ بالله. هذا الصِّنف من النّاس لم يتمكّن الإيمان من قلوبهم، يسخرون بأوامِر الشّرع، إذا ذكرتَ لهم أوامر الله وأوامرَ رسوله سخِروا منك، إذا ذكرتَ لهم ما نَهى الله عنه سخِروا منك، إذا ذكرتَ لهم الحدودَ الشرعية مِن رجم الزاني وقطعِ السارق وجلدِ شارب الخمر إلى غير ذلك من الحدود الشرعيّة فإنّهم يسخرون منك ويقولون: أنتم تهينون الإنسانَ ولا تعرفون للإنسان حقَّه. كلّ هذا ـ والعياذ بالله ـ لِمَا قام في القلب من النّفاق.
إنّ الاستهزاءَ بأهل الإيمان خُلُقِ أعداء الرسُل منذ بُعِثوا إلى أن خُتِموا بمحمّد ، فقد ذكر الله عن قوم نوحٍ بقوله: قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود:38]، فهم سخِروا بنوح، وقالوا له: وَمَا نَرَاكَ ?تَّبَعَكَ إِلاَّ ?لَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ ?لرَّأْى [هود:27]، فوصَفوا أتباعَ نوحٍ بأنّهم الأراذلُ قليلو الفكرِ والمَعرفة، وهكذا بعض المنافقين يَصِف أهلَ الإيمان والمتمسّكين بهذه الشريعة والعاملين بها يصِفهم بالرّجعية أحيانًا، وبأهل التخلُّف أحيانًا، وبأنّهم لا بصيرةَ عندهم ولا رأيَ ولا رويّة في أمورهم.
أيّها المسلم، اتّقِ الله في نفسِك، واحذَر أن يزلَّ لسانُك بأمرٍ لا تُقال منه عثرتُك. إنّ علماءَ الإسلام حكَموا على المستهزئ بدين الله والمستهزئ بسنّة رسول الله حكَموا عليه بالكفر، وقالوا: الاستهزاء بالشّرع بالأوامِر والنّواهي كفرٌ ينقُل عن الملّة والعياذ بالله؛ لأنّ هذا الاستهزاءَ يدلّ على عدَم الإيمان والتّصديق؛ إذ لو كان مؤمنًا حقًّا لعظَّم شرعَ الله، ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32]، ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَـ?تِ ?للَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ [الحج:30].
فعظِّموا حرماتِ الله، وعظّموا أوامرَه ونواهيَه، وأحِبّوا أهلَ الإيمان المتمسّكين بشرعِ الله الثابتين على ذلك، إيّاكم والسّخريةَ بهم، إيّاكم والاستهزاءَ.
أيّها الكاتِب المسلم، اتّقِ اللهَ فيما يخطّ قلمُك، فكَم نقرأ في كثيرٍ من بعضِ الصّحف لبعض الكُتّاب ـ هدانا الله وإيّاهم ـ سخريةً بشرع الله، سُخريةً بالحِجاب، سُخريةً بأحكامِ الشرع، سخريةً بآدابِ الإسلام، ولا يدري أولئك أنّ هذه المقالاتِ مقالاتٌ خطيرة تنقلهم من ملّة الإسلام ـ والعياذ بالله ـ إن لم يتداركهم ربُّهم بتوبةٍ نصوح وإنابة ورجوعٍ إليه، والله يتوب على مَن تاب.
فليحذرِ المسلم مِن أن يزلَّ لسانُه بأمرٍ يندَم عليه، وكم من كلماتٍ قالت لصاحبِها: دعني، مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، فأنت محاسَب على أقوالك وأعمالك، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النور:24].
فالنّبزُ لأهل الإسلام والعَيبُ لأهل الإسلام والسّخرية بأهل الإسلام أخلاقُ الكافرين والمنافقين. أمّا المؤمن حقًّا فهو يُعظِّم الإسلامَ وأهلَه، يعظّم هذه الشريعة، ويحبّها ويحبّ آدابها، ويحمَد الله أن ثبّته عليها.
أسأل الله لي ولكم الثباتَ على الحقّ والاستقامةَ على الهدى.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (4/130)، وأبو داود في السنة (4604) من حديث المقدام بن معديكرب رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (12)، والحاكم (1/109)، وأقره الذهبي، وهو في صحيح سنن أبي داود (3848).
[2] أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في مقدمة السنن (42، 44)، والدارمي في مقدمة سننه (95)، وغيرهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، وقال أبو نعيم في المستخرج (1/36): "هو جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
[3] أخرجه البخاري في النكاح (5238)، ومسلم في الصلاة (442)، وليس عند البخاري القصة التي حصلت بين بلال وأبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[4] أخرجه مالك في الموطأ (1848)، وأحمد (3/469)، والترمذي في الزهد (2319)، وابن ماجه في الفتن (3969) من حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه، وقال الترمذي: "وفي الباب عن أم حبيبة، وهذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (281)، والحاكم (1/107-108)، وهو في السلسلة الصحيحة (888).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ اللهَ قال في كتابه العزيز: إِنَّ ?لَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا ?نقَلَبُواْ إِلَى? أَهْلِهِمْ ?نقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ [المطففين:29-32].
هكذا بعضُ أعداء الإسلام، هكذا بعضُ المنافقين، إذا رأَوا المتمسّكَ بالسّنّة والعاملَ بالسّنّة والثابتَ على السنة، إذا رأوه لمَزوه وعابوه واستنقَصوه واحتقروه، لماذا؟ ما عَيبُه؟ عيبُه أنّه محافظٌ على السنّة ملازِم لها محبٌّ لله ولرسولِه ولعبادِه وشرعِه.
يقول الله جلّ وعلا محذِّرًا المؤمنَ من صُحبة الساخِرين والمستهزئين: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لَّذِينَ ?تَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مّنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَ?لْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَإِذَا نَـ?دَيْتُمْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ ?تَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذ?لِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ قُلْ يَـ?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بِ?للَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَـ?سِقُونَ [المائدة:57-59].
فيا أيّها المسلم، تأمّل هذه الآية: لاَ تَتَّخِذُواْ ?لَّذِينَ ?تَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا ، لا تتّخذوا أولئك أولياء، الذين اتّخذوا دينَكم هزوًا واستهزؤوا به، واتّخذوه لعِبًا وسخِروا به، وَإِذَا نَـ?دَيْتُمْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ ?تَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ، إذا ناديتم إلى الصلاة هزِئوا بكم وقالوا: كيف لهم بهذه الصلاة؟! وما فائدةُ هذه الصلاة؟! وما الثّمَرة من هذه الصلاة؟! وقد يسخَر بالزّكاة وبالصّوم وبالحجّ، يسخَر بأوامر الله، ويسخَر من نواهي الله، أولئك الذين في قلوبِهم مَرض، أولئك الذين تفوّهت ألسنتُهم بما انطوَت عليه ضمائِرهم مِن العداء لله ورسولِه، قال تعالى: وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَـ?كَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَـ?هُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ ?لْقَوْلِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَـ?لَكُمْ [محمد:30].
في عهدِ النبيّ رجلٌ أكَل معه، فأكل بشِماله، فقال: ((كُل بيمينك)) ، قال: لا أستَطيع، قال: ((لا استَطَعتَ)) ، ما منعَه إلا الكبر، قال الراوي: فما رفع يدَه لفيه قطّ [1]. عوقِب بأن شلّ الله يمينَه؛ لأنّه ردّ السنّة بعدَم الاستطاعة تكبُّرًا وعِنادًا وعدمَ قبولٍ للسنّة.
فالواجبُ على المسلمين تقوَى الله والمحافظةُ على شرعِه وتعظيمُ السنّة والعمل بها ونصيحة من زلّ لسانُه بأمرٍ يخالِف الشرعَ وتحذيرُهم من هذه المصيبة؛ لأنّ من استهزأ بهذا الدينِ ولقي اللهَ بغير توبةٍ يُخشَى عليه ـ والعياذ بالله ـ مِن عذاب الله. نسأل الله لنا ولكم الثباتَ على الحقّ.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتُها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبدِ الله ورسوله محمّد، كما أمركم بذلك ربّكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في الأشربة (2021) عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
(1/2847)
الإذعان للحق
الإيمان
حقيقة الإيمان
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
10/11/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من صفات المؤمن حرصه على الحقّ والتّسليم له. 2- ذمّ الكبر. 3- عاقبة الرادّين للحقّ. 4- الحقّ ضالّة المؤمن. 5- أدب المؤمن في المناقشة والمناظرة. 6- معيّة الله تعالى للمتّقين المحسنين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتقوا الله حقَّ تقاته، واعمَلوا على كلِّ ما تكون به النّجاة غدًا، يومَ لا ينفَع مال ولا بنون إلاّ من أتَى اللهَ بقلبٍ سليم، يومَ يتذكّر الإنسان ما سَعى، يومئذٍ يتذكّر الإنسان وأنّى له الذّكرى.
أيّها المسلمون، إنّ مِن كريمِ سجَايا المسلِم وجميلِ خصالِه ورفيع خلالِه وشريفِ صِفاته كمالَ سعيه في طلبِ الحق، وشدّةَ حرصِه على الإذعانِ له والنُّفرةِ مِن ردِّه، ابتغاءَ وجهِ ربِّه الأعلى، وأمَلاً في بلوغِ رضوانِه، وازدِلافًا إليه رَغبًا ورهَبًا، محبّة وشَوقًا، تعبُّدًا ورِقًّا، وحذَرًا مِن التّردِّي في وهدَةِ الكِبر المُهلكِ الذي بيَّن واقعَه وأوضح حقيقتَه رسولُ الهدَى بقولِه في الحديثِ الذي أخرجَه الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مَسعود رضيَ الله عنه، عن النبيّ أنّه قال: ((لا يدخُل الجنّةَ من كان في قلبِه مثقالُ ذرّة من كِبر)) ، فقال رجل: إنّ الرّجل يحِبّ أن يكونَ ثوبُه حسنًا ونعلُه حسنةً! فقال النبيّ : ((إنّ الله جميلٌ يحبّ الجمالَ، الكِبر بَطَر الحقِّ وغَمطُ النّاس)) [1].
وبَطَر الحقِّ ـ يا عبادَ الله ـ هو ردُّه ودفعُه وعدَم القبولِ به، وغَمط الناسِ هو احتقارُهم والترفُّع عليهم بكلِّ لونٍ مِن ألوان الترفُّع القوليّة والعمليّة. وقد كان ردُّ الحقّ تكذيبًا به وكراهةً له وإعراضًا عنه ديدنَ الأممِ السّابقة التي حاقَ بها العذاب، وجاءهم بأسُ الله ونزَل بساحتِهم، فكَان مَا أصابَهم عِبرةً للمعتبِرين وذِكرَى للذّاكرين، كما قال سبحانه: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [الأنعام:4-6]، وقال عزَّ اسمُه: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:78].
أمّا أهلُ الإيمانِ والتّقوى فإنّ مِن أظهرِ صفاتِهم القبولَ بالحقّ والاحتفاءَ به والانقيادَ له والدّعوةَ إليه، ولذا فهم أعقلُ الخلق وأحكمُ النّاس وأبصَر العِباد بأسبابِ السّعادةِ وأبوابِ الظّفَر وأسرارِ التّوفيق؛ لأنّ الحكمةَ ضالّة المؤمن، أينَما وجدَها التقَطَها، ولأنّ في التّجافي عن ردِّ الحقِّ والنّأيِ عنه سلامةً مِن مشاركةِ الضّالين المكذِّبين بآياتِ الله عزّ وجلّ ورسُله، عَن مشارَكتِهم في أوزارِ ضلالِهم وأوضارِ تكذيبِهم وعاقبةِ استِكبارهم وعلوِّهم في الأرض بغيرِ الحقّ، وتراهم مِن أجلِ ذلك قد وطَّنوا أنفسَهم على قَبول الحقِّ ممّن أُجرِي على لسانه، لا يستثنون صبيًّا أو جاهلاً أو عَدوًّا، كما قرّره أهلُ العِلم كالقاضي عياض وكغيرِه من أهلِ العِلم، بل إنّ مِن كريمِ مناقبِهم وحُلوِ شمائلهم أنّ أحدَهم إذا ناظَر غيرَه أو ناقشَه دعَا له بظَهر الغَيب أن يثبَّتَ ويُسدَّدَ ويوفَّق للصّواب، وأن يظهِر الله الحقَّ على لسانِه، ومِن ذلك قولُ الإمام الشافعيّ رحمه الله: "ما ناظرتُ أحدًا إلاّ أحببتُ أن يظهِرَ الله الحقَّ على لسانه" [2]. ثمّ هو يترفَّق بأخيه غايةَ الترفُّق، ويغضّ مِن صوتِه ويحفَظ لسانَه ويدَه، فلا يستطيل في عِرضه، ولا يؤذِيه بأيّ جارحةٍ من جوارحه، مستحضِرًا في ذلك قولَ نبيِّ الرحمة والهُدى في الحديثِ الذي أخرجَه الإمام أحمد في مسنده بإسنادٍ صحيح عن عبد الله بن مَسعود رضيَ الله عنه أنّه صلوات الله وسلامه عليه قال: ((ليسَ المؤمن بالطّعَّان ولا اللعَّان ولا الفاحِش ولا البَذيء)) [3] ، ومستحضرًا قولَه عليه الصلاة والسلام: ((المسلمُ من سلِم المسلمون من لسانِه ويدِه، والمهاجِر من هجَر ما نَهى الله عنه)) أخرجه الشيخان في صحيحيهما [4]. ثمّ هو يكفُّ عن المناقشةِ ويمسِك عن الجِدال إذا لَم تُرجَ منه فائدة، بل خُشِي الضّررُ بثورةِ الخصومة المفضِيةِ إلى البَغضاء، مستحضِرًا قولَ رسول الله : ((أنا زعيمٌ ببيتٍ في رَبَض الجنّة لمَن ترك المراءَ ـ أي: الجدال ـ وإن كان مُحِقًّا)) أخرجه أبو داود في سننه بإسنادٍ صحيح [5] ، ومستحضِرًا أيضًا قولَه صلوات الله وسلامه عليه: ((ما ضلَّ قومٌ بعد هدًى كانوا عليه إلاّ أوتوا الجدل)) ، وفي رواية: ((وسُلِبوا العمل)) أخرجه الإمام أحمد والترمذيّ بإسناد حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه [6].
وبالجملةِ فإنّ إخلاصَ النيةِ وسلامةَ القصد في كون الوصولِ إلى الحق هو الغاية، وإنّ الحذَر من الانتصار للنّفس وطلبِ العلوّ وإظهار الفَضل والتقدُّم، مع الحِرص على كمالِ الشّفقَة على الخلقِ وتمامِ الرّحمةِ بهم وإرادةِ الخير لهم، كلُّ أولئك ممّا لا غناءَ عنه لطلاّبِ الحقّ ودُعاة الهُدى والسُّعاةِ إلى الخير المبتغِين الوسيلةَ إلى ربِّهم بتوحيدِه وذِكره وشُكره وحُسنِ عبادتِه والنزولِ على حكمه، وصدَقَ سبحانه إذ يقول: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
نفعني الله وإيّاكم بهديِ كتابِه وبسنّةِ نبيِّه ، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين مِن كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه كان غفّارًا.
[1] صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه (91).
[2] رواه ابن حبان في صحيحه (5/498)، وأبو نعيم في الحلية (9/118)، وانظر: المدخل للسنن الكبرى (ص172)، وتهذيب الأسماء واللغات (1/53).
[3] سنن الترمذي: كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في اللعنة (1977) وقال: "حسن غريب"، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (6/62)، وأحمد (1/404)، والبخاري في الأدب المفرد (312)، وأبو يعلى (5088)، والبيهقي في الكبرى (10/193)، وصححه ابن حبان (192)، والحاكم (29)، ورجح الدارقطني في العلل (5/92) وقفه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (320).
[4] أخرجه البخاري في الإيمان (10) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وأخرج جزءه الأول مسلم في الإيمان (41) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[5] سنن أبي داود: كتاب الأدب، باب: في حسن الخلق (4800) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الروياني في مسنده (1200)، والطبراني في الكبير (8/98، 186)، والبيهقي في الكبرى (10/249)، وصححه النووي في رياض الصالحين (264)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2648).
[6] أخرجه أحمد (5/252، 256)، والترمذي في التفسير (3253)، وابن ماجه في المقدمة (48)، وليس فيه الزيادة المذكورة، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (3674)، وحسنه الألباني في تخريج شرح الطحاوية (175).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وَليِّ الصالحين، أحمده سبحانه جعَل معيّتَه للمتّقين المحسِنين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمَّدًا عبد الله ورسوله الصادقُ الأمين، اللهمَّ صلّ وسلِّم على عبدِك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبِه الغُرِّ الميامين.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، كتَب بعضُ السّلف رضوان الله عليهم إلى أخٍ له يستنصِحه ويستشِيره في أمرٍ نزَل به، فكتب إليه قائلاً: "أمّا بعد: فإذا كان الله مَعك فممّن تخاف؟! وإذا كان عليك فمن ترجو؟! والسلام" [1].
وإنّها ـ يا عباد الله ـ لموعظةٌ بليغة ونصيحةٌ عظيمة وتذكيرٌ نابِض وبَيانٌ صادِق وكلامٌ مُضيء، فمعيّة الله لعبدِه هي المعيّة التي لا تَعدِلها معيّة، ولا حاجةَ به إلى معيّةٍ سواها، غيرَ أنّ هذه المعيّةَ الخاصّة بالرّعاية والحِفظ والتّأييد والنّصرِ قد بيّن الله سبحانه مستحِقَّها في قوله عزّ اسمه: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128].
جعَلني الله وإيّاكم مِن المتّقين المحسِنين، وسلَك بنا سبيلَ عِباده المخبِتين، وجنَّبنا جميعًا أسبابَ سخطِه وأليمَ عذابه، آمين آمين.
ألا فاتّقوا اللهَ عبادَ الله، واذكروا أنّ الربَّ الكريمَ الرحمن الرّحيم قد أمَركم بالصّلاة والتّسليم على خاتَم النّبيّين وإمامِ المتّقين ورحمةِ الله للعالَمين، فقال في الكتابِ المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائِه الأربعة...
[1] انظر: جامع العلوم والحكم (ص188).
(1/2848)
الرحمة في الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
10/11/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية خلق الرحمة. 2- الإسلام يحثّ على الرحمة. 3- شمول الرحمة في الإسلام. 4- حاجة البشرية إلى هذا الخُلُق. 5- تحقيق الرحمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ معشر المسلمين ـ حقَّ التقوى، فتقوَى الله تُرفَع بها الدّرجات، وتفرَّج بها الكُرُبات، وتُدفَع بها الشّرور والمكروهات.
واعلَموا ـ عبادَ الله ـ أنّ للحياةِ ركائزَ تعتمِد عليها، وأسُسًا تُبنَى عليها، ومعانيَ ساميةً تُناط بها المنافِع والمصَالح. ومِن هذه المعاني العظيمةِ والصّفات الكريمة التي تسعَد بها الحياةُ ويتعاون بها الخلق الرّحمة.
فالرّحمة خلُقٌ عظيم ووَصف كريم، أُوتيَه السّعداء، وحُرِمه الأشقياء. الرّحمة ضارِبة في جُذور المخلوقات، ومختلِطة بكيان الموجوداتِ، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبيّ قال: ((إنّ لله مائةَ رَحمة، أنزَل منها رحمةً في الأرض، فبها يتراحَم الخلق، حتى إنّ الفرسَ لترفع حافرَها والناقةَ لترفع خفَّها مخافةَ أن تصيبَ ولدَها، وأمسَك تسعةً وتسعين رحمةً عنده ليومِ القيامة)) رواه البخاري [1]. فالرّحمةُ صفةٌ لله عزّ وجلّ، فالرّبّ جلّ وعلا متّصفٌ بهذه الرّحمة كما يليق بجلاله.
والرّحمة صفةُ كمالٍ في الخلق، يتعاطَف بها الخلق، ويشفق القويّ على الضّعيف، فيحنو عليه بما ينفَعه، ويمنَع عنه شرَّه، ويتوادُّ بها بنو آدَم، فالرّحمة في الفطرةِ التي خلَقها الله، ولكن قَد تُطمَس الفطرة بالمعاصي، فتكون الرحمةُ قسوةً جبّارةً ضارّة.
ومَع أنّ الرحمةَ فطرة مستقيمة وصِفة عظيمة فَطَر الله عليها عبادَه فقد أكّدَها الإسلام، وأوجَب على المسلمين التَّحلّي بالرّحمة والاتِّصاف بها؛ لأنّ دينَ الإسلام دينُ الرّحمة، فتعاليمُه لتحقيقِ الخير والعَدل والرّخاء والحقّ والسّلامِ والعبوديّة لله ربّ العالمين، ولدَحض الباطل واجتِثاث جذور الشرّ، قال الله تعالى لنبيه : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
وعن عبد الله بنِ عمرو رضي الله عَنهما أنّ رسولَ الله قال: ((الراحمون يرحمُهم الرحمن، ارحَموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء)) رواه أبو داودَ والترمذيّ [2] ، وعن جرير بنِ عبد الله رضيَ الله عنه قال: قال رسول الله : ((مَن لا يرحمُ الناسَ لا يرحمه الله)) رواه البخاريّ ومسلم [3] ، ورواه أحمد مِن حديث أبي سعيدٍ وزاد: ((ومَن لا يغفِر لا يُغفَر له)) [4] ، وفي الحديث: ((مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفهم كمَثَل الجسَد الواحد، إذا اشتَكى مِنه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسّهر والحمّى)) [5].
والإسلامُ حثّ علَى رحمةِ الصّغير والكبيرِ والضّعيف، عن ابنِ عبّاس رضي الله عنهما عن النبيّ قال: ((ليسَ منّا مَن لم يوقِّر الكبيرَ، ويرحَمِ الصغير، ويأمر بالمعروف، ويَنهَ عن المنكر)) رواه أحمد والترمذيّ [6].
وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: جاءَ أعرابيّ إلى رسول الله فقال: إنّكم تُقبِّلونَ الصّبيانَ وما نُقبِّلهم، فقال رسول الله : ((أوَأملِك لَكَ أن نزَع الله الرّحمةَ من قلبِك؟!)) رواه البخاريّ ومسلم [7] ، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: ((لا تُنزَع الرّحمة إلاّ مِن شقيّ)) رواه أبو داود والترمذيّ وقال: "حديث حسن" [8] ، وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إنّ الله رفيقٌ يحبّ الرّفق، ويُعطي على الرّفق ما لا يعطِي على العُنف، وما لا يُعطي على سِواه)) رواه مسلم [9].
بل إنَّ الإسلامَ شمل برحمتِه حتّى الحيوان البَهيم وغيرَه؛ لأنّه دينُ الرّحمة والعَدل والسّلام، وأمَر المسلمين بالتّمسُّك بالرّحمة في أرفعِ معانيها، عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: دخَل رسول الله حائطًا لرجلٍ مِن الأنصار، فإذا فيه جَمل، فلمّا رأى النبيَّ حنَّ وذَرَفت عيناه، فأتاه رسول الله فمَسَح ذِفراه، فسَكت، فقال: ((مَن ربُّ هذا الجمل؟)) فجاء فتًى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: ((أفلا تتَّقي اللهَ في هذهِ البهيمةِ التي ملَّكك الله إيّاها؟! فإنّه شَكا إليَّ أنّك تُجيعُه وتُدئِبه [10] )) رواه أحمد وأبو داود [11]. فعلَّمه الله منطِقَ الجمَل كما علّم سليمانَ منطِقَ الطّير عليهما الصّلاة والسّلام.
وعن [ابن] مسعودٍ رضي الله عنه قال: كنّا مع رسول الله في سفرٍ فانطلَق لحاجته، فرأينا حُمَّرةً ـ وهي نوعٌ منَ الطّير ـ معها فرخَان، فأخَذنا فرخَيها، فجاءتِ الحُمَّرة، فجعلَت تعرِش ـ أي: ترفرِف عليهم ـ فجاءَ النبيّ فقال: ((مَن فجَع هذه بولدَيها؟ رُدُّوا ولدَيها إليها)) ، ورأى قريةَ نمل قد حرّقناها فقال: ((مَن حرّق هذه؟)) قلنا: نحن يا رسول الله، قال: ((إنّه لا ينبغي أن يعذِّب بالنّار إلاّ ربُّ النار)) رواه أبو داود [12] ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لعَن رسول الله مَن اتَّخَذ شيئًا فيه الرّوح غرَضًا ـ أي: هدفًا ـ. رواه البخاريّ ومسلم [13]. وعن الشّريد رضيَ الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: ((مَن قتلَ عصفورًا عبثًا عَجّ إلى الله يومَ القيامة، يقول: يا ربّ، إنّ فلانًا قَتلني عَبثًا، ولم يقتلني مَنفعَة)) رواه النسائي وابن حبان [14].
ومن رحمةِ الإسلام أنّه يأمر أتباعَه بأن لا يظلِموا غيرَ المسلمين أيضًا، فعَن هشامِ بن حكيم بن حزام رضي الله عنه أنّه مرّ بالشّام على أناسٍ من الأنباط أهلِ الذمّة حُبِسوا في الجزية فقال هِشام: أشهد لسمعتُ رسول الله يقول: ((إنّ الله يعذِّب الذين يعذِّبون الناسَ في الدنيا)) ، فدخل على الأمير فحدّثه، فأمر بهم فخُلُّوا. رواه مسلم وأبو داود والنسائيّ [15].
أيّها المسلمون، ألا ما أحوجَ البشريّةَ إلى هذهِ المعاني الإسلاميّةِ السّامية، وما أشدَّ افتقارَ الناسِ إلى التخلُّق بالرّحمة التي تُضمِّد جراحَ المنكوبين، وتحثّ على القيامِ بحقوقِ الوالدَين والأقربين، والتي تواسِي المستضعَفين، وتحنو على اليتامَى والعاجِزين، وتحافِظ على حقوقِ الآخرين، وتحجز صاحبَها عن دِماء المعصومين من المسلمين وغير المسلمين، وتصون أموالَهم مِن الدّمار والهلاك، وتحثّ على فِعل الخيراتِ ومجانبَة المحرّمات. ما أحوجَ الناسَ إلى التخلُّقِ بالرّحمة في هذا العصرِ الذي غاضَت فيه الرّحمة إلاّ من شاء الله، وغلبَت فيه الأهواء، وأُعجِب فيه كلّ ذِي رأيٍ برأيه، ولم يحتكِم إلى الكتاب والسنّة، ولم يراجِع في آرائه الرّاسخين في العِلم.
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيّد المرسَلين وبقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6000)، ومسلم في التوبة (2752) بنحوه.
[2] أخرجه أحمد (2/160)، وأبو داود في الأدب (4941)، والترمذي في كتاب البر (1924)، وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (4/159)، ووافقه الذهبي، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (925).
[3] أخرجه البخاري في التوحيد (7376)، ومسلم في الفضائل (2319) واللفظ له.
[4] هذه الزيادة عند أحمد (4/365) من حديث جرير بن عبد الله أيضًا، وليست من حديث أبي سعيد، وصححها الألباني في صحيح الترغيب (2251).
[5] أخرجه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[6] أخرجه أحمد (1/257)، والترمذي في البر (1921) وقال: "حديث حسن غريب"، وفي سنده ليث بن أبي سليم، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1367)، لكن قوله: ((ليس منا من لم يوقّر الكبير، ويرحم الصغير)) له شواهد صحيحة.
[7] أخرجه البخاري في الأدب (5998)، ومسلم في الفضائل (2317).
[8] أخرجه أحمد (2/442، 461، 539)، وأبو داود في الأدب (4922)، والترمذي في البر (1923)، وقال: "حديث حسن"، وصححه ابن حبان (462، 466)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2261).
[9] صحيح مسلم: كتاب البر (2593).
[10] أي: تتعبه بكثرة العمل. قاله المنذري.
[11] أخرجه أحمد (1/204، 205)، وأبو داود في الجهاد (2549)، وصححه الحاكم (2/109)، ووافقه الذهبي، وصححه الضياء في المختارة (9/158)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (20).
[12] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (382)، وأبو داود في الجهاد (2675) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه، وصححه الحاكم (4/239)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2268)، وأخرجه أحمد (1/404) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله مرسلاً.
[13] أخرجه البخاري في الذبائح (5515)، ومسلم في الصيد (1958) واللفظ له.
[14] أخرجه أحمد (4/389)، والنسائي في الضحايا (4446)، وصححه ابن حبان (5894)، لكن في سنده صالح بن دينار الجعفي، لم يوثقه غير ابن حبان، ولا روى عنه إلا واحد، ولذا ضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (680).
[15] صحيح مسلم: كتاب البر (2613).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله الذي أعزّ مَن أطاعه واتَّقاه، وأذلّ من خالفَ أمرَه وعصاه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، لا إلهَ سواه، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله، اصطفاه ربه واجتباه، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ أيّها المسلِمون ـ وأطيعوه، وراقبوه في أعمالكم مراقبةَ من يعلَم أنّه يعلَم سرَّه ونجواه.
عبادَ الله، إنّ الرحمةَ هيَ الإحسانُ إلى النّفسِ بالقِيام بفرائضِ الله والابتعادِ عن محرّماته، والإحسانُ إلى الخلقِ بفعل أنواعِ الخير الذي ينفَع العبادَ ويُصلِح البلاد، وكفُّ الأذى والشرّ، فمن اتَّصف بهذا أدخَله الله في رحمتِه وبوّأه جنّتَه وأصلح له شأنَه كلَّه، قال الله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:156، 157].
أيّها المسلم، تخلَّق بصفةِ الرّحمة، فإنّ الحياةَ لا تصلُح إلاّ بها، وأوّلُ مَن ينتفِع بالرّحمة صاحبُها في الدّنيا والآخرة، وفي الحديث عن النبيِّ : ((أهلُ الجنّة ثلاثة: إِمام عادِل، ورجلٌ رحيمُ القلب بالمساكين وبكلِّ ذِي قربى، ورجلٌ فقير ذو عِيال متعفِّف)) [1].
أيّها المسلم، تفقَّه في دين الله، واعبُد اللهَ على بصيرةٍ وعِلم، وارحَم خلقَ الله ببذلِ الخيرِ وكفِّ الشر، فإنّ الله سائلُك عن حقوقِه وحقوقِ عباده يومَ لا ينفعه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
عبادَ الله, إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
فصلّوا وسلِّموا على سيِّد الأوّلين والآخرين وإمامِ المرسلين، فقد قال : ((من صلّى عليّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
اللهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد...
[1] أخرجه مسلم في الجنة (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه بمعناه في حديث طويل.
(1/2849)
اعدلوا بين أولادكم
الأسرة والمجتمع
الأبناء
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
10/11/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العدل. 2- نعمة الأولاد. 3- التفريق بين الأولاد ظلم. 4- مفاسد التفريق بين الأولاد. 5- من صور التفريق بين الأولاد. 6- حرص السلف على العدل بين الأولاد. 7- التحذير من حرمان البنات من حقهن. 8- لا مصلحة في التفضيل بين الأولاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيّها المسلمون، لقد صحّ عن النبيّ أنّه قال: ((المقسِطون يومَ القيامة على منابرَ من نور عن يمين الرّحمن عزّ وجلّ وكلتا يديه يمين؛ الذين يعدِلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)) [1].
أيّها المسلم، العدلُ خلُق المؤمن، والمؤمِن متّصفٌ بالعدل، متخلِّق بالعدل، بعيدٌ كلَّ البُعد عن الظّلم، سواء في الأحكامِ التي يصدِرها، أو في تعامُله في ولايتِه، أو في تعامُله مع أولاده. فالعدلُ مطلوبٌ منه في كلّ أحواله، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإحْسَانِ [النحل:90]. فقد أمَر الله بالعدل ونهى عن الظّلم، فخلُق المؤمِن عدلٌ في كلّ أحوالِه، قليلِها وكثيرها، فلا ظلمَ ولا تعدِّي، ولكن عدلٌ وقِسط. وانظر مآلَ أهلِ العدلِ يومَ القيامة وأنّهم على منابرَ من نورٍ عن يمين الرّحمن، لماذا؟ لأنّهم عدَلوا في أحكامِهم، وعدلوا في ولاياتِهم، وعدَلوا في أهليهم.
أيّها المسلم، فالعدلُ مطلوبٌ منك بَين أولادِك، فأحقّ النّاس بالعدل أولادُك الذين هم فلذةُ كبِدك، والذين أنعَم الله عليك بِهم، فإنّ الأولادَ نعمةٌ مِن نِعَم الله على العَبد، فهم بتوفيقٍ من الله امتدادٌ لحياته، يذكرون اسمَه، ويبقى اسمُه موجودًا ما دام الأولادُ موجودين، فهم ذِكرٌ له بعد موتِه، وحياةٌ ثانية له بعدَ مفارقتِه الدّنيا، فلذا أمِر بالعنايةِ بهم؛ بتربيّتِهم وتوجيهِهم وتأديبِهم بالآداب الحَسَنة حتى يكونوا عونًا له على كلّ خير وسببًا لسعادتِه في دنياه وآخرته.
أيّها المسلم، الولدُ إذا أُحسِنَت تربيتُه وأُحسِن أدبه انتفَع في نفسِه، وانتفع به والداه، وانتفع به مجتمعُه، ولكن إذا أسيئَت التربيّة وأُسيءَ الأدَب فعند ذلك يشقَى الأبوان بهذا المولود، كما يشقى في نفسِه، ويشقى به مجتمعُه.
أيّها المسلم، إنّ الله جلّ وعلا أخبرنا عن أنبيائِه المرسَلين وأنّهم طلبوا من ربِّهم العقِبَ الصالح، ها هو إبراهيم يقول: رَبّ هَبْ لِى مِنَ ?لصَّـ?لِحِينِ [الصافات:100]، وهذا زكريا يقول: رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ ?لْو?رِثِينَ [الأنبياء:89]، ويقول: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مريم:5، 6]، وهذا أيضًا إبراهيم عليه السلام يقول: رَبّ ?جْعَلْنِى مُقِيمَ ?لصَّلو?ةِ وَمِن ذُرّيَتِى [إبراهيم:40].
أيّها المسلم، إنّ الولدَ نعمة من الله على العَبد، يشكر اللهَ عليها، ويؤدّي حقَّ الأولاد عليه.
أيّها المسلم، إنّ من ظلمِ الأولاد أن يفرّق الأبُ بينهم، وأن يبتعِد عن العَدل فيما بينَهم، فيظهر لهم محبّتَه لبعضهم وكراهيتَه لبعضهم، يميل مع هذا دونَ هذا، هذا يقرّبه ويدنيه ويهَب له الهباتِ ويذلِّل أمامَه الصِّعاب ويلبّي طلباتِه ويعطيه مِن أمر الدّنيا ما يعطيه، وأولئك أولادٌ قد أُبعِدوا وأُقصُوا وجُفوا وحُرِموا ولم يُعطَوا مثلَما أُعطِي إخوانهم، لماذا؟! ألستَ أبَ الجميع أيّها الأب؟! أليسوا جميعًا أولادَك؟! فلِمَ هذه التّفرِقة؟! ولم هذا التجنّي؟! ولِمَ هذا الظّلم والعدوان؟!
أيّها الأب الكريم، فكِّر قليلاً في هذا التصرّف الخاطِئ، لتعلم أنّ النتائجَ نتائجُ سيّئة، عليك أوّلاً ثمّ عليهم.
فعليك أوّلاً لأنّك عصيتَ الله فحابيتَ بعضَهم دونَ بعض، فارتكبتَ معصيةَ الله بظلمِك لهم وحرمانِك البعضَ وتفضيلِك للبعض، فأنتَ بهذا عاصٍ لله قبل كلّ شيء، ويومَ القيامة ترى مصيرَك السّيّئ، تلقى الله وأنت من الظّالمين.
ثانيًا: تشقَى أيضًا في دنياك، فيعقّك أولئك الأولاد، ويجفونك، وتكون سببًا في عقوقِهم لك وقطيعتِهم لك ومعصيتهم لك وعدم رأفتهم بك؛ لأنّهم يرونَ منك القسوةَ والجفاء والغِلظة وسوءَ التصرّف.
ثالثًا: ثمّ أولئك الأولاد الذين فضَّلتَ بعضَهم على بعض أوقدتَ بينهم نارَ العداوةِ، أشعلتَ بينهم الفِتنة، فرّقت قلوبَهم، مزّقتَ شملَهم، أحدثتَ بينهم القطيعةَ، تركتَهم متناحرين متقاطعين متباعدين، يبغِض بعضهم بعضًا، ويكرَه بعضهم بعضًا، فمَنِ المتسبِّب؟ ومَن الجانِي؟ إنّ الجاني أنتَ أيّها الأب، إذا لم تتَّق الله فيهم، إذا لم تعدِل بينهم، فإنّ النتائجَ السيّئة أنت تحمِل أوزارَهم؛ أوزارَ قطيعتِهم وتناحُرهم وشِقاقهم.
أيّها الأب الكريم، إنّ مِن توفيق الله لك أن تعدِل بين أولادِك، وأن تُظهِر لهم جميعًا أنّ منزلتَهم منك منزلةٌ واحدة، ولا فضلَ لبعضِهم على بعض، لا تُظهر لهم تفضيلَ بعضِهم بأيّ سبب.
أيّها الأب الكريم، قد تتعلَّل وتقول: هذا ابنٌ يسمَعُ ويطيع، هذا بارّ بي، وأولئك بعيدون عنّي، وأولئك لم أنتفِع بهم، وأولئك وأولئك... نعَم قد يكون مِن بعض الأولاد شيءٌ مِن هذا، وهذا ليسَ بمستبعَد، لكن هل الخطأ يُعالجَ بالخطأ؟! وهل القطيعة تُعالَج بالقطيعة؟! لأنّك إذا فضّلت بعضَهم فقد زِدتَ في القطيعة والبغضاء، أمّا إذا عدلتَ بينهم فإنّ عدلَك بينهم بتوفيقٍ من الله يقرّب قلوبَهم، ويجمَع شتاتَهم، ويحبّب بعضَهم إلى بعض، ثمّ هم ينظُرون إليك في المآل نظرَ الاحترام والتّقدير والإكرام، ويبرّون بك ويحسِنون إليك، وإن حصل ما حصَل فالمآل إلى خيرٍ بتوفيقٍ منَ الله.
أيّها المسلم، إنّ نبيّنا نبيّ الرحمة الذي قال الله في حقّه: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]. نبيّ الرّحمة أرشدَ الآباءَ إلى الطريق السَّويّ، وحذّرهم من الظلم والعدوان.
أتاه بشير بنُ سعد أبو النّعمان بن بشير يقول: يا رسولَ الله، إنّ أمَّ هذا طلبَت منّي أن أنحلَ ابنَها نحلة وأشهدُك عليها، فماذا قال ؟ وجّه السؤالَ إلى هذا الأب قائلاً: ((أكلّ ولدِك أعطيتَهم مثله؟)) هل هذه العطيّة شملت كلَّ الأولاد؟ قال: لا، قال: ((أُتحبُّ أن يكونوا لك في البرّ سواء؟!)) قال: نعم، قال: ((فلا إذًا)) [2] ، فإذا كنتَ ترجو أن يكونَ برُّهم جميعًا لك سواءً فلماذا تفضِّل بعضهم على بعض؟! وفي لفظٍ أنه قال له: ((ألَه إخوة؟)) قال: نعم، قال: ((أكلاًّ أعطيتَ؟)) قال: لا، قال: ((فاسترجِعها)) [3] ، وفي لفظٍ قال له: ((لا تشهِدني على جَور)) [4] ، وفي لفظ قال له: ((إنّي لا أشهَد إلا على حقّ)) [5] ، وفي لفظ قال له: ((أشهد على هذا غيري)) [6] ، يعني: إذا كان الرسولُ امتنَع عن الشهادةِ وطلبَ أن يكونَ غيره الشهيدَ ممّا يدلّ على قُبح ذلك التصرّفِ وقُبح ذلك العَطاء، وأنّ النبيَّ امتنع عن الشهادة عليه لفسادِه وظلمِه وجوره، وهو أبعدُ الخَلق عن الظلمِ والجور، وأحرصُهم على العَدل والإحسان.
أيّها الأب الكريم، إنّ هناك خطأً من بعضِ النّاس؛ إمّا تفضيل بعض الأولاد بأيّ صورةٍ كان هذا التفضيل، حينًا يعطيه عطيّةً، وحينًا يجعلها في صورةِ بيعٍ ونحو ذلك، والله يعلم أنّه ما قصد البيعَ، ولكن قصدَ الهِبةَ، لكن يُخرجها مخرجَ البيع لأجل التّغطية على البقيّة، وَ?للَّهُ يَعْلَمُ ?لْمُفْسِدَ مِنَ ?لْمُصْلِحِ [البقرة:220].
أيّها الأب الكريم، قد يحمِلك على التفضيل أحيانًا جفاءُ بعضهم كما سبق، وقد يحمِلك أحيانًا حبُّك لأمّ بعضِهم وكراهيتك لأمِّ بعضهم، فتجعل حبَّك لإحدى الزوجات مسوِّغًا لأن تُغدِق على أولئك وتحجب أولئك، فإن أردتَ العدلَ فاتّق الله فيهم، وما في نفسِك من ميولٍ إلى بعضِهم لا تجعل هذا الميولَ ظاهرًا، اكتُمه في نفسك، وأمّا في الظاهر فأظهِر لهم أنّهم منك سواء، ولا فضلَ لبعضهم على بعض، لا في المجالِس، ولا في إصدارِ الكلام، ولا في التّخاطب، ولا في الزّيارة، ولا في كلّ شيء، اجعَل الجميعَ يشعرون أنّك الأب الحَنون الرّحيم الشفيق عليهم، كلٌّ يجِد في نفسِه أنّك كذلك.
وإذا أردتَ وصيّةً أيضًا بعد الموت فانظر العدلَ في الوصيّة، ولا تجعلها لأحدٍ لمصلحةٍ ما، ولكن اجعَل الأمر لمَن يصلح لها وهو أهلٌ لها، مع إبراءِ ذمّتك وتوضيحِ تلك الوصيّة وما فيها حتّى لا يكونَ أحدٌ أفضلَ مِن أحد.
أيّها الأب الكريم، إنّ سلفنا الصّالحَ التزموا هذا الأدبَ النبويّ في العدل بين أولادهم، حتّى قال بعض التابعين: كانوا يعدِلون بين الأبناء الصّغار في القُبَل، يعني: إذا قبّل الابنَ الصغير قبّل الآخرَ مثلَه حتّى لا يشعرَ هذا بأنّ هذا أفضلُ منه.
إنّ غرسَ الفضائل في النفوس وتدريبَ الأبناء على الأخلاق وتنشئَتهم على الصلةِ والمحبّة أمرٌ بيَد الله ثمّ بيدِك أيّها الأب، فإمّا أن تفارقَ الدنيا والأولادُ كلّهم يقولون: رحمَ الله أبانا، غفر الله لأبينا، جزَى الله أبانا خيرًا، لقد ربّانا وأحسَن إلينا، وخلّف لنا من الخير ما ننعَم به، فكلٌّ يدعو لك ويترحّم عليك. وإمّا أن ترحلَ من الدنيا وذا يقول: لعَن الله ذلك الأب، وقطع الله ذلك الأب، وأراحَنا الله من ذلك الأب؛ لأنّ حبَّ الدّنيا متمكِّن في النّفوس، حبّ الدنيا بليّة والله يقول: وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أَمْو?لَكُمْ ؤإِن يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَـ?نَكُمْ [محمد:36، 37]. فالدّنيا تحدِث البغضاءَ والقطيعة؛ لأنّ الدنيا وسيلة من وسائِل إبليس ليُغويَ بها من يشاء مِنَ الخلق.
فيا أخي المسلم، اتّق الله في أبنائك تقوًى تحمِلك على العدلِ والبُعد عن الظلم.
أيّها المسلم، إنّ الله جلّ وعلا أعدلُ العادلين قسَم المواريثَ بين العباد، فقال: يُوصِيكُمُ ?للَّهُ فِى أَوْلَـ?دِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ ?لأنْثَيَيْنِ [النساء:11]، ثم قال: ءابَاؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا [النساء:11].
بعضُ الآباء أحيانًا قد ينظر إلى البناتِ نظرَ الاحتقار، لماذا؟ يحاوِل أنّ البنات لا نصيبَ لهنّ، الأولاد يزوّج هذا ويعطِي هذا مسكَنًا وهذا كذا وهذا كذا، والبنات قد لا يَنلنَ من نصيب أبيهنّ إلاّ القليل، يحاول في حياته توزيعَ التّركةِ وتخصيصَ الذكور، والإناث يقول: هؤلاء مع أزواجٍ آخرين، ينتقِل مالي إلى أولادِ الناس؟! فتراه يحاول جاهدًا حجبَ البنات، وإن لم يستطِع حجبهنّ ميراثًا، لكن في التصرّفاتِ في الحياة ما يدلّ على إرادةِ حرمانهنّ كثيرًا من الحقوق، وهذه معصيةٌ لله؛ لأنّ اللهَ قسَم الميراثَ بين الذكور والإناث، ثمّ ختمها بقوله: تِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَرُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَـ?لِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:13، 14].
فالبناتُ لهنّ حقٌّ في الميراث، ومَن حاول حرمانَهنّ أو تجزئةَ الأموال بالوقف والوصايا لأجل أن لا ينال البنتَ شيء ويعلم الله ذلك من نيّته فإنّه ظالمٌ ومسيء ومخطئٌ وعاصٍ لله ورسوله. لا يجوز للمسلم أن يتصرّف تصرُّفًا يعلَم الله من نيّته أنّ إرادتَه حرمان البناتِ وتقليل أنصبتهنّ والحيلولة بين أن يأخذنَ حقَّهنّ المشروع.
فليتّق المسلم ربَّه، وليعلم أنَّ البرَّ والصّلةَ أسبابُ خيرٍ، من بدأ بها وسنّها في أولادِه اقتدَوا به وتخلَّقوا بأخلاقِه، وإن أحدَث بينهم القطيعةَ والعداوةَ وأشعل نارَ الفتنة بينهم فإنّه المتحمِّل لتلك الأوزار.
أسأل الله لي ولكم الثباتَ على الحقّ والاستقامةَ عليه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِ?لْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ ?لْو?لِدَيْنِ وَ?لأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَ?للَّهُ أَوْلَى? بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لْهَوَى? أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135].
بارك الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإمارة (1827) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[2] هذه الرواية أخرجها مسلم في الهبات (1623) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
[3] هذه الرواية أخرجها البخاري في الهبة (2586)، ومسلم في الهبات (1623) عن النعمان رضي الله عنه نحوه.
[4] هذه الرواية أخرجها البخاري في الشهادات (2650)، ومسلم في الهبات (1623) عن النعمان رضي الله عنه.
[5] هذه الرواية أخرجها مسلم في الهبات (1624) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[6] هذه الرواية أخرجها مسلم في الهبات (1623) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى، والزَموا العدلَ فإنّ في العدلِ بركةً ورحمة.
أيّها المسلم، لا تظنَّ التفضيلَ سيزيد مالَ المفضَّل، فربَّما فضَّلتَ بعضَهم فأنزل الله المحقَ في مكسَبه، ونزعَ البركة ممّا نال، فعاد فقيرًا بعدَ غِناه. إخوانُه يدعون عليه ويبغِضونه ويمقتونه ويدعون عليك وعليه، كلّما نظروا إلى أموالِه وهي كثيرةٌ ولأنفسهم ولم يُعطَوا شيئًا فإنّهم يدعون عليه ويَرَونَه ظالمًا لهم ويرونَك ظالمًا لهم، فكم من دعوةِ مظلوم تصيبُ ذلك الظالمَ، وتمحَق بركة رزقه.
فاتّق الله يا أخي، واعدِل في أولادك، والله جلّ وعلا هو الغنيّ الحميد، وكلّ الخلقِ فقراء لله، إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَ?للَّهُ أَوْلَى? بِهِمَا [النساء:135]. فالرّزق بيد الله، والبركةُ فيما بارك الله فيه، لا في ظلمِك وجورِك وسوءِ تصرّفِك.
فاتقوا الله عبادَ الله، والزَموا آدابَ الإسلام، ففيها الخيرُ لكم في الدّنيا والآخرة.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، اللهمّ ارضَ عن خلفائه الراشدين...
(1/2850)
وقفة مع سنن الله عز وجل
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لجوء المؤمن إلى الله إذا ألمّت به الملمات والمصائب. 2- زلزال مدينة بام الإيرانية وأثره الضخم. 3- عجز الإنسان وضعفه الكامل عن إيقاف سنن الله أو دفعها. 4- وقوف العلم عند حدود معينة. 5- الحكمة من حدوث الظواهر الطبيعية والآيات الكونية. 6- حقيقة الموت، وحتمية وقوعه، والمر بكثرة ذكره. 7- موت النبي. 8- مهزلة ما يسمى بيوم السلام العالمي. 9- سلام إسرائيل المزعوم. 10- دعوة أدعياء السلام للوقوف في وجه المخططات العدوانية التوسعية الاستعمارية ضد الشعوب المغلوبة والضعيفة. 11- الواجب على الحكام العرب. 12- صور من العدوان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية المحتلة، والواجب على الشعب حيال ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد ، فيقول الله عز وجل في سورة القمر: إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَـ?هُ بِقَدَرٍ وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ و?حِدَةٌ كَلَمْحٍ بِ?لْبَصَرِ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَـ?عَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ، [القمر: 49-51] صدق الله العظيم.
أيها المسلمون ، لقد أفاق أهل مدينة بام الإيرانية صبيحة يوم الجمعة الماضي على زلزال شديد ، بلغت درجة قوته 6.7، حيث أصبحت ديارهم قاعا ً صفصفا ً ، وكانت حصيلة هذا الزلزال ما يزيد عن خمسين ألف قتيل ، وخمسين ألف جريح، ولا تزال عمليات الإنقاذ مستمرة حتى يومنا هذا ، وذلك بحثا ً عن الأشخاص المطمورين تحت الأنقاض، وليس هذا الزلزال هو الأول من نوعه ، ولن يكون الأخير ، فمن المتوقع أن تحصل زلازل في إيران وفي غيرها من أقطار العالم، فالزلزال من الظواهر الطبيعة في هذا الكون الرحيب.
أيها المسلمون ، السؤال الذي يطرح نفسه : هل تستطيع البشرية جمعاء بما لديها من تقدم علمي وتكنولوجي وتقني أن توقف وقوع الزلازل؟
والجواب: إن الزلازل وغيرها من الظواهر الطبيعية هي بيد الله الواحد القهار خالق الأراضين والأكوان، وهو الذي يسيرها فيقول سبحانه وتعالى في سورة يونس: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَـ?عَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [يونس: 22] ، ويقول في سورة الكهف: وَيَوْمَ نُسَيّرُ ?لْجِبَالَ وَتَرَى ?لأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَـ?هُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف: 47] ، ويقول في سورة الأنبياء: وَهُوَ ?لَّذِى خَلَقَ ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَـ?رَ وَ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 23] ، ويقول في سورة ( ي س) : لاَ ?لشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ ?لقَمَرَ وَلاَ ?لَّيْلُ سَابِقُ ?لنَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40] ، وغيرها من الآيات الكريمة التي تؤكد قدرة الله عز وجل في تس ي ير الكون وتنظيمه.
أيها المسلمون ، أما العلوم التقنية ، فمهمتها الكشف عن الظواهر الطبيعة في الكون من الزلازل والبراكين والمد والجز ْ ر والفيضانات والخسوف والكسوف، ولا يزال الإنسان يكتشف كل يوم أمورا ً جديدة في هذا الكون الرحيب، ولكن يستحيل على العلم أن يوجد هذه الظواهر ، كما يستحيل عليه أن يمنع وقوعها وحدوثها، ويمكن للعلم أن يخفف من الأضرار الناجمة عن هذه الظواهر، مثل ما قامت به اليابان من إشادة البنايات والعمائر على كرات حديدية كبيرة ، بحيث تتحرك مع اهتزازات الزلازل، هذا نوع من الأخذ بالأسباب يضاف إلى كون ن ا نحن المسلمين نلجأ إلى الله ب الاستغفار وطلب المغفرة.
أيها المسلمون ، إن العلم الحديث سيقف عاجزا ً عن إيجاد الحياة والروح في الخلية الواحدة ، التي هي أصغر جزء في الإنسان وفي الكائنات الحية الأخرى، لأن ذلك مرتبط بقدرة الله وحده القائل في سورة الإسراء: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ، والقائل في سورة ( يس ) : إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [يس: 82].
أيها المسلمون ، السؤال الذي يطرح نفسه : لماذا حص ل الزلزال في مدينة بام في إقليم كرمان في إيران ولم يحصل في موقع آخر؟ وما الحكمة من حصول الظواهر الطبيعة والآيات الكونية؟
والجواب في قوله سبحانه وتعالى من سورة الأنبياء ، لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: 23] ، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى ، فإن الله عز وجل يوضح الحكمة من وقوع هذه الظواهر في سورة الإسراء بقوله: وَمَا نُرْسِلُ بِ?لاْيَـ?تِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء: 59] ، أي ليتذكر الناس قدرة الله سبحانه وتعالى ، وليخافوا عقابه.
أيها المسلمون ، إن الله رب العالمين يقول للناس أجمعين في كل آن وحين في سورة النساء: أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ?لْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [النساء: 78] ، وفي سورة الج ُ م ُ عة: قُلْ إِنَّ ?لْمَوْتَ ?لَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَـ?قِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى? عَالِمِ ?لْغَيْبِ وَ?لشَّهَـ?دَةِ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [المنافقون: 8] ، فإنه خلال ثوان ٍ، أقل من دقيقة واحدة تم حصول الزلزال في مدينة بام في إيران ، وكانت الحصيلة عشرات الآلاف من القتلى والجرحى ، وذلك ليتذكر أ ولو الألباب الموت ، وحتى يخافوا الله ويخشوه، وليقروا وليعترفوا بقدرته المطلقة ، وليستقيموا في أعمالهم وتصرفاتهم في الحياة الدنيا.
أيها المسلمون ، إن الموت سنة الله في خلقه ، والموت كأس ، وكل الناس شاربه ، فلا تغفلوا عنه، وهو حق على المخلوقات جميعها، وقد شمل الموت الأنبياء والمرسلين ، حتى إنه شمل سيد الخلائق محمدا ً عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فقد روى الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله قال : اجتمعنا في بيت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، ونظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدمعت عيناه، فنعى إلينا نفسه وقال: (( مرحبا ً، حياكم الله بالسلام، حفظكم الله ، رعاكم الله ، جمعكم الله ، نصركم الله ، وفقكم الله ، نفعكم الله ، رفعكم الله ، سلمكم الله، وأوصيكم بتقوى الله ، وأوصي الله بكم ، وأستخلفه عليكم )) ، قلنا : يا رسول الله متى أجلك ؟ قال: ((قد دنا الأجل، والمنقلب إلى الله، وإلى سدرة المنتهى، وجنة المأوى، والفردوس الأعلى)) [1].
وحين قرب الأجل جاء جبريل عليه السلام وقال: يا أحمد ، هذا ملك الموت يستأذن عليك ولم يستأذن على آدمي قبلك ، ولا يستأذن على آدمي بعدك ؟ ، فقال: ((ائذن له)) ، فدخل ملك الموت ، فوقف بين يديه وقال: إن الله أرسلني إليك ، وأمرني أن أطيعك، فإن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها، قال عليه السلام: ((وتفعل يا ملك الموت؟)) ، قال : كذلك أمرت أن أطيعك، فقال جبريل: ((يا أحمد، إن الله اشتاق إليك)) ، فقال عليه الصلاة والسلام : ((فامضِ لما أمرت به يا ملك الموت)) ، فقال جبريل : السلام عليك يا رسول الله ، هذا آخر موطني في الأرض إنما كنت حاجتي من الدنيا [2].
اليقظة، اليقظة أيها المصلون في استقبال الموت ، وأن لا تقعوا في المعاصي والمنكرات والموبقات، جاء في الحديث النبوي الشريف: ((أكثروا ذكر هادم اللذات، الموت)) [3] صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ا دعوا الله ، وأنتم موقنون بال إ جابة ، فيا فوز المستغفرين
[1] أخرجه البزار (5/395-396)، والطبراني في الأوسط (4/208-209)، وقال: "ورواه المحاربي عن عبد الملك بن الأصبهاني عن مرة عن عبد الله لم يذكر خلاد الصفار ولا الأشعث بن طليق ولا الحسن العرني". قال الهيثمي بعد أن عزاه للبزار ونقل كلامه السابق: "رجاله رجال الصحيح غير محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي وهو ثقة، ورواه الطبراني في الأوسط بنحوه إلا أنه قال: (قبل موته بشهر) وذكر في إسناده ضعفاء منهم أشعث بن طابق، قال الأزدي: لا يصح حديثه. والله أعلم". مجمع الزوائد (9/25).
[2] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (3/129)، قال الهيثمي: "رواه الطبراني، وفيه عبد الله بن ميمون القداح وهو ذاهب الحديث". مجمع الزوائد (9/35)، وكذا ضعف إسناده الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح (5918).
[3] أخرجه أحمد (2/292)، والترمذي في الزهد، باب: ما جاء في ذكر الموت (2307)، وقال: "حسن صحيح غريب"، والنسائي في الجنائز، باب: كثرة ذكر الموت (1824)، ابن ماجه في الزهد، باب: ذكر الموت والاستعداد له (4258) عن أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ بتمامه للترمذي وابن ماجه، وعند أحمد والنسائي دون ذكر لفظة (الموت)، وصححه ابن حبان (الإحسان 7/259)، والألباني في صحيح سنن الترمذي (2229)، وصحيح سنن النسائي (1824)، وصحيح سنن ابن ماجه (3434)، وصححه المقدسي في الأحاديث المختارة (5/76-77) من حديث أنس رضي الله عنه، وعزاه في المجمع للبزار والطبراني من حديث أنس أيضاً وحسّن إسنادهما. مجمع الزوائد (10/308، 309).
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين ، سيدنا محمد ، صلاة وسلام اً دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد ، وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آ ل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم ، وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين ، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون ، يا إ خوة الإيمان في كل مكان ، بحلول العام الميلادي الجديد ينادي أدعياء السلام بيوم السلام العالمي، وأي سلام يريدون ، وأصوات طبول الحرب ترتفع وتيرتها ضد دول المنطقة يوما ً بعد يوم؟ وما حصل في العراق أقرب دليل على زيف أدعياء السلام، وهل يلتقي السلام العادل مع الاحتلال والاستعمار؟؟ فأقول للذين يتشدقون بالسلام ويختفون وراء شعارات السلام ، أقول لهم : يتوجب عليكم إن كنتم صادقين في دعواكم ، أن تقفوا في وجه المخططات العدوانية التوسع ي ة الاستعمارية من قبل الدول الكبرى ضد الشعوب المغلوبة والضعيفة، عليكم أن تطبقوا الشعارات على أرض الواقع ، وإلا فهي شعارات خادعة زائفة.
ويتوجب على الحكام في العالم العربي والإسلامي أن يتقو ا الله في أنفسهم وفي شعوبهم وفي ديارهم، وأن يوحدوا صفوفهم، وأ ن يعودوا إلى كتاب الله وسنة رسوله.
أيها المسلمون ، أما على المستوى المحلي ، فأين السلام الذي تريده سلطات الاحتلال ؟ هل السلام الذي يدعو إلى قتل الأبرياء ونسف المنازل وتجريف الأراضي ؟ وهل الذي يريد سلام اً يقيم المستوطنات في فلسطين وفي الهضبة السورية ، الجولان؟ وهل الذي يريد سلام اً يقيم الجدار الفاصل العنصري ويجعل من المدن الفلسطينية كنتونات وسجون اً كبيرة؟ هذا الجدار الذي يبلغ طوله 728 كم، وقبل يومين أعلن الجيش الإسرائيلي أنه أعاد فتح البوابة الوحيدة لمدينة قلقيلية، والصحافة الإسرائيلية غطت هذا الخبر للتمويه والخداع ، وبعد ساعة واحدة فقط عاد الجيش ، وأغلق هذه البوابة.
و إ ن ما يجري في نابلس وجنين ورفح الآن ليدل على جود مخططات تصفوية للشعب الفلسطيني الصابر المرابط، ثم هذا الذي يخطط لفتح نفق جديد في باحة البراق الخارجية يريد سلاما ً؟ علما ً أن باحة البراق الخارجية وحارة المغاربة وحارة الشرف ، منطقة القصور الأموية ، كلها هي وقف إسلامي ، وإ ن حقنا الشرعي لن يسقط بمرور الزمان ، ونطالب شعبنا الأ َ بي بزيادة تكاتفه وتضامنه ومحافظته على ممتلكاته وعلى مقدساته، ليقضي الله أمرا ً كان مفعولا ً ، والله غالب على أمره ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
(1/2851)
الإعلام بمنزلة الصلاة في الإسلام
فقه
الصلاة
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
17/11/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تغير حال الأمة ببعثة النبي. 2- ضعف الأمة في العصر الحاضر. 3- سبب الضعف والهوان. 4- وقفة محاسبة مع فريضة الصلاة. 5- عظم شأن الصلاة. 6- فضائل الصلاة وفوائدها. 7- حال المسلمين اليوم مع الصلاة. 8- وجوب صلاة الجماعة على الرجال. 9- ضرورة العناية بروح الصلاة ولبها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله أيّها المسلمون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]. اتَّقوا اللهَ وأطيعوه، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3]. حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا، فإنّه أهوَن عليكم في الحِساب غدًا، واستعدّوا للعَرض الأكبر على الله، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة: 18]. ادّخِر راحتَك لقبرك، وقلِّل مِن لهوِك ونومِك، فإنّ وراءك نومةً صبحُها يومُ القيامة.
وبعد: عبادَ الله، قبلَ بعثة النبيّ كانت هذه الأمّة في مؤخِّرة ركبِ الأمم في العبادةِ والتديُّن والقوّة والظهور والأخذِ بأسباب الدنيا والسَّبق فيها، حتّى أكرمها الله تعالى ببِعثةِ سيِّد البشَر محمّد ، فما هي إلاّ سنواتٌ قليلة حتّى فاقت أممَ الأرض قاطبةً في جميع المجالات، فبالحقِّ سادت، ثمّ بالخير جادَت، ولا زالت حضارتُها وسُلطانها في مدٍّ وجَزر حتى وقتِنا الحاضِر وزمانِنا المتأخِّر، والذي يُشكَى حالُ الأمّة فيه إلى الله، حيث تسلّط الأعداء، فاحتلّوا بعضَ ديارها، وانتقَصوا مِن أطرافها، وانتهَبوا خيراتِها، وغزَوا المسلمين في دينهم وفي فكرِهم، مع فُرقةٍ في المسلمين وشتاتٍ في الرّأي واختلافٍ زادَ في تمكينِ الأعداء عليهم.
وإنّ سردَ جوانبِ الضّعف وظواهره يوهن ويُحزن إلاّ أنّه لا بدّ من كشفِ الجرح لعِلاجه. ومنذ سنينَ عِدّة والمنتسبون لأمّة الإسلام يتنافسون في كشفِ الدّاء وتوصيفِ الدّواء، فمِن ناسبٍ ضعفَ المسلمين إلى أسبابٍ مادّية أو أسبابٍ حضاريّة وفكريّة أو غير ذلك، الجميعُ ينظرون ويجتهِدون، وكلّ حزبٍ بما لديهم فرحون. بل وصَل الحال ببعض بني المسلمين إلى اتّهام الإسلام نفسِه أو بعضِ شرائِعه، إلاّ أنّ المتأمّلَ في تاريخ الأمّة الإسلاميّة منذ نشأتها والمتبصّر في منهاجِها ودستورِها يعلَم داءَها ودواءَها وسقمَها وشِفاءها، يعلَم علمَ اليقين أسبابَ الضّعف المُهين، كما يعلَم أسبابَ النّصر والتّمكين.
إنَّ استمدادَ ذلك العِلم ليس من البشر، بل من خالق البشَر سبحانه حَكم بقوله: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]، والذي قال جلَّ شأنه: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران: 165]. كما أنَّ الناظرَ أيضًا يعلم أنَّ رياحَ التغيير لا تهبّ من فَراغ، وأنَّ الإصلاحَ يبدأ مِن النّفس، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرّعد: 11]، كما يعلم أنّ الهدايةَ تأتي بعد المجاهدة، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69].
إذًا حالُ الأمّة الحاضر وواقعُها المؤلم سببُه التقصيرُ في الأخذِ بأسباب النصر الحقيقيّة التي لا نصرَ بدونها، فنحن قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام، مهما ابتغَينا العزّةَ بغيره أذلّنا الله؛ لذا لا بدّ من المحاسبة على هذا المنهاج، يجب أن يتفقّد المسلمون حالَهم مع دينهم وعلاقتَهم بربِّهم.
أيّها المسلمون، أيّها القاصدون بيتَ الله المعظَّم، وهذه وقفةُ محاسبة مع أعظمِ عُنوانٍ للصِّلة بالله، وأهمِّ ركن بعد شهادةِ أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا رسول الله، ألا وهو الصلاة.
الصّلاة ـ أيّها المؤمنون ـ ركنُ الدين ومعراجُ المتّقين وفريضة الله على المسلمين، لا دينَ لمَن لا صلاةَ له، ولا حظَّ في الإسلام لمَن ترك الصّلاة، مَن ترك صلاةً مكتوبة متعمِّدًا مِن غيرِ عُذر برِئت منه ذمّة الله. كان أصحاب النبيِّ لا يرَون شيئًا مِن الأعمال تركُه كُفر غير الصّلاة، وفي صحيح مسلمٍ أنّ النبيَّ قال: ((ليس بينَ الرّجل والكفرِ ـ أوالشرك ـ إلاّ ترك الصّلاة)) [1] ، بل جعل الله الصلاةَ عنوانَ الإسلام فقال: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى [العلق: 9، 10].
كلُّ الفرائض أنزلها الله تعالى على رسولِه إلاّ الصلاة، فإنّه سبحانه أصعدَ إليها رسولَه، فعرج بنبيِّه إلى السّماء السّابعة، فأكرمَه حتّى رضي، ثمّ فرض عليه الصلواتِ الخمس، لذا كانت أكثرَ الفرائض ذِكرًا في القرآن، بل كانت وصيّةَ رسول الله عندَ فِراق الدّنيا وهو يغالِب سركاتِ الموت، تخرج روحُه الشريفة وهو مشفِق على أمّته، يجود بنفسِه وينادي: ((الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانُكم)) [2] ، وكانت همَّه وهو في الرّمَق الأخيرِ يسأل: ((هل صلّى الناس؟ مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس)) [3].
هي عنوانُ الفلاحِ وطريق النجاح، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون: 1، 2] إلى أن قال في آخر نعتِهم: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 9، 11].
الصلاة واجبةٌ على المسلم في كلّ حال، لا تسقط بمرضٍ ولا خوف، بل حتّى عند العجز عن شروطِها وأركانِها ما دامَ العقل موجودًا، وحتّى في حالاتِ الفزَع والقتال، حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة: 238، 239]، وصلاةُ الخوف مذكورةٌ صفتُها في سورة النّساء، على أيّ حالٍ لا بدّ أن يصليَ المسلم، مستقبلَ القبلة فإن لم يستطع صلّى لأيّ جهة، قائمًا فإن لم يستطع فقاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنب، وإلاّ فعلى أيّ حال، وإن عجز عن طهارةٍ أو ستر عورة أو غير ذلك صلّى على أيّ حال، نَعَم على أيّ حال لأنّها الصلاة التي هي أوّل ما يُسأل عنه العبدُ يومَ القيامة، فإن صلحت صلح سائرُ العمل، وإن فسَدت فسَد سائرُ العمل، كما صحّ بذلك الخبرُ عن المعصومِ [4] ، فلا يقبَل اللهُ عبادةً دونها.
أيّها المسلمون، خمسُ صلواتٍ مفروضة في كلّ يوم: الفجر والظّهر والعصرُ والمغرب والعِشاء، كفّارة لما بينها، فتطهِّر القلوبَ من درن الذنوب، بل تمنعُها ابتداءً، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45]. وإذا ما ضايقَتك سيّئاتك يومًا وأثقلت كاهلَك الخطايا فابتدِر الصلاةَ واسمََع قول الإله: وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود: 114]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله يقول: ((أرأيتُم لو أنّ نهرًا بباب أحدِكم يغتسِل منه كلَّ يومٍ خمسَ مرّات، هل يبقى من درنِه شيء؟)) قالوا: لا يبقى من درنِه شيء، قال: ((فذلك مثَل الصلوات الخمس، يمحو الله بهنّ الخطايا)) [5].
والصلاةُ بابٌ للرزق، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه: 132]، هي المفزَع عند الجزَع، وإليها الهرَب عند الهلَع، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 153]؛ لذا كانت قرَّة عين النبيِّ ، فإذا حَزَبه أمرٌ [6] فزع إلى الصّلاة [7] ، ونادى: ((أرِحنا بها يا بلال)) [8] ، وأجاب حين سُئل: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: ((الصلاة على وقتِها)) متفق عليه [9].
وبعدَ هذا فكيف ترجو أمّة نصرَ ربِّها إذا ضيَّعت صِلَتها به وعجزت عن القيام بفَرضه؟! إنّ الذين يفرِّطون في هذه الصّلوات لا يستحقّون إكرامًا ونَصرًا مِن الخالق ولا مِن المخلوقين. إنّ الصلاةَ أوّل شروط النصرِ والتمكين، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج: 41]، فكيف يُنصَر المسلمُ أو يُوفَّق إذا ترك الصلاةَ وقد جُعِل سببَ دخول النار؟! مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر: 42، 43]، وفي وصفِ الوجوهِ الباسرة: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة: 31، 36]، ومع كلِّ هذا فإنّك لتأسَى وتحزَن إذا علمتَ أنّ فئامًا من المسلمين تركوا الصّلاة أو تهاونوا فيها.
فاتقوا الله أيّها المسلمون، وائتمِروا بالمعروف، وتناهَوا عن المنكر، وتواصَوا بالصلاة، وليكن قدوة المربّين والدعاة أمر الله لنبيِّه: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه: 132]. وقد امتدح الله إسماعيلَ عليه السلام بقوله: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ [مريم: 55]، وفي الحديث الصحيحِ على شرطِ مسلم أن النبيَّ قال: ((مُروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)) [10] ، وأمرُ الناسِ بها وكذا أمرُ الأهل والأولاد مِن المحافظة عليها.
أيّها المسلمون، وثمّةَ صنفٌ مِن الناس رخصَت عندهم الصلاةُ، فهي آخرُ أشغالِهم ونهايةُ أعمالِهم وفي نهايةِ اهتمامِهم، فيجمَعون الصلواتِ بلا عُذر، ويؤخرِّونها عن وقتِها، وعليهم ينطبق قول الله: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء: 142]، وفيهم نزل قولُ الحقّ سبحانه: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون: 4، 5] أي: لاهون يؤخِّرونها عن وقتها، ألم يسمعوا قولَ الله عزّ وجلّ: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء: 103]؟! أي: مؤقَّتًا؛ معلوم البدايةِ والنهاية، لا تصحّ قبلَ الوقت كما لا تصحّ بعدَه إلاّ مِن عُذر.
فاتّقوا الله، وحافظوا على الصلواتِ في أوقاتها، وليعلَم الرّجال أنّها واجبة عليهم في جماعةِ المسلمين في المساجِد، ولو وسِع أحدًا تركُ الجماعة لوسَّع النبيّ الرحيمُ بأمّته [على] ذلك الشيخِ الضرير الذي يفصِل بينَه وبين المسجد وادٍ كثير السّباع والهوامّ وليس له قائد يقوده، فاستأذن النبيَّ للصلاة في بيته فلم يأذن له [11] ، فكيف بمن أفاء الله عليه ويسَّر له؟! وإلا فلِم المساجد شيِّدت والمآذن رُفعت والجماعات أقيمَت؟! أللجمعةِ فقط؟! أللجمعة فقط؟! لا حولَ ولا قوّة إلا بالله.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (من سرَّه أن يلقى اللهَ غدًا مسلمًا فليحافِظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادَى بهنّ، فإنّ الله شرَع لنبيّكم سننَ الهدى، وإنّهن مِن سُنَن الهدى، ولو أنّكم صلّيتم في بيوتِكم كما يصلّي هذا المتخلّف في بيتِه لتركتُم سنّة نبيِّكم، ولو تركتم سنّةَ نبيّكم لضللتم، ولقد رأيتُنا وما يتخلَّف عنها إلا منافقٌ معلومُ النفاق، ولقد كان الرجل يُؤتى به يُهادَى بين الرجلين حتى يقام في الصفّ) رواه مسلم [12].
أيّها المسلم، يا عبد الله، ها قد سمعتَ الذكرى، وقد عرفتَ فالزم، فالزم طريقَ الهدى.
وفّقني الله وإيّاك لمراضيه، وجعل مستقبلَ حالنا خيرًا من ماضيه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة: 45، 46].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنّة، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كلّ ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (82) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما نحوه.
[2] أخرجه أحمد (6/ 290)، والنسائي في الكبرى (7098)، وابن ماجه في ما جاء في الجنائز (1625) عن أم سلمة رضي الله عنها، قال البوصيري في الزوائد: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وصححه الألباني في تخريج أحاديث فقه السيرة (ص 501)، وفي الإرواء (7/ 238). وفي الباب عن أنس وعلي رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري في الأذان (687)، ومسلم في الصلاة (418) عن عائشة رضي الله عنها بمعناه.
[4] أخرجه الطبراني في الأوسط (1859)، ومن طريقه الضياء في المختارة (7/ 144-145) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وجعله المنذري في الترغيب (1/149) من مسند عبد الله بن قرط وقال: "لا بأس بإسناده إن شاء الله"، وقال الهيثمي في المجمع (1/292): "فيه القاسم بن عثمان، قال البخاري: له أحاديث لا يتابع عليها، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1358). وفي الباب عن أبي هريرة وأبي سعيد وتميم الداري رضي الله عنهم.
[5] صحيح البخاري: كتاب مواقيت الصلاة (528)، صحيح مسلم: كتاب المساجد (667).
[6] حزبه أمر أي: نزل به أمر شديد.
[7] أخرجه أحمد (5/388)، وأبو داود في الصلاة، باب: وقت قيام النبي من الليل (1319) من حديث حذيفة رضي الله عنه، وفيه محمد بن عبد الله الدّؤلي أبو قدامة قال عنه الحافظ في التقريب: "مقبول"، ومع ذلك فقد حسن إسناده في الفتح (3/172)، وحسّنه أيضاً الألباني في صحيح سنن أبي داود (1168).
[8] أخرجه أحمد (5/364)، وأبو داود في الأدب، باب: في صلاة العتمة (4985) عن رجل من الصحابة، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (4171).
[9] صحيح البخاري: كتاب مواقيت الصلاة (527)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (85) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[10] أخرجه أحمد (2/187)، وأبو داود في الصلاة (495)، والدارقطني (1/230)، والحاكم (1/311)، والبيهقي (2/228، 229) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، وحسنه النووي في المجموع (3/10)، وصححه الألباني في الإرواء (247). وله شاهد من حديث سبرة بن معبد رضي الله عنه بإسناد حسن، أخرجه أحمد (3/201)، وأبو داود في الصلاة (494)، والترمذي في الصلاة (407) وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (ص77)، وابن خزيمة (1002)، والحاكم (1/258)، ووافقه الذهبي، وصححه النووي في المجموع (3/10). وفي الباب أيضا عن أبي هريرة وعن أنس رضي الله عنهما وإسناداهما ضعيفان.
[11] حديث الأعمى الذي استأذن النبي في أن يصلي في بيته أخرجه مسلم في المساجد (653) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[12] صحيح مسلم: كتاب المساجد (654).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله غافر الزّلات، مقيلِ العثرات، يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ [الشورى: 25]. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفِره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، شهادةً نرجو بها النجاةَ يومَ الموافاة، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبِه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، فمَن أرد الحِرز والحِفظ والتوفيقَ والأمن فليحافِظ على الصلاة، عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من صلّى الصبحَ في جماعة فهو في ذمَّة الله)) رواه مسلم [1].
كما أنَّ الصلاة فريضةُ مشترَكة بين النبيِّين، فكلُّهم أُمِروا بها، قال الله سبحانه عن إبراهيم ولوطٍ ويعقوبَ وإسماعيل عليهم السلام: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ [الأنبياء: 73]، وهي دعوةُ أبينا إبراهيم حينَ دعا ربَّه بقوله: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم: 40]، وقال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم: 37]، وقال سبحانه عن عيسى عليه السلام: وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم: 31]، وفي كلامِ الله تعالى لموسى عليه السلام: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14]، ولنبيّنا محمّد عليه الصلاة والسلام: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه: 132]، أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء: 78]، وقال سبحانه عن عبادِه الصالحين المصلحين: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف: 170].
فهل تجِدون بعدَ هذا ـ أيّها المؤمنون ـ عبادةً حظِيت بمنزلةٍ فوق الصلاة؟! أم هل يجِد المفرِّطون والمتهاوِنون عُذرًا بعدَ هذا البلاغ؟!
عبادَ الله، ويرتبط بالحديث عن الصّلاة إشارة ضروريّةٌ إلى روحها ولُبِّها، ألا وهو إتمامها والخشوع فيها. فمِن إتمامها العنايةُ بشرائطها ووضوئها والطّمأنينة فيها وعدَم مسابقة الإمام واتّباعُ السنّة في أدائها كما قال المصطفى في الحديث الذي رواه البخاري: ((صلّوا كما رأيتموني أصلّي)) [2].
والخشوعُ ـ أيّها المصلّون ـ انكسارُ القلبِ بين يدَي الله تعالى وامتلاؤُه مهابةً له وتوقيرًا وسكونُ الخواطر الدنيويّة واستحضارُ عظمةِ الباري سبحانه والاشتغالُ بالكلّيّة بالصّلاة مع الوقارِ والسكينة، عند ذلك تسكُن الجوارح ويُطرِق البصر.
عن عثمان بن عفّان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما من امرِئٍ مسلمٍ تحضره صلاة مكتوبةٌ فيحسِن وضوءها وخشوعَها وركوعها إلا كانت كفّارةً لما قبلها من الذّنوب ما لم تُؤتَ كبيرة، وذلك الدّهرَ كلّه)) رواه مسلم [3] ، والله تعالى قال: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء: 43]، وكم من مصلٍّ لم يشرَب خمرًا هو في صلاتِه لا يعلم ما يقول، قد أسكرَته الدنيا بهمومِها.
فاتّقوا الله أيّها المسلمون، وحافظوا على عهدِ الله إليكم، وتأهّبوا فالحسابُ بين يدَيكم.
واعلموا أنّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وأزواجه وصحبِه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدين...
[1] صحيح مسلم: كتاب المساجد (657)، وليس فيه قوله: ((في جماعة)).
[2] صحيح البخاري: كتاب الأذان (631) عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
[3] صحيح مسلم: كتاب الطهارة (228).
(1/2852)
محاسبة النفس
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
17/11/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيان النبي لأصول الدين وفروعه. 2- وجوب محاسبة النفس. 3- فضل مراقبة الله تعالى. 4- موقف المسلم من المشتبهات. 5- الحاجة إلى الإصلاح والطريق إليه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله، اتقوا الله وأطيعوه، واخشوا يومًا لا يجزي فيه أحد عن أحدٍ شيئًا، وإنما هي الأعمال يَشقى بها الشقي، ويسْعَد بها السعيد.
عباد الله، إن اللهَ تعالى قد أرسل إليكم عبدَه محمَّدًا بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وأنزل عليه القرآن الكريمَ نورًا مبينا، ما من خير وفضيلةٍ إلا دلّ عليها وأمر بها، وما من شرٍّ ورذيلة إلا نهى عنها، قال الله تعالى: مَّا فَرَّطْنَا فِى ?لكِتَـ?بِ مِن شَىْء [الأنعام:38]، وقال تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى? لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89]، ويقول النبي : ((إن الحلالَ بيّن، وإن الحرامَ بين، وبينهما أمور مشتبهاتٌ، لا يعلمهنّ كثير من الناس، فمن اتّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرضه، ومن وقع في الشبهاتِ وقع في الحرام، كالراعي يرعَى حولَ الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكلّ ملِكٍ حمى، ألا وإنّ حمى الله محارمه، ألا وإن في السجد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه [1] ، وفي الحديث الآخر: ((إن الله فرض فرائضَ فلا تضيِّعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم فلا تَسألوا عنها)) [2].
فإذ قد علمتَ ـ أيها المسلم ـ ما يجب لله عليك من الفرائض وما لغيرك من الحقوق وجبت عليك محاسبةُ نفسك محاسبةً شديدةً دائمة بلا انقطاع؛ ليخفَّ عليك الحسابُ في الآخرة، فمن راقب اللهَ تعالى وخشيه في كلِّ ما يأتي وما يذر قلَّ تقصيره في الفرائض والواجبات، وكفَّ نفسَه عن المحرَّمات، وأدَّى الحقوق الواجبةَ لغيره عليه، قال الله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ وَ?لَّذِينَ هُم بِئَايَـ?تِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَ?لَّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى? رَبّهِمْ ر?جِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَـ?رِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَهُمْ لَهَا سَـ?بِقُونَ [المؤمنون:57-61].
فمن راقب ربَّه وخشِيه وحاسب نفسَه وألزمها بما يقرِّبه إلى الله ويُباعده من الذنوب والآثام صَلح باله وحسُن حاله ومآله، قال الله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ?لنَّفْسَ عَنِ ?لْهَوَى? فَإِنَّ ?لْجَنَّةَ هِىَ ?لْمَأْوَى? [النازعات:40، 41]. فمن حاسب نفسَه وراقبها وسيطَر عليها صَبَر على عبادة الله عز وجل التي هي أعظمُ إكرامٍ للعبد م ربِّه امتثالاً لقول الله تعالى: رَّبُّ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَ?عْبُدْهُ وَ?صْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، وامتثالاً لقول الله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه:132]، امتثالاً لقول الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، وتأسِّيًا بأصحاب رسول الله المحافظين على العبادة، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الصلاة جماعة: (ولقد رأيتُنا وما يتخلَّف عنها إلا منافقٌ معلومُ النفاق، ولقد كان يُؤتى بالرجل يُهادَى بين الرجلين من المرض حتى يُقام في الصف) [3] ، ويقول عمر رضي الله عنه: (أيها الناس، حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحَاسبوا، وزنُوها قبلَ أن تُوزَنوا، وتأهَّبوا للعرض الأكبر على الله) [4] ، ويقول النبي : ((الكيِّس من دان نفسَه وعمِل لما بعد الموت، والعاجِز عن أتبَع نفسَه هواها وتمنى على الله الأماني)) [5].
عباد الله، مَن حاسَب نفسَه وعمل على سنّة كثُر خيره، وقلَّ شره، وحسُنت عاقبته، وقدِم على ربِّه وهو عنه راض، وأدخله مُدخلاً كريمًا، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا. فحاسبوا أنفسكم في أقوالكم فإنّ اللهَ يقول: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، ويقول تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـ?فِظِينَ كِرَامًا كَـ?تِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]. وحاسبوا أنفسكم على أفعالكم فإن الله يقول: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7، 8]. وحاسبوا أنفسَكم في نواياكم وما يعتلجُ في صدوركم فإن الله تعالى يقول: وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَ?حْذَرُوهُ [البقرة:235].
وإذا لم يتبيَّن لك ـ أيها المسلم ـ وجهُ الشرع في عمل ما فاسأل العلماءَ عن حكم الله فيه، قال الله تعالى: فَ?سْأَلُواْ أَهْلَ ?لذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43]. ولو راجع المسلم نفسه فيما اشتبه عليه فتردَّد في ذلك الأمر فليحذر أن يفعله لقول النبي : ((البرُّ ما اطمأنَّت إليه النفس واطمأنَّ إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردَّد في الصدر وكرهتَ أن يطّلع عليه الناس)) [6] ، والمراد بالنفس هنا النفس المطمئنة التي تحبّ ما يحبّ الله وتكره ما يكره الله تعالى، والتي وثِقت بالله وتوكّلت عليه في كل أمورها، والمراد بالنفس أيضًا النفس اللّوامة التي تلوم صاحبها على التقصير في الواجبات وتلومه على فعل بعض المحرّمات، والقلب يراد به هنا القلب الذي سلِم من الشهوات وسلم من الشبهات، فإنه هو القلبُ الذي يعرف البرَّ والإثم إذا اشتبها، ويعرف الخير والشر إذا التبسا، وأما النفس المريضة بالشهوات والقلبُ المريض بالشهوات والشبهات فلا يعرف المتشابه من الأمور، ولا يحبّ ما يحبُّه الله، بل يكره ما يحبّ الله، ويحبُّ ما يكره الله تعالى، ولا ينْزَجر عمّا حرم الله، قال الله عز وجل: فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـ?بَهَ مِنْهُ ?بْتِغَاء ?لْفِتْنَةِ وَ?بْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ?للَّهُ وَ?لراسِخُونَ فِي ?لْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا [آل عمران:7]، وقال تعالى: إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ?لظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ?لأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ ?لْهُدَى? [النجم:23].
فمحاسبة النفس مع التمسُّك بالسنة هو سبيلُ النجاة، وأما من أعطى نفسَه هواها وسرَّحها في مراتع الضّلال والشهوات والفساد وأضاع حظَّها من العبادة لله وأعرض عن سنة رسول الله ولم يحاسِب نفسَه فقد ساء حالُه وخبُث مآله، قال الله تعالى: فَأَمَّا مَن طَغَى? وَءاثَرَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا فَإِنَّ ?لْجَحِيمَ هِىَ ?لْمَأْوَى? [النازعات:37-39]، وقال تبارك وتعالى: وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، وقال تعالى: وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَـ?رُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـ?كِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ?للَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ?لَّذِى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ ?لُخَـ?سِرِينَ فَإِن يَصْبِرُواْ فَ?لنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ ?لْمُعْتَبِينَ [فصلت:22-24].
عباد الله، إنَّ أحوالَ المسلمين توجب التفكُّرَ والتدبُّر والمراجعة والإصلاح لهذه الأحوال، فقد تكالب عليهم أعداءُ الإسلام، وتفرّقت كلمة المسلمين، وتشتّت آراؤهم، وتفشّت بينهم البدع، وصار بعضُهم يكيد لبعض، وصار بأسُهم بينهم، واشتدَّت كُرُباتهم، وساءت أحوالهم، وكلُّ مسلم يعلم أنَّ سببَ ذلك كلِّه هو تفريطهم في دينهم، فإذا أصلَح المسلمون ما بينهم وبين ربهم أصلح الله ما بينهم وبين الناس وأصلح ذاتَ بينهم، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد:11].
وإن أوَّل خطوة لإصلاح حال المسلمين هي صَلاح الفرد والجماعة، بأن يحاسَب كلٌّ نفسَه على كلِّ شيء قبل أن يحاسبَه الله؛ أن يحاسب نفسه: ماذا قدَّم للإسلام من عملٍ صالح؟ هل هو معظِّمٌ لأمر الله بالامتثال والخضوع والانقياد والمحبة؟ هل هو معظِّم لنهي الله بالابتعاد عن محارم الله وبُغضها؟ هل هو معظِّم لشرع الله؟ قال الله تعالى: ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَـ?تِ ?للَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ [الحج:30]، هل المسلم معظِّمٌ لسنَّة رسول الله بالتعليم والاتباع والتعلُّم وكراهية المخالفة والابتداع؟ هل هو قائم بحقوق الوالدين والأقربين والمسلمين؟ هل يحدِث لكلِّ ذنب توبةً نصوحا؟ هل يبكي على خطيئته؟ هل يزداد كلَّ يوم علمًا وفقها وعملاً صالحًا في دين الله دين الإسلام الذي رضيه الله للعالمين؟
إن الربَّ جل وعلا يوجب علينا أن نلقاه في الآخرة بالأعمال، لا بادِّعاء مجرَّدٍ من بيِّنات الأفعال، ويوجب علينا أن نعيشَ في هذه الدنيا صادِقين في أقوالنا وأفعالنا التي نتقرّب بها إلى ربِّنا، مخلصين مُحبِّين لخالقنا، خاضعين منقادين متواضعين لجبَّار السموات والأرض، والله يُكرم من يُكرمه، ويهين من أهان أمرَه، وهل شَقي بطاعة الله أحد؟! وهل سعِد بمعصية الله أحد؟! قال الله تعالى: وَقُلِ ?عْمَلُواْ فَسَيَرَى ?للَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى? عَـ?لِمِ ?لْغَيْبِ وَ?لشَّهَـ?دَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه (52)، صحيح مسلم: كتاب المساقاة (1599) واللفظ له.
[2] أخرجه الدارقطني (4/183-184)، والطبراني في الكبير (22/222)، وأبو نعيم في الحلية (9/17)، والبيهقي في الكبرى (10/12-13)، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/9) من رواية مكحول عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، وقد اختلف في رفعه ووقفه، ورجح الدارقطني الرفع، وحسنه أبو بكر ابن السمعاني في أماليه كما في جامع العلوم والحكم (1/150)، والنووي في الأربعين رقم (30)، إلا أن مكحولاً لم يصح له سماع من أبي ثعلبة، ولذا ضعفه الألباني في غاية المرام (4).
[3] أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (654).
[4] روي هذا الأثر من طرق لا تثبت، فأخرجه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (ص29–30)، وأحمد في الزهد (ص120)، وأبو نعيم في الحلية (1/52) من طريق جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، عن عمر رضي الله عنه نحوه، وثابت لم يدرك عمر. وعند ابن أبي شيبة في المصنف (13/270): عن جعفر بن برقان، عن رجل لم يسم، عن عمر. وأخرجه ابن المبارك في الزهد (ص103) عن مالك بن مغول بلاغا عن عمر. وأخرجه مالك في الموطأ (2/111 ـ رواية أبي مصعب ـ) بسند منقطع بين يحيى بن سعيد وعمر. وعلقه الترمذي في صفة القيامة (2459) بصيغة التمريض. وأورده الألباني في السلسلة الضعيفة (1201).
[5] أخرجه أحمد (4/124)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2459)، وابن ماجه في الزهد، باب: ذكر الموت والاستعداد له (4260)، والبزار (3489)، والطبراني في الكبير (7/281، 284)، وأبو نعيم في الحلية (1/267، 8/174)، والبيهقي في الكبرى (3/369) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه الحاكم (191، 7639)، وتعقبه الذهبي في الموضع الأول بأن فيه أبا بكر بن أبي مريم وهو ضعيف، ولذا ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (5319).
[6] أخرجه أحمد (4/227، 228)، والدارمي في البيوع (2533)، وأبو يعلى (1586، 1587)، والطبراني في الكبير (22/402)، وأبو نعيم في الحلية (2/24، 6/255)، والبيهقي في الدلائل (6/292) من حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه نحوه، وضعفه ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/94). ويشهد له ما أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2553) عن النواس بن سمعان رضي الله عنه بلفظ: ((البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على توفيقه وامتنانه، والشكر له على فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا وسيّدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
عباد الله، إن محاسبةَ المسلم نفسَه في كلِّ صغيرة وكبيرة في تمسُّكه بسنَّة المصطفى هو سفينةُ النجاة وصَلاحُ الحياة والفوزُ برضوان مولاه، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]، وفي الحديث عن النبي : ((من سرَّته حسنتُه وساءته سيّئتُه فهو مؤمن)) [1] ، وعن أنس رضي الله عنه أنه قال: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدقّ في أعيُنكم من الشعر كنّا نعدُّها على عهد رسول الله من الكبائر) رواه البخاري [2] ، وذلك لمحاسبتهم أنفسَهم.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال رسول الله : ((من صلَّى علي صَلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
فصلوا وسلِّموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وسلّم تسليمًا كثيرًا...
[1] أخرجه أحمد (1/18)، والترمذي في الفتن، باب: ما جاء في لزوم الجماعة (2165)، والبزار (166، 167)، والبيهقي في الكبرى (5/389) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (6728، 7254)، والحاكم (387)، وأورده الألباني في صحيح سنن الترمذي (1758).
[2] صحيح البخاري: كتاب الرقاق، باب: ما يتقى من محقرات الذنوب (6492) وفيه: (من الموبقات).
(1/2853)
نسيم الحج قد هب
فقه
الحج والعمرة
محمد أحمد حسين
القدس
17/11/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة. 2- سمات الحج المبرور. 3- التوبة النصوح. 4- بعض حكم الحج وفوائده. 5- أهمية الامتثال لأمر الله ورسوله. 6- منع الحجاب في فرنسا صورة من صور الإرهاب والحرب على الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره، لقوله تعالى: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، يغادرنا خلال هذا الأسبوع حجاج هذه الديار المباركة ميممين بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، وزيارة المسجد النبوي الشريف، وسيشرفون بالسلام على الحبيب المصطفى ، حيث موطن الدعوة الإسلامية وبطاح الجهاد ونزول الوحي الأمين على قلب نبينا عليه الصلاة وأتم التسليم، نسأل الله تعالى أن يكون حجهم مبرورًا وسعيهم مشكورًا، حتى يفوزوا ببشارة النبي فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
أيها المسلمون، يا حجاج بيت الله الحرام، وحتى يكون الحج مبرورا ينبغي على المسلم أن يخلص النية لله، فلا يكون الحج للشهرة أو السُمعة أو الرياء، بل خالصًا لله وحده، قال تعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ [البينة:5]، ينبغي على الحاج أن يتجنب الرفث والفسوق والمعاصي والجدال، وتجنبها من الأخلاق الإسلامية التي تجب مراعاتها في جميع أحوال المسلم، قال تعالى: ?لْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـ?تٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ?لْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ?لْحَجّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ?للَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? وَ?تَّقُونِ ي?أُوْلِي ?لألْبَـ?بِ [البقرة:197].
وليبادر الحاج إلى التوبة النصوح، وهي مطلوبة من كل مسلم، لا يخلو الإنسان من الذنوب، والله يقول: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وحقيقة التوبة أن يقلع عن الذنوب ويتركها، ويندم على ما مضى منها، ويعزم على عدم العود إليها، وإن كان عنده للناس مظالم من نفس أو مال أو عرض ردها إليهم، أو تحللهم منها قبل السفر لأداء فريضة الحج، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من كان عنده مظلمة لأخيه من مال أو عِرض، فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم)) ، وحتى يكون الحج أقرب للقبول ينبغي على الحاج أن ينفق من المال الحلال، لما ورد في الحديث الشريف: ((إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا)) ، ولله در القائل:
إذا حججت بمال أصله دنس فما حججت ولكن حجّت العير
لا يقبل الله إلا كل طيبة ما كل حج لبيت الله مبرور
وليحرص الحاج على وداع الأهل والأصدقاء وكتابة الوصية، ويترك ما يكفي من نفقة على من تلزمه نفقتهم مدة غيابه، وليختر رفيقًا صالحًا يعينه في سفره، وليكن ذكر الله رائده في كل حال، وهو يؤدي هذه الفريضة العظيمة والركن الجليل من أركان الإسلام.
أيها المسلمون، يا حجاج بيت الله الحرام، إن فريضة الحج تشتمل على حِكم جليلة وفوائد كثيرة، حري بكل من أدى الفريضة أن يحوزها ويقف على مراميها، فالحج يبدو فيه إظهار التذلل لله تعالى، وقد تجردت النفوس من أهوائها كما تجرد البدن من مظاهر الترف وشواغل الدنيا في لباس الإحرام الذي لا يزيد على كفن الميت.
الحج مدرسة لتربية النفس على الصبر وتحمل المشاق في السفر، وتعويد النفس على البر والتضحية، ورجم حظ الشيطان والشهوات في رجم الجمار، كما يؤدي الحاج شكر النعمة على سلامة البدن، ونعمة المال في إظهار العبودية لله.
والحج ـ أيها المسلمون ـ مؤتمر يجمع المسلمين من أقطار الأرض في تلك البقاع الطاهرة استجابة لدعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام واقتداء بهدي نبينا المصطفى ، وفيه تتوحد المشاعر والشعائر، فلا فرق بين غني وفقير، ولا بين أسود وأبيض، ولا بين عربي وأعجمي، وقفوا جميعًا بين يدي الله في مواطن البراءة بخشوع وإقبال وتعلق بما أعده الله لعباده المسلمين من أجر ومثوبة، لجّوا بالتلبية والتكبير والتهليل يدعون الله ويسألونه مغفرة الذنوب، فيقبل عليهم بالمغفرة لقوله عليه الصلاة والسلام: ((الحجاج والعُمّار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم)).
أيها المسلمون، يا حجاج بيت الله الحرام، ومن أركان الحج الطواف بالبيت والوقوف بعرفة، وفي هذا الموقف العظيم خطب رسولنا خطبة الوداع، وبين للأمة الإسلامية أمور دينها وحرمة دمائها وأموالها، فمما قاله عليه الصلاة والسلام: ((أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده أبدًا إن اعتصمتم به: كتاب الله وسنة رسوله)).
فهلا كان الحج مؤتمرًا تجدد الأمة فيه البيعة لله ولرسوله في إتباع كتاب الله وهدي المصطفى ، لا عصمة فيما سواهما، ولا فلاح إلا في تحكيمهما، ولا عزة للمسلمين إلا بعزة الإسلام وأخوة الإيمان التي توجب النصرة بين المسلمين، مهما تباعدت ديارهم واختلفت أجناسهم ولغاتهم.
أيها المسلمون، يا حجاج بيت الله الحرام، نودعكم على بركة الله، ونسأل الله تعالى لكم حجًا مبرورًا وسعيًا مشكورًا وتجارة لن تبور، ونسألكم الدعاء لنا وللمسلمين في تلك الرحاب الطاهرة، في المسجد الحرام وفي صعيد عرفات، وعند المشعر الحرام، وعند كل المناسك.
احملوا رسالة المسجد الأقصى الأسير إلى الشعوب الإسلامية، ليتذكروا أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث مسجد تشد إليه الرحال، ومسرى ومعراج نبينا عليه الصلاة والسلام.
وفقنا الله وإياكم للإخلاص بالقول والعمل، وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وهدانا سواء السبيل، إنه نعم المولى ونعم النصير.
جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله : أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)) أو كما قال.
فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن اتبع هداهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين.
وبعد: أيها المسلمون، في الوقت التي تشتد فيه الهجمة الاستعمارية على الأرض الإسلامية لاحتلالها وقهر شعوبها ونهب ثرواتها والسيطرة على مقدرات الأمة وإبقائها ضعيفة ممزقة الأوصال، تشن قوى أخرى غربية حملة على المسلمين في ديارها، كما حدث في فرنسا التي شرعت في منع الحجاب الإسلامي في المؤسسات الرسمية، بحجة أن نظام الدولة يقوم على العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة.
وقد منعت بلد حقوق الإنسان والثورة على الإقطاع حق المواطن المسلم في ممارسة حريته الدينية، ولم تمكنه من الالتزام بثقافته الإسلامية النابعة من صلب عقيدته، فالحجاب الإسلامي فريضة على المسلمة، وهو من أهم مظاهر عفتها وكرامتها.
ومن المؤسف أن تبرِّر بعض المرجعيات الدينية في دنيا المسلمين هذا الإجراء الذي أقدمت عليه الرئاسة الفرنسية، بحجة أن فرنسا دولة غير إسلامية، ولها أن تفرض ما تراه مناسبًا من القوانين وفق نظامها العلماني، وأن المسلمة في هذه الحالة تصبح في حكم المضطر لخلع الحجاب الإسلامي.
إننا نطالب المرجعيات الدينية في عالم المسلمين وفي مقدمتها الأزهر الشريف إلى ضرورة التنبه لمثل هذه الإجراءات التي تطال المسلمين وتضيق عليهم في عقيدتهم ومظاهر شخصيتهم، وهي خطوة في ملاحقة المسلمين والتضييق عليهم كالعبث في مناهج تعليمهم، لبث الشبهات في ثقافتهم الإسلامية، وكلُ المسلمين حكامًا ومحكومين مطالبون بالدفاع عن دينهم وثقافتهم ونصرة إخوانهم في الدين بما يتيسر من الوسائل التي تتبعها الدول في رعاية وحماية حقوق جالياتها التي تعيش في دول أخرى.
كما أن مثل هذه الإجراءات تكشف زيف الديمقراطيات التي يلهث وراءها الكثير من أبناء أمتنا، ظنًا منهم أنها تحقق لهم التقدم واللحاق بركب التقدم العلمي والاقتصادي الذي تعيشه دول وشعوب العالم الغربي.
وما درى أبناء جلدتنا وأمتنا أن نجاحهم وفلاحهم مرهون بعودتهم إلى تطبيق أحكام دينهم وشريعتهم الغراء وإقامة دولة الإسلام التي كفلت للمسلمين وغير المسلمين كرامة الإنسان وحقه في الحياة، ولم تكره أحدًا في الدين لقوله تعالى: لا إِكْرَاهَ فِى ?لدّينِ قَد تَّبَيَّنَ ?لرُّشْدُ مِنَ ?لْغَيّ [البقرة:256].
(1/2854)
وقفات مع آيات الحج
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الحج والعمرة, القرآن والتفسير
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
24/11/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الوفود إلى بيت الله الحرام. 2- مقصد التوحيد في الحج. 3- التحذير من التهاون بمناسك الحج. 4- مظهر التعاون والبذل في الحج. 5- مقصد التقوى في الحج. 6- التذكير بنعمة الإسلام. 7- أهمية التديّن للفرد والمجتمع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فاتقوه في الغيب والشهادة والغضبِ والرضا والفرح والترَح، ألا فاتقوا الله ـ يا أولي الألباب ـ لعلّكم تفلحون.
أيّها المسلمون، في هذه الأيام تترقَّب نفوسُ المسلمين بعامّة حلولَ شهر ذي الحجة، وأفئدتهم تشرئبّ إلى انبثاق هلاله الوليد، وأسرابُ الحجيج بدأت تتوافد إلى البيت العتيق لأداءِ مناسك الرّكن الخامسِ من أركان الإسلام. إنهم يفِدون إليه بخطَى الطاعةِ والاستجابة لأمر الله جلّ وعلا لخليله إبراهيم عليه السلام بقوله: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ [الحج:37]. إنهم يفِدون إليه ليشهَدوا منافع لهم ويذكروا اسمَ الله جلّ شأنه ونفوسُهم في الوقت ذاته مليئةٌ بحبّ الاستطلاع على معاني الحجّ وحِكَمه وأسراره من خلال أجواءِ النسُك والتنقّل في عرصاتِ المشاعر المقدَّسة.
عبادَ الله، إنّ وقفاتٍ يسيرةً مع آيات الحجّ في كتاب الله تعالى لهي كفيلةٌ في كشف شيء من أسرار الحج وحِكَمه وما تحويه من معاني التكامُل والتهذيب وأصولِ التخليَة المفضِية إلى التحلية.
تتمثّل هذه الوقفاتُ في أعظم الحِكَم والمقاصد لهذا النُسُك العظيم، إنها الوقفةُ مع توحيد الله جلّ وعلا الذي بُني البيتُ العتيق من أجلِه وجُعل قصدُ الناس إليه من أرجاءِ المعمورة لإذكاءِ شعيرةِ توحيد العبادةِ وخلوصها لله سبحانه لا شريكَ له، وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْر?هِيمَ مَكَانَ ?لْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئًا وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَ?لْقَائِمِينَ وَ?لرُّكَّعِ ?لسُّجُودِ [الحج:26].
إنّ التوحيد الخالصَ هو عماد خلافةِ الإنسان في الأرض، وهو أفضلُ ما يُطلب وأجلُّ ما يُرغب وأشرفُ ما يُنسَب، لا يُشيَّد الملك العتيدُ إلا على دعائم التوحيد، ولا يزول ويتلاشى إلى على طواسمه، ما عزّت دولةُ الإسلام إلا بانتشاره، ولا ذلَّت واستكانت إلا باندثاره.
إنّه التوحيد الخالصُ الذي يأرِز بالناس إلى بِرّ الأمان والوقايةِ من زوابع الشرك بالله في ألوهيته وربوبيته والإلحاد في أسمائه وصفاته. إنّه توحيدٌ يعلِّق الرجاء بالله والخوف منه والاستعانةَ والاستغاثة به وأن لا يُحكم في الأرض إلا بما شرع الله سبحانه. إنّه التوحيدُ الذي يغمر قلوبَ المسلمين باليقين الخالص، والذي شُرع الحج لأجله حيث يقول الباري سبحانه: حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ?لسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ?لطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ?لرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
ولذا جعل الله الكعبةَ البيتَ الحرام قيامًا للناس، وما الحجَر الأسودُ إلا موضعُ الابتداء ونقطة التمييز في هذا البناءِ المبارك، وليس للبركةِ والتبرّك محلٌّ مع الأحجار غير الاقتداءِ بالنبيّ بتقبيله والطواف بالبيت، ولقد صوَّر الفاروق رضي الله عنه هذا الفهمَ الحسَن بقوله: (إني أعلمُ أنك حجرٌ لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ رسول الله يقبِّلك ما قبَّلتك) [1].
والمسلمُ ينبغي أن يعلمَ علمَ اليقين عندما يطوف بالبيت ويقبِّل الحجر الأسودَ ويستلم الركن اليمانيَّ أنّ النافع الضارَّ هو الله وحدَه، وأن أيَّ إخلالٍ بهذا المفهوم فإنّه يوقع في براثن الشركِ بالله الذي ما أُسِّس البيت العتيق إلا لنفيه وإزالتِه، ولذلك بعثَ النبيّ أبا بكر رضي الله عنه في العام التاسِع بالحجّ ليناديَ في الناس يومَ النحر أن لا يحجَّ بعد العام مشرِك ولا يطوفَ بالبيت عُريان. رواه البخاري ومسلم [2]. ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَـ?تِ ?للَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ?لأنْعَـ?مُ إِلاَّ مَا يُتْلَى? عَلَيْكُمْ فَ?جْتَنِبُواْ ?لرّجْسَ مِنَ ?لأوْثَـ?نِ وَ?جْتَنِبُواْ قَوْلَ ?لزُّورِ [الحج:30].
ووقفةٌ أخرى ـ عبادَ الله ـ مع آياتِ الحجّ، حيث يبيّن الله جلّ وعلا أحكامه وآدابَه ليعلمَ الناسُ ما يجب عليهم في تلك العرَصات، وما لأوامر الله من التعظيم والامتثالِ والتحذير من الإخلال بها أو التكاسُل عنها أو التساهُل بآحادها؛ إذ العبادةُ ليست محلاًّ للعبَث ولا للإخلال بها من أيّ وجهٍ كان، فلهذا جاء قول الباري سبحانه دالاًّ على توعُّد المقصِّر فيها والمتهاون عنها حيث يقول سبحانه بعد سردِ شيء من أحكام الحج: ذ?لِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [البقرة:196]، ولم يقل: واعلَموا أنّ الله غفور رحيم، وذلك لأجل التأكيد على حرمةِ الحجّ وعلى حُسنِ الأداء على الوجه الأكمل؛ لأنّه يقع ضمنَ حدود الله جلّ وعلا التي شرعَها وهو القائل: وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [البقرة:229]، وليطالَ نفسَ المؤمن الانتباهُ إلى أنّ العقابَ في مقابِل التهاون.
ووقفةٌ أخرى مع آياتِ الحجّ عبادَ الله، تتَّضِح في جعل الحجّ محلاًّ للتعاون والبذلِ والإحساس بالآخرين وسدِّ حاجتهم حتى في مواطِن العبادة، فتأتي الآيةُ في سياقِ ذكر الحجّ دالّةً على عِظَم التعاوُن والحاجة إلى العطف على الفقراء والجوعَى وسدِّ مسغَبتهم، فيقول الله سبحانه: لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْبَائِسَ ?لْفَقِيرَ [الحج:28]، وفي الآية الأخرى يقول: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْقَـ?نِعَ وَ?لْمُعْتَرَّ كَذ?لِكَ سَخَّرْنَـ?هَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36]، والقانِع هو الذي لا يسأل الناسَ إلحافًا مع جوعه وإملاقه، والمعترُّ هو الفقير الذي يتكفَّف الناس.
ووقفةٌ رابعة عباد الله، تتجلّى في قيمة التقوى وعِظَم أثرِها وأنها هي الميزانُ الذي توزَن به الأعمال ويوزن به الناس، ولذا كثُرت الوصية بالتقوى في آيات الحج، فقد قال سبحانه: وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [البقرة:196]، وقال أيضًا: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? وَ?تَّقُونِ يـ?أُوْلِي ?لألْبَـ?بِ [البقرة:197]، وقال سبحانه: فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ?تَّقَى? [البقرة:203]، وقال أيضًا: ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32]، وقال سبحانه: لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ [الحج:37]. إنها التقوى ـ عبادَ الله ـ التي هي جماعُ الخير كلِّه.
إنّك ـ أيها المسلم ـ إذا عبدتَ الله على نورٍ من الله ترجو ثوابَ الله وتركتَ محارمَ الله على نورٍ من الله تخشى عقابَ الله فقد حقّقتَ التقوى بحذافيرها في واقعِ حياتك، والتي من خلالها تقوم بالحقوق المنوطَةِ بك تجاهَ خالقك وتجاه إخوانك في الدين.
ومظاهرُ الحجِّ ـ عباد الله ـ كلُّها دالّة على هذا المقصد، فالمسلمون كلُّهم كالجسد الواحد، وهم كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا، والمسلمون في عرصَات الحجّ المبارَك يعيشون لحظاتٍ تتجسَّد فيها معاني التقوى المفرِزة لأساس الأخوّة الوثيقة العُرى، التي تؤلِّف بين المسلمين على اختلاف ألوانهم وألسنَتِهم، فحينما يستبدل الحجّاج زِيَّهم المعتادَ بِزِيِّ الحجِّ الموحَّد فيصبحون حينها بمظهرٍ واحد، ويتوجّهون إلى ربٍّ واحدٍ بتلبيةٍ واحدة، ويُسقطون بهذه التّلبية كلَّ هُتافٍ وطنيّ وكلَّ شِعارٍ عِبِّيّ، يطوفون حولَ بيت واحدٍ، ويؤدّون نسكًا واحدًا. إنّ هذه الصورة الحيّةَ لتُعدُّ ثمرةً يانِعة من ثمراتِ التقوى التي توحي إلى الناس بأنّه ليست هناك دواعٍ معقولةٌ تجعلهم يعيشون متناكرين متنافرين، عن اليمين وعن الشّمال عِزين، وليس هناك دواعٍ إلى أن يتكبَّر المتكبِّرون ويتجبَّر المتجبِّرون، وليس هناك دواعٍ إلى التفاخُر بالأحساب والأنساب والألقاب، بل إنَّ تمكّنَ التقوى من نفس العبد المؤمنِ ليجعله يستحضر بداهةً أنّ الله عزّ وجلّ قد ردَّ أنسابَ الناس وأجناسَهم إلى أبوين اثنين، ليجعلَ من رَحِم حوّاء ملتقًى رحبًا تتشابك عنده الصِّلاتُ وتستوثِق العُرى، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ [الحجرات:13].
إنّه التعارف والتآلفُ والتعاون، وليس للّون ولا للِّسانِ ولا للَّقَب محلٌّ بينها، ولا للُّغة ولا للجِنس والوَطن من حسابٍ في ميزان الله، إنما هناك ميزانٌ واحد تتحدَّد به القِيَم ويُعرَف به فضلُ الناس: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13].
بالتقوى ـ عبادَ الله ـ يعلو المرءُ ويشرُف كما عَلا صهيبٌ وشرُف سلمان رضي الله تعالى عنهما، وبزوالها يتحقّق الذلُّ والهوان ويضَع الله تاركَها كما وضَع أبا لهبٍ بالشرك والكفر.
إنها التّقوى ـ عبادَ الله ـ التي جعلت محمّدًا وهو مِن سادَة قريش يزوِّج ابنةَ عمّته زينبَ بنت جحش الأسدية بزيد بن حارث رضي الله تعالى عنه وقد كان مولى للنبيّ [3] ، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه لبعض أصحابه: ((يا بني بَياضة، أنكِحوا أبا هندٍ وأنكِحوا إليه)) وقد كان حجّامًا رضي الله عنه. رواه أبو داود والحاكم [4].
يَـ?بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُو?رِى سَوْءاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ?لتَّقْوَى? ذ?لِكَ خَيْرٌ ذ?لِكَ مِنْ آيَـ?تِ ?للَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:26].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمنَ الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطانِ، وأستغفر الله إنه كان غفّارًا.
[1] أخرجه البخاري في الحج (1597، 1610)، ومسلم في الحج (1270).
[2] أخرجه البخاري في الحج (1622)، ومسلم في الحج (1347) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمّره عليها رسول الله قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
[3] أخرجه عبد الرزاق (6/153)، وسعيد بن منصور (1/161)، والدارقطني (3/299)، والبيهقي (7/137) عن الشعبي مرسلا، قال البيهقي: "هذا منقطع".
[4] سنن أبي داود: كتاب النكاح (2102) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الدارقطني (3/300)، والبيهقي في الكبرى (7/136)، وصححه ابن حبان (4067)، والحاكم (2693)، وحسن إسناده ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/150)، وابن حجر في التلخيص الحبير (3/164)، والألباني في السلسلة الصحيحة (2446).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده.
أمّا بعد: فيّا أيّها الناس، لنا وقفة خامسةٌ مع آيات الحجّ في كتاب الله تعالى، يذكّر الله من خلالها المسلمين بنعمةِ الإسلام والهدايةِ التي منَّ الله بها عليهم؛ حيث أنقَذهم من عبوديّة غير الله إلى عبوديّته وحدَه، ومن جَور الأديان إلى عدلِ الإسلام، ومن ضِيق الدنيا إلى سَعةِ الآخرة.
إنّه جلّ وعلا يذكِّرهم بذلك وهُم في غمَرات المناسكِ يجولون ولرحمَة ربِّهم يرجون: فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَـ?تٍ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ عِندَ ?لْمَشْعَرِ ?لْحَرَامِ وَ?ذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُمْ مّن قَبْلِهِ لَمِنَ ?لضَّالّينَ [البقرة:196]، وقال أيضًا: لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ كَذ?لِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ ?لْمُحْسِنِينَ [الحج:37].
إنها نعمةُ الهداية للدين عبادَ الله، إنه الخروجُ من الظلماتِ إلى النور ومن الموتِ إلى الحياة، أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـ?هُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ?لنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ?لظُّلُمَـ?تِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَـ?فِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:122].
إنّ استقرارَ الفرد والمجتمعاتِ لا يمكن أن يتحقَّق إلا بالالتزام بالدين والتمسُّك بالإسلام تمسُّكَ الغريق بطَوق النجاة. وإنّ موسمَ الحج المبارَك ليشدُّ الناسَ إلى الدين ويذكِّرهم بحقّ الله. إنه يرفَع في النفوس السّويّةِ درجةَ الاستعداد لتغيير ما في النفسِ ليُغيِّر الله ما حلّ بهم، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
إنّ اللهَ يذكِّرهم في آياتِ الحجّ بضرورة هذا الدّين لهم، وأنّ كلَّ أمّة تهمل أمرَ دينها وتعطِّل شرعَ ربها أو تستخفّ به أو تأخذ به على استحياءٍ أو على شَرَقٍ فإنما هي تهمل أعظمَ طاقاتها وأُسَّ العزّ فيها، وتعطِّل أسبابَ فلاحها في الدنيا والآخرة، وكلّ أمّةٍ يُفقَد التديُّن في مجتمعِها أو تعلو راياتُ التراجُع بين صفوفها فإنها تضطرِب لا محالة، ويموج بعضُها في بعض، ويقلِب الله عزَّها ذُلاًّ وأمنَها خوفًا، فإن تولّت يستبدِل الله أقوامًا غيرَها ثم لا يكونوا أمثالها.
والمجتمعُ الذي لا يشعُر بحاجتِه للالتزام بالدّين يُعدُّ مجتمعًا عديمَ الإيمان بعيدًا من الرحمن لأنّ النبيَّ يقول: ((ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد بهنّ حلاوة الإيمان؛ من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبُّه إلا لله، وأن يكرهَ أن يعودَ في الكفر بعد أن أنقذَه الله منه كما يكرَه أن يقذَف في النار)) رواه البخاري ومسلم [1].
إنه لا أهونَ على الله من أمّةٍ لامسَ التدينُ شغافَها وبلغ مسامعَ بنيها وأبصارَهم، ثمّ هي تتناقص وتتخاذل وتقع في الحور بعد الكَور والضعفِ بعد القوة. ألا إنّ هدايةَ الله لدينِه لا ينالها كلُّ أحد، بل هي مِنّة من الله ورحمةٌ ينبغي لمن أعطِيَها أن يعضَّ عليها بالنواجذ أفرادًا ومجتمعات، وأن لا يكونَ لحظوظ النفس ودعاوى المغرضين سبيلٌ في إضعاف مقوِّمات الدّين في النفوس أو رجع الصّدَى لأصواتِ الناعقين بالتّراجع عن الدين بدعاوَى التحرُّر أو الإصلاح أو غير ذلك من الأساليبِ المقَنَّعة، فإنَّ الصبغةَ الحقيقية هي صبغةُ الله، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَـ?بِدونَ [البقرة:138]. وأمّا الحاقدون والمغرِضون ولصوصُ الحروف الذين كرهوا ما نزّل الله فهم آفاتُ الفتَن وخَرق السفينةِ الماخِرة، وَلَوْ عَلِمَ ?للَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ [الأنفال:23]، وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ?لأنْهَـ?رُ وَقَالُواْ ?لْحَمْدُ لِلَّهِ ?لَّذِى هَدَانَا لِهَـ?ذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا ?للَّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بِ?لْحَقّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ ?لْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:42، 43].
هذا، وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشريّة، محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب صاحبِ الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكتِه المسبِّحةِ بقدسه وأيَّه بكم أيّها المؤمنون، فقال سبحانه وتعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (16، 21)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (43) عن أنس رضي الله عنه.
(1/2855)
رِحلة الحجّ عبر القرآن الكريم
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الحج والعمرة, القرآن والتفسير
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
24/11/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقصد تحقيق العبودية لله تعالى. 2- مدرسة الحج. 3- استجابة الله لدعاء إبراهيم عليه السلام. 4- مشاهد الحج. 5- الحج فرصة للتائبين. 6- شروط القبول. 7- فضل التقوى وحقيقتها. 8- عالمية الإسلام. 9- مظهر الأخوة الإيمانية في الحج. 10- منافع الحج. 11- الترويض على الرفق والتراحم. 12- من دروس هاجر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
شرع الله العباداتِ لحِكَمٍ عظيمة ومصالحَ عديدة، أجلُّها تحقيقُ عبودية الله سبحانه والخضوع له فيما أمر ونهى، ومنها تزكيةُ النفس وترويضها على الفضائل.
الحجُّ في حياةِ المسلمين مدرسةٌ عظيمةُ العطاء واسعةُ الأثر بليغةُ العبرة، موسمٌ تسمو فيه الأرواح وتشرِق النفوس. الحجّ ملتقًى كبيرٌ يفِد إليه الحجّاجُ من أنحاء المعمورة إلى الأرض المقدّسة، ألوانٌ مختلفة وأجناسٌ متعدِّدة وألسُنٌ متباينة، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((انظروا إلى عبادي، أتَوني شُعثًا غُبرًا)) أخرجه أحمد [1].
يحكي القرآنُ دعاءَ إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ?لْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ فَ?جْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ?لنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَ?رْزُقْهُمْ مّنَ ?لثَّمَر?تِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]. ويستجيبُ الله دعاءَ خليله، وتمضي الأفئدةُ تهوي إلى هذا المكان لتعمِّره، مُلبِّين مكبّرين خاضعين متذلِّلين، جموعٌ لا تُعَدُّ ولا تُحصى، تطوف وتَسعى، ويستمرّ الطوافُ لا ينقطع مهما بلغ حرُّ النهار أو بردُ الليل، ويبقى البيت العتيقُ مفتوحًا ليلاً ونهارًا.
في الحجّ يشهَد الحاجّ مهبطَ الوحي، ويترسّم خطواتِ النبي ، يستروح الذكرياتِ والمعاني، ويرى التأريخ أمامه على أرضِ التاريخ، كلُّ حبَّةِ رملٍ في هذه البقاع تحمل تأريخًا مشرقًا وتنطق بحضارةٍ أضحى عطاؤها للبشرية متحقِّقا.
على المسلم التوبةُ النصوح وتجديدها عند الدخول في هذه المناسك، يعاهِد ربَّه على عبادته، يطيعه ولا يعصيه، يؤدّي الصلوات، يترك السيّئات، يبتعِد عن المحرّمات، فالحجّ ملاذ كلِّ المسلمين، العابدون يزدادون قربًا من مولاهم، والعصاةُ يستروِحون عَبَق الرحمات، في هذه الأجواءِ الإيمانية الآمنة يقرّون بذنوبهم، يلتمسون عفوَه ومغفرته ورحمتَه ورضوانه، قال الله تعالى: لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ [الحج:37].
وفي سياقِ آيات الحجِّ يقول تعالى: وَأَتِمُّواْ ?لْحَجَّ وَ?لْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، العملُ كلُّ العمل في هذه الدنيا يُراد به وجهُ الله، فمن شروط قَبول الأعمال تحقيقُ الإخلاص لله، أي: أن تقصد ـ أيّها الحاج ـ بعملك وجهَ الله، لا رياءَ ولا سمعة ولا مباهاة، أن تبتغيَ برحلتك المباركة وجهَ الله للفوز بنعيم الجنّة. إن كلَّ حركةٍ ومشهَدٍ ونفقةٍ تؤدِّيها في رحلة الحجّ تقرّبك إلى الله وتزيد في حسناتك، قال : ((الحُجَّاج والعُمّار وفدُ الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفرَ لهم)) أخرجه ابن ماجه [2]. ولذا كان رسول الله يسأل ربَّه الإخلاصَ قائلاً كما في حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا: ((اللهم حجّة لا رياءَ فيها ولا سُمعة)) أخرجه ابن ماجه [3].
كم للنية الخالصةِ في الحجّ من أثرٍ عظيم في زكاةِ النفس وفلاحها، تأمّل هذا الفضل العظيم في قوله : ((الحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) [4].
ومن صفاتِ هذا الحجّ أن يكونَ خالصًا لله، والإخلاصُ ليس بالأمر الهيّن، قال أحدُ السلف: "تخليص النيات على العُمّال أشدُّ عليهم من جميعِ الأعمال"، وقيل لأحدهم: أيّ شيء أشدّ على النفس؟ قال: "الإخلاص، إذ ليس لها فيه نصيب"، وقال بعضهم: "إخلاصُ ساعة نجاةُ الأبد".
فالإخلاصُ عزيز، ولا يتخلّص الإنسانُ من الشيطان إلا بالإخلاص، كما في قوله تعالى حكايةً عن إبليس: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ?لْمُخْلَصِينَ [ص:82، 83].
وفي سياق آيات الحجّ يقول الله تعالى: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? [البقرة:197]. خير ما يتزوّد به الحاجّ في الحجّ التقوى.
التقوى غايةُ الأمر وجِماع الخير، هي فعلُ الطاعات واجتناب المحرّمات، وليس السّفر من الدنيا بأهونَ من السفر في الدنيا، وهذا لا بدّ له من زادٍ فكذا، وإذا كان زادُ الدنيا يخلِّصُ من عذاب منقطعٍ موهوم فإنّ زادَ الآخرة يقي من عذابٍ أبديّ معلوم.
وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? تنبيهٌ للحاجّ لاستصحابِ التقوى في قلبه في كلّ خطوةٍ يخطوها، بل ويضاعِف تقواه في السرّ والعلَن، في الحِلّ والحرم، في نفسه ومع غيره، ومن التقوى كفُّ الأذى عن الناس بالقول أو الفعل، قال رسول الله : ((المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده)) أخرجه البخاري [5].
قال تعالى: ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32]. تعظيمُ أعمال الحجّ ومناسك الحجّ من تقوى القلوب، يكون ذلك بإجلالها بالقلبِ ومحبّتها وتكميل العبودية فيها، وفي الحديث أن رسول الله قال: ((لا تزال هذه الأمّة بخيرٍ ما عَظَّموا هذه الحرمةَ حقَّ تعظيمها ـ يعني الكعبة ـ ، فإذا ضيّعوا ذلك هلكوا)) أخرجه ابن ماجه [6].
وفي سياق آيات الحجّ يقول تعالى: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً [الحج:27]. إنّ هذا النداءَ يُبرِز عالميّة الإسلام، فهو يدعو الأنام كلَّهم إلى الإسلام ليحرِّرهم من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضِيق الدنيا إلى سَعَة الآخرة، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107].
الإسلامُ دينٌ عالمي، فقد جمع بين أبي بكر العربيّ وصهيبٍ الروميّ وبلال الحبشيّ وسلمان الفارسيّ وغيرهم من شتّى القبائل والبلدان، وقال : ((وكونوا عبادَ الله إخوانًا)) متفق عليه [7].
إن الناظرَ إلى شعائر الحجّ يجدها تدعو إلى محوِ فوارق اللون واللغةِ والجنس، تجلّى ذلك واضحًا في خطبة يوم عرفة بإعلان مبادئ وحقوقِ الإنسان. دينٌ عالميّ؛ لأنه من عند الله وفيه من الكمال والشمول ما لم يوجد في غيره.
حجّاجَ بيت الله، تصطفّ هذه الجموع المباركةُ في هذه البقاع الطاهرة من آفاق الدنيا كلِّها قائلةً: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، تجمعهم أخوّةٌ إيمانية صادقة ووحدة صافيةٌ ومساواة عادِلة، ذابت بينهم الفوارق العِرقية وتبدّدت كلُّ مظاهر الاعتزاز بالجنس أو اللون.
أما معيارُ المفاضلةِ والتكريم فقد قال سبحانه: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13]. فالتقوى هي النسَب، وهي التي ترفع صاحبَها وتُعلي قدرَه، لا فضلَ لعربي على عجميّ ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، وقال سيّد البشر : ((ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبيّة، وليس منا من مات على عصبيّةٍ)) أخرجه أبو داود [8].
وفي سياق آيات الحجّ يقول تعالى: لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ [الحج:28]. في الحجّ منافعُ دينيّة ودنيوية، فهو أعظم فرصةٍ لحلّ مشكلات المسلمين وجمع كلمتهم ولَمِّ شملهم وإحياء مبدأ التراحم والتكافُل والقضاء على الفُرقة والتمزُّق. هذه الوحدَة هي سرّ قوّة الأمّة ورقيِّها وسعادتها، وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103].
حذّرنا سبحانه من الفُرقة فقال: وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]. وتوعّد سبحانه دعاةَ الفرقة بالعذاب فقال سبحانه: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَ?خْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ?لْبَيّنَـ?تُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105].
لقد أدرك أعداءُ الإسلام أثَر وحدةِ المسلمين في القوّة والمنَعَة، فعملوا على إيقادِ نار العداوة والبغضاء بين المسلمين في كلّ عصرٍ وحين، وهذه مأساةُ المسلمين الكبرى في واقِعهم المعاصِر.
وفي الحجّ يتعلّم المسلمُ الرفقَ بإخوانه المسلمين، وكان رسول الله يقول في منصَرَفه من عرفةَ إلى مزدلفة: ((السكينة السكينة)) [9].
التراحم يُثمِر محبّةً وألفة ومودّة، والقَسوة تولِّد أحقادًا وكراهية، ومن الرفق أن يُعين أخاه ويفسح له الطريق، يحترمَه ويحبّه، لا يظلمه ولا يؤذيه، قال رسول الله : ((مثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطُفهم مثَل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالسّهر والحمّى)) أخرجه مسلم [10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (2/305) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط (8993)، وأبو نعيم في الحلية (3/305-306)، والبيهقي في الكبرى (5/58)، وصححه ابن خزيمة (2839)، وابن حبان (3852)، والحاكم (1708)، وصحح إسناده النووي في المجموع (7/358-359)، وهو في صحيح الترغيب والترهيب (8047). وأخرجه أيضا أحمد (2/224)، والطبراني في الصغير (575) وفي الأوسط (8218) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال المنذري في الترغيب (2/131): "إسناد أحمد لا بأس به"، وقال الهيثمي في المجمع (3/351-352): "رجال أحمد موثقون"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1153). وفي الباب عن غيرهما من الصحابة.
[2] سنن ابن ماجه: كتاب المناسك (2892) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط (6311)، والبيهقي في الكبرى (5/262) وقال: "صالح بن عبد الله منكر الحديث"، وضعف إسناده البوصيري في الزوائد (3/183)، وهو في ضعيف الترغيب (693).
[3] سنن ابن ماجه: كتاب المناسك (2890)، وهو أيضا عند الترمذي في الشمائل (335)، وابن أبي شيبة في المصنف (3/442)، وأبي نعيم في الحلية (6/308)، وأشار إلى ضعفه المنذري في الترغيب (2/116)، وضعف سنده الحافظ في الفتح (3/381)، ولكن له طرق تقويه، ولذا صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2617).
[4] أخرجه البخاري في الحج، باب: وجوب العمرة وفضلها (1773)، ومسلم في الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1349) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (10) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وهم عند مسلم في الإيمان (40) نحوه.
[6] سنن ابن ماجه: كتاب المناسك (3110) عن عياش بن أبي ربيعة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (4/347)، وابن الجعد في مسنده (2296)، وابن أبي شيبة في المصنف (3/268)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (689)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه (664).
[7] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6064، 6065، 6066، 6076)، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة (2559، 2563) عن أبي هريرة وعن أنس رضي الله عنهما.
[8] سنن أبي داود: كتاب الأدب (2151) عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، قال أبو داود في رواية ابن العبد ـ كما في تهذيب الكمال (15/65) ـ: "هذا مرسل، عبد الله بن أبي سليمان لم يسمع من جبير"، قال المناوي في الفيض (5/386): "وفيه محمد بن عبد الرحمن المكي أو البكي قطرب أبو حاتم: مجهول"، وضعفه الألباني في غاية المرام (304).
[9] أخرجه مسلم في الحج (1218) في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الطويل.
[10] صحيح مسلم: كتاب البر والصلة (2586) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، وهو في صحيح البخاري في كتاب الأدب (6011) نحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أمرنا بطاعته ونهانا عن معصيته، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل نعمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعد المتّقين جزيلَ فضله والخلودَ في جنّتِه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمّدًا عبده ورسوله، أنار للسالكين طريقَ سنّتِه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وجميع أمّته.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
وفي سياق آيات الحجّ يقول تعالى: إِنَّ ?لصَّفَا وَ?لْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ ?للَّهِ فَمَنْ حَجَّ ?لْبَيْتَ أَوِ ?عْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ ?للَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].
كانت هاجَر عليها السلام تسعى بين الصفا والمروة سبعَ مرّات بتصميم وثباتٍ وعدَم يأس، اتخذتِ الأسبابَ، وبذلت جُهدًا مضنيًا مع توكُّلٍ على الله، فالفرج بيده سبحانه وحدَه، مالكِ الملك مقدِّر الأقدار، الجوارحُ تعملُ بالأسباب والقلبُ يناجي ربَّ الأربابِ، هي بهذا ترسم الخُطى في كلِّ عصرٍ ولكلّ جيل لشحذِ الهمّة وبذل الجهد لطرق أبواب الخير مرّةً وثانية وثالثة، بتصميم لا يتردّد وعزمٍ لا يلين مع صدقٍ في التوكُّل على الله سبحانه.
وفي سياق آيات الحجّ يقول سبحانه: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـ?سِكَكُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِنْ خَلَـ?قٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ?لآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ وَ?للَّهُ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ [البقرة:200-202].
إن هناك فريقين: فريقًا همُّه الدنيا، يجمع حُطامَها بحرصٍ وتعلُق، يذكرها حتى حين يتوجّه إلى الله بالدعاء، فقد امتلأت نفسُه بحبِّها، وأحاطت به من كلّ جانب، هؤلاء قد ينالون نصيبَهم في الدنيا ولا نصيبَ لهم في الآخرة، وفريقًا أفسحُ مجالاً وأوسعُ أُفُقًا وأكبَر نَفسًا؛ لأن همَّه الآخرة ورضوانُ الله، يريد الحسنةَ في الدنيا، ولكنه لا ينسى نصيبَه في الآخرة، هؤلاء لهم نصيبٌ لا [يبطئ] عليهم، فالله سريعُ الحساب، قال تعالى: وَمَنْ أَرَادَ ?لآخِرَةَ وَسَعَى? لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا [الإسراء:19].
ألا وصلّوا ـ عبادَ الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/2856)
عظات الموت
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
24/11/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النبي على فراش الموت. 2- من فضائل ابن مسعود &. 3- عظة من الشافعي في مرض وفاته. 4- التدخل الأمريكي السافر في شئون الدول الإسلامية. 5- جدار الفصل العنصري في فلسطين الجريحة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، إذا بكت العيون كان ذلك دليلاً على خوفها من الله، فإذا جمدت فاعلموا أن جمودها من قسوة القلب، وقسوة القلب من كثرة الذنوب، وكثرة الذنوب من نسيان الموت، ونسيان الموت من طول الأمل، وطول الأمل من شدة الحرص، وشدة الحرص من حب الدنيا، وحب الدنيا رأس كل خطيئة.
أيها المؤمنون، تعالوا ننتقل وإياكم إلى باب الرسول ، إلى حبيب الله، إلى حبيب الرحمن، عليه من الله الصلاة والسلام، وبابه مفتوح دائمًا، ليس عليه شرطي ولا حاجب، فما كان عليه الصلاة والسلام ملكًا من الملوك، ولا زعيمًا من الجبابرة، ولا رئيسًا لجامعة، إنما كان يرقع ثوبه، ويخصِف نعله، ويحلب شاته.
لم يكن يمنع أحدًا من الوصول إليه، بل كان يجلس مع المساكين والفقراء تطبيقا لمنهج الله تبارك وتعالى: وَ?صْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِ?لْغَدَاةِ وَ?لْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
عباد الله، ذهب وفد من أصحاب الرسول إلى بيته، وهو على فراش الموت، فلما دخلوا عليه قال: ((مرحبًا بكم، حياكم الله، نفعكم الله، سددكم الله، أوصيكم بتقوى الله وعدم الكبر على عباده، فإن الله تبارك وتعالى يقول: فَبِئْسَ مَثْوَى ?لْمُتَكَبّرِينَ [الزمر:72]، ويقول كذلك: تِلْكَ ?لدَّارُ ?لآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى ?لأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83])).
لنا وقفة مع الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ، هذا الصحابي الذي قال ذات يوم: (لقد حفظت سبعين سورة من فم النبي )، وقال كذلك: (صافحت النبي ووضعت يدي في يده، فوجدت فيها جراحًا من العمل على لقمة العيش).
لم يكن هذا الصحابي من ذوي الأيدي الناعمة، ولا من أصحاب المكاتب الفاخرة، ولا تحت قدميه سجادة تغوص فيها الأقدام، ولم يكن بجانبه سكرتيرة فارعة العود رشيقة القوام، إنما كان هذا الصحابي الجليل يسعى على لقمة عيشه بكدِّ يمينه وعرق جبينه، كان يسعى في مصالح المسلمين، وكان معلمًا لهم في أحكام الدين، ولم يأكل أموال المساكين.
ولما وضع النبي يده في يده قال: ((إن هذه اليد لا تمسها النار أبدًا)) ، كان رضي الله عنه رجلاً، والرجال قليل، كان قصير القامة، رقيق الساقين، صعد ذات يوم شجرة، فلما رأى الصحابة رضي الله عنهم دقة ساقيه تعجبوا، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أتعجبون من ساقيه؟ والذي بعثني بالحق، لساقاه أثقل في الميزان من جبل أُحُد يوم القيامة)).
الرجال لا يقاسون بطول ولا بعرض، ولا بهيئة ولا بحسن ثياب، إنما يقاسون بقلوبهم أمام الله تبارك وتعالى، يقاسون بتقواهم: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13]، يقاسون بأعمالهم، الأعمال الصالحة التي تصدر عن الإنسان، وليس الأقوال القبيحة التي يندى لها الجبين.
اسمعوا ماذا قال ابن مسعود للرسول وهو على فراش الموت: متى الأجل يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((لقد دنا الأجل، والرفيق الأعلى وسدرة المنتهى)) ، فمن يغسلك يا رسول الله؟ قال: ((رجال من أهل بيتي مع ملائكة كثيرين يرونكم من حيث لا ترونهم)) ، فمن يصلي عليك يا رسول الله؟ قال: ((إذا غسلتموني وكفنتموني، فدعوني على شفير القبر ساعة، فإن أول من يصلي عليّ خليلي، ثم يصلي عليّ إسرافيل، ثم يصلي عليّ ملك الموت)).
وجاء ملك الموت، ودخل على النبي المصطفى ، وكان يمسح وجهه بماء بارد، وهو يتوجه إلى السماء بقوله: ((اللهم هون عليّ سكرات الموت)) ، النبي كان يقول: ((اللهم هون عليّ سكرات الموت)) ، وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِى ?لصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ ?لْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق:19-21].
إذا كان هذا حال المصطفى ، فماذا نصنع نحن يا عباد الله؟! ماذا نصنع نحن في هذه الأيام، وقد ضيعنا البلاد والعباد؟! ماذا نصنع وقد ضيعنا الأمانة؟! ماذا نصنع وقد ارتكبنا المحرمات التي حرمها الله تبارك وتعالى؟!
السيدة فاطمة الزهراء كانت تبكي وتقول: واكرباه على كربك يا أبتاه. فيقول لها : ((يا فاطمة، لا كرب على أبيك بعد اليوم)) ، وتصعد الروح إلى خالقها، ويوسد النبي تحت أطباق التراب، وتقول فاطمة: يا بلال، كيف طوعت لكم أنفسكم أن تضعوا رسول الله في التراب؟! فيقول لها: يا ريحانة رسول الله، والذي بعث أباكِ بالحق، لو استطعنا أن نرفعه إلى عنان السماء لفعلنا، ولكن كيف وقد أنزل الله تبارك وتعالى: إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ [الزمر:30]، مِنْهَا خَلَقْنَـ?كُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى? [طه:55].
عباد الله، دخل الإمام المزني على الإمام الشافعي رحمه الله في مرضه الذي مات فيه فقال له: كيف أصبحت اليوم يا إمام؟ فقال: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقًا، ولسوء عملي ملاقيًا، ولكأس المنية شاربًا، وعلى الله واردًا، ولا أدري، روحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها، ثم بكى وقال:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سُلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلتَ ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو مِنَّة وتكرما
فلولاك لم يصمد لإبليس عابد فكيف وقد أغوى صفيك آدما
عسى من له الإحسان يغفر زلتي ويستر أوزاري وما قد تقدما
اللهم إنا نسألك أن توقظنا من غفلتنا، وأن تتجاوز عن سيئاتنا بعفوك وغفرانك، اللهم ألحقنا يا ربنا بالذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في دار رضوانك، وارزقنا كما رزقتهم من لذيذ مناجاتك، واغفر لنا ولجميع المسلمين يا رب العالمين.
عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى، وادعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله المتوحد بالألوهية والكمال والعظمة والسلطان، مميت الأحياء، ومحيي الأموات، المعروف بالرحمة والإحسان، الأزلي الأبدي الحي الباقي، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى? وَجْهُ رَبّكَ ذُو ?لْجَلْـ?لِ وَ?لإكْرَامِ [الرحمن:26، 27]. ونشهد أن لا إله إلا الله العزيز الغفور، القائل: وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [الحديد:20]. ونشهد أن نبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله، أمر بتذكر الموت والفناء، والاستعداد ليوم البعث والجزاء، صلى الله عليه وعلى آله الأتقياء، وأصحابه النجباء، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، في غمرة الأحداث التي نشهدها اليوم تقفز من جديد إلى الساحة الأفكار الأمريكية الداعية إلى تغيير النظم الاجتماعية في العديد من الدول العربية والإسلامية، سيما في السعودية ومصر وسوريا، هذا ما أكدته وكالات الأنباء عن مصادر في وزارة الخارجية الأمريكية، فقد دعا أحد رجالات الحكم في الإدارة الأمريكية إلى فرض عقوبات على السعودية باعتبارها مركزًا للإرهاب، وقال: إن السعودية لا تستطيع القضاء على ما أسماها الجماعات الإرهابية المرتبطة بتنظيم القاعدة.
واتهم هذا المسئول نظام الحكم في مصر بالدكتاتورية، مما حدا بالمسئولين المصريين إلى التخفيف من حدة الانتقاد الأمريكي للسياسة التي تنتهجها الحكومة الأمريكية وقال: إن تصريحات المسئول الأمريكي لن تؤثر على العلاقات الوطيدة بين البلدين.
ودعا المسئول الأمريكي سوريا إلى محاربة الإرهاب وعدم دعم الجماعات الفلسطينية و(حزب الله) إذا أرادت الحكومة السورية فتح حوار جاد مع أمريكا لاستئناف مفاوضات ما يسمى السلام المزعوم.
أيها المسلمون، تأتي هذه التصريحات في وقت تشهد فيه دولة قطر مؤتمرًا يتناول العلاقات الأمريكية الإسلامية، هذا المؤتمر الذي يهدف أساسًا إلى تسويق الأفكار الأمريكية الرامية إلى محاربة الإرهاب وتلميع الوجه الأمريكي القبيح في نظر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، والذين أصبحوا لا يثقون بالوعود الكاذبة وهم يرون بشاعة الممارسات الأمريكية ضد الشعب العراقي المسلم التي أصبحت تمعن في عدوانها وتفرط في استخدام قوتها، هذه الإدارة التي وعدت الشعب العراقي على حد زعمها بالحرية والديمقراطية والحياة السعيدة والأمن والاستقرار، فإذا هي تسومهم سوء العذاب، الأمر الذي دعا أحد أعضاء مجلس الحكم العراقي والذي جاءت به أمريكا لسدة الحكم أن طالب الأمريكيين بالتوقف عن إذلال الشعب العراقي.
أمريكا تريد أن تظهر في مؤتمر الدوحة بمظهر الوديع الذي يواجه قطيعًا من الذئاب، وترى أن على المؤتمرين أن يستمعوا إلى نصائحها، فهي لا تحارب الإسلام كما تدعي، ولكنها تحارب الإرهاب، ولكن الإرهاب من وجهة نظرها الرسمية هو الإسلام، فهل تنطلي هذه الخداعات على المؤتمرين هناك؟!
إن أمريكا على يقين من أن المؤتمرين سيجدون لها المبررات في سياساتها العدوانية ضد الشعوب الإسلامية، فهي سيدة الموقف وصاحبة القرار والرأي والكلمة المسموعة، وعالَمنا لم يعد له قيمة أو رأي أو وزن، الجميع يسعى لإرضائها من أجل البقاء في سدة الحكم، ها هو السودان قد وافق على مقترحاتها بمنح الجنوب امتيازات تصل إلى حد الانفصال، وغرب السودان بدأ يتطلع إلى الاستقلال ويحذو حذو الجنوب، وأما ليبيا التي أنفقت المليارات لتسليح شعبها فإذا بها تتخلى عن برنامج التسليح، خشية أن يصيبها ما أصاب العراق الممزق، وأما إيران فقد وافقت على وقف برامجها النووية، وأما عن سائر الدول العربية والإسلامية فحدث ولا حرج.
وفي غمرة هذه الأحداث والتطورات والتوقعات والمخاوف والترقب من المجهول، تمر عذابات شعبنا الفلسطيني المسلم مرور الكرام، وكأن المشاهد التي تعرضها الفضائيات عن الاجتياحات والاغتيالات والتدمير للمنشآت والمباني الفلسطينية ضد شعبنا المسلم في مدينة نابلس وفي جنين وفي رفح وفي الخليل وفي طولكرم، كأنها مسلسل تلفزيوني، ينظر إليه الناس في كل مكان، ولا يستطيع أحد أن يحرك ساكنًا.
إن استمرار العدوان الإسرائيلي يلقى الدعم والتأييد الأمريكي المطلق، فأمريكا وعلى لسان وزير خارجيتها هددت السلطة الفلسطينية بأن أي إجراء يعرقل ما أسماه خارطة الطريق أو إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل سيدفع الفلسطينيون مقابله الثمن غاليًا، وفي نفس الوقت يبرر استمرار بناء الجدار العنصري الذي مزق الأرض الفلسطينية، وحولها إلى كنتونات صغيرة محاصرة، وقطع أوصال مدينة القدس وضواحيها، وقيد حركات الناس وتنقلاتهم، ومنعهم من الوصول إلى أماكن عباداتهم، وبخاصة المسجد الأقصى المبارك، ومنعهم من الحصول على لقمة عيشهم وأدى لعدم تمكنهم من الوصول إلى مدارسهم وجامعاتهم ومستشفياتهم، وسائر المراكز الإنسانية الأخرى.
هذا الجدار الذي يهدف إلى تهويد مدينتنا المقدسة، وإسرائيل ترسم لوحدها خارطة الطريق تحقق طموحاتها وتطلعاتها بالاستيلاء على المزيد من الأرض الفلسطينية وإقامة المستوطنات في كل مكان لاستيعاب ثلاثين ألف مهاجر أثيوبي جديد سيصلون قريبًا.
أيها المسلمون، طالما حذرنا من المخططات الأمريكية قبل غزو العراق، ولم تجد نداءاتنا آذانًا صاغية، فسقطت بغداد، ولا قدر الله، إن بقيت الأوضاع كما هي فسوف تسقط عواصم أخرى، طالما ظلت الأمة بعيدة عن تطبيق منهج الله تبارك وتعالى، فعلى الأمة قادة وحكامًا وشعوبًا أن يخجلوا من أنفسهم، فإذا أرادت أمتنا النصر فلتعمل لأجله، فلتعمل على تطبيق منهج الله تبارك وتعالى دستورًا ونظام حياة، ولتعمل على إقامة دولة إسلامية، هي الكفيلة فقط بالوقوف أمام أعداء الله تبارك وتعالى، وأن تصدهم عن أرض الإسلام وأعراض المسلمين.
عباد الله، كلنا يعلم أن الهدف من هذا الجدار هو الاستيلاء على سائر الأرض الفلسطينية، لأننا نعلم جميعًا أنه لن يحقق الأمن لإسرائيل، لن يحقق لهم الأمان، بل سيزيد الأمور تعقيدًا.
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فأنت علينا قادر، والطف بنا يا مولانا فيما جرت فيه المقادير، إنك على كل شيء قدير.
(1/2857)
حفظ الأيمان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
آفات اللسان, الأيمان والنذور
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
24/11/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعظيم المؤمن لليمين. 2- حفظ اليمين بالإقلال منها. 3- حفظ اليمين بتكفيرها. 4- حفظ اليمين بالصدق فيها. 5- ذم الإكثار من الحلف. 6- الكذب في الأيمان من خصال الكافرين. 7- التحذير من التهاون باليمين في الخصومة. 8- عواقب اليمين الفاجرة. 9- النهي عن الحلف بغير الله تعالى. 10- أقسام الأيمان. 11- كفارة اليمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في قلب المؤمن تعظيمٌ لله، في قلب المؤمن احترامٌ لأسماء الله وصفاته، في قلب المؤمن كمالُ محبةٍ لله، لذا لا ترى المؤمنَ يقدم على يمينٍ بالله إلا وهو على صدقٍ وبرّ، فإنّ تعظيمَه لله يجعله يتوقّف عن اليمين إلا إذا كانت على بِرٍّ وصدق، فلا يحلف بالله كذِبًا وزورًا مهما تكن الأحوال، فتعظيمه لله يمنعه من ذلك، ولا يحلف إلا بالله، فلا يحلف بغير الله؛ لأنه يقدر الله حقَّ قدره، فلا يقدم على حلفٍ إلا بالله.
أيّها المسلم، إنّ الله يقول في كتابه العزيز: إِنَّ ?لَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ?للَّهِ وَأَيْمَـ?نِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلَـ?قَ لَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ?للَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77].
هذه الآيات في معرض الذمّ لليهود الذين أنكروا رسالةَ محمّد مع علمهم بحقيقتها وأنها حقٌّ لا إشكال فيه، فأنكروا نبوّةَ محمّد ، وربّما حلفوا بالله على ما يقولون والله يعلم إنهم لكاذبون، فتُوُعِّدوا بهذا الوعيد الشديد أنّ الله لا يكلِّمهم يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم.
أيّها المسلم، فعهدُ الله والأيمان أمرُها عظيم، والتهاونُ بها خطرُه جسيم، ليست الأيمان مجرّدَ كلام تقوله، ولكنها عهدٌ وميثاق، عهدٌ يجب أن تقفَ عنده، وميثاق يجب أن توفيَ به، فعندما تريد الحلِف فقِف مع نفسك قليلاً؛ على أيّ شيء تريد أن تحلف؟ هل هذا أمر ذو شأنٍ تحلف عليه أو أمر لا يستحقّ ذلك حتى ولو كنتَ فيه صادقًا؟ ولذا في حقّ المسلم على المسلم أن تبرَّ بقسمِ أخيك، فقال فيما يأمر به: ((وإبرار المقسِم)) [1]. فليس كلّ من تحلِف عليه يقدِّر يمينَك ويعظِّمها، بل بعضهم تحلِف عليه في أمر لا يبالي بيمينك ولا يقيم لها وزنًا.
أيها المسلم، إنّ الله يقول لنا في كتابه العزيز: وَ?حْفَظُواْ أَيْمَـ?نَكُمْ [المائدة:89]. حفظُ هذه اليمين يكون بأمور.
فأولاً: الإقلال من اليمين قدرَ ما تستطيع، فإنّ المكثرَ من الأيمان يوشك أن يقعَ في الكذب من حيث لا يشعر، فإذا خفّت اليمين على لسانِه لا يبالي على أيّ شيء أطلق اليمين.
ومِن المحافظة على اليمين إخراجُ الكفارة إذا كان الحلف على أمرٍ مستقبل، فتخرج الكفارة عوضًا عن تلك اليمين.
ومِن المحافظة على اليمين أن يكونَ حلفُك بالله حقًّا، ولا تحلف بغير الله كما سيُبيَّن.
أيّها المسلم، إنّ اليمين أحد رُكنَي الدّعوى، يقول : ((لو يُعطَى الناسُ بدعواهم لادَّعى رجالٌ دماءَ قوم وأموالهم، ولكنّ البينة على المدّعي واليمين على المنكر)) [2].
أيّها المسلم، يأمرك نبيُّك بأمرين، أحد الأمرين أن تصدُقَ في يمينك، فلا تحلفُ بالله إلا وأنتَ صادق، وثانيًا: أن ترضَى بيمين المؤمن إذا حلَف بالله، يقول : ((من كان حالفًا فليصدُق، ومن حُلِف له بالله فليرضَ، ومن لم يرضَ فليس منّا)) [3]. من حلف بالله فليصدُق في حلفه، وإذا حلَف لك غيرك يمينًا بالله فاقبل يمينه وكِلْه إلى إيمانه، فإن يكن كاذبًا في يمينه فسيعاقبه الله على تلك اليمين الكاذبة الفاجرة.
أيّها المسلم، من التساهل بالأيمان الإكثارُ منها لأجل الرّبح في المكاسب، فيحلف بالله كاذبًا لأجل أن يروّجَ بضاعته وينفِّق سلعتَه، ولا يدري المسكين أنه قد تحمَّل إثمًا عظيمًا، يقول : ((الحلف منفقَة للسِّلعة، ممحَقَةٌ للكسب)) [4] ، بمعنى أن الناس يصدّقونك في يمينك عندما تقول: إن هذه السلعة قيمتها كذا، دخولُها عليّ بمبلغ كذا، فائدتي كذا، فيأخذك آخر بقولك ويصدّقك، وتحلف بالله قائلاً: والله العظيم إني اشتريتُها بألف وربحي فيها خمسون، وقد يكون شراؤك لها بأقلّ من ذلك، لكن اتَّخذتَ اليمين لتخدعَ المشتري، فيظنّ صدقَك وأن قيمةَ السلعة هكذا، والله يعلم أنك كاذب في يمينك. فاتَّق الله في يمينك، ولذا جاء في الحديث الآخر، يروى مرفوعًا أنه قال: ((ثلاثةٌ لا يكلّمهم الله يومَ القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم: أُشَيمِطٌ زانٍ، وعائلٌ مستكبر، ورجل جعل الله بضاعتَه؛ لا يبيع إلا بيمينه، ولا يشتري إلا بيمينه)) [5].
فانظر إلى هذه الخصال العظيمة الذميمة؛ ((أشيمطٌ زان)) ذو شيبة لكن مرض قلبِه وحبّه للزنا حتى مع ضعف قدرتِه وقوّته، لكن الأمرَ لمرضٍ في قلبه مرضِ الشهوات، ما منعه كبره ولا استحيى من الله. ثانيًا: ((عائلٌ مستكبر)) فقير ولكن الكبرَ يملأ قلبَه والعياذ بالله. وثالثًا: ((جعل الله بضاعتَه؛ لا يبيع إلا بيمينه، ولا يشتري إلا بيمينه)) ، جعل اليمينَ بالله مروّجًا لبضاعته، فإن اشترى منك حلف، وإن باع عليك حلف، فهو يحلف على البيع، يحلف لك بائعًا، ويحلف لك مشتريًا؛ لأنه جعل الله بضاعتَه، جعل اليمينَ بالله مروِّجًا لبضاعته إن كان بائعًا، أو محاولاً استمالةَ البائع إن كان مشتريًا. فهو دائمًا يحلف بالله، على أوساخ الدنيا يحلف الأيمان ويكذبها حتى يصدّقه الناس فيما يقول. وقرَن الحلفَ بالله في هذه المسألة بالزنا لما يدلّ على عظيم شأن الحلف الكاذب، وأن الحالفَ بالله كذبًا قد ارتكبَ كبيرة من كبائر الذنوب.
أيها المسلم، الحلف كذبًا من أخلاق الكافرين والمنافقين، يقول الله جل وعلا: وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى? عَلَيْهِ ءايَـ?تُنَا قَالَ أَسَـ?طِيرُ ?لأَوَّلِينَ [القلم:10-15]. فنهى الله عن طاعة كلِّ حلاّف مهين.
والمنافقون قال الله عنهم في كتابه العزيز: ?تَّخَذْواْ أَيْمَـ?نَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ [المجادلة:16]، وقال: إِذَا جَاءكَ ?لْمُنَـ?فِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ?للَّهِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ?للَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لَكَـ?ذِبُونَ [المنافقون:1].
إذًا فالمؤمن بريء من خصال الكفّار والمنافقين، صادقٌ في يمينه في بيعه وشرائه، فيما يخبر به، فحتى في غير البيع والشراء فلا يحلف بالله إلا على برٍّ وصدق.
أيّها المسلم، ويتساهل البعضُ في الأيمان في الخصومة، عندما يكون بينه وبين آخر خصومةٌ ونزاع، وتتوجَّه اليمين على المدَّعى عليه، فإن يكن ضعيفَ الإيمان قليلَ الخوف من الله حَلَف بالله كذِبًا وزورًا ليكتسبَ القضيةَ ويظنّ أنه بذلك من الفائزين، والله يعلم إنّه من الخاسرين.
فالحلف بالله في الخصومة كذبًا وزورًا كبيرة من كبائر الذنوب، يقول : ((من اقتطع مالَ امرئ مسلم بيمين هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان)) [6] ، ويقول في حكمه بين متنازعين ترافعا إليه، أحدهما من كِلدة والثاني من حضرموت، اختصما إلى رسول الله في أرض، قال الحضرمي: يا رسول الله، هي أرض ورثتُها من أبي انتزعها مني هذا، فسأل النبي من بيده الأرض فقال: أرضي أزرعُها وهي تحت يدي، فطلب النبي من المدّعي البيّنة على صحّة دعواه، فقال: لا بيّنةَ عندي، فطلب من الآخر مَن الأرضُ تحت يده أن يحلف، فقال الحضرمي: يا رسولَ الله، إنه فاجرٌ لا يبالي ولا يتورّع عن شيء، فقال له النبي : ((ليس لك إلا يمينُه)) ، فقام ليحلفَ فلمّا أدبر قال النبي : ((لئن حلف على اقتطاع مال امرئٍ مسلم ليلقينَّ الله وهو عنه معرضٌ يوم القيامة)) [7].
فيا أخي المسلم، الدنيا بأسرها لا تعوّض عن ذلك، إنّ اليمين الكاذبةَ الفاجرة سُمِّيت بالغموس تغمِس صاحبها في النار وتوقِعه في الإثم، ولذا لا كفّارةَ لها لعظيم خطرها وكِبر جُرمها، ولمَّا عدّ النبي الكبائر قال: ((الشرك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس)) [8].
أيّها المسلم، لا تظُنَّ اليمينَ بالله كذبًا تمرُّ عبثًا، إنما أنت ستعاقَب بها في الدنيا، وتعاقب بها في الآخرة، وقد تمهَل في الدنيا فيضاعَف لك العقوبة يومَ القيامة، وكم من يمين فاجرةٍ عُجِّل لأهلها العقوبة في الدنيا؛ لأن أيمانهم ظلمٌ وكذِب، تمحَق بركاتِ أموالهم، وتمحَق أعمارَهم، فيعيشون في شقاءٍ وعناء.
فاتّق الله في يمينك، اتّق الله في يمينك ولا تحلف إلا وأنتَ على بِرٍّ وصدق، واحذر الكذب، ولا يستغوينّك الشيطان، فتغترَّ بالدنيا وتخشى من فشلِك في الدعوى وانهزامك أمام خصمِك، فتحلف بالله كذِبًا وبهتانًا. حاسب نفسَك في هذه الدنيا، فأيّ مال أخذتَه بيمين فاجرة فإنه مالُ سحتٍ حرامٌ عليك، يقول : ((من اقتطع مالَ امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنة)) ، قال رجل: يا رسول الله، ولو يسيرًا؟! قال: ((ولو قضيبًا من أراك)) [9] ، يعني لو حلفتَ على قليلٍ أو كثير أنتَ فاجرٌ في يمينك فإنّ الله يوجب لك النار ويحرّم عليك الجنّة، وما أعظمَ ذلك من وعيدٍ لمن تدبّر وتعقّل وراقب الله في أقواله وأعماله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] الأمر بإبرار المقسم أخرجه البخاري في المظالم، باب: نصر المظلوم (2445)، ومسلم في اللباس والزينة, باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة (2066) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
[2] أخرجه البيهقي في السنن (10/ 252) بهذا اللفظ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وحسنه النووي في الأربعين: الحديث الثالث والثلاثون، والحافظ ابن حجر في الفتح (5/ 283)، وأصله في البخاري في كتاب التفسير، باب قول الله: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم (4552)، ومسلم في الأقضية، باب: اليمين على المدعى عليه (1711).
[3] أخرجه ابن ماجه في الكفارات (2101)، والبيهقي في الكبرى (10/181) عن ابن عمر رضي الله عنهما نحوه، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (11/536)، وهو في صحيح الترغيب (2951).
[4] أخرجه البخاري في البيوع (2087)، ومسلم في المساقاة (1606) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[5] أخرجه الطبراني في الكبير (6/246) من حديث سلمان رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب (2/574): "ورواته محتج بهم في الصحيح"، وقال الهيثمي في المجمع (4/78): "ورجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1788).
[6] أخرجه البخاري في التوحيد (7445)، ومسلم في الإيمان (138) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[7] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار (139) عن وائل بن حجر رضي الله عنه.
[8] أخرجه البخاري في الأيمان والنذور، باب: اليمين الغموس (6675) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[9] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار (137) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، الحلفُ بغير الله شركٌ أصغر، يقول : ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) [1] ، ويقول : ((لا تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله وليصدق)) [2].
فلا يحقّ لك أن تحلفَ بغير الله، لا بالنبيَ ولا بغيره، إذ الأحاديثُ عامّة في النهيِ عن الحلف بغير الله، وأنّ الحلف بغير الله شرك، فلا يجوز الحلف إلا بالله.
أيّها المسلم، إنّ الأيمان في كتاب الله على أقسام:
فهناك لغوُ اليمين، وهو اليمينُ الذي يجري على اللسان من غير قصد الحلف، كأن يقول: لا والله، بلى والله، أو يحلف يظنّ أنه صادقٌ فيتبيّن أن الأمرَ خلاف ما يقول، يعني يحلف بناءً على اعتقاده وتصوّره أنه محِقّ، ولا يعلم أنه كاذب، بل حلفه بناءً على ما يظنّ من صدق نفسه، فتبيّن الأمرُ خلاف ذلك، فهذه لغو يمين لا شيءَ فيها.
يمينٌ آخر هو الحلف كّذبًا وزورًا، بأن يحلفَ على أمر ماضٍ كذبًا وزورًا، فهذه كبيرةٌ من كبائر الذنوب، على من وقع فيها أن يتوبَ إلى الله ويكثِر مِن صالح العمل ويردّ إلى أهل الحقوق حقوقَهم إن كان أخذها في القضاء بيمينٍ يعلَم أنه فاجرٌ في يمينه وكاذب في يمينه. وكذلك بعض الناس يُخبر بخبرٍ ويريد أن يؤكّد خبرَه بيمين كاذبةٍ ولو كان في غير الخصومة، يُحبّ أن ينقلَ الناسُ عنه وأن يصدّقوه فيما يخبر به، فربّما كذب في حلفه وحلف بالله كاذبًا وإن كان يعلم أنه كاذب، لكن لا يبالي والعياذ بالله.
أما اليمينُ الآخر فهي اليمين التي تجري فيها الكفّارة، بأن يحلفَ المسلم على أمر مستقبلٍ، يقول: والله لا أفعل كذا، أو والله لأفعلنّ كذا، ثم يتبيَّن له المصلحةُ في الفعل أو الترك، فالنبي يقول: ((إني لا أحلف على يمينٍ فأرى غيرَها خيرًا منها إلا كفّرتُ عن يميني وأتيتُ الذي هو خير)) [3] ، وقد قال الله لنبيه : ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ ?للَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْو?جِكَ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ ?للَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَـ?نِكُمْ وَ?للَّهُ مَوْلَـ?كُمْ وَهُوَ ?لْعَلِيمُ ?لْحَكِيمُ [التحريم:1، 2].
فاليمينُ إذا حلفتَها بالله، على ولدك على زوجتك على نفسك، فقلتَ: والله لا أفعلُ كذا، والله لا أكلِّم فلانًا، والله لا أدخلُ بيتَ فلان، ثم رأيتَ المصلحةَ في خلاف ذلك فكفّر عن يمينك؛ لأن الله يقول: وَلَـ?كِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ?لأيْمَـ?نَ [المائدة:89].
والكفارةُ هي إمّا إطعام عشرة مساكين، يُعطَى كلُّ مسكين كيلو ونصف من الأرز أو الحبّ، وإما كسوة عشرة مساكين، وإما إعتاقُ رقبة، فإن تعذّرتِ الأشياء الثلاثة فالله يقول: فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَـ?ثَةِ أَيَّامٍ ذ?لِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَـ?نِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ [المائدة:89]، هذه كفارة اليمين.
وأيضًا جاء في الشريعة النهي عن أن تكونَ اليمين مانعةً لك من الخير كلِّه، قال الله جل وعلا: وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ?لْفَضْلِ مِنكُمْ وَ?لسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ وَ?لْمُهَـ?جِرِينَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ?للَّهُ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور:22].
أنزل الله هذه الآيةَ في شأن الصدّيق لما قطع النفقةَ عن بعض من كان ينفِق عليهم حين وقعوا في قضية الإفك، فأنزل الله له: وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ?لْفَضْلِ مِنكُمْ وَ?لسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ وَ?لْمُهَـ?جِرِينَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ?للَّهُ لَكُمْ ، قال الصديق: بلى، أحبُّ أن يغفرَ الله لي [4].
والله يقول جل وعلا: وَلاَ تَجْعَلُواْ ?للَّهَ عُرْضَةً لأيْمَـ?نِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ [البقرة:224]، لا تجعلوا اليمينَ عرضةً لأعمالكم في ترك البرّ وترك الإحسان، فإذا حلفتَ أن لا تزورَ رَحِمًا أو لا تنفقَ على مسكين أو نحو ذلك، فالخير أن تكفِّر عن يمينك وتفعل الخير؛ لأن هذه من نزغاتِ الشيطان، والمسلم مأمور بتدارك خطئه، وأن لا يُصرّ على ترك الخير، فلا تكون اليمين بالله مانعةً لك من فعل الخير، بل افعل الخيرَ وكفّر عن يمينك.
المقصودُ أن المسلمَ يتّقي الأيمان ويحفظها، فلا يستخفّ بها، ولا يتهاون بها، ولا يحلف إلا صادقًا، ولا يحلف كاذبًا، ولا يدَع الكفارة، وليكن حلفُه بالله وحدَه، وليجتنب الحلفَ في البيع والشراء خوفًا من أن تزلَّ به القدم، فيستخفّ باليمين في بيعه وشرائه، فيمحَق الله بركةَ رزقه وعمله.
أسأل الله أن يوفّقني وإياكم لما يرضيه من القول والعمل، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد امتثالاً لأمر ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (2/ 125)، وأبو داود في الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بالآباء (3251)، والترمذي في الأيمان والنذور، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله (1535) واللفظ له من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن حبان (4358)، والحاكم (1/ 65)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2042).
[2] أخرجه البخاري في التوحيد، باب: السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها (7401)، ومسلم في الأيمان، باب: النهي عن الحلف بغير الله (1646) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: ((فليحلف بالله أو ليصمت)).
[3] أخرجه البخاري في فرض الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنواب المسلمين (3133)، ومسلم في الأيمان، باب: ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها (1649) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في المغازي (3910)، ومسلم في التوبة (2770) عن عائشة رضي الله عنها في حديث قصة الإفك.
(1/2858)
وظائف عشر ذي الحجة
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, فضائل الأعمال
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
1/12/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مواسم الخير. 2- فضل عشر ذي الحجة. 3- فضل الحج والعمرة. 4- مشروعية صيام تسع ذي الحجة. 5- استحباب الإكثار من التهليل والتكبير والتحميد. 6- وقت التكبير وصيغته. 7- دعوة لاغتنام هذه الأيام الفاضلة. 8- من أحكام المضحِّي.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله ذِي الفضل والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له الملِك العلاّم، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله سيّد الأنام، اللهمَّ صلِّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ما تعاقبتِ الدهور والأعوام.
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فبِها تتحقَّق الخيراتُ وتحصل المسرَّات وتندفع الكُرُبات.
عبادَ الله، يُطلّ على الأمّة الإسلاميّة مواسمُ عظيمة، وتحلّ بهم أوقاتٌ فاضلة، هي للمؤمنين مغنَم لاكتساب الخَيرات ورفعِ الدّرجات، وهي لهم فُرصة لتحصيل الحسناتِ والحَطّ من السيِّئات. إنّها أيّام العشرِ من ذي الحجّة، هي أعظمُ الأيّام عند الله فضلاً وأكثرها أجرًا، روى ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النبيِّ أنّه قال: ((ما مِن أيّام العمل الصّالح فيها أحبّ إلى الله من هذه الأيام)) يعني أيّامَ العشر، قالوا: يا رسولَ الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله إلاّ رجلٌ خرج بنفسه ومالِه ثمّ لم يرجِع من ذلك بشيء)) رواه البخاري [1] ، وعند البيهقيّ: ((ما عملٌ أزكى عند الله ولا أعظم أجرًا من خيرٍ يعمَله في عشر الأضحى)) [2] ، وروى البزّار في مسنده عن النبيّ أنه قال: ((أفضلُ أيّام الدّنيا العشر)) يعني عشرَ ذي الحجّة الحديث [3].
قال ابن حجر رحمه الله: "والذي يظهَر أنّ السببَ في امتياز عشر ذي الحجة بهذه الامتيازاتِ لِمَكان اجتماع أمّهات العبادة فيها، وهي الصّلاة والصّيام والصّدقة والحجّ وغيرها، ولا يتأتّى ذلك في غيرها" انتهى [4].
أيّامٌ يفِد المسلمون فيها إلى حجّ بيتِ الله الحرام، وقد وعَدَهم بالخير العظيمِ والثّواب الجزيل، قال : ((من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفث ولم يفسُق رجع من ذنوبه كيوم ولدَته أمُّه)) متفق عليه [5] ، ويقول : ((تابِعوا بين الحجِّ والعمرة؛ فإنّهما ينفيان الفقر والذنوبَ كما ينفي الكير خَبثَ الحديدِ والذّهب والفضَّة، وليس للحجّة المبرورةِ ثوابٌ إلاّ الجنّة)) رواه الترمذيّ والنسائي وسنده صحيح [6] ، وفي الصحيحين: ((العمرةُ إلى العمرة كفّارة لما بينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلاّ الجنة)) [7].
معاشرَ المسلمين، وهذه الأيّام الفاضلةُ يُشرع صومها، ويتأكّد فضلُه فيها، قالت حفصة رضي الله عنها: أربعٌ لم يكن يدَعهُنّ رسول الله : صيامُ يوم عاشوراء والعشرِ وثلاثةِ أيّام من كلّ شهر وركتا الفجر. أخرجه أحمد وفيه مجهول وباقي رجاله ثقات [8].
وعند أبي داود والنسائيّ عن بعض نساء النبي وفيه أنّه كان يصوم تسعَ ذي الحجة [9].
قال النوويّ رحمه الله: "فليس في صومِ هذه التسعة ـ يعني تسع ذي الحجّة ـ كراهةٌ شديدة، بل هي مستحبّة استحبابًا شديدًا" انتهى [10].
وأمّا ما ورد عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أنّها قالت: ما رأيتُه ـ أي: [النبي] ـ صائمًا في العشر قطّ، أخرجه مسلم [11] ، فقال ابنُ القيّم رحمه الله بعد أن أوردَ هذه المسألةَ: "والمثبِت مقدَّمٌ على النّافي إن صحّ" [12] ، وقال ابن حجَر بعد أن ذكر فضلَ الصومِ في هذه العشر: "ولا يرِد على ذلك حديثُ عائشةَ لاحتِمال أن يكونَ ذلك لكونِه ـ وهو الرحيم المشفِق ـ كان يترك العمَلَ وهو يحبّ أن يعمَلَه خشيةَ أن يُفرَضَ على أمّته" انتهى [13] ، ويقول النوويّ رحمه الله: "فيُتأوَّل قولُها ـ أي: عائشة ـ: لم يصُمِ العشرَ أنّه لم يصمه لعارضِ مرضٍ أو سفَر أو غيرهما، أو أنّها لم ترَه صائمًا فيها، ولا يلزم من ذلك عدمُ صيامِه في نفس الأمر" انتهى [14].
معاشرَ المسلمين، وفي خصائِص هذه العشر فضيلةُ الإكثار من التهليل والتكبيرِ والتحميد، أخرجَ الطبرانيّ في الكبير بإسنادٍ جيّد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ما مِن أيّام أعظمُ عند الله ولا أحبّ إلى الله العملُ فيهنّ من أيّام العشر، فأكثِروا فيهنّ من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير)) [15] ، قال البخاريّ في صحيحه: "كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السّوق في أيّام العشر يكبِّران، ويكبِّر الناس بتكبيرهما" انتهى [16].
والتكبيرُ ـ عبادَ الله ـ عند أهلِ العلم مطلقٌ ومقيّد، فالمطلق يكونُ في جميع الأوقات في الليل والنهار من مدّة العشر، والمقيّد هو الذي يكون في أدبارِ الصّلواتِ فرضِها ونفلِها على الصّحيح، للرّجال والنّساء.
وأصحُّ ما ورد في وصفِه ـ أي: التكبير المقيّد ـ ما ورَد مِن قولِ عليّ وابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه مِن صُبح يومِ عرفة إلى العصرِ من آخر أيّام التشريق. أخرجه ابن المنذر وغيره [17]. وأمّا للحاجّ فيبدأ التكبيرُ المقيّد عقِب صلاةِ الظهر من يوم النحر.
وأصحُّ ما ورد في صيغِ التكبير ما أخرجَه عبد الرزاق بسندٍ صحيح عن سلمان رضي الله عنه قال: (كبّروا الله: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرًا) [18] ، وصحّ عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما صيغة: (الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد) [19].
أيّها المسلمون، المغبونُ من انصرَف عن طاعة الله لا سيّما في هذه الأيام، والمحروم من حُرم رحمةَ الله جلّ وعلا، المأسوفُ عليه من فاتت عليه هذه الفُرَص وفرَّط في هذا الفضل. فيا ويحَ من أدرك هذه الأيامَ ثمّ لم يغتنِمها، والويلُ لمَن أمضاها في سيِّئ الأخلاق وقطعَها في المعاصي والآثام، فيا خسارةَ مَن دعَته دواعي الخير فأعرض عنها.
فاغتنِموا ـ رحمكم الله ـ هذه الأيامَ بالاجتهاد في العبادةِ بشتّى أنواعها والأعمال الصالحة بمختلف صوَرِها، فنبيُّكم يروي عن ربِّه عزّ وجلّ قوله: ((يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إيّاها، فمن وجد خيرًا فليحمَد الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه)) [20].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآياتِ والبيان، أقول هذا القولَ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب العيدين (969) نحوه.
[2] شعب الإيمان (3/354) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا الدارمي في كتاب الصوم (1774)، وحسن سنده الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1148).
[3] عزاه المنذري في الترغيب (2/127) للبزار عن جابر رضي الله عنه وحسن إسناده، وتبعه الهيثمي في المجمع (4/17)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1150).
[4] فتح الباري (2/460).
[5] أخرجه البخاري في الحج (1521، 1820)، ومسلم في الحج (1350) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وليس عندهما قوله: ((من ذنوبه)).
[6] سنن الترمذي: كتاب الحج، باب: ما جاء في ثواب الحج والعمرة (810)، سنن النسائي: كتاب الحج، باب: فضل المتابعة بين الحج والعمرة (2631) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وهو عند أحمد (1/387)، وقال الترمذي: "حسن صحيح غريب"، وصححه ابن خزيمة (2512)، وابن حبان (3693)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (1200). وفي الباب عن ابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد الله وعمر بن الخطاب وعامر بن ربيعة رضي الله عنهم.
[7] أخرجه البخاري في الحج (1773)، ومسلم في الحج (1349) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] مسند أحمد (6/287)، وأخرجه أيضا النسائي في الصيام (2416)، وأبو يعلى (7041، 7048، 7049)، وابن حبان (6422) والطبراني في الكبير (23/205، 216)، والخطيب في تاريخ بغداد (9/105، 246، 12/364)، وضعفه الألباني في الإرواء (954).
[9] سنن أبي داود: كتاب الصوم (2437)، سنن النسائي: كتاب الصيام (2372، 2417، 2418)، وهو عند أحمد (5/271، 6/288، 423)، وأعله الزيلعي في نصب الراية (2/157) بالاضطراب، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2129).
[10] شرح صحيح مسلم (8/71).
[11] صحيح مسلم: كتاب الاعتكاف (1176).
[12] زاد المعاد (2/66).
[13] فتح الباري (2/460).
[14] شرح صحيح مسلم (8/71-72).
[15] المعجم الكبير (11/82)، قال المنذري في الترغيب (2/127): "إسناده جيد"، وقال الهيثمي في المجمع (4/17): "رجاله رجال الصحيح"، وفي ذلك نظر فإن فيه يزيد بن أبي زياد متكلم في حفظه، وفي السند أيضا اختلاف، ولذا ضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (733).
[16] صحيح البخاري: كتاب العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق، والأثر وصله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في الشافي، والقاضي أبو بكر المروزي في العيدين، كما في فتح الباري لابن رجب (9/8).
[17] الأوسط (2209، 2210)، وأخرجهما أيضا ابن أبي شيبة في المصنف (1/488، 489)، قال الحاكم في المستدرك (1/439): "أما من فعل عمر وعلي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود فصحيح عنهم التكبير من غداة عرفة إلى آخر أيام التشريق"، ثم ساق أسانيده إليهم (1112، 1113، 1114، 1115) على الترتيب. وانظر: السنن الكبرى للبيهقي (3/313-315).
[18] جامع معمر (11/295 ـ المصنف ـ)، ومن طريقه أخرجه البيهقي في الكبرى (3/316)، وصححه ابن حجر في الفتح (2/462).
[19] أثر عمر رضي الله عنه أخرجه ابن المنذر في الأوسط (2207). وأما أثر ابن مسعود رضي الله عنه فأخرجه ابن أبي شيبة (1/488، 490)، وابن المنذر في الأوسط (2208)، والطبراني في الكبير (9/307)، وحسن إسناده الزيلعي في نصب الراية (2/224).
[20] أخرجه مسلم في البر (2577) عن أبي ذر رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الدّاعي إلى رضوانه، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فهي وصيّتُه اللاّزمة وفرضُه المتَحتِّم.
عبادَ الله، مِن أعظمِ القُرُبات التي يتقرَّب بها المسلمون إلى ربِّهم في خِتام هذه الأيام الأضاحي، فمَن أراد أن يضحّيَ عن نفسه أو أهلِ بيته ودخل شهرُ ذي الحِجّة فإنّه يحرُم عليه أن يأخذَ مِن شعره وأظفاره أو جِلده حتّى يذبحَ أضحيتَه، لِما روته أمّ سلمة عن النبيّ أنّه قال: ((إذا رأيتُم هلالَ ذي الحجة وأرادَ أحدكم أن يضحّيَ فلا يأخذ من شعرِه وأظفاره شيئًا حتى يضحّي)) رواه مسلم [1].
ثمّ إنّ الله جلّ وعلا أمرنا بأمر عظيمٍ تزكو به حياتنا وتطيب به قلوبُنا، ألا وهو الصّلاة والسّلام على النبيّ المصطفى.
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيّدنا ونبيّنا محمّد، اللهمَّ ارضَ عن صحابته أجمعين...
[1] صحيح مسلم: كتاب الأضاحي (1977).
(1/2859)
عشر ذي الحجة وأوضاع الأمة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
1/12/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغاية العظمى. 2- حاجة المسلمين إلى اللجوء إلى الله تعالى. 3- فضل عشر ذي الحجة. 4- ما يشرع في عشر ذي الحجة. 5- حرمة الدماء والموال والعراض. 6- دعوة للوحدة والائتلاف. 7- التنديد بالجدار العنصري. 8- الحرب على الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: وَذَكّرْ فَإِنَّ ?لذّكْرَى? تَنفَعُ ?لْمُؤْمِنِينَ وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لرَّزَّاقُ ذُو ?لْقُوَّةِ ?لْمَتِينُ [الذاريات:55-58]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، هذه الآيات الكريمة من سورة الذاريات، وهي مكية، وفيها يطلب الله سبحانه وتعالى من رسوله الكريم أن يستمر في التذكير لمن تنفعه الذكرى ولديه الاستعداد لقبول الإرشاد والنصيحة والهداية، ويخبره أن الله رب العالمين ما خلق الجن والإنس إلا ليأمرهم وليكلفهم بعبادته، وذلك ليعرفوه ويشكروه على نعمه، لا لأنه محتاج إليهم في تحصيل الرزق، فالله العلي القدير هو الرزاق ذو القوة المتين. ويقول سبحانه وتعالى في سورة التوبة: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـ?هًا و?حِدًا لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَـ?نَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]، ويقول في سورة البينة: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَذَلِكَ دِينُ ?لقَيّمَةِ [البينة:5].
أيها المسلمون، من هنا حدد الله عز وجل للجن والإنس رسالة سامية واضحة، ألا وهي عبادة الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، إنها العبادة الشاملة التي تتمثل في العبادات والطاعات والالتزام بأحكام الله في التصرفات والإخلاص في الأعمال والحركات والسكنات.
أيها المسلمون، نحن في وقت أحوج ما نكون فيه إلى اللجوء إلى الله رب العالمين، وأن نستغيث برب السماوات والأرضين، ليفرج كربنا، وليوحد صفنا، ولينصرنا على أعدائنا، نحن في وقت أحوج ما نكون فيه إلى الحياة التعبدية، لنكون طائعين لله عز وجل، ولنتحرر من عبادة المادة، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ولنعتِق أنفسنا من زخارف الدنيا ومشاغلها وتعقيداتها، فكلما انغمس الإنسان في شؤون الدنيا الفانية ابتعد عن الله رب العالمين، وأصبحت دنياه شغله الشاغل، لا يفكر في موته ولا في آخرته، في حين يقول الله سبحانه وتعالى في سورة القصص: وَ?بْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ?للَّهُ ?لدَّارَ ?لآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ?لدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ?للَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ?لْفَسَادَ فِى ?لأرْضِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [القصص:77].
الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يحدثنا قائلاً: أخذ رسول الله بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) ، وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك).
أيها المسلمون، يا أحباب الله، ندخل في شهر ذي الحجة، والعبادة فيه ليست منحصرة بالحجيج، فقد هيأ الله ربُ العالمين للمسلمين أن يكسبوا الثواب العظيم تلو الثواب، في العشر الأوائل من شهر ذي الحجة، التي لها فضل كبير من الله سبحانه وتعالى على غيرها من الأيام والليالي، وقد أقسم الله عز وجل بهذه الليالي لبيان فضلها ولتعظيم شأنها بقوله: وَ?لْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَ?لشَّفْعِ وَ?لْوَتْرِ [الفجر:1-3]، وقال معظم المفسرين بأن المراد من هذه الليالي هو الليالي العشر الأوائل من ذي الحجة، وأن الفجر هو فجر يوم النحر، أي: يوم عيد الأضحى المبارك.
أيها المسلمون، يا أحباب الله، إن الله عز وجل يضاعف العمل الصالح في هذه الأيام، فعليكم أن تغتنموها لقول رسولنا الأكرم : ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر)) ، قيل: يا رسول الله، ولا الجهاد في رسول الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) ، أي: إذا رزقه الله الشهادة، حينئذ تفوق الشهادة العمل الصالح في هذه الأيام.
أيها المسلمون، يا أحباب الله، من الأعمال الصالحة التي يحرص المسلم على أدائها في هذه الأيام صوم التطوع والإكثار من صلوات النافلة والاستغفار والتوبة والدعاء وتلاوة القرآن والتصدق وصلة الأرحام وتقديم الأضاحي بعد أداء صلاة العيد، فإن الله سبحانه وتعالى يزيد الثواب فيها، يقول العلماء بأن زيادة الفضل في هذه الأيام لوجود يوم عرفة ويوم عيد الأضحى ضمنها.
أيها المسلمون، يا أحباب الله، يلزم الإشارة إلى أنه يستثنى الصوم يوم العيد حيث لا يجوز الصوم فيه، فصوم النافلة فيها يشمل تسعة أيام، كما لا يطلب من الحجيج أن يصوموا يوم عرفة، حتى يتقوى الحاج على العبادة والدعاء في عرفة، أما غير الحاج فإنه يصوم في يوم عرفة لقول رسولنا الأكرم : ((صوم يوم عرفة يكفر سنتين)) ، وهذا يؤكد بأن الثواب في هذه الأيام ليس منحصرًا بالحجيج، وأنه يمكن للمسلمين جميعًا أن يغتنموا هذه الأيام العشرة بصلة الرحم وبالصوم والتنفل وغير ذلك من العبادات والأعمال الصالحة.
أيها المسلمون، يا أحباب الله، حينما ألقى رسولنا الأكرم خطبته الشهيرة في خطبة الوداع في السنة العاشرة للهجرة، فإنه لم يخاطب الحجيج وحدهم وقتئذ، وإنما خاطب جميع المسلمين في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله ومن عليها.
ومن المبادئ العامة التي وردت في خطبة الوداع حرمة سفك الدماء وحرمة غصب الأموال والممتلكات، فيقول عليه الصلاة والسلام من حديث مطول : ((أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) ، فقد شدد ديننا الإسلامي العظيم على حرمة سفك الدماء وعلى حرمة غصب الأموال، سواء كانت الأموال أموالاً عامة أو أموالاً خاصة، وسواء كانت الأموال أموالاً منقولة أو غير منقولة كالأراضي والعقارات، فأين نحن من هذه المبادئ الرفيعة؟! أين نحن من آخر وصية من نبي الإسلام لأمة الإسلام؟! إن ما نشاهده في العالم الإسلامي من خلافات ومنازعات وانقسامات لأقربُ دليل على بُعد المسلمين عن دينهم وعلى عدم التزامهم بالأحكام الشرعية التي أوصانا بها رسولنا الأكرم.
أيها المسلمون، يا أحباب الله، لا تصلح الأمور بسفك الدماء وبالخلافات والتناقضات فيما بين المسلمين، وإنما تصلح الأمة بعقيدة الإسلام وبحقن الدماء وبالإحسان والتودد فيما بين المسلمين، وأن يتعاملوا فيما بينهم على ضوء الأحكام الشرعية المستمدة من الكتاب والسنة لقوله سبحانه وتعالى مخاطبًا نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام: فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، وطلب عز وجل من موسى وأخيه هارون عليهما السلام أن يخاطبا فرعون خطابًا لينًا بقوله: فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى? [طه:44]، فإذا كان الخطاب الموجه إلى فرعون خطابًا لينًا، فكيف يكون خطاب المسلمين بعضهم بعضا؟!
أيها المسلمون، يا أحباب الله، لقد وصف القرآن الكريم النبي محمدًا عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم بأنهم متراحمون فيما بينهم أشداء على أعدائهم بقوله سبحانه وتعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ?للَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَـ?هُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ?لسُّجُودِ [الفتح:29]، هكذا يجب أن يكون المسلمون فيما بينهم في كل زمان ومكان، هذه هي طريقة رسولنا الأكرم في دعوته، فلا يصلُح آخرُ هذا الأمر إلا بما صلح به أوله.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم احقن دماء المسلمين، وحقق لهم النصر المبين.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، صلاة وسلامًا دائمين عليه إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كلّ مكان، حدَثان ساخنان لا يزالان يزدادان سخونة:
الحدث الأول بشأن الجدار العنصري الفاصل الذي يجعل من المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية كنتونات وسجون كبيرة، ويمزق البلاد ويشتت العباد، وقد سبق أن تناولنا هذا الموضوع، وحذرنا من نتائج إقامته قبل تنفيذه، ولا نزال نتناول هذا الموضوع المرة تلو المرة، حيث إن سلطات الاحتلال وبتأييد من أمريكا ماضية في غيّها وفي عنادها، غير مبالية بأي اعتراض ولا استنكار، وإن الاستمرار في إقامة هذا الجدار العنصري لمؤشر على تفكك الأنظمة العربية وضعفها وتساقط هيبتها وكرامتها، ومؤشر أيضًا على أن سلطات الاحتلال لا تنوي سلامًا، بل تريد حربًا وقتالاً، وهذا ما كشفه القرآن الكريم بحقهم بقوله سبحانه وتعالى في سورة الحشر: لاَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى? ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ [الحشر:14]، فالقرى المحصنة تتمثل في المستعمرات والمستوطنات، والجُدُر تتمثل بالجدار الفاصل المقام الآن، ونؤكد رفضنا لهذا الجدار، وأنه لا استسلام للأمر الواقع، ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً، والله يمهل ولا يهمل، ويتوجب علينا أن نتمسك بحقوقنا المشروعة التي لا مجال للتفريط فيها ولا للتنازل عنها.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، أما الحدث الآخر الساخن ويزداد الآن سخونة، هو موضوع الحجاب في فرنسا، وسبق أن قلنا: إن منع الحجاب من خلال سنِّ القوانين في فرنسا هو بمثابة حرب ضد الإسلام كدين، يؤكد ذلك ما نشر أمس في الصحف المحلية بأن الموضوع سوف لا يقتصر على الحجاب، بل سيشمل المنديل الذي يوضع على الرأس، وكذلك سيشمل الحظر الرجالَ الذين يطلقون اللحى من منطلق ديني، وهكذا أقحمت الحكومة الفرنسية نفسها في موضوع شائك، وكان الأجدر بها أن لا تقحم نفسها فيه.
ومع الأسف، ومن المؤلم أن الشاب إذا تصرف تصرفًا لا أخلاقيًا من ارتكاب للموبقات ومصاحبة المومسات فهو مرضي عنه في الشرق وفي الغرب، وملفه أبيض، في حين أن الشاب الملتزم بدينه ويطلق لحيته يفتح له ملف لملاحقته ومراقبته والتحقيق معه والتضييق عليه في الشرق وفي الغرب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هذا يؤكد أن الإسلام هو المستهدف كدين، وأن الحرب الصليبية المبطنة تظهر رأسها من جديد، لتحارب أي مظهر إسلامي، فعلى المسلمين جميع المسلمين أن يعتزوا بدينهم، وأن يتمسكوا بأحكامه، أينما وجِدوا، في الشرق وفي الغرب، وصدق الله العظيم إذ يقول في سورة التوبة: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [التوبة:32]، ويقول في سورة الصف: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [الصف:8]، فلا بد للّيل أن ينجلي، ولا بد للقيد أن ينكسر.
سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله وأكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(1/2860)
الإجازة الصيفية والسفر إلى الخارج
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الآداب والحقوق العامة, السياحة والسفر
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
25/5/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ولوع الناس بالسفر في الإجازة الصيفية. 2- سفر المعصية وسفر الطاعة. 3- من فوائد السفر. 4- ضرورة تحديد المقصد من السفر. 5- خطورة السفر إلى المناطق الموبوءة. 6- السياحة في ربوع بلاد الحرمين. 8- من أحكام السفر وآدابه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عباد الله، خيرُ الوصايا الوصيّة بتقوى ربِّ البرايا، فتقواه سبحانه أنفع الذخائر للمسلم وأبقاها، وآكدُ المطاب وأقواها، في قفوها منازلُ الحقّ والتوفيق، وفي التزامها الاهتداء إلى الرأي الثاقبِ الوثيق، فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ في كلّ أحوالكم، في حلّكم وارتحالكم، وظعنِكم وانتقالكم، ومَن تنكّب سواء التقوى انقلب خاسئًا وهو حسير، فلبئس المولى ولبئس العشير.
أيّها المسلمون، في دوّامة التنامي الحضاريّ السريع، وفي خضمّ التقدم التقني المذهِل، في أعقاب هذا العصر الوثّاب، وما قابل ذلك من انحسار ملحوظ بل وذريع في الجانب القيَمي والأخلاقيّ والنفسي بِأَخَرة، أورَث ذلك كلّه توسّعًا مذمومًا وانفتاحًا محمومًا في كثير من المجالات، واستحكامَ أنماط وعادات في الحياة المعاصرة، وحدوثَ ظواهر مستجدّة لم تكن على قدرِ مِن حسبان سلفِنا الصّالح رحمهم الله. ولتلك الموروثاتِ المعاصرة في شريعتنا بمقاصدها وأهدافها ضوابطُها وأحكامها وآدابها.
كما أسفرت هذه المدنيّة الماديّة عن تبرّم فئامٍ من الناس من المكث في بلدانهم والاستقرار في أوطانهم والتطلّع بنَهَم إلى التنقّل بين كثير من الأقطار, وحطّ عصا الترحال لجَوْب عددٍ من الأصقاع والأمصار، كلٌّ بحسب مقصده ومرامه وبغيته ومراده، وما أن يأفل نجمُ العام الدراسي وينبلج صبح الفصل الصيفيّ وتتوسّطَ شمس الإجازة كبدَ السماء وتسفح الوجوهَ بفيحها وأوارها وتشتدَّ لفحات الهواجر ويلتهب رَأْد الضحى [1] حتى ينزع الناس إلى مواطن الأفياء الظليلة النديّة والمياه الشفافة الرقراقة والأجواء المخمليّة النضرة، إجمامًا للنفوس، وتطلّبًا لمتناهي سكونها وهدوئها.
وفي غمرة هذه الأوقاتِ المحتدِمة تتبدّى ظاهرة جدُّ مقلقلة، وتبرز قضيّة على غاية من الأهمية، جديرةٌ بأن تسبر أغوارها، وتجلَّى مزاياها وعوارها. كيف وقد غالى في فهمها أقوامٌ ومعانيها، وشطّوا عن حقيقتها ومراميها؟! وأكبر الظنّ ـ يا رعاكم الله ـ أنها قد خالجت أذهانَكم, ولم تعُد خافيةً على شريفِ علمكم، تلكم ـ دام توفيقكم ـ هي قضيّة السفَر والارتحال والسياحة والانتقال.
معاشر المسلمين، الأصل في السَفر الإباحة، والأسفار قسمان: سفر للمعصية ـ عياذًا بالله ـ وسفر للطاعة، وسفر الطاعة يتضمّن الواجبَ كسفر الحجّ وتحصيل الرزق عند انعدامه ونحو ذلك، ومنه ما هو مستحبّ كزيارة البقاع المقدّسة، ومنه زيارةُ ذوي القربى وصلة الرحم والحبّ في الله، والسفر لطلب العلم وزيارةِ أهله وإغاثة الفقراء والمنكوبين. وأمّا السَفر المباح فما كان للتطبُّب والاتجار والتسبّب، وما كان للسياحة والنزهة وترويح النفوس، وتجرّد عن نيّة الثواب والطاعة، فالأمور بمقاصدها، ولكلّ امرئ ما نوى، والنيّة إذا حسنت تحيل العاداتِ إلى عبادات، وإذا عرفتَ فالزم.
إخوةَ العقيدة، إنّ السفر الذي احتُسب فيه الأجر والثواب وحُرِص فيه على الطاعة وأنزه الآراب لهو بحقّ روضة للعقول, وبلوغ للأنس المأمول، وهو مَجْلاة للسّأم والكلال، وبُعدٌ عن الرّتابة والنمطيّة والإملال، وفضاءٌ رحب للاعتبار والادكار، قُلْ سِيرُواْ فِى ?لأرْضِ فَ?نظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ?لْخَلْقَ [العنكبوت:20].
إبّان السفر تتجلّى عظمة الخالق البارئ سبحانه، فتخشعُ له القلوب أمام بديع السموات والأرض، أمامَ بديع خلقِ الطبيعة الخلاّبة, وتسبّحه الروح لمفاتنها الأخّاذة الجذّابة، أراضٍ شاسعةٌ فِيح [2] ، أنبتت أجملَ زهر بأطيب ريح، رياضٌ أُنُف وحدائق غُلب [3] ، نخيل باسقات وواحات مُونقات، رواسٍ شمّاء وأرض مَدحيّة وسماء وأنهار تجري بأعذب ماء. أَمَّنْ خَلَقَ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ ?لسَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَـ?هٌ مَّعَ ?للَّهِ [النمل:60]، أَمَّن جَعَلَ ?لأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ ?لْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَءلـ?هٌ مَّعَ ?للهِ [النمل:61].
فسبحان الله عباد الله، مشاهدُ في الطبيعة ذائعة، ومخلوقات بديعة رائعة، تدهِش الألباب، وفي إتقانها العجب العجاب، تفعِم النفسَ والقلب مسرّة وابتهاجًا، لكن شريطةَ أن تكونَ على ممسٍّ من القلب والروح والفكر. وسبحانَ الله، كم يغلب على كثير من الناس أن يمرّوا بهذه المناظر وكأنهم إزاءَها دونَ نواظر، أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ?لأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ?لأبْصَـ?رُ وَلَـ?كِن تَعْمَى? ?لْقُلُوبُ ?لَّتِى فِى ?لصُّدُورِ [الحج:46]. يقول الإمام أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله: "فنعوذ بالله من عيونٍ شاخصة غير بصيرة، وقلوب ناظرةٍ غير خبيرة".
إخوة الإيمان، ومن الحثّ اللّطيف على السفر النافع المفيد قولُ الثعالبي رحمه الله: "من فضائل السفر أنّ صاحبه يرى من عجائب الأمصار وبدائع الأقطار ومحاسن الآثار ما يزيده علمًا بقدرة الله تعالى, ويدعوه شكرًا على نعمه" [4].
إن العُلا حدَّثتني وهي صادقة فيما تحدِّث أنّ العِزَّ في النُقَل
وهل بلغ الصحابة الأجلاء والسلف النبلاء والأئمة الفقهاء ما بلغوا مِن ذُرى القمَم وقصَب السبق بين الأمم إلا بالرحلة في طلب الحديث وتحصيل العلوم والمعارف. ومن المعروف أن الكُحْل نوع من الأحجار كالثّرى يرمى على الطرقِ, فإذا تغرّب جُعِل بين الجفن والحدَق.
أيها المصطافون، أيها المسافرون، يا مَن عزمتم على جَوْب الأمصار والأقطار وركوب الأجواء والبحار واقتحام الفيافي والقفار وتحدي الشدائد والأخطار, تلبّثوا مليًّا، وتريّثوا فيما أنتم بسبيله، وليكن في نواياكم أسوتكم ونبيكم ، حيث ارتحل من مكّة إلى المدينة، حاملاً النورَ والضياء والهدى والإصلاح، وكذلك صحابته الكرامُ في أثره، حيث كانوا لنشر رسالتهم الربانية المشرقة أجلَّ السفراء، وسار في ركابهم جِلّة العلماء، فشقّوا الأرضَ شقًّا، وذرعوها سفرًا وتسيارًا، طلبًا للعلم والإفادة والصلاح والسعادة، وتصعّدًا في مراقي الطّهر والنّبل، كلّ ذلك على كثرة المخاوف وشُحّ الموارد وخشونة المراكب وقلّة المؤانس, فهلاّ اعتبرنا بهم وشكرنا الباري جلّ في علاه على نعمِه السوابغ.
وفي زمننا هذا المتضخِّم بالدّعة والرفاه وجدب النفوس من الآمال الغوالي أصبَح السفر والتنقّل ظاهرةً جديرة بالاهتمام والتذكير بالآداب الشرعيّة والضوابط المرعية، كيف وبعض الناس يمتطون هذه الأيام متونَ الطائرات وأمثلَ المركبات، أإلى صلة الأرحام والقرابات؟ كلا، أإلى طلب العلم والأخذ من العلماء؟ كلا، أإلى الأعمالِ الخيريّة والدعويّة؟ كلا، أإلى مواطنِ الطهرِ والفضيلة؟ بكل الحُرقة: لا, وكلاّ، بل إلى مستنقعاتِ الآثام والشرور ومباءات المعاصي والفجور, لمبارزة الملك الديان, بالذنوب والعصيان، حيث أملى لهم الشيطان أنّ هاتيك المنتجعات والشطآن هي أدواء علاجِ الملل من حرّ الصيف اللافح وأجواءُ الترفيه والسياحةِ والاصطياف.
أيُّ دين وقيمٍ عند من يسافرون إلى مباءات الأوبئة الفتاّكة أجاركم الله؟! التي أسعرتها معطَيَات الحضارة السافرة، وألهبتها الشبكات الحديثة المذهلة، وأذكاها الجفاف الروحي واليباب الفكري والتّرف الماديّ الساحق، فكان هذا الفهم الخاطئ لمعنى السّفر والسياحة التي آضت عند بعض المنهزمين صناعةً للتفلّت من القيم والتنصّل من المبادئ والثوابت، في الوقت الذي تحولت فيه السياحة المعاصرة إلى استراتيجيات بنّاءة تخدِم المثُل والمبادئ, وتبنى على الفضائل العليا لتحقيق المصالحِ العظمى، مما كان سببًا في خَلط الأوراق لدى كثيرين بين السياحة البريئة والترويح المشروع وبين ضدّها، وبضدّها تتميز الأشياء.
حتى صُرفت فئام من الأمّة عن تأريخها وأصالتها وتراثها ولغتها، فأضحَوا مُزَعًا تائهين أسرَى الليلية والتقليد والتبعيّة والتقاليد المستوردَة النشاز, حين هبّت أعاصير الشهوات والملذّات، وثارت لوثات الخلل الفكريّ والأخلاقي والانحرافات على جملةٍ من السلوكيات في كثير من المجتمعات فتركتها في دياجير الظلمات.
وبنحو ذلك بعضُ الفتياتِ والأسر ممن حرِموا متانةَ الدين وقوّة الأخلاق وعمق الأصالة والأعراق، حيث هتك بعضهن ـ هداهن الله ـ حجابَ الطهر والاحتشام، ومما زاد الطينّ بِلة والدّاء علّة اصطحابُ البنين والبنات من المراهقين والمراهقات الذين سرعانَ ما تنغرز في أفئدتهم تلك الأوضاع الفاضحة والمشاهد المتهتِّكة.
فيا سبحان الله! كيف تقضي المرأة سحابةَ عامِها كريمة معزّزةً ثمّ تسافر لتطّرح خمارها وحياءها، فاتنةً مفتَنة؟! أتقضي الفتاة ربيعَ عامها في جوٍّ مصون محافظ ثم تسافر لتبدّد حياءها وحشمتها؟! هل نحن رجالاً ونساءً في شك من ديننا؟! أولسنا على ثقةٍ من قيَمنا وثوابتنا؟! إذًا لماذا هذا الانفصام في الشخصيّة, والتناقض والازدواجية في قضايانا الاجتماعية؟!
وإنّكم لتأسفون أن يعلّق كلّ هذا على مشجب الترويح والترفيه, زعموا. ومحزُّ الصّواب أنّ هذا ضرب من خيانة الأمانةِ في التربية والتنشئة، والله عز وجل يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
وهؤلاء وأمثالهم في كل مكان ـ إلا من رحم الله ـ كالغراب الأعصَم, لا يعودون من أسفارهم إلا بكآبة المنظر وسوء المنقلب وندامة المعتقد الذي استعاذ منه المصطفى. لطّخوا أبصارَهم فيما حرم الله، حتى غار منها ماء الحياء وروَاؤه، وجمعوا إلى العصيان عقوقَ ازدهار الأوطان، وهل أفرز صوَرًا من الإرهاب والإخلال بأمنِ المجتمع إلا ضروبٌ من الأسفار, غيرُ منضبطة بما في الشريعة والأسفار. وللأوطان في دمِ الشرفاء الأحرار حقوق واجبة وديونٌ مستحقَّة، مما يعظِم المسؤوليةَ في رعايتها حقَّ رعايتها وتنشئةِ الأجيال على أمنها وعنايتها.
أمّة الإسلام، وأنّى تندمل جروحنا النازفةُ وشروخُنا الراعِفة وفي الأمّة من لا يبالي بدين ولا قيمٍ ولا أمن ولا ذمم, فليت شعري! أبمثل هذا تبنى المجتمعات ويشاد صرح الحضارات؟! وليت شعري! أبمثلِ هذا تعمَر الأوقات وتدوم الخيرات والبركات وتستجلَب البهجة والسعادة والمسرات؟!
أيّها المسافرون، إنّ النار حفَّت بالشهوات، فلا يكلِمنّ الشيطان دينَكم بدعوى الترفيه والاصطياف في بقاع وبيئة شائكة.
ويا بغاةَ الشرِّ كفّوا وأقصروا، وتذكّروا وازدجروا.
وإلى الذين اضطرّوا إلى السفَر وعزَموا عليه، اللهَ اللهَ من إقامة شعائر دينكم، والاستمساك بأخلاقكم، والولاء لعقيدتكم وأمّتكم في عزّةٍ وإباء، وليكن منكم في السوَيداء أنَّ دينكم وقيمَكم في الذُرى جمالاً وجلالا، وفي القمة عزّة وكمالاً، فكونوا له خيرَ سفراء، وطبّقوه خير منهاج وأحسنَ مثالاً.
أيّها الأحبّة في الله, شُكر النّعم رباطٌ تمنعنا من الإباق, وإنّنا لنشكر المنعمَ المتفضّل سبحانه أن طهّر ديار الحرمين من كثير من الأدران, وبسط في أرجائها ظلالَ الأمن والأمان, كما نلهج بالشّكر له جلّ جلاله وهو أهل الشكر أن خصَّ بلادنا المباركة بالجمال الخلاّب والمناخ الآسر الجذاب, تصدّر ذلك أمنٌ وارف الظلال، تفتقده كثير من الأصقاع, فحبّذا المروج الخضراء ونقاء النسيم والهواء والمواقعُ المنَمنَمة الفيحاء والجداول المنسابة بالريِّ والماء, مما يحقِّق المقصد المشروعَ من السّفر والسياحة، في أوفر أسباب الحشمة والوقار والعفاف, وفي سياج منيعٍ للدين والفضيلة, وفي بُعد عن أسباب الشر والفساد والرذيلة، أينما أرسلتَ رائدَ الطرف في هذا الثرى الأفيح. وكيفَ بكم إذا كانت السياحة تعبديّةً في عرصاتِ الحرمين الشريفين, إنها الطّهر والنماء والرقيّ في معارج الخير والسناء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ولقد منَّ الله على بلادِ الحرمين الشريفين حرسها الله، فجعلها واحةَ إيمان ودوحةَ أمن وأمان، حباها الله من مقوّمات السياحة الحسّية والمعنوية ما ليس لغيرها, ويأتي في الذؤابة منها تحكيمُ الشريعة التي فيها تحقيق مصالح العباد في أمور المعاش والمعاد, ودرءُ المفاسد عنهم، والحفاظ على دينهم وأنفسهم وأموالهم وعقولهم وأعراضهم، ومجانبة مسالِك العنف والإرهاب والقتل والإرعاب وإراقةِ الدماء المعصومة بغير وجهِ حق والتعرّض للمسلمين والمعاهدين والمستأمَنين باعتداءٍ أو إيذاء، ونحو ذلك من صوَر الإفساد في الأرض ودروب النّسف والتفجير والعنفِ والتدمير. ويزيدُ الأمر خطورة حينما يصل الإجرام ذروتَه في أفضل البقاعِ مكةَ المكرمة والمدينةِ النبوية المنورة اللتَيْن لهما من الحرمة والمكانةِ والقدسية ما لا يخفى على كلّ ذي بصيرة. ومما زادَ الأمرَ ضِغثًا على أبالة مصاحفُ مفخّخة ومساجد متّخَذة وكرًا للجريمة والتستّر على أصحابها عياذًا بالله. لكنَّ الله بلطفه وكرمه، ثمّ بالجهود الموفَّقة المبذولة من ولاة الأمر نصرَ الله بهم دينه، أحبط هذه المحاولاتِ الإرهابية البائسة، وكشف عوارَها ومن يقف وراءها.
ألا فلتدومي سالمةً يا أرض الحرمين الشريفين، ولتعيشي هانئةً يا موئل العقيدة ومأرز الإيمان، فلقد أثبتِّ بفضل الله الخروجَ من الأزمات أكثرَ تماسكًا وأشدَّ تلاحمًا بحمد الله، ولتبقَي بإذن الله على مرّ الدهور وكرّ العصور شامةً في دنيا الواقع, ومثلاً يُحتذى, وأنموذجًا يقتفَى في الأمن والأمان, وبذلك تتضِّح لك ـ أخي السائح المبارك والمسافرَ الكريم ـ صورةُ الارتباط الوثيق بين الأمنِ والسياحة والسّفر والأمان.
ألا شاهت وجوهُ الأعداء المتربّصين, وخسئت أعمال المعتدين المفسدين المجرمين, وردّ الله كيدَ الكائدين إلى نحورهم, وحفِظ الله بلادنا وسائر بلاد المسلمين من شرّ الأشرار وكيد الفجار, إنّه خير مسؤول وأكرم مأمول.
أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافّة المسلمين والمسلمات من كلّ الذنوب والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه, فهو أهل التقوى وأهل المغفرَة.
[1] أي: رونق الضحى، وقيل: ارتفاعه حين يعلو النهار.
[2] أي: واسعة.
[3] أي: ملتفّة.
[4] انظر: الغرر السافر للزركشي (ص291) ـ ضمن مجلة الحكمة العدد العاشر ـ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، غافِر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، هدانا إلى أقوم السّنن والآداب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له شهادةَ منيب أوّاب، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله خيرُ من خشي ربه بالغيب وإليه أناب، صلّى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين ثواقب الأحساب، وعلى الصفوة الخيّرة من الأصحاب, وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فاتّقوا الله عباد الله، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ شريعتنا الغراءَ قد أحاطتِ المسافر بجملة من الأحكام والآداب، ابتداءً من العزم على السفر وإلى غاية الإياب منه.
منها أولاً: الإخلاصُ لله، وحسن المقصد وشرف الغاية ونبل الهدف.
ومنها ثانيًا: إذنُ الوالدين ورضاهما، قال الإمام الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ويحرُم السفر بغير إذنهما، لأنّ الجهاد إذا منِع مع فضيلته فالسّفر المباح أولى" [1].
ثالثًا: التماسُ الوصيّة والدعاء من أهل الصلاح والفضل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، إني أريد سفرًا فزوّدني، قال: ((زوَّدك الله التقوى)) ، قال: زدني، قال: ((وغفر ذنبَك)) ، قال: زدني بأبي أنت وأمي، قال: ((ويسَّر لك الخيرَ حيثما كنت)) [2]. الله أكبر، يا لها من وصيّة, ما أعظمها وأجمعها.
رابعًا: توخِّي المرافِق المطاوع الموافق الذي يدلّك على الله مظهره, ويذكّرك إن غفلت مخبرُه، وما سمِّي السفر سفرًا إلا لأنّه يسفر عن أخلاق الرجال ومعادنهم وطباعهم.
خامسًا: الحرص على أدعية السفر، فهي حصنٌ حصين وكافية واقية من كلّ سوء بإذن الله، فيسَنّ للمسافر إذا استوى على دابّته أن يقول: سُبْحَـ?نَ ?لَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـ?ذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى? رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:13، 14]، ((اللهم إنّا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى..)) الحديث [3].
وبعامّةٍ فعلى المسافر أن يكثرَ من ذكر الله عز وجل ودعائه, يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((ثلاثُ دعوات مستجابات لا شكّ فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده)) [4]. ويجتهد المسافر في تمثّل أدعية السفر ومعرفة مواطنها.
سادسًا: فقه أحكام السفر وآدابه تعلّمًا ومساءلة لأهل العلم, وقوفًا على أحكامِ السفر وآدابه, كرخصةِ المسح على الخفين وقصرِ الصلاة وجمعِها ومدّةِ ذلك وكيفيّته ومعرفة اتجاه القبلة والمحافظة على الصلاة في أوقاتها وغير ذلك.
أخي المسافر الكريم، وإذا قضيتَ نهمتَك من سفرك فعجّل بالرجوع إلى أهلك، واسلك طريقَ العودة غير متوانِ إلى ديارك، يقول : ((السفرُ قطعة من العذاب، يمنع أحدَكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى أحدكم نهمتَه فليعجّل إلى أهله)) خرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [5].
ألا فاتّقوا الله عبادَ الله، واعلموا أنّ هذه الأحكام والآدابَ والأذكار لا تزال تحكِم المسلمَ بشريعته ودينه في السفر كما في الحضر، رفعًا للمشقّة والإصر، وتذكيرًا له بأنّه موصول بخالقه في أيّ زمان وعلى أيّة حال, والله المسؤول أن يسلِّم المسافرين في جوّه وبرّه وبحره من المسلمين, وأن يعيدَهم إلى بلادهم سالمين غانمين, إنّه جواد كريم.
هذا وصلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على سيد الأولين والآخرين وخاتم الأنبياء والمرسلين وأفضل المقيمين والمسافرين نبينا محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم ربّ العالمين...
[1] فتح الباري (6/141).
[2] أخرجه الترمذي في الدعوات، باب: ما يقول إذا ودع إنسانًا (3444)، والدارمي في الاستئذان (2671)، والروياني (1387)، والحاكم (2477)، وقال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه ابن خزيمة (2532)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2739).
[3] أخرجه مسلم في الحج، باب: ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره (1342) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[4] أخرجه أحمد (2/258، 348، 478، 517، 523)، وأبو داود في الصلاة، باب: الدعاء بظهر الغيب (1536)، والترمذي في الدعوات، باب: ما ذكر في دعوة المسافر (3448)، وابن ماجه في الدعاء، باب: دعوة الوالد (3862)، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (2699)، والقرطبي في تفسيره (13/223)، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3115).
[5] صحيح مسلم: كتاب الإمارة، باب: السفر قطعة من العذاب (1927)، وأخرجه البخاري في الحج، باب: السفر قطعة من العذاب (1804).
(1/2861)
التفكر في عظمة الله وقدرته
الإيمان, التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الأسماء والصفات, الربوبية, الله عز وجل
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
25/5/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة الناس في هذا الزمان إلى التفكر في عظمة الله تعالى. 2- الإيمان بالله مبني على التعظيم والإجلال له سبحانه. 3- إثبات الصفات لله تعالى طريق التدبر. 4- نصوص في بيان عظمة الله عز وجل وقدرته. 5- أعرف الناس بالله أخشاهم له. 6- التفكر في عظمة الله بالنظر في مخلوقاته. 7- ما قدر الله حقّ قدره من أصرّ على العصيان والفجور. 8- ثمرات استشعار عظمة الله عز وجل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ونَفسي بتقوَى الله، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
قال تعالى: وَمَا قَدَرُواْ ?للَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91].
إخوةَ الإسلام، خفَتَتْ عظمةُ الله في نفوس بعضِ المسلمين اليومَ، وعظُم في نفوسهم قدرُ قوى الأرض البشريّة، حين رأوا مُنجزاتِ الحضارة المادّية ونتاجها العلمي، من هندسةِ الصفات الوراثية, إلى الاستنساخ, إلى الصواريخ العابِرة للقارّات, إلى حرب النّجوم وضُروب المدافع والقنابل.
هذا التطوّر السريع والنموّ الكبير في آليّات التقدّم المادّي جعَل فئامًا مِن الخلق يصابون بالانبهار، وتتسرّب إلى دواخِلهم الرّهبة والهلَع, وتضطرِب نفوسهم, وتهزَم عزائمهم. وهذا يحطِّم المجتمعات, ويزلزل بنيانها, ويحوِّلها إلى مجتمعاتٍ حزينَة منكسِرة يائسَة ضائعة.
وحريٌّ بالمسلمين حينَ تهزّهم عظمة البشر استحضارُ عظمة خالقِ البشر سبحانه، الذي يدبّر أو الممالك, يأمر وينهى، يخلق ويرزُق، يميت ويحيِي، يداوِل الأيّام بين النّاس، يقلب الدّول فيذهب بدولةٍ ويأتي بأخرى.
إنّ تعظيمَ الله عزّ وجل مِن أجلّ العبادات القلبية وأهمّ أعمال القلوب التي يتعيّن ترسيخها وتزكيةُ النفوس بها، لا سيّما وأنّه ظهَر في زماننا ما يخالِف تعظيمَ الله تعالى مِن الاستخفاف والاستهزاءِ بشعائر الله، والتطاولِ على الثوابت, والتّسفيه والازدراء لدين الله، مع ما أصاب الأمّة من وهَنٍ وخورٍ وهزيمةٍ نفسيّة، قال تعالى: مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:13].
إنّ الإيمان بالله ـ عبادَ الله ـ مبنيّ على التعظيم والإجلال له عزّ وجلّ، قال تعالى: تَكَادُ ?لسَّمَـ?و?تُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ [مريم:90]، قال المفسرون: "يتشقّقن مِن عظمةِ الله عزّ وجلّ".
منزلةُ التعظيم تابعة للمعرفة, فعلى قدرِ المعرفة يكون تعظيمُ الربّ تعالى في القلب، وأعرف النّاس به أشدُّهم له تعظيمًا وإجلالاً, وقد ذمّ الله تعالى مَن لم يعظِّمه حقَّ عظمتِه, ولا عرَفه حقَّ معرفته، ولا وصفَه حقَّ صفته، فقال: مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:13]، قال المفسرون: "ما لكم لا تعظِّمون الله حقَّ عظمته".
تعظيمُ الله وإجلاله ـ عبادَ الله ـ لا يتحقَّق إلا بإثباتِ الصفاتِ له كما يليق به سبحانه، وروحُ العبادة هو الإجلال والمحبّة، فإذا تخلّى أحدهما عن الآخر فسدَت.
لقد كان نبيّنا يربّي أمّته على وجوبِ تعظيم الله، ففي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حَبر من الأحبار إلى رسول الله فقال: يا محمّد, إنّا نجد أنّ الله يجعل السمواتِ على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجَر على إصبع، والماءَ والثرى على إصبع، وسائرَ الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحِك النبيّ حتى بدَت نواجذه تصديقًا لقولِ الحبر, ثمّ قرأ رسول الله : وَمَا قَدَرُواْ ?للَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ?لأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَ?لسَّمَـ?و?تُ مَطْوِيَّـ?تٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَـ?نَهُ وَتَعَالَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] [1].
ووَرد مِن حديث ابنِ عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله قرأ هذه الآيةَ ذاتَ يوم على المنبر: وَمَا قَدَرُواْ ?للَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ?لأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَ?لسَّمَـ?و?تُ مَطْوِيَّـ?تٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَـ?نَهُ وَتَعَالَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ ، ورسول الله يقول هكذا بيده، ويحركها، يقبلُ بها ويدبر، ((يمجّد الرب نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبّر، أما الملك, أنا العزيز، أنا الكريم)) ، فرجَف برسول الله المنبر حتى قلنا: ليخِرّنّ به [2].
الله تعالى ـ عباد الله ـ هو الكريم العظيم, الذي هو أكبر من كلّ شيء، وأعظم من كلّ شيء، أجلّ وأعلى، هو وحدَه الخالق لهذا العالم، لا يقَع شيء في الكون من حركةٍ أو سكون أو رفعٍ أو خفض أو عزّ أو ذلّ أو عطاءٍ أو منع إلاّ بإذنه سبحانه، يفعَل ما يشاء, ولا يُمانَع ولا يُغالَب. ولما قال الأعرابي لرسول الله : فإنّا نستشفع بك على الله، ونستشفِع بالله عليك، قال رسول الله : ((ويحَك! أتدري ما تقول؟!)) وسبّحَ رسول الله , فما زال يسبّح حتى عُرِف ذلك في وجوه أصحابِه, ثمّ قال: ((ويحَك! إنّه لا يستشفَع بالله على أحدٍ من خلقه, شأنُ الله أعظمُ من ذلك)) أخرجه أبو داود [3].
عبادَ الله، على قدر المعرفةِ يكون تعظيم الربّ تعالى في القلب، وأعرف النّاس به أشدّهم لله تعظيمًا وإجلالاً، تأمّل آياتِ الله وإعجازَه في الكون، في كتابٍ مقروء، وصفحاتٍ مشرقة منظورَة، ليمتلئَ قلبك إجلالاً وعظمة لله سبحانه: فَسُبْحَـ?نَ ?لَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شيء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:83].
تجدُ أمامَك نافذة واسعةً سعةَ الكون كلِّه، إعجازٌ باهر, وآيات كريمة، قد كتِبت بحروفٍ كبيرة واضحة على صفحاتِ الكون كله، ?للَّهُ خَـ?لِقُ كُلّ شيء وَهُوَ عَلَى? كُلّ شيء وَكِيلٌ لَّهُ مَقَالِيدُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ [الزمر:62، 63].
انظر إلى الشّمس والقمَر يدوران، والليلِ والنهار يتقلّبان, بل انظُر إلى تكوين نفسِك وتركيبِ جسمك، من ذا الذي جعله بهذا التركيب وهذا النظام العجيب، وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ [الذاريات:21].
فكِّر في النبات والشجر, والفاكهة والثمر، وفي البَحر والنّهَر، إذا طاف عقلك في الكائنات ونظرك في الأرض والسموات رأيتَ على صفحاتها قدرةَ الله, وامتلأ قلبك بالإيمان بالله، وانطلقَ لسانك بـ"لا إله إلا الله"، وخضعت مشاعرُك لسلطانِ الله.
يقول عزّ وجلّ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ?للَّهُ عَلَيْكُمُ ?لَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ مَنْ إِلَـ?هٌ غَيْرُ ?للَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ ?للَّهُ عَلَيْكُمُ ?لنَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ مَنْ إِلَـ?هٌ غَيْرُ ?للَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ [القصص:71، 72].
ماذا نفعَل لو لم تطلعِ الشمس؟! ماذا نفعل إذا غابَ القمَر ولم يظهر؟! كيفَ نعيش؟! كيف نزرع؟! كيف نأكل؟! بل كيف نتعلّم ونعلِّم غيرَنا؟!
هُوَ ?لَّذِى جَعَلَ ?لشَّمْسَ ضِيَاء وَ?لْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ?لسّنِينَ وَ?لْحِسَابَ مَا خَلَقَ ?للَّهُ ذ?لِكَ إِلاَّ بِ?لْحَقّ يُفَصّلُ ?لآيَـ?تِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس:5].
إنَّ مَن تفكّر في ذلك خافَ اللهَ تعالى لا محالة؛ لأنّ الفكرَ يوقعه على صفاتِ جلال الله وكبريائه، فهو سبحانه العزيز الكريم المتعال الواحدُ القهار. هو سبحانه القهار الذي قهَر كلَّ شيء وغلبه، والذي لا يطاق انتقامُه، مذلُّ الجبابرة, قاسم ظهور الملوك والأكاسرة. هو سبحانه القويّ الذي تتصاغر كلّ قوّة أمام قوّته، ويتضاءل كلّ عظيم أمام ذِكر عظمتِه.
إنّ هذا الجيلَ الذي صدّه عن السبيل الاستكبار, وعلاه الغرور, وأسكَرَه التّرف, وجعل كتابَ ربّه وراءه ظِهريًّا بحاجةٍ ماسّة إلى أن يعرف ربّه حقًّا، ويعظمه صدقًا, بتدبّر أسماء الله الحسنى، التأمّلِ في آياته، التفكّر في إعجازه، فمَن استيقَن قلبه هذه المعانيَ لا يرهَب غيرَ الله، ولا يخاف سِواه، ولا يرجو غيرَه، ولا يتحاكم إلاّ له، ولا يذلّ إلا لعظمتِه، ولا يحبّ غيرَه.
أمّا الذين يهجرون القرآنَ, ويرتكبون المحرمّات, ويفرّطون في الطاعات، أمّا الذين يتحاكمون إلى شرع غيرِ الله، ما قدروا الله حق قدره. الذين يسخرون من الدّين، ويحاربون أولياء الله, ويستهزئون بسنّة سيّد البشر, ما قدروا الله حقَّ قدره.
من شهِد قلبُه عظمةَ الله وكبرياءَه علِم شأنَ تحذيره جلّ وعلا في قوله: وَيُحَذّرْكُمُ ?للَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]، قال المفسرون: "أي: فخافوه واخشَوه".
ولأجل شهودِ صفاتِ عظمتِه سبحانه وجِلت قلوب المؤمنين لمجرّد ذكره تعالى كما قال سبحانه: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، ويقول سبحانه: وَبَشّرِ ?لْمُخْبِتِينَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الحج:34، 35].
هذه ـ عبادَ الله ـ بعضُ عظمتِه سبحانه مما تتحمّله العقول، وإلاّ فعظمة الله وجلاله أجلّ من أن يحيطَ بها عقل، فمَن هذا بعضُ عظمته كيفَ يجعل في رتبتِه مخلوق لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا؟! والذين لا يقدّرون اللهَ حقَّ قدره, ولا يعظّمونه حقَّ عظمته, تصاب نفوسهم بالوهَن, وتمتلئ قلوبهم برهبةِ البشر والهزيمة النفسيّة التي تظلّ تلاحقهم مهما أوتوا من قوّة ونالوا من عدّةٍ وعدد. والهزيمة النفسيّة هي من أنكى الهزائم وأشدِّها خطرًا على مستقبَل الأمة, قال تعالى: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في التوحيد، باب: قول الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يُمْسِكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ.. (7451)، ومسلم في صفة القيامة والجنة والنار، باب: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس (2786).
[2] أخرجه أحمد (2/72)، وهو عند مسلم في صفة القيامة والجنة والنار، باب: حدثنا سعيد بن منصور (2788) بمعناه.
[3] سنن أبي داود: كتاب السنة، باب في الجهمية (4726) من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه، وأخرجه أيضا ابن أبي عاصم في السنة (575)، والبزار (3432)، والطبراني (2/128). وقد تكلِّم في إسناد هذا الحديث للاختلاف فيه وعنعنة محمد بن إسحاق، ولكن بين شيخ الإسلام أنه من الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول. انظر: بيان تلبيس الجهمية (1/569-571)، ومجموع الفتاوى (16/435)، وظلال الجنة في تخريج السنة (1/252-253).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفَى, وسلام على عبادِه الذين اصطفى, وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له العليّ الأعلى, وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله, صاحب النّهج السوي والخلق الأسنى, صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
إنّ امتلاءَ القلب بعظمة الله يولّد ثقةً مطلقة بالله، ويجعل المسلمَ هاديَ البالِ ساكنَ النفس مهما ادلهمّت الخطوب. إنّ استشعارَ عظمة الله تملأ القلب رضًا وصبرًا جميلاً، فلا يحزنُنا تقلّّّب الذين كفروا في البلاد، فإنهم مهما علوا وتجبّروا لن يصِلوا إلى مطامعهم، ولن يحقّقوا أهدافهم الدّنيئة، فالله هو القويّ الذي لا يغلب. لقد بلغ فرعون ما بلغ من طغيان، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى ?لأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ [القصص:4]، فماذا كانت نتيجة الطغيان؟! فَأَخَذْنَـ?هُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـ?هُمْ فِى ?لْيَمّ وَهُوَ مُلِيمٌ [الذاريات:40].
إنّ معرفتَنا بعظمةِ الله تورث القلبَ الشعورَ الحيّ بمعيّته سبحانه، التي تُفيض السكينةَ في المحن والبَصيرة في الفتن، فعندما لجأ رسولنا إلى الغار, واقترب الأعداء حتى كانوا قابَ قوسين أو أدنى, شاهرين سيوفَهم، قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، لو أنّ أحدَهم رفع قدَمه رآنا، فردّ عليه رسولنا بكلّ ثِقة: ((ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟!)) [1].
إنّ استشعارَ عظمةِ الله ومعيّته تبعَث في النفس معنى الثبات والعزّة, وتقوّي العزائم حتى في أشدّ حالات الضّنك، وقد كانت هذه الحقائق جليّة عند الصحابة حتى مع الحصار الاقتصاديّ والاجتماعيّ في شِعب أبي طالب، ولم تمضِ سِوى أعوام حتى فتَح الله على أبي بكر وعمر وغيرهم أعظمَ الانتصارات.
ومِن قبل يقِف موسى وجنودُه عند شاطئ البَحر فيقول بعضهم: إنّ فرعون من ورائنا والبحرَ من أمامنا, فأين الخلاص؟! قَالَ أَصْحَـ?بُ مُوسَى? إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، فيردّ نبيّ الله موسى عليه السلام باستشعارٍ لعظمة الله وثِقة كاملةٍ بموعود الله: إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، فكان بعدَها النّصر والتّمكين.
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال : إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في المناقب، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم منهم أبو بكر (3653)، ومسلم في فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق (2381) عن أبي بكر رضي الله عنه.
(1/2862)
الكسب الطيب والكسب الخبيث
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
البيوع, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
25/5/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكفّلُ الله تعالى برزق عباده. 2- التوكّل على الله تعالى في طلب الرزق. 3- الحكمة في تفضيل بعض الخلق على بعض في الرزق. 4- فضل القناعة وأهميتها. 5- الأمر باتخاذ الأسباب المباحة في طلب الرزق. 6- التحذير من المكاسب الخبيثة والحثّ على الكسب الطيب. 7- أسباب البركة في الرزق. 8- النهي عن التناجي بالإثم والعدوان. 9- التحذير من الأعداء المندسّين في الأمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس, اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جلَّ جلاله: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لرَّزَّاقُ ذُو ?لْقُوَّةِ ?لْمَتِينُ [الذاريات:56-58]. فأخبرَنا تعالى أنّه الرزّاق لعباده، المتكفِّل برزقهم، فرزقُ العبادِ جميعًا بيد ربِّهم تعالى وتقدّس، لا بحولهم ولا بقوّتهم، فهو جلّ وعلا خلق الخلقَ وتكفَّل بأرزاقهم: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ?لأرْضِ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6]، وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ?للَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60].
وقد أمَرَنا تعالى أن نطلبَ الرزقَ منه: فَ?بْتَغُواْ عِندَ ?للَّهِ ?لرّزْقَ وَ?عْبُدُوهُ وَ?شْكُرُواْ لَهُ [العنكبوت:17].
والعبدُ يعلّق بالله أملَه، وثقتُه فيما عند الله أعظمُ من ثقتِه فيما بيده، فهو لا يؤمِّل في المخلوق، مهما علت منزلته وعظُمت قدرته، لا يعلِّق أملَه بأحدٍ من الخلق, وإنما يعلِّق أملَه بربّه، ويعلم أنّه لا مانعَ لما أعطى الله، ولا معطيَ لما منع الله، ولِذا في الأثرِ عن ابن عباس: (إنّ من ضعفِ اليقين أن تُرضيَ الناسَ بسخطِ الله، وأن تحمَدَهم على رزقِ الله، وأن تذمَّهم على ما لم يؤتك الله، إنّ رزقَ الله لا يجرّه حرصُ حريص، ولا يردّه كراهيةُ كاره) [1].
فما قدّر الله لك من الرّزق فإنّه حاصلٌ لك، وما صرفه عنك فلن تنالَه، والخلقُ لو اجتمَعوا على أن يوصِلوا إليك نفعًا ما أراد الله حصولَه لك لم يمكِن ذلك، ولو أرادوا أن يضرّوك بشيء ما قدّر الله ذلك فلن يستطيعوا لذلك سبيلاً.
أيّها المسلم، تفكّر في حِكمة الله أن جعَل البعضَ أغنياء والبعضَ فقراء وما بين ذلك، وَ?للَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى? بَعْضٍ في ?لْرّزْقِ [النحل:71]، قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ ?لرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ [سبأ:36].
وهذا مِن كمالِ حكمتِه جلّ وعلا، فهو العليمُ بمصالح عبادِه، المقدِّر لهم كيفَما شاء بكمال حكمته وكمال رحمتِه وكمال عدله، فأيّ أمرٍ صرِف عنك فاعلم أنّ لله حكمةً في ذلك، وأيّ شيء قدِّر لك فاعلم أنّ لله حكمة في ذلك.
أخي المسلم، فكن راضيًا بما قسَم الله لك، ولا تكن جزِعًا، ولا تكن طامعًا فيما بأيدي الناس، وإنما تكون ثقتُك بربّك جلّ وعلا، وقناعتك بما أعطاكَ الله.
أخي المسلم، والله حكيمٌ عليم في توسيع الرّزق وتضييقِه على بعض العباد، وفي الأثر: ((إنّ من عبادي من لو أغنيتُه لأفسدتُ عليه دينَه، وإنّ من عبادي من لو أفقرتُه لأفسدتُ عليه دينَه)) [2] ، قال جلّ وعلا: وَلَوْ بَسَطَ ?للَّهُ ?لرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ في ?لأَرْضِ وَلَـ?كِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء [الشورى:27].
أخي المسلم، ليسَ المهمّ أن يكثرَ المال ويتّسِع الغنى، المهمّ أن يجعلَ الله في قلبك قناعةً ورضًا بِقَسْم الله, وأن تطمئنَّ نفسك بذلك، فكم من مالٍ أشغل أهلَه عمّا يجِب عليهم، وصدَّهم حتى عن مصالحِ أنفسهم ومصالح أولادهم، وكم من مالٍ أشقى أهلَه، فحملهم على الطغيان والأشَر والبطر، وأفقدهم قوّة الإيمان, وجعلهم يشتغلون بالحطام الفاني عمّا فيه خيرُهم وصلاحهم في دينهم ودنياهم.
أيّها المسلم، تأمّل قولَ النبيّ : ((ليسَ الغِنى عن كثرةِ العَرَض، إنما الغِنى غِنى النّفس)) [3]. فمن أغنى الله قلبَه, ورزقه الطمأنينةَ والرضا بما قسَم الله له, وبذل الأسبابَ النافعة، فإنّه يعيش مطمئنًّا قريرَ العين مرتاحَ البال, ومن فقَد ذلك عاشَ في همّ وغمّ ولو اجتمعَت له الدنيا بأسرها.
أخي المسلم، لا تلهيَنَّك الدنيا بزخارفها، ولا تشغلنَّك ملذّاتها. وكن ـ يا أخي المسلم ـ متبصّرًا في أمرك، ناظرًا إلى من هو دونك في الرّزق والعافية، فإنّ نظرَك إلى من هو دونك يعطيك قناعةً بقسْم الله، وإن نظرتَ إلى مَن هو أعلى مِنك ازدريتَ نعمةَ الله عليك، كما أخبر بذلك النبيّ [4].
أخي المسلم، ليكن عندَك ميزانُ صدقٍ تعرف به الحلالَ من الحرام، وتميّز به الخبيثَ من الطيّب، فلا يهولنَّك الحرام وإن كثر، قُل لاَّ يستوي ?لْخَبِيثُ وَ?لطَّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ?لْخَبِيثِ [المائدة:100].
أخي المسلم، الله جلّ وعلا أمرك بطلبِ الرّزق, وأمرك بالأخذ بالأسبابِ التي تحصِّل لك المقصود: فَ?مْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ?لنُّشُورُ [الملك:15]، ويقول جلّ وعلا: وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ في ?لأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ?للَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَـ?تِلُونَ في سَبِيلِ ?للَّهِ [المزمل:20]، فقرن بينَ الأمرين، بين الضاربين ابتغاءَ فضلِ الله، وبين الساعين في الجهادِ في سبيل الله. فطلبُ الرزق وابتغاؤه والأخذ بالأسباب أمرٌ مطلوب شرعًا، ولكنّ المسلم أسبابُ طلب الرزق عنده بالطّرق التي أباحها الشرع له، أمّا الأسباب المحرّمة فإنّه يبتعِد كلَّ البعد عنها. المسلم يطلب الرزقَ لكن بالطّرق المأذونة شرعًا، ويبتعِد عن الطرق المحرّمة شرعًا.
أخي المسلم، مِن المكاسِب المحرّمة مكاسبُ الربا، فالمؤمن يتّقي الربا بكلّ أحواله، ولا يغرّنَّه أن يكونَ الربا فيه المكاسب العظيمة، فهو يتّقي الله قبلَ كلّ شيء, ويتذكّر قول الله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278، 279].
أيّها المسلم، المسلم يتّقي المكاسبَ الخبيثةَ كأكل أموالِ النّاس بالباطل من غشّ وتدليسٍ وخداع وأخذِ مالٍ بغير حقّ من سرقة جحودِ حقوق واجبة عليه مماطلةٍ بالحقّ الواجب عليه أداؤه، ولذا يقول الله: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُم بِ?لْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ?لْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ ?لنَّاسِ بِ?لإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُمْ بِ?لْبَـ?طِلِ [النساء:29].
ومِن أكل الباطل أخذُ الرشوة، وقد لعن رسول الله الراشي والمرتشي [5] ، باذلها وآخذها.
ومن أكلِ الحرام والمكاسبِ الخبيثة الاتّجار بالمحرّمات التي حرّمها الشارع, من خمور ومخدّراتٍ وغير ذلك من كلّ ما حرّم الشارع التعاملَ به، فالمسلم يتّقي التجارةَ المحرمة، ويبتعِد كلّ البعد عنها لتكون مكاسبه طيبة، ((إنّ الله طيب لا يقبَل إلا طيبًا، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ?لطَّيّبَـ?تِ [المؤمنون:51] ، وقال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـ?كُمْ [البقرة:172]، ثم ذكر رسول الله الرجلَ يطيل السّفرَ أشعث أغبرَ رافعا يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام, وملبسُه حرام، ومشربه حرام، وغُذِي بالحرام: ((فأنى يستجاب لذلك؟!)) [6].
فاتّق الله في مكاسبك, وابتعِد عن كلّ مكسب خبيث، واسلُك الطرقَ التي أذِن الله لك فيها، واطلبِ الرزقَ من الأبواب التي شرع الله لك.
ولهذا المكاسبُ الطيّبة تتمثّل في أمور, فمنها: عملُ الرجل بيدِه، ولذا قال : ((أفضلُ الكسبِ عمل الرّجل بيده، وكلّ بيع مبرور)) [7] ، وَأَحَلَّ ?للَّهُ ?لْبَيْعَ وَحَرَّمَ ?لرّبَو?اْ [البقرة:275]. فعمل الإنسانِ وما يحصُل له من خيرات من عمله بيده هو أفضل المكاسب وأعلاها، ثم البيعُ المبرور الذي صدَق فيه البائع فلم يكذِب ولم يكتُم.
أيّها المسلم، عملُك بيدك خيرٌ لك من سؤال الناس أعطَوك أم منعوك.
ومن المكاسب الخبيثة أيضًا السؤال من غير حاجة، فلا تزال المسألة بالعبدِ حتى يلقى اللهَ وليسَ في وجهِه مزعةُ لحم [8].
فيا أخي المسلم، اسلك الطرقَ المشروعة والطرقَ النافعة، وابتعِد عن المكاسب الخبيثة, واطلب الرزقَ من أبوابه, وكن قانعًا بما قسم الله لك راضيًا بذلك، واحذَر أن تكونَ كلاًّ وعالة على غيرك، وقد يسّر الله لك الأمر, وهيَّأ لك من قوّة البدَن والفِكر ما تطلُب به الرزق, فإنّ طلبَ الرزق عزّة وكرامة، وسلوك الطريق المشروع عون لك على كلّ خير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] لم أقف عليه من كلام ابن عباس، وأخرجه عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا البيهقي في شعب الإيمان (1/221) وأعلّه بمحمد بن مروان السدي، وأبو نعيم في الحلية (5/106) وقال: "غريب", وضعّفه المناوي في فيض القدير (2/539)، وأخرجه بنحوه من حديث ابن مسعود مرفوعًا وموقوفًا البيهقي في شعب الإيمان (1/221-222).
[2] جزء من حديث قدسي، أخرجه من حديث أنس بن مالك ابن أبي الدنيا في الأولياء (9)، وأبو نعيم في الحلية (8/318) وقال: "غريب من حديث أنس"، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/44) وضعفه، وأعلّه ابن رجب في جامع العلوم والحكم (359). وأخرجه من حديث عمر بن الخطاب الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (6/14)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/44) وضعفه.
[3] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: الغنى غنى النفس (5965)، ومسلم في الزكاة، باب: ليس الغنى عن كثرة العرض (1741) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في الزهد والرقاق، باب: حدثني زهير بن حرب (2963) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو عند البخاري في الرقاق (6490) بمعناه.
[5] أخرجه أحمد (2/164)، وأبو داود في الأقضية، باب: في كراهية الرشوة (3580)، والترمذي في الأحكام، باب: ما جاء في الراشي والمرتشي (1337)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه في الأحكام، باب: التغليظ في الحيف والرشوة (2313)، وابن الجارود في المنتقى (586)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (5077)، والحاكم (4/102-103)، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في الفتح (5/221)، والألباني في تخريج أحاديث المشكاة (3753).
[6] أخرجه مسلم في الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب (1686) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] مدار هذا الحديث على وائل بن داود واختلف عليه فيه: فأخرجه أحمد (3/466)، والطبراني في الكبير (22/197)، والحاكم (2158)، والبيهقي في الكبرى (5/236) وفي الشعب (1226) عن شريك عن وائل عن جميع بن عمير عن خاله أبي بردة، قال البيهقي: "هكذا رواه شريك بن عبد الله القاضي وغلط فيه في موضعين، أحدهما: في قوله: جميع بن عمير وإنما هو سعيد بن عمير، والآخر: في وصله وإنما رواه غيره عن وائل مرسلا". وأخرجه أحمد (4/141)، والبزار (3731)، والطبراني في الكبير (4/276)، والحاكم (2160)، والبيهقي في الشعب (1229) عن المسعودي عن وائل عن عباية عن رافع بن خديج، ونقل البيهقي عن الإمام أحمد قوله: "رواه المسعودي عن وائل فغلط في إسناده". وأخرجه البزار (3798) عن شريك عن وائل عن جميع بن عمير عن عمه البراء، والمحفوظ عن شريك ما تقدم. وأخرجه البيهقي في الشعب (1226) وفي الكبرى (5/263) عن الثوري عن وائل عن سعيد بن عمير عن عمه البراء، وصححه الحاكم (2159)، لكن المحفوظ عن الثوري الإرسال كما سيأتي. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (4/554) عن أبي معاوية، والبيهقي في الشعب (1225) عن الثوري كلاهما عن سعيد بن عمير مرسلا، قال البيهقي في الكبرى (5/263): "هذا هو المحفوظ مرسلا"، ونقل في الشعب عن البخاري قوله: "أسنده بعضهم وهو خطأ"، وقال أبو حاتم كما في العلل لابنه (2/443): "المرسل أشبه". وللحديث شاهد عن ابن عمر، أخرجه الطبراني في الأوسط (2140)، قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/391): "هذا حديث باطل، وقدامة ليس بقوي"، وقال المنذري في الترغيب (2/334): "رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات"، وقال الحافظ في التلخيص (3/3): "رجاله لا بأس بهم". وفي الباب أيضا عن علي، أخرجه ابن عدي في الكامل (2/65)، قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/390): "هذا الحديث بهذا الإسناد باطل، بهلول ذاهب الحديث".
[8] كما أخبر بذلك النبي فيما أخرجه البخاري في الزكاة، باب: من سأل الناس تكثرًا (1475)، ومسلم في الزكاة، باب: كراهة المسألة للناس (1040) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله, صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، بركةُ الرزق ليست بكثرتِه، ولكن بركةُ الرزق أمرٌ يجعله الله في قلبِ العبد، فيرضَى بما قسَم الله له، ((قد أفلح من أسلم, ورزِق كفافا,ً وقنّعه الله بما آتاه)) [1].
أيّها المسلم، جاء في الكتابِ والسنّة بيانُ أسبابِ بركةِ الرزق، فالرّزق قد يبارك للعبد فيه، وقد لا يبارَك للعبد فيه، قد يعطَى مالاً كثيرًا، ولكن ينزع الله البركةَ منه، فلا ينفعه ولا يفيده، يَمْحَقُ ?للَّهُ ?لْرّبَو?اْ وَيُرْبِى ?لصَّدَقَـ?تِ [البقرة:276].
أيّها المسلم، إنّ من أسباب بركةِ الرّزق تقوَى الله جلّ وعلا في كلّ الأحوال، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ [الأعراف:96]، ويقول موسى عليه السلام في دعائه: رَبّ إني لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24].
ومِن أسبابِ بركة الرزق صلةُ الرحم، ففي الحديث: ((من أحبَّ أن يُنسَأ في أثره ويبسَط له في رزقه فليصِل ذا رحمِه)) [2].
ومن أسباب بركة الرزق الإنفاق في وجوه الخير والصدقةُ على المساكين والمُعوِزين، قال تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ?لرَّازِقِينَ [سبأ:39].
وأحسِن إلى عبادِ الله يحسِن الله إليك، قال تعالى: وَأَحْسِنُواْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، ((ومن فرّج عن مسلم كربةً من كرَب الدنيا فرّج الله عنه كربة من كرَب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة)) [3].
فبركة الرزق في الدنيا أن يخلفَ الله عليك عوضَه، وبركته في الآخر ما ينالك من الثواب العظيم، في يومٍ أنت أحوج فيه إلى مثقال ذرّة من خير.
أيّها المسلم، إنّ الله جلّ وعلا حذّر المسلمين من أن يكونَ نجواهم فيها بينهم ظلمًا وعدوانًا، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَـ?جَوْاْ بِ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ ?لرَّسُولِ وَتَنَـ?جَوْاْ بِ?لْبِرّ وَ?لتَّقْوَى? وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المجادلة:9، 10].
أيّها المسلم، فالمسلمون فيما بينهم سرًّا وعلانية أمرُهم واضح ومنهجُهم سليم وسرّهم وعلانيتهم على وفق واحد, فإنّ إيمانهم صادق ظاهرًا وباطنًا، وأخلاقُهم أخلاقُ الصّدق، وأعمالهم أعمالُ الحقّ، ترى أعمالَهم واضحة, وترى أمورَهم جليّة، لا يظهِر لك أمرًا ويخفي عليك غيرَ ذلك، ولذا قال الله لهم: إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَـ?جَوْاْ بِ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ ، لا تكن مناجاتُكم وأحاديثكم وأمورُكم إثمًا وعدوانًا, فإنّكم إذا تناجيتُم بالإثم والعدوان صِرتم سببَ شرّ وبلاء, بل تكون لقاءاتكم دائمًا لقاءاتِ خير ولقاءات برّ وتعاونٍ على كلّ خير تسعد به الأمّة في حاضرها ومستقبلها.
أمّا أولئك المندسّون بين الأمّة، الذين امتلأت قلوبهم مرضًا وحقدًا على الإسلام وأهله، فهؤلاء تراهم في الظاهر معك، ولكن في باطنِ أمورهم يتناجَون بالإثم والعدوان, مناجاتُهم فيما يخطّطونه وفيما يبرِمونه من مؤامرة ضدَّ الإسلام وأهله، إنهم إن لم يُعلَم بهم فهم في غيّهم وفي ضلالهم وفي كيدِهم للإسلام وأهله. فهم ـ والعياذ بالله ـ قلوبٌ مريضة، لا تطمئنّ ولا تهنأ إلا بالمكيدة للإسلام وأهله، الحقدُ ملأ قلوبهم, وطاعةُ الأعداء حكمتهم، ومدُّهم يدَ العون مع الأعداء جعلتهم يعيشون في هذا المستنقَع السيّئ.
أيّها المسلم، فلا يليق بك أن تتآمرَ ضدَّ أمّة الإسلام، ولا أن تبغيَ للإسلام وأهله الغوائل، ولا يليق بك أن تكونَ مجالسك الخاصّة مجالسَ سوء ومجالسَ تعاونٍ على الإثم والعدوان.
أولئك الذين يختفون عن أنظار النّاس، وإنما يطيب لهم ما يطيب لهم عندما يجتمِعون فيما بينهم، فحدِّث ما شئتَ عن مكرِهم وخِداعهم، ولكنّ اللهَ بالمرصاد لمن أراد السوء، وَلاَ يَحِيقُ ?لْمَكْرُ ?لسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر:43]. فهؤلاء ـ والعياذ بالله ـ لا خيرَ فيهم، ولكنّ الله يفضحُهم ويهتك أستارهم؛ لأنّ أمرهم خطير وشرّهم مستطير.
إذن فالمسلم لا يليقُ به أن يكونَ مع هؤلاء، ولا يصاحب هؤلاء، ولا يجالس هؤلاء، ولا يركن إلى هؤلاء الذين في قلوبهم حِقد على الإسلام وأهله، بل هو ينصَح لله, وإذا تناجى فستسمع في نجواه أمرًا بخير، لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـ?حٍ بَيْنَ ?لنَّاسِ [النساء:114].
أمّا الذين تناجيهم أمرٌ بشرّ وتنظيم ضرر ومؤامرة دنيئة ومحاولة على ضرب الإسلام وأهله فإنّ هذه الملتقياتِ ملتقياتُ إثم وعدوان، المسلم يربَأ بنفسه عن هؤلاء وعن صُحبة أولئك وعن إعانة أولئك وعن السّكوت والتغاضي عن أولئك.
هؤلاء لا خيرَ فيهم، وليس عندهم خيرٌ ولا صلاح, ولكنّهم قوم خدِعوا وانخدَعوا وضعُف الإيمان في قلوبهم, فأصبَحوا آلةً بأيدي أعدائهم لمكيدةِ الإسلام وأهله، ولكنّ الله تعالى لا يصلح عملَ المفسدين الذين يحاوِلون الإفسادَ في الأرض بأيّ أنواع الفساد، الله لا يصلح أعمالهم, ولا يوفّقهم لأنهم أهلُ مكرٍ وخداع وتناجٍ بالباطل، فأعمالهم يخفونها عن النّاس؛ لأنّ كلاً يشجب أفعالهم, ويعلم سوءَ نواياهم وقبحَ ما يريدون، فالمسلم موقفُه من أولئك موقفٌ يشجب كلّ هذه الأحوال، ويكرهها ويكرَه أهلَها، ولا يتستّر على أحدٍ منهم، ولا يرضى عن أحدٍ منهم، وإنما ينصَح إن قبلوا النصيحة, ويحذّرهم مِن هذه المؤامرات الدنيئة إن يكن في قلوبهم بقيّة من إيمان, وإلاّ فإنه لا يتستّر عليهم، ولا يرضى بأحوالهم، إذِ الإيمان يمنع المؤمنَ من الفساد وأهله، والله ذكر عن المنافقين بقوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
أجل، إنّ هؤلاء مفسدون في الأرض، تناجَوا على الإثم والعدوان, والتقَت مجالسهم على الشرّ والبلاء والمكيدة للإسلام وأهله، ولكنّ الله جلّ وعلا حكيم عليمٌ فيما قضى وقدّر، سلّط الله على أولئك من هتَك أستارهم وكشف عيوبهم وأوضح باطلَهم, وأخزاهم الله, والله على كلّ شيء قدير.
فيا أيّها المسلم, كن واثقًا بالله، حريصًا على دينك قبل كلّ شيء, ثم حريصًا على أمنِ أمّتك وسلامتها، ولا تمكّن للفسّاق والأراذل الأمرَ، ولا تعِنهم على باطِلهم، وحذّر أبناءك وإخوانَك ومن تتّصِل بهم من هذه الأكاذيب والأباطيل وهذه المكايد والخيانات التي لا يرضى بها المسلم، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
أسأل الله تعالى أن يثبتنا وإياكم على دينه، وأن يذلّ من في ذلّه عزّ الإسلام وأهله، وأن يعيذنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعَة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمرَكم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في الزكاة، باب في الكفاف والقناعة (1054) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[2] أخرجه البخاري في الأدب، باب: من بسط له في الرزق بصلة الرحم (5986)، ومسلم في البر والصلة، باب: صلة الرحم (2557) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في الذكر، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/2863)
منهاج الإصلاح النبوي في حديث: ((لا تحاسدوا...))
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, أخلاق عامة, مساوئ الأخلاق, مكارم الأخلاق
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
3/6/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كمال الشريعة الإسلامية في جميع جوانبها. 2- إهمال الحضارة المادية المعاصرة لجانب الروح. 3- خطورة الحسد وعاقبته وعلاجه. 4- النجش ومفهومه العام. 5- الحثّ على سلامة الصدور. 6- الحثّ على الأخوة الإسلامية. 7- التحذير من الظلم بشتى صوره. 8- ذمّ الكبر والحثّ على التواضع. 9- حرمة دم المسلم وماله وعرضه.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أيّها المسلمون، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعروَة الوثقى، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم [الحديد:28].
واعلَموا أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله, وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها, وكلّ محدثة بدعة, وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النّار، أعاذنا الله وإيّاكم منها.
وبعد: أمّةَ الإسلام، إنّه لم تأتِ شريعة أو نظام في قديم أو حديثٍ أشمل وأكمل من شريعة الإسلام التي عالجَت قضايا المادّة والروح وأتَت بصلاح الدّين والدّنيا، في توازن عميق وشمولٍ دقيق، ذلك أنّ الشارع سبحانه خالق البشرِ وعالمٌ بأحوالهم وما يصلحهم, وهذه الحضارة الحديثة مع وصولها إلى ما لم يوصَل إليه من قبل من جهة المادة إلا أنّها أغفلت جانبَ الروح في بني الإنسان، وعجزت عن بناء المجتمع المثاليّ والفردِ النبيل، بل أثبتَ الواقع المعاصر أنّ أبلغَ الناس ظهورًا في الحضارة المادّية هم أحطّ وأرذل الناس في الحضارة الأخلاقية، بل والإنسانية، وما ذاك إلاّ لخوائِهم من الإيمان.
أيّها المسلمون، لقد نسيت هذه الحضارة أيضًا أنّ البشر ليسوا جماداتٍ ولا تروسًا في آلات، مهما توفّرت أسباب المادة وترفها وتطوّرت التّقانات والخدمات فإنّ البشرَ يبقَون بشرًا، لهم رغبات وأهواء ونزعاتٌ وتطلّعات, يحبّون ويكرهون، يوالون ويعادون، يغارون وينافِسون، جُبلت النّفوس على حبّ الخير لذاتها وجلبِ النفع لها، كما جبِلت على حبّ التملّك والسيطرة والاستحواذِ على ما تشتهيه.
إلا أنّ الإسلامَ بشموله وكماله وجلاله وجمالِه هذّب هذه الطبائعَ، وسمَا بالنفوس بأحكام وشرائع، جعلها على مستوى الكمال, فجاءت التّوجيهات الربّانية والإرشادات النبويّة بكلّ ما يهذّب النفوسَ والأخلاق، ويهدي للتي هي أقوم وأحسن وأكمل وأفضل, فأمرنا الله تعالى بصلةِ الأرحام وبرّ الوالدين والعطفِ على المسكين ومساعدة المحتاج وكفِّ الظلم ودفع الضرر ورفعه وبذل النّدى وكفّ الأذى والأمر بالمعروف وإفشاء السلام ونشرِ المحبّة بين المسلمين، كما نهانا عن الغشّ والخديعة والحسد والغيبة والنّميمة والأخلاق الرذيلة والتعدّي على الآخرين في أنفسهم وأموالهم أو وأعراضهم أو دينهم وفكرهم. وبالجملة، فقد أتى الإسلام بكلّ ما يحفظ ترابطَ المجتمع ويكفل حقوق أفراده.
إنّ الإسلام ينشد إقامةَ المجتمع المتماسِك الطّاهر من الأثَرَة وحبّ الذات؛ ليكونوا أمّة فاضلة سليمةَ الصدور والنفوس مهذّبة المشاعر طاهرةَ القلوب كما كان الجيل الأوّل, سلامةٌ في المنهج والسيرة، وطهارة في القلب والسّريرة، وإليكم ـ رعاكم الله ـ كلماتٌ يسيرة مِن جوامع كلِم النّبي ، تصلح أن تكونَ منهاجَ أمّة وإن كانت أحرفًا معدودة.
روى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تحاسَدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقِره، التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ ، بحسْب امرئ من الشرّ أن يحقرَ أخاه المسلم، كلّ المسلم على المسلم حرام دمُه وماله وعرضه)) رواه مسلم [1].
سبحان الله! كم جمَعت هذه الكلمات اليسيرةُ من معانٍ عظيمة وتوجيهات كبيرة، فأوّلها النهي عن الحسَد الذي هو تمنّي زوال النعمة عن الآخرين، وهو محرّم ومذموم بالكتاب والسنة، وهو أوّل ذنبٍ عُصي به الله حين حسَد إبليس آدم، ولم يزل به حتى أخرجه من الجنّة، فبالحسد لعِن إبليس وجعل شيطانًا رجيمًا.
الحسدُ خلُق اليهود والمشركين، إذ عادَوا رسولَ الله وكفَروا برسالته وهُم يعلمون أنّها الحقّ حسدًا من عند أنفسهم، وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ?لْحَقُّ [البقرة:109].
الحاسدُ معترِض على قضاء الله وقدرِه حيث لم يرضَ بما قسم الله له ولغيره، وهو دليل على قُبح النّفس وسوء طبعها، أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ ?لْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ ?لنَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ ?لنَّاسَ عَلَى? مَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْر?هِيمَ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَءاتَيْنَـ?هُمْ مُّلْكًا عَظِيمًا [النساء:53، 54].
الحاسدُ في حسَده في غمّ لا ينقطِع ومصيبةٍ لا يؤجَر عليها ومذمّة لا يحمَد عليها، يسخط عليه ربّه فيغلِق عليه بابَ التوفيق.
أيّها المسلمون، إنّ الغيرةَ مركوزة في طباع البشر, ولا شكّ أنّ من رأى خيرًا تمنّى أن يكون ذلك له، وإنّما اللوم في البغي بالحسد، وهو كراهة النّعمة الواصلة إلى المحسود أو تمنّي زوالها، ويعظم الذنبُ إذا قارن ذلك غيبةٌ ونميمة ووِشاية وسعي لإزالة هذه النعمة.
أيّها المسلمون، الحسَد يأكل الحسناتِ كما تأكل النّار الحطب، كما يأكل القلبَ أيضًا، وفي منثور الحِكم: عقوبةُ الحاسِد من نفسِه.
ومن الناس من إذا رأى نعمةً ذكر الله تعالى بقلبِه، فذكره بلسانه، وتبعَ السنّة, ودعا بالبركة، وسأل الله الكريمَ من فضله، فيهذِّب بهذا نفسَه، ويصلح قلبَه وطباعه، ويريح خاطرَه، فيأجره الله تعالى ويرزقه. ومِن النّاس من يخذله الشيطان حتى يتّصف بصفتِه فيحرِق نفسَه ويموت بغيظه، لا أجرًا حصّل، ولا مجدًا أثّل.
للمبتلَى بداء الحسد، لماذا كلّ هذا؟! هل نسيتَ أنّك مسلم تؤمن أنّ الله تعالى قسم الأرزاق بين خلقه، فمنهم ذو السعة، ومنهم من قدِر عليه رزقه، رفع بعضهم فوقَ بعض درجات ليتّخذ بعضهم بعضًا سخريًّا, ورحمة ربّك خير ممّا يجمعون.
هذه سنّة الله في خلقه، ومَن أراد السلامةَ في دينه والطمأنينةَ في قلبه ورضا ربّه فليلاحظ نفسه وليطهِّر قلبه وليقنَع بما قسم الله، وليسأل الله تعالى من فضله، فهو سبحانه الذي يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، يعزّ من يشاء، ويذلّ من يشاء، خزائن ملأى، وعطاؤه واسع.
إخوةَ الإسلام، وكما نهى النبيّ عن الحسَد فقد نهى عن كلّ ما يوغِر الصدور ويؤذي الآخرين، فنهى عن النجش بقوله: ((ولا تناجشوا)) ، والنجَش هو المزايدَة على السلعة لقصدِ رفع ثمنِها لا لقصد الشّراء, لأنّ في هذا غشًّا وتغريرًا بالمشتَرين، ولكنّ معنى النّجش أعمّ من ذلك، فإنّ أصله إثارة الشيء بالمكر والحيلة والمخادعة, فيكون معناه: لا تخادِعوا، ولا يختل بعضكم بعضًا بالمكر والاحتيال، لأنّ في هذا ضررًا على المسلمين وغشًّا لهم، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنّ النبيّ قال: ((من غشّنا فليس منّا، والمكر والخداع في النار)) رواه الطبراني بسند صحيح [2].
ثمّ نهى النبيّ عن التباغض والتدابر, خصوصًا على أهواءِ النفوس؛ لأنّ الله تعالى جعل المسلمين إخوةً متحابّين, وجعل المحبّة دليلَ الإيمان، ففي صحيح مسلم أنّ النبيّ قال: ((والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمِنوا حتى تحابّوا، ألا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلامَ بينكم)) [3].
لذلك حرّم الإسلام كلَّ ما يوجب التنافرَ ويوقع العداوةَ والبغضاء, فحرّم الخمرَ والميسر والغيبة والنّميمة والبيعَ على بيع المسلم والخطبة على خطبته, كما حرّم الظلمَ والكذب واحتقارَ الآخرين، وامتنّ الله تعالى عباده بقوله: وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]. كما رغّب سبحانَه في صلاح ذاتِ البين فقال: فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ [الأنفال:1]، وقال سبحانه: لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـ?حٍ بَيْنَ ?لنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ ?بْتَغَاء مَرْضَـ?تِ ?للَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].
أيّها المسلمون، الكراهية والبغضاءُ والأحقاد والضّغائن مرضٌ في القلب فاتِك وداء مردي إذا فشا في الأمّة أفسدها، وأحال تعاملَ المجتمع قَسوة وعنادًا، يقطعون ما أمر الله به أن يوصَل ويفسدون في الأرض، وقد تذكيها سياساتٌ مقيتة أو تسلّط وظلم أو طَمع وجشَع أو حسد نبَت في ظلّ غياب الإيمان، وهو منافٍ للأخوّة التي جاء بها الدين وموافق لهوى الشيطان الرجيم، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنّ الشيطانَ قد أيِس أن يعبدَه المصلّون في جزيرة العرب, ولكن في التحريش بينهم)) رواه مسلم [4].
عبادَ الله، سلامَة الصدور هدأةٌ للنفس وهناء في العيش وراحة في البال وطريق إلى الجنّة، وقد شهِد النبي لرجل من الأنصار ثلاثَ مرّات أنّه من أهل الجنة، فلمّا سأله عبد الله بن عمرو قال: ما هو إلا ما رأيتَ، غير أنّي لا أجِد في نفسي لأحدٍ من المسلمين غِشًا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، قال عبد الله: هذه التي بلغَت بك [5].
ولهذا كان مِن صفات المؤمنين الأبرار الذين يخلفون المهاجرين والأنصار ما جاء في كتاب ربنا: وَ?لَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ?غْفِرْ لَنَا وَلإِخْو?نِنَا ?لَّذِينَ سَبَقُونَا بِ?لإيمَـ?نِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10]. فكيف يكون مؤمنًا من يحمِل في قلبه العداوةَ والبغضاء لإخوانه المسلمين، فضلاً عن علمائهم وصالحيهم ودعاتهم ومصلحيهِم؟! أم كيف يكون مؤمنًا مَن يتعبّد بكراهية خيارِ الأمّة وبغض أصحاب الرسول أو السلف الكرام؟!
عبادَ الله، ثمّ قال النبيّ الكريم عليه الصلاة والتسليم: ((وكونوا عباد الله إخوانًا)). نعم، إنّ الأمّة لا تكون أمّة عزيزة منيعة حتى ترتبِط بروابط الدين وتحقّق معنى الأخوّة الإسلامية التي لا تحقّقها شعارات جاهلية, ولا ولاءات حزبية، ولا مصالح زائلة، بل تحقّقها مبادئ الإسلام السامية, الإسلام الذي آخى بين المؤمنين على اختلاف شعوبهم وقبائِلهم ومراتِبهم، وجمع قلوبَهم، فعزّوا بذلك وسمَت نفوسهم فوقَ مبادئ الطبقية، وعلت همَمهم على الفوارق الأرضية، فأصبحت الموازين سماويةً علوية، فكان الولاء للدّين، والمحبّة والنصرة لمن أسلم لربّ العالمين، ذهب الشحّ، وغلب الإيثار، وأحبّ كلّ مسلم لأخيه ما يحبّ لنفسه، فعامله بمقتضى ذلك.
بالأخوة الإسلاميّة يشارك المسلم إخوانَه المسلمين في أقطار الأرضِ أفراحَهم وأتراحَهم، ويقاسمُهم آمالهم وآلامهم. بالأخوّة تجتمع الكلمة، ويتوحّد الصفّ، ويقوى التّلاحم، فتظهر قوّة الأمّة وعزّتها.
وأمر النبيّ بالأخوّة أمرٌ بأسبابها ومقتضياتها، من أداء الحقوق للمسلمين كافّة ومنعِ الأذى عنهم، وفي محاسن الإسلام ردُّ السلام وتشميت العاطس وعيادة المريض وإجابة الدعوة والمواساة وحفظ الغيب والهديّة ومساعدة المحتاج وتبسّمك في وجه أخيك صدقة والانكفاف عن المحرّمات كالغيبة والنّميمة وسوءِ الظنّ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10].
بارك الله لي ولكم في الكتابِ والسنّة، ونفعني وإيّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه, إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في البر والصلة، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله... (2564).
[2] أخرجه الطبراني في الكبير (10/138)، وأبو نعيم في الحلية (4/189)، والقضاعي في مسند الشهاب (354)، وصححه ابن حبان (567، 5559)، وجود إسناده المنذري في الترغيب (2/359)، وقال الهيثمي في المجمع (4/79): "رجاله ثقات وفي عاصم بن بهدله كلام لسوء حفظه"، وصححه الألباني في صحيح الجامع ( 6408).
[3] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: بيان أن لا يدخل الجنة إلا المؤمنون (54) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في صفة القيامة والجنة والنار، باب: تحريش الشيطان... (2812).
[5] أخرجه أحمد (3/166)، والبيهقي في الشعب (6605)، وابن عبد البر في التمهيد (6/121-122) من طريق عبد الرزاق، وابن المبارك في الزهد (694)، ومن طريقه النسائي في اليوم والليلة (863) كلاهما عن معمر عن الزهري عن أنس رضي الله عنه، هكذا رواية ابن المبارك، ورواية عبد الرزاق: "أخبرني أنس"، وقد أُعلّ هذا الطريق قال حمزة الكناني كما في النكت الظراف (1/394 ـ تحفة الأشراف ـ): "لم يسمعه الزهري عن أنس"، وقال البيهقي: "هكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: أخبرني أنس، ورواه ابن المبارك عن معمر فقال: عن الزهري عن أنس، ورواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال: حدثني من لا أتهم عن أنس... وكذلك رواه عقيل بن خالد عن الزهري"، ومشى المنذري في الترغيب (3/348) على ظاهر الإسناد فصححه على شرط الشيخين، وقال ابن كثير في تفسيره (4/339) بعدما ساق طريق أحمد: "ورواه النسائي في اليوم والليلة عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن معمر به، وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين، لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري عن رجل عن أنس، والله أعلم"، فأشار إلى العلة المذكورة، وأعله أيضا ابن حجر في النكت الظراف (1/394-395 تحفة الأشراف)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1728، 1729).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، الرّحمن الرّحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحقّ المبين، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله الهادي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: ويمضي التوجيهُ النبويّ الكريم في هذا الحديثِ الجامع العظيم نهيًا عن رذائلِ الأخلاق التي توقع بين المسلمين الشقاق, وتنافي معانيَ الأخوّة، فينهى النبيّ عن الظلم والكذب واحتقار الآخرين.
فالظلم ظلمات يومَ القيامة، حرّم الله تعالى الظلمَ على نفسه، وجعله محرّمًا بين عباده. وعد بإجابة دعوة المظلوم، وتوعّد بعقاب الظالم, وكم رأى النّاس في مصارع الظالمين عجبًا، وفي مآل أمورهم عِبرًا. وسواء كان الظلمُ مِن دوَلٍ أو حكّام أو مسؤولين أو بين عامّة. فليتقّ اللهَ كلَّ مَن ولاه الله أمرَ ضعيف، مِن خادم أو عاملٍ أو يتيم أو كانت له ولاية، فإنّ الجبار سبحانه يُملي للظالم حتى إذا أخذَه لم يفلِته.
إنّ الحيف والظلمَ وسلب الحقوق وإهدارَ الكرامات مبعثٌ للشقاء ومثار للفتن, وإذا فشا الظلم والتظالم في المجتمع كان بداية السقوطِ والزوال، أو أن يتسلّط عليهم جبروتُ الأمم فيذيقهم من مرارَة العبوديّة والإذلال ما هو أشدّ من مرارة الانقراض والزوال.
عبادَ الله، وفي حديث النبيّ العظيم النهي عن الكذب الذي من اتّصف به كان حقيرًا، وعند الله والناس دنيئًا صغيرًا, صفةٌ يكرهها الرحمن وتنافي الإيمان، إِنَّمَا يَفْتَرِى ?لْكَذِبَ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَـ?تِ ?للَّهِ [النحل:105]. أمّا المؤمن الصادق فهو كريم الطباع، مأمونُ الجناب، مرموقٌ بالمحبة والإجلال, يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119]. والصدق يهدي إلى البرّ والجنّة, ويرفع صاحبَه إلى مرتبة الصديقين مع الأنبياء والصالحين.
أمّا احتقار المسلمين فدناءةٌ في النفس وكِبر في القلب، وفي صحيح مسلم: ((الكبرُ بطر الحقّ وغَمط الناس)) [1] أي: احتقارُهم, وهو صِفة الشيطان ومانعٌ من الهداية، سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَـ?تِي ?لَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ?لأرض بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا [الأعراف:146]، وما مِن خُلق ذميم إلاّ والكبرُ يجرّ إليه.
فاتّقوا الله عبادَ الله، وتواضعوا لخلق الله، فالله أعلم بمن اتقى، ورُبّ ضعيف مستضعَف أشعث أغبر ذي طمرين مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبرّه، فلا تحقرنَّ مسلمًا ولو كان مقصّرًا. وفي صحيح مسلم: ((بحسْب امرئ من الشرّ أن يحقرَ أخاه المسلم)). ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَى? أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء عَسَى? أَن يَكُنَّ خَيْرًا مّنْهُنَّ [الحجرات:11]، فالميزان عند الله والكرامة بالتقوى والديانة، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13], فليست التقوى ادعاءً أو تصنُّعًا ورياءً.
وأشار النبيّ إلى صدره ثلاثَ مرات وهو يقول: ((التقوى ها هنا)) ، وإذا وُجدت التقوى في القلب ظهَر أثرُها على العمل والجوارح.
ثم يُختم الحديث بقاعدةٍ عظمَى من قواعدِ الإسلام: ((كلّ المسلم على المسلم حرامٌ دمُه وماله وعرضه)). وكفى بهذه العبارة بلاغًا، إنّ حرمةَ المسلم عند الله عظيمة, وعاقبة التعدّي عليه وخيمة، فمهما أخطأ أو قصّر تعمّد أو تأوّل لا يحلّ دمه وعرضه وماله، فكلّ ذلك معصوم إلا بكتاب الله، والتساهلُ في ذلك أو الاجتهادُ فيه بلا علم بابُ شرّ وفتنة وبلاء ومصيبة، عافانا الله وإياكم.
عباد الله، إنّ من أفضل أيامكم يومَ الجمعة، فأكثِروا فيه من الصلاة والسلام على خير البريّة وأزكى البشريّة محمّد بن عبد الله.
اللهمّ صلِّ وسلّم وزِد وبارك على عبدك ورسولك محمّد وآله وصحبه أجمعين، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...
[1] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه (91) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(1/2864)
أهمية التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
3/6/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النقص والخطأ من طبيعة البشر. 2- كتابة الله تعالى للحسنات والسيئات. 3- كثرة سبل الخير. 4- سدّ طرق الشرّ. 5- التوبة هي جماع الخير. 6- حقيقة التوبة. 7- فضل التوبة. 8- وجوب التوبة على كل مسلم. 9- سعة رحمة الله تعالى. 10- شدة فرح الله تعالى بتوبة عبده. 11- التوبة من صفات النبيين وعباد الله الصالحين. 12- حاجة المسلمين الماسة إلى التوبة. 13- شروط التوبة. 14- الاعتبار بقصص التائبين. 15- أهمية نعمة الأمن وسبيل الحفاظ عليها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ معشر المسلمين ـ حقَّ التقوى، فتقوى الله الجليل عدّة لكلّ شدّة، وحصنٌ أمين لمَن دخله، وجُنّة من عذاب الله.
واعلموا ـ عبادَ الله ـ أنَّ ربَّكم خلق بني آدم معرَّضًا للخطيئات، ومعرَّضًا للتقصير في الواجبات، فضاعف له الحسناتِ، ولم يضاعِف عليه السيِّئات، قال الله تعالى: مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِ?لسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأنعام:160]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إنّ الله كتب الحسناتِ والسيّئات، فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبَها الله عندَه حسنةً كامِلة، فإن عمِلها كتبها الله عندَه عشرَ حسنات، إلى سبعمائة ضِعف، إلى أضعافٍ كثيرة، فإن همَّ بسيّئة فلم يعملْها كتبَها الله حسَنة كامِلة، فإن عمِلها كتبها الله عنده سيِّئة واحدة)) رواه البخاري [1].
فشرَع الله لكسبِ الحَسَنات طرُقًا للخيرَات وفرائضَ مكفِّراتٍ للسيِّئات رافعةً للدّرجات، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((الصلواتُ الخمس والجُمعة إلى الجُمعة ورمضانُ إلى رمضان مكفِّرات لما بينهنّ إذا اجتُنِب الكبائر)) رواه مسلم [2] ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((أربعون خَصلةً أعلاها مَنيحَة العَنز، ما مِن عاملٍ يعمَل بخصلةٍ منها رَجاءَ ثوابِها وتَصديقَ مَوعودِها إلاّ أدخله الله بها الجنّة)) رواه البخاري [3] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: ((الإيمان بضعٌ وسبعون ـ أو بضعٌ وستون ـ شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطّريق، والحياءُ شعبَة من الإيمان)) رواه البخاري ومسلم [4] ، وعن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسولَ الله، أيُّ العمل أفضَل؟ قال: ((الإيمانُ بالله والجِهاد في سبيلِه)) ، قلتُ: أيُّ الرِّقاب أفضل؟ قال: ((أنفسُها عندَ أهلها وأكثرُها ثمَنًا)) ، قلتُ: فإن لم أفعل؟! قال: ((تُعين صانعًا أو تصنَع لأخرَق)) ، قلت: يا رسولَ الله، أرأيتَ إن ضعفتُ عن بعضِ العمَل؟! قال: ((تكفُّ شرَّك عن النّاس، فإنّها صدقةٌ مِنك على نفسِك)) رواه البخاري ومسلم [5] ، وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تحقرنَّ من المعروفِ شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طليق)) رواه مسلم [6] ، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنَّ اللهَ ليرضَى عن العبدِ أن يأكُل الأكلةَ فيحمَده عليها، أو يشربَ الشربة فيحمَده عليها)) رواه مسلم [7].
وكما شرع اللهُ كثرةَ أبوابِ الخير وأسباب الحسنات سدَّ أبوابَ الشرِّ والمحرَّمات، وحرَّم وسائلَ المَعاصي والسيِّئات، ليثقلَ ميزانُ البرِّ والخير، ويخِفَّ ميزانُ الإثمِ والشرِّ، فيكون العبد من الفائزين المفلحين، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَ?لإِثْمَ وَ?لْبَغْىَ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِ?للَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـ?نًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ الله يقول: ((ما نهيتُكم عنه فاجتنِبوه، وما أمرتُكم به فأتوا منه ما استطعتم)) رواه البخاري ومسلم [8].
وجِماع الخير ومِلاك الأمر وسببُ السعادة التوبةُ إلى الله تعالى، قال عزّ وجلّ: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
ومعنى التوبةِ هي الرجوعُ إلى الله والإنابةُ إليه مِن فعلِ المحرّم والإثم، أو مِن ترك واجبٍ أو تقصير فيه، بصدقِ قلبٍ ونَدمٍ على ما كان.
والتوبة النّصوحُ يحفَظ الله بها الأعمالَ الصّالحة التي فعَلها العبد، ويكفِّر الله تبارك وتعالى بها المعاصيَ التي وقعت، ويدفعُ الله بها العقوباتِ النّازلةَ والآتيَة، قال الله تعالى: فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ?لخِزْىِ فِى ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى? حِينٍ [يونس:98]. روى ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية عن قتادة قال: "لم ينفَع قرية كفرت ثمّ آمنت حينَ حضرها العذاب فتُرِكت إلاّ قوم يونس، لمّا فقدوا نبيَّهم وظنّوا أنّ العذابَ قد دنا منهم قذَف الله في قلوبِهم التّوبةَ، ولبِسوا المسوح، وألهَوا بين كلّ بهيمة وولدها ـ أي: فرّقوا بينهما ـ، ثمّ عجّوا إلى الله أربعين ليلة، فلمّا عرَف الله الصّدقَ من قلوبِهم والتّوبة والنّدامةَ على ما مضى منهم كشفَ الله عنهم العذابَ بَعد أن تدلَّى عليهم" انتهى [9].
وقال تعالى: وَأَنِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود:3].
والتوبةُ واجبَة على كلِّ أحدٍ مِن المسلمين، فالواقعُ فِي كبيرة تجِب عليه التّوبة لئلاّ يبغتَه الموتُ وهو على معصية، فيندم حين لا ينفع الندم، والواقعُ في صغيرةٍ تجِب عليه التّوبة لأنّ الإصرارَ على الصغيرة يكون من كبائر الذّنوب، والمؤدِّي للواجباتِ التاركُ للمحرّمات تجِب عليه التّوبة أيضًا لما يلحَق العملَ مِن الشّروط وانتفاء موانع قبوله، وما يُخشَى على العمَل من الشّوائب المحذَّر منها كالرّياء، عن الأغرّ بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يا أيّها النّاس، توبوا إلى الله واستغفِروه، فإنّي أتوب إليه في اليوم مائةَ مرّة)) رواه مسلم [10].
والتّوبة بابٌ عظيم تتحقّق بهِ الحسنات الكبيرةُ العظيمة التي يحبّها الله؛ لأنّ العبدَ إذا أحدَث لكلّ ذنبٍ يقَع فيه توبةً كثُرت حسناتُه ونقصَت سيّئاتُه، قال الله تعالى: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـ?لِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ ?للَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـ?تٍ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان:68-70].
أيّها المسلمون، تذكَّروا سعَةَ رحمةِ الله وعظيمَ فضلِه وحِلمِه وجودِه وكرمِه، حيثُ قبِل توبةَ التائبين، وأقال عثرةَ المذنبين، ورحِم ضعفَ هذا الإنسان المسكين، وأثابَه على التّوبة، وفتحَ له أبوابَ الطّهارة والخيرات، عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه عن النبيّ قال: ((إنَّ الله تعالى يبسُط يدَه بالليل ليتوبَ مسيء النّهار، ويبسط يدَه بالنّهار ليتوبَ مسيء الليل)) رواه مسلم [11].
والتّوبة من أعظمِ العبادات وأحبِّها إلى الله تعالى، من اتّصفَ بها تحقَّق فلاحُه وظهَر في الأمور نجاحُه، قال تعالى: فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحًا فَعَسَى? أَن يَكُونَ مِنَ ?لْمُفْلِحِينَ [القصص:67].
وكفى بفضلِ التّوبة شرفًا فرحُ الرّبِّ بها فرحًا شديدًا، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((للهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبدِه من أحدِكم سقَط على بعيره وقد أضلّه في أرض فلاة)) رواه البخاري ومسلم [12].
والتّوبة من صفاتِ النبيّين عليهم الصلاة والسلام ومن صفات المؤمنين، قال الله تعالى: لَقَدْ تَابَ الله عَلَى? ?لنَّبِىّ وَ?لْمُهَـ?جِرِينَ وَ?لأنصَـ?رِ ?لَّذِينَ ?تَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ ?لْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:117]، وقال تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام: قَالَ سُبْحَـ?نَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]، وقال تعالى عن داود عليه الصلاة والسلام: وَ?ذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ?لأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17]، وقال عزّ وجلّ: ?لتَّـ?ئِبُونَ ?لْعَـ?بِدُونَ ?لْحَـ?مِدُونَ ?لسَّـ?ئِحُونَ ?لركِعُونَ ?لسَّـ?جِدونَ ?لآمِرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?لنَّاهُونَ عَنِ ?لْمُنكَرِ وَ?لْحَـ?فِظُونَ لِحُدُودِ ?للَّهِ وَبَشّرِ ?لْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112]. ألا ما أجلّ صفةَ التّوبة التي بدَأ الله بِها هذه الصفاتِ المُثلى من صفاتِ الإيمان.
والتّوبة عبادةٌ للهِ بالجوارِح والقلب، واليومُ الذي يتوبُ الله فيه على العبدِ خيرُ أيّام العُمُر، والسّاعة التي يفتَح الله فيها لعبدِه بابَ التّوبة ويرحمُه بها هي أفضلُ ساعاتٍ في الدّهر؛ لأنّه قد سعِد سعادةً لا يشقى بعدها أبدًا، عن كعب بن مالك رضي الله عنه في قصّة توبَة الله عليه في تخلّفه عن غزوة تبوك أنّه قال: فلمّا سلّمتُ على رسول الله قال وهو يبرُق وجهُه من السّرور: ((أبشِر بخيرِ يومٍ مرّ عليك منذ ولدَتك أمّك)) رواه البخاريّ ومسلم [13].
معشرَ المسلمين، إنّها تُحيطُ بِكم أخطارٌ عظيمة، وتنذِركم خطوبٌ جَسيمة، وقد نزَل مِن أعداء الإسلام بالمسلمين نوازلُ وزلازل، وأصابتهُم الفتَن والمِحن، وإنّه لا مخرَجَ لهم من هذه المضايِق وهذه الكربَات إلاّ بالتّوبة إلى الله والإنابَة إليه، فالتّوبة واجبةٌ على كلّ مسلِم على وجهِ الأرض من الذّنوب صغارِها وكبارها؛ ليرحمَنا الله في الدّنيا والآخرة، ويكشِف الشرورَ والكرُبات، ويقيَنا عذابَه الأليم وبطشَه الشّديد.
قال أهلُ العِلم: إذا كانتِ المعصيةُ بينَ العبد وبين ربّه لا حقّ لآدميٍّ فيها فشروطُها أن يقلِعَ عن المعصيةِ وأن يندَمَ على فعلها وأن يعزمَ أن لا يعودَ إليها أبدًا، وإن كانتِ المعصيةُ تتعلّق بحقّ آدميٍّ فلا بدَّ مع هذه الشّروط أن يؤدّيَ إليه حقَّه أو يستحلّه منه بالعفو.
والتّوبة من جميع الذّنوب واجبَة، وإن تابَ من بعضِ الذّنوب صحّت توبتُه من ذلك الذّنب، وبقيَ عليه ما لم يتُب منه.
فتوبوا إلى الله أيّها المسلمون، وأقبِلوا إلى ربٍّ كريم، أسبَغَ عليكم نعمَه الظاهرةَ والباطنَة، وآتاكم من كلِّ ما سألتموه، ومدّ في آجالِكم، وتذكّروا قصصَ التائِبين المنيبين الذين مَنّ الله عليهم بالتّوبة النّصوح بعد أن غرقوا في بحارِ الشهوات والشّبهات، فانجَلت غشاوةُ بصائِرهم، وحيِِيَت قلوبُهم، واستنارت نفوسُهم، وأيقظهم اللهُ من موتِ الغفلةِ، وبَصّرَهم مِن عمَى الغَيّ وظلماتِ المعاصي، وأسعدَهم من شقاءِ الموبِقات، فصاروا مَولودِين من جَديد، مستبشرين بنعمةٍ من الله وفضل، لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَ?تَّبَعُواْ رِضْو?نَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174].
بسم الله الرحمن الرحيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ?للَّهُ ?لنَّبِىَّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى? بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـ?نِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَ?غْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التحريم:8].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعنا بهَديِ سيّد المرسلين وبقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستَغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين مِن كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الرقاق، باب: من همّ بحسنة أو بسيئة (6491) بنحوه، وأخرجه أيضا مسلم في الإيمان، باب: إذا هم العبد بحسنة (131).
[2] صحيح مسلم: كتاب الطهارة، باب: الصلوات الخمس... (233).
[3] صحيح البخاري: كتاب الجنة وفضلها، باب: فضل المنيحة (2631).
[4] أخرجه البخاري في الإيمان، باب: أمور الإيمان (9)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان (35) واللفظ له.
[5] أخرجه البخاري في العتق، باب: أي الرقاب أفضل؟ (2518)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله أفضل الأعمال (84) واللفظ له.
[6] أخرجه مسلم في البر والصلة، باب: استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء (2626).
[7] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء، باب: استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب (2734).
[8] أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله (7288)، ومسلم في الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر (1337).
[9] تفسير الطبري (11/171).
[10] صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب: استحباب الاستغفار (2702) بنحوه، ومرّة رواه عن الأغرّ عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[11] صحيح مسلم: كتاب التوبة، باب: قبول التوبة من الذنوب (2759).
[12] أخرجه البخاري في الدعوات، باب: التوبة (6309) واللفظ له، ومسلم في التوبة، باب: من الحض على التوبة... (2747).
[13] أخرجه البخاري في المغازي، باب: حديث كعب بن مالك (4418)، ومسلم في التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك (2769).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله العزيز الوهّاب، الذي خلق الأسباب, وقدّر المقادير، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن, لا إله إلا هو سريعُ الحساب. أحمد ربّي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له شهادةً مبرّأة من النفاق والارتياب، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله المنعَم عليه بأفضل كتاب، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله والأصحاب.
أمّا بعد: فاتّقوا الله تعالى وأطيعوه, فإنّ طاعته أقوم وأقوى, وتزوّدوا بهذه التّقوى لداركم الأخرى، فإنّها دار القرار، نعيمُها أبديّ, وعذابها سرمديّ, واشكُروا نعمَ الله عليكم بطلبِ رضوانِه وملازمة طاعتِه والبعدِ عن معصيته.
وأعظمُ النّعم نعمة الإسلام والإيمان, وما أجلَّ نعمةَ الأمن والأمَان. الأمنُ تنتظِم به مصالحُ الدّنيا والدّين، وتصلح به الحياةُ في جميع جوانبها, وتندفِع بوجودِه الشّرور والمخاوف عن النّاس، وتدرّ معه الخيرات، وقد امتنّ الله به على أهلِ بيته العتيق في قوله: أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا يُجْبَى? إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شيء رّزْقًا مّن لَّدُنَّا وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص:57].
وبيَّن النبيّ قدرَ نعمة الأمن وفضلَها بقوله: ((من أصبح منكم ءامنًا في سربه معافًى في جسده عنده قوت يومه فكأنّما حيزَت له الدّنيا بحذافيرها)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن" من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري الخطمي رضي الله عنه [1].
وشكرُ هذه النّعمة بالمحافظة على أسبابِها والحذرِ من أسباب اختلالها. ومن أسبابِ المحافظةِ على الأمن الأخذُ على يدِ العابثين بالأمن والاستقرار, من السّفهاء والفسّاق والمجرمين الذين يهدمون ولا يبنون, ويفسِدون ولا يُصلحون، ويفارقون جماعةَ المسلمين وإمامَهم، قد زيَّن لهم الشيطان صنيعَهم, ودفعهم إلى مزالقِ الشرّ أعداءُ بلادهم, الذين شوَّهوا صورةَ الإسلام, وحقّقوا مكاسبَ لأعداءِ الإسلام بهذه الأعمال التخريبيّة الإجراميّة الإرهابيّة التي تظهَر بين آونةٍ وأخرى.
فإنّ أمنَ بلدكم مسئوليّة الجميع، فمَن عُلم عنه التوجّهُ لهذا المسلك الخبيثِ والإعداد للإفساد في الأرض فيجِب رفعُ أمره للسّلطة, قبلَ أن يحدثَ شيء من الحدَث الذي يحقِّق أهدافَ أعداءِ الأمّة، ويحقّق أهدافَ أعداءِ البلاد.
وعلى الشّباب الذين غرِّر بهم أن يبصِروا مواقعَ أقدامهم، وأن يحذَروا كلَّ فكرٍ يخالف كتابَ الله وسنّة رسوله ، وأن لا ينخدِعوا لمن يدعو إلى هذا الفكرِ المنحرِف، وإن زعَم لنفسه ما زعم، أو ادَّعى له أحدٌ ما ادّعى، أو وصفه بما وصفه.
معشرَ الشّباب، خذوا العلمَ من كتاب الله ومن سنّة رسول الله على فهم السّلف الصّالح الذين جعلهم الله وسطًا بين الأمَم على يدِ الراسخين في العلم.
عبادَ الله، إنّ الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال عزّ من قائل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاة واحدةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
اللهمَّ وارضَ عن الصّحابة أجمعين...
[1] سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد (300)، وابن ماجه في الزهد، باب: القناعة (4141)، والحميدي في مسنده (439)، وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم، ولذا حسنه الألباني السلسلة الصحيحة (2318).
(1/2865)
الحثّ على نوافل الصلوات
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
3/6/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تسلُّط الشيطان على العبد بإلهائه عن صلاته. 2- الحكمة من مشروعية النوافل. 3- أهمية النوافل وفضلها. 4- الترغيب في أداء السنن الرواتب وغيرها من النوافل المطلقة. 5- التأكيد على صلاة الوتر وسنة الفجر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ من رحمةِ الله بنا وإحسانِه إلينا وتفضّله علينا أن شرعَ لنا نوافلَ مِن العبادة، لتكونَ هذه النوافل جابرةً للنّقص الحاصلِ علينا في أداء الفريضة.
أيّها المسلم، لا يخلو واحدٌ منّا مِن تقصير في فرائض الإسلام, تقصيرٌ في الأداء, وخللٌ أثناءَ الأداء, وعدوُّ الله إبليس يتسلّط على المسلِم عندَ الدخول في الصلاة, يذكّّره ما كان غائبًا عنه، فيشغل قلبَه بما لا خيرَ له فيه ولا مصلحةَ له منه, ولكن ليضعِفَ قلبَه في صلاته, وليضعف مناجاته لربّه، فإنَّ موقفَ المصلّي موقفٌ عظيم، يناجي فيه ربّه, ويفضي بحاجته إلى ربّه, فعدوّ الله يذكّره ما كان غائبًا: اذكُر كذا اذكُر كذا, حتّى ربّما انصرفَ الواحد منّا مِن صلاتِه ولو سألتَه أسهَى الإمام؟ قال: لا أدري, وبأيّ شيء قرأ الإمام؟ قال: لا أدري, فيركَع ويسجُد ويقوم وهو بالجسَد فقَط، والقلبُ في جولاتٍ في الدّنيا والأمور التي لا داعيَ لها, لكن عدوّ الله يفرَح بهذا ليضعفَ شأنَ المسلم في صلاتِه.
ولأنَّ المسلمَ لا يُكتَب له من صلاتِه إلاّ ما كان حاضرَ القلب أثناءَ الأداء يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (ليسَ لك من صلاتِك إلاّ ما عقلت) [1] ، ولهذا في حديث الوضوء: ((ثمّ صلّى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسَه إلاّ غفرَ الله له)) [2].
فلمّا كان هذا الضعف ملازمًا لنا في أداءِ الفرائض شرع رسولُ الله لنا نوافلَ مِن الصلواتِ ليجبر بها نقصَ فرائضنا, ولتكمَّلَ بها فرائضُنا يومَ قدومنا على الله.
أيّها المسلم، إنّ أوّلَ ما نحاسَب عنه يوم القيامة من أعمالنا فيما بيننا وبين الله هذه الصلواتُ الخمس, فإن صلَحت فقد أفلحَ المؤمن ونجَح, وإن حصَل فيها خللٌ قال الله: انظُروا هل لعبدي من تطوّع، فكمِّلوا به نقصَ فريضته. وكذلك الزّكاة والصّوم والحجّ.
إذًا أخي المسلم، فمحافظتك على نوافل الصلوات خيرٌ لك في أمورك كلّها, جبرٌ لنقص فريضتك, وتكميل لها, وزيادة خيرٍ على خير.
ربيعة السّلميّ قدّم للنبيّ وضوءَه، فقال له : ((سَلني حاجتَك)) ، فقال: أسألك مرافقتَك في الجنّة، قال: ((أوَغير ذلك يا ربيعة؟)) ، قال: هو ذاك، قال : ((أعنِّي على نفسك بكثرةِ السّجود)) [3]. فالمعنى أنّ كثرةَ السجود, كثرةَ نوافل الطاعة سببٌ لمرافقة محمّد في دار كرامة الله.
أيّها المسلم، إنّ محافظتَك على نوافِل الصّلاة سببٌ لمحبّة الله لك وتوفيقِ الله لك في أعمالك كلّها, في الحديث القدسيّ يقول : ((ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه, فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصِر به، ويدَه التي يبطِش بها، ورجلَه التي يمشي بها، ولئِن سألني لأعطينّه, ولئن استعاذني لأعيذنّه)) [4] ، هذا الفضلُ العظيم سببُه كثرةُ نوافل الصّلاة, كثرة نوافِل الطاعات مِن صلاةٍ وصدقة وصيام وحجّ.
أيّها المسلم، إذًا فعليك المحافظة على هذه النّوافل والعناية بها حتّى تكونَ من الفائزين برضوان الله والمسابقين إلى فعل الخيرات.
أيّها المسلم، إنّ نبيّنا شرَع لنا رواتبَ قبل الفريضَة ورواتبَ بعدها, فأخبرنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنّه حفِظ عن رسول الله ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد الظهر وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الفجر. وأخبر أنّ هذه ساعة الفجر ساعةٌ لا يدخل على النبيّ فيها, وأنّ أختَه حفصة أمّ المؤمنين أخبرته أنّ النبيّ إذا طلعَ الفجر وأذّن المؤذّن قام فصلّى ركعتين قبلَ أن يخرجَ من منزله [5].
فهذه عشر نوافل، ويسمّيها العلماء الراتبة لأنها محدّدة قبل الوقت وبعدَه, فقبل الظهر ركعتان وبعده ركعتان وبعدَ المغرب ركعتان وبعد العشاء ركعتان وقبل الفجر ركعتان. أمّا بعد العصر فلا لأنّه وقت نهي, وقبل العصر سنّة مطلقة، وكذلك ما قبل المغرب والعشاء.
وفي حديث أمّ حبيبة: ((من حافظ على ثِنتي عشرةَ سجدة في يومِه وليلته حرّمه الله على النار: أربعًا قبل الظهر, ركعتين بعدَ الظهر, ركعتين بعد المغرب, ركعتين بعد العشاء, ركعتين قبل الفجر)) [6] ، وفي الحديث الآخر أيضًا: ((مَن حافظ على أربعٍ قبلَ الظهر وأربع بعدها بنى الله له بهنّ بيتًا في الجنّة)) [7].
أيّها المسلم، هذه الفضائل العظيمة هي يسيرةٌ على من يسّرها الله عليه, هيّنة سهلة, وشاقّة على من حُرِمَ التوفيق, وكم يشتغِل الإنسان بقيل وقال, ويأخذ بأطراف الحديث, ويحدّث غيره, وتذهب أوقاته دونَ أن يستغلّها في هذا الفضل العظيم.
أيّها المسلم، وهناك نوافلُ شرِعت لنا فقبل العصر يروَى أنه قال: ((رحِم الله امرأً صلّى قبل العصر أربعًا)) [8] ، وقبلَ المغرِب يقول : ((صلّوا قبلَ المغرب, صلّوا قبلَ المغرب, صلّوا قبلَ المغرب)) , ثم قال: ((لمن شاء)) ، كراهيةَ أن يتّخذها النّاس سنّة [9] ، وقال: ((بين كلّ أذانين صلاة)) [10].
وشرَع لنا نبيّنا أن نصليَ الضّحى ركعتين، ففي حديث أبي هريرة: أوصاني خليلي بثلاث: أن أوترَ قبل أن أنام، وأن أصلّي ركعتي الضّحى, وأن أصومَ من كلّ شهر ثلاثةَ أيّام [11] ، وفي حديث أبي ذرّ لمّا ذكرَ النبيّ خلقَ الإنسان والأعمالَ التي يشكُر بها ربَّه قال: ((يصبِح على كلّ سلامى من النّاس صدقة كلّ يوم تطلع فيه الشمس، تعدِل بين اثنين صدقة, وتعين الرجل في دابّته فتحمله عليها أو ترفَع عليها متاعَه صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكَر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتَان تركعهما من الضّحى)) [12].
فيا أخي، هذه النّوافل تقوّي صلتَك بربّك, وتجعلك على ارتباطٍ بربّك, فحافِظ عليها أخي المسلم، وروِّض نفسَك على ملازمتها، فهي خيرٌ لك وعون لك على كلّ خير.
أخي المسلم، إنَّ فعلَ النوافل في البيت نورٌ للبيت, وخير يحلّ بالمنزل, ويقتدي بك غيرك, ويتأسّى بك زوجتك وأولادُك من ذكورٍ وإناث، والبيتُ إذا عمِر بالطّاعة ابتعد عنه الشيطان، وإذا خربَ من الخير امتلأ بالشياطين، فنوّر بيتَك بالنّوافل، ولهذا النّبيّ يقول: ((لا تجعَلوا بيوتَكم قبورا)) [13] ، بمعنى: صلّوا فيها, وقال: ((خيرُ صلاةِ الرجل في بيته إلاّ المكتوبة)) [14] ، فالفرائض محلّها المساجد، والنوافل محلّها البيوت، ليكونَ أقوى في الإخلاص وأعظمَ في الطاعة, وتخبِر عائشة أنّ النبيّ إذا صلّى العشاءَ لا ينام حتّى يصلّي قبلَ أن ينامَ أربعَ ركعات أو ستَّ ركعات [15] ، كلّ ذلك ليبتدِئ يومَه بالطّاعة، ويختِم يومَه بالطّاعة، فالطّاعة في أوّل اليومِ والطاعة عندَ النّوم كلّها حفظٌ للعبد، حفظٌ لدينه, حفظ لأخلاقه، عونٌ له على كلّ خير، فالصلاة خيرُ موضوع, فمن شاء فليستقلَّ أو ليستكثر.
فيا أخي المسلِم، لا تهمِل هذه النّوافل، ولا تتناساها, فيا له من يومٍ ستكون فيه محتاجًا إلى مثقال ذرّة من خير يرجح بها ميزانك.
يا أخي، كم لنا من تقصير، وكم لنا من نسيان وإهمال, فهذه النّوافل تجبر نقصَ صلواتِنا, وتكون سببًا لإكمالِها وفوزِنا برضاء الله يوم قدومنا عليه. إنّها أعمال صالحة لن تضيع، هي مدّخرة لك، ومكتوبة لك، وسترى جزاءَها يومَ قدومك على الله، يومَ لا ينفَع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم.
حاوِل أن يكونَ هذا الجسد يستعمَل في طاعة الله، ويسخَّر في الأعمال الصالحة، فلا تستثقلها ولا تستطلها, كم مَجالس تقضيها ساعاتٍ طِوال في قيل وقال وما لا خيرَ فيه في أمر الدّنيا والدين, وتتكاسَل وتضعُف عن نوافلَ تقدمّها لك, فاعمُر بيتَك بالخير, اعمُره بالطّاعة والعمل الصالح.
أسأل الله أن يعينَنا وإيّاكم على كلّ خير, وأن يوفّقنا لاغتنام الأوقات في صالح الأعمال, إنّه على كلّ شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: سَابِقُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ?لسَّمَاء وَ?لأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?للَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الحديد:21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا, وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفِروه وتوبوا إليه, إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] انظر: مجموع الفتاوى (7/31، 15/236، 22/6، 25)، ومدارج السالكين (1/ 112، 525).
[2] أخرجه البخاري في الوضوء، باب: الوضوء ثلاثًا (160)، ومسلم في الطهارة، باب: صفة الوضوء وكماله (226) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه بنحوه.
[3] أخرجه مسلم في الصلاة، باب: فضل السجود والحث عليه (489) عن ربيعة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: التواضع (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الجمعة، باب: الركعتين قبل الظهر (1181).
[6] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل السنن الراتبة... (728)، والترمذي في الصلاة، باب: ما جاء فيمن صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة... (415) وقال: "حسن صحيح"، واللفظ للترمذي.
[7] أخرجه أحمد (6/325، 326، 426)، وأبو داود في الصلاة، باب: الأربع قبل الظهر وبعدها (1269)، والترمذي في الصلاة، باب منه آخر (427، 428)، والنسائي في المجتبى في قيام الليل وتطوع النهار، باب: الاختلاف على إسماعيل بن خالد (1812، 1813، 1814، 1815، 1816، 1817)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب: ما جاء فيمن صلى قبل الظهر أربعا وبعدها (1160) من حديث أم حبيبة رضي الله عنها بلفظ: ((حرمه الله على النار)) ، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب", وصححه ابن خزيمة (1190، 1191، 1192)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1130).
[8] أخرجه أحمد (2/117)، وأبو داود في الصلاة، باب: الصلاة قبل العصر (1271)، والترمذي في الصلاة، باب: ما جاء في الأربع قبل العصر (430) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب حسن"، وصححه ابن خزيمة (1193)، وابن حبان (2453)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1132).
[9] أخرجه البخاري في الجمعة، باب: الصلاة قبل المغرب (1183) من حديث عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في الأذان، باب: كم بين الأذان والإقامة؟ (624)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: بين كل أذانين صلاة (838) من حديث عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه.
[11] أخرجه البخاري في الصوم، باب: صيام أيام البيض... (1981)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى... (721).
[12] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (720) من حديث أبي ذر رضي الله عنه ولفظه: ((يصبح على كلّ سلامى من أحدكم صدقة، فكلّ تسبيحة صدقة، وكلّ تحميدة صدقة، وكلّ تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى)).
[13] أخرجه الإمام أحمد (2/367)، وأبو داود في المناسك، باب: زيارة القبور (2042) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال في عون المعبود (6/24) نقلا عن ابن عبد الهادي: "هذا الحديث حسن جيد الإسناد، وله شواهد كثيرة يرتقي بها إلى درجة الصحة"، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1796).
[14] أخرجه البخاري في الأدب، باب: ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله (6113)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب صلاة النافلة في بيته (781) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
[15] أخرجه أحمد (6/58)، وأبو داود في الصلاة، باب: الصلاة بعد العشاء (1303)، والبيهقي في الكبرى (2/477) بمعناه، وفي إسناده مقاتل بن بشير، قال عنه الحافظ في التقريب: "مقبول"، والحديث في ضعيف سنن أبي داود (285).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله, صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ نبيّنا كان يحافِظ على سنّة الوترِ، وما كان يدَع الوترَ لا حضَرًا ولا سَفرًا، وأخبرنا أنَّ الله أمدّنا بصلاةٍ هي خيرٌ لنا مِن حمر النعم: الوتر ما بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر [1] ، وقال لنا : ((أوتِروا يا أهل القرآن, فإنّ الله وترٌ يحبّ الوتر)) [2] ، وقال: ((من لم يوتِر فليس منّا)) [3].
وكان نبيّكم يحافِظ على الوتر, وشرَع للمسلم أن يوترَ آخرَ الليل إن وثِق بنفسه في قيام الليل, أو يوترَ أوّل الليل إن لم يثق بنفسه من قيام آخر الليل، فليوتر بعدَ صلاة العشاء وسنّتها، المهمّ المحافظةُ عليه.
وهذا الوترُ أكثرُ ما نقِل عنه أنّه أوتَر بثلاثَ عشرة وأوتر بإحدى عشَرة، وربّما أوتَر بتسع ركعات متواصلات، يجلس بعد الثامنة ثمّ يقوم فيصلّي التاسعة, وربّما سرد سبعًا، وربّما سرد خمسًا.
والوتر أقلّه واحدة، وأدنى كماله ثلاث، يوتِر المسلم بها بعد العشاء وسنّتها، فيصلّي ثلاث ركعات، إن شاء فصَل بينهما بسلام، وإن شاء وصلهما ثلاثًا, وإن صلّى خمسًا أو سبعًا فذاك خير وأفضل, وإن وفِّق للكمال فصلّى إحدى عشرة ركعة يسلّم من كلّ ثنتين ويوتِر بواحدة فذاك الكمال الذي هو هديُ نبيّكم ، تقول عائشة رضي الله عنها: ما كان نبيّكم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة, يصلّي أربعًا فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ, ثمّ يصلّي أربعًا فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ, ثمّ يوتر مِن ذلك بثلاث [4].
فحافِظوا على الوتر رحمكم الله, ولا تضيّعوه, فإنّ السلفَ يشدّدون في أمره, ويرغّبون فيه, ويرَون تاركَه والمحافظةَ على تركه يرَون ذلك نقصًا في حقّ الإنسان, فحافظوا عليه ـ رحمكم الله ـ لعلّكم تفلحون.
نبيّكم إذا سافر قصر الصّلاة، فلم يصلّ قبلَ الظهر ولا بعدَها ولا بعدَ المغرب ولا بعدَ العشاء, لكن الركعتان قبلَ الفجر ما كان يدَعهما مع الوترِ لا في حضرٍ ولا في سفر، تقول عائشة رضي الله عنها: لم يكن محمّد على شيء من النوافل أشدّ تعاهُدًا منه على ركعتَي الفجر [5] ، وكان يقول: ((ركعتا الفجر خيرٌ من الدّنيا وما فيها)) [6].
فيا إخواني، هذه أعمال صالحة وقربات تقرّبوا بها إلى ربّكم لعلّكم تفلحون.
أسأل الله أن يوفّقني وإيّاكم لصالح العمل, وأن يجعلنا وإيّاكم من المسارعين في الخيرات, وأن يتقبّل منّا ومنكم أعمالنا, وأن يوفّقنا لعمل يرضي ربّنا قبل لقائه, إنّه على كلّ شيء قدير.
نسأله تعالى التوفيقَ لما يحبّه ويرضاه والتزوّدَ بعمل صالح، وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? [البقرة:197]، فخير النّاس من تزوّد من دنياه لآخرته, ومن حياتِه لمعادِه, يتزوّد قبل أن يندَم وقبل أن يتمنّى فرصةَ عمل يتقرّب بذلك إلى الله.
رُئي أحدُ السّلف بعد موتِه في منامه فقيل: ما حالتك؟ قال: أنتم تعلمون ولا تعمَلون، ونحن نعلَم ولا نعمَل، والله لركعتان في صحيفةِ أحدِنا أحبّ إليه من الدّنيا وما فيها.
إنّ الأعمالَ الصالحةَ زادٌ لك يومَ القيامة، إنّها سبب لتهوين كرب السّياق عليك، وإنّها لأنس لك في لحدِك, وإنّها لشافعة لك يوم لقاء ربّك, وإنّها تثقّل ميزانَ أعمالك.
فيا أخي المسلم، هذه الدنيا إنّما يفرَح بالحياة فيها المؤمن ليزدادَ عملاً صالحا وليتقرّب إلى الله بما يرضيه, فاحمَد الله على صحّة بدنِك وسلامةِ أعضائك, فواصِل الخيرَ والعمل الصالح.
عوتِب بعضُ السّلف في آخر كبَر سنّه فقيل: ما هذه النوافل وقد كبُر السنّ وثقل؟! قال: هذا جسدٌ أتعبُه بالطّاعة قبلَ أن يأكلَه الدّود.
إنّ المؤمنَ في هذه الحياة يفرَح بيوم يزداد فيه عملاً صالحًا, وحسنات تكتَب له قبل أن تُختَم أعماله وتنقطع أعماله وتطوَى صحائفه بما عليه، أسأل الله لي ولكم الثبات والتوفيقَ والعونَ على كلّ خير.
اللهمّ أعنّا ولا تعِن علينا، اللهمّ وفّقنا لما يرضيك، وأعنّا على شكرك وذكرك وحسنِ عبادتك، اللهمّ اجعل أعمارَنا تنقضي في طاعةٍ وأعمال صالحة، اللهمّ اجعل خيرَ أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرَها، وخير أيّامنا يوم لقاك، إنّك على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتُها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعَة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمرَكم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمّد، اللهمّ ارضَ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: استحباب الوتر (1418), والترمذي في الصلاة, باب: ما جاء في فضل الوتر (452), وابن ماجه في إقامة الصلاة, باب: ما جاء في الوتر (1168) من حديث خارجة بن حذافة رضي الله عنه، وضعفه البخاري والترمذي وابن حبان والدارقطني وابن الجوزي والنووي في المجموع (4/18)، وانظر تخريجه في الإرواء (423).
[2] أخرجه أحمد (1/110، 148)، وأبو داود في الصلاة، باب: استحباب الوتر (1416)، والترمذي في الصلاة، باب: ما جاء أن الوتر ليس بحتم (453)، والنسائي في قيام الليل، باب: الأمر بالوتر (1675)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء في الوتر (1169) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه ابن خزيمة (1067)، وهو في صحيح الترغيب (594).
[3] أخرجه أحمد (5/357)، وأبو داود في الصلاة، باب: فيمن لم يوتر (1419)، والبيهقي في الكبرى (2/469) من حديث بريدة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (1146، 1147)، لكن في سنده أبو المنيب، قال الحافظ في الفتح (2/487): "فيه ضعف"، ولذا أورده الألباني في ضعيف سنن أبي داود (309). وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد (2/443)، وفيه الخليل بن مرة وهو منكر الحديث. وانظر: إرواء الغليل (417).
[4] أخرجه البخاري في الجمعة، باب: قيام النبي بالليل (1147)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي (738).
[5] أخرجه البخاري في الجمعة، باب: تعاهد ركعتي الفجر... (1163).
[6] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب ركعتي الفجر (725) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(1/2866)
اتباع الهوى
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
10/6/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة اتّباع الهوى. 2- من صور اتّباع الهوى. 3- علاج اتّباع الهوى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتّقوا الله حقَّ تقاته، فإنّ التقوى خير زادٍ يصحَب المسلمَ في رحلته إلى الله والدار الآخرة حيث لا ينفَع مالٌ ولا بنون إلا من أتى اللهَ بقلب سليم.
أيّها المسلمون، إنّ مجانبةَ الضّلال والسّلامة من الغواية والنّأيَ عن فسادِ العمل منتهى أمل المسلم وغايةُ أمله وذروة مقصده، لذا ليس عجبًا أن ينبعثَ له حسّ مرهَف وشعور يقِظ وفكر حيّ، يحمِله على كمال الحذَر من كلّ ما يحول بينَه وبينَ سلوك سبيل الاستقامة، فإنّ الحوائلَ كثيرة، وإنّ العوائق عديدة، غيرَ أنّ من أظهر هذه الحوائل وأقوى هذه العوائق أثرًا وأشدِّها خطرًا اتباعَ الهوى, على معنى أن يكونَ دليل المرء وقائدُه ومرشده ما تميل إليه نفسه ويهواه قلبه ويلتذّ به حِسّه، لا ما يأمره به وينهَاه عنه الله ورسولُه.
ولمّا كان المسلمُ مأمورًا بأن يجعلَ صلاته ونسكَه ومحياه ومماتَه لله ربِّ العالمين كما قال سبحانه مخاطبًا أشرفَ خلقه وخاتمَ أنبيائه صلوات الله وسلامه عليه: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163] كان اتباع الهوى عاملاً خطيرًا في النّأي بحياة المسلم عن هذا الأصلِ العظيم من أصول السّعادة وأسباب النجاة، ولذا حذّر سبحانه في حشدٍ من آيات كتابه العزيز من اتّباع الهوى مقرونًا بجملةٍ من الصّفات المقبوحة والأحوالِ المرذولة التي تعَدّ مع ذلك مِن الأسباب الباعثة عليه والمفضِيَة إليه.
فمِن ذلك عدمُ العلم بالله وآياته وشرعِه، ومنه القولُ على الله بغير علم، كمن يتصدّى للفتوى دون أن تجتمعَ فيه شروطها وآدابها، فيكونَ من نتيجة ذلك أن يفتيَ الناس بما تهوى الأنفس, لا بمقتضى الدليل مِن كتاب الله وسنّة رسوله ، فيورِد نفسَه بذلك ويوردَ غيرَه مواردَ الهلاك, ويكون وبالاً على الأمّة وسببًا في الانحراف عن الحقّ كما قال سبحانه: وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:119].
ومِن ذلك الغفلةُ عن ذكر الله والإعراضُ عن شرعِه, فإنّها تحمل المسلمَ على ترك ما أمِر به ونهِي عنه, والانصراف إلى شهواتِ النفس ولذّات الحسّ وجعلِها منتهى همّه وغايةَ مقصده، فلا حظَّ في نفسِه لغيرِها، بل يكون حالُه مشابهًا لحال الدوابّ والعجماوات.
ويزداد عظمُ الخطر عندما ينصرف المرءُ عن شريعة ربِّه بالكلّية مصمًّا أذنَيه عن البيّنات والهدى، فتتشعّثَ عليه أموره, ويشيعَ الاضطراب في حياته، ولذا حذّر سبحانه المؤمنين من هذه العاقبة فقال سبحانه: وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
ومنها الإخلادُ إلى الأرض والركونُ إلى الدّنيا والعمل لها والرضا بها، حتى تكونَ أكبرَ همّه ومبلغ علمه, لها يعمل, وإليها يقصِد, ولأجلها يناضِل، وفيها يوالي ويعادِي، حتّى يقعدَ به ذلك عن سموّ الهدف ورفعةِ الغاية وشرفِ المقام الذي ينشدُه ألو الألباب بعملهم لله والدّار الآخرة، فتكونَ عاقبة أمرِه خُسرًا وندامة لا تنتهي وحسرةً لا تنقطع, كما قال سبحانه: وَ?تْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ?لَّذِى ءاتَيْنَـ?هُ ءايَـ?تِنَا فَ?نْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ?لشَّيْطَـ?نُ فَكَانَ مِنَ ?لْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـ?هُ بِهَا وَلَـ?كِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ?لأرْضِ وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ?لْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ الآية [الأعراف:185، 186].
ومنها الظلمُ، والظلم ـ يا عباد الله ـ تتّسع أبعادُه وتتنوّع دروبه، فلا يقتصر على ظلم الإنسان نفسَه بالمعاصي حتّى يوردها مواردَ الهلاك، بل يتجاوز ذلك إلى ظلمِ غيره بألوانٍ كثيرة تندرِج كلُّها تحت مفهوم التعدّي عليهم في الأنفسِ أو الأموال أو الأعراض، فيورثه ذلك من ظلماتِ يوم القيامة ما لا منجى له منها كما قال سبحانه: بَلِ ?تَّبَعَ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَاءهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الروم:29].
ومنها تزيينُ سوءِ العمل في نفسِ صاحبه، فإنّ المرءَ إذا زيِّن له سوءُ عمله انعكست لديه الموازين, فأصبح يرى الحقَّ باطلاً، والباطلَ حقًّا، والحسنَ قبيحًا، والقبيح حسنًا، وإنّها لمحنةٌ يا لها مِن محنة، كما قال سبحانه: أَفَمَن كَانَ عَلَى? بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ وَ?تَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ [محمد:14].
ومنها الظنُّ الذي لا يغنِي مِن الحقّ شيئًا، كما قال سبحانه: وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ?لظَّنَّ وَإِنَّ ?لظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ ?لْحَقّ شَيْئًا [النجم:28]، وكما قال سبحانه: إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ?لظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ?لأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ ?لْهُدَى? [النجم:23].
ثمّ إنَّ لاتباعِ الهوى في دنيا الواقع صوَرًا كثيرة لا يحدّها حدّ, ولا يستوعبها حصر، غيرَ أنّ مِن أعظمها خطرًا وأشدِّها ضررًا ما يكون من اتّباع الهوى في ميدان الحكم بين الناس، والفصلِ بينهم في الدماء والأموال والأعراض، ولذا أمر سبحانه نبيَّه داود عليه السلام بالحكم بين النّاس بالحقّ, ونهاه عن اتّباع الهوى لأنّ عاقبة ذلك الضلالُ عن سبيل الله, فقال تعالى: ي?دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَـ?كَ خَلِيفَةً فِى ?لأرْضِ فَ?حْكُمْ بَيْنَ ?لنَّاسِ بِ?لْحَقّ وَلاَ تَتَّبِعِ ?لْهَوَى? فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ الآية [ص:26].
وكذلك أمَر سبحانه نبيَّه وأشرفَ خلقه وأعلمَهم بربّه محمّدًا أن يحكمَ بين النّاس بما أنزل الله، وحذّره من اتّباع الأهواء فقال تبارك وتعالى: وَأَنِ ?حْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَ?حْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ ?للَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَ?عْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ?للَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مّنَ ?لنَّاسِ لَفَـ?سِقُونَ [المائدة:49].
وبيَّن له أنَّ مآلَ اتّباع أهواء الضالين مفضٍ به ـ وهو رسولُ ربّ العالمين ـ إلى الضّلال والخيبةِ والخُسران, فقال سبحانه: قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ?لَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ ?لْمُهْتَدِينَ [الأنعام:56].
ولا ريبَ ـ يا عباد الله ـ أنّ هذا كلَّه توجيه للأمّة من بعده, وتحذيرٌ لها, وهدًى وذكرى لأولي الألباب.
ومِن صور اتّباع الهوى أيضًا اعتدادُ المرءِ بنفسِه وذهابه بها مذاهبَ العُجب والغُرور حتّى يشمَخَ بأنفه, ويستعليَ على غيره, ويأنفَ من قَبول الحقّ ومن الإذعان للنّصح، متَّبعًا هواه، مضرِبًا عن كلّ ما سواه من البيّنات والهدى.
ومنه الحكمُ على الآخر وفقًا لما يمليه عليه هواه ولِما يستقرّ في نفسه من آراء، فإذا بذلك يحمله على تركِ العدل، والمسلمُ مأمور بالعدل مطلقًا، حيث قال سبحانه: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِ?لْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ ?لْو?لِدَيْنِ وَ?لأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَ?للَّهُ أَوْلَى? بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لْهَوَى? أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135].
ومِن صُوَر ذلك أيضًا أن تكونَ للرّجل زوجاتٌ فلا يقومُ بمقتضى العدل بينهنّ, بل يتّبع هواه، فيحمله ذلك على الميلِ إلى إحداهنّ كلَّ الميل، ويذر ما سواها كالمعلّقة، بل إنّ الأمرَ ليتمادى به إلى تعاملِه مع أبنائه أيضًا, فإذا هو ميّالٌ إلى بعضهم دونَ بعض، يرفعُه ويَهَب له ويجعله محضيًّا بكلّ ألوان الرعاية والعِناية، ويدَع غيرَه من أبنائه مُبعدًا محرومًا منسيًّا.
ومِن صورِ ذلك أيضًا أن يتّبع المعلّم هواه، فلا يقوم بما يجِب عليه من العدلِ بين طلاّبه بجعل المفاضلة بينهم قائمةً على أسسٍ من الجدّ والاجتهاد ورعايةِ حقِّ العِلم, بل يميل إلى طائفةٍ أو فردٍ منهم، مقدِّمًا من حقُّه التأخير, أو مؤخِّرًا من حقُّه التقديم، اتّباعًا للهوى وإعراضًا عن الحقّ.
وكم لاتّباع الهوى في دنيا الواقع من صُور, وكم لها من أضرار وآثارٍ لا تقَع تحتَ العدّ ولا يستوعِبها المجال، وحاصلُ ذلك أنّ اتّباع الهوى والانقيادَ له مفضٍ إلى الانحراف عن الصراط المستقيم, والحيدةِ عن طريق الله القويم, وإلى خسران الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.
وعلاجُ ذلك ـ يا عبادَ الله ـ أن يجعلَ المرء هواه تبعًا لما جاء به رسول الله , وأن لا يقدِّم على أمرِ الله ورسوله شيئًا مهما عظُم شأنه وعلا قدرُه, وأن يحتكمَ في كلّ دقيق وجليل مِن أمور حياته إلى حكمِ الله, ويرضى به ويسلّم, فتكون عاقبة ذلك أن يرضى ويغضَبَ لله, وأن يحبَّ ويبغضَ في الله، وأن يعطيَ ويمنعَ لله.
فاعملوا ـ رحمكم الله ـ على مجانبةِ اتّباع الهوى, وانأوا بأنفسكم عن سلوكِ كلِّ سبيلٍ يفضي إليه تكونوا من المفلحين, وصدق الله إذ يقول: أَفَرَأَيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ?للَّهُ عَلَى? عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى? سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى? بَصَرِهِ غِشَـ?وَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ?للَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23].
نفعني الله وإيّاكم بهدي كتابه وبسنّة نبيّه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وليّ المتّقين, أحمده سبحانه يُعزّ الطائعين ويُذلّ العاصين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله, شفيع المؤمنين وقائدُ الغرّ المحجّلين، اللهمّ صلِّ وسلّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فيا عباد الله، إنّ اتباعَ ما أنزل الله من البيّنات والهدى والعملَ به والتسليم له عاصمٌ للمرء من اتّباع الأهواء، وحافظٌ له مِن التردّي في وهدتِها, مورثٌ إيّاه سعادةً جعلها الله خالصةً لمن اتّبع شريعتَه واهتدى بهديه وأعرض عن كلّ ما سوى ذلك، كما قال سبحانه مخاطبًا عبدَه ونبيّه محمّدًا آمرًا إيّاه باتّباع شريعتِه، محذّرًا له من اتباع الأهواء، قال سبحانه: ثُمَّ جَعَلْنَـ?كَ عَلَى? شَرِيعَةٍ مّنَ ?لأَمْرِ فَ?تَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ?للَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ ?لظَّـ?لِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَ?للَّهُ وَلِىُّ ?لْمُتَّقِينَ [الجاثية:18، 19].
فهذا ـ يا عبادَ الله ـ هو الطريقُ المستقيم الموصلُ إلى رضوانِ الله والظفَر بجنّاته، فالزموه واستمسِكوا به رحمكم الله، وحذارِ من اتّباع الهوى فإنّه الدّاء كل الدّاء.
ألا فاتَّقوا الله عبادَ الله، وصلّوا وسلّموا على خاتَم النبيّين وإمام المتّقين ورحمة الله للعالمين، فقد أمِرتم بذلك في الكتاب المبين حيث قال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...
(1/2867)
التوكّل على الله
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
10/6/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة المرء إلى ربّه. 2- فضل التوكّل وعِظمه. 3- الرسل أئمة المتوكّلين. 4- الرزق وعلاقته بالتوكّل. 5- قواعد في التوكّل. 6- نماذج من توكّل الأنبياء عليهم السلام. 7- واجب المسلم نحو المصائب والفتن. 8- أصناف النّاس في التوكّل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التّقوى، فمن اتّقى ربَّه علا، ومن أعرضَ عنه فإنّ له معيشةً ضنكا.
أيّها المسلمون، أسعدُ الخلق أعظمُهم عبوديةً لله, وكلَّما كان العبدُ أذلّ لله وأعظمَ افتقارًا إليه كان أقربَ إليه وأعظمَ قدرًا عندَه وعندَ خلقِه، والعبدُ عاجزٌ عن الاستقلال بجلبِ مصالحه ودفع مضارّه، محتاجٌ إلى الاستعانة بخالقِه، والله سبحانه هو الصّمد الغنيّ عمّا سواه, وكلّ ما سواه فقيرٌ إليه.
وذنوبُ العباد كثيرة، ولا نجاةَ لهم منها إلاّ بمعونة الله وعفوِه، وكثيرٌ من الكبائر القلبيّة مِن الرّياء والكبر والحسَد وترك التوكّل قد يقع فيها المرءُ وهو لا يشعر بها، وقد يتورّع عن بعض الصّغائر الظاهرة وهو في غفلةٍ عن هذه العظائم.
والأسبابُ المجرّدة تخذل المرءَ عن تحقيقِ مُناه، وقد يطرُق بابًا يظنّ أنّ فيه نفعَه فإذا هو ضررٌ محض، ولا ينجي من ذلك إلاّ التوكّل على العزيز الرحيم؛ لذا عظّم الله من شأن التوكّل وجعله منزلةً من منازل الدين, وقرنَه بالعبادة في قوله: فَ?عْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123]، وجعله سببًا لنيل محبّته إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُتَوَكّلِينَ [آل عمران:159]، وجعله شرطًا لحصول الإيمان به وَعَلَى ?للَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة:29].
مقامٌ جليلُ القدر عظيم الأثر، فريضةٌ من ربّ العالمين، به رضا الرحمن, وفيه منَعَة مِن الشّيطان، منزلتُه أوسع المنازلِ وأجمعُها، أقوى السّبل عند الله وأحبُّها، أمر الله به رسولَه عليه الصلاة والسلام في قولِه: وَتَوَكَّلْ عَلَى? ?للَّهِ وَكَفَى? بِ?للَّهِ وَكِيلاً [الأحزاب:3].
والرّسُل هم أئمّة المتوكّلين وقدوتُهم، قال تعالى عن نوحٍ عليه السلام أنّه قال لقومه: إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ ?للَّهِ فَعَلَى ?للَّهِ تَوَكَّلْتُ [يونس:71]، وقال الخليل عليه السّلام: رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ ?لْمَصِيرُ [الممتحنة:4]، وقال هودٌ عليه السّلام: إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى ?للَّهِ رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [هود:56]، وقال يعقوب عليه السّلام: إِنِ ?لْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُتَوَكّلُونَ [يوسف:67]، وقال شعيبٌ عليه السّلام: وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِ?للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88]، وقال رسُل الله لأقوامِهم: وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ?للَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا [إبراهيم:12]، وقال مؤمنُ آل فرعون: وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ بَصِيرٌ بِ?لْعِبَادِ [غافر:44].
وفي مطلعِ النبوّة والتنزيل أمرٌ بالتوكّل وأنه يفتح المغلَق ?قْرَأْ وَرَبُّكَ ?لأَكْرَمُ [العلق:3]، وجعله الله صفةً لأهل الإيمان يتميّزون به عمّن سواهم إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـ?نًا وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
والشّيطان لا سلطانَ له على عبادِ الله المتوكّلين, قال عزّ وجلّ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى? ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:99].
والتوكّل مانعٌ من عذابِ الله كما قال سبحانه: قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ ?للَّهُ وَمَن مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ ?لْكَـ?فِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ قُلْ هُوَ ?لرَّحْمَـ?نُ ءامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [الملك:28، 29]، وموجبٌ لدخولِ الجنّات كما قال سبحانه: وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ ?لْجَنَّةِ غُرَفًَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ ?لْعَـ?مِلِينَ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [العنكبوت:58، 59]. بل المتوكّلون حقًّا يدخلون جنّة ربّهم بغير حساب, كما وصفهم نبيّهم بذلك في قوله: ((هم الذين لا يستَرقون ولا يكتَوون ولا يتطيّرون وعلى ربّهم يتوكّلون)) متفق عليه [1].
وأوصى النبيّ ابنَ عبّاس بالتوكّل وهو غلام صغيرٌ لتأصيل العقيدةِ في نفسه في بكور حياته فقال له: ((يا غلام، احفَظ الله يحفظْك، احفظِ الله تجدْه تجاهَك، إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله)) رواه الترمذي [2].
قال ابن القيم: "التوكّل أصل لجميع مقاماتِ الإيمان والإحسان ولجميع أعمالِ الإسلام، وإنّ منزلتَه منها منزلةُ الجسدِ من الرأس" [3].
في التوكّل راحةُ البال, واستقرارٌ في الحال، ودفعُ كيدِ الأشرار، ومن أقوى الأسبابِ التي يدفع بها العبدُ ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمِهم, وبه قطعُ الطمع عمّا في أيدي الناس. سئِل الإمام أحمد عن التوكّل فقال: "هو قطعُ الاستشراف باليأس من النّاس" [4].
والتوكّل على غير الله ظلم وامتِهانٌ للنّفس، وسؤالُ المخلوق للمخلوق سؤالٌ من الفقير للفقير، قال النبي : ((واعلَم أنّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمَعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)) رواه الترمذي [5].
ومتى التفتَ القلبُ إلى غير الله وكَلَه الله إلى من التفتَ إليه، وصارَ ذليلاً مخذولاً، قال : ((من تعلّق شيئًا وُكل إليه)) رواه الترمذي [6] ، قال شيخ الإسلام: "ما رَجا أحدٌ مخلوقًا أو توكّل عليه إلا خاب ظنّه فيه" [7].
وكلُّ من أحبَّ شيئًا لغير الله فلا بدّ أن يضرّه, وهذا معلومٌ بالاعتبار والاستقراء. ولا يحملنّك عدمُ رجاء المخلوق على جفوةِ الناس وترك الإحسانِ إليهم واحتمالِ الأذى منهم, بل أحسِن إليهم لله لا لرجائِهم, وكما أنّك لا تخافهم فلا ترجُهم، وارجُ اللهَ في الناس, ولا ترجُ النّاسَ في الله.
أيّها المسلمون، الأرزاقُ بيدِ الخلاّق، فما كان لك منها أتاك على ضعفِك، وما كان لغيرِك لم تنلْه بقوّتك، ورزقُ الله لا يسوقه إليك حرصُ حريص، ولا يردّه عنك كراهيةُ كاره، والرزقُ مقسومٌ لكلّ أحد من برٍّ وفاجر ومؤمنٍ وكافر، قال عزّ وجلّ: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ?لأرْضِ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]. والرزق يساق إلى الدواب مع ضعف كثيرٍ منها وعجزها عن السّعي في طلب الرزق، قال جل وعلا: وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ?للَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60]، وقد ييسِّره الله لك بكسبٍ وبغير كسب.
والنّاس يؤتَون من قلّة تحقيقِ التوكّل, ومن وقوفِهم مَع الأسباب الظّاهرة بقلوبهم ومساكنتهم لها، ولو حقّقوا التوكّلَ على الله بقلوبهم لساق الله إليهم أرزاقَهم مع أدنى سبب, كما يسوق للطير أرزاقها بمجرّد الغدوّ والرّواح، وهو نوعٌ من الطلب والسّعي لكنّه سعيٌ يسير، قال عليه الصلاة والسلام: ((لو أنّكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله لرزقكم كما يرزق الطيرَ تغدو خِماصًا وتروح بطانًا)) رواه أحمد [8].
فلا تضيِّع زمانَك بهمِّك بما ضُمِن لك من الرّزق، فما دامَ الأجلُ باقيًا كان الرزقُ آتيًا، قال حاتم الأصمّ: "لمّا علمتُ أنّ رزقي لن يأكلَه غيري اطمأنّ قلبي" [9].
أيّها المسلمون، وقّت الله للأمور أقدارَها وهيّأ إلى الغايات أسبابَها، وأمورُ الدنيا وزينتُها قد يدرِك منها المتوانِي ما يفوت المثابر، ويصيبُ منها العاجزُ ما يخطئ الحازم.
والالتفاتُ للأسباب نقصٌ في التّوحيد, ومحوُ الأسبابِ أن تكونَ أسباب نقصٌ في العقيدة، والإعراضُ عن الأسباب التي أمِر بها قدحٌ في الشرع، وعلى العبدِ أن يكونَ قلبه معتمِدًا على الله لا على الأسباب.
ونبينا محمّد أكملُ المتوكّلين، ولم يخلَّ بالأسباب؛ فقد ظاهرَ بين دِرعين يومَ أحد [10] ، واستأجَر دليلاً يدلّه على طريق الهِجرة [11] ، وحفَر الخندقَ غزوةَ الأحزاب [12].
وحقيقةُ التوكّل القيام بالأسباب والاعتمادُ بالقلب على المسبِّب, واعتقادُ أنّها بيده، فإن شاء منَع اقتضاءَها, وإن شاء جعلها مقتضيةً لضدّ أحكامِها, وإن شاء أقام لها موانعَ وصوارفَ تعارِض اقتضاءَها وتدفعه.
والموحّد المتوكّل لا يطمئنّ إلى الأسباب ولا يرجوها، كما أنّه لا يهمِلها أو يبطلها، بل يكون قائمًا بها ناظِرًا إلى مسبِّبها سبحانه ومجرِيها. وإذا قويَ التوكّل وعظم الرجاء أذِن الله بالفرج، ترك الخليلُ زوجتَه هاجرَ وابنَها إسماعيل صغيرًا رضيعًا بوادٍ لا حسيسَ فيه ولا أنيسَ ولا زرعَ حوله ولا ضرع توكّلاً على الله وامتثالاً لأمره، فأحاطهما الله بعنايتِه، فإذا الصّغيرُ يكون نبيًّا وصفَه الله بالحِلم والصّبر وصدقِ الوَعد والمحافظةِ على الصلاة والأمرِ بها، والماءُ المبارك زمزَم ثمرةٌ من ثمار توكّل الخليل عليه السلام.
ولمّا عظم البلاءُ ببني إسرائيل وتبِعهم فرعونُ بجنوده وأحاطوا بهم وكان البحر أمامَهم قَالَ أَصْحَـ?بُ مُوسَى? إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61], قال نبيّ الله موسى الواثق بنصر الله: كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:62], فأمره الله بضربِ البحر فصار طريقًا يبَسًا, كُلُّ فِرْقٍ كَ?لطَّوْدِ ?لْعَظِيمِ [ٍالشعراء:63].
ويونسُ التقمَة حوتٌ في لجَج البحر وظلمائه، فلجأ إلى مولاه وألقى حاجته إليه: لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:87]، فنُبذ وهو سقيم في العراء، ومضى مجرَّدًا في الخلاء.
وأمّ موسى ألقَت ولدَها موسى في اليمّ ثقةً بالله امتثالاً لأمره, فإذا هو رسولٌ من أولي العزم المقرّبين.
ويعقوبُ قيل له: إنّ ابنَك أكله الذئب، ففوّض أمره إلى الله وناجاه, فردّه عليه مع أخيه بعد طول حزنٍ وفراق.
ولمّا ضاق الحال وانحصَر المجَال وامتنَع المقال من مريمَ عليها السلام عظُم التوكّل على ذي العظمَة والجلال, ولم يبقَ إلاّ الإخلاصُ والاتّكال, فأشارت إليه، فقالوا لها: كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى ?لْمَهْدِ صَبِيًّا [مريم:29]، فعندها أنطقَه الله فقال: إِنّى عَبْدُ ?للَّهِ ءاتَانِىَ ?لْكِتَـ?بَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا [مريم:30].
ونبيّنا محمّدٌ يتوارى مع صاحبِه عن قومِه في جبلٍ أجرَد في غارٍ قفرٍ مخوف, فبلغ الروع صاحبَه, فقال: يا رسول الله، واللهِ لو أنّ أحدَهم نظرَ إلى قدميه لأبصرَنا، فقال الرّسول وهو واثقٌ بربّه: ((يا أبا بكر، ما ظنّك باثنين اللهُ ثالثهما)) [13] ، فأنزل الله تأييده ونصرَه وأيّده بجنودٍ لا ترى، فسكن الجأش وحصَل الأمنُ وتمّت الهجرة وانطلقت الرّسالة.
وإذا تكالبَت عليك الأيّام وأحاطت بك دوائرُ الابتلاء فلا ترجُ إلا الله، وارفَع أكفَّ الضراعة, وألقِ كنفَك بين يدي الخلاّق, وعلِّق رجاءَك به, وفوِّض الأمرَ للرّحيم، واقطَع العلائقَ عن الخلائِق، ونادِ العظيم, وتحرَّ أوقاتَ الإجابة كالسّجود وآخر الليل.
وإذا قويَ التوكّل والرجاء وجُمع القلب في الدّعاء لم يردَّ النداء، أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء [النمل:62]. فسلِّم الأمرَ لمالكه، والله عزيزٌ، لا يُضِلّ من استجارَ به, ولا يضيِّع من لاذ بجنابه.
وتفريجُ الكربات عند تمام الكرب, واليُسر مقترنٌ بالعسر، وتعرَّف على ربّك في الرخاء يعرفك في الشدّة، و"حسبُنا الله ونعمَ الوكيل" قالها الخليلان في الشّدائد، ومَن صدق توكّلُه على الله في حصولِ شيء ناله، ومن فوّض أمرَه إليه كفاه ما أهمّه، ومن حقَّق التوكّلَ لم يكِله إلى غيره, بل تولاّه بنفسه، وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، وعلى قدرِ حسن ظنّك بربك ورجائك له يكون توكّلك عليه, فاجعَل ربَّك وحدَه موضعَ شكواك، قال الفضيل رحمه الله: "والله، لو يئِستَ من الخلق حتى لا تريد منهم شيئًا لأعطاك مولاك ما تريد" [14].
وهو سبحانه القدير، لا تتحرّك ذرّة إلا بإذنه، ولا يجري حادث إلا بمشيئته، ولا تسقط ورقةٌ إلاّ بعلمه، وَتَوكَّلْ عَلَى ?لْعَزِيزِ ?لرَّحِيمِ ?لَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى ?لسَّـ?جِدِينَ [الشعراء:217-219]، قال إبراهيم الخوّاص: "ما ينبغي للعبدِ بعدَ هذه الآية أن يلجأ إلى أحدٍ غير الله" [15].
ومن تعلّق بغيرِ الله أو سَكن إلى علمِه وعقلِه ودوائِه وتمائمه, واعتمَد على حولِه وقوّته وكله الله إلى ذلك وخذَله، قال في تيسير العزيز الحميد: "وهذا معروف بالنّصوص والتجارب".
وأرجحُ المكاسبِ الثقة بكفايةِ الله وحسنُ الظن به، وليكن بما في يدِ الله أوثق منه بما في يده، ومن ظنّ أنّه يُنال ما عند الله بمعصيته ومخالفتِه كما يُنال بطاعته والتقرّب إليه, أو ظنّ أنه إذا ترك شيئًا من أجلِه لم يعوّضه خيرًا منه، أو ظنّ أنّ من فعل شيئًا لأجلِه لم يعطِه أفضلَ منه، أو ظنّ أنّه إذا صدقه في التوكّل عليه أنه يخيّبه ولا يعطيه ما سأله فقد ظنّ بالله ظنّ السّوء، ولا يسلم من هذا إلا من عرف الله، وعرف أسماءه وصفاتِه, وعرف موجِب حكمتِه وحمده.
قال ابن القيم: "أكثرُ الخلق, بل كلّهم إلا من شاء الله يظنّون بالله غيرَ الحقّ وظنّ السّوء، فإنّ غالبَ بني آدم يعتقِد أنّه يستحقّ فوقَ ما شاءه الله له، ومن فتّش في نفسِه وتغلغل في معرفة طواياها رأى ذلك فيها كامنًا، فليعتنِ اللبيبُ النّاصح لنفسه بهذا، وليتُب إلى الله ويستغفره في كلّ وقت مِن ظنّه بربه ظنَّ السوء, وليظنَّ السوء بنفسه" [16].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَ?ذْكُرِ ?سْمَ رَبّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَّبُّ ?لْمَشْرِقِ وَ?لْمَغْرِبِ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ فَ?تَّخِذْهُ وَكِيلاً [المزمل:8، 9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الطب، باب: من اكتوى أو كوى غيره.. (5705) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. ومسلم في الإيمان (218) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
[2] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2516) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أحمد (1/293)، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الضياء المقدسي في المختارة (10/25)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة، وأصحّ الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2043).
[3] طريق الهجرتين (ص389).
[4] انظر: طبقات الحنابلة (1/416)، ومجموع الفتاوى (10/259)، وجامع العلوم والحكم (ص440).
[5] هو من تتمة حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم.
[6] سنن الترمذي: كتاب الطب، باب: ما جاء في كراهية التعليق (2072) من حديث عبد الله بن عكيم رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (4/311)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2576)، وابن قانع في معجم الصحابة (2/117)، والحاكم (7503)، والبيهقي في الكبرى (9/351)، قال الترمذي: "حديث عبد الله بن عكيم إنما نعرفه من حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن عكيم لم يسمع من النبي ، وكان في زمن النبي يقول: كتب إلينا رسول الله "، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1691).
[7] مجموع الفتاوى (10/257).
[8] المسند (1/30) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الترمذي في الزهد، باب: في التوكل على الله (2344)، وابن ماجه في الزهد، باب: التوكل واليقين (4164)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبّان (730)، والحاكم (4/318)، والضياء في المختارة (227، 228)، والألباني في السلسلة الصحيحة (310).
[9] أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/73)، والبيهقي في الشعب (2/98).
[10] أخرجه أحمد (3/449)، وأبو داود في الجهاد (2590)، وابن ماجه في الجهاد (2806) عن السائب بن يزيد رضي الله عنه، وعند أبي داود: عن السائب عن رجل قد سماه، وصححه البوصيري في الزوائد (3/165)، وله شواهد كثيرة، وذكره الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2264).
[11] أخرجه البخاري في الإجارة (2263، 2264) عن عائشة رضي الله عنها.
[12] حفر النبي مع أصحابه الخندق ثابت في الصحيحين، انظر: صحيح البخاري: كتاب المغازي (4101، 4102)، وصحيح مسلم: كتاب الأشربة (2039).
[13] أخرجه البخاري في المناقب، باب: المهاجرين وفضلهم ومنهم أبو بكر (3653)، ومسلم في فضائل الصحابة (2381) عن أبي بكر رضي الله عنه.
[14] انظر: جامع العلوم والحكم (197).
[15] انظر: إحياء علوم الدين (4/245).
[16] زاد المعاد (3/235) بتصرف يسير.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، لا يستقيمُ توكّل العبد حتى يصحّ توحيده، وعلى قدر تجريده التوحيدَ يكون صحّة التوكّل. ومتى التفتَ العبد إلى غير الله أخذ ذلك شعبةً من شعب قلبه، فنقص من توكّله بقدرِ ذهابِ تلك الشعبة. ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالخَلق لم تسدَّ فاقتُه، ومن سرّه أن يكون أقوى النّاس فليتوكّل على الله، ومن سرّه أن يكون أغنى النّاس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده.
والرّضا والتوكّل يكتنفان المقدور، فالتوكّل قبلَ وقوعه، والرضا بعد وقوعه، والرضا ثمرة التوكل, وروح التوكّل التفويض وإلقاءُ أمورِك كلّها إلى الله، يقول داود بن سليمان رحمه الله: "يستدَلّ على تقوى المؤمن بثلاث: حسنُ التوكّل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسنُ الصبر فيما قد فات" [1] , وكلّما كان العبدُ بالله أعرفَ كان توكّله عليه أقوى، وقوّة التوكّل وضعفُه بحسَب قوة الإيمان وضعفِه.
ومن توكّل على الله فلا يعجَل بالفرج، فالله ذكَر كفايتَه للمتوكِّل عليه, وربّما أوهمَ ذلك تعجيل الكفايةِ وقتَ التوكّل، فالله جعَل لكلّ شيء قدرًا ووقتًا، فلا يستعجِل المتوكّل, فيقول: قد توكّلتُ ودعوت فلم أر شيئًا!! فالله بالغ أمرِه، قد جعل لكلّ شيء قدرًا أأأ ، والله هو المتفرِّد بالاختيار والتّدبير، وتدبيرُه لعبدِه خيرٌ من تدبيرِ العبدِ لنفسِه, وهو أرحمُ به مِنه بنفسه.
ثمّ اعلموا أنَّ الله أمركم بالصّلاة والسّلام على نبيّه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم على نبيّنا محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] انظر: إحياء علوم الدين (4/73).
(1/2868)