مفهوم الأمن
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
6/4/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مطلب الأمن. 2- خطورة الإخلال بالأمن. 3- فضل بيئة الثقة والأمان والتفاهم. 4- سدّ ذرائع الإخلال بالأمن. 5- المفهوم الصحيح للأمن. 6- ضرورة تحقيق الأمن التعليمي التربوي والأمن الإعلامي الثقافي. 7- موقف الإسلام من حرية النقد والحوار. 8- التحذير من الخوض في الفتن. 9- مسلَّمات وثوابت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله أيّها المسلمون، واعلموا أنّ أحسن الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ عنهم شذّ في النار.
أيّها الناس، إنّ من يسبُر التاريخ الغابرَ والحاضر ببداهةِ فهمه واتزان نظرِه ويتعرّف على واقع الأمم السالفة والمجتمعاتِ الحاضرة فلن يتطرّق إليه شكّ ألبتّة في وجود حقيقةٍ ثابتة ومبتغًى ينشدُه كلّ مجتمع، وأسٍّ لا يتغيّر ولا يتبدّل مهما توالت عليه العصور وعصفت به رياح الأيّام التي يداولها الله بين الناس، ألا وهو مطلب الأمن والأمان. الأمن الذي يهنأ فيه الطعام ويسوغ فيه الشراب ويكون فيه النهار معاشًا والنّوم سباتًا والليل لباسًا.
عبادَ الله، إنّه متى اختلّ إيجادُ الضمانات الواقعيةِ والإعدادات الشّمولية ضدّ ما يعكِّر الصفوَ في أجواء الحياة اليوميّة للمجتمعات المسلمة، إنه متى اختلّ ذلكم يومًا ما فاحكموا على أمان النّاس واستقرارهم بالغَيبة والتّيه المفرِزَين للممارسات اللاّمسؤولة والإخلال المرفوض بداهةً بكلّ ما له مساس بالأمن، والذي يهدِّد رسوّ سفينة المجتمع المسلم الماخرة، في حين إنّه لا قبولَ له بأيّ صفة كانت، مهما وُضِعت له المبرِّرات والحيثيّات التي يرفضها كلُّ ذي عقل حيّ وفؤاد ليس هواء، وإن استُعمل في نفاذ مثل تلكم الممارسات بعضُ بني أمّتنا وممّن يتكلّمون بلغتنا، ليجعلوا نتيجة الممارسات النشاز في المجتمع المسلم عرضةً لحتفِهم قبل حتفِ من سواهم. ومتى دبَّ في الأمة داءُ التسلًّل أو الافتيات الأمني من قِبل بعض أفرادِها فإنّما هم بذلك يهيلون الترابَ على مفهوم الاستقرار ويقطعون شرايينَ الحياة عن الأجيال الحاضرة والآمال المرتَقبة. هذا إن لم تكن تلك الممارسات تكأةً يتّكئ عليها أعداء الإسلام من الكفرة الحاقدين، ومبرِّرا سائغًا لهم في تنفيذ ما مِن شأنه إيجاد المسوِّغات المشروعة ـ بمفهومهم ـ في الضغوط المتتالية على حياض المسلمين، فتأتيهم مثلُ هذه الإخلالات على طبقٍ مِن ذهب ليجتاحوا بلادَ المسلمين بأدنى الحِيل.
إنّ الجوّ العامِر بالثقة والأمان والتّفاهم البنّاء الخاضع لشِرعة الله لهو الجوّ الذي يستطيع أن يحيى فيه دين الله وينتعِش؛ لتحلّ الأولويّات والقضايا الواضحات محلَّها الذي ينبغي أن يوجدَ مكانه لكافّة أفراد المجتمع المسلم، ولذا فقد جاءت شريعة الإسلام بحَسم مادّة الأمن، وأنّها غيرُ قابلة للتّردّد أو النزاع أو المساومة، فقد قال : ((إذا مرّ أحدكم في مسجدنا أو في سوقنا ومعه نبلٌ فليمسِك على نصالحها ـ أو قال: ـ فليقبض بكفّه أن يصيبَ أحدًا من المسلمين منها بشيء)) رواه البخاري [1] ، وفي الصحيحين أنّ النبيّ قال: ((من حمل علينا السّلاح فليس منّا)) [2] ، وفي الصحيحين أيضًا قوله : ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) [3] ، وفي الحديث الصحيح: ((المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده)) [4].
أيّها المسلمون، بقِي معنا هنا أن ندركَ مفهومَ الأمن بمعناه الشموليّ والواقعيّ، وأن لا يكونَ محلاّ لضيق العطنِ أو الفهم المقلوب لأبعاده وصُوَره أو لهما معًا، وذلكم من خلال قَصر مفهوم الأمن على نطاق ضيِّق متمثِّلٍ في مجرّد حماية المجتمع من السّرقة أو النّهب أو القتل وأمثال ذلك، كلاّ، فالأمن له مفهوم أعمّ من ذلكم وأجلّ، بل إنّ أوّلَ وأعظم مفهومٍ للأمن هو في أن ينطلقَ المجتمع المسلم على تقرير أنّ عقيدةَ المجتمع ارتباطه الوثيق بربّه والبعد عن كلّ ما مِن شأنِه أن يخدشَ تلكم العقيدةَ الغرّاء أو يثلمَها أو ينقضَ بعضَ عراها، هذا هو أوّل الواجبات الأمنيّة التي بها يتحقّق الوازع الدينيّ المانعُ من كلّ ممارسةٍ تخالف دينَ الله وشِرعته، متمثِّلاً ذلكم الوازع في البعد عن الشرك بالله في ألوهيته وربوبيّته وأسمائه وصفاتِه، والبعد عن الشرك به في حُكمِه، أو الكفر بملّة الإسلام والإلحاد فيها، أو تنحية شِرعة الباري جلّ شأنه عن واقع الحياة، أو مزاحمة شرعةٍ غير شِرعة الله مع شرعتِه، صِبْغَةَ ?للَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138]، أَفَغَيْرَ دِينِ ?للَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83].
ألا إنّ الأمنَ بصورته المطلقة الواسِعة لا يمكن أن يتحقَّق بدون ذلكم، ولا أن يقرّ قرار المجتمعات المسلمة في الرضا عن النّفس وعن الدين وعن الواقع والحال إلاّ من خلال ما ذكر الله بقوله: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور:55].
كما أنّ مفهومَ الأمن ـ عباد الله ـ ينبغي أن لا يُنحّى عن مراكز القوى في المجتمعات المسلمة، أو يدبَّ التجاهل فيه لينسيَنا أثرَ هذه المراكز الملموسة في أمن المجتمعات سلبًا وإيجابًا. فهناك ما يسمّى: مفهوم الأمن الغذائي والأمن الصحيّ الوقائي، وهناك ما يتعلّق بالضوابط الأمنيّة في مجال التكافل الاجتماعي وتهيئة فُرص العمل والإنتاج والقضاء على البطالة، والعناية بالنشء في كلّ ما يفيد ولا يضرّ، وحسم مادّة البطالة الفكريّة والفراغ الرّوحي أيًّا كان نوع ذلكم؛ لكونِه مثمِرًا الخللَ والفوضى في الشّبه والشهوات، إضافةً إلى فهم النواحي الأمنيّة المنبثِقة من دراسة الظواهر الأسريّة، وما يعتريها من ثقوبٍ واهتزاز في بنيتها التّحتيّة، كما أنّه يجب أن لا نغفلَ عمّا يُعدّ هاجسًا أمنيًّا لكلّ مجتمع وصمَّاما للفتح أو الإغلاق لمادّة الإخلال بالأمن، ألا وهو الأمن الفكريّ الذي يحمي عقولَ المجتمعات ويحفظها من الوقوع في الشّبهات بغفلةٍ أو العبِّ من الشّهوات بنَهم.
ومِثل هذا النّوع من الأمن لا يتسنّى له التّمام إلا مِن خلال مراعاة محورين أساسين، أولهما: محور الفكر التعليميّ التربويّ، وثانيهما: محوَر الأمن الإعلامي الثقافيّ، إذ يجب على الأمّة أن لا تقعَ في مزالقِ الانحدار والتغريب أو التبعيّة والإخلال عبرَ هذين المحورين، حيث إنّ الأمن على العقول لا يقلّ هاجسًا عن أمن الأرواح والأموال، فقد نرى للعقول لصوصًا ومختلسين كما نرى للبيوت لصوصًا ومختلسين، فينبغي أن يُحمَى التعليم بين المسلمين عن أن يتسلّل لِواذًا عن هويّته، بل ويُحمى من خلال إيجاد الآلية الفعّالة التي توفِّر سبلَ العِلم النافع الداعي إلى العمل الصالح، والبُعد عن التبعيّة المقيتة أو التقليل من شأن العلوم الدينيّة النافعة أو استثقالها على النّفوس، أو الاعتراف بها على الاستحياء والتخوّف المفرزَين الفتونَ الذي يتردّد بين الحدث والآخر عن مدى جَدوى الأخذ بها والإبقاء لها على مضَضٍ مُقلِق.
وأمّا محوَر الفكر الإعلاميّ فهو مِقبض رحى المجتمعات المعاصرة وأقنوم تأثيرها الأسّ؛ إذ به يبصَّر الناس ويرشَدون، وبه يخدَع النّاس ويغرَّبون، به تُخدم قضايا المسلمين وتنصَر، وبه تُطمس الحقائق وتهدَر. بالفكر الإعلاميّ تُعرف المجتمعات الجادّة من المجتمعات المستهتِرة، فما يكون فيه من اعتدالٍ وكمال يكون كمالا في بنية الأمن الإعلاميّ واعتدالا، ولذا فإنّه يجب على كلّ صاحب لسان فصيح مسموع أو قلم سيّال مقروء أن يتحدّثوا عن شؤون المسلمين بكلّ مصداقيّة وواقعيّة وعدلٍ وإنصاف، وأن لا تستهجِنَهم الحوادث وردود الأفعال ويستهوِيهم الشيطان، فينطلقون من خلال الحديث المشنّج والسِّباب المسترسِل والخصام الحاجب للقضيّة الأمّ الذي قد يفقأ العين ولا يقتُل العدو، فَأَمَّا ?لزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ?لنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ?لأرْضِ [الرعد:17].
إنّ عزوَ الأمور إلى مسبِّباتها الحقيقيّة ووضع النقاط على الحروف ينبغي أن يكونَ هو أوَّل طرق معالجة المعضِلات والقضايا المزعِجات، وإنّ تجاهلَ الأسباب والبواعث أو عزوَها إلى غير مصادرها لا يزيد الأمورَ إلا تعقيدًا والشرورَ إلا اتِّساعًا، وإنّ العقولَ السليمة لتستخفّ بالطّبيب يعزو سببَ الطاعون إلى شرب الماء أو استنشاق الهواء؛ لأنّ نتيجة التشخيص أيًّا كانت فعاقبتها ستطالُ نفسي ونفسَك أيها المسلم، أو ولدي وولدك وبنتي وبنتَك وأسرتي وأسرتَك. كما أنّه ينبغي أن تكونَ هذه المعالجة من قِبل ذوي الاختصاص من العلماء الأفذاذ والحكماء الموثوقين في دينهم وأمانتهم، دون تشويش أو تهويشٍ أو قيل وقال وظنٍّ وخرص، فالله يقول: قُتِلَ ?لْخَرَّاصُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَـ?هُونَ [الذاريات:10، 11]، يقول قتادة رحمه الله : "الخرّاصون هم أهل الغِرّة والظنون" [5].
إنّ إطلاقَ اللسان وسيَلان الأقلام خائضة في المدلهِمّات ولاتَّةً في النوازلِ دونَ زِمام ولا خِطام لمِن شأنِه أن يُحدِث البلبلة ويوغِر الصدورَ، وأن يُخرج المجتمعَ المسلم من تشخيص النّازلة الواقعة إلى التراشق والاختلافِ وتصفيةِ الحسابات الكامنة في النفوس، ولا تسألوا بعدَ ذلك عن محاولاتِ الفكّ لرموز اللّمز والغمز والهمز بنميم من قِبل مشكِّكين في تديّن المجتمع المسلم وسلامة المنهَل الإسلامي العذب فيه من كلّ تهمةٍ تصيبه أو تحلّ قريبا من داره، فيكثر اللّغط ويقلّ استحضارُ العلم، فتضمحلّ العافية والسّلامة من الخطأ، فضلا عن عدم القدرة في تقديم حلٍّ عاجِل سِوى الخلط والجَهل والتضليل، ومن ثمَّ تُزال المشكلة بأشكَل منها، وعلى سبيل المثال: لو سرَق إنسان في المسجد لعلَت صيحاتُ بعضِ اللّهازم أو المبغضين مناديةً بإغلاق المساجد أو هدمِها قطعًا لدابر السّرقة، ولو أنّ امرأةً محجّبة غشّت وخدعت لسُمِع رجعُ الصدى للمناداة بنزع الحجاب حسمًا لمادّة الغشّ والخداع زعموا، فلا هم في الحقيقة قطعوا يدَ السّارق ولا عزّروا تلك التي غشّت وخدعت، وإنّما دعَوا إلى هدم المسجدِ ونزع الحِجاب، وهذا هو سِرّ العجب، وهو ما يثير الدّهشةَ وينشئ الغلوّ وردودَ الأفعال، فيتصارع الإفراط والتّفريط على حِساب الاعتدال المنشود في المجتمعات المسلمة.
والإسلام ـ عباد الله ـ يكرَه الثرثرةَ الفارغة التي قد تخلو من ضرر ملحوظ في الباطن، فكيف بالضّرر المتحقِّق في الظاهر والتناوشِ المفرِّق، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَـ?جَوْاْ بِ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ ?لرَّسُولِ وَتَنَـ?جَوْاْ بِ?لْبِرّ وَ?لتَّقْوَى? وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المجادلة:9].
إنّ الإسلامَ شديد الوضوح في تحديد موقفِه من حريَّة النّقد والحوار، فهو لا يرى أنّ ذلك حقّ مباح لكلّ إنسان، ولا أنّه يكتب ويقول ما شاء بما شاء كيف شاء، غيرَ منضبطٍ بضوابط الشّرع وحدوده. وإنّ من المؤسِف أن يكونَ مفهوم حريّة التعبير وحريّة الحوار قد شاع مقلوبًا في أذهان الأغرار من حمَلة الأقلام وعليمي اللسان، فظنّوه لا يعدو إرسالَ الكلام على عواهنه وتسويدَ الصفحات بضروبٍ من الهَرّ يضرّ ولا ينفع.
إنّ الأمنَ الإعلاميّ في المجتمعات لهو أحوج ما يكون إلى دراساتٍ موسّعة تقتنص الهدفَ الواعي من خلال دراسةِ أوساط المجتمعات المسلمة والرّبط بينها وبين الخلفيّات الشرعيّة والاجتماعية للطبقة الممارسة لمثل هذه الأنشطة الإعلاميّة الفعّالة. كما ينبغي تحليلُ الأفعال وردود الأفعال بين معطيات المتطلّبات الشرعيّة والاجتماعيّة وبين متطلّبات الرّغبات الشخصيّة المحفوفة بالشّبهات أو الشّهوات، وأثر تلك المشاركات في إذكاء الحِسِّ الأمنيّ الإعلاميّ والكفاية الإنتاجيّة لاستقرار المجتمع العائد للأسَر والأفراد بالنّفع العامّ والهدوء اللاّمحدود في الدّارين.
فالواجب علينا جميعًا ـ أيّها المسلمون ـ أن ننظرَ إلى الحقيقة الأمنيّة من أوسع أبوابها وأقربِ الطّرق الموصلة إليها، وأن ننزّل الأمورَ منازلَها في كلّ المستجدّات، وأن لا نقحمَ أنفسَنا في القضايا الكِبار التي لا يصلح لها إلا الكِبار، كلٌّ بما أوكل الله إليه من مصالحِ المسلمين ورعايتِهم وإقامةِ الحق والقسط فيمن استرعاهم الله، فاللهَ اللهَ أن نزاحمَ بفضول الكلام والقيل والقال، وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا [الإسراء:36].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمِن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.
[1] أخرجه البخاري في الفتن (7075) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الفتن (7070)، ومسلم في الإيمان (98) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري في الفتن (7076)، ومسلم في الإيمان (64) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الإيمان (10، 11)، ومسلم في الإيمان (40، 42) من حديث عبد الله بن عمرو ومن حديث أبي موسى رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم أيضا في الإيمان (41) من حديث جابر رضي الله عنه.
[5] أخرجه الطبري في تفسيره (26/192)، وانظر: تفسير ابن كثير (4/234).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده.
وبعد: فاتَّقوا الله أيّها المسلمون، واعلموا أن ثمَّة مسلَّماتٍ وثوابت، ينبغي أن تدركَها المجتمعات المسلمة بعامّة، نعني بذلك المجتمعاتِ التي جعلت شرعة الله غايتَها وبغيتها، وهذا التّأكيد ينبغي أن يتكرّر كلّما سنَحَت فرصة وادلهمّت خطوب.
فمِن تلك الثوابِت ـ عبادَ الله ـ أنّ عقيدةَ المسلمين أساسُها التّوحيد لله والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك، وهيهات هيهاتَ أن يُفلِح أيّ تجسيد عقديّ سواه، حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ?لسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ?لطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ?لرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
وثابتٌ آخر يؤكّد أنّ الشريعة الإسلاميّة شريعة ثابتةٌ مستقرّة، تصلح لكلّ زمان ومكان، ويخضع لها كلّ شيء، وليس تخضع هي لكلّ شيء، منذ بعثة النبيّ إلى يومِنا هذا، وقد كان المسلمون عبرَ هذه القرون يعيشون بينَ انتصارات يتواضعون عندها، وبينَ هزائمَ وخسائر يسترجعون فيها ويحوقِلون، وهم صابرون على ذلك حتّى يأتيَ الله بالفتح أو أمرٍ من عنده، وشريعتُهم باقية لا تتبدّل ولا تتغيّر.
ومِن الثوابتِ أيضًا أنّ الأمّة الإسلاميّة مهما بلغت من أوجِ التسلّح العسكريّ والثورة الصناعيّة والعولمة الحضاريّة فإنّها لا غِنى لها عن العلماء الربانيّين والدعاة الصادقين الذين تجتمع عليهم القلوبُ وتتألّف حولهم النفوس، ينطلقون من فهمٍ صحيح ثابتٍ لكتاب الله وسنة رسوله ، فهم النجوم الثواقبُ والبدور المضيئة، ولولاهمُ بعد الله لمادت الأرض بأهلِها، ولكن هُمُ فيها أوتادٌ ورواسي، فهُم عدّة الأمّة في مكافحة الفِكر الإلحادي المنحرِف والدعواتِ المضلِّلة المسعورة، وهم عُدّتها في كَبح جِماح الغلوّ وتنشيط المفرّطين، والعلماء والدعاةُ لن يتمكّنوا مِن القيام بهذه المهمّة في ظلّ غِياب الثقة أو الاعتزاز بهم وسطَ مجتمعاتِهم.
ومِن الثوابتِ ـ عبادَ الله ـ أنّه لا يمكِن إدراك أيّ تلاحم وترابطٍ أو تمازج مبذول في المصالح الشرعيّة أو في درء المفاسد الطارئة دونَ أن تكونَ الوسيلة أو الغاية المتّفق عليها وفقَ الحقّ والشريعة، وإنّ أيَّ تصحيح مطروحٍ فإنّه يُعدّ وهمًا مع هذا الخروج على المقرَّرات الإسلاميّة والثوابت الشرعيّة، بل إن مثلَ هذا الخروج يُعدّ خيانة عظمى وجنونًا لا عقلَ معه وإغماءً لا إفاقة فيه، إذ شرفُ المرء وشرف المجتمع إنّما هو في الانتساب إلى الإسلام لا في الصدّ عنه، وَجَـ?هِدُوا فِى ?للَّهِ حَقَّ جِهَـ?دِهِ هُوَ ?جْتَبَـ?كُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ?لدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْر?هِيمَ هُوَ سَمَّـ?كُمُ ?لْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَـ?ذَا لِيَكُونَ ?لرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ?لنَّاسِ فَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَ?عْتَصِمُواْ بِ?للَّهِ هُوَ مَوْلَـ?كُمْ فَنِعْمَ ?لْمَوْلَى? وَنِعْمَ ?لنَّصِيرُ [الحج:78].
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشريّة محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحبِ الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم ـ أيها المسلمون ـ فقال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...
(1/2702)
لا عز إلا في الإسلام
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
محمد أحمد حسين
القدس
6/4/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عز أمة الإسلام حين استمسكت بدينها وشريعة ربها. 2- صور من الحضارة الإسلام العظيمة. 3- أحوال المسلمين عندما بعدوا عن دينهم. 4- آثار الاستعمار الغربي على العالم الإسلامي. 5- كلمة في ذكرى حرب النكسة. 6- لن تعود عزة المسلمين إلا برجوعهم على الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذركم ونفسي من عصيانه ومخالفة أمره، لقوله تعالى: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أما بعد: فيقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ?لْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الأنفال:24، 25].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، هذه أمتكم الإسلامية عزت باستجابتها لله ولرسوله، وموتها في سبيل الهداية إلى الله، وتمسكها بما أنزل الله وبسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
فانظروا إن شئتم إلى تاريخ أمتكم كيف كانت يوم استجابت لدعوة الله واتبعت النور الذي أنزل على رسوله، واتخذته مصدراً لخلاصها، لقد أثمرت هذه الاستجابة في نفوس أسلافكم حقيقة راسخة أحيت القلوب والعقول، وأنقذت أصحابها من ضلالات الجاهلية والجهل، فأصبحت منارات للهدى، تسترشد منها البشرية إلى ما يسعدها في الدنيا للفوز بنعيم الآخرة.
وانبثق عن هذه العقيدة شريعة أسست لهذه الأمة نظاماً تنعم برحمته وتسير بعدالته ويحرر الإنسان من الخضوع لطواغيت الأرض، ليعيش حراً طليقاً في رحاب كرامته الإنسانية، التي ضمنتها قواعد وتعاليم الشريعة السمحاء الغراء، وضمنها الله تعالى دستوراً، ولم تفضل لوناً على لون، أو جنساً على جنس، إلا بمقدار الاستجابة والقرب من الله جل وعلا.
لقد وطّأت شريعة الإسلام ابن السوداء بقدمه على الكعبة الشريفة، هذه الشريعة الغراء التي أحيت أعراب الجاهلية وعباد الأصنام في جزيرة العرب، وجعلت منهم أمة واحدة من دون الناس، يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، بنيان متلاصق في ظل أخوة الإيمان، في مجتمع المدينة المنورة التي شهدت مولد الدولة الإسلامية لأول مرة في تاريخ أمتكم.
أيها المسلمون، استمرت الدولة الإسلامية بعد مرحلة النبوة يحكمها الخلفاء والأمراء والسلاطين، بمنهاج الله، الذي ازدهر في مرحلة النبوة، ورضيه الله ديناً لأمة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبهذا تمت النعمة، وازدهرت الحضارة التي أكرم الله بها أمتكم، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، تدعو إلى الخير وتعمل به، وتنهى عن المنكر وتجتنبه، وتخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فاتجه المسلمون إلى كل بقاع الدنيا، يحملون دعوة الإسلام للبشرية جمعاء، يدعونها بالحجة والبرهان، بعيداً عن الإكراه أو الإجبار، لأنه لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي.
وكانت أمتنا بهذا الدين رائدة الأمم، وغدت دولة المسلمين هي الدولة الأولى في العالم ردحاً من الزمان، لأنها تحكم بشرع الله، وتسير على هدي رسول الله عليه الصلاة والسلام، بهذا ظلت الأمم تعيش بعدل الإسلام، هذا المنهج الحق الذي يحمي هذه العدالة، فلا ظلم ولا قهر ولا غدر بكرامة الإنسان مهما اختلفت الأديان، فكانت الشعوب المقهورة ترحب بالمسلمين وتسارع في الانضواء تحت سلطة دولة الإسلام، التي رأوا فيها خلاصهم من البطش والظلم والقهر الذي عانته تلك الشعوب من القبلية والعرقية وتسلط الحكام.
أيها المسلمون، فمنذ تركت الأمة الإسلامية العودة إلى الله والاستجابة لرسوله أصابتها المصائب، وحلت عليها الأهوال، وتوالت عليها النكبات، وكان من أعظم مصائب أمتكم تنحية النظام الإسلامي عن سدة الحكم والاحتكام إلى الكفر والطاغوت وقوانين البشر الأرضية، فإنَّ أظلمَ الظلم تركُ شريعة الله والاحتكام إلى الأهواء، فالله يقول: أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((ولا حكم أمراؤهم بغير ما أنزل الله إلا سلط عليه عدوهم فاستنقذوا بعض ما في أيديهم)) [1].
وها هي الأمة تعاني تسلط الأعداء على أرضها، وجنودها وثرواتها، ويستنقذون كل ما في أيديها، بتواطؤ من ولاة أمورها، من صنائع الاستعمار، الذين ساهموا في تمزيق الأمة، هم عطلوا حكم الله واحتكموا إلى الطاغوت، يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، وقد وقفوا حجر عثرة في سبيل نهضة الأمة التي راحت تتلمس طريق خلاصها، بالاستجابة لله ولرسوله، وتسعى إلى الحياة الإسلامية الكريمة، لذلك تعمل دوائر الكفر على اختلاف مسمياتها على محاربتها، لمنع المد الإسلامي ـ القادم لا محالة ـ رغم كل الويلات التي نزلت بالأمة جراء الشعارات الخادعة والريات الزائفة.
لقد تكفل الله بظهور هذا الدين، ووعده أن ينصره على امتداد تاريخ هذه الأمة، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
فاعتبروا يا أولي الأبصار، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
[1] رواه البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عمر (3315)، وقال الألباني: صحيح لغيره. صحيح الترغيب (2187)، وروى نحوه ابن ماجه في السنن (4009).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اهتدى بهديهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين.
وبعد: أيها المسلمون، فإن الويلات والنكبات نزلت بالأمة منذ توقفت عن الاستجابة لله ورسوله، بعد إلغاء الحكم الإسلامي والاستعاضة عنه بالأحكام الوضعية التي جلبها المستعمر في العقود الأولى من القرن العشرين لحكم هذه الأمة، وقد مزقت أرض الدولة الإسلامية تحت مسميات من الأقاليم والدويلات، بأعلامها وجنسياتها وحدودها التي غدا المسلم غريباً فيها، حتى بعد الاستقلال المزعوم ورحيل المستعمر مخلفاً على البلاد والعباد من ينفذ خططه وينشر ثقافته، ويكيل بمكياله، بدعم من بني جلدتنا وأبناء قومنا.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، لعل من أكبر الشواهد النكبات التي حلت بالأمة، نكبة هذه الديار، نكبة هذه الديار المباركة المقدسة، التي بارك الله في مسجدها وقدسها، هذه النكبة التي بدأت بوعد من المستعمر بمنح من لا يملك لمن لا يستحق.
وفي ظل هذا الوعد الذي أصدرته سلطات الاحتلال والاستعمار البريطاني، ودعمته لاحقاً هيئة الأمم، وقعت نكبة فلسطين الأولى التي شرد أهلها إلى الديار المجاورة، وإلى سائر بقاع الأرض، تحت سمع وبصر الأنظمة الرسمية القائمة في دول العروبة والإسلام يومذاك، والتي رفضت قرار الأمم المتحدة بتقسم فلسطين إلى دولة عربية وأخرى عبرية، على أمل التحرير والمحافظة على الأرض الفلسطينية عربية إسلامية.
ولم يمضِ أكثر من عقدين من الزمان حتى وقعت النكبة الثانية، أو ما اصطلحت عليه الأنظمة العربية بالنكسة، التي وقعت في الخامس من هذا الشهر(يونيو ـ حزيران) عام 1967م فيما عرف بحرب الأيام الستة.
وكانت الأرض الفلسطينية ودُرة جبينها، القدس، ضحية هذه النكبة أو النكسة التي مضى عليها ستة وثلاثون عاماً. ومعها أراضي عربية في سيناء والجولان ولبنان.
هذه النكبة التي ما زال شعبنا المرابط يتجرع ويلاتها، ويقف في مواجه الاحتلال والاستيطان والتهويد الزاحف بسرعة نحو مدينة القدس بحضارتها ومعالمها، التهويد الزاحف بالاستيطان في كل الأرض الفلسطينية، ويقسمه المحتل إلى استيطان شرعي وغير شرعي.
بعد هذا كله راح العرب ومعهم دول المؤتمر الإسلامي يبحثون عن حل لهذه القضية عن طريق المفاوضات والمهاترات واستقبال المستعمر الجديد والاحتلال الأمريكي الحديث، الذي صنع نكبة أخرى في أرض الرافدين، حظيت بموافقة مجلس الأمن الدولي عليها.
أيها المسلمون، أيها المرابطون في ديار الإسراء والمعراج، إن عزة الأمة والتخلص من كل ويلاتها ومصائبها يكمن في استجابتها لله ورسوله، بالعودة الصادقة لتحكيم شرع الله الذي يوحد الأمة تحت راية الحق، هذه الراية التي انتصر تحت لوائها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، ومن سار على نهجهم من السلف الصالح، من القادة والحكام العظام، الذين أعادوا مجد الأمة وعزتها بعد انتكاستها أو تراجعها، يقول ابن عمر رضي الله عنه: (منكان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة، أبرّها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا على الهدى المستقيم).
ورحم الله الفاروق عمر رضي الله عن إذ قال: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله).
(1/2703)
الهجمة المعلنة من أهل النفاق والعلمنة
الإيمان
نواقض الإيمان
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
6/4/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توالي مكر المتربصين. 2- هجمة المنافقين على الإسلام وعلمائه وأهله. 3- صفات العلمانيين وأعمالهم ومآربهم. 4- المساواة والمرأة عند العلمانيين. 5- هجمة العلمانيين على الولاء والبراء. 6- هجمة العلمانيين على رجال الحسبة. 7- فشل العلمانيين في الإدارة والحكم. 8- الإصلاح الموهوم. 9- انهزام الباطل أمام الحق. 10- سبيل النجاة. 11- فضل العلماء في الأمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله حقَّ تقاته، واحمدوه على آلائه، واسألوه المزيدَ من نعمائه، واصبِروا على مُرِّ قدَره وقضائه، وحاذروا أن تزلَّ بكم قدَم، ومَن هَدمَ دينَه كان لمجدِه أهدَم.
أيّها المسلمون، لا تزال حلقاتُ الكيدِ بالمسلمين تتتابَع، ومكرُ المتربِّصين يتسارع، وقِوى الحقّ والباطل تتصارع، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوًّا مّنَ ?لْمُجْرِمِينَ وَكَفَى? بِرَبّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان:31]، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوًّا شَيَـ?طِينَ ?لإِنْسِ وَ?لْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى? بَعْضٍ زُخْرُفَ ?لْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:112].
وتأتي على الأمّة الفواجعُ والزّوابع لتُظهر دخيلةَ أهل النفاق والشّقاق وسوءَ طويَّتهم، وتكشفَ رداءَ المداوَرة، وتمزِّق ثوبَ المراوغة، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلا: أَمْ حَسِبَ ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ ?للَّهُ أَضْغَـ?نَهُمْ وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَـ?كَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَـ?هُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ ?لْقَوْلِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَـ?لَكُمْ [محمد:29، 30].
ويأتي الهجومُ المعلَن والعداء المبطَّن على الإسلام وعلمائه وأهله وأسُسِه وثوابته ومناهجِه وبلاده مِن ذوي الفكر المقبوح والتوجُّه المفضوح؛ ليؤكِّد بجلاءٍ أنَّ مِن بين صفوف الأمّة أدعياء أخفياءَ، كاذبون في الولاء والانتماء، سلكوا مسالكَ عدائيّة، وطرحوا في تضاعيف الصّحف أفكارًا علمانيّة لا دينيّة. شمَخَ كلُّ واحدٍ منهم بأنفٍ من الجهل طويل، واحتسى مِن قيح الخُبث وقبيح الأباطيل، ونطق بالزّور وافترى الأقاويل. قومٌ بُهت دنَّسوا وجهَ ما كتبوا عليه من قِرطاس، ولطَّخوه بعقائدِ الشكِّ والجُحود والوسواس. مقالاتٌ شوهاء وكلِمات عرجاء وحماقاتٌ خرقاء، تبَّت يدا من خطَّها وتَبّ، ما أقبحَ فعلَه وما كسَب. ألسنةٌ شأنُها الإفك والخطَل، وقلوبٌ أفسدَها سوءُ العمل، يريدونَها فتنةً عمياء، ويبغونها حياةً عوجاء، نقدٌ بلا عِلم، وحوار بلا أدب، ومعالجة بلا فهم، غثٌّ فارغ واستخفاف ماكر. أسافل قد علَت لم تعْلُ مِن كرَم، وأقزامٌ تطاولت، وأقلام مأجورَة تهافَتت على الزور وتعاهدت، فكان حقًا على كلِّ مسلم أن يكشفَ ضلالَهم، ويدفعَ باطلهم. شراذمُ قاصرون وشذّاذ أفّاكون جاؤوا ببضاعة غربيّةٍ اسمُها العلمانيّة، وحقيقتها اللادينيّة، وهدفُها إزاحة الإسلام عن الحياة بالكليّة، يدعون أمَّتهم إلى مذاهبِ الغرب في الحُكم والإدارة، وسلوك مسالكهم في الوضع والتشريع، يعشقون حياةَ الفجور والفسوق والانحراف، ويُبغِضون حياةَ الطّهر والعفاف، يهاجِمون الحجابَ والجلباب، ويطالبون بالسّفور والاختلاط، وينادون بمساواة الرّجل بالمرأة وعملِ المرأة وحريّة المرأة. فأيَّ مساواة يريدون؟! وأيّ عمل يقصدون؟! وأيّ حريّة ينشدون؟! أهي المساواة التي تتوافق مع الفِطرة وتتناسق مع طبيعة المرأة، أم هي مساواة الشذَّاذ؟!
إنّ المساواةَ عندهم هِي أن تكونَ المرأة سلعةً في يدِ عُبَّاد المادّة والمال، مستعبدةً في يد الرجل، يستمتِع بها ويستذلُّها ويدنِّسها ويهين كرامتَها وينتهِك عِرضَها وشرفها، ثمّ يلفظها لفظَ النّواة. المرأةُ عندهم عارضةٌ في دور الأزياء، راقصة في دور البِغاء، غانية في دور الدّعارة والتمثيل، عامِلة برجلَيها وثديَيها، ندٌّ للرّجل ومماثلة له ومتصارعة معه ومزاحمة له. هذه هي المساواة عندَهم.
أمّا المساواةُ في الإسلام فأرِع سمعَك لقول الله عز وجل: وَلَهُنَّ مِثْلُ ?لَّذِى عَلَيْهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، وقوله : ((إنّما النّساء شقائق الرّجال)) أخرجه أحمد والترمذي [1]. فالمرأة شقيقة الرّجل، تكمِّله ويكمِّلها، هو رجلٌ برجولته وقوامَته، وهي امرأة بأنوثتها وعفّتها.
المرأة عندهم بغيٌّ من البغايا وأمة من الإماء، والمرأة عندنا أمّ رؤوم وزوجٌ حنون وأختٌ كريمة، طهرٌ وحشمة وعفاف، وحياء وشرف وإباء، مربِّية أجيال، وصانعة أبطال، وغارسة فضائل، ومرضعة مكارم، وبانية أمَم وأمجاد. هذه هي المرأة عندنا فلينهلِ العالم الكافر من نظام الإسلام وعدله وحكمتِه ورحمته، إنّا ندعو العالمَ أن يزيحَ الظلمَ الذي أوقعَه على المرأة يومَ استعبدَها وأشقاها وأضناها وأشقى البشريّة معها.
أيّها المسلمون، وتمتدّ الهجمة الحاقدةُ من أهل العلمنَة والنّفاق لتُحارِب عقيدة الولاء والبراء التي هي أوثق عُرى الإيمان، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله لأبي ذر: ((أيّ الإيمان أوثق؟)) قال: الله ورسوله أعلم، قال : ((أوثقُ عُرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحبّ في الله والبغض في الله)) أخرجه الطبراني وله شواهد يقوى بها [2].
فلماذا يحاربون الولاء والبراء؟! ولمن يريدون أن يكونَ الولاء والبراء؟! نوالي من؟! ونعادي من؟! نحبُّ مَن؟! ونبغضُ من؟! إنّهم يحاربون الولاءَ والبراء ليوقِعونا في ولاءٍ وبراء، ولاءٌ لمن يحبّون، وبراء ممّا يكرهون، فلا ولاءَ حينئذ لما يحبُّ الله ورسوله ، ولا براءَ ممّا يبغضه الله ورسوله ، يريدون أن نبرأ مِن عقيدتِنا وأخلاقِنا وقِيَمنا وتاريخنا وأمجادِنا؛ لنواليَ عقيدة الكفر والجحود وأخلاقَها وقيمَها وحياتها. يلمِزون العلماءَ والصّلَحاء، ويسخرون ويستهزئون، ويحاربون أهلَ الحسبة ورجالَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويلفّقون التُّهمَ ضدَّهم، ويضخِّمون أخطاءهم، وينتهكون أعراضَهم، ويكتمون إنجازاتِهم، ويسكتون عن حسناتِهم. سلِمت من ألسنتهم وأقلامهم القنواتُ الفضائية الخليعة والمجلاّت الهابِطة ودورُ الأفلام والغناء مع أن عددَ ضحاياها لا يُحصى، وعددَ قتلاها لا يستقصى، ولم تسلم منهم كتبُ التوحيد والعقيدة والمواد الشرعيّة، فطالبوا بتقليصها وتقليل نصابها، مع أنّه لا يوجد على وجهِ الأرض مناهجُ ترعى الحقوقَ وتحقّق الأمن والعدلَ كما تراه جليًّا في مناهجنا المستمدَة من كتاب الله وسنّة رسوله. تخبُّطٌ ظاهر وظلمٌ جائر، وانتكاسة جليّة وحرب عقديّة، يدعون إلى التّسامح وهم يسلكون مسالكَ عدائيّة، ويطرحون أفكارًا تبعَث على الإثارة والشحناء، ويكتمون الرأيَ الآخر ويعادونه ويصادرونه، ويدعون إلى الوسطيّة بأبشع ما ترى من تطرُّف وغلوّ وشذوذ وانحراف وشطَط، ينظرون إلى أمّتهم بازدراء، وإلى تاريخها باحتِقار، وإلى قيَمها وأخلاقها بإهانةٍ واستصغار، وذلك يحكي واقعَ الذلّ والخنوع والانصهار والذّوبان الذي يعيشونه مع الغرب، ويريدون أن تعيشَه الأمّة مثلهم. يدَّعون الصدقَ والإصلاح والتجديد، ويرمون غيرَهم بالرجعيّة والتعصّب والجمود والتطرّف والإرهاب، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5]، وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ?لْحُسْنَى? وَ?للَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـ?ذِبُونَ [التوبة:107]، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
أيّها المسلمون، لقد زُرعت هذه النّبتةُ الخبيثة والشّجرة الملعونة في بلاد الإسلام، وامتدّت أغصانها وسُلِّمت لها قيادةُ التعليم والإعلام والاقتصاد والجيش والإدارة والتشريع لأكثر مِن قرن ونصف القرن، فماذا كانت النّتيجة؟! سوءٌ في الاقتصاد، وتخلّف في التكنلوجيا، وفسادٌ في الإدارة، وانحرافٌ في الإعلام والأجيال، وهزائمُ متتابعة في ميادين القتال.
هؤلاء هُم العلمانيّون، وهذه نتائجُهم، وتلك ثمارُهم، قومٌ مارقون، من جادَل عنهم فقد جادل عن الباطل، ومن أعانهم فقد أعان على هدمِ الإسلام. فاحذروهم ولا تقعوا في شراكهم وشباكهم، ولا يصدّونكم عن دينِكم بشبهِهم وزُخرف قولِهم، يقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: كان النّاس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشرّ مخافة أن يدركَني، فقلت: يا رسول الله، إنّا كنّا في جاهليّة وشرّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ فقال: ((نعم)) ، قلت: هل بعد هذا الشرّ من خير؟ قال: ((نعم، وفيه دخن)) ، قلت: وما دخنُه؟ قال: ((قومٌ يهدون بغير هديي، تعرفُ منهم وتنكر)) ، فقلت: فهل بعد ذلك الخير من شرّ؟ قال: ((نعم، دعاةٌ على أبواب جهنّم، من أجابهم إليها قذفوه فيها)) ، قلت: يا رسول الله، صِفهم لنا، قال: ((هم من جلدتِنا ويتكلّمون بألسنتِنا)) أخرجه البخاري [3].
أيّها المسلمون، إنّ كلَّ من شذَّ عن دين الله تعالى أو بغى فيه بعِناد أو سعى فيه بفسادٍ فهو الشانئ الأبتَر والعدوّ الأصغَر والأحقر، أمرُه إلى وبال وفكرُه إلى سفال، وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]. ومن سبَّ الله أو سبَّ رسوله أو تنقَّصه أو أتى بقولٍ أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين أو استهزأ بالقرآن أو أسقط حرمته أو تكرَّرت وردّته فلا يجهل أحدٌ حكمَ الله فيه، ولا يُرجَى منه لأمّته خيرٌ ولا صلاح ولا إصلاح.
أيّها المسلمون، إنَّ أيَّ مشروع للإصلاح لا ينبُع من عقيدة الأمّة وكتاب ربّها وسنّة نبيّها محمّد وتوجيه أهلِ العلم والصلاح فيها هو إصلاحٌ موهوم وافتيات موخوم وتغيير مذموم وإفساد معلوم، يقول أبو بكر بن عيّاش رحمه الله تعالى: "إنّ الله بعث محمّدًا إلى أهل الأرض وهم في فساد، فأصلحهم الله بمحمّد ، فمن دعا إلى خلاف ما جاء به محمّد كان من المفسدين في الأرض".
أيّها المسلمون، مَن رام هدًى في غير الإسلام ضلّ، ومَن رام إصلاحًا بغير الإسلام زلّ، ومَن رام عِزًّا في غير الإسلام ذلّ، ومن أراد أمنًا بدون التوحيد ضاع أمنه واختلّ، (نحن قومٌ أعزّنا الله بالإسلام، فمتى ابتغينا العزّة في غيره أذلّنا الله) [4].
أيّها المسلمون، لن يكونَ للباطل نماء ولا لأهل الزيغ بقاءٌ ما دُمنا للحقّ دعاة وللعالَم هداةً وللخير بناة، ومتى كنّا آمرين بالمعروف صِدقًا ناهين عن المنكر حقًا فإنّ الباطلَ إلى اندحار، وأهلَه إلى انحدار، والحقّ إلى ظهور وانتشار، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
أيّها المسلمون، الثباتَ الثباتَ أمام ملتطَم العاديات ومستنقَع المتغيّرات، يقول رسول الهدى : ((إنّ مِن ورائكم أيّام الصبر، الصبرُ فيه مِثل قبضٍ على الجَمر، للعامِل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثلَ عمله)) ، قيل: يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ قال: ((أجر خمسين منكم)) أخرجه أبو داود وابن ماجه [5].
فحثّوا المطيّ، وأرخوا من أزمَّتها، وانزعوا إلى دار لا ينصرِم نعيمُها ولا يحيل مقيمُها، واستمسِكوا بدينكم، وعضّوا عليه بنواجذكم، وانقادُوا لحُكمه، واخضَعوا لإرشادِه، تسلموا مِن الفتن، وتنجوا من المِحن، وتعيشوا سعداء، وتموتوا لدينكم أوفيَاء.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنّة، ونفعني وإيّاكم بما فيهما من البيّنات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (6/256)، وأبو داود في الطهارة (236)، والترمذي في الطهارة (113)، وابن الجارود في المنتقى (91) من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو في صحيح سنن الترمذي (98)، وانظر: السلسلة الصحيحة (2863).
[2] أخرجه الطبراني في الكبير (11/215) من طريق حنش، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال الألباني: "هذا سند ضعيف جدًا، حنش متروك". وفي الباب عن البراء بن عازب رضي الله عنه أخرجه الطيالسي (783)، وابن أبي شيبة (7/80)، وأحمد (4/286) وغيرهم، قال الهيثمي في المجمع (1/90): "فيه ليث بن أبي سليم ضعفه الأكثر". وفي الباب أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه أخرجه الطيالسي (376)، وابن أبي شيبة (10492)، والطبراني في الكبير (10531) وغيرهم، وصححه الحاكم (2/480)، وتعقبه الذهبي بأن فيه عقيلا الجعدي قال عنه البخاري: "منكر الحديث"، وقال أبو حاتم في العلل (1977): "ونفس الحديث منكر، لا يشبه حديث أبي إسحاق، ويشبه أن يكون عقيل هذا أعرابيًا". وأخرجه الطبراني في الكبير (10357) من طريق القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده ابن مسعود. قال الألباني في السلسلة الصحيحة (998، 1728): "فالحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن على الأقل، والله أعلم".
[3] أخرجه البخاري في الفتن (7084)، ومسلم في الإمارة (1847).
[4] هذا من كلام عمر رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/10، 93)، وهناد في الزهد (817) بنحوه، وصححه الحاكم (207، 208)، وهو في صحيح الترغيب (2893).
[5] أخرجه أبو داود في الملاحم (4348) ، والترمذي في التفسير (3058)، وابن ماجه في الفتن (4014) من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، وقال الترمذي: حسن غريب، وصححه ابن حبان (1850)، والحاكم (4/358)، ووافقه الذهبي، وهو في السلسلة الصحيحة (494).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيّها المسلمون، في زمن القَحط والجفاف والفرقة والخلاف وانتشار الفساد والانحرافِ يبحَث المسلم عمَّا يكون له أُنسًا عند الوَحشة وجلاءً عند الشّبهة وضياءً عندَ الظلمة ومورِدًا عند اللّهفة، وليسَ غيرُ الكتاب والسنة بفهم سلفِ الأمّة حصنًا من المخاطر وحِرزًا من المعاثِر، فاستمسكوا بهما، واعتصِموا بما فيهما، فعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كتابُ الله هو حبل الله، من اتَّبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة)) أخرجه مسلم [1] ، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((تركتُ فيكم ما لن تضلّوا بعده إن اعتصمتُم بِه: كتاب الله)) أخرجه مسلم [2] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنّي قد تركتُ شيئين لم تضلّوا بعدهما: كتاب الله وسنّتي، ولن يتفرَّقا حتّى يردا عليّ الحوض)) أخرجه الحاكم [3].
أيّها المسلمون، العلماءُ هم حرّاس الأمّة، الصادقون في نصحِها، العارفون بمصالِحها، العالِمون بأدلّة الشريعة وبراهينها ومقتضيات العقيدة ولوازِمها، وهُم أقدر النّاس على استنباط الأحكام ومعرفة الحلال والحرام، نظرُهم عميق، ورأيهم وثيق، وفكرُهم دقيق، فيه علامة التّسديد والتوفيق، علَّمتهم الوقائع والتجاربُ مكنونَ المآلات والعواقب، فاسألوهم عمَّا أشكل، وشاوِروهم عمّا أقفل، واعرضوا عليهم ما حلّ ونزل، وإيّاكم والتفرّد بالرّأي أو سؤال كلِّ منكَر في العلم أو غريب، ليس له حَوْزٌ ولا نصيب، واسألوا اللهَ الهداية، واستعيذوا به من الضلال والغواية، وصُونوا ألسنتَكم عمّا لا فائدةَ منه من القول، وإيّاكم والجدال والمراءَ فإنّهما رأيُ الفتنة وحبائل الفُرقة، و((المسلم من سلِم المسلمون من لسانِه ويده)) [4] ، و((مَن يُحرم الرفقَ يُحرم الخيرَ كلّه)) [5] ، و((إنّ الله يعطي على الرّفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه)) [6] ، و((ما كان الرّفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه)) [7] ، فاحذَروا الإقدام على أفعالٍ تضرّ ولا تنفع، وتفرّق ولا تجمَع، وتجلب الشرَّ ولا تدفع، وتراحَموا وتكاتفوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا. حفظنا الله مِن الفتن، وأدام علينا النِّعم والمِنن.
وصلّوا وسلِّموا على خير البريّة وأزكى البشريّة، فقد أمركم الله بذلك فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في فضائل الصحابة (2408).
[2] أخرجه مسلم في الحج (1218).
[3] أخرجه مالك في الموطأ بلاغًا (1661)، ووصله الدارقطني (4/245)، والبيهقي (10/114)، والحاكم (1/93) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/331): "هذا محفوظ معروف مشهور عن النبي عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد"، وقواه الألباني بشواهده في السلسلة الصحيحة (4/361).
[4] أخرجه البخاري في الإيمان (10، 11)، ومسلم في الإيمان (40، 42) من حديث عبد الله بن عمرو ومن حديث أبي موسى رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم أيضا في الإيمان (41) من حديث جابر رضي الله عنه.
[5] أخرجه مسلم في البر (2592) من حديث جرير رضي الله عنه.
[6] أخرجه مسلم في البر (2593) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[7] أخرجه مسلم في البر (2594) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(1/2704)
شرح حديث أبي ذر القدسي
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
6/4/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نص حديث أبي ذر رضي الله عنه. 2- معنى الظلم وتنزيه الله تعالى نفسه منه. 3- تحريم الله تعالى الظلم بين العباد. 4- القصاص بين العباد يوم القيامة. 5- الهداية والضلال. 6- نعم الله تعالى. 7- الحث على التوبة والاستغفار. 8- غنى الله تعالى عن خلقه. 9- خزائن الله تعالى. 10- دقة الحساب يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ من فضل الله علينا وكرمه وجوده ما أخبرنا به نبيّنا في ذلكم الحديث القدسي الذي رواه نبيُّنا عن ربّنا جلَّ جلاله. حديث عظيمٌ ابتُدئ بتنزيه الله عن الظلم، وخُتم بكمال عدلِ الله الذي يستبين للخلائق في أعظم موقفٍ عظيم يومَ وقوفِهم بين يدَي ربّهم. حديثٌ إذا تأمَّله المؤمن وجد أنّه حديث يملأ قلبَ المؤمن يقينًا بالله وثِقة بالله واعتمادًا على الله، ويعلِّق رجاءَه وأملَه بالله وحدَه. حديثٌ يبيِّن الله فيه كمالَ غِناه عن خلقه وكمالَ افتقار الخلق إليه، يبيِّن فيه ربّنا جلّ وعلا أنّ طاعاتِ العباد منفعتُها لأنفسهم، وأنّ ضررَ المعاصي يعود عليهم، فلا تزيد طاعاتهم في ملك الله، ولا تنقص معاصيهم من ملك الله. حديثٌ فيه بشرى للتائبين وتحذير للمعرضين، فسبحان الحكيم العليم.
روى مسلم في صحيحه عن أبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه، عن رسول الله فيما يرويه عن ربّه تعالى أنّه قال: ((يا عبادي، إنّي حرّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرّمًا، فلا تظالموا. يا عبادي، كلّكم ضالّ إلا مَن هديتُه، فاستهدوني أهدِكم. يا عبادي، كلّكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعِمكم. يا عبادي، كلّكم عارٍ إلا مَن كسوتُه، فاستكسوني أكسُكم. يا عبادي، إنّكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوبَ جميعًا، فاستغفروني أغفرْ لكم. يا عبادي، إنّكم لن تبلغوا ضرّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخرَكم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أفجر قلبِ رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أوَّلكم وآخركم وإنسَكم وجنَّكم قاموا في صعيد واحدٍ فسألوني فأعطيتُ كلاًّ مسألتَه ما نقصَ ذلك مِن ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخِل البحر. يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أحصِيها لكم، ثمّ أوفِّيكم إيّاها، فمَن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجَد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسَه)) [1].
أيّها المسلمون، ما أعظمَها من جُمل، وما أعظمَ فوائدَها، فالظلمُ الذي هو وَضع الشيء في غير موضعِه نقصٌ في حقّ البشر، والله جلّ وعلا منزَّه عن العيوب والنقائص، مع قدرتِه على ذلك لكنّه جلّ وعلا حرَّمه على نفسه، وأوجب على نفسِه العدلَ: ((إنّي حرمتُ الظلمَ على نفسي)) ، والله يقول لنا: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَظْلِمُ ?لنَّاسَ شَيْئًا وَلَـ?كِنَّ ?لنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44]، ويقول جلّ جلاله: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـ?عِفْهَا [النساء:40]، ويقول: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـ?كِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الأعراف:160]، ويقول: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46]. فحاشاه ظلمَ العباد، ويقول: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا [طه:112]. فهو جلّ وعلا أعدلُ العادلين، والظلم غيرُ لائق به، كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى? نَفْسِهِ ?لرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، وفي الكتاب الذي كتبه ربّنا فوقَ العرش: ((إنّ رحمتي سبقت غضبي)) [2].
وحرّم الظلمَ بين العباد، وجعله بينهم محرّمًا، والظلمُ أعظمه الشرك بالله بعبادةِ غيره، فإنّ هذا أعظمُ الظلم إذ وُضِعت العبادة لغير مستحقِّها، وظلمُ العبد لنفسِه بانتهاكِه ما حرَّم الله عليه أو ترك ما أوجب الله عليه، فإنّ هذا مِن ظلم العبد لنفسه بتركِ واجب أو بفعل محرم، فهذا ظلمٌ منه لنفسه، وظلم العباد فيما بينهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وفي الحديث: ((اتّقوا الظلمَ، فإنّ الظلمَ ظلمات يوم القيامة)) [3] ، وفيه: ((إنّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلِته)) ، ثم تلا قوله تعالى: وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ [هود:102] [4].
ومظالمُ العباد يومَ القيامة يُقتصّ من الظالمِ لمن ظلمه، حتّى إذا لم يبقَ من حسناتِه شيء أخذَ مِن سيّئات مَن ظلمهم فحُملت عليه ثمّ طرِح في النار، يقول : ((أتدرون من المفلس فيكم؟)) قالوا: المفلسُ فينا من لا دينارَ له ولا متاع، قال: ((ولكنّ المفلس من يأتي يوم القيامة بأعمالٍ أمثال الجبال، يأتي وقد ضرَب هذا وشتمَ هذا وسفك دمَ هذا وأكلَ مالَ هذا، فيأخذ هذا من حسناتِه، ويأخذ هذا من حسناتِه، فإن قضي ما عليه وإلاّ أخِذ من سيّئاتهم فطُرحت عليه ثمّ طرح في النّار)) [5]. ونهانا ربّنا بقوله: ((فلا تظالموا)) لا يظلِم بعضكم بعضًا في دم أو مالٍ أو عِرض، وفي الحديث: ((من اقتطَع قيدَ شِبر من أرضٍ طُوِّقه يومَ القيامة من سَبع أرضين)) [6].
وأخبرنا تعالى أنّ هداية قلوبنا بيده جلّ وعلا، يهدي من يشاء بفضله، ويضلّ من يشاء بعدله، لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء:23]، قال تعالى: مَن يَهْدِ ?للَّهُ فَهُوَ ?لْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأعراف:178]، فهو يهدي من يشاء فضلا وكرمًا، وَلَوْلاَ فَضْلُ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ ?لشَّيْطَـ?نَ إِلاَّ قَلِيلا [النساء:83]، فاسألِ الله الهداية، فهو القادر عليها، يهدي قلبَ من يشاء فيحبّ الخيرَ ويألفه، ويحول بين قلبِ من يشاء، فينصرف عن الخير فلا يقبَله.
وكلُّ ما بِنا من خير فمن الله فضلا وكرمًا وجودًا، وَ?للَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَـ?تِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ ?لْسَّمْعَ وَ?لأبْصَـ?رَ وَ?لأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78]، وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ?لأرْضِ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6]، وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ?للَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [العنكبوت:60]. فطعامنا وكسوتنا كلّها من الله فضلا علينا، فإن شاءَ تفضّل، ولو أراد غيرَ ذلك لم يمكنكَ الحصولُ على أيِّ شيء، اللهمّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطيَ لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ.
الرسلُ وأتباعهم وظيفتُهم هداية التوضيح والبيان، وأمّا قبول الحقّ من عدمِه فالأمرُ بيد الله، يقول الله لنبيّه في شأن عمّه أبي طالب لمّا لم يقبل الهدى: إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء [القصص:56].
وأخبرنا ربّنا أنّنا نخطئ في ليلنا ونهارنا، فالعبادُ مهما يكن حالهم فالأخطاءُ صادرة منّا، قوليّة أو فعليّة، والمعصوم من عصَم الله، نخطئ في ليلنا ونهارنا، فكم أخطاء منّا ننساها ونتجاهلها، والله محيط بها وعالمٌ بها، ولكنّه تعالى جعل لنا ملجأً في محوِ الذنوب والخطايا أن نستغفرَه ونتوبَ إليه: ((يا عبادي، إنّكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوبَ جميعًا، فاستغفروني أغفرْ لكم)) ، قال تعالى: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53]. مهما عظُم الذنب، ومهما كثرت الخطايا وتجاوز الحدود، إذا تُبتَ إلى الله منها بإقلاعِك عن الخطأ وعزمك أن لا تعودَ وندمِك على الماضي فستجدُ الله توّابًا رحيمًا، يبسط يدَه بالليل ليتوبَ مسيء النهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل، وهو يحبّ من عبده أن يتوبَ إليه، وهو يفرَح بتوبة عبده وإنابتِه، أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ?لنَّارِ وَ?للَّهُ يَدْعُواْ إِلَى ?لْجَنَّةِ وَ?لْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221].
ويبيّن لنا تعالى أنَّ العبادَ لن يستطيعوا أن يلحِقوا به ضررًا، ولا أن يوصِلوا نفعًا، فهو غنيّ عنهم، وإنّما ضرر الأمر إليهم، فالله غنيّ حميد، لا يستطيع العباد أن يوصِلوا إليه ضررًا أو يجلبوا نفعًا، فهو الغنيّ الحميد، والكلُّ عبيدٌ له وخاضعون لقدرته.
وأخبرنا تعالى أنَّ العبادَ كلَّهم لو أطاعوه وكانوا على قلب رجلٍ واحد في الطاعة والاستقامة فإنّ ذلك لا يزيد في ملك الله شيئًا، ولو اتّفقوا على المعصية ما نقص ذلك من ملكه شيئًا، فلا تنفعه طاعة المطيع، ولا تضرّه معصية العاصي، إنّما ضرر المعاصي على أهلها، ومنفعة الطائعين لأنفسهم، مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
وأخبرنا تعالى عن كمال جودِه وسعةِ عطائه وإحسانه، وأنَّ الخلق كلَّهم لو اجتمعوا في صعيد واحد وكلٌّ سأل مسألةً غير مسألة الآخر أعطي كلاًّ مرادَه، فإنّ ملك الله لا ينقصه ذلك، ((يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحّاء الليل والنهار، ألم تروا إلى ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟!)) [7] ، يَسْأَلُهُ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ [الرحمن:29]، بل هو جلّ وعلا يحبّ من عباده أن يسألوه، يحبّ منهم أن يطلبوه ويلتجئوا إليه، وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وقال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]. كلّما دعوتَ ربَّك وكلّما سألته حاجة وكلّما اضطررتَ إليه أدناك وقرَّبك وأعطاك وحقَّق لك آمالَك، وكلّما تكبّرت عن دعائِه وأعرضتَ عن سؤاله أبغضَك وعاقبك، وابنُ آدم كلَّما احتجتَ إليه تكبّر عليك وبخل، وكلّما استغنيتَ عنه قرُب منك وأحبَّك، فلا إله إلا الله، لا إله إلا الله، الفضلُ فضله والعطاء عطاؤه، يحبّ من عباده أن يسألوه دائمًا، يحبّ من عباده أن يتوبوا إليه، يحبّ من عباده أن يستغفروه، يحبّ من عباده أن يلتجئوا إليه، يحبّ من عباده أن يفوِّضوا إليه أمرهم، ويشكوا إليه بثّهم وحزنَهم، فإنّه أكرم الأكرمين وأجود الأجودين.
ثمّ يخبرنا تعالى أنَّ أعمالَنا كلَّها محصاة علينا، وأنّه جلّ وعلا محصٍ علينا كلَّ أعمالنا، قليلها وكثيرها، وسيجازي المحسنين بالإحسان، نسأله تعالى أن يمنَّ علينا بالتوبة النصوح، وأن يرزقَنا الالتجاء والاضطرارَ إليه، وأن يصلح قلوبَنا وأعمالنا، إنّه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في البر (2577).
[2] أخرجه البخاري في التوحيد (7422، 7453، 7554)، ومسلم في التوبة (2751) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في البر (2578) من حديث جابر رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في التفسير (4686)، ومسلم في البر (2583) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[5] أخرجه ومسلم في البر (2581) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[6] أخرجه البخاري في المظالم (2453)، ومسلم في المساقاة (1612) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[7] أخرجه البخاري في التوحيد (7419)، ومسلم في الزكاة (993) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
يقول الله: ((يا عبادي، إنّما هي أعمالكم، أحصيها لكم، ثمّ أوفّيكم إيّاها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلاَّ نفسه)).
أيّها المسلم، ما خُلِقتَ عبثًا، خُلقتَ لعبادة الله، وما تركتَ سُدى، بل أُمرت ونُهيت، وأخبر الله جلّ وعلا عن كمال علمِه بأعمالنا دقيقها وجليلها، قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ?للَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ وَ?للَّهُ عَلَى? كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ [آل عمران:29]، يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ [غافر:19].
علِم ما العباد الله عاملون قبلَ أن يخلقَهم، وكتب ذلك قبلَ خلق الخلائق بخمسين ألف سنة، وَعِندَهُ أُمُّ ?لْكِتَـ?بِ [الرعد:39].
أيّها المسلم، إنّنا محاطون أيضًا بأمور، أوّلا: أخبرنا الله أنّ هناك كرامًا كاتبين، يعلمون أعمالنا ويسجِّلون أفعالنا، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـ?فِظِينَ كِرَامًا كَـ?تِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]، مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ?للَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَـ?هُ ?للَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6]، وَكُلَّ إِنْسَـ?نٍ أَلْزَمْنَـ?هُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ كِتَابًا يَلْقَـ?هُ مَنْشُورًا ?قْرَأْ كَتَـ?بَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ ?لْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13، 14]، وَوُضِعَ ?لْكِتَـ?بُ فَتَرَى ?لْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ي?وَيْلَتَنَا مَا لِهَـ?ذَا ?لْكِتَـ?بِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً ا [الكهف:49]، وَنَضَعُ ?لْمَو?زِينَ ?لْقِسْطَ لِيَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى? بِنَا حَـ?سِبِينَ [الأنبياء:47].
فيحاسب الله العبادَ يوم القيامة، ويوقَفون على حقائق أعمالهم، فإن أرادوا الإنكارَ والتكذيب فإنَّ الله يقول: ?لْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى? أَفْو?هِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يس:65]، ويقول الله عنهم: وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا ?للَّهُ ?لَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَـ?رُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـ?كِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ?للَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ?لَّذِى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ ?لُخَـ?سِرِينَ [فصلت:21-23]. فأعمالنا في الدنيا محصاة علينا، وسنوقف عليها يومَ القيامة، وسوف تطير الكتب إمّا باليمين أو بالشّمال، فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ ?قْرَؤُاْ كِتَـ?بيَهْ إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَـ?قٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19، 20]، حتى الكافر يُجزَى في الدنيا عن حسناته ليلقى الله يومَ القيامة ولا حسنةَ له، ولا يدخل النارَ أحد إلا وهو موقِن بأنّ النار أولى بِه من الجنّة لكمال عدلِ الله، ولما يرى الخلائق من كمال عدل الله بخلقه وعِظم حسابِه لهم، مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ و?حِدَةٍ [لقمان:28]، ((ما منّا أحد إلا سيكلّمه ربّه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، ينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدّم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا ما قدّم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النّار، فاتّقوا الله ولو بشقّ تمرة)) [1].
يومَ الحساب والجزاء يوم عظيم، يشهَد فيه الخلائق أعمالَهم خيرها وشرَّها، ذلك اليوم العظيم، يومَ تبلى السرائر، يومَ يُبعث ما في القبور ويحصَّل ما في الصدور، وتنشر صحائف الأعمال، والخزي العظيمُ خزي ذلك اليوم، حينما تبدو سرائر العباد، وتنشر أعمالهم، نسأل الله الثبات والاستقامة.
فعلى العبدِ أن يحاسبَ نفسَه، فعسى أن يوفَّق لتدارك الأخطاء في ظلمه لنفسِه، أو في ظلمه لعباد الله، ليلقى اللهَ يوم القيامة خفيفَ الحساب، وذلك يسير على من يسّره الله عليه. فلنأخذ حذرَنا، ولنستعدَّ للحساب يومَ القيامة، فذاك الحساب العظيم بينَ يدَي ربّ العالمين.
نسأل الله لنا ولكم الثباتَ على الحقّ والاستقامة على الهدى، وأن يمنّ علينا بالاستقامة والهداية، ويعيننا على أنفسنا، ويعيذنا من شرّ أنفسنا وشرّ الشيطان وشركه وأن نقترفَ على أنفسنا سوءًا أو نجرَّه إلى مسلم.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في التوحيد (7512)، ومسلم في الزكاة (1016) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه بنحوه.
(1/2705)
فقه التمكين والثبات
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, خصال الإيمان
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
13/4/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عقبات في الطريق إلى الله تعالى. 2- الأيام دُوَل. 3- الحِكمة من تمكين أهل الكفر والفسوق. 4- الواجب في فترة الذلّ والهوان. 5- مِن أسباب الثبات. 6- ضرورة ترسيخ أساس الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله عباد الله، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعروة الوُثقى، واعلَموا أنّ أجسادَكم على حرِّ النّار لا تقوى، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ?لْكِتَـ?بِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى? شَىْء مّن فَضْلِ ?للَّهِ وَأَنَّ ?لْفَضْلَ بِيَدِ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الحديد:28، 29]. وتذكَّروا ـ غفر الله لي ولكم ـ أنّكم في دار عملٍ تُختَبرون، وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فأروا اللهَ مِن أنفسكم خيرًا بِه تُجزَون، ففي غدٍ حسابٌ وجزاء وجنّة أو نار. فارحمِ اللهمَّ قلوبًا لك قصدَت، وأنفسًا لرحمتِك رجَب، وافتَح علينا مِن بركاتك ورحمتِك وفضلِك ورزقك، واغفر لنا ذنوبَنا كلَّها، دقَّها وجِلَّها، لا إله إلاّ أنت، سبحانك إنّا كنّا من الظالمين.
وبعد: أيّها المسلمون، في مسيرةِ السّائرين إلى الله والحاثِّين خطاهم على منهاجه وسبيل هداه والدّاعين إلى دينِه القويم والتمسُّك بصراطه المستقيم، في سَيرهم ومسيرهم عقباتٌ كأدَاء وخصومٌ ألدَّاء ولأواء وأدواء، لا يخلص منها إلاّ مَن أراد الله له الثّبات.
وإنّ المتأمِّل في التّاريخ يرى في فتراتٍ منه غلبةَ الإسلام وظهورَه وعزَّ المسلمين، وفي فترات أخرى يرَى انحسارَ مدّه وهيمنةَ غير المسلمين، ويرى ضَعفًا داخِليًّا وهوانًا خارجيًّا، وتداعيًا من الأمم، وتسلُّطًا من الكفّار، كما هو واقعُ هذه الحِقُبة من الزّمن، حتى إنّه يكاد يتسلَّل اليأس والإحباطُ إلى نفوس بعض المسلمين، ويتساءل الحائر: ألم يكتُبِ الله العزّة والنصرَ لهذه الأمّة، والصّغار والذّلّة على الكافرين؟! وينسَى هذا المتسائلُ قولَ الله عزّ وجلّ: ?لَّذِى خَلَقَ ?لْمَوْتَ وَ?لْحَيَو?ةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا [الملك:2] وما يماثِلها من الآيات الكريمة التي تبيِّن أنَّ هذه الدار دارُ ابتلاء وامتحانٍ للمؤمنين، وليست دارَ جزاء وخلود، وأنَّ الأيّام دول والدّهر قُلَّب، وأنّ الفوزَ والفلاح ليس بتحصيل الرّخاء فحسب، وإنّما عملُك في الشدّة والرخاء والمنشَط والمكرَه، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى? نَعْلَمَ ?لْمُجَـ?هِدِينَ مِنكُمْ وَ?لصَّـ?بِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـ?رَكُمْ [محمد:31]، وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا [الفرقان:20]، وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـ?كِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، يقول ابن القيّم رحمه الله تعالى: "إنّ في تمكين أهلِ الكفر والفسوق إيصالَ أولياء الله إلى الكمال الذي يحصُل لهم بمعاداة هؤلاء وجهادِهم والإنكار عليهم والموالاةِ فيه والمعاداة فيه وبذلِ نفوسهم وقواهم له... إلى أن قال: فلولا خلقُ الأضداد وتسليط أعدائه وامتحان أوليائه لم يستخرِج خاصَّ العبوديّة من عبيده، ولم يحصل لهم عبوديّةُ الموالاة فيه والمعاداة فيه والحبِّ فيه والبغض فيه والعطاء له والمنع له" انتهى كلامه رحمه الله [1].
أيّها المسلمون، وإذا كان قدَّر الله لجيل من الأمّة أن يعيشوا في مرحلةٍ مِن ضعفها وفترة من فتورها وظهور غيرِها عليها فإنَّ المتعيِّن التعلّقُ بما يثبِّتها على دينها؛ لأنّ الإسلام في زمان قوَّته كفيلٌ بذاتِه في ثباتِ أهله، أمّا في زمن الانكسار وعهدِ الانحدار فهذا هو زمن الابتلاء الذي يميِّز الله فيه الخبيثَ من الطيِّب والصادِقَ من الكاذب والمؤمنَ من المنافق، وكلَّما زادَ الضّعف وكثرت الفِتن كلّما استطال عُنق النّفاق وظهر المنافقون، وربَّما جاهَروا بما في قلوبِهم وأظهروا خفَايا صدورِهم.
أيّها المسلمون، إنّ من أسباب الثّبات على دين الله تجديدَ الإيمان بهذا الدين وملْءَ القلب منه باليقين، نعَم اليقينُ التّام بصدق وأحقّيّة ما نحن عليه، والإيمان الجازم بصواب ما نعتقِده، فمَن امتلأ قلبُه إيمانًا بعقيدتِه وقناعةً بصحّة منهجه لم تزعزِعه الخطوب ولم تُثنِه الكروب، وهذا هو موقِف النبيّ في دعوتِه حين حارَبه الأقارب قبل الأباعِد، وطورِد وشرِّد، وحوصِر وقوطِع، وطُلِب للقتل، واجتمَع عليه الأحزاب، لكن ذلك لم يثنِه عن مرادِه حتّى بلَّغ دينَ الله.
وكذلك كان أصحابُه رضوان الله عليهم، قُيِّدوا بالحديد، وقُطِّعت أجسادُ بعضهم، وصُلب آخرون، وأوذوا، ومسَّتهم البأساء والضرّاء وزلزِلوا، فلم يزِدهم ذلك إلاّ صلابةً في دينِهم وثباتًا على منهجهم وصِدقًا في سيرهم إلى الله، حتّى لقوا ربَّهم على ذلك، مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلا [الأحزاب:23]، وهذا نتاج الإيمان واليقين والقناعة والتّصديق والثقة بما هم عليه.
وكذلك كان السّلف الصالح بعدَهم، ويكفيك مثالا ثباتُ الإمام أحمدَ رحمه الله عند الفتنة، وما ذاك إلاّ للعقيدة الرّاسخة بما يؤمن به مِن صواب، أمّا أهلُ الخَوَر والشكّ وضعفِ الإيمان فهُم الذين إذا أصابَتهم مصيبة رجَعوا على دينهم باللاّئمة، يقلِّبون بحَيرةٍ في ثوابته، ولو كانوا يعقلون لتفقّدوا أنفسَهم كيفَ يَدينون، ولعلِموا أنَّ دينَ الله كامل، وأن لا صلاحَ حقيقةً بغيرة في كلّ زمان ومكان وفي كلّ الظروف بلا استثناء ولا تجزئة، ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85].
إلاّ أنَّ النّقصَ يحصل من أحدِ أمرين، إمّا جهل وعجزٌ عن تطبيقه التطبيقَ الصّحيح، أو لأجل شهوةٍ وهوًى يمنعان إرادةَ التّطبيق في أيّ تفاصيل الحياة مهما صغُرت أو كبرت، وعلى هذين المركبين الجهلِ والهوى أسرج بعض المنافقين بِغالَهم، فشدّوا على الإسلامِ وأهله، وأظهروا مكنونَ صدورهم وما كانت تُخفي قلوبُهم، في وقتٍ أحوَج ما تكون فيه الأمّة إلى تثبيتِها على دينها والمحافظة على إسلامها وهويّتها وتماسكِها ووحدتِها. ومِن فضل الله تعالى على بلادِ الحرمين الشّريفين أن يُعلنَ قادتُها في كلّ نازلة وأزمَة تمسّكَهم بدين الإسلام الصّحيح ورفض المساومةِ عليه وعلى مبادئه وتقديم النّفس والنّفيس دونه.
أيّها المسلمون، إنَّ المجتمعَ بجميع طبقاتِه بحاجةٍ إلى إعادة الاهتمام بتقرير أساسِ هذا الدّين مِن عقيدةٍ وتوحيد ودعوةٍ إلى تَبْصير الأمّة وتوحيدها بإرساد قضايا الإيمانِ بالله وشريعتِه، بعيدًا عن مظاهر الغلوّ والتطرّف أو التّساهل والتميُّع المفضي إلى الإرجاء أو بعضِ صورِ الإرجاء.
إنَّ ترسيخَ معاني الإيمان والاعتقاد واليقين والثّقة ينتجُ العملَ الصالح والولاء لهذا الدين والصبرَ عليه والثباتَ حتّى الممات مهما عصفت الفتنُ أو ادلهمّت الخطوب، ولقد مرّت بديار الإسلامِ أزمان شديدةٌ ونكبات عديدة، انتهت فيها الخلافة الرّاشدة وسقطت الدّولة الأمويّة والعباسيّة وغير ذلك، ومع كلِّ هذا فلم يورِث ذلك في نفوس المسلمين شكًّا في عقيدتِهم، ولم تدفعهم إلى التطلّع لما عند أعدائِهم من أفكارٍ ومبادئ وأساليبِ حياة وأنماط سلوك تُخالف شريعتَهم ويأباها دينُهم، ولم يرَوا الحقَّ إلاّ في دين الله عقيدةً وسلوكًا ونظامَ حياة، وهذا هو معنى الاستعلاء في قولِ الله عزّ وجلّ: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، أي: أنّ العزّة والعلوّ بالإيمان والثّبات عليه، لا بالغلبةِ والظّهور.
أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم: ثُمَّ جَعَلْنَـ?كَ عَلَى? شَرِيعَةٍ مّنَ ?لأَمْرِ فَ?تَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ?للَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ ?لظَّـ?لِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَ?للَّهُ وَلِىُّ ?لْمُتَّقِينَ [الجاثية:18، 19].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] طريق الهجرتين (ص202).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي القوّة القادِرة والعزّة القاهرة، أسبَغ علينا نِعمَه باطنة وظاهِرة، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريك له، وأشهَد أنَّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والعِترة الطّاهرة.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، ومِن عوامل الثّبات على دين الله الاعتصامُ بالكتاب والسنّة، والتمسّك بما فيهما، واتّباع هديِهما، وحسبُكم في ذلك قولُ النبيّ : ((تركتُ فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا أبدًا: كتاب الله وسنّتي)) [1] ، وقول الله عزّ وجلّ: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ?للَّهِ وَ?لرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ ذ?لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا [النساء:59]، أي: الاحتكام إلى الكتاب والسنّة.
ويتبع هذا الأصلَ الاقتداءُ بسلفِ الأمّة الصّالحين مِن الصّحابة ومَن سار على نهجهم، وفي طليعتِهم الخلفاءُ الرّاشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم أجمعين، ففي السّنن بسند صحيح: ((عليكُم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديّين، تمسّكوا بها، وعضّوا عليها بالنّواجذ)) [2].
يتلو ذلك الالتفافُ حولَ العلماء الصالحين والدّعاة الصادقين الذين عُرفوا بنصحِهم وسلامة منهجهم، فإنّهم ورثةُ الأنبياء ومصابيحُ الدُّجى، أهدى النّاسِ طريقًا وأقربُهم من الله توفيقًا، فاجعَل العلماءَ الربانيّين لك صَحبا ورفاقًا.
ومِن عواملِ الثّبات لزومُ جماعةِ المسلمين وإمامهم واعتزالُ الفتنة، وهذه وصيّة النبيّ لحذيفةَ رضي الله عنه كما في الحديث المتّفق عليه [3].
كما أنَّ التثبُّتَ في الأخبار والنّقل وتركَ الشائعات وهجرَ الخوضِ فيما لا يَعني مطلوب في كلّ وقت، وتعظم الحاجة لحفظِ اللّسان وصيانة السّمع والتثبّت في حالِ الفتنة، وكفى بالمرء إثمًا أن يحدّث بكلّ ما سمع.
وأخيرًا من أسباب الثّبات دعاءُ الله وسؤالُه والإلحاح عليه بطلبِ الثّبات، فلا غنَى للعبد عن ربِّه، وفي الحديث الصحيح: إنّ أكثرَ دعاء النبيّ : ((يا مقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك)) ، فقيل له في ذلك فقال: ((إنّه ليس آدميّ إلا وقلبُه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ)) [4].
ومِن ذلك أيضًا كثرةُ ذكر الله تعالى، فللذّكر أسرارٌ عجيبة، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَ?ثْبُتُواْ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
ثم صلّوا وسلِّموا على الهادي البشير والسراج المنير محمّد رسول الله، فقد أمركم الله تعالى بذلك في كتابه مبتدِئًا بنفسه العليّة، فقال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله الطيّبين الطّاهرين، وعلى أزواجه أمّهات المؤمنين، وصحابته الكرام أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهمَّ أعزّ الإسلامَ والمسلمين، وأذلَّ الشركَ والمشركين، ودمّر أعداء الدين...
[1] أخرجه مالك في الموطأ ( 1619 ) بلاغا، ووصله الدارقطني (4/245)، والبيهقي (10/114)، والحاكم (1/172) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/331) : "وهذا محفوظ معروف مشهور عن النبي عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الأسناد" ، وقواه الألباني بشواهده في السلسلة الصحيحة (4/361).
[2] أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
[3] أخرجه البخاري في الفتن (7084)، ومسلم في الإمارة (1847) عن حذيفة رضي الله عنه.
[4] أخرجه أبو داود الطيالسي (1/224) ، وإسحاق بن راهويه في مسنده (1/113)، والإمام أحمد (6/294) ، والترمذي في الدعوات باب منه (3522) من حديث أم سلمة رضي الله عنه ، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه الحاكم (1/706) ، وله شواهد كثيرة، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (2091).
(1/2706)
فضل الدعاء وآدابه
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
13/4/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كلّ شيء بقضاء وقدر. 2- فضل الدّعاء. 3- حقيقة الدّعاء. 4- وجوب إخلاص الدّعاء. 5- حاجة الإنسان الماسّة إلى الدّعاء. 6- آداب الدّعاء. 7- أسباب إجابة الدّعاء وموانعه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا اللهَ وأطيعوه، وتوبوا إليه واستَغفروه.
أيّها المسلمون، اعلَموا أنّه لا يكون شيءٌ في الأرض ولا في السّماء إلا بقضاءٍ من الله وقدَر، ولا يحدُث أمرٌ محبوب أو مكروه إلا بمشيئةِ الله وخلقِه، قال الله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـ?هُ بِقَدَرٍ وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ و?حِدَةٌ كَلَمْحٍ بِ?لْبَصَرِ [القمر:49، 50].
فاللهُ هو الذي يدبِّر الأمور، وهو العليم بذاتِ الصّدور، قال الله تعالى: ?للَّهُ ?لَّذِى رَفَعَ ?لسَّمَـ?و?تِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ ?سْتَوَى? عَلَى ?لْعَرْشِ وَسَخَّرَ ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لأجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبّرُ ?لأَمْرَ يُفَصّلُ ?لآيَـ?تِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد:2].
جعَل للسّعادةِ أسبابًا، وجعل للشّقاء أسبابًا، ورتّب المسبّبات على أسبابِها، فخلقَ الأسبابَ، وخلقَ آثارَ الأسباب، ولا يحكُم مشيئتَه وإرادتَه شيء، فلو شاء لخلَق وأوجدَ الشّيءَ بلا سبَب، قال تعالى: فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ [البروج:16]، وقال تعالى: أَلاَ لَهُ ?لْخَلْقُ وَ?لأمْرُ تَبَارَكَ ?للَّهُ رَبُّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأعراف:54].
والدّعاءُ أكرَم شيءٍ على الله، شرَعه الله لحصول الخَير ودفعِ الشر، فالدّعاءُ سببٌ عظيم للفوز بالخيرات والبركات، وسببٌ لدفعِ المكروهات والشرِّ والكربات، وفي الحديث: ((لا يُنجي حذرٌ من قدَر، والدّعاء ينفع ممَّا نزل وممَّا لم ينزل)) [1].
والدّعاءُ مِن القدَر والأسبابِ النّافعة الجالِبة لكلِّ خَير والدّافعة لكلّ شرّ، وقد أمَر الله عبادَه بالدّعاء في آياتٍ كثيرة، قال الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60].
وحقيقةُ الدّعاءِ تعظيمُ الرّغبةِ إلى الله في قضاءِ الحاجاتِ الدنيويّة والأخرويّة، وكشفِ الكربات ودفعِ الشّرور والمكروهات الدنيويّة والأخرويّة.
والدّعاءُ تتحقَّق به عبادةُ ربِّ العالمين؛ لأنَّه يتضمَّن تعلّقَ القلبِ بالله تعالى، والإخلاصَ له، وعدمَ الالتفات إلى غَير الله عزّ وجلّ في جلبِ النّفع ودفع الضرّ، ويتضمَّن الدعاءُ اليقينَ بأنّ اللهَ قدير لا يُعجزه شيء، عليمٌ لا يخفى عليه شيء، رحمَن رحيم، حيّ قيّوم، جوَاد كريم، محسِن ذو المعروف أبدًا، لا يُحَدُّ جودُه وكرمُه، ولا ينتهي إحسانُه ومعروفه، ولا تنفَد خزائن بركاتِه. فلأجلِ هذه الصفات العظيمة ونحوها يُرجى سبحانه ويُدعَى، ويسأله من في السّموات والأرض حاجاتِهم باختلافِ لغاتِهم.
ويتضمَّن الدّعاءُ افتقارَ العبدِ وشدّةَ اضطرارِه إلى ربّه، وهذه المعَاني العظيمةُ هي حقيقةُ العِبادة.
فمَا أعظمَ شأنَ الدّعاء، وما أجَلَّ آثارَه، ولِهذا جاءَ في فضل الدّعاء ما رواه أبو داود والترمذيّ من حديث النّعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبيّ قال: ((الدّعاءُ هو العِبادة)) قال الترمذي: "حديث حسن صحيح" [2] ، وعن أنس رضي الله عنه عن النبيّ قال: ((الدّعاء مخُّ العِبادة)) رواه الترمذيّ [3] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: ((ليسَ شيءٌ أكرَم على الله مِن الدّعاء)) رواه الترمذيّ وابن ماجه والحاكِم [4].
ولمّا كان الدّعاءُ هو العِبادة فإنّه لا يكون إلا لله وحدَه، فلا يُدعَى من دون الله ملكٌ مقرَّب، ولا نبيّ مرسَل، ولا وليّ ولا جنّيّ، قال الله تعالى: وَأَنَّ ?لْمَسَـ?جِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ?للَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، وقال تبارك وتعالى: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ [الفرقان:68]، ومن دعَا مخلوقًا من دون الله نبيًّا أو ملكًا أو وليًّا أو جنّيًّا أو ضريحًا ونحوَه فقد وقَع في الشّرك الأكبر، قال الله تعالى: وَمَن يَدْعُ مَعَ ?للَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ?لْكَـ?فِرُونَ [المؤمنون:117]، وقال تبارك وتعالى: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ ?للَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ ?لظَّـ?لِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [يونس:106، 107]، وقال تَبارك وتعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَـ?ئِكَةِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَـ?نَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ?لْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ [سبأ:40، 41]، وقال تبارك وتعالى: لَهُ دَعْوَةُ ?لْحَقّ وَ?لَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء إِلاَّ كَبَـ?سِطِ كَفَّيْهِ إِلَى ?لْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء ?لْكَـ?فِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَـ?لٍ [الرعد:14].
عبادَ الله، المسلمُ في كلِّ ساعةٍ وفي كلّ وقتٍ مضطرّ إلى الدّعاء لحصولِ خيرٍ ينفعُه في الدّنيا والآخرة، ولدفع شرّ ومكروه يضرّه في الدّنيا والآخرة، فمَن وُفّق للدّعاء فقد فتح الله له بابَ خيرٍ عظيم، فليلزمْه، وليسألِ المسلمُ ربَّه كلَّ حاجةٍ له، صغيرةً أو كبيرة، كما قال النبيّ : ((ليسألْ أحدُكم ربَّه حاجتَه حتّى شسعَ نعلِه)) [5].
ولو تفكَّر المسلمُ في كلّ نعمَة وحاجةٍ صغيرةٍ أو كبيرة لعلِمَ يقينًا أنّه لا قدرةَ له على إيجادها والانتفاعِ بها لولا أنَّ الله أوجدَها وساقها إليه بقدرتِه ومنِّه وكرمه، ومَن هوَّن شأنَ الدّعاء فقد بخَس نفسَه حظَّها من خيرٍ عظيم، وأصابَه من الشرّ بقدر ما زهد في هذه العبادة.
واعلَم ـ أيّها المسلم ـ أنَّ الإجابةَ مَع الدّعاء، سواء كانت عاجلةً أو آجِلة، قال عمر رضي الله عنه: (إنّي لا أحمل همَّ الإجابة، وإنّما أحمِل همّ الدّعاء، فإذا ألهِمتُ الدّعاءَ فالإجابة معه) [6] ، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله قال: ((مَا على الأرضِ مسلمٌ يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إيّاها، أو صرف عنه من السّوء مثلَها، ما لم يدعُ بإثم أو قطيعةِ رحِم)) ، فقال رجل من القوم: إذًا نكثِر، قال: ((الله أكثَر)) رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" [7] ، ورواه الحاكم من رواية أبي سعيد وزاد فيه: ((أو يدَّخِر له من مثلِها)) [8] يعني في الآخرة.
واعلَم ـ أيّها المسلم ـ أنَّ الدّعاء عبادة عظيمَة.
أيّها المسلم، كُن دائمًا ملازمًا للدّعاء، متعلّقًا قلبك بالله تعالى، وارغَب إلى الله عزّ وجلّ لقضاءِ حاجاتِك كلّها؛ فإنّه على كلِّ شيء قدير، إذا أراد شيئًا خلقَ أسبابَه، أو أوجدَه بقدرتِه ومشيئتِه. وأشرِك ـ أيّها المسلم ـ في دعائك الإسلامَ والمسلمين بالدّعوة الصالحة، أئمّتَهم وعامَّتهم، بأن يعزَّ الله الإسلامَ وأهلَه في كلّ مكان، ويحفظَ الإسلامَ وأهلَه في كلّ مكان، ويخذلَ أعداءَ الإسلام، ويكفَّ شرَّهم، ويبطِل كيدَهم ومكرَهم، لا سيّما في هذا العصر الذي تعدّدت فيه مصائبُ المسلمين، وكثرَت همومهم وغُمومُهم، ووصلوا إلى حالةٍ لا يقدِر أن ينجيَهم إلا الله، اقتداءً برسولِ الله حيث أمره الله تعالى بقوله: فَ?عْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَ ?للَّهُ وَ?سْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ [محمّد:19]، وفي الحديث: ((من لم يهتمَّ بأمرِ المسلمين فليسَ منهم)) [9].
قال الله تعالى: ?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55، 56].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإيّاكم بما فيه من الآيات والذَكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/234)، والطبراني في الكبير (20/201) من طريق إسماعيل بن عياش، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن شهر بن حوشب، عن معاذ رضي الله عنه. قال الهيثمي في المجمع (10/146): "شهر بن حوشب لم يسمع من معاذ، ورواية إسماعيل بن عياش عن أهل الحجاز ضعيفة"، وهذا منها. وله شاهد من حديث عائشة رضي الله عنها عند البزار (2165- كشف الأستار)، والطبراني في الدعاء (133)، والحاكم (1/492)، قال الهيثمي في المجمع (10/146): "وفيه زكريا بن منظور، وثقه أحمد بن صالح المصري وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1014). وله شاهد ثان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند الترمذي في الدعوات (3548)، وفي إسناده عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، وهو متفق على ضعفه، قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، وهو ضعيف في الحديث، ضعفه بعض أهل العلم من قبل حفظه". وله شواهد أخر في سند كلّ منها مقال.
[2] سنن أبي داود: كتاب الصلاة، باب: الدعاء (1479)، وسنن الترمذي: كتاب التفسير (2969)، وأخرجه أيضا أحمد (4/267)، وابن ماجه في الدعاء، باب: فضل الدعاء (3828)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وجوّد إسناده ابن حجر في الفتح (1/49)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1312).
[3] سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3371)، وقال: "حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة"، وضعفه الألباني في أحكام الجنائز (ص247) ثم قال: "لكن معناه صحيح بدليل حديث النعمان".
[4] أخرجه أحمد (2/362)، والترمذي في الدعوات، باب: ما جاء في فضل الدعاء (3370)، وابن ماجه في الدعاء، باب: فضل الدعاء (3829)، والطبراني في الأوسط (2544، 3718)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عمران القطان"، وصححه ابن حبان (870)، والحاكم (1/490)، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3087).
[5] أخرجه الترمذي في آخر الدعوات (3612 – المستدرك في آخر الكتاب)، والطبراني في الدعاء (25)، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان (2/289) من طريق قطن بن نسير الصيرفي، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه. وصححه ابن حبان (866)، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، وروى غير واحد هذا الحديث عن جعفر بن سليمان، عن ثابت البناني، عن النبي ، ولم يذكروا فيه عن أنس". ثم أورده من طريق صالح بن عبد الله، عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن النبي ، وقال: "هذا أصح من حديث قطن، عن جعفر بن سليمان". ورواه البزار في مسنده (3135) عن سليمان بن عبد الله الفيلاني، عن سيار بن حاتم، عن جعفر، عن ثابت، عن أنس، عن النبي ثم قال: "لم يروه عن ثابت سوى جعفر". وذكره الهيثمي في المجمع (10/150) وقال: "رجاله رجال الصحيح، غير سيار بن حاتم وهو ثقة"، وحسنه الحافظ ابن حجر في زوائد البزار، وانظر: السلسلة الضعيفة (1362).
[6] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/706).
[7] أخرجه الترمذي في الدعوات، باب: انتظار الفرج وغير ذلك (3573)، والطبراني في الأوسط (147)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه المقدسي في المختارة (317)، وأورده الألباني في صحيح سنن الترمذي (2827).
[8] مستدرك الحاكم (1/493)، وأخرجها أيضا أحمد (3/18).
[9] أخرجه الحاكم (4/320) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وفي سنده إسحاق بن بشر ومقاتل بن سليمان، قال الذهبي في التلخيص: "ليسا بثقتين ولا صادقين". وأخرجه البيهقي في الشعب (7/361) من حديث أنس رضي الله عنه وضعفه. وأخرجه الطبراني في الصغير (ص188) من حديث حذيفة رضي الله عنه، وفي سنده جعفر بن أبي عبد الله، هو وأبوه ضعيفان. وعزاه الهيثمي في المجمع (10/248) إلى الطبراني من حديث أبي ذر رضي الله عنه وقال: "فيه يزيد بن ربيعة الرحبي وهو متروك". وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (309، 310، 311، 312).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله ربِّ العالمين، الرّحمن الرّحيم، أحمده سبحانه وأشكره على فضلِه العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله القويّ المتين، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الأمين، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولِك محمّد، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أمّا بعد: فاتَّقوا اللهَ تعالى بامتثالِ أوامرِه وتركِ نواهيه، تفوزوا بجنّات النعيم، وتصلحوا دنياكم بشرع اللهِ القويم.
عبادَ الله، إنَّ دعاءَ المسلم بإخلاصٍ وتوجُّهِ قلبٍ أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ، والله يقول في كتابه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، وقال تعالى: فَ?دْعُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [غافر:14].
ويُستحَبّ للمسلم أن يتخَيَّر جوامعَ الدّعاء، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يستحِبّ الجوامعَ من الدّعاء، ويدَع ما سِوى ذلك. رواه أبو داود بإسناد جيّد [1].
وليحرِصِ المسلم على حِفظ دعاءِ رسول الله بقدر استطاعتِه، فقد شرع عليه الصلاة والسلام لكلِّ حالٍ دعاءً وذكرًا.
ويستحَبّ أن يُقدِّم بين يدَي دعائه عملا صالحًا، ويُثني على الله ببعضِ ما أثنى به على نفسه، ويصلّي على نبيّه محمّدٍ ؛ لأنّ الدّعاءَ معلّقٌ بين السّماء والأرض حتّى يصلَّى عليه، فصلوات الله وسلامه عليه، ويتوسّل إلى الله بأسمائِه الحسنى، وبالاسم الذي يناسِب حاجتَه من أسماءِ الله الحسنى، كقوله تعالى: وَقُل رَّبّ ?غْفِرْ وَ?رْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ ?لرحِمِينَ [المؤمنون:118]، وكقولِه تعالى: وَ?رْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ?لرَّازِقِينَ [المائدة:114].
ويستحَبّ أن يتَحيّن أوقاتَ الإجابة مثل ثلث الليل الآخر، وبين الأذان والإقامة، وعند نزول الغيث، وأدبار الصلوات، وعندَ رؤيةِ البيت العتيق، وآخر ساعة من الجمعة.
عبادَ الله، إنَّ الله أمرَكم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال تبارك وتعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((مَن صلّى عليَّ صلاةً واحدةً صلّى الله عليه بِها عشرًا)) [2].
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأولين والآخرين وإمَام المرسلين.
اللهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آله محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم...
[1] أخرجه أحمد (6/148)، وأبو داود في الصلاة، باب: الدعاء (1482)، والطيالسي (1491)، والبيهقي في الدعوات (276). وصححه ابن حبان (867)، والحاكم (1/539)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (1315).
[2] أخرجه مسلم في الصلاة، باب: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (408) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/2707)
دروس من حياة الأمير الزاهد
سيرة وتاريخ
تراجم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
13/4/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفضائل جمعت لرسول الله. 2- دعوة لمحاسبة النفس. 3- حذيفة بن اليمان الأمير الزاهد. 4- تعليق على اتفاقات السلام مع اليهود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، إن كان الكون قرآناً صامتاً، فإن القرآن آية ناطقة، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم قرآناً يمشي بين الناس.
الله أكبر إن دين محمد وكتابه أقوى وأقوم حيلا
لا تذكر الكتب السوالف قبله طلع الصباح فأطفئ القنديلا
إنه النبي الذي أعطاه الله تبارك وتعالى شجاعة موسى، وشفقة هارون، وإقدام داوود، وعظمة سليمان، وصبر أيوب، وبساطة يحيى، وسماحة عيسى، وحلم إبراهيم، عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.
البدر دونك في حسن وفي شرف والبحر دونك في خير وفي كرم
أخوك عيسى دعى ميتا فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
أيها المسلم، حاسب نفسك في خلواتك، وتفكر في انقراض مدتك، واعمل في زمان فراغك لوقت شدتك، وتدبر قبل الفعل ما يكتب في صحيفتك، وانتظر هل نفسك معك أو عليك في مجاهدتك، لقد سعد من حاسبها، وفاز والله من حاربها، وقام باستيفاء الحقوق منها وطالبها، وكلما ضعفت عاتبها، وكلما توقفت جذبها.
ومن هنا قال الإمام الحسن البصري رضي الله عنه: "أيسر الناس حساباً يوم القيامة الذين حاسبوا أنفسهم لله عزو جل في الدنيا، فوقفوا عند همومهم وأعمالهم، فإن كان الذي همّوا به لله عز وجل مضوا، وإن كان عليهم أمسكوا. وإنما يطول وقوفه للحساب يوم القيامة الذين أهملوا الأمر في الدنيا، وأخذوها على غير محاسبة، فوجدوا الله قد أحصى عليهم مثاقيل الذر، ثم قرأ قول الله تبارك وتعالى: ي?وَيْلَتَنَا مَا لِهَـ?ذَا ?لْكِتَـ?بِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]".
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته أتطلب الربح مما فيه خسران
أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
وامدد يديك بحمد الله معتصما فإنه الركن إن خانتك أركان
عباد الله، الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه، كاتم سر الرسول سلى الله عليه وسلم، القائد العسكري المجاهد في سبيل الله، الأمير المحدث القارئ الزاهد، علم من أعلام الصحابة، والصحابة كلهم أعلام، وكلهم أسود، كلهم أئمة يحتذى بهم.
فقد أصدر أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قراراً بتعيين حذيفة أميراً على مدينة المدائن التي كانت عاصمة كسرى، وفيها قصره الذي يسمى بالقصر الأبيض.
أيها المؤمنون، تعالوا إلى بلاد العراق لنرى الحكم بالاسلام، وما وظيفة الحاكم المسلم.
الحكم بالإسلام مسؤولية خطيرة، والحاكم المسلم خادم للمسلمين وموظف في مالهم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم وهو يلخص مسؤولية الحاكم: ((إنها أمانة، وإنها خزي وندامة يوم القيامة إلا من أداها بحقها)) [1].
ومن هنا تسربت الأخبار إلى أهل المدائن أن الأمير الجديد هو حذيفة بن اليمان، فخرجوا على أبواب المدائن ينتظرون قدوم الوالي الجديد، ماذا كان يركب؟ كان يركب دابة متواضعة، ليس معه طابور طويل من الدراجات ولا السيارات، ولم تطلق المدفعية اثنتين وعشرين طلقة لاستقبال من سيحكم عاصة الامبراطورية الفارسية التي تهاوت أركانها تحت ضربات المسلمين الساخنة.
ماذا كان يأكل الأمير؟ فقد كان بيده كسرة من الخبز، حاكم المدائن بيده كسرة خبز، أتدرون لماذا يا عباد الله؟ لأن أميرهم عمر رضي الله عنه كان مثالاً في الزهد والنظافة.
كان عمر ينام على الأرض تحت ظل شجرة، عمر عملاق الإسلام الذي بسط ذراعيه على الفرس والروم ينام تحت شجرة وقد تلفع ببردة، ولم يكن حوله أمن مركزي ولا شرطة عسكرية، فمن الذي كان يحرسه؟
الذي يحرسه الله تبارك وتعالى، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، عمر الحاكم الذي إذا ذكر اسمه ذكر معه العدل، عمر العابد الذي كان يقول: (إذا نمت الليل كله أضعت نفسي عند الله تبارك وتعالى، وإذا نمت النهار أضعت رعيتي).
عمر الإمام الذي كان إذا صلى لا تفتر عينه من البكاء، كان للمتقين إماماً، عمر الذي رآه الصحابة ذات يوم وهو الخليفة الراشد يجري في طرقات المدينة في وقت الظهيرة، والشمس حامية الوطيس، فيسألونه لماذا تجري يا أمير المؤمنين؟ فيقول: جمل من إبل الصدقة ولى هارباً، فأخشى أن يضيع، فيسألني الله عز وجل عن ذلك يوم القيامة، لله درك يا أمير المؤمنين تجري وراء بعير، وملايين الملايين تبعثر هنا وهناك في هذه الأيام.
رحمك الله يا أمير المؤمنين حين قلت: (إن مثلي ومثل أمة محمد، كمثل الوصي على مال اليتيم). هل كنت يا أمير المؤمنين تجلس في قصر مديد؟ هل كان ـ يا عباد الله ـ أمير المؤمنين يشرب ويطرب، وينعم ببارد الشراب، كلا إنما بصفاته التي ذكرتُ، انتصر الإسلام فقد تعلم من نبينا صلى الله عليه وسلم أن الحياة عقيدة وإيمان، وصدق وإخلاص.
أيها المؤمنون، ودخل حذيفة رضي الله عنه مدينة المدائن، دخلها تحيط به كوكبة من ملائكة الرحمن، دخلها وهو محاط بحفظ الله تبارك وتعالى ورعايته، اسمعوا قول الباري جل في علاه وهو يقول: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصلت:30-32].
وقف حذيفة خطيباً في أهل المدائن، وبعد ما سمى الله تبارك تعالى وأثنى عليه، صلى على نبينا صلى الله عليه وسلم قال: ((أيها الناس، إياكم ومواقف الفتن، قالوا: وما مواقف الفتن؟ قال: تأتون أبواب الأمراء، وتمدحونهم بما ليس فيهم، وصلى الله على سيدنا محمد)).
أيها المسلمون، كم استغرق هذا الخطاب من الوقت، دقيقة؟ دقيقتين؟
أراد حذيفة رضي الله عنه أن يغلق الباب في وجوه المنافقين المرتزقة، الذين إذا رأوا إنساناً تولى شيئاً من الحكم التفوا حوله، وسقطوا عليه سقوط الذباب على العفن.
عباد الله، وهل ضيع المجتمعات إلا مواقف الفتن، أصبحنا نقرب كل منافق، ونبعد كل مخلص، وتحولت الأمة إلى بؤر من الفساد، كل حزب بما لديهم فرحون، من ينافق كثير يصل سريعاً، ومن يخلص قلبه وعمله لله توضع أمامه علامات استفهام غريبة.
متى ينصرنا الله عز وجل؟ ينصرنا الله تبارك وتعالى إذا قربنا المخلصين، وسمعنا نصح الناصحين.
عباد الله، والله الذي لا إله غيره، لو كان بيننا ثلاث مائة وأربعة عشر رجلاً على قلوب أهل بدر لفتح المسلمون المسجد الأقصى المبارك، وحرروه من أسره، لو رجعنا إلى الله تبارك وتعالى، لو كان فينا أمثال أصحاب رسول الله لانتصر الإسلام والمسلمون، فالواجب علينا أن نعتمد على الله تبارك وتعالى، وليس على أمريكا أو أوروبا، لا نعتمد إلا على رافع السماء بغير عمد، فهو سبحانه القائل: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ?للَّهَ بَـ?لِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ?للَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً [الطلاق:2، 3]
أيها المسلمون، ألستم أنت من فتح الفتوح؟ ألستم من قهر التتار؟ ألستم أنتم من حررتم ديار الإسلام وخاصة بيت المقدس من الصليبيين؟
لقد اندحروا خزايا أذلاء.
إن إقامة حكمة الله تبارك وتعالى في الأرض وتثبيت منهجه وإقامة دولة الإسلام هو الحل الوحيد لقضاياكم، فاعملوا ـ يا عباد الله ـ جاهدين بأنفسكم لإقامة حكم الله، من أجل إعادة كرامتكم وعزكم ومجدكم ورفعتكم.
فسلفكم الصالح رضوان الله عليهم أجمعين من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان عندما طبقوا هذا المنهج الإلهي كانت لهم الدنيا بأسرها، من مشرقها إلى مغربها، فتحوا البلاد وحرروا العباد، فنالوا الرضا والرضوان، وأسكنهم الله تبارك وتعالى فسيح الجنان، فصدق الله تبارك وتعالى وهو يقول: إِنَّ ?لْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـ?تٍ وَنَهَرٍ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ [القمر:54، 55].
اللهم إنا نسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفذ، وقرة عين لا تنقطع، ومرافقة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى بطاعته ورضاه، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيافوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] رواه مسلم من حديث أبي ذر (1825)، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الفتاح العليم العزيز الحكيم، ذي المن والطول والقدرة والحمد، الذي لا ممسك لما فتح لأوليائه من رحمته، ولا دافع لما أنزل بأعدائه من نقمته، ولا راد لأمره في ذلك وقضائه، يقضي ما يشاء ويحكم ما يريد.
ونشهد أن لا إله إلا الله، ينادي في عزة وكبرياء فيقول: ((أنا الله، لا إله إلا أنا، من أقر لي بالوحدانية أدخلته في حصني)) ، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمد رسول الله، كان إذا فرغ من قراءة التشهد في الصلاة قال: ((اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال)) [1].
اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آل سيدنا محمد صلاة تكون له رضاء، ولحقه أداء، وأعطه الوسيلة والمقام المحمود الذي وعدته، واجزه عنا ما هو أهله، واجزه عنا أفضل ما جزيت نبياً عن أمته، وصل على جميع إخوانه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
أما بعد: فيا عباد الله، يا أبناء فلسطين المسلمة، عقد في الأسبوع الماضي في منتجع شرم الشيخ والعقبة مؤتمر قمة ضم الرئيس الأمريكي وعدداً من زعماء وقادة عالمنا العربي، إضافة إلى رئيس وزراء ما يسمى بإسرائيل، وتزامن هذا الاجتماع مع الذكرى السادسة والثلاثين لحرب ما يسمى الأيام الستة عام 1967م، والتي أدت إلى احتلال باقي فلسطين المسلمة وهضبة الجولان السورية، وشبه جزيرة سيناء المصرية، والهدف من هذا المؤتمر في ظاهر الأمر تنفيذ ما يسمى خارطة الطريق لإيجاد حل للقضية الفلسطينية، غير أن الهدف الحقيقي هو تحقيق الاستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وسبل مكافحة ما يسمى الإرهاب الدولي بعد سقوط النظام العراقي.
ولم يشر المجتمعون إلى أن استمرار الاحتلال الإسرائيلي هو السبب المباشر لاستمرار دوامة العنف، وتنامي الحقد ضد السياسة الأمريكية وضد إسرائيل، وأن السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط لن يتحقق في ظل استمرار الغطرسة الأمريكية والتعنت الإسرائيلي.
عقد هذا المؤتمر وسط أجواء من تبادل التحيات والابتسامات والحفاوات بين الرئيس الأمريكي ـ والذي لا تزال يداه ملطختان بدماء المسلمين في أفغانستان وبدماء المسلمين في أرض العراق ـ وبين القادة العرب الذين لا يزالون يعولون الآمال على الوعود الأمريكية الكاذبة.
لقد نسي الجميع أو تناسوا أن يسألوا الرئيس الأمريكي: أين هي أسلحة الدمار الشامل التي تذرع بوجودها في العراق، كمبرر لغزوه واحتلاله وتشريد شعبه وسلب خيراته وثرواته؟ لم يجرؤ أحد أن يسأل: أين هي الديمقراطية الكاذبة والحرية الموعودة التي وعد بتحقيقها في العراق؟
العراق الأشم ها هو اليوم يرفض الذل ويرفض الاحتلال، وها هي الأخبار تتحدث عن قتلى في كل يوم من الجانب الأمريكي.
أيها المسلمون، من المؤسف حقاً أن الاجتماع وكلمات المتحدثين تركزت على معاناة الشعب اليهودي وحقه في الحياة، وها هو التاريخ يعيد نفسه، ففي الحرب العالمية الثانية حملت قوات الحلفاء والصهيونية الالمان مآسي الشعب اليهودي لاضطهاد النازية لهم، وها هم اليهود اليوم يحمِّلون ما يسمونه الإرهاب الفلسطيني معاناتهم، ونسي المجتمعون مآسي ومذابح ومجازر شعبنا الفلسطيني المسلم على امتداد نصف قرن من الزمن، وتحدثت الأنباء عن عزم أمريكا تنفيذ خريطتها، هذه الخريطة إن قدر لها أن تنفذ ستفضي إلى مستقبل قاتم ومظلم لشعبنا الفلسطيني المسلم.
وأعرب المجتمعون عن تفائلهم بقرب منح الفلسطينيين تسهيلات في التنقل بين مدنهم وقراهم، وتنفس المحاصرين من أبناء شعبنا الفلسطيني المسلم، تنفسوا الصعداء وغرتهم الأماني والوعود والأحلام والخيالات، فصدق الله تعالى وهو يقول: لَهُ دَعْوَةُ ?لْحَقّ وَ?لَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء إِلاَّ كَبَـ?سِطِ كَفَّيْهِ إِلَى ?لْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء ?لْكَـ?فِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَـ?لٍ [الرعد:14]، فقد ضرب الله عز وجل الماء مثالاً ليأسهم من الاستجابة لدعائهم، لأن العرب تضرب بمن سعى فيما لا يدركه مثلاً بقابض على الماء باليد، والمراد من هذا المثل: أن الذي يدعو إلهاً من دون الله كالذي يدعو الماء إلى فيه من بعيد، يريد تناوله ولا يقدر عليه بلسانه.
فماذا حصل بعد ذلك أيها المسلمون؟؟:" تشديد الحصار، تشديد نقاط التفتيش، عزل المدن والقرى الفلسطينية بعضها عن بعض، واستمرار عمليات التصفية والقتل والعدوان، هدم المنازل وكأن هناك مخططاً لهدم منازل المسلمين في كل فلسطين، كل يوم يهدم عدد من المنازل، والمبررات موضوعة سابقاً، بحجة عدم الترخيص بحجة ما يسمى الإرهاب، وعبّر كيفما تشاء.
أيها المسلمون، لقد نجحت إسرائيل في نيل عطف المجتمعين، وأنها ضحية العنف الفلسطيني، فهل تنجح مرة أخرى في ضرب الصف الفلسطيني من الداخل، فما تشديد الحصار إلا لإعطاء المبررات لجر شعبنا الفلسطيني المسلم إلى الاقتتال تحت ذريعة ما يسمى الإرهاب.
أيها المسلمون، اسمعوها جيداً من هذا المنبر الشريف، من رحاب المسجد الأقصى الحزين، من مسرى نبيكم ومعراجه إلى السماوات العلى، من منطلق الوحدة الإسلامية والأخوة الإيمانية ندعو شعبنا إلى الوحدة والثبات والصبر والرباط، وعدم الرضوخ للأصوات الداعية إلى الاقتتال الداخلي، وتفويت الفرصة على أعداء الأمة.
وتذكروا جيداً أن عدوكم لن يرحمكم عندئذ، ولات ساعة مندم.
إن الأيام التي نعيشها الآن أيام عصيبة، والعاقل من يفوت الفرصة على أعدائه، وبدلاً من التوجه إلى الشرق والغرب توجهوا إلى الله تبارك وتعالى، فهو وحده القادر على نصرتكم، جعلني الله وإياكم ممن أخلص له في الأعمال، وأقعدني وإياكم في الدارين في حسن النوال.
[1] رواه مسلم في صحيحه (930)، من حديث ابن عباس، كتاب المساجد، باب ما يستعاذ منه.
(1/2708)
الحثّ على الزواج
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
13/4/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بالتزويج. 2- من فوائد النكاح. 3- العمل على إشاعة النكاح. 4- وساوس وأوهام في طريق الزواج. 5- حسن الاختيار. 6- التحذير من عضل النساء. 7- التحذير من الاتصالات الهاتفية قبل عقد النكاح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها النّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، يقول الله جلّ جلاله في كتابة العزيز وهو أصدق القائلين: وَأَنْكِحُواْ ?لأيَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ وَ?للَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَلْيَسْتَعْفِفِ ?لَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى? يُغْنِيَهُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32، 33].
فأيّها المسلمون، خطابٌ من ربِّ العالمين موجَّه إلى الأمة جمعًا، يقول الله لهم آمِرًا: وَأَنْكِحُواْ ?لأيَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ، يأمرنا جميعًا أن نحقِّق هذا الجانبَ العظيم، أعني جانبَ النّكاح، وأن نسعى في تزويج الأبناء والبَنات؛ لأنّ هذا فطرةُ الله التي فطر عليها العباد، قال تعالى: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جًا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]. فالنكاح ضرورةٌ للشابّ وللشابّة، ضرورة للرّجل وللمرأة معًا، فبها يحصُل الأنسُ والطمأنينة، هُوَ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189]، فبالنّكاح سكونُ النفوس وطمأنينتها وراحتُها، مع ما يشتمِل عليه من الفوائد العظيمة وما يدفع الله به من البلاء العظيم، فهو يحقِّق الفوائدَ العظيمة، ويدفع المضارَّ الجسيمة، هذا النّكاح الشرعيّ يحصل به غضّ البصر وتحصين الفرج، وهما مطلوبان شرعًا: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30، 31].
أيّها الإخوة، وبهذا العقد عقدِ النّكاح تدوم الأسرةُ الصالحة، وبهذا العقدِ عقد النّكاح يكثر النّسل، ويمتدّ بنو الإنسان، وتتحقّق أمنيّة النبيّ القائل: ((تزوّجوا الودودَ الولود فإنّي مكاثرٌ بكمُ الأممَ يوم القيامة)) [1]. وبهذا العقدِ أيضًا تُحفَظ الأنساب، فلولا النّكاح لم يحصُل توارث ولا نفقةٌ ولا معرفة فرع مِن أصل، بل تكون الأمّة فوضى في كلّ أحوالها، فمن رحمة الله بالمسلمين وفضله عليهم أن شرَع هذا النكاح وفطر النفوسَ على ذلك، فطر البشريّةَ على هذا النكاح ليحقِّق به لكلٍّ من الذكر والأنثى الراحةَ والطمأنينة.
أيّها المسلم، والله إذ يقول: وَأَنْكِحُواْ ?لأيَـ?مَى? مِنْكُمْ هو أمرٌ للجميع أن يسعَوا في تحقيق ذلك، ويقوموا بالواجب خيرَ قيام، وَأَنْكِحُواْ ?لأيَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ. ولمّا كان الزواج قد يكون من عوائقه قلّةُ المادّة قال الله: إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ وَ?للَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ المعنى: لا تجعلوا قلَّةَ المال سببًا لزهدِكم في النّكاح وبعدكم عنه، اسعَوا إليه جهدَكم، وابذلوا طاقتَكم، والله جلّ وعلا ميسِّر الأمور وفاتحٌ أبوابَ الرزق، إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ ، فهو وعدٌ من الله لمَن تزوَّج أن يعينَه وييسِّر أمرَه ويفتحَ له من أبواب الرزق ما لا يخطر بباله، وربُّك حكيم عليم، ولهذا أخبرَ نبيّنا أنَّ من الثلاثة الذين حقٌّ على الله عونُهم، ذكر منهم الرجلَ يتزوَّج تريد العفاف [2] ، فمن تزوَّج يريد العفافَ فحقّ على الله أن يعينَه في تلك المهمّة، فتُذلَّل الصِّعابَ أمامَه، ويفتَح له من أبواب الرزق ما لا يخطر بباله، وربّكَ يرزق من يشاء بغير حساب، إذًا فلا بدَّ من نيّة صادقة، ولا بدّ من اهتمام بهذا الأمر، ولا بدّ من عناية، وكلُّ المجتمع مسلم مطالبٌ بالتّعاون فيما بينه لإشاعةِ هذا الأمر وتكثيره والترغيب فيه.
أخي المسلم، قد يُوسْوِس لك الشيطان، ويزيِّن لك الباطل، ويزهّدك في النكاح الشرعي، فأوّل وساوسه أن يقول لك: كيفَ تُقدم على أمرٍ لا تستطيعه، أنت قليلُ ذاتِ اليد، وسوف لا تجد من يقرضُك ولا من يعينك، والأمور شاقَّة أمامَك، والطريق صَعب، إذًا فاصرف النظرَ عن الزّواج، وانتظِر به السنينَ تِلوَ السنين، وانغمِس في الشهوات والملذّات إلى أن يتحقّق لك ما تريد، هذه وساوسُ إبليس ليصرفَ المسلمَ عن الخير، ويصرفه عن الهدى، ويوقعَه في البلاء، فإنّ الشيطان لنا عدوّ، إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لسَّعِيرِ [فاطر:6].
أخي المسلم، إنَّ الله يقول: وَلْيَسْتَعْفِفِ ?لَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى? يُغْنِيَهُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:33]، أمرٌ من الله للمسلم بأن يكونَ ذا عفّة عن محارم الله، يحفَظ فرجَه، يغضّ بصرَه، يُعرض عن الحرام رجاءً من الله أن يفتَح له بابَ الحلال، فإذا عفَّ عن محارم الله وزهد في الحرام وعلم الله منه صدقَ النيّة فالله سييسِّر له الأمور، والله على كلّ شيء قدير، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [يس:82]، فهو يقول جلّ وعلا: وَلْيَسْتَعْفِفِ ?لَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا ، ليتعفَّفوا عن محارم الله، وتلك العفّة تكون وسيلةً إلى الحصول على الحلال بتوفيقٍ من الله، تيسَّر الأمور، وتُزال العقبات، والله على كلّ شيء قدير.
أيّها المسلم، إنَّ الزواج نعمةٌ عظيمة من الله للعبد، إذا وفَّقه له فسيحصل له به الخير العظيم والفضل الكبير، راحةُ النفس، طمأنينة القلب، طيبُ الحياة.
أيّها المسلم، الزواج سنّة نبيّنا وخُلُق الصالحين المقتدين به، فهو يقول : ((حُبِّب إليّ من دنياكم النّساء والطّيب، وجُعلت قرةُ عيني في الصّلاة)) [3] ، وقال: ((النّكاح سنّتي، فمن رغِب عن سنّتي فليس منّي)) [4]. طافَ ببيوت النبيّ ثلاثة نفر من أصحاب النبي يسألون عن عبادة النبي ، فأُخبروا فكأنّهم تقالّوا ذلك، قال أحدهم: أمّا أنا فأصوم ولا أفطِر، وقال الآخر: أمّا أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أمّا أنا فلا أتزوّج النساء، تركوا تلك المباحات زهدًا فيها ورغبةً في الخير في تصوُّرِهم رضي الله عنهم، بلغ النبيَّ خبرُهم فقال: ((أما إنّي أتقاكم لله وأخشاكم له، لكنّي أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوّج النساء، فمن رغِب عن سنّتي فليس منّي)) [5]. وحقًّا إنّ من يزهد في النكاح أو لا يريده أو يُضعِّف من شأنه أو يدعو الشبابَ إلى أن يتركوا النكاحَ حتى يمضِي دورُ الشّباب ويدخل في عهد الكهولة فهذا مخالفٌ لسنّة محمّد.
أيّها المسلم، الزّواجُ عبادَة لله وقربةٌ يتقرّبَ بها العبد إلى الله، فهو أفضل من نوافل العبادة؛ لأنّه يعين على تحصين الفرج وغضِّ البصر وسلامة العبد من الوقوع فيما حرَّم الله عليه.
أيّها الشابّ المسلم، إنّ الزواجَ خير كثير، متى ما توفّرت أسبابُه فعليك بالسعي في ذلك، والنبيّ يقول: ((يا معشرَ الشّباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوّج، فإنّه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصّوم، فإنّه له وجاء)) [6] ، فهذا خطابٌ مِن محمّد موجَّه لشباب الأمّة المسلِمة: ((من استطاع منكم الباءة فليتزوّج)) ، من كانت عندَه القدرة الماليّة والبدنيّة فليتزوّج وليبادِر، فإنّ ذلك أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ثمّ قال: ((ومَن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنّه له وجاء)) يقتل حدّة الشخص.
ردّ النبيّ على عثمان بن مظعون تبتُّلَه؛ لأنّ عثمان أراد أن ينقطع عن الدنيا فيزهد في الزواج، فردّ النبيّ عليه تبتُّله ومنعه من ذلك؛ لأنَّ الزواج من هديِ المرسلين، كما قال جلّ وعلا: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً [الرعد:38].
أيّها الشابّ المسلم، إيّاك والزهدَ في الزّواج، وإيّاك والنظرَ إلى الأمور البعيدة المدَى التي ربّما حالت بينك وبين الزواج، يأتيك عدوّ الله ويقول: أنت تتزوّج في هذا السنِّ المبكّر، لماذا تتحمّل المسؤولية ولا تزال في عهد شبابك، تتحمّل التّبِعات مِن نفقة ورعايةٍ وتقيّد وعدم انطلاق؟! دَع عنك النكاح، انطلِق في شبابك وأرضِ نفسك وأعطِها مُناها، وبعدَ الأربعين تزوّج فتلك السّعادة.
هذه مِن وساوس عدوِّ الله، يزهِّد الشّباب المسلمَ في الزواج قائلا له: إنّه يقيِّد حريّتَك، ويحمّلك المسؤولية والتّبعة، ويجعلك راعيًا، وتلتزم النّفقات، وتلتزم وتلتزم، وتكون مسؤولا، وربّما جاءك ولدٌ في السنّ المبكّر فتبقى شقيًّا مع زوجةٍ وأولاد، وأمامَك زمنٌ طويل، أعطِ نفسَك مناها، وأرضِ نفسَك وتمتَّع بشهواتك، والزّواج مُمكنٌ بعد حين. هذه الفكرةُ الخاطئة ارفُضها أيّها المسلم، وإيّاك أن تعوِّل عليها.
قد يأتي عدوّ الله ويقول: تزوّجتَ أيّها الشاب، فأين النّفقة؟ أين السّكن؟ أين وأين؟ حتى يجعلَ الأمورَ كلَّها أمامك شاقّة تتصوّرها عقباتٍ لا تستطيع تخطّيها، هذه المقالةُ لا تصغِ لها، وتذكّر قولَه جلّ وعلا: إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ.
أيّها الشابّ المسلم، قد يأتي عدوّ الله لك بصورةٍ أخرى أيضًا يزهّدك في الزّواج، ويبعدك عنه، ويجعلك لا ترغَب فيه، يقول لك: هذه المرأة التي خطبتَها هل أنتَ ضامن أن تستمرّ معك أو تبقى معك؟ ربّما فسَد الزواج، وعُدتَ وذهبَت أموالك هباءً منثورًا.
يا أخي، هذه خطواتُ عدوِّ الله، لقد أمرك نبيّك عندما تريد خطبَة امرأةٍ أن تستخير الله، فتسأله جلّ وعلا: إن تكن تلك المرأة خيرًا لك في دينك ودنياك فاسأل ربَّك أن ييسِّرها لك، وإن يكن في عِلم الله أنّها ليست تناسبك فاسألِ الله أن يصرفَك عنها ويصرفَها عنك.
أيّها المسلم، إنّ عدوَّ الله يزهِّد في كلِّ خير، فإيّاك أن تصغيَ لوساوسه أو تصغيَ لأهدافه السيّئة، بل استمرَّ على الخير، وحقِّق أمرَ الله ،وثِقْ بوعد الله، فالله لا يخلِف الميعاد.
أيّها المسلم، نبيّك رغَّبك في اختيار ذاتِ الدّين والخلُق القويم، فإنّها عونٌ لك في أمور دينِك ودنياك، يقول : ((تُنكَح المرأة لأربع: لمالها وجمالِها ودينها ونسبها، فاظفَر بذات الدين ترِبت يداك)) [7] ، يقول الله: فَ?لصَّـ?لِحَـ?تُ قَـ?نِتَـ?تٌ حَفِظَـ?تٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ?للَّهُ [النساء:34].
أيّها المسلم، إذا تقدَّم لفتاتِك من ترضى دينَه وخلقه وأمانتَه فكن عونًا لابنتِك على الزواج، حريصًا على صيانتِها وعفَّتها، ((إذا أتاكم من ترضَون دينَه وأمانتَه فزوِّجوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير)) [8] ، فلا يحول بينك وبين زواج الفتيات الأمورُ المادّية والمطامع المادّية، كلُّ هذه ينبغي أن لا تكون عائقًا، المهمّ أهليّةُ ذلك الرجل، صلاحيته فيما يغلِب على الظنّ وأهليته لحمل تلك الأمانة، فإذا تحقَّق ذلك فاحمد الله، وتذكّر قوله: وَأَنْكِحُواْ ?لأيَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ وَ?للَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
كلّما شاعَ النكاح في مجتمعٍ وكثُر في المجتمع دلَّ على خيريّة ذلك المجتمع وكثرةِ الخير والصلاح فيه، وكلّما قلّ هذا النكاح وضعُف شأنه إنّما هو عنوان عدم الاستقامةِ والعياذ بالله، فالحرص على إشاعة هذا النّكاح والإعانة عليه من الأمّهات والآباء أمرٌ مطلوب شرعًا؛ ليقوم الجميع بما أوجب الله عليهم، فتسعد البشريّة بتقلُّص الجرائمِ وقلَّتها، نسأل الله للجميع الثباتَ على الحقِّ والاستقامةَ على الهدى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أبو داود في كتاب النكاح (2050)، والنسائي في كتاب النكاح (3227) من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4056، 4057 ـ الإحسان ـ)، والحاكم (2/162)، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في الفتح (9/ 111)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (1805).
[2] أخرجه أحمد (2/251، 437)، والترمذي في فضائل الجهاد (1655)، والنسائي في الجهاد (3120)، وابن ماجه في الأحكام (2518) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (979)، وابن حبان (4030)، والحاكم (2678)، وحسنه الألباني في غاية المرام (210).
[3] أخرجه أحمد (3/128)، والنسائي في عشرة النساء، باب: حب النساء (3939)، وأبو يعلى (3482) من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/174)، والمقدسي في المختارة (4/367)، وجوّد إسناده العراقي، وقواه الذهبي في الميزان (2/177)، وحسنه الحافظ في التلخيص الحبير (3/116)، وصححه في الفتح (3/15)، وهو في صحيح الجامع (3124).
[4] أخرجه ابن ماجه في النكاح (1846) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/94): "هذا إسناد ضعيف لضعف عيسى بن ميمون المديني، لكن له شاهد صحيح، وله شاهد في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن مسعود، ورواه البزار في مسنده من حديث أنس"، والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع (6807).
[5] أخرجه البخاري في النكاح (5063)، ومسلم في النكاح (1401) من حديث أنس رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في النكاح (5065)، ومسلم في النكاح (1400) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في النكاح (5090)، ومسلم في كتاب الرضاع (1466) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه الترمذي في كتاب النكاح (1084)، وابن ماجه في كتاب النكاح (1967) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/164- 165)، وتعقبه الذهبي بأن فيه عبد الحميد بن سليمان قال فيه أبو داود: "كان غير ثقة"، وفيه أيضًا ابن وثيمة لا يعرف. ثم اختلف في إسناده، فنقل الترمذي عن البخاري أنه يرجح انقطاعه. ولكن للحديث شواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022 )
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيّها الأب الكريم، إنّ الفتاة أمانةٌ في عنقِك، والله سائلك عنها يومَ لقائه، هذه الفتاةُ إيّاك أن تمنعَها من الزواج وأن تحولَ بينها وبين الزواج، فهناك فِئة من الناس ربّما سعَوا في جعل البنات عوانس، ومنعوهنَّ من الزواج، لماذا؟ لا لقلّة من يتقدّم ولا لعَدم أهليّة من يتقدّم، ولكن الأغراض والمطامِع المادّيّة تحمل ذلك الرجلَ إلى أن يضعَ عقباتٍ أمام فتاتِه يريد منعَها عن الزواج، لماذا؟ لأنّه يستفيد من مرتَّبها ومن أموالها، فهو لا يريد زواجَها خوفًا من أنَّ مرتَّبها ينقطع عنه، ولا يحصل له ذلك بعد الزواج والتحامِها بالزوج، فالطمعُ المادّي يمنعه من زواج ابنتِه، ولا يعلم أنّه ارتكب خطأً عظيمًا، وأنَّ الله سيُحاسبه يومَ الوقوف بين يدَيه.
أيّها الرّجل المسلم، أيّها الأب الكريم، اتِّق الله في هذه الفتاة، فإذا تقدّم لها خاطبٌ فانظر حالَ ذلك الخاطب، واعرِض عليها الأمرَ عرضًا واضحًا، اعرض عليها أحوالَ ذلك الرجل: سيرتَه، أعماله، أخلاقه، ما قيل عنه، حيث ينبغي التقصّي في هذا الرّجل، لا أقول: الكمال المطلق، فالكمال ليس بمقصود، ولكن المقصود الحِرص على أن تكونَ المرأة لدَيها تصوّر عن ذلك الرّجل الذي سيكون شريكًا لحياتِها. وعليك تقوى الله في أن تعلم هل هذا المتقدِّم أهلٌ لهذه الأمانة أم لا؟ تسأل عن دينِه، عن استقامته، عن أعماله، عن أخلاقه؛ لأنّ هذا هو المطلوب، وما أمكن إصلاحه فاستصلِحه، وما أمكن أن تنصَح ذلك المتقدّم أو تحذّره من أمور ترى أنّ بقاءه عليها عائق بينه وبين استمرار الحياة الزوجية فلا مانع مِن نصيحةٍ وتوجيه، المهمّ أن لا تَعقد الفتاة إلا على من يغلِب [على] ظنّك أنّه أهلٌ لتلك الأمانة، بعد استخارة الله والاستشارة، والأمرُ بيد الله، والغيب عِلمه عند الله.
أيّها المسلم، إنّ نبيَّنا أرشدَ المسلمَ أيضًا إلى أن ينظرَ إلى الفتاة التي يريد خطبتَها، نعم أرشدَه إلى أن ينظرَ إليها وقال: ((عسى أن يؤدَم بينكما)) [1] ، ويكون هذا النّظر بحضور محرمِها لأنّه لا يحلّ له الخلوةُ بامرأةٍ لم يعقِد عليها، وإنّما هي نظرة، ليلقي نظرة عليها، فإن قدَّر الله ذلك، وإلا فينبغي لذلك المتقدِّم أن يكتُم ذلك السرَّ ولا يفشيَ ويقول: نظرتُ لابنة فلان فلم تعجِبني، فيها من العيوب ما فيها، هي لم تعجِبك أنتَ وقد تعجب غيرَك، لم تكن حسناءَ في نظرك وقد تكون حسناءَ في نظرِ غيرك، فكتمانُ السّرِّ والمحافظة على الأمانة أمر مطلوب شرعًا.
أيّها الشابّ المسلم، وعندما تتقدّم لخطبَة امرأة وتنظر إليها فإني احذّرك من الاتّصالات الهاتفيّة قبل عقدِ النكاح، فإنّ كثيرًا من هذه الاتّصالات الهاتفيّة ربّما أبطأت أمرَ الزواج، وحصل قيل وقال وفضولُ كلام، لا طائلَ تحته، وإنّما هو سببٌ في إبعاد الزّوجين بعضهما من بعض.
أيّها الشاب المسلم، عندما تحصُل هذه الاتصالات الهاتفيّة غالبًا قبلَ العقد ربّما تكون سببًا في إفساد العَقد، ربَما يسألها عن تاريخها وحياتها السّابقة، وتفتح له كلامَ القيل والقال، وربّما سألته عن حياته الماضية، فقال عن نفسه ما قال، فيكون ذلك سببًا لانفصام الخطبة وعدم استمرارها. العَبدُ لا يخلو من خطأ، والمسلم لا يخلو من خطأ، قلّ أو كثر، لا الرّجل ولا المرأة، والتّوبة إلى الله والاستغفار والنّدم والإقلاع عن الخطأ هذا هو المطلوب من المسلم، وأمّا تتبّع الماضي وجعلُ الماضي منهجًا لكي يُصَدّ عن الزواج فإنّ هذه الأمور [إذا تبت منها] لن يسألك الله عنها، وإنّما عليك في حياتك المستقبليّة، هذا هو المطلوب، أمّا الاتصالات قبل العقد فلا خير فيها؛ لأنّه يخشى أن تجرَّ إلى لقاءٍ قبل العقد، وهذا أمرٌ محرَّم شرعًا، وإذا أردتَ التخلّصَ من هذه التبِعات فاعقِد العقدَ الشرعيّ الذي يقول فيه النبيّ : ((أخذتموهنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله)) [2].
وعلى الجميع تقوى الله والتّعاون على البرّ والتقوى في سبيل إشاعة عقد النكاح وتكثيره، فهو علامةُ خير في الأمّة، أسأل الله للجميع التوفيق والعونَ على كلّ خير، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمَّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (4/244)، والترمذي في النكاح (1087)، والنسائي في النكاح (3235)، وابن ماجه في النكاح (1688) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (675)، وابن حبان (4043)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (96).
[2] أخرجه مسلم في الحج، باب: حجة النبي (1218) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الطويل.
(1/2709)
الإجرام في بلد الله الحرام
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, فضائل الأزمنة والأمكنة
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
20/4/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من وجوه شكر النعم. 2- جريمة الحاقدين. 3- استنكار المسلمين لما حدث بمكة. 4- حرمة مكة المكرمة. 5- جريمة الإلحاد في الحرم. 6- التصدي الناجح لهذا الإجرام. 7- ضرورة العناية بالشباب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عباد الله، اتَّقوا الله فإنَّ تقوى الله خيرُ زاد يتزوَّد به المرءُ لقطع أشواطِ الحياة بمنأًى عن الزّلل وسلامةٍ مِن الأوزار في يومٍ تتقلَّب فيه القلوب والأبصار.
أيّها المسلمون، إنَّ الإقرارَ بالنّعم والشهادةَ بالمِنن واللّهجَ بالفضائل والبيانَ للمحامد كلُّ أولئك ممَّا يقعُ به الشّكر، ويرتفع به الثّناء، ويصحُّ به الحمد لله ربِّ العالمين، فإنّه مُسبِغ هذه النِّعم، ومُسدي هذا الإحسان، ومفيضُ هذا الخير.
وإنَّ ممَّا أنعَم الله به على هذه البلاد مِن سَابغ النِّعم وما أكرمَها به من جميل العطايَا وما حبَاها به من وافرِ الهبات أن جعَلها دولةَ الإسلام وواحة السّلام ودارَ الأمن والإيمان، لكنَّ مَن أُشربوا في قلوبهم الحِقدَ وأوضَعوا في العدوان ساءَهم تتابُع هذه النعم وترادفُ هذا الخير وتعاقبُ هذا الإكرام، فشَمَّروا عن سواعِد الإثم، واتَّبعوا خطواتِ الشيطان، فكان عاقبةَ ذلك هذه الجريمةُ الكبرى التي اقترفتها أيديهم على بِطاح مكّة بلدِ الله الحرام، وإذا هي حلقةٌ إجراميّة جديدة لحِقت بسابقاتِها التي سلفت في الرّياض وفي المدينة وفي حائِل لتكَوِّن مجتمعةً عملا إرهابيًّا آثمًا يأباه الله ورسوله وصالحُ المؤمنين في هذه البلاد وفي كلِّ الدّيار وفي جميع الأمصار؛ إذ كيفَ يكون أمرًا مقبولا ما وقعَ في بلدِ الله الحرام عشيَّة يوم السّبت من إقدام فئة ضالّةٍ عن سواء السّبيل على إطلاق النّار صوبَ عبادِ الله المؤمنين من رجال الأمنِ الذين كانوا يؤدّون ما وجبَ عليهم من إحباطِ المسعى الإجراميّ لهذه الفئةِ التي اتَّخذت من أحدِ المساكن في هذا البلد وكرًا لتصنيع وتجميع وإخفاءِ أسلحةِ القتل وأدواتِ التخريب والدّمار التي كان من بَينها مصاحفُ مفخَّخة حتّى يكون الموتُ أو ما يقرُب منه مصيرَ من حرَّك أغلِفتَها ليقرأ كلامَ الله الذي بِه حياةُ القلوب والأرواح، فهل يقبَل بهذا ـ أيّها الإخوة ـ مؤمنٌ صادق يحذَر الآخرةَ ويرجو رحمة ربِّه؟! وهل يقبل بهذا كلُّ من له بقيّةٌ من عقل أو صُبابة من فِكر أو أثارة من عِلم؟! فضلا عن أن يُجيزه أو يحرِّض عليه أو يقرَّ به أو يُسَرَّ به، ثمّ أوَليس هؤلاء الرّجال الذين أُطلِقت عليهم هذه النّيران فقضَوا نحبَهم مِن رجال الأمن وجُرح منهم ومِن غيرهم، أوَليس هؤلاء بمسلِمين؟! وهذا البلدُ الآمن الذي فيه هذا البيتُ الشّريف وهذا المسجد المبارك أليسَ هو بالبلد الحرامِ الذي يأمَن فيه الإنسان والحيوانُ والطير فلا يقتل والشجر فلا يعضد؟! كما أخبَر بذلك نبيّ الرحمة والهدى في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال: قال رسول الله يومَ فتحِ مكّة: ((إنّ هذا البلدَ حرَّمه الله تعالى يومَ خلق السموات والأرض، فهو حرامٌ بحرمةِ الله عزّ وجلّ إلى يوم القيامة، وإنّه لم يحلَّ القتالُ فيه لأحدٍ قبلي، ولم يحلَّ لي إلا ساعةً من نهارٍ، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضَد شوكُه، ولا ينفَّر صيده، ولا تُلتقَط لقَطَته إلا لمعرِّف، ولا يُختَلى خلاه)) ، فقال العباس: يا رسول الله إلاّ الإذخِر؛ فإنّه لقَينِهم وبُيوتهم، قال: ((إلاّ الإذخِر)) [1] ، وفي الصّحيحين أيضًا عن أبي شريح العدويّ رضي الله عنه أنّه قال لعمرو بن سعيد: ائذَن لي ـ أيها الأمير ـ أحدِّثْك قولا قام به رسول الله الغد من يومِ فتحِه مكّة، سمعَته أذناي ووعاه قلبي وأبصرَته عيناي حين تكلَّم به، إنّه حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: ((إنّ مكّة حرَّمها الله، ولم يحرِّمها الناس، فلا يحلّ لامرئ يؤمِن بالله واليوم الآخر أن يسفِك فيها دمًا، ولا يعضدَ بها شجرة، فإنْ أحدٌ ترخَّص لقتال رسول الله فيها فقولوا: إنّ الله قد أذِن لرسوله ولم يأذَن لكم، وإنّما أذِن لي فيها ساعةً من نهار، ثم عادَت حُرمتها اليومَ كحرمتِها بالأمس، وليبلّغ الشاهدُ الغائب)) [2].
أفيُعرِض عن هذا البيان النبويّ والتّحذير المحمّديّ إلا من طبَع الله على قلبِه وسمعِه وجعَل على بصره غشاوة، واجتالته شياطين الإنس والجنّ عن سبيل الله وحادت به عن صراطه المستقيم؟! وكيفَ يستبيح أحدٌ لنفسِه ما قد حرّمه الله ورسوله مِن ترويع المسلم وإخافته، فضلا عن قتله وسفك دمِه؟! ألم يطرقْ سمعَه قولُ رسول الله في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه بإسناد صحيح على شرط البخاري عن رجالٍ من أصحاب رسول الله أنّه عليه الصلاة والسّلام قال: ((لا يحلّ لمسلم أن يروِّع مسلمًا)) [3] ، وإذا كانَ هذا التّرويع محرَّمًا على المسلم اقترافُه في كلِّ مكان أفيحِلُّ ذلك التّرويع في بلدِ الله الحرام، أو في بلد رسوله عليه الصلاة والسلام؟! ثم ألم يتوعَّد ربُّنا سبحانه كلَّ من أراد الإلحادَ في حرمه بالعذاب الأليم وذلك في قولِه عزّ اسمه: إِنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ وَ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ ?لَّذِى جَعَلْنَـ?هُ لِلنَّاسِ سَوَاء ?لْعَـ?كِفُ فِيهِ وَ?لْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]. وما هو الإلحاد الذي توعَّد الله من أراده في هذا البلد؟ ألم يوضِّحه سلفُ هذه الأمة وخيارها أوضحَ بيان وأوفاه؟! حيث قال حبر الأمّة وترجمان القرآن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما: (هو أن تستحلَّ من الحرَم ما حرَّم الله عليك مِن لسان أو قتل، فتظلمَ من لا يظلِمك وتقتلَ من لا يقتلك) [4] ، ثمّ ألم يبيِّن سلفنا الصالحُ رضوان الله عليهم أنّ مِن خصائصِ هذا الحرَم التي جعلها الله له أنَّ العقوبةَ مُرصدَة لمن أراد فيه إلحادًا وإن لم يقَع منه إلا مجرَّد الإرادة؟! فقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيما أخرجه ابن أبي حاتم بإسنادٍ صحيح عنه قال: (ما مِن رجل يهمُّ فيه ـ أي: في الحرم ـ بسيّئة إلا كُتبت عليه) [5] ، ومن المعلوم ـ أيّها الإخوة ـ أنَّ مثلَ هذا ممَّا لا مجال للرّأي فيه، فله حكمُ المرفوع إلى رسول الله كما هو مقرَّرٌ في موضعِه. وإنَّ ما وقع مِن إحباطِ مسعَى هذه الفئةِ قبل أن تبلغَ ما أرادت لهو دليلٌ بيِّن لمَن تأمَّله على صحَّة هذا المعنى.
عباد الله، إنّ هذه الأحداث الأليمةَ التي تقضّ لها مضاجعُ أولي النّهي، وتهتزّ لها أفئدة أولي الألباب، وإنَّ هذا العدوانَ الذي تعرَّضت له هذه البلاد في بعض مُدُنها هو أمرٌ مرفوضٌ ينكِره كلُّ العقلاء أشدَّ الإنكار، لأنّه محرَّم بنصوص الكتاب والسنة؛ ولأنّه تعَدٍّ لحدود الله وانتهاكٌ لحرماته وعدوانٌ على عباده، ولأنّه فسادٌ نهى الله عنه، وأخبر أنّه لا يحبّه وأنّه لا يُصلح عملَ المفسدين، وتوعَّدهم عليه بالعذاب الأليم، ولذا فإنّ من ولاّه الله أمرَ هذه البلاد قد قام بحمدِ الله وسوفَ يقوم بما وجب عليه من إطفاء نار الفتنةِ وحماية الحوزةِ والحفاظ على الوَحدة وصيانةِ كيان الأمّة، بالنزول على حكمِ الله وتحكيم شريعتِه، لقطع دابر الفساد والمفسدين وإعادة الحقِّ إلى نصابه، حتّى تبقى هذه البلاد كما كانت دائمًا وكما أراد الله لها مَوئلا للهداية ومبعَثًا للنّور ومثابةً للنّاس وحِصنًا حصينًا تتكسَّر عليه أمواجُ الفتَن وترتدُّ عن حياضه سهامُ المكرِ والكيد خائبةً لم تبلغ ممَّا أرادت شيئًا، ولم تنَل ممّا صبت إليه نفوسُ أصحابِها قليلا ولا كثيرًا؛ لأنَّ هذا تقديرُ العزيز العليم، وفضلُ الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?دْخُلُواْ فِي ?لسّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ فَإِن زَلَلْتُمْ مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ ?لْبَيّنَـ?تُ فَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:208، 209].
نفعني الله وإيّاكم بهدي كتابه وبسنّة نبيّه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الجزية (3189) ومسلم في الحج (1353).
[2] أخرجه البخاري في العلم (104) ومسلم في الحج (1354).
[3] أخرجه أحمد (5/362)، وأبو داود في الأدب (5004)، والقضاعي في مسند الشهاب (878)، والبيهقي في الكبرى (10/249)، وحسنه العراقي كما في الفيض (6/447)، وصححه الألباني في غاية المرام (447).
[4] أخرجه الطبري في تفسيره (17/140).
[5] أخرجه الطبري في تفسيره (17/140-141) بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الوليِّ الحميد، الفعّالِ لما يريد، أحمده سبحانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبه.
أمّا بعد: فيا عباد الله، اتّقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وراقبوه، ولا تغرّنّكم الحياة الدنيا ولا يغرّنّكم بالله الغرور.
أيّها المسلمون، إنَّ الشبابَ ذخيرةُ الأمّة وعدّةُ المستقبل، فليس بِدعًا تواصلُ الدّعوات وتتابعُ النّداءات مِن كلِّ المخلصين الصّادقين إلى ضرورة العناية بهم والرّعاية لهم، حتى لا تنحرفَ بهم السّبل وتضلَّ بهم المسالك. وإنّ مظاهرَ هذه العناية وبوادرَ هذه الرعاية يجبُ أن تأخذَ حظَّها منذ لحظاتِ النّشأة الأولى ببذر بذور المعتقَد الصحيح الصافي من الشوائب في نفوسهم، وغرسِ معاني الحقِّ والخير في قلوبهم، واستنباتِ فضائل الأخلاق في ضمائرهم، وزرعِ عواطف الحبِّ لدينهم ولوطنِهم، وبتذكيرهم بمحامدِ خُلق الرِّفق والإحسان واللّين وخفضِ الجناح للمؤمنين، والمعاملة بالعدلِ والإنصاف للخلقِ كلِّهم أجمعين، وبتحذيرهم مِن نزغات الشياطين ونزعات المضلِّين وأصحابِ الأهواء مِن المفسدين والحاقدين الذين دأبوا على بثِّ الدّخيل مِن الأفكار والغريب من العقائد، وأيضًا بدوامِ الحِرص على المتابعة في جميع أحوالهم، وتوثيقِ الصّلة بهم، وبسؤالهم عمَّا يُشكل في عقولهم أو يحيك في صدورهم، وبإرشادهم إلى الأخذ عن العلماء الربّانيّين والصالحين المصلحين المشهودِ لهم بصحيح العِلم وصالح العمل، وهجرِ الأدعياء والمُغرضين والشّاذّين الذين يختانون أنفسَهم ويُضلّون غيرَهم بسوء كلامِهم وسوء فِعالهم التي تحملهم على التغرير بصِغار العقول وحُدَثاء الأسنانِ ودون مخافةٍ من الله المنتقِم الجبّار.
ألا فاتّقوا الله عبادَ الله، واعلموا على القيام بأماناتِكم تكونوا مِن المفلحين الفائزين، وتحضَوا بالرّضوان والنّعيم المقيم.
واذكروا أنَّ الله تعالى قد أمركم بالصّلاة والسلام على خاتم النبيّين وإمام المتّقين ورحمة الله للعالمين، فقال سبحانه في الكتاب المبين: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمَّ عن الخلفاء الأربعة...
(1/2710)
ما وراء أحداث مكّة
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
20/4/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عِظم ما حدث بمكّة المكرمة. 2- انتهاك حرمة البيت الحرام. 3- خطورة الغلوّ في التكفير. 4- مطلب الأمن مسؤولية الجميع. 5- حرمة الأعمال التخريبية. 6- حفظ الأنفس والأموال والأعراض. 7- حفظ حقوق غير المسلمين. 8- مفاسد هذه الأعمال التخريبية. 9- ضرورة الشعور بالمسؤولية تجاه ما حدث. 10- حرص النبي على أمن المجتمع. 11- الواجب على العلماء والدعاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله تعالى بفِعل طاعتِه والبعدِ عن معصيتِه، وشكرِه سبحانه على سعةِ فضله وسابغِ نعمتِه، والمسارعةِ إلى مغفرتِه وجنّتِه، فإنَّ في ذلكم الخير والصلاحَ والهدى والفلاح.
إخوةَ الإسلام، تتوالى حلقاتُ سلسلةٍ من الأحداثِ في بلادِ الحرمَين الشّريفين، يذهَل المسلم لها ويتملَّكه العَجَب، بَل ويحَار القلم وتَعجز الكلماتُ مِن هول ما يَرى ويسمع. وحين تبلغُ الأحداث بلدَ الله الحرام وبيتَه الأمين الذي جعله الله مثابةً للنّاس وأمنًا فالأمرُ أشدّ وأنكى.
إنَّ ما حدث في مكّةَ والمدينةِ والرياض من حوادثَ مؤلمةٍ وحشدٍ لوسائل القتلِ والتّدمير أمرٌ لا يتردّد الإنسانُ لحظةً في تحريمِه وأنّه كبيرة من الكبائر وليسَ له ما يبرّره شرعًا ولا عقلا، قال الله تعالى: أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَنًا [فاطر:8]. إنَّ من يجيز مجرّدَ إرادةِ الإفساد في الحرَم تُعَدُّ معصيَة، فكيف بالإفسادِ نفسه؟! قال تعالى: وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].
هذه الفتنةُ أسقطت مِن قاموسها تعظيمَ شعائر الله وعظمةَ بيته الحرام وسكّانه الكِرام التي حفِظها الله منذ خلقَ السمواتِ والأرض، فالإسلام لا يقرُّ كلَّ أشكالِ العنف والعدوان، ومَن يرتكبُ هذه الأعمالَ في بيت الله الحرام ويستبيح حرمتَه ويقتل رجالَ الأمن والمواطنين ويسفِك دماءَ الأبرياء تحت أيِّ مسوِّغٍ فهو مفسِد في الأرض، وهذا عبثٌ بأمنِ البلاد وعملٌ مشين يبوء صاحبُه بإثم كبير.
إنَّ هذه الانحرافات من هذه الفئةِ أو غيرها تستمدّ أبعادَها من منهجيّة منحرفة، ضالّة غير سويّة، ونفثةٍ غريبة لن تجدَ ملاذا في هذه البلاد، ولن تنموَ على أرض الطُّهر والإيمان.
إنّ هذه الأفعال المشينة تقذِف بالأمّة في أتون المشكلات والمصائب، ومن ذلك الغلوّ الاعتقاديّ الذي من سماتِه التّكفير، وهذا أخطر أنواعِ الغلوّ لأنّه المحوَر الذي تشعَّبت عنه الفرق المختلفة في الإسلام وظهرَت عندها الأهواءُ واختلفت القلوب والعقول، ثم سُلَّت السيوف فسالت الدّماء، وقد ابتُليت الأمّة سابقًا بذلك، كما قال الحسن البصريّ رحمه الله: "يضيع هذا الدّين بين الغالي فيه والجافي عنه" [1].
إنَّ هذه الأحداثَ في مهبَط الوحي ومنبعِ الرسالة مؤلِمةٌ مزعجة، ومنذرة بخطرٍ عظيم محدقٍ بالأمّة، لا يعلم عاقبتَها إلا الله، ولا يستفيد منها إلا أعداءُ الدين وأعداء الأمّة. فالأمن مطلبٌ شرعيّ كما قال تعالى: فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـ?ذَا ?لْبَيْتِ ?لَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ. والمحافظةُ على الأمن مسؤوليّة الجميع حكّامًا ومحكومين، رجالا ونساءً، كبارًا وصغارًا. فبالأمن تعمّر المساجدُ وتقام الصلوات وتحفَظ الأعراض والأموال وتؤمَّن السبُل ويُنشَر الخير وتُقام الحدود وتنتشِر الدّعوة وتُطبَّق الشريعة، وإذا اختلَّ الأمن كانت الفوضى وحكمَ اللّصوص وقُطّاع الطرق، فلنكُن كلُّنا جنودًا لحفظ الأمن.
إنَّ هذه الأعمال التخريبيّةَ التي استهدفت الآمنين مخالفةٌ لأحكام الشريعة، والتي جاءت بعصمةِ دماء المسلمين والمعاهَدين، فكيف إذا كان هذا الفعلُ في بلد مسلمٍ آمن، بل هو إشعاع الرّسالة والنور الذي أشرقت به جنبات الأرض كلِّها؟! كيف إذا كان في بلدِ الدّعوة والدّعاة؟! لا شكّ أنَّ ذلك أشدّ حرمَةً بإجماع علماءِ المسلمين الرّاسخين، فضلا عمّا في ذلك من هتكٍ لحرمَة الأنفس والأموال المعصومة، وهتكٍ لحرمَة الآمنين المطمأنّين في مساكنهم، وإشاعة الفوضى وعدمِ الاستقرار. وما حدَث في مكّة ومثيلها من مدن بلاد الحرمين من ترويعٍ لمؤلمٌ حقًّا، ولا يوافَق عليه لا شرعًا ولا عقلا، فكم من نفوس مسلمة بريئةٍ أزهقت، وكم من أموال وممتلكاتٍ أُتلِفت، وكم من نفوس مؤمنةٍ آمنة رُوِّعت، قال تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].
إنّ هذه الأعمالَ ليست من الإسلام في شيء، فقد حفِظ الدين الحقوقَ لأهلها، وحفظ للمسلمين أموالهم وأعراضَهم وأبدانهم، وحرّم انتهاكَها، وفي خطبة الوداع يؤصِّل الرسول هذا المفهومَ العظيم بقوله: ((إنَّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمةِ يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)) فأعادها مرارًا، ثم رفَع رأسَه فقال: ((اللهمَّ هل بلّغت؟ اللهمَّ هل بلَّغت؟)) قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده، إنّها لوصيّته إلى أمّته: ((فليبلّغ الشاهدُ الغائب، لا ترجِعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقابَ بعض)) أخرجه البخاري [2] ، وقال : ((كلّ المسلم على المسلِم حرام؛ دمه ومالُه وعرضه)) أخرجه مسلم [3]. نظر ابنُ عمر يومًا إلى الكعبة فقال: (ما أعظمكِ وأعظم حرمتَك، والمؤمن أعظمُ حرمةً منك) أخرجه الترمذي [4] ، وعن [عبد الله بن] بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله : ((قتلُ المؤمن أعظمُ عند الله من زوالِ الدنيا)) أخرجه النسائي [5].
حفِظ الإسلام لغير المسلمين حقوقَهم، فقال تعالى في حقِّ الكافر الذي له ذمّة في حكم قتلِ الخطأ: وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً [النساء:92]، وصحّ عن رسول الله : ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحةَ الجنّة، وإنَّ رائحتها توجد من مسيرةِ أربعين عامًا)) رواه البخاري [6].
وفي هذه الأعمالِ المشينةِ الخروجُ على جماعةِ المسلمين وأولي الأمرِ منهم الذين أمر الله بطاعتِهم، وجعل طاعتَهم طاعةً له، قال تعالى: وَمَن يُشَاقِقِ ?لرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ?لْهُدَى? وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ?لْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى? وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء:115]. وبهذه التصرفاتِ غير الرّشيدة اتَّبعوا غيرَ سبيل المؤمنين وأراقوا الدماءَ المعصومة وتسبَّبوا في سفكِها، وقد ذكر الله تعالى قتلَ النّفس التي حرّم الله إلا بالحقّ بين جريمتَي الشرك والزنا، وتوعّد عليها بمضاعفةِ العذاب والخلودِ فيه مُهانا، قال تعالى: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَـ?لِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ ?للَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـ?تٍ [الفرقان:68-70].
وفي هذه الأحداث حملُ السّلاح على المسلمين، وقد قال : ((من حمَل علينا السّلاح فليس منّا)) أخرجه البخاري [7]. يتأكّد هذا في البلدِ الحرام الذي جعله الله أمنًا، لا ينفَّر صيدُه، ولا يختلى خلاه، ولا يعضَدُ شوكُه، فكيف بإراقة الدّماء المعصومة وإزهاق الأرواحِ المسلمة؟!
وفي هذا العملِ ذريعةٌ لأهل الكفر للنّيل من المسلمين ومعتقداتِهم ومؤسّساتهم الخيريّة، كما أنّه صدٌّ عن سبيل الله بالتسبُّب في منع بلوغ الدّين إلى البشريّة الحائرة عن طريق المؤسّسات الدعويّة، وتشويه صورةِ الإسلام والمسلمين، قال تعالى: وَلاَ تَسُبُّواْ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ فَيَسُبُّواْ ?للَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108].
إنّنا نُدين هذه الأعمال، بل ويستنكرُها كلُّ مسلمٍ وعاقل، ناهيك عن العلماءِ وطلبةِ العلم؛ لأنَّ المجتمع كلَّه بكلِّ فئاتِه في خندقٍ واحد وسفينة واحدة، والخرقُ فيها يُفضي إلى غرَق المجتمع، ويجرّنا إلى دوّامةٍ مِن العنف لا يعلم نهايتَها إلا الله، وانفلاتُ الأمن أسهلُ بكثير من إمكانيّة ضبطِه وإعادته، وتماسُك المجتمع وبقاؤه تحت رايةٍ واحدة مصدرٌ للقوّة والمنعَة.
على الجميع أن يُحسُّوا بواجبهم الشرعيّ والوطنيّ لرأب الصّدع في البنيان، ومعظمُ النّار من مستصغَر الشّرر. وإنّ فتنًا عظيمة في أمَم ماضيةٍ ودولٍ حاضرة كان أوّلها شرارةً يسيرة تساهل أولو العِلم والرّأي في إطفائها، فألهبتِ الأرض جحيمًا لا ينطفئ ودَمًا لا ينقطع وفتنةً تدعُ الحليمَ حيرانًا.
أمنُ الفرد ـ عباد الله ـ جزءٌ من أمنِ مجتمعه، وتوطيد الأمنِ يستلزم أن يؤدّيَ كلّ فرد مسؤوليتَه في حفظ الأمن، قال : ((كلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته)) أخرجه البخاري [8].
وإنَّ أمنَ بلاد الحرمين أمنٌ لكلّ مسلم من ساكنٍ ومقيم وحاجّ ومعتمر، والمزايدة عليه عبثٌ مرفوض وسلوك ساخر.
كان القدوةَ في حِفظ الأمن والسّهر على سلامةِ المجتمع، وإنَّ أهل المدينة فزعوا في إحدى اللّيالي على صوتِ دويٍّ في جنباتِها، فانطلق صوبَ الصوتِ واستبرأ الخبرَ وهو يقول لهم: ((لن تُراعُوا)) [9] ، أي: لا تخافوا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرج الدارمي في مقدمة سننه (216) عن الحسن أنه قال: "سنّتكم ـ والله الذي لا إله إلا هو ـ بينهما، بين الغالي والجافي..."، وانظر: إغاثة اللهفان (1/70).
[2] أخرجه البخاري في الحج (1739) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[3] أخرجه مسلم في البر (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه الترمذي في البر (2032)، وأورده الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2339).
[5] أخرجه النسائي في تحريم الدم (3990)، والبيهقي في الشعب (4/345)،وصحح إسناده ابن الملقن في الخلاصة (2/261)، وهو في صحيح سنن النسائي ( 3725 ).
[6] أخرجه البخاري في الجزية (3166) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[7] أخرجه البخاري في الديات (6874)، مسلم في الإيمان (98) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[8] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[9] أخرجه البخاري في الجهاد (2908، 2969، 3040)، ومسلم في الفضائل (2307) من حديث أنس رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله مالك المُلك، له الحمد في السموات وفي الأرض، وفي الأولى والآخرة، أحمد سبحانه وأشكرُه على نعمِه العظيمة وعطاياه الكريمة وآلائه الجسيمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العزيز، وأشهد أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمَّدًا عبده ورسوله ومصطفاه وخليله وخيرته من خلقه، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أئمّة الهدى والدين.
أمّا بعد: فاتّقوا الله حقَّ التقوى، وراقبوه في السرِّ والنّجوى.
عبادَ الله، إنَّ العالمَ الإسلاميّ مستهدف، وهذه البلاد خاصّة مستهدفةٌ في دينها وأمنِها ووحدتها وخيراتها، والواجبُ علينا تفويت الفرصة على المتربّصين، والمحافظةُ على مكتسَبات الدّعوة والوطن، والتعاملُ مع الأحداث بالشّرع والعقل.
إنَّ الواجبَ على العلماء والدّعاة والمربّين بيانُ الحقّ للشّباب وإنارة الطريق لهم وتوعيَتهم وتبصيرهم في الشّبهات والفتَن كي لا يكونوا صدًى لمخطَّطات الأعداء، ينفُثون من خلالهم حقدَهم، ويوظِّفونهم من حيث لا يشعرون لتسويق مؤامراتِهم، مع أهميّة تكثيفِ المناهج الشرعيّة في دُور التّربية والتّعليم وعدم تقليصِها؛ لترسيخ المنهج الوسط، فهي النجاةُ بإذن الله من الفتَن ما ظهر منها وبطن، والحذَر من التعصُّب الأعمى والبُعد عن العلماء وعدم الأخذ عنهم وإثارةِ البلبلة بين الصفوف، فذلك مدعاةٌ للفتن وتسلّطِ الأعداء على الأمّة، مع الحذر من المناهج المنحرِفة عن منهج أهل السنة والجماعة التي تبدّع العلماءَ والدعاة وتفسِّقهم، ومناهج الغلوّ أو الجفاء، ومناهج الإفراط أو التّفريط، وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
لا بدَّ من تماسكِ الصّفّ، مع وضعِ أيدينا في أيدي ولاةِ أمرنا وعلمائنا، مع بذل النّصح لهم جميعًا بالحكمَة والموعظة الحسنة.
إنَّ هذه البلادَ قامت على أسُسٍ راسخة ومبادئَ ثابتة ومنهج إسلاميّ، ومَن يرومُ تقويضَه أو زعزعتَه بمسالك العنف والتّفجير أو الاصطياد في الماء العكِر أو التذويب أو التمييع أو النيل من دعاةِ البلاد أو حلقات التّحفيظ أو محاضِن الدعوةِ فلن يبلغَ أحدٌ منه مرادَه، فبلاد الحرمَين كيان راسخٌ في بنيانِه، متماسِك في وَحدته، متراصّ في صفوفه، تتكسّر دونه مسالك الانحراف والتصرّفاتُ اللاّمسؤولة، ولن تبلغَ هذه الفئة أو غيرُها النيلَ من ثوابتنا وأمنِنا وقيَمنا ومناهجنا وهيئاتِ المعروف ومحاضنِ الدّعوة لدينا.
إنَّ هذه البلادَ تمثّل مركزَ الثقل وإشعاع الخير في العالم، وستبقى كذلك بإذن الله، والمروّجون للفساد والإفساد وطمس معالم التميُّز في التربية والتعليم يدمّرون الأمّة ويضربونها في عُقر دارها، وستعود أعمالهم وبالا عليهم، يجرّون أذيالَ الخيبة والهزيمة، قال الله تعالى: وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ ?لْهُدَى? مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا يُجْبَى? إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء رّزْقًا مّن لَّدُنَّا وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص:7].
(1/2711)
في سبيل انتشار الزواج
فقه
النكاح
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
9/5/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بشارة لمبتغي الزواج. 2- أهمية الزواج والحث عليه. 3- فوائد الزواج. 4- أسباب تخوف الشباب من الإقدام على الزواج. 4- دفع بعض الأوهام. 5- ضرورة تذليل السبل. 6- مشروعية صرف الزكاة لمريدي الزواج من العاجزين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله، ثبتَ في السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثلاثة حقٌّ على الله عونُهم: المتزوِّجُ يريد العفافَ، والمكاتب يريدُ الأداء، والمجاهدُ في سبيل الله)) [1].
أيها المسلم، هذا إخبارٌ من نبينا وهو الصادق المصدوق فيما يقول، إخبارٌ عن ربنا جل وعلا أنه تعالى وَعَد أولئك الثلاثةَ بالعون والتأييد، فقال: ((ثلاثة حقّ على الله عونُهم)) حقٌّ تفضَّلَ به ربُّنا، فضلاً منه وكرماً، ((حقٌّ على الله عونهم: المتزوِّج يريد العفاف)).
أيها الشاب المسلم، الزواجُ من الأمور المهمّة التي رغَّب الشارع فيها وحثَّ عليها، والله يقول: وَأَنْكِحُواْ ?لأيَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ [النور:32]، ويقول: فَ?نكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ?لنّسَاء مَثْنَى? وَثُلَـ?ثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَو?حِدَةً [النساء:3]، ورسول الله يوجِّه خطاباً لشبابِ الأمة المسلمة بقوله: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوَّج؛ فإنّه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنّه له وجاء)) [2] ، ويخبر أن الزواجَ من سنتِه، فيقول لأولئك الذين قال قائلهم: أنا لا أتزوَّج النساء، قال : ((ولكني أتزوَّج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) [3].
والزواجُ من هدي المرسلين عليهم السلام، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً [الرعد:38]، ويذكرُ ربنا تعالى من دعاء نبيه زكريا أنه قال: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى? رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ ?لْو?رِثِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى? وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـ?شِعِينَ [الأنبياء:89، 90].
فالنكاح ـ أخي المسلم ـ فيه الفوائد الكثيرة، فهو طاعة لله وطاعة لرسوله، وهو من هدي المرسلين، وبه يحصلُ الولد، وبه غضُّ البصر وكذا تحصينُ الفرج، وبه طمأنينةُ النفس وسكون القلب، وبه القيامُ بما أوجب الله من الطاعات، فهو عونٌ على كلّ خير في الدنيا والآخرة، قال تعالى: هُوَ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189]، فهي سكنٌ للرجل، وعون له على كلّ خير. هذه سنة الله، هذه شريعة الله وسنة محمد.
أيها الشاب المسلم، قد يفكِّر الشابُّ أحياناً في الزواج، ولكن يأتي نصبَ عينيه عقباتٌ كثيرة، يفكِّر فيها ويتأمل: كيف يتخطَّى تلك العقباتِ؟ كيف يجاوز تلك الصِّعاب؟ كيف يتغلّب على هذه المشاكل؟ ينظر: المهرُ أين يجدُه؟ ينظر ما بعد الزواج وكيف يُؤمِّن معيشته وزوجته؟ ينظر وينظر، وتأتيه الخواطر من كلّ جانب، فيبقى حائراً، مَن له والتغلُّب على تلك العقبات؟ من يؤيِّدُه ويشدّ أزره؟ من يقف بجانبه؟ من يعينه؟ ومن ومن؟ ثم إذا فكّر ربّما يغلب اليأس والقنوط عليه، فيعدّ نفسَه في جملة العزّاب إلى قيام الساعة، ويكون التفكير قاصراً، والرأي غيرَ صواب؛ لأنه نصَب نصْب عينيه أموراً كثيرة؛ هو يراها كالجبال لا يستطيع تعدِّيها، يراها أموراً صعبة شاقّة ومتعِبة، ولكن لو عاد إلى رشده ونظر وتأمَّل لوجد أن الله جل وعلا قد تكفّل له بالعون، تكفّل له بالتأييد، تكفّل له بتيسير كلّ الأمور، تكفّل له بأن تكون الأمور ميسّرة، فَإِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5، 6].
إذاً فهذا وعدٌ من ربّ العالمين، حقٌ ألزمه الله نفسَه، وهو أصدق القائلين، وهو جل وعلا لا يُخلف الميعاد، ((ثلاثة حقٌّ على الله عونُهم))، وإذا كان الله وعدك بالعون ووعدك بالتأييد، فما عليك إلا أن تبذلَ السبب الذي تتوصّل به ليتحقق لك هذا الوعد الصادق.
أخي المسلم، إن ربَّنا جل وعلا بيَّن في كتابه أنَّ الفقرَ ليس أمراً دائماً، والدنيا تأتي وتروح، المال يغدو ويروح، وليس الفقر ملازماً للإنسان مدةَ حياته، فالله جل وعلا يغني ويفقر، ويعزّ ويذلّ، وبيده ملكوت السموات والأرض، اسمع ربَّك يقول: وَأَنْكِحُواْ ?لأيَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32]، فلا تقل: أنا الفقير المدقع، وأنا المعدم، وأين وأين؟ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ ، بمعنى أن هذا النكاح هو سبب للخير، وسببٌ للرزق، وسبب لحلول البركة، بأيّ سبب شاء الله أن يتحقّق لك ذلك، إذاً فلا يأسَ ولا قنوط، ولكن أسبابٌ تُبذل مع الاستعانة بربّنا جل وعلا على كلّ ما أهمَّ الإنسانَ وأعجزه، ولكن لا بد من عفَّةٍ عن محارم الله، لا بد من صون النفس عن المعاصي حتى يكون السببُ مؤثراً بتوفيق الله، ولذا قال الله: وَلْيَسْتَعْفِفِ ?لَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى? يُغْنِيَهُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:33]، ليعُفُّوا من محارم الله، ويصونوا نفوسهم عن ذلك، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، ويقول ابن مسعود رضي الله عنه في هذه الآيات: (إن الله جعل النكاح سبباً للغنى) [4] ، ويقول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: (عجبتُ ممن يزهد في الزواج والله يقول: إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ ) [5].
إذاً فالوعد حقّ لمن أخذ بأسبابه النافعة، تعلّقَ قلبه بالله، بذلَ جهدَه وطاقته مستعيناً بالله معتمداً عليه متوكّلاً عليه، عالماً وموقناً أن الله يفعل ما يريد، وأنه الفعال لما يريد، لا يعجزه شيء، لّتَعْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ وَأَنَّ ?للَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَا [الطلاق:12]، يزرق من يشاء بغير حساب، فالنفقة في هذا الباب نفقة مخلوفة إذا قُصِد بها الخير، والتُزم فيها الأدب الشرعي.
أيها المسلم، لا شكَّ أن العقباتِ كثيرة، ولا شكّ أن المعوِّقات متعدّدة، لكن المسلم إذا استقبلها بقوَّة إيمانٍ ويقين، وتحقَّق بوعد الله، وصدَّق الله في وعده، وأخذ بالأسباب النافعة، فالله ييسِّر أمورَه ويعينه. والمجتمع المسلم مطلوب منه تذليلُ الصعاب، مطلوب منه العون والتأييد للعاجزين، مطلوبٌ من المجتمع المسلم أن تكون لهم يدٌ بيضاء في إعانة أولئك وتسهيل مهمَّاتهم. إنها مشكلة يعاني الكلّ منها، فالشابّ يعاني من عدم الزواج، وأبو الأولاد يعاني ذلك، ومن عنده بناتٌ عانسات يعانين ويعاني الأب من ذلك، فلو عاد الناسُ إلى رشدهم، وفكّروا في واقعهم، وتعاون الجميع على البر والتقوى، وذلَّلوا الصعاب، لكان انتشار النكاح كثيراً جداً، وعمَّ الخير والبركة، وتقلَّصت الجريمة بتوفيق من الله.
أيها المسلمون، إذاً على المجتمع المسلم واجبٌ، أن يكون أمرُ المهور وتكاليف الزواج يُسْعى في تقليلها، يُسعى في عدم التوسُّع فيها، يُسعى في أن لا يحمَّل الشابُّ ما لا يطيق وما لا قدرةَ له عليه، يُسعى بأن لا تكون مجالات الزواج مجالاتِ الفخر وإظهار القدرات، وكلٌّ يحبّ أن يكون سابقاً لغيره بما يُحدثه من حفلات توسّع فيها، وولائم توسّع فيها، وأمور كثيرة، حتى يستمرئ الناس هذا التوسّع الشديد.
المجتمع مطلوب منه التعاون فيما بين أفراده على البر والتقوى، وأن يُحرَص كل الحرص على تذليل الصعاب أمام شبابنا، لكي يخطوا الخطواتِ النافعة، فيجدوا في مجتمعهم تعاوناً والتحاماً، وأن يمدَّ بعضهم بعضاً، فهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، وكالبنيان يشدّ بعضه بعضاً، هذا واجب المسلمين، لكن إذا كنّا نغضُّ الطرفَ عن حفلات زواجنا وولائم زواجنا، وأصبحت الأمور تخرج عن السيطرة، وكلٌّ يظهر قدرته وقوتَه، وكلٌّ لا يبالي بمصالح إخوانه، إن يكن ذا مال أسرف في ولائمه وحفلاته، ولا ينظر أن هناك شباباً بحاجة إلى شيء من هذا. فلو أن المسلمين تعاونوا فيما بينهم، وتساعدوا فيما بينهم، وحرصوا وتواصوا بالبر فيما بينهم والتعاون على الخير، لأدَّى ذلك إلى كثرة الزواج في الشباب وقلة العنوسة في النساء.
هذه أمورٌ ينبغي أن نتعاون فيها، فيما يصلح شأنَ الجميع، فإنَّ فشوَّ الزواج وكثرته سببٌ ـ بتوفيق الله ـ لصيانة المجتمع، وحفظه من الانزلاق في الرذيلة، ولهذا قال الله: وَلْيَسْتَعْفِفِ ?لَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى? يُغْنِيَهُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:33]، وعدٌ لهم أن من عفَّ عن محارم الله وصان نفسه عن قاذورات المعاصي، فإن الله سيؤيِّده، وإن الله سيغنيه، وإن الله سيسدِّد حاله، فهذا وعدُ الله، وربُّك لا يخلف الميعاد.
فعلى الجميع الثقة بالله، والتصديق بوعد الله، والأخذ بالأسباب النافعة، وعلى المجتمع المسلم أن يظهرَ منهم شيء من التعاون في هذا المجال، فعسى الله أن يمنَّ بتوفيق من الله لشيوع الزواج في شبابنا، وقلة الجرائم، وحرص الجميع على الخير، وفَّق الله الجميع لما يرضيه، وأعاننا وإياكم على كل خير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/251، 437)، والترمذي في فضائل الجهاد (1655)، والنسائي في الجهاد (3120)، وابن ماجه في الأحكام (2518)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (979)، وابن حبان (4030)، والحاكم (2678)، وحسنه الألباني في غاية المرام (210).
[2] أخرجه البخاري في النكاح (5065)، ومسلم في النكاح (1400) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في النكاح (5063)، ومسلم في النكاح (1401) من حديث أنس رضي الله عنه.
[4] أخرجه ابن جرير في تفسيره (18/126) بلفظ: (التمسوا الغنى في النكاح يقول الله: إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ ).
[5] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (10393)، وعبد بن حميد ـ كما في الدر المنثور (6/188) ـ عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر قال، وذكره بمعناه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن الله جل وعلا جعل من جملة الأصناف المستحقين للزكاة الغارمين، فقال: وَ?لْغَـ?رِمِينَ [التوبة:60]، والغارم عند العلماء على قسمين:
أولاً: غارمٌ تحمَّل لمصلحة غيره، كالذي يتحمَّل الديونَ للإصلاح بين المتنازعين، وكفِّ الشرور، فهذا يُعطى ولو كان غنياً؛ لأن ما بذله مصلحة عامة.
وثانياً: غارمٌ لمصلحة نفسه، تحمَّل ديناً لمصلحة نفسه وذاته، فهذا يعطى من الزكاة ما يكون سبباً لقضاء دينه.
قال العلماء: إنَّ الشاب الذي يريد الزواج وهو فقير قليلُ ذات اليد يُعطى من الزكاة ما يعينه على زواجه، لكن يُعطى ما يعينه على الزواج بغير سرف ولا تبذير. فيعطى من الزكاة، ولا شك أن إعطاءَه من الزكاة أولى من إعطاء كثير ممن يتسوّلون والله يعلم أنهم أغنياء، أو يدعون الإعسارَ ويحملون صكوكاً قد يكون كثيرٌ منها مزوَّراً أو مزيدًا فيه بلا سبب، لكن شابٌ مسلم علمتَ ظروفه، علمتَ حاله، علمتَ قدرتَه المالية، علمت ضعفه وعجزَه، فإنك إن أعطيته من الزكاة أعنته على غضِّ بصره وتحصين فرجه، وسعيتَ في إيجاد صلاح للمجتمع.
إذاً فإعطاء الشباب ما يعينهم على زواجهم ويهوِّن أمورَهم ويذلل الصعاب أمامهم، إعطاؤهم من الزكاة خير كثير وعمل صالح، يرجو العبدُ به ثوابَ الله، وهو يعلم حقاً أن هذا المال، وُضع موضعَه، وأصاب مكانه، فإعطاء الشباب ما يعينهم على الزواج عمل صالح، من الزكاة أو صلة الرحم إذا كانوا أقرباء والله مغنيك، فصلتهم بإعطائهم ما يعينهم أمرٌ مشروع وعمل صالح، وهو خير من كثير من أموال قد تذهب لغير مستحقيها، لمن يأخذها وليس ذا حاجة، لكن شابٌّ مسلم علمت ظروفه وأدركتَ حاله وتصورته التصورَ الصحيح، فإنك إن أعطيتَه من زكاة مالك أرجو الله أن تكون زكاةً مقبولة، وإن وصلته بإحسان ومعروف فأرجو الله أن يعوِّضك عما أنفقت خيراً، وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ?لرَّازِقِينَ [سبأ:39]، وَأَقْرِضُواُ ?للَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ?للَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً [المزمل:20].
إنك تعطيه ليتزوَّج، وليبنيَ بيتاً سعيداً بتوفيق الله، ولينشأَ ذريةٌ صالحة بتوفيق الله، فأنت ساع في الخير حاضراً ومستقبلاً، فلتطِب النفوس بهذا للشباب المسلم، ولنشدَّ أزرهم، ولنقف في صفهم، فإننا بذلك نكون من المحسنين، والله يقول: وَأَحْسِنُواْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [البقرة:195].
أمَّا أن نتركهم لكي يقتنصهم من يريد إقراضَهم إقراضاً ثقيلاً يشقّ عليهم قضاؤه، يأخذون السيارات وأمثالها، فيحمِّل نفسه ديوناً لا طاقة له بوفائها، ولا قدرةَ له بتحمّلها، ولا شك أن الله وعده بالعون، لكن يجب أن يكون أيضاً منَّا عون، حتى لا نتركه يتحمَّل هذه الديون الطائلة، بل نسعى في التخفيف من التبعات قدرَ المستطاع، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق لما يحبه ويرضاه، وأن نكون جميعاً أعوانًا على البر والتقوى، وأن لا نكون أعواناً على الإثم والعدوان.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
(1/2712)
السبيل إلى النصر والتمكين
الإيمان, التوحيد
الألوهية, الولاء والبراء
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
20/4/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية تحقيق الولاء والبراء في كافة مناحي الحياة. 2- الالتجاء إلى الله والتوكل عليه هو السبيل الأمثل للخروج من المحن. 3- استمرار الحروب الصليبية حتى زماننا المعاصر. 4- الأحكام الشرعية غير قابلة للتغيير مهما كانت الظروف. 5- نعي العالم الشيخ/ عبد القادر عبد المحسن عابدين. 6- جهود المسؤولين في إتمام الامتحانات الدراسية رغم الحصار والتضييق. 7- كفالة الأيتام في الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ?لطَّـ?غُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَـ?لاً بَعِيداً [النساء:60]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، هذه الآية الكريمة من سورة النساء، وهي مدنية، وتشير هذه الآية إلى أنّ أحد المنافقين في المدينة المنوّرة قد رفض الاحتكام إلى الرسول ، وأراد أن يحتكم إلى أحد الطواغيت الظلمة، فهو في زمرة الشياطين الضالين.
وهناك ـ يا مسلمون ـ آية أخرى في السورة نفسها، أي: في سورة النساء تؤكّد هذا المعنى، فيقول الله عز وجل: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65]، وسبب نزول هذه الآية الكريمة أنّ أحد المنافقين قد رفض الانصياع لقرار التحكيم الذي أصدره رسولنا الأكرم ، وادّعى هذا المنافق بأن هذا القرار مُتَحَيّز وغير عادل [1].
أيّها المسلمون، يجهل البعض في هذه الأيام, أو يتجاهلون الأحكام الشرعية المتعلقة بالولاء والتبعية، في حين إنّ عشرات النصوص الشرعية من الآيات الكريمة, والأحاديث النبوية الشريفة؛ صريحة في أنّه لا ولاء إلا لله ورسوله، ولا تبعية لشياطين الإنس من العلمانيين واللادينيين، ولا للقوانين الوضعية المستوردة من دول الكفر، الذين يكذبون قول رب العباد ويطبقون قول العباد، ويهجرون القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ويريدوننا أن نتنفس بقرارات مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، ونسي المسلمون أو تناسوا في هذه الأيام أن ملة الكفر واحدة، وأن دول الكفر كما هو واضح ومعلن لن تغير مواقفها العدائية تجاه المسلمين، تجاه قضاياهم المصيرية، ولو أن المسلمين احتكموا إلى دينهم العظيم؛ لما أشغلوا أنفسهم, وما أضاعوا وقتهم, وهم يلهثون وراء دول الكفر والاستعمار، فأين الإيمان؟ أين اليقين؟ أين التوكل على رب العالمين؟
أيها المسلمون، يتوجب على المسلمين في هذه الأيام أن يلتزموا نهج نبيهم محمد ، في جميع مناحي الحياة من خلال سننه العملية؛ لأنه لم يكن تابعاً ولا عميلاً لأي دولة أخرى، بل كان يعد العدة, ويعبئ الصحابة روحياً وإيمانياً ونفسياً ومعنوياً ومادياً، ثم يلجأ إلى الله رب العالمين يطلب منه النصر والتوفيق، فهذا ما حصل على سبيل المثال لا الحصر قبل بدء معركة بدر الكبرى، حين توجه عليه الصلاة والسلام إلى الله بتضرع وخشوع قائلا: ((اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني)) [2].
أيها المسلمون، ومازال عليه الصلاة والسلام يهتف بهذا الدعاء ويردده مادًّا يديه, مستقبلاً القبلة, حتى حقق الله وعده.
ولم يتوجه عليه الصلاة والسلام إلى الفرس والروم، ولم يطلب منهم التدخل, كما نسمع كثيراً في هذه الأيام، فلم يكن عليه الصلاة والسلام تابعاً ولا ذليلاً لأي دولة من الدول الكبرى وقتئذ، وإنما كان اعتماده على الله وحده، هو مولاه ومولى المسلمين جميعاً، ولا أحد غيره، يقول عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ مَوْلَى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَأَنَّ ?لْكَـ?فِرِينَ لاَ مَوْلَى? لَهُم [محمد:11].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، واعلموا أن الخطأ كل الخطأ أن نأمل المساعدة من غير المسلمين، والإثم كل الإثم أن نطلب النصرة والحماية من الكافرين، الذين يتظاهرون بحرصهم وبعطفهم على المسلمين، ولكنّ الحقيقة المؤلمة أنهم يُكِنّون العداوة والبغضاء، وما تخفي صدورهم أعظم.
وإن الأحداث والوقائع من أيام الحروب الصليبية حتى يومنا هذا تؤكد ذلك، ويخطئ من يظن أن الحروب الصليبية قد انتهت وقتئذ؛ لأن الغرب منذ أن طُرِد من ديار الإسلام قبل ثمان مائة عام، وهو يخطط ليعود إلى بلادنا من جديد، بأسلوب أو بآخر، ولم يتضح هذا المخطط الاستعماري لكثير من المسلمين إلا بعد الحرب العالمية الأولى، فحين دخل اللورد اللنبي البريطاني مدينة القدس في مطلع القرن الماضي قال: "الآن انتهت الحروب الصليبية"، ومثل ذلك حين دخل الجنرال غورو الفرنسي مدينة دمشق توجه إلى قرب البطل الإسلامي صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه بالقرب من المسجد الأموي، وركل الجنرال غورو المجرم، ركل القبر برجله, وقال بحقد وكراهية: "قم يا صلاح الدين، الآن انتهت الحروب الصليبية".
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، والملاحظ أن كلا القائدين، البريطاني والفرنسي قد استعملا لفظ الآن، على اعتبار أنهما حققا الهدف المنشود، وهو احتلال ديار الإسلام من جديد.
وفي الحقيقة أن الحروب الصليبية لم تنتهِ في الحرب العالمية الأولى، بل هي مستمرة، وإن الأحداث هذه الأيام تؤكد ذلك، إذ إن السياسيين الغربيين الذين يلعبون في مصير الشعوب المستضعفة حالياً، هم صليبيون, ولا يجوز شرعاً أن نثق بهم أو نطمأن إليهم.
أيها المسلمون، يطرح في هذه الأيام مشروع قانون العقوبات الفلسطيني لمناقشته, ولإدخال التعديلات عليه، وقد عقدت خلال هذا الأسبوع عدة اجتماعات من قبل مجلس الفتوى الأعلى، ومن قبل رابطة علماء فلسطين، ومن قبل جمعيات قانونية، وذلك لدراسة مشروع قانون العقوبات، وبيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالعقوبات في الإسلام، مع أنه لا يجوز الاحتكام إلى القوانين الوضعية, والتي تخالف مخالفة صريحة الأحكام الشرعية، وإن أي مشروع يجب أن يعرض على كتاب الله وسنة رسوله، وإنه لا ولاء إلا لله ورسوله، ولا تبعية لأي قانون وضعي.
أيها المسلمون، مهما نزلت من المحن والفتن، ومهما تعرض المسلمون في العالم للضغوطات فإن الحكم الشرعي لا يتغير ولا يتبدل، إن الذي بحاجة إلى التغيير هو نفوس المسلمين، نعم نفوس المسلمين، تلك النفوس التي تمردت على الله رب العالمين، واستمرأت الذل والهوان، فإن أقبلت هذه النفوس على الله واحتكمت إلى كتاب الله وسنة رسوله، فإن الله عز وجل يبدل حال العالم الإسلامي بحال أحسن وأفضل.
وهذه هي المرحلة الأولى في الإصلاح، يقول عز وجل في سورة الأنفال: ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:52]. ويقول الله عز وجل في سورة الرعد: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِم [الرعد:11].
تداركنا يا رب العالمين برحمتك وعدلك، وهيئ لنا طريق النجاة والخلاص؛ لنرجع إلى دينك وقرآنك وسنة نبيك.
جاء في الحديث الشريف: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)) [3] صدق رسول الله.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة فيا فوز المستغفرين.
[1] أخرج الطبري في جامع البيان (5/152-154), جملة من القصص في سبب نزول الآيات من حديث ابن عباس والشعبي وقتادة وغيرهم.
[2] ذكره ابن إسحاق في السيرة (ابن هشام3/168).
[3] أخرجه ابن أبي عاصم في السنة(1/12) من حديث عبد الله بن عمرو, وصححه النووي في الأربعين, ووثق رجاله ابن حجر في الفتح(13/289), وأعله ابن رجب في جامع العلوم والحكم (386), وضعفه الألباني في تعليقه السنة لابن أبي عاصم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، له الحمد في الدنيا والآخرة، له الحكم وإليه ترجعون، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاة وسلام دائمين إلى يوم الدين، اللهم صلِّ على سيدنا محمد, وعلى آل سيدنا محمد, كما صليت على سيدنا إبراهيم, وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، مِنْ على منبر المسجد الأقصى المبارك ينعي أهل العلم الشرعي في بيت المقدس بخاصة, وفي فلسطين بعامة؛ عالماً عاملاً من علماء فلسطين، إنه المرحوم ـ بإذن الله ـ سماحة الشيخ عبد القادر عبد المحسن عابدين، الذي ترك بوفاته فراغاً في هذه المدينة المقدسة المباركة، فإن فقد العلماء هو نزعٌ للعلم بين الناس، فرحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وعوّضَ طلاب العلم الشرعي وذويه خير العِوَض، لله ما أخذ، وله ما أعطى، فكل شيء عنده بمقدار، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، لا تزال امتحانات الثانوية العامة قائمة، تبذل وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية جهوداً كبيرة مباركة لإنجاح هذه الامتحانات، رغم الإعاقات والحصارات المفروضة على شعبنا، فجزى الله خيراً رجالات التربية والتعليم, والمعلمين والمراقبين والمصححين، الذين قاموا ويقومون في إنجاح العملية التربوية، ونتمنى لطلابنا وطالباتنا النجاح والتوفيق والسداد.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، أتناول وبإيجاز موضوع كفالة اليتيم في الإسلام، فأقول وبالله التوفيق: لا يخفى عليكم أن ديننا الإسلامي العظيم يحث على كفالة ورعاية الأيتام، فالله عز وجل يقول: فَأَمَّا ?لْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ [الضحى:9]، ويقول رسولنا الأكرم : ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا)) ، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى [1].
ويقول في حديث نبوي آخر: ((من مسح على رأس يتيم لم يمسحه إلا لله، كان كان له في كل شعرة مرت عليها يده حسنات، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين)) وفرّق بين إصبعيه: السبابة والوسطى [2].
وفي حديث شريف ثالث: ((إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول الله تعالى: من أسكته وأرضاه عليّ أن أرضيه يوم القيامة)) [3].
وفي الأثر أخبرنا رسول الله صلىالله عليه وسلم بأن امرأة تزاحمه على باب الجنة، فسأل عنها، فقيل له: إنها أرملة قامت على أولادها الأيتام.
فالمرأة التي تترمّل وتتفرغ لأبنائها الأيتام، لا تتزوج من رجل آخر، فإن الله عز وجل يهيئ لها مرتبة عليا يوم القيامة، فإنها تزاحم حبيبنا ورسولنا على باب الجنة.
وفي مجتمعنا الفلسطيني هناك العشرات، بل المئات من النساء اللواتي يزاحمن رسولنا على باب الجنة، إنهن الخنساوات، وليست خنساء واحدة.
والسؤال يا مسلمون: لماذا نعرض إلى موضوع كفالة اليتيم، وكفالة اليتيم معروفة لديكم يا مسلمون؟
والجواب: إن الحكومة الأمريكية تدعو إلى عدم كفالة الأيتام إذا كان آباؤهم شهداء أو استشهاديين؛ كعقوبة لهؤلاء الأيتام؛ ولردع الآخرين، كما تدّعي أمريكا.
والإجابة من على منبر المسجد الأقصى المبارك بأن الله عز وجل يقول: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِّزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164].
ثم ما ذنب الطفل البريء حتى يحرم من الرعاية والكفالة؟ ثم لم يطلب منا ديننا العظيم أن نفتح ملفاً للآباء حتى نقول: هذا يستحق، وهذا لا يستحق، ثم هل يحق لنا شرعاً أن نحرم المسلمين من التوافق بتبرعهم وكفالتهم للأيتام.
ثم إن ديننا الإسلامي العظيم هو دين الرحمة والتكافل والتضامن، وهو دين الحضارة والعزة والكرامة؛ لأنه دين سماوي؛ ولأنه خاتم الأديان، وهو دين للإنسانية جَمْعاء، وعليه فإن المطلب الأمريكي هو مطلب فارغ مرفوض, ويتعارض مع قِيَمِنا الدينية والإنسانية، وإن قَِيمَنا السامية بعيدة عن الانتقام، بعيدة عن الأحقاد، بعيدة عن الغطرسة، وعلى أبناء هذا الدين العظيم أن يتمسكوا به, وأن يعتزّوا به وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، صدق الله العظيم.
[1] أخرجه البخاري في الطلاق (4892), ومسلم في الزهد (5296), من حديث سهل بن سعد.
[2] أخرجه أحمد (5/250), والطبراني في الكبير(8/202), والأوسط (3/285), من حديث أبي أمامة, وضعفه الهيثمي في المجمع(8/160).
[3] ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن(20/101).
(1/2713)
المسلم أخو المسلم
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الآداب والحقوق العامة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
20/4/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة سلامة الصدر. 2- فوائد سلامة الصدر. 3- نهي النبي عن الحسد. 4- نهي النبي عن التباغض. 5- نهي النبي عن النجش. 6- نهي النبي عن البيع على بيع بعض. 7- نهي النبي عن التدابر. 8- حقيقة الأخوة. 9- نهي النبي عن الظلم. 10- نهي النبي عن خذلان المسلم. 11- نهي النبي عن الكذب على المسلم. 12- نهي النبي عن احتقار المسلم. 13- حرمة دم المسلم وماله وعرضه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، من نِعم الله على العبدِ أن يجعلَ قلبَه طاهرًا من الغلِّ والحِقد، سليمًا مِن هذا المرضِ الخطير، فمن رزقَه الله طهارةَ القلب وسلامتَه من الغلّ والحقد فليعلم أنّها نعمة عظيمةٌ من الله عليه، فليشكرِ اللهَ عليها.
وقد أثنى الله على عبادِه المؤمنين في دعائهم حيث قال الله عنهم أنّهم قالوا: رَبَّنَا ?غْفِرْ لَنَا وَلإِخْو?نِنَا ?لَّذِينَ سَبَقُونَا بِ?لإيمَـ?نِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10]. فأثنى الله عليهم بدعائهم لمَن سبقهم بالإيمان وسؤالِهم اللهَ أن لا يجعلَ في قلوبهم غلاّ على أهلِ الإيمان.
وقال الله جلّ وعلا في معرض دعاء إبراهيم لمّا قال: يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]. فالقلب السليمُ هو الذي سلِم من الشّبهات التي تعارِض شرعَ الله، ومِن الشهواتِ التي تخالف ما نَهى الله عنه، فيكونُ طاهرًا من الشّرك، طاهرًا من الغلِّ والحِقد، طاهرًا من أمراض الشّهوات التي تؤدِّي به إلى الرذائل.
أيّها المسلم، في طهارةِ القلبِ مِن الغلّ والحِقد طمأنينةٌ للقلب وسكينة في النّفس وانشراح صدرٍ وراحة بال، ونبيّنا قد حذَّرنا مِن أشياء تسبِّب بُعد بعضِنا عن بعض وبغضَ بعضِنا لبعض، فروى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله قال: ((لا تحاسَدوا، ولا تباغَضوا، ولا تناجَشوا، ولا تدابَروا، ولا يبِع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عبادَ الله إخوانا. المسلمُ أخو المسلِم؛ لا يظلِمه، ولا يخذِله، ولا يكذِبه، ولا يحقِره. التّقوى ها هنا)) ويشير إلى صدره ثلاث مرات، ((بِحَسب امرئٍ من الشرّ أن يحقرَ أخاه المسلم. كلُّ المسلم على المسلم حرام؛ دمُه وماله وعِرضه)) [1].
أيّها المسلم، سمعتَ كلامَ محمّد ، وهو ينهاك عن هذِه الأمور، ويوجِّهكُ التوجيهَ السليم الذي يحصل به تآلفُ القلوب ووحدة الصّفّ واجتماع الكلمة.
فأوّلا ينهى عن الحَسَد بقوله: ((لا تحاسَدوا)). وحقيقةُ الحَسَد المذموم تمنِّي الإنسان زوالَ نعمةِ الله عَن غيره، فهو يتمنَّى ويسعَى ويبذل جهدَه أن يسلبَ الله عن عبده نعمةً تفضّل بها عليه. لماذا؟ لأنَّ قلبَه ملِيءٌ بالغلّ والحقد على المسلم، فهو يسعى بالقول والفِعل أن ينتزِع تلك النعمةَ من يدِ العبد، إمّا أن تعودَ إليه، وإمّا أن يتمنّى زوالَها ولو لم يحصل عليها، المهمّ أن لا تبقى النّعمة بيدِ أخيه، يحسده على علمِه، يحسده على مالِه، يحسده على منصبِه، يحسده على كفافِه وعفّته، يحسده على طمأنينة نفسِه وانبساطِ حاله، النّاس لا يسلمون من شرِّ ذلك الحاسد.
هذا الحسدُ ظهَر أثره في لسانِه، فلسانُه دائمًا بالغيبة والبهتان وإلصاقِ التّهم بالمسلم، والسّعي في ذلك. كلّما اتَّسع به المجلِس سعَى في ثلب أخيه ونشرِ عيوبه إن كان له عيب، وإفشاءِ أسراره، والحطِّ من قيمتِه لدى الناس، حتى يكرهوه ويسيؤوا به الظّنّ. وقد يَرتكِب الكذب والبهتَان في ذلك، فلا مُبالاة إذِ الدين قد ضعف، فهو لا يمنعه دينٌ ولا يردعه حياء.
وهذا خلقٌ ذميم، هو أصلُ ذنب إبليس الذي حسَد أبانا آدَم على تفضيلِ الله له، فقال معترِضًا على أمر الله بالسجود لآدم: أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [ص:76].
وهو خُلُق أعداء الله، فقد ذكر الله في كتابِه، أنَّ مِن أخلاق اليهود حسدَ المسلمين على نعمة الله عليهم بهذا الدين، وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ?لْحَقُّ [البقرة:109]، وقال: أَمْ يَحْسُدُونَ ?لنَّاسَ عَلَى? مَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النساء:54].
إذًا فماذا واجب المسلم؟ واجبه أن يرضى بقَسم الله، وأن يعلمَ أنّ الله حكيم عليم في عطائه ومنعه، فلا يعترض على الله، ولا يحقِد على أخيه، يسأل الله من فضله، ففضلُ الله واسع، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [القصص:68].
ثمّ نهانا نبيّنا عن التباغُض بقوله: ((ولا تباغَضوا)). أجل، أنتم مؤمنون، إخوة في إيمانكم، بعضُكم وليّ لبعض، وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]. إذًا فليس للبَغضاء مَجال، وإنّما المحبّة في ذات الله والموالاة لأهل الإيمان، أمّا البغض الذي منشؤه الأهواء فإنّ ذلك ممنوعٌ منه المسلم، إنّما البغض في الله من أحبّ في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله، فإنّما تُنال ولاية الله بذلك، ولن يجِد أحد طعمَ الإيمان ولو كثُرت صلاته وصومُه حتى يكونَ كذلك، أمّا البغض الذي يمليه الهوى والحسد والحقد فالمؤمن مأمورٌ بالبعد عنه، وفي الحديث: ((دبّ إليكم داءُ الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، حالقة الدين ولا أقول تحلق الشعر)) [2].
ثمّ إنّه نهانا عن خُلُق آخر، هو سببٌ أيضًا لبُعد بعضنا عن بعض فقال: ((ولا تناجشوا)). نهانا عن النّجَش، والعلماء يقولون: إن النّاجش هو الذي يزيد في السّلع المعروضة للبيع لا يريد شراءَها، ولكن يرفع السّعر لينفعَ به البائع أو يضرَّ به المشتريَ فقط، فالنّاجش خائنٌ آكل للربا، النّاجش يضرّ أخاه المسلم، سلعةٌ يُسام عليها مثلا بألف، ويأتي ويسومها بألفين، يظنّ السامعُ حقيقةَ ما قال، والواقع أنّه كاذب لينفعَ البائعَ أو ليضرَّ بالمشتري، وقد يكون شريكًا في السلعة، يزيد فيها ليظنّ السامعون حقيقةَ الأمر، والواقع أن المصلحةَ تعود عليه ذاتِه، وعلى شركائه، فيكون في ذلك تغريرًا بالمسلم، ويسبِّب ذلك البغضاءَ والعداوة بين المسلمين.
ثمّ ينهانا عن خُلُق آخر فيقول: ((ولا يبِع بعضكم على بيعِ بعض)). فنهانا أن يبيعَ بعضنا على بيع بعض، بمعنى أنّ أخاك المسلمَ لو اشترى سلعةً يساوم على سلعةٍ ليشتريَها فإيّاك أن تبيعَ على بيعة، بمعنى أن تغريَ المشتريَ فتقول: أعطيك سلعةً مثل هذه بأقلَّ من ذلك الثمن، أو تقول للبائع: اجعل البيعَ لي وأنا أزيدُ في الثمن، وهو قد توجّه للبيع على أخيك المسلم، فهذا يعتَبَر منك إلحاقَ ضرر بأخيك، ويحدِث بينكما عداوة.
ثمّ نهانا بقوله: ((ولا تدَابَروا)). نهانا أن يهجرَ بعضنا بعضا، وفي الحديث: ((لا يحلّ لمسلم أن يلقَى أخاه المسلم فيُعرض هذا ويُعرض هذا، وخيرهم الذي يبدأ بالسلام)) [3].
ثمّ أخبرنا نبيّنا بأمرٍ جامع بقوله: ((وكونوا عبادَ الله إخوانا)) ، ومن لازم هذه الأخوّة أن لا حسدَ ولا بغضاء ولا نجَش ولا بَيع بعضِنا على بيع بعض ولا تدَابر، لأنّ الأخوّة تقتضي المحبّة والمولاةَ والنّصرة والتّأييد.
ثمّ بيّن حقيقةَ الأمر بقوله: ((المسلمُ أخو المسلم)) ، أخوّة الإيمان هي الأخوّة الصادقة، الأخوّة الثابتة، إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]. نتائجُ هذه الأخوة أنّ المسلم كونه أخًا للمسلم لا يظلمه، فلا ظلمَ بين المسلمين بعضِهم لبعض ولا ظلمَ منهم أيضًا حتّى لغير المسلم، فإنّ الظلم محرَّم في شريعة الله، والله قد تنزَّه عن الظّلم وترفّع عنه، ((يا عبادي، إنّي حرمة الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا)) [4]. فلا تظلمه في مالِه، ولا تظلِمه في عِرضه، ولا تظلمه في دمه، وابتعِد عن ظلمه بأيّ وسيلة كانت.
((لا يظلمه ولا يخذله)) ، لا تخذل أخاك المسلم، بل كن مؤيّدًا له وناصرًا له، رادعًا له عن الظّلم إن أراده، مانِعًا من وقوع الظّلم عليه، كما في الحديث: ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) ، قالوا: يا رسول الله، ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟! قال: ((تردعُه عن الظلم، فذاك نصرك إياه)) [5].
خذلانُك المسلمَ بأن تمتنعَ عن نصره، تراه يهان ويذلّ وينتهَك عرضه ويلصَق به التّهم وأنت ساكت لا تحمي عرضَه ولا تدافع عنه، وفي الحديث: ((مَن خذل أخاه في موطنٍ وهو يقدر على نصرته خذله الله على رؤوس الأشهاد يوم القيامة)) [6] ، وفيه أيضًا: ((مَن خذل أخاه في موطنٍ ينتَقَص عرضه وتنتَهَك محارمه ـ أي: حرمتُه ـ إلاّ خذله الله في موضع يحبُّ نصرتَه فيه، وما مِن مسلم ينصر أخاه في موطنٍ تنتهك حرمتُه وينتَقَص من عِرضه إلا نصره الله في موطنٍ يحبّ نصرتَه فيه)) [7].
فيا أخي عندما يضمّ مثلَك مجلس، ويتحدّث البعضُ عن أيّ مسلم كان، ويقولون فيه ما هو بريء منه، وينسبون له من التّهم ما الله عليم براءَته منه، وأنتَ على ثقةٍ بذلك، فاحمِ عرضَ أخيك المسلم، وأمُر أولئك الهمّازين اللّمازين، مُرهم بالسكوت، وقُل: دَعوا أعراضَ الناس، ودَعوا لحومَ الناس، وأشغِلوا أنفسكم بعيوبكم، فهو أولى من أن تكونَ المجالس في الطّعن في فلان ونقد فلان، هذه الرذائل إنما تقَع من قومٍ لا خيرَ فيهم، إيمانٌ ناقص، يريدون أن يكمِّلوا أنفسَهم بعيب غيرهم وانتقاص غيرهم والسّخرية بغيرهم، أي: يهمِزون ويلمزون ويطعَنون ويتّهمون ويقذِفون من غير مبالاة، فتكون المجالس مجالسَ سوءٍ وبهتان والعياذ بالله.
ثمّ ينهانا نبيّنا بقوله: ((ولا يكذِبه)). المسلمُ لا يكذِب أخاه، يخبِره بالصدق، ولا يخبرُه بكذب وباطل، فإنَّ الصدقَ خلُق المسلم، وهو يظنّ بأخبارك الصدق، فإيّاك أن تحدّثه حديث كذِب، هو يرى أنّك صادق وأنت كاذب لتنقلَ الكذب أو يُساء بك الظنّ، فاتَّق الله في حمايةِ عِرض المسلم.
ثمّ ينهانا عن خلُق آخر بقوله: ((ولا يحقره)). المسلمُ لا يحقِر أخاه، لا يحقره بمعنى أنّه يعزّه ويعلي شأنَه، وإن فضُلت عليه علمًا أو فضلت عليه مالا أو فضلت عليه جاهًا أو فضلتَ عليه منصبًا، فهو أخوك في الإسلام، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَى? أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء عَسَى? أَن يَكُنَّ خَيْرًا مّنْهُنَّ [الحجرات:11].
فإيّاك واحتقارَ أخيك المسلم، إياك أن تحتقره، والاحتقارُ إنّما ينشأ من كبرٍ في القلب وتعلٍّ على الناس، فيَرى غيرَه منزلتُه دنيئة، ويرَى غيره ليس أهلا له ولا كفؤًا له، ويرى نفسَه فوق الجميع، والكبرُ بطر الحقّ وغَمط النّاس. قال أبو ذرّ لرجل: يا ابن السوداء، قال له النّبيّ: ((إنّك امرؤ فيك جاهلية)) [8].
كلُّ هذه الأمور نَنهى عنها محافظةً على رأب الصّدع ووحدة الصفّ واجتماع الكلمة وتآلف القلوب، والمسلم يسعَى في الإصلاح وجمعِ الكلمة ونصيحةِ المسلم وتوجيهِه دونَ أن يكونَ همّازًا لمّازا، وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [القلم:10-12].
أسأل اللهَ لي ولكم التوفيقَ والهداية والعونَ على كلّ خير، وأن يصلحَ قلوبَنا وأعمالَنا، ويجمَعَ قلوبَنا على الخير والهدى، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في البر (2564).
[2] أخرجه أحمد (1/164، 167)، والترمذي في صفة القيامة (2510)، والطيالسي (193)، وعبد بن حميد (97)، والبزار (2232)، وأبو يعلى (669)، والشاشي (54، 55)، والبيهقي في الكبرى (10/232) من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه، وفي سنده اختلاف، قال المنذري في الترغيب (3/347) والهيثمي في المجمع (8/30): "إسناده جيد"، وحسنه الألباني لغيره في صحيح الترغيب (2695، 2888).
[3] أخرجه البخاري في الأدب (6077)، ومسلم في البر (2560) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه بنحوه.
[4] أخرجه مسلم في البر (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الإكراه (6952) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه.
[6] أخرجه أحمد (3/287)، والطبراني في الكبير (6/73) من حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه ولفظه: ((من أذِلّ عنده مؤمن فلم ينصره وهو قادر على أن ينصرَه أذلّه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة)) ، قال الهيثمي في المجمع (7/267): "فيه ابن لهيعة، وهو حسن الحديث، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات"، وهو مخرج في السلسلة الضعيفة (2402).
[7] أخرجه أحمد (4/30)، وأبو داود في الأدب (4884)، والطبراني في الكبير (5/105)، والبيهقي في الكبرى (8/167) من حديث جابر وأبي طلحة الأنصاريين رضي الله عنهما، وأورده الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (1353، 1700).
[8] أخرجه البخاري في الأدب (6050)، ومسلم في الأيمان (1661) من حديث أبي ذر رضي الله عنه بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، النبي قال في الحديث: ((التقوى ها هنا)) ، قال الراوي: وأشار إلى صدره ثلاثَ مرات، ((بحسبِ امرِئ من الشرّ أن يحقرَ أخاه المسلم. كلّ المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه)).
حقيقةُ التقوى ما استقرّ في القلب، فإذا استقرَّ في القلب ترك أثرا على الجوارح في السّلوك والتّصرفات، وفي الحديث: ((إنّ الله لا ينظر إلى صوَركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) [1] ، ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32].
ثمّ يقول : ((بِحسبِ امرِئ من الشرّ أن يحقرَ أخاه المسلم)) ، كافيك إثمًا حقرانك للمسلمين، وسخريّتك بالمسلمين، واعتقاد أنّ لك منزلةً فوق منازلهم، وأنّ لك مكانا فوق مكانتهم. التفاضل عند الله إنّما هو بتقواه والعملِ الصالح، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13]، وفي الحديث: ((ومَن بطّأ به عمله لم يُسرِع به نسبُه)) [2].
ثمّ قال كلمةً جامعة: ((كلّ المسلم على المسلم حرام؛ دمه ومالُه وعرضه)) ، فحرّم دماءَ المسلمين، وحرّم أموال المسلمين، وحرّم أعراضَ المسلمين، فقال: ((كلّ المسلم على المسلم حرام)) ، حرامٌ عليك سفكُ دمِه بغير حقّ، حرام عليك محاولة قتلِه بغير حقّ، حرام عليك سعيُك في الأرض بالفساد، حرامٌ عليك التعاون على الإثم والعدوان، حرامٌ عليك أن تتستَّر على مجرم أو مفسدٍ يريد الإفسادَ في الأرض، حرام عليك أن تعينَ ظالمًا على ظلمه ومعتديًا على عدوانه، وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة:2]. حرمة دماء المسلمين حرمةٌ عظيمة، لزوال الدّنيا بأسرها أهونُ على الله من سفكِ دمٍ بغير حقّ، وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].
أموالُ المسلمين محرّمٌ عليك أن تعتديَ عليها سرقة اغتصابًا غِشًّا تعدّيًا، ((ومن اقتطع شبرًا من الأرض طوِّقه يوم القيامة من سبع أرضين)). أعراضُهم حرام عليك انتهاكُها، وواجب احترامُها.
هذا هو دين الإسلام، فصلوات الله وسلامه عليه، ما أعظمَ نصحه وتوجيهَه لأمّته، فقد نهى عن أسبابِ الشرّ، عن أسباب البغضاء والعداوة، وأرشدَ الأمّة إلى ما يجمَع قلوبَها ويوحِّد صفَّها ألا وهو تمسّكها بدينها وثباتها عليه، هُوَ ?لَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِ?لْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ?لأرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:62، 63]، وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103].
فنسأل الله الثباتَ على الحقّ والاستقامةَ عليه، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيّدنا محمّد سيّد الأوّلين والآخرين، وارض اللهمَّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في البر (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] جزء من حديث أخرجه مسلم في الذكر (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/2714)
من مخالفات الأفراح
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإجازة موسم الحفلات والأفراح. 2- ذكر بعض مخالفات الأفراح ومنها: الإسراف - الغناء – النمص – الاختلاط
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
إن مما يكثر في الإجازات أي في مثل هذه الأيام حفلات الزفاف حيث إن الكثير من الناس يفضل أن يكون عرسه في أيام الإجازة، وهذه ظاهرة جيدة نسأل الله عز وجل أن يحصن كل شاب وشابة وأن يعفهم وأن يجمع بين كل عروسين وزوجين على خير وأن يبارك لهما زواجهما.
ولا شك أن المسلم يجب عليه أن يقصد بزواجه هذا إعفاف نفسه عن الحرام والإكثار من الذرية الصالحة المؤمنة التي تعبد الله عز وجل وتقيم دين الله تعالى على الأرض. ومن قصد ذلك ونواه كان له أجر حتى في إتيانه أهله. وينبغي على الآباء والأمهات أن يساعدوا الشباب على إعفاف أنفسهم بالحلال وذلك بأن ييسروا ويخففوا عليهم في مطالب الزواج وتكاليفه. فإنه قد أصبحت اليوم تكاليف الزواج من أكبر العوائق أمام الشباب التي تصدهم عنه أو تؤخرهم لسنوات طويلة.
وعموماً إخوتي الكرام وفقني الله وإياكم لكل خير، فليس حديثي عن ذلك الموضوع، وإنما بمناسبة كثرة حفلات الزفاف في هذه الأيام أحببت أن أنبه على بعض المخالفات الشرعية التي تحدث في كثير من هذه الحفلات إما جهلاً من بعض الناس بأنها لا تجوز أو اتباعاً من البعض الآخر لما رأوه في الحفلات الأخرى بغض النظر عن حكم هذه الأفعال إن كانت جائزة أو غير جائزة. ونسأل الله عز وجل أن يوفق الجميع لمعرفة الحق والعمل به.
ثم اعلموا رحمكم الله أن من منكرات الأفراح ما يلي:
الإسراف والتبذير الذي يحصل في كثير منها حيث تنفق الآلاف المؤلفة على تلك الحفلات، وكان بالإمكان أن يكون الحفل متواضعاً، نعم لقد أمرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم بالوليمة للعرس فقال عليه الصلاة والسلام: ((أولم ولو بشاة)) [رواه البخاري ومسلم]. ولكن هل يعني ذلك أن نصل إلى ما وصل إليه الحال اليوم، بذخ وإسراف، وضياع للأموال، كلا، فإن الله عز وجل نهى عن الإسراف فقال: يَـ?بَنِى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَ?شْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]. وقال: وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ ?لْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْو?نَ ?لشَّيَـ?طِينِ وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء:26-27].
وإنه والله من المصائب التي بلينا بها في هذه الأفراح تقليد الآخرين ومحاولة الظهور على شاكلتهم وأننا قادرين مثلهم ولسنا أقل منهم في شيء، وتلك في الغالب مقولات النساء ورغباتهن، من أمهات الأزواج وأمهات الزوجات، والكثير من الرجال يسمع ويطيع ولا يستطيع أن يرفض طلباً. وأصبحت الكلمة للنساء. فلنعلم عباد الله ولنعلم نساءنا أن هذه النعمة التي نعيش فيها ولله الحمد إن لم نقم بشكرها والحفاظ عليها فإنها توشك أن تزول، وإن من شكر النعمة عدم الإسراف فيها.
ثم لنتذكر جميعاً إخوة لنا في الإسلام في بقاع كثيرة من العالم الإسلامي لا يجدون كسرة الخبز ولا شربة الماء إلا بالجهد الجهيد، قد تلقفتهم أيدي المنصرين تمد يد العون لهم بالطعام والشراب والدواء، واليد الأخرى بالصليب والإنجيل، فأين أموالنا هذه عنهم. أم أنه يهون علينا أن ننفقها في سبيل المظاهر الكاذبة ومجاراة الآخرين بينما لا يهون أن ننفقها في سبيل الله. فكم والله أنفقت الآلاف في إيجارات الفنادق ليلتين أو ثلاث أو قد تكون ليلة واحدة عند البعض ثم تنفق الآلاف أيضاً في أنواع من الأطعمة لا تعد ولا تحصى يكون مصير الجزء الأكبر منها في صندوق النفايات. وإذا ما طلب من بعض هؤلاء التبرع في باب من أبواب الخير تعذر لك بألف عذر، حتى يعفي نفسه من الإنفاق في سبيل الله، وإذا أنفق أنفق بعد تردد، وأخرج بضعة ريالات بعد صراع مرير مع النفس، ولكن إذا جاءت الشهوات وحب المباهاة فإذا بالآلاف تنفق بغير حساب.
فلنتق الله عباد الله ولنصن هذه النعمة بشكرها قال تعالى: لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]. وهذا البذخ والإسراف من كفران النعمة هدانا الله وإياكم للصواب.
ولقد ثبت عن النبي عن منصور بن صفية عن أمه صفية بنت شيبة قالت: (أولم النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه بمدين من شعير) [رواه البخاري]. وأفضل وليمة صنعها الرسول كما روى البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: (ما أولم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من نسائه ما أولم على زينب، أولم بشاة).
ومن منكرات الأفراح أيضاً إحياء تلك الليلة كما يسمونها بالغناء المحرم، وهي والله إماتة لتلك الليلة وليس إحياء، فكيف يمكن لتلك الليلة أن تحيا بمعصية الله أو كيف يمكن أن تحيا بالحرام!
إنه والله البلاء والشقاء أن تبدأ أول ليلة في حياة الزوجين بمعصية الله عز وجل ومخالفة أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فماذا نتوقع بعد ذلك لزواج كانت أول لياليه محادة لله ولرسوله ومعصية من المعاصي.
وهذه المعصية كذلك مما تصر عليها مع الأسف كثير من النساء، وترفض أن يكون زواج ابنتها أو ابنها بغير غناء محرم!! لماذا؟ لأن كثيراً من الناس يفعلون ذلك، وابنتها أو ابنها ليس أقل من غيره!
هذا هو المبدأ الذي يحكم حفلات الزفاف عند كثير من الناس، بل هذا المبدأ يكاد أن يكون أسلوب حياة عند البعض، فتراه في كل شيء يقول: لست أقل من غيري ويفعل مثلما فعلوا، ولو كان مخالفاً لأمر الله وأمر رسوله. وإذا نصحت الزوج وأهله قالوا: تلك رغبة الزوجة وأهلها، وإذا نصحت الزوجة وأهلها، قالوا: تلك رغبة الزوج وأهله.
فيا أيها الآباء والأمهات ويا أيها الأزواج والزوجات كيف رضيتم أن تكون أول ليلة في حياتكم الزوجية مخالفة لأمر الله؟ وكيف دفعتم أموالكم لمطرب أو مطربة تكسبون بذلك الإثم وتخسرون المال؟! نسأل الله الهداية للجميع.
_________
الخطبة الثانية
_________
ومن مخالفات الأفراح ذهاب النساء إلى مصففات الشعر أو ما يسمى اليوم ب"الكوافيرات" وارتكاب عدة مخالفات هناك حيث تكشف العورة ويزال شعر الوجه عند كثير من النساء، وذلك هو النمص الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم ولعن من فعله أو فعل به..قال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله النامصة والمتنمصة)) ومع ذلك لا يمكن أن تزف عروس إلى زوجها إلا بعد الذهاب إلى الكوافيرات إلا من رحم الله، فالحذر الحذر عباد الله من ذلك. وقد أفتى الشيخ محمد ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ بتحريم الذهاب إلى الكوافيرات.
ومن المنكرات الجسيمة التي تحدث في كثير من هذه الحفلات اليوم دخول العريس على النساء والجلوس أمامهن فيما يسمى بالمنصة، فيشاهد النساء ويشاهدنه وكل في أبهى زينته فأي فتنة بعد ذلك؟؟ وأين الغيرة؟ أين غيرة أزواج النساء اللاتي يحضرن مثل هذه الحفلات؟ أما يغار هذا الرجل على نساء المسلمين؟ وكيف يجيز لنفسه النظر إلى نساء أجنبيات عنه لا يجوز له النظر إليهن في الأحوال العادية فكيف وهن قد تزين لحضور هذا الحفل؟ وأتساءل كيف يسمح رجل لزوجته بالذهاب إلى حفل زفاف يعلم أنه سوف يحصل فيه ما لا يرضاه الله.
أيها المسلمون، إنها عادة غير إسلامية مخالفة لديننا وعاداتنا وتقاليدنا، فمن أين جاءتنا؟ وكيف حدث هذا ؟ أسئلة كثيرة مريرة تطرح نفسها، ولعل إجابتها أمر منها. فالله المستعان وعليه التكلان.
وكذلك من مخالفات الأفراح ما يحدث من بعض المدعوات من لبس ملابس غير ساترة لكثير من أجزاء الجسد، وذلك بحجة أنها وسط نساء أو قد تلبس ملابس فيها تشبه بالرجال بالإضافة إلى قصات الشعر المشابهة بالكافرات.
وكذلك من المخالفات رقص بعض النساء على هيئة تشبه الفاسقات، وهذا غير جائز بل قد أفتى فيه علماؤنا بالتحريم.
وكذلك من المنكرات العظيمة التي تحدث في بعض هذه الأفراح التصوير إما الصور الفوتوغرافية أو بالفيديو، فيصور الحفل وتصور الحاضرات ويحتفظ أهل الحفل بالفيلم أو بالصور، وفيه صور النساء اللاتي حضرن الزفاف، وهن في أبهى زينة وكم حصلت من مصائب بسبب هذا التصوير، فشاهد رجل زوجته في فيلم يتناقله الشباب بينهم يتفرجون عليه. فأي مصيبة بعد ذلك؟!
ومن منكرات الأفراح كذلك تقليد عباد النار بحمل الشموع خلف العروس ولبس اللباس الأبيض ذو الذيل الطويل تماماً كما يفعله الكفار وذلك تشبه بهم والتشبه قال فيه رسولنا : ((من تشبه بقوم فهو منهم)) [رواه أبو داود]. وعند الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالأكف)).
معاشر المؤمنين، هذه بعض المخالفات والمنكرات التي تحدث في مناسبة شرعية قد أمرنا الشارع بها وهي وليمة العرس التي قال فيها : ((أولم ولو بشاة)) رواه البخاري ومسلم. فبدل البعض أمر الله وأمر رسوله وعصوا ربهم، وكان حالهم كحال من قال الله فيهم فَبَدَّلَ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ?لَّذِي قِيلَ لَهُمْ [البقرة:59]. أفلا يخشى هؤلاء عقوبة مثل عقوبة أولئك. نسأل الله الهداية للجميع.
اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت وبارك لنا فيما رزقت وأعطيت، وقنا شر ما قضيت.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلها أولها وآخرها، ما علمنا منها وما لم نعلم. اللهم ارحم موتانا، واهد ضالنا، ورد غائبنا، واشف مرضانا، واقض عنا ديننا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. اللهم آمنا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين.
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(1/2715)
أحداث مكة: الأسباب والعلاج
أديان وفرق ومذاهب, الأسرة والمجتمع
فرق منتسبة, قضايا المجتمع
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
27/4/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية مطلب الأمن. 2- فوائد الأمن وثمراته. 3- مفاسد اختلال الأمن. 4- جريمة الإخلال بالأمن. 5- الموقف الصريح الصحيح من أحداث مكة. 6- ضلال الخوارج وجرائمهم. 7- أسباب انحراف هؤلاء المفسدين. 8- خطورة الغلوّ. 9- صفات الغلاة. 10- طريق الإصلاح وسبيل العلاج. 11- التحذير من توسيع دائرة الاتّهام. 11- واجب وسائل الإعلام والخطباء وأئمة المساجد والمعلّمين والآباء والأمّهات. 13- ضرورة الاعتصام بحبل الله والحذر من التفرّق. 14- ضرورة الإحساس بالمسؤولية والتحذير من التساهل والتهاون.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجل، فاتّقو الله ـ رحمكم الله ـ ما استطعتم، فمن ابتغى غنًى مِن غير مال وغزًّا بغير جاه ومهابةً من غير سلطان فليتّقِ الله، فربُّكم سبحانه مغزُّ من أطاعه واتّقاه، ومذلُّ من خالف أمرَه وعصاه، سبحانه وبحمده، لا يذلُّ من والاه، ولا يعزُّ من عاداه، لا إلهَ غيره، ولا ربّ سواه.
أيّها المسلمون، الأمنُ مطلبٌ عزيزٌ وكنزٌ ثمينٌ، هو قِوام الحياة الإنسانيّة كلّها، وأساس الحضارة المدنيّة أجمعها، تتطلّع إليه المجتمعات، وتتسابق لتحقيقِه السّلطات، وتتنافس في تأمينه الحكومات، تُسخَّر له الإمكانات الماديّة والوسائلُ العلميّة والدراسات الاجتماعيّة والنفسيّة، وتُحشَد له الأجهزة الأمنيّة والعسكرية، وتُستنفَر له الطاقات البشريّة.
مطلبُ الأمن يسبق طلبَ الغذاء، بغيرِ الأمن لا يُستساغ طعام، ولا يهنَأ عيش، ولا يلذُّ نوم، ولا يُنعَم براحة، قيل لحكيم: أينَ تجِد السّرور؟ قال: في الأمن، فإنّي وجدتُ الخائفَ لا عيشَ له.
في ظلِّ الأمن تحفَظ النفوس، وتُصان الأعراض والأموال، وتأمن السبل، وتُقام الحدود، ويسود العمران، وتنمو الثّروات، وتتوافر الخيرات، ويكثر الحرثُ والنّسل. في ظلّ الأمن تقوم الدعوة إلى الله، وتُعمَر المساجد، وتُقام الجُمَع والجماعات، ويسود الشّرع، ويفشو المعروف، ويقلُّ المنكَر، ويحصل الاستقرار النفسيّ والاطمئنان الاجتماعيّ.
وإذا اضطرب الأمن ـ عياذًا بالله ـ ظهرت الفتَن، وتزلزلت الأمّة، وتخلخَلت أركانُها، وكثُر الخبث، والتبَس الحقّ بالباطل، واستعصى الإصلاح على أهلِ الحقّ. إذا اختلَّ الأمن ـ عياذًا بالله ـ حكم اللّصوص وقطّاع الطريق، وسادت شريعةُ الغاب، وعمّت الفوضى، وهلك النّاس. وتأمّلوا بلدانًا من حولِكم اختلَّ فيها الأمن، فهلك فيها الحرث والنّسل، وسُلِبت الأموال، وانتُهكت الأعراض، وفسد المعاش، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله.
ومِن أجل هذا فإنّ كلَّ عملٍ تخريبيّ يستهدف الآمنين ومعصومي الدّماء والنّفوس فهو عملٌ إجراميّ محرّم، مخالفٌ لأحكام شرع الله، فكيف إذا كان القتل والتخريبُ والإفساد والتدمير في بلدٍ مسلم، بلدٍ يُعلي كلمةَ الله، وترتفع فيه راية الدِّين والدعوة وعلمُ الشرع وحكمُ الشّرع؟! ثمّ كيف إذا كان ذلك في مهبط الوحي ومبعَث الرسالة المحمّدية، في الحرَم الحرام، في أقدس المقدّسات؟! ثمّ كيف إذا بلغ الضّلال بأصحابه، فجعلوا القرآنَ الكريم وسيلة للتّدمير ووضعوا بين دفّتيه أدوات التّفجير، كما جعلوا ماءَ زمزم الطاهر أداةً للتضليل والتّمويه؟! إنّ ذلك كلّه يزيد الحرمَة حرمةً والإلحاد إلحادًا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فكم من نفس مسلمة بريئة أزهِقت، وكم من أموالٍ وممتلكات محتَرمة أتلِفت، وكم من نفوس آمنة رُوِّعت. مفاسدُ عظيمة، وشرور كثيرة، وإفساد في الأرض، وترويع للمؤمنين والآمنين، ونقضٌ للعهود، وتجاوزٌ على إمام المسلمين. جرائمُ نكراء، في طيّها منكرات. أين يذهَب هؤلاء من قول الله عزّ وجلّ: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93]؟! وأين يذهبون من قوله : ((لزوال الدّنيا أهون عند الله من قتلِ رجل مسلم)) أخرجه النسائي والترمذي [1] ، ومن قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يزال المسلم في فسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا)) ؟! [2].
أعمالٌ سيّئة شرّيرة، تثير الفتنَ، وتولِّد التحزّب الذي يدمّر الطاقات، ويشتِّت الجهود، ويهدر المكتسَبات، ويؤخِّر مسيرةَ الإصلاح، ويخذل الدعوةَ والدعاة، ويفتح أبوابَ الشرّ أمام ألوانٍ من الصّراعات، بل ربّما هيّأ فرَصًا للتّدخّلات الخارجيّة والمحاولات الأجنبيّة، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
إنّ الموقفَ الصّريح الذي لا لبسَ فيه، ولا يُختَلف عليه هو إنكارُ هذا العملِ واستنكاره ورفضُه وتجريمه وتحريمه، ولْيحذر مَن أراد الخيرَ لنفسه من عمَى البصيرة وتزيين الشيطان، فيرى الحقّ باطلاً، والباطل حقًّا عياذًا بالله.
إنّ من المعلوم أنَّ الخوارجَ كانوا أهلَ عبادة، وفيهم مظاهرُ الصّلاح وإظهارٌ لبعض الشعائِر كما جاء من أوصافِهم في الحديث: ((تحقِرون صلاتكم عند صلاتهم، يقرؤون القرآن، لا يجاوِز حناجرَهم)) [3]. هؤلاء الخوارجُ ظهروا في خير القرون وأفضلها، في عهدِ صحابة نبيّنا محمّد فوصل بهم الحال، إلى أن حاربوا الصّحابة والمسلمين، بل قتلوا الخليفتَين الرّاشدَين عثمان عليًّا رضي الله عنهما.
ألا يكفي زيفًا وضلالاً أن يُجهِّل الخوارج صحابةَ رسول الله ويكفِّروهم ويحاربوهم؟! لقد كان عند الخوارج شيءٌ من حماس ونوع مِن إخلاص، ولكن لم يكن عندَهم عِلمٌ صحيح ولا فِقه عميق، حاربوا الصحابةَ، وقتلوا الخلفاء، زاعمين أنَّ هذا هو طريق الإصلاح. حارب الخوارج مِن أجل القضاء على حُكم بني أميّة زاعمين أنّ هذا هو الطريق إلى الخلافة الراشدة، والذي حصل أن جاء حُكم بني العباس على أنقاضِ بني أميّة وجُثَث الخوارج على حدٍّ سواء، ومَن تجاهل التاريخ تجاهله الواقع، فافقهوا سننَ الله، واستقيموا على الحقّ، وخُذوا بالعلم الصّحيح مِن أهله.
سبحانَ الله، إنّ إخلاصَ الأمِّ الجاهِلة لا يفيدها في تربية ابنها على نحو سليم، وإنّ لوعة الأب وخوفَه على ابنِه لا يغنيه عن علاج الطبيب، وبعضُ محبِّي الإسلام اليومَ لا ينقصهم إخلاصٌ ولا حماس، ولكن ينقصُهم العلم الصحيح والفقه الدقيقُ وحسنُ التديُّن، الإخلاص والحماسُ يولَد في زمنٍ قريب، أمّا العلم والفقه فيحتاج إلى وقتٍ طويل وتعليم وتدريب وسلامَةِ حواسّ وكفاءَة معلِّم.
أيّها المسلمون، إنّ من أعظم أسباب انحراف هؤلاء الجهلَ والعزلة عن المجتمع وعدمَ أخذِ العلم من أهله وغفلةَ الأسرة، وإنّ في بعضهم إعجابًا بالنّفس كبيرًا، وهذه كلّها من الصوارِف عن الحقّ والفقهِ وأخذ العلم من أهله وأبوابه.
معاشرَ المسلمين، وثمّةَ سببٌ في الانحراف كبير، ذالكم هو الوقوعُ في دائرة الغلو. إنّ الغلوّ في دين الله هو ـ والله ـ سببُ الهلاك، فلقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إيّاكم والغلوّ، فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ)) [4].
الغلوّ مشاقّة حقيقيّة لهدي الإسلام، وإعراضٌ عن منهجه في الوسط والاعتدال والرحمَة واليسر والرِّفق. الغلوّ ظلمٌ للنّفس وظلمٌ للنّاس، بل فيه صدّ عن سبيل الله لِما يورثه من تشويه وفتنةٍ وتنفير. الغلاةُ يتعصّبون لجماعتِهم، ويجعلونَها مصدرَ الحقّ، ويغلُون في قادتِهم ورؤسائِهم، ويتبرّؤون مِن مجتمعات المسلمين، ويكفّرون بالمعاصي، ويكفّرون أهلَ الإسلام وحكّامَ المسلمين، ويقولون بالخروج على أئمّة المسلمين، ويعتزلون مجتمعاتِ المسلمين، ويتبرّؤون منهم، لا يصلّون خلفَ أئمّة المسلمين في مساجدِ المسلمين. لقد وصفهم نبيّنا محمّد بوصفَين ظاهرين خطيرَين في قوله عليه الصلاة والسلام: ((يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرَهم، يقتُلون أهلَ الإسلام ويدَعون أهلَ الأوثان)) أخرجه البخاري ومسلم [5].
الوصف الأول: يقرؤون القرآن ولا يفقهونَه ولا يدركون مقاصدَه، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (إنّهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين) [6].
الوصف الثاني: استحلالُ دماءِ المسلمين: ((يقتلون أهلَ الإسلام، ويدَعون أهلَ الأوثان)) ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنّهم يكفّرون بالذّنب والسيّئات، ويترتّب على تكفيرهم بالذّنوب استحلالُ دماء المسلمين وأموالِهم، وأنّ دارَ الإسلام دارُ كفر، ودارهم دار الإسلام" [7] ، ولقد قال أبو قلابة: "ما ابتدَع رجلٌ بدعةً إلا استحلّ السيف" [8] ، فلا حول ولا قوة إلا بالله. يجمعون بين الجهل بدين الله وظلمِ عباد الله، وبِئس الطّامّتان الدّاهيتان. إنّ مصيرَ الغلاة هو الهلاك بنصّ حديث رسول الله : ((هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون)) [9].
أيّها المسلمون، ومِن أجل النّظر في طريق الإصلاح وسُبُل العِلاج فإنّ أوّل ما ينبغي النظر فيه فشوُّ الحوار النّزيه المحتكِم إلى مسلّمات الشّريعة ومقرّراتها، وتهيئة الفرصة لكلّ راغبٍ أن يسهمَ ويشارك بقدر ما لديه، فالحقّ للجميع، والدّولة للجميع، والمصلحة للجميع، ولا يُستبعَد من ذلك أحدٌ ولو كان في فكرِه غلوّ أو جفاء، فالفكر يعالَج بصحيح الفِكر والحجّةِ والبرهان والجدال بالتي هي أحسن، فالأجواء المغلقة هي التي تولِّد الفكرَ المنحرِف بطرفَيه الغالي والجافي، بل لقد تحتكِم إلى القوّة والعُنف في حلّ إشكاليّاتها وفرض قناعتها.
وإنّ ممّا يشار إليه في هذا الصدَد ما أقيم من حوارٍ في الآونة الأخيرة بين فعاليّاتٍ وفئات متعدِّدة في هذه البلاد المباركة ذاتِ رؤًى واتِّجاهات كان لقاؤها طيِّبًا، واجتماعُها موفَّقا، وحوارها بنَّاءً، تجلّى فيه الانفتاح والاستيعاب وحسنُ الاستماع من الأطراف المتحاوِرة كافّة، وفّق الله الخُطى، وبارَك في الجهود، وهَدى للتي هي أقوم.
أيّها المسلمون، وإنّ ممَّا يجب التنبيهُ له والتّحذير منه خطورةَ ما تثيره بعضُ الكتابات والبرامج مِن توسيع دائرةِ الاتِّهام ومحاولة الزّجِّ بجهاتٍ وأطراف، وكأنّها تصفّي حسابات شخصيّة، أو مِن أجل اختلافاتٍ في الفكر والرّؤى.
إنّ من الحِكمة والإحساس بالمسؤوليّة حصرَ الحادث في أضيقِ نطاق، وعدمَ توسيع دائرة التّهمة؛ لأنّ هذا التّوسيع يولِّد تعاطفًا معه ومع ممثِّليه.
وعلى وسائلِ الإعلام أن تعينَ أهلَ العلم وتشجِّع أصحابَ الرأي المعروفين بالمنهج الوسَط من أهلِ الثقة والرسوخ والاعتدال ليكشِفوا الغامضَ ويزلوا الشّبَه، وينبغي الابتعادُ عن الاستفزاز في الكتاباتِ والانحرافِ في التأويلات والتعسُّف في التّفسيرات والجُنوح في التّحليلات، ممّا يقود إلى النّيل من الدّعاة وأهل العلم والصّلاح والذين يأمرون بالقِسط من النّاس، فهذا استفزازٌ يؤدِّي إلى الاضطرابِ وتمزيقِ المجتمع وتفكيك العُرى.
وعلى الخطباءِ وأئمّة المساجد أن يجعَلوا منابرَهم منابرَ هداية ورُشد وتوجيهٍ لما يجمع الكلمَة ويوحِّد الصفَّ ممّا ينفَع الناس، ويقع في دائرة اهتمامِهم ولا يخرجوا إلى موضوعاتٍ لا تفقهُها العامّة أو لا تهتمّ بها.
وعلى المعلِّمين أن يقدِّموا مع العلم التربيةَ، فالتّربية من المقاصد الكبرى في منهج التعليم، ولا سيّما في مراحلِ الدراسة الأولى.
وعلى الآباءِ والأمّهات الاهتمامُ بأبنائهم فلا يتركونَهم لأصحاب الأفكار الهدّامة والمناهج المنحرفة، ولا يتركونهم للتّجمعات المشبوهة والرّحلات المجهولة، فكلّ ذلك مراتِع أصحاب التّضليل ومصائدُ الذّئاب المفترِسة.
وبعدُ: أيّها المسلمون، فالأمر لا تحصره كلماتٌ، والموضوع لا تحدّه صفَحات، ولكنّه يحتاج إلى وقفةٍ جادّة ووقفاتٍ وبرامجَ مدروسة تتجاوز حدودَ الأفعال، فمصلحةُ الدّين والأمّة والبلاد فوق مصلحةِ الأفراد والهيئات.
لا بدّ من الاعتصامِ بحبل الله والحذَر من التفرّق حتى يكونَ الحقّ هو البغية، والوسطيّة هي المسلك، والشورى هي الوسيلة، وتخليص الأمّة من عدوِّها هو الهدَف، والحفاظ على شرعِ الله هو الغاية. فخذوا الأمر ـ رحمكم الله ـ بجدّ، واستغفروا ربّكم وتوبوا الله، وتضرّعوا بين يديه، وَمَا كَانَ ?للَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]، لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46].
وإنّنا نحتمي بعزّ الله الذي لا يُضام، وبعينِه التي لا تنام، فهو نعمَ المولى ونعمَ النصير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَماً ءامِناً يُجْبَى? إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء رّزْقاً مّن لَّدُنَّا وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص:57].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبهدي محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطئية، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه النسائي في المحاربين (3922)، والترمذي في الديات (1315) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعقبة بن عامر وابن مسعود وبريدة"، وأشار إلى أن وقفه أصح من رفعه، وكذا رجح وقفه البيهقي في الكبرى (8/22)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (439).
[2] أخرجه البخاري في الديات (6862) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري في استتابة المرتدين (6931)، ومسلم في الزكاة (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[4] أخرجه أحمد (1/215)، والنسائي في المناسك (3057)، وابن ماجه في المناسك (3029)، وابن الجارود (473)، والضياء في المختارة (10/30-31) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه ابن خزيمة (4/274)، وابن حبان (3871)، والحاكم (1/466)، ووافقه الذهبي، وقال ابن تيمية في الاقتضاء (ص106): "وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم"، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (1283).
[5] أخرجه البخاري في التوحيد (7432)، ومسلم في الزكاة (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[6] علقه البخاري بصيغة الجزم في كتاب استتابة المرتدين، باب: قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، قال الحافظ في الفتح (12/286): "وصله الطبري في مسند علي من تهذيب الآثار... وسنده صحيح".
[7] مجمع الفتاوى (19/73).
[8] رواه الدارمي في مقدمة سننه (99).
[9] أخرجه مسلم في العلم (2670) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، أنقذنا بالوَحي من درَك الضلالة، أحمده سبحانه وأشكره، أكرَمنا بنورِ العِلم المبدِّد لظلماتِ الجهالة، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أكرمَه بالنبوة وشرّفه بالرسالة، صلى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فإنّ المسؤوليةَ ـ أيّها المسلمون ـ عظمى، والجميع في سفينةٍ واحدة، ومَن خرقها أغرقَ الجميع.
إنّ التهاونَ والتساهلَ يؤدِّي إلى انفلاتٍ وفوضى لا يمكِن ضبطها أو السيطرةُ عليها. إنّ هذا الإحساس الجادَّ بالمسؤوليّة وعِظم النتائج وخطورتِها هو الذي يحمِل كلَّ عاقل على رفضِ هذه الأعمال وعدم قبول أيّ مسوّغ لها ولزوم فضح آثارها ونتائجها. ولْيحذرِ المسلم أن يصدرَ منه شيءٌ يثير الفتنة، أو يسوِّغ لهؤلاء وأمثالِهم ضلالَهم وجَهلهم وإجرامَهم، عليه أن يكونَ صالحًا مُصلحًا، يجمع الشّمل ويوحِّد الكلمة، يقوم على الحقّ ويلتفّ حولَ ولاّة الأمر.
عليه الرّجوع إلى أهلِ العِلم العارفين وأهلِ الدّراية والحكمة في السؤال عمّا أشكَل وتوضيحِ ما التبس، وليحذَر أن يجتهد اجتهادًا فرديًا أو شخصيًا يؤدّي به وبمن حولَه إلى أمورٍ لا تُحمَد عقباها.
ومع يقين المؤمِن أنّ الله حافظٌ دينَه وبيته ومُعلٍ كلمتَه وجاعلٌ كيدَ الكائدين في تضليل إلاّ أنّ المسؤوليةَ عظيمة، فلا بدّ من الوقفةِ الصّادقة من أجلِ وضع الأشياء في مواضعها، والأسماء في مسمّياتها، فالإسلام إسلام، والإجرامُ إجرام، والإصلاح غيرُ الفساد، وإيذاء المؤمنين وانتهاك المقدّسات والحرمات غيرُ التّضحية والجهاد والفِداء.
ألا فاتّقوا الله رحمكم الله، واستشعِروا الخوفَ من الله، وحاسِبوا أنفسكم، فللذّنوب شؤمُها، وللمعاصي أثرُها، وأكثروا مِن الدّعاء والاستغفار والتضرّع.
ثم صلّوا وسلّموا على نبيّ الرحمة والهدى، فقد أمركم بذلك المولى جلّ وعلا فقال سبحانه قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك نبيّنا محمّد، وعلى آله وأزواجه وذريّته، وارض اللهمَّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/2716)
دعائم للحدّ من الجرائم
الرقاق والأخلاق والآداب, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, الفتن
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
27/4/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الجزيرة العربية. 2- أحداث الرياض والمدينة ومكة. 3- تحريم الأعمال التخريبية. 4- ضرورة المحافظة على أحكام الإسلام. 5- السمع والطاعة لولي الأمر في المعروف. 6- وجوب تعميق الوحدة بين أفراد المجتمع. 7- أهمية الإخلاص والمتابعة. 8- التحذير من الغلو. 9- التحذير من التكفير. 10- وجوب الاتجاه إلى العلم الصحيح والالتفاف حول العلماء. 11- ضرورة الفهم الصحيح لمقاصد الإسلام. 12- العناية بالشباب في الإجازة الصيفية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فلا سعادةَ إلاّ في التّقوى، ولا خيرَ إلاّ في الطاعة والهُدى، ولا أمنَ ولا استقرارَ إلاّ في تحقيق توحيد الخالق جلّ وعلا.
معاشرَ المسلمين، إنّ الجزيرةَ العربيّة التي تضمّ بلادَ الحرمين هي معقل الإسلام وعاصمتُه الخالِدة وقلب العالم الإسلامي كمركزِ القلب في الجِسم الإنسانيّ، ورأس مال المسلمين والخطّ الأخير في الدّفاع عن الوجود الإسلاميّ.
بلادُ الحرمين في العالم الإسلامي بمثابة مركز القلب في الجِسم الإنسانيّ الذي إذا عاش وقوي وأدّى رسالتَه في الجهاز الجسميّ والنظام الحيويّ عاش الجسمُ وقوِي. بلادُ الحرمَين مهبط الوحي ومبعث الإسلام ومصدَر الدعوة الإسلاميّة ومركز الإسلام الدائم.
هذه البلادُ ينظر إليها العالم على أنّها مقياسٌ صحيح لحياة الإسلام وتعاليم الإسلام العالميّة وصلاحيتها للبقاء والتطبيق. فالرّسالة الإسلاميّة مهما كانت عالميّة آفاقيّة لا بدّ لها مِن مركز يُعدّ مقياسًا وميزانًا لعمليّتها وواقعيّتها، وهي ـ أي: هذه البلاد ـ أسوة وقدوة لجميع المدُن والقرى والمجتمعات التي تؤمن بهذه الرسالة وتحتضِن هذه العقيدةَ والدّعوة. فالإنسان مفطورٌ على البحث عن المقياس الصّحيح والبَلد المثالي والموئل الذي يأوي إليه والمصدر الذي يستمدّ منه القوّة والثّقة والحمايةَ والانتفاع، ومِن هنا حرَص الحبيبُ المصطفى على سلامةِ بلاد الحرمين واستقرارها وشدّة تماسكِها بهذا الدّين؛ لأنّ العاصمةَ يجب أن تكونَ بعيدةً عن كلّ تشويش وعن كلّ فوضَى وعن كلّ صِراع، ولهذا كان الخلفاءُ الراشدون ينظرون دائمًا إلى بلادِ الحرمين والجزيرةِ العربيّة ككلّ كمعلَمٍ للإسلام ورأسِ مال الدّعوة الإسلاميّة الصحيحة، ومِن هنا أُسِّست هذه الدّولة السعوديّة على تلك الأسُس وهذه المرتكزات رعايةً لأحكام الإسلام، وتأسيسًا للحياة بشتّى أنشِطتها وسائر ممارساتِها على كتابِ الله وسنّة رسوله وعلى المنهَج المعتدِل والوسطيّة الحقّة دون تفريط أو إفراط، ودون غلوّ أو جفاء.
عبادَ الله، ومِن هنا والعالم ككلّ يعيش في فتنٍ متلاطِمة ومدلهمّات جسيمة وعواقب مجهولة فلا بدّ أن يدرك أبناءُ هذه البلاد صغارًا وكبارًا، شبابًا وشيبًا، علماء ومتعلِّمين، مثقّفين ومفكِّرين، إنّ المتعيِّن حقًّا والواجبَ حتمًا أن يعيَ الجميع الخصائصَ التي خُصّت بما هذه البلاد، والميزان الذي أُسِّست عليه ليحفظوا لها حقّها ويعمَلوا لتحقيق جميعِ الأسباب التي تدرَأ كلَّ خطر وشرٍّ وضارّ يُراد لها ولأهلها، أو لمحاربةِ عقيدتها ومنهجها وثوابتِها.
معاشرَ المسلمين، لقد مرّت بنا عن قريبٍ أحداث جِسام ووقائعُ عِظام، يشيب الولدان لهَولها، ويتصدّع القلب حزنًا لفظاعتها، ويعجز القلم واللّسان عن تصوير مآسيها والإحاطة عن إدراك مضامين ضررِها وشرّها وهولِ قبحها وإجرامها، حوادثُ تفجير وقتلٍ في عاصمة التّوحيد الرياض، وحوادث إرعابٍ وإخافةِ سبيل وتهديد أمنٍ واستقرار وإشهار سلاح في مدينة سيِّد البشر وعاصمةِ الإسلام الأولى مدينةِ رسولنا التي قال فيها: ((من أحدث فيها حدثًا أو آوى فيها مُحدِثًًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) [1]. ثمّ يفاجأ العالم كلّه بمصيبةٍ عظمى ومدلهمّة كبرى بما حدث في مكّة المكرّمة من قتلٍ لرجال الأمن وإعدادٍ مسلّح للإفساد والتّخريب، كلّ ذلك يقع في حرم آمنٍ وبلد معظّم، حفِظ الله أمنَه وأعلى شأنَه وأكرم منزلتَه. حادثةٌ وحوادث تضمّنت جرائمَ عظمى، حوادث في نظر الإسلام هي كبرى، نالت ضروريات الدنيا والدّين معًا، وأضرّت بالبلاد والعباد جميعًا. حوادثُ أجمعَ المسلمون على استنكارها وقُبحها وتجريمِها، وكشفَ علماء الأمّة عن عظيم جُرمها وكبير وزرها، فهي وقائع وحوادث اجتمع لها مِن عناصر المحرّمات القطعيّة كمًّا هائلاً، وتضمّنت مِن أسباب المخالفة للوحيين شيئًا كبيرًا، يجمعها قول الله جلّ وعلا: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا [الأعراف:56]، وقوله جلّ وعلا: وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]، وينتظمُها قوله تعالى: وَ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بِغَيْرِ مَا ?كْتَسَبُواْ فَقَدِ ?حْتَمَلُواْ بُهْتَـ?ناً وَإِثْماً مُّبِيناً [الأحزاب:58].
حوادثُ لا يقرّها عقلٌ، ولا يؤيّدها منطق، ولا تقرّها شريعة، يقول : ((كلّ المسلم على المسلم حرامٌ؛ دمه وماله وعرضه)) [2] ، ويقول في خطبةِ الوداع: ((إنّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمةِ يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)) [3].
ومِن هنا ـ معاشر المسلمين ـ فثمّة مرتكزات أساسيّة لا بدّ من طرقها، وأساسيّات لا بدّ من تفصيلها، وأحكام إسلاميّة لا بدّ من وعيِها ورعايتها حقَّ رعايتها.
أولى هذه المرتكزَات: ضرورةُ المحافظة على أحكام الإسلام، والتمسُّك بالعقيدة الإسلاميّة الصحيحة، والحرص على أطر النّفس على التّوحيد الخالص والالتزام بحدود الله في جميع المجالات وشتّى الشؤون؛ ليتحقّق الأمن العامّ والخاصّ، ويسودَ الاستقرار المنشود والسعادة المبتغاة، استجابةً لقول المولى سبحانه: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
ثاني هذه المرتكزات: ضرورةُ التّركيز على أنَّ السمعَ والطاعة لوليّ أمر المسلمين في المعروف أصلٌ من أصول العقيدة الإسلاميّة، فقلّ أن يخلوَ كتاب من كتب علماء الإسلام مِن تقرير هذا الأصل وشرحِه وبيانه، يقول جل وعلا: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَأُوْلِى ?لأمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، جاء في صحيح البخاري عن النبيّ أنّه قال: ((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبَّ وكرِه، إلاّ أن يؤمَر بمعصية، فإن أُمِر بمعصية فلا سمعَ ولا طاعة)) [4]. ومِن هنا حذّر الإسلام أشدّ التحذير من الخروجِ عن الإمام ونقضِ البيعة المعقودة له، ففي البخاري ومسلم أنّ النبيّ قال: ((من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر، فإنّه مَن فارق الجماعة شبرًا فمات فميتة جاهليّة)) [5] ، يقول ابن أبي العزّ رحمه الله: "وأمّا لزوم طاعتِهم وإن جاروا فلأنّه يترتَّب على الخروج من طاعتهم من المفاسِد أضعافُ ما يحصل مِن جورهم". أخرج مسلم في صحيحه عن الحبيب المصطفى أنّه قال: ((إذا رأيتُم مِن ولاّتكم شيئًا تكرهونه فاكرَهوا عمَله، ولا تنزَعوا يدًا من طاعة)) [6] ، وفي الصحيحين من حديث عبادة: دعانا رسول الله فبايعناه، فكان فيما أخَذ علينا أن بايعنا على السّمع والطاعة في منشطِنا ومكرهنا وعُسرنا ويسرنا وأثرةٍ علينا، وأن لا ننازعَ الأمرَ أهلَه، قال: ((إلاّ أن تَروا كفرًا بواحًا، عندكم فيه من الله برهان)) [7].
قال أئمّة الدعوة في نصيحة لهم: "إذا فُهم ما تقدّم من النصوص القرآنية والأحاديث النبويّة وكلام العلماء المحقِّقين في وجوبِ السمع والطاعة لوليّ الأمر وتحريم منازعته والخروج عليه، وأنّ المصالحَ الدينيّة والدنيويّة لا انتظامَ لها إلاّ بالإمامة والجماعة، تبيّن أنّ الخروجَ عن طاعة وليّ الأمر والافتياتَ عليه بغزوٍ أو غيره معصيةٌ ومشاقَّة لله ورسوله ومخالفةٌ لما عليه أهل السنة والجماعة" انتهى.
وثالثُ هذه المرتكزات: وجوبُ تعميق الوحدة بين أفرادِ المجتمع في هذه البلاد على أساس دينيٍّ ومرتكَز عقائديّ، الجميعُ تحت ظلّ الإسلام، يعيشون بحبّ وتوادٍّ وتعاطف وتعاون، على هديٍ من الوحيين ومنهج واضحٍ لا غموضَ فيه ولا شطَط ولا انحرافَ في محيط تعميق الرّابطة الدينيّة التي أوضحَها الإسلام في قول الحبيب : ((لا يؤمِن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه)) [8] ، ((مثَل المؤمنين في توادّهم وتراحمِهم كمثل الجسَد الواحد)) الحديث [9].
يجب أن يعيَ أبناء هذه البلاد أنّ الله أنعمَ عليهم بنعمٍ لا تُحصى، ومنها بلادٌ ومجتمع يعظِّم الإسلامَ ويحكِّمه، عقيدتُه التّوحيد الخالص، ومنهجُه في النّظُم والحكم والقضاء هديُ الوحيَين على منهج السّلف، فيجب الفهم العميقُ لذلك، وأن يستشعِر المجتمع ككلّ هذه الحقيقة، فيتعاونون على جزم الجذور العصبيّة مهما ظهرت، ويجِب أن يحرصَ الجميع على سلخِ العصبيّات الجاهلية ومحاربة أسبابِ الفتن والبعدِ عن مواطن الشّغب وبواعثِ الإحَن ونوازع الفُرقة والاختلاف، وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103].
لا بدّ من محاصرةِ كلّ دخيلٍ ومعالجة كلّ عليل، وفقَ رباطٍ متين من ترسيخ علاقة متينةٍ بين أفرادِ المجتمع من جِهة، وبين الحاكم والمحكوم من جهة أخرى، في إطار قول الله جل وعلا: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة:2].
وإنّ مِن بوادر الخير بحول الله ما تمّ مؤخَّرًا من لقاءٍ لحوار وطنيّ بتأييدٍ من وليّ الأمر، دعوةٌ لتعزيز الوحدة بين أبناء هذا البلد ليحقِّقوا من خلال هذه اللقاءات الأسبابَ التي تضمَن بمشيئة الله الصالحَ العام، وتدرأ عنه عواقبَ التحدّيات والمخاطر، في إطارِ تحمّل للمسؤوليّة وتمسّك كاملٍ بالوحيَين وتفعيلٍ تامّ لثوابت الإسلام ومقرّرات العقيدة الصّحيحة التي تستمدّ منها هذه الدّولة نظامَها، ويسيِّر به المجتمع حياته ونشاطَه.
رابع هذه المرتكزات: أنّ المسلمين جميعًا يجب أن يدرِكوا أنّ الإسلامَ مبنيّ على إخلاصٍ للخالق وعلى صوابٍ في العمل من المخلوق على السنّة والهدى، لا بدّ من فهمِ حقائق الإسلام كما جاء، وممارستِه كما نزل، في فهم دقيقٍ لمقاصده وأهدافه وأغراضه وغاياته؛ لإصلاح الدارين وإسعادِ العالمين والإحسان إلى المخلوقين والرّحمة بالخلق أجمعين، قال تعالى: وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، قال المفسّرون: "فجعل الله هذه الأمّةَ وسطًا في كلّ أمور الدين، فدين الإسلام في وصف نبيّ الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام: ((إنّ هذا الدّين يُسر)) [10] ، ((يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا)) [11] رواهما البخاري، وهو في وصيّة الرحيم الشفيق عليه أفضل الصلاة والسلام دينُ رفق في جميع أمورِه وشتّى مجالاته وكافّة تعاليمه، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إنّ الرفقَ ما كان في شيءٍ إلاّ زانه، ولا نُزع من شيء إلا شانه)) [12] ، ((إنّ الله رفيق يحبّ الرفق، ويعطي على الرّفق ما لا يعطي على العنف)) رواهما مسلم [13].
ومِن هنا فلا مجال في الإسلام لغلوّ أو تطرّفٍ يحمل على هدم تعاليم الإسلام، أو يصرف العبدَ عن تعاليم سيّد الأنام، فربّنا جل وعلا يقول: لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ [النساء:171]، ورسولنا يقول: ((إيّاكم والغلوّ في الدين)) [14].
وإنّ مِن أعظم الغلوّ وأشدّ صورِه التي نهى الإسلام عنها الوقوعَ في تكفير المسلمين بمجرّد شبهة حادثةٍ أو أدلّة محتملة، وفق حكمٍ بالتكفير يستنِد على منهج مختلٍّ وفكر يعتريه الخلَل.
إنّ منهجَ الإسلام الذي سلكه سلفُ هذه الأمة من صحابة رسول الله ومَن تبعهم منهجٌ يقوم على مبادئ الاعتدال والتّوازن، لذا فالحكم على المسلم بالكفر حكمٌ خطير في مفهوم هذا المنهج الصّافي القائم على الوحيين، الحكم بالتكفير على المسلمين مزلَق خطِر له آثاره الضارّة على الإسلام والخطيرة بمجتمع الإيمان، لذا صرّح علماء الإسلام بأنّه لا يجوز الإقدامُ على تكفير المسلمين إلاّ ببرهان واضحٍ ودليل ساطع، ففي الصحيحين عن النبيّ : ((إذا قال الرّجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهم)) [15] ، وفي البخاريّ عن النّبيّ : ((ومن رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله)) [16] ، وفي حديث أبي ذرّ أنّه سمع النّبيّ يقول: ((مَن دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدوّ الله، وليس كذلك إلاّ حار عليه)) أي: رجع عليه، رواه البخاريّ [17]. قال ابن دقيق: "وهذا وعيد عظيمٌ لمن كفّر أحدًا من المسلمين وليس هو كذلك، وهي ورطة عظيمةٌ وقع فيها خلقٌ" انتهى المقصود.
إنّ التكفيرَ حكم شرعيّ مضبوطٌ بضوابطَ معلومة من النصوص، مفهومَة محدّدة عند أولى التحقيق من أهل العلم، قال شيخ الإسلام: "من ادّعى دعوى وأطلق فيها عنانَ الجهل مخالفًا لجميع أهلِ العلم، ثمّ مع مخالفتهم يريد أن يُكفِّر ويضلِّل من لم يوافِقه عليها، فهذا من أعظمِ ما يفعله كلّ جهول" انتهى [18].
ولهذا فمِن قواعدِ أهل العلم اعتبارُ الشروط وانتفاء الموانع بوضوحٍ كامل. ومِن قواعدهم أيضًا أنّ الفعلَ المحتمِل لقصد الكفر وغيره لا اعتبارَ بصدوره من فاعلِه في التكفير ما لم يُرِد به فاعلُه الخروجَ عن الإسلام إلى ملّة الكفر، قال ابن أبي العزّ رحمه الله: "إنّه لمِن أعظم البغي أن يُشهَد على معيّن أنّ الله لا يغفِر له ولا يرحمه، بل يخلّده في النّار"، ويقول: "ولا نكفِّر أحدًا من أهل القبلة بذنبٍ ما لم يستحلّه، ولا نقول: لا يضرّ مع الإيمان ذنب لمن عمله".
خامس هذه المرتكزات: أنّ الواجبَ على شبابِ المسلمين الاتجاهُ إلى العلم الصحيح والتوجّه للعلماء الربانيّين والحذر من مزالق الهوى والشيطان، لا بدّ أن يتعقّلوا بحكمةِ العلماء المحقّقين ذوي المنهج السويّ والمسلك المحمّدي، فقديمًا قيل: عليكم بآراء الشيوخ؛ فإنّهم إن فقَدوا ذكاءَ الطّبع فقد مرّت على عيونهم وجوهُ العبر، ووردت على أسماعهم آثارُ الغير.
وإنّ المتعيِّنَ على شبابِ هذه البلاد أن يحذروا من الوقوع في المصائد الضالّة، وأن يعلَموا أنّهم في بلادٍ أنعم الله عليها بنعمةِ التّوحيد وظهور السنّة المحمّدية، وأن يستيقِنوا أنَّ مِن الخطر العظيم على الإسلام والمسلمين أن يتوجّهوا إلى مَن يوقعهم في مفاسدَ عظمى وشرور كبرى، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ [النساء:71].
سادس هذه المرتكزات وآخرها: أنّ بلادَ المسلمين ومجتمعاتهم ـ ومنها بلاد الحرمين ـ لا بدّ أن يسودَ فيها الفهم الصحيحُ لمقاصد الإسلام بإقامة مجتمع مثاليٍّ تسود فيه روح المودّة والمحبّة، وتنتظم فيه أسبابُ الصلاح وعوامل السعادة، ومِن هنا حرص الإسلام على تحقيق ذلك وفقَ مبدأ النصيحة وتفعيلها في المجتمع في إطار أخلاقيّ راقٍ لم يُسبق له مثيل، النصيحة من المسلم لأخيه من بني المجتمع، النصيحة من الحاكم للمحكوم، النصيحةُ من المحكوم للحاكم، نصيحةٌ يدفعها الإخلاص لله جلّ وعلا وابتغاءُ ما عنده، نصيحةٌ تسودها أخلاقيّات الإسلام ومبادؤه العظام، في مفهوم ٍ لقاعدة: المسلم ينصح ولا يفضَح، والمنافق يفضَح ولا ينصَح.
أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَيُطِيعُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ?للَّهُ [التوبة:71].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الحج (1870)، ومسلم في الحج (1370) من حديث علي رضي الله عنه. وفي الباب عن أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما.
[2] جزء من حديث أخرجه مسلم في البر (2564) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في العلم (67)، ومسلم في القسامة (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الأحكام (7144)، ومسلم في الإمارة (1839) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[5] أخرجه البخاري في الفتن (7054)، ومسلم في الإمارة (1849) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[6] أخرجه مسلم في الإمارة (1855) من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في الفتن (7056)، ومسلم في الإمارة (1709).
[8] أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (45) من حديث أنس رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في الإيمان (39) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] أخرجه البخاري في العلم (69)، ومسلم في الجهاد (1734) من حديث أنس رضي الله عنه. وفي الباب عن أبي موسى رضي الله عنه عند مسلم في الجهاد (1732).
[12] أخرجه مسلم في البر (2594) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[13] أخرجه مسلم في البر (2593) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[14] أخرجه أحمد (1/215)، والنسائي في المناسك (3057)، وابن ماجه في المناسك (3029)، وابن الجارود (473)، والضياء في المختارة (10/30-31) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه ابن خزيمة (4/274)، وابن حبان (3871)، والحاكم (1/466)، ووافقه الذهبي، وقال ابن تيمية في الاقتضاء (ص106): "وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم"، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (1283).
[15] أخرجه البخاري في الأدب (6104)، ومسلم في الإيمان (60) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه.
[16] أخرجه البخاري في الأدب (6047، 6105) من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه.
[17] أخرجه البخاري في الأدب (6045)، ومسلم في الإيمان (61) واللفظ له.
[18] الرد على البكري (ص263).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبيّنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهمَّ صلّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، والالتزام الكامل بسنّة النبيّ عليه أفضل الصلاة والسلام.
أيّها المسلمون، اختَتَم شبابنا عامَهم الدراسيَّ بحمد الله، فنسأل الله التوفيقَ والنجاح للجميع. وأقبلت على الشباب الإجازةُ المعهودة، يجِدون فيها وقتًا كبيرًا وفراغًا كثيرًا، فلتكن ـ يا شباب الإسلام ـ أوقاتُكم مليئة بما ينفعكم في دينكم وديناكم، وبما يكون خيرًا وغنيمة لكم ولأمّتكم ولمجتمعاتكم، واحذَروا من البطالة والكسَل، ومن تضييع الأوقات فيما لا فائدة فيه أو لا خيرَ منه، فالوقت ثمين وثمين.
أيّها الآباء، اتّقوا الله في أولادكم، فهم أمانة لديكم، ومن مضامين مسؤوليّاتكم وجوبُ رعايتهم، فالزموا ـ رحمكم الله ـ مراقبتَهم في حركاتهم وسكناتِهم، في ذهابهم وإيابهم، في أصحابهم وأخلاقهم، واحذَروا من التّسارع في تحقيق المطالب التي تعود عليهم بالضّرر في آخرتهم ودنياهم، واحذَروا من ترك الحبل لهم على الغارِب ليذهبوا كيف شاؤوا، من الأماكن التي تتوافر فيها أسبابُ الشرّ والفساد وسبُل الغيّ وأسباب الضلال، فهم نعمةٌ من نِعم الله علينا، فمَن راعى هذه النعمة وقام بما أوجب الله عليه فيها فهي مِنحة وسَعادة في الدّنيا والآخرة، ومن ضيّع واجبَ الله فيها وأهملها صارَت محنةً وشقاء، والواقع أكبرُ دليل وأوضح برهان، وربّنا جلّ وعلا يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6].
ثمَّ اعلموا أنّ الله أمرنا بأمر عظيم تصلح به شؤوننا، ألا وهو الصّلاة والسّلام على النبيّ الكريم.
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك وأنعم على سيّدنا وحبيبنا محمّد ، اللهمَّ ارضَ عن الخلفاء الراشدين...
(1/2717)
في كل عصر منافقوه
الإيمان
نواقض الإيمان
محمد أحمد حسين
القدس
27/4/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة النفاق وعمل المنافقين. 2- صورة للنفاق على عهد نبينا. 3- صورة معاصرة للنفاق. 4- الحذر من الوقوع في النفاق. 5- دور المنافقين في الحرب على الأقصى في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، الناس في هذه الدنيا طوائف ثلاثة: طائفة المؤمنين، وهم الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وطائفة الكافرين وهم من أنكروا واحداً من أركان الإيمان، وطائفة المنافقين، وهم الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر.
تواجد هؤلاء المنافقون في فترات ضعف الأمة لتحقيق أهداف أعداء الأمة والوصول إلى غاياتهم من إيقاع المسلمين وتمزيق صفوفهم وتفكيك وحدتهم وإيقاع الفتن بينهم، خدمة للكفر الذي يتقربون إليه لتحقيق عرض زائل أو متاع رخيص.
وقد كشف الله تعالى خفاياهم وفضح نواياهم، وحذر من أفعالهم ورد عليهم دعواهم، حتى يتبين المسلمون مكائدهم، ويكونوا في مأمن من غدرهم وخداعهم، فقال تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِ?للَّهِ وَبِ?لْيَوْمِ ?لأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَـ?دِعُونَ ?للَّهَ وَ?لَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:8، 9]، ويقول في موضع آخر من السورة: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لارْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
وحتى لا يغتر المسلمون بمعسول كلامهم أو توثيق أيمانهم، دعا الله المؤمنين للوقوف على عواقب أفعالهم فقال الله تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ?للَّهَ عَلَى? مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ?لْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى? سَعَى? فِى ?لأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ?لْحَرْثَ وَ?لنَّسْلَ وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْفَسَادَ [البقرة:204، 205].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لقد سعت طائفة النفاق مع أعداء الإسلام منذ اليوم الأول لقيام المجتمع الإسلامي في مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، سعت هذه الفئة لتقويض هذا الدين والقضاء على دعوته ودولته التي أقامها النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، وكان ذلك من خلال محاولات المنافقين إثارة الفتن بين الأنصار والمهاجرين أو بين قبائل الأنصار من الأوس والخزرج الذين وحّدهم الإسلام واستل من قلوبهم الفرقة والضغناء.
وها هو رأس النفاق عبد الله أبن أُبي ينسحب على مرأى من كفار قريش يوم أحد بثلث جيش المسلمين من أعوانه، ليفتّ في عزيمة المسلمين ويفتّ في عضدهم ويضعف قلوبهم في مواجهة أعدائهم.
وهذا شأن المنافقين قديماً وحديثاً، كما أخبر الله عنهم بقوله: ?لَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ ?للَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَـ?فِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [النساء:141].
يا مسلمون، لقد كان المنافقون وما يزالون شر فتنة نزلت في الأمة، فقد تولت زمرة المنافقين إشاعة حديث الإفك بحق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل الوحي بذلك فقال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ جَاءوا بِ?لإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلّ ?مْرِىء مّنْهُمْ مَّا ?كْتَسَبَ مِنَ ?لإثْمِ وَ?لَّذِى تَوَلَّى? كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11].
ألم يكن على رأس كل فرقة ضلت طريق جماعة المسلمين منافقٌ مرد على النفاق لزعزة العقيدة وزرع قوانين الكفر في نفوس المؤمنين كما فعلت الرافضة والمشبهة والفاطميين والجهمية والقرامطة الذين انتزعوا الحجر الأسود من الكعبة المشرفة لطرد الناس عنها.
ويقال لهذه الفرق في زماننا هذا، المنافقون، المستغربون، الذين يبثون أفكار الكفر ويروجون لها في السياسة والحكم والصحافة والتعليم لإبعاد الأمة عن شريعتها الغراء وعقيدتها السمحاء، وهم بذلك يسعون لاستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ألم يسمِ المنافقون والكافرون احتلال العراق تحريراً، ومقاومة الاحتلال في فلسطين إرهاباً؟ والله يقول: وَفِيكُمْ سَمَّـ?عُونَ لَهُمْ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ بِ?لظَّـ?لِمِينَ [التوبة:47]، ألم يكن المنافقون الذين ادعوا إصلاح الحكم في نهاية الخلافة الإسلامية على رأس الساعين لهدم هذه الخلافة وتنحية الإسلام عن سدة الحكم، وهذه أكبر مصيبة حلت بالأمة إلى يومنا الحاضر، وعلى الأمة أن تبادر إلى إعادة الحكم الإسلامي، وهذا من أولى الواجبات على جميع الدول لإقامة الدين ورعاية شؤون المسلمين.
وكذا ينبغي تبيين النفاق والمنافقين الذين لا زالوا يبثون سمومهم في جسم الأمة، ويتسللون إلى كل شبر من حقول عزتها وكرامتها لهدمه، وإلى كل مظهر من مظاهر قوتها لإضعافه وتدميره، لتكون لقمة سائغة يسهل ابتلاعها من قبل المنافقين ومن وراءهم من الكافرين.
فاحرصوا أيها المسلمون على تنقية نفوسكم من النفاق وأهله، وقد كشف الله أوصافهم وأخرج أضغانهم، فكونوا عباد الله كما أمركم، خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتأمنون بالله.
واحترسوا من النفاق تأسياً بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ورد عن عمر الفاروق رضى الله عنه أنه سأل حذيفة رضي الله عنهما إن كان هو من المنافقين، ـ وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر حذيفة بأسماء المنافقين ـ فقال له حذيفة رضي الله عنه: (لا، ولا أزكي بعدك أحداً).
لقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم محترزين كل الحرز من النفاق والرياء حتى يكون إيمانهم خالصاً، جاء في الحديث الشريف عن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربعُ من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) [1].
اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وعيوننا من الخيانة، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
[1] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب: علامة المنافق (33)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان خصال المنافق (88) واللفظ للبخاري.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اقتدى واهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
وبعد: أيها الإخوة المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، لقد تنوعت وتعددت نشاطات المنافقين والمرائين للنيل من صبركم ونضالكم وصمودكم، فلم تكتف فئة النفاق ومرضى القلوب من وصولهم إلى مأربهم باحتلال الوطن، بل يسارعون في السعي إلى إشعال الاقتتال بين أبناء شعبكم، دون تمييز بين طفل وإمرأة وشيخ ورجل، من خلال الحرب المعلنة عليكم، وعلى مكونات صمودكم، فاستهدفوا الأرض والزرع والنسل من خلال الحصار والإغلاق والاغتيال وهدم البيوت واعتقال الأبناء، بل راحت فئة النفاق من العملاء والمرتزقة التي تنكرت لدينها ولأبناء شعبها تدل القتلة والمجرمين بتتبعها لعورات أبنائكم، لتصفيتهم واغتيالهم بدم بارد، بأقبح مظهر من مظاهر النفاق الذي يستوجب غضب الله وسخط المؤمنين.
وتمادت فئة النفاق والعملاء في تسليم الأرض والعقارات للمستوطنين من خلال أسلوب البيع الذي تقوم على التزوير والتغرير، زد على ذلك ما تقوم به هذه الفئة الضالة من نشر الرذيلة بين أبناء الشعب من خلال المخدرات والإتجار بها وترويجها، مما يهدم أخلاق المسلمين ويصرفهم عن واجبهم تجاه دينهم وشعبهم وقدسهم ومقدساتهم.
القدس، التي يقصد التهويد أحياءَها وحواريها، وبات يهدد مقدساتها من خلال الحفريات من أجل تدمير هذه المقدسات ومنع المصلين من الوصول إلى مسجدهم المبارك، واتخاذ الإجراءات التعسفية بحق الموظفين القائمين على حراسة المقدسات ورعايتها، في خطوات تهدف إلى خلق واقع جديد في هذه المقدسات، بعد فشل كل المحاولات السابقة للنيل منها، وذلك بفضل صمودكم والتفافكم حول مقدساتكم، مسرى نبيكم ومعراجه إلى السماوات العلى.
يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، مازلتم علم الأمة في هذه الأرض المباركة والمكلفون بصيانة مقدساتها، التي تمثل كرامة الأمة وهويتها في هذه الديار المقدسة، فمزيداً من الصبر والثبات والرباط ووحدة الصف والكلمة، وحذار من فتن النفاق والمنافقين، واعلموا أن العاقبة للصابرين المخلصين، والله يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].
(1/2718)
همّ الفراغ وفقه الترويح
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, قضايا المجتمع
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
4/5/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشواغل في حياة الناس. 2- من أضرار الحضارة الغربية. 3- مشكلة الفراغ. 4- مراعاة الإسلام لمطالب الفطرة البشرية. 5- الترويح في واقعنا. 6- الترويح في واقع السلف. 7- التحذير من التوسع في الترويح. 8- بيان خطر كثير من المسابقات الثقافية. 9- وسطية الإسلام وتوازنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا اللهَ معاشرَ المسلمين، واعلموا أنّ أصدقَ الحديث كلام الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذَّ عنهم فمات فميتتُه جاهليّة.
أيّها المسلمون، إنّ حياةَ النّاس بعامّة مليئة بالشّواغل والصّوارف المتضخِّمة، والتي تفتقر من حيث الممارساتُ المتنوِّعة إلى شيء من الفرز والتّرتيب لقائمة الأولويّات منها، مع عدمِ إغفال النّظر حول تقديم ما هو أنفع على ما هو نافع فحسب.
ثمّ إنّ الضغوطَ النفسيّة والاجتماعيّة الكبيرة الناتجةَ عن هذا التضخّم ربّما ولَّدت شيئًا من النّهم واللّهث غير المعتاد تجاهَ البحثِ عمّا يبرِد غلّةَ هذه الرواسب المتراكمة ويطفئ أوارَها [1].
إنّ الحضارة العالميّة اليومَ قد عُنيت بإشعال السلاح ورفع الصّناعة وعولمةِ بقاع الأرض، تلكمُ الحضارة التي حوَّلت الإنسانَ إلى شِبه آلةٍ تعمَل معظمَ النهار ـ إن هي عملت ـ ليكون ساهرًا أو سادرًا [2] أو خامدًا ليلَه، هذه هي الثمرة الحاصلة، ليس إلا.
إنّ تِلكم الحضارةَ برمّتها لم تكن كفيلةً في إيجادِ الإنسان الواعي الإنسان العاقل الإنسان المدرك الموقِن بقيمةِ وجودِه في هذهِ الحياة وحكمةِ خلقِ الله له، بل إنَّ ما فيها من آلياتٍ متطوّرة وتقنيات كان سببًا بصورةٍ ما في إيجاد شيءٍ من الفراغ في الحياةِ العامة، ممّا ولَّد المناداةَ في عالم الغرب بما يسمَّى: "علم اجتماع الفراغ"، وإن لم يكن هذا الفراغُ فراغَ وقتٍ على أقلّ تقدير فهو فراغ نفس وفراغ قلبٍ وفراغ روح وأهدافٍ جادّة ومقاصدَ خاليةٍ من الشّوائب.
يأَيُّهَا ?لإِنسَـ?نُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى? رَبّكَ كَدْحًا فَمُلَـ?قِيهِ [الانشقاق:6]، لاَ أُقْسِمُ بِهَـ?ذَا ?لْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـ?ذَا ?لْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ فِى كَبَدٍ [البلد:1-4].
إنّ الحضارةَ العالميّة حينما توفِّر للإنسانِ بالتقدُّم العمليّ والجهد الصناعيّ قوّةَ الإنسان ونشاطَه، وتوفّر له مزيدًا من الوقت، ثمّ يكون في نفسِه وقلبه وروحِه ذلكم الفراغ، فهنا تحدُث المشكِلة ويكمُن الدّاء الذي يجعَل أوقاتَ الفراغ في المجتمعاتِ تعيش اتَّساعًا خطيرًا، حتّى صارت عبئًا ثقيلاً على حركتِها وأمنِها الفكريّ والذّاتيّ، ومَنفذًا لإهدارِ كثيرٍ مِن المجهودات والطّاقات المثمِرة.
إنّ غيابَ الضّبط والتّحليل والتّرشيد للظّاهرة الحضاريّة الجديدة المنشِئةِ أوقاتَ الفراغ ليمثِّل دليلا بارزًا على وجود شرخٍ في المشروع الحضاريّ والعولمَة الحرّة، غير بعيدٍ أن تؤتَى الأمّة المسلمة من قبله.
وإنّ عدمَ وعينا التامّ بخطورة هذا المسلك تجاهَ أوقات الفراغ وعدَم وعينا التامّ بالمادّة المناسبَة لشغل تلك الأوقات في استغلال العمليّات التنمويّة والفكريّة والاقتصاديّة البنَّاءة لجديرٌ بأن يقلِبَ صورتَه إلى مِعوَل هدم يضاف إلى غيره من المعاول، من حيثُ نشعر أو لا نشعر، والتي ما فتِئ الأجنبيّ عنّا يبثُّها ليلَ نهار، لنسفِ حضارة المسلمين على كافّة الأصعدة بلا استثناء، كيف لا؟! ورسول الله يقول: ((نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحّة والفراغ)) رواه البخاري [3].
إنّ الإسلامَ دينٌ صالح للواقع والحياة، يعامِل الناسَ على أنّهم بشر، لهم أشواقهم القلبيّة وحظوظُهم النفسية، فهو لم يَفترض فيهم أن يكونَ كلُّ كلامهم ذكرًا، وكلّ شرودهم فكرًا، وكلّ تأمّلاتهم عِبرة، وكلّ فراغِهم عبادة. كلاّ، ليس الأمر كذلك، وإنّما وسَّع الإسلام التّعاملَ مع كلّ ما تتطلَّبه الفطرة البشريّة السّليمة من فرح وترح، وضحكٍ وبكاء، ولهو ومرَح، في حدود ما شرعه الله، محكومًا بآداب الإسلام وحدودِه.
عبادَ الله، إنّ قضيّةَ إشغال الفراغ باللّهو واللّعب والمرح والفرح لهيَ قضيّة لها صِبغة واقعيّة على مضمار الحياة اليوميّة، لا يمكن تجاهلُها لدى كثيرٍ من المجتمعات، بل قد يشتدُّ الأمر ويزداد عند وجودِ موجبات الفراغ كالعُطَل ونحوِها، حتّى أصبَحت عند البعضِ منهم مصنَّفةً ضمنَ البرامج المنظّمة في الحياة اليوميّة العامّة، وهي غالبًا ما تكون غوغائيّة تلقائيّة ارتجاليّة، ينقصها الهدفُ السّليم، لا تحكمُها ضوابط زمانيّة ولا مكانيّة، فضلا عن الضّوابط الشرعية وما يحسُن من اللّهو وما يقبح.
التّرويح والتّرفيه ـ عبادَ الله ـ هو إدخال السّرور على النفس، والتنفيس عنها، وتجديد نشاطِها، وزمُّها عن السّآمة والمَلل.
وواقعُ النبيّ إبَّانَ حياتِه يؤكِّد أحقِّية هذا الجانب في حياة الإنسان، يقول سماك بن حَرب: قلتُ لجابر بن سمرة: أكنتَ تجالس رسول الله ؟ قال: نعم، كان طويلَ الصّمت، وكان أصحابه يتناشَدون الشعرَ عنده، ويذكرون أشياء من أمر الجاهليّة، ويضحكون فيبتسمُ معهم إذا ضحكوا. رواه مسلم [4].
وأخرج البخاريّ في الأدب المفرد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: لم يكن أصحاب رسول الله منحرفين ولا متماوتِين، وكانوا يتناشدون الأشعارَ في مجالسهم ويذكرون أمرَ جاهليتهم، فإذا أريد أحدُهم على شيءٍ من دينه دارَت حماليق [5] عينيه [6].
وذكر ابن عبد البر رحمه الله عن أبي الدرداء أنّه قال: (إنّي لأستجمّ نفسي بالشيء من اللّهو غيرِ المحرّم، فيكون أقوى لها على الحقّ) [7].
وذكر ابن أبي نجيح عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنّي ليعجبُني أن يكونَ الرّجل في أهله مثلَ الصبيّ، فإذا بُغي منه حاجة وُجِد رجلا) [8].
وذكر ابن عبد البرّ عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال: (أجمّوا هذه القلوبَ، والتمِسوا لها طرائفَ الحكمة، فإنّها تملّ كما تملّ الأبدان) [9].
يقول ابن الجوزيّ: "ولقد رأيت الإنسانَ قد حُمّل من التكاليف أمورًا صَعبة، ومِن أثقل ما حُمّل مداراةُ نفسِه وتكليفها الصبرَ عمَّا تحبّ وعلى ما تكرَه، فرأيتُ الصّوابَ قطعَ طريق الصّبر بالتسلية والتلطّف للنّفس".
وبِمثل هذا تحدّث أبو الوفاء بن عقيل فقال: "العاقلُ إذا خلا بزوجاتِه وإمائه لاعبَ ومازح وهازل، يعطي للزوجة والنفسِ حقَّهما، وإن خلا بأطفاله خرجَ في صورة طفلٍ وهجَر الجدَّ في بعضِ الوقت".
هذه ـ عبادَ الله ـ بعضُ الشّذرات حولَ مفهوم اللّهو والتّسلية والترويح، يُؤكَّد من خلالِه أنّ الإسلام قد عُني بهذا الجانب حقَّ العناية، غيرَ أنّنا نودّ أن نبيّن هنا وجهَ الهوّة بَين مفهوم الإسلام للتّرويح والتّسلية وبين اللّهو والمرَح في عصرنا الحاضر، والذي هو بطبيعته يحتاج إلى دراساتٍ موسَّعة تقتنِص الهدف للوصول إلى طريقةٍ مثلى للإفادة منها في الإطار المشروع.
فينبغي دراسةُ الأنشطةِ الترويحيّة الإيجابيّة منها والسلبيّة، والربط بينها وبين الخلفيّة الشرعيّة والاجتماعيّة للطبقة الممارسة لهذا النشاط، ومدَى الإفادة مِن الترويح والإبداع في الوصول إلى ما يقرّب المصالحَ ولا يبعّدها، وما يُرضي الله ولا يسخطه، وتحليل الفِعل وردود الفِعل، بين معطيات المتطلّبات الشرعيّة والاجتماعيّة، وبين متطلّبات الرّغبات الشخصيّة المشبوهة، وأثرِ تلك المشاركاتِ في إذكاءِ الطاقات والكفاءات الإنتاجيّة العائدة للأسَر والمجتمعات بالنّفع في دينِهم ودنيَاهم.
إنّ علينا جميعًا كمسلمين أن نشدَّ عزائمَنا لصيانتها ما أمكنَ من أيِّ ضياع في مرحٍ أو لهو غير سليم، أو ممّا إثمه أكبرُ من نفعه، فلا ينبغي للمسلمين أن يطلِقوا لأنفسهم العِنانَ في التّرويح، بحيث يزاحِم آفاقَ العمل الجادّ واليقظة المستهدفة، ولا أن يشغلَ عن الواجبات أو تضيع بسبب الانغماس فيه الفرائضُ والحقوق، إذ ليست إباحة التّرويح وسطَ رُكام الجدّ إلا ضربًا من ضروب العَون وشحذِ الهمّة على تحمّل أعباء الحقّ، والصبر على تكاليفه، والإحساس بأنّ ما للجدّ أولى بالتّقديم ممّا للَّهو والتّرويح، وبهذا يُفهَم قول النبيّ لحنظلةَ بن عامر وقد شكا إليه تخلُّلَ بعض أوقاتِه بشيءٍ من الملاطفة للصّبيان والنّساء، فقال له : ((ولكن ساعة وساعة)) [10].
أمّا أن يصبِحَ التّرويح للنفس طابعَ الحياة في الغدوِّ والآصال والخَلوة والجَلوة، وهمًّا أساسًا من هموم المجتمعات في الحياة، فهو خروجٌ به عن مقصده وطبيعته، واتّجاهٌ بالحياة إلى العبث والضّياع، والإنسان الجادّ عليه أن يجعلَ من اللّهو والترويح له ولمن يعوله وقتًا ما، ويجعل للعمل والجدّ أوقاتًا، لا العكس، لا سيّما ونحن نعيش في عصرٍ استهوت معظم النّفوسِ فيه كلّ جديد وطريف، حتّى صارت أكثرَ انجذابًا إلى احتضان واعتناقِ ما هو وافد عليها في ميدان اللّهو والمرح، ولا غروَ في ذلك عبادَ الله، فإنّ الاسترخاءَ الفكريّ وهشاشةَ الضابط القيمِيّ لدى البعضِ منّا هما أنسبُ الأوقات لنفاذ الطرائف والبدائع إلى النفوس، وهنا تكمن الخطورة ويستفحِل الداء.
فاللهوُ المنفتِح ـ عبادَ الله ـ والذي لا يضبَط بالقيود الواعيّة، إنّه ولا شكّ يتهدَّد الأصالةَ الإسلاميّة، لتصبح سبهللا بين خطرين:
أحدهما: خطرٌ في المفاهيم، إن كان هناك شيء من بعض المسابقات تُدعَى ثقافيّةً، تقوم في الغالب على جمع للتضادِّ الفكريّ، أو تنميّة الصراع الثقافي، أو تصديع الثوابت المعلوماتيّة لدى المسلمين، بقطعِ النظر عن التفسير الماديّ للتأريخ والحياة، أو على أقلِّ تقدير الإكثار من طرحِ ما علمُه لا يحتاج إليه الذكيّ، ولا يستفيد منه البليد.
والخطر الثاني ـ عباد الله ـ تلك التي تعَدّ وسائلَ للترويح والتسلية عبرَ القنوات المرئيّة التي تنتِج مفاهيمَ مضلِّلة، عبرَ طرق جاذِبة في الثقافاتِ والشهوات، لاسترقاق الفِكر من خلالِ فنونٍ أو أساطيرَ أو عروض لما يفتِن أو للسِّحر والشعوذة وما شاكلها.
ونِتاج الخطرين ولا شكَّ تمزُّق خطير، متمثِّلٌ في سوءِ عشرة زوجية، أو تباين أفراد أسرةٍ إسلامية، ناهيكم عن القتل والخطف والانتحار والتآمر والمخدّرات والمسكرات، وهلُمّ جرّا.
وما حال من يقَع في مثل هذا الترويح إلا كقول من يقول: "وداوني بالتي كانت هي الداءَ" [11] ، أو كما يتداوَى شاربُ الخمر بالخمر، فلرُبَّ لهوٍ بمرّة واحدة يقضي على بُرج مشيّد من العِلم والتّعليم للنّفس، ويا لله كم من لذّة ساعةٍ واحدة أورثت حزنًا طويلا، وإِنَّمَا عِنْدَ ?للَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [النحل:95]، مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ?للَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:96].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارا.
[1] الأوار: حرّ النار والشمس.
[2] السادر: المتحيّر.
[3] أخرجه البخاري في كتاب الرقاق (6412) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[4] أخرجه مسلم في كتاب المساجد (670) بنحوه، واللفظ الذي ذكره الخطيب في خطبته هو لفظ أحمد (5/86، 88).
[5] حماليق العين: هو ما يسوده الكحل من باطن أجفان العين، وهو كناية عن فتح العينين، والنظر الشديد.
[6] هو في الأدب المفرد (81)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في المصنف (5/278)، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (10/540)، والألباني في صحيح الأدب المفرد (432).
[7] ذكره ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص274)، وابن عبد البر في بهجة المجالس (ص115)، والبغوي في شرح السنة (13/184)، والذهبي في السير (5/421).
[8] أخرجه البيهقي في الشعب (6/292).
[9] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (659)، وأخرجه أيضًا الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (2/129)، والسمعاني في أدب الإملاء (ص68) من طريق النجيب بن السري عن علي، وهذا سند منقطع، انظر: المراسيل لابن أبي حاتم (ص424-425).
[10] أخرجه مسلم في كتاب التوبة (2750) عن حنظلة الأسيدي رضي الله عنه.
[11] شطر بيت لأبي نواس، وشطره الأول: "دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ"، وهو في ديوانه (1/21), وانظر: نهاية الأرب (3/83).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الواحدِ الأحَد، الفردِ الصمَد، الذي لم يلِد ولم يولد. وأشهَد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامُه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمّا بعد: فاتّقوا الله أيّها النّاس.
واعلموا أنّ شريعةَ الإسلام شريعة غرّاء، جاءت بالتّكامل والتّوازن والتّوسُّط، ففي حين إنّ فيها إعطاءَ النّفس حقَّها مِن التّرويح والتسلية، فإنّ فيها كذلك ما يدلّ على أنّ منه النافعَ ومنه دون ذلك.
فقد صحَّ عند النسائي وغيره أنّ النبيّ قال: ((كلّ لهوٍ باطل غيرَ تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بسهمه)) الحديث [1].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلِّقًا على هذا الحديث: "والباطل مِن الأعمال هنا ما ليس فيه منفعة ولم يكن محرّمًا، فهذا يرخَّص فيه للنفوس التي لا تصبِر على ما ينفع، وهذا الحقّ في القَدر الذي يُحتاج إليه في الأوقات التي تقتضي ذلك، كالأعياد والأعراس وقدوم الغائِب ونحو ذلك" انتهى كلامه [2] ، ويقول ابن العربي رحمه الله عن هذا الحديث: "ليس مرادُه بقوله: ((باطل)) أي: أنّه حرام، وإنّما يريد به أنه عارٍ من الثواب، وأنّه للدنيا محض، لا تعلّقَ له بالآخرة، والمباح منه باطل" انتهى كلامه [3].
هذا في اللهو المُباح عباد الله، وأمّا اللّهو المحرّم أو اللهو المباح الذي قد يفضي إلى محرّم فاستمعوا ـ يا رعاكم الله ـ إلى كلام الإمام البخاريّ رحمه الله في صحيحه حيث يقول: "باب: كلّ لهوٍ باطل إذا أشغله عن طاعة الله" [4] ، يعلِّق الحافظ ابن حجر على هذا فيقول: "أي: كمَن التهى بشيء من الأشياء مطلقًا، سواء كان مأذونا في فعله أو منهيًّا عنه، كمن اشتغل بصلاة نافلة أو بتلاوة أو ذكر أو تفكّرٍ في معاني القرآن مثلا، حتّى خرج وقت الصلاة المفروضة عمدًا، فإنّه يدخل تحت هذا الضابط، وإذا كان هذا في الأشياء المرغَّب فيها المطلوب فعلها فكيف حال ما دونها؟!" [5].
فالحاصِل ـ أيّها المسلمون ـ أنَّ الترويحَ والفرح ينبغي أن يخضعا للضوابِط الشرعيّة، وأن لا يبغيَ بعضها على حدود الله، والله يقول: تِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا [البقرة:229].
ألا وإنّ مَن أراد أن يفرحَ ويلهو فليكن فرحَ الأقوياء الأتقياء، وهو في نفس الوقت لا يزيغ ولا يبغي، بل يتّقي الأهازيج والضّجيج التي تقلق الذاكرَ وتكسِر قلبَ الشاكر، ولله ما أحسنَ كلامًا لحكيم من حكماء السّلف يصِف فيه الباغين في اللّهو العابّين منه كما الهيم [6] ، دون رسم للحقّ، أو رعايةٍ للحدود، حيث يقول عن مرَحهم: "إنّه من مشوِّشات القلب إلاّ في حقِّ الأقوياء، فقد استخفّوا عقولَهم وأديانهم من حيث لم يكن قصدُهم إلا الرياء والسّمعة وانتشار الصّيت، فلم يكن لهم قصدٌ نافع ولا تأديب نافذ، فلبِسوا المرقّعات، واتّخذوا المتنزّهات، فيظنّون بأنفسهم خيرًا، ويحسبون أنّهم يحسنون صنعًا، ويعتقدون أنّ كلَّ سوداء تمرة، فما أغزر حماقةَ من لا يميز بينَ الشّحم والورم، فإنّ الله تعالى يبغض الشبابَ الفارغ، ولم يحمِلهم على ذلك إلا الشباب والفراغ" [7].
وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَـ?رَةً أَوْ لَهْوًا ?نفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ ?للَّهِ خَيْرٌ مّنَ ?للَّهْوِ وَمِنَ ?لتّجَـ?رَةِ وَ?للَّهُ خَيْرُ ?لرازِقِينَ [الجمعة:11].
هذا وصلُّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحبِ الحوض والشّفاعة، فقد أمرَكم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكتِه المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم ـ أيّها المسلمون ـ فقال جلّ وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...
[1] أخرجه النسائي في كتاب الخيل من السنن (3578)، ولفظه: ((وليس اللهو إلا في ثلاثة....)) ، وأخرجه أيضًا أحمد (4/148)، وأبو داود في كتاب الجهاد (2513) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/95)، ووافقه الذهبي، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (821).
[2] الاستقامة (1/277).
[3] انظر: فيض القدير (5/402).
[4] وذلك في كتاب الاستئذان من صحيحه.
[5] فتح الباري (11/91).
[6] الهيم هي الإبل العطاش.
[7] إحياء علوم الدين (2/ 250) بتصرف.
(1/2719)
الهدي الملائم في الزواج والولائم
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
4/5/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأسرة أساس المجتمع. 2- حسن اختيار شريك الحياة. 3- من أحكام الخطبة. 4- من أحكام المهر. 5- التحذير من التبرج وكشف العورات. 6- زينة المرأة المسلمة. 7- من منكرات الأفراح. 8- التحذير من الإسراف والتبذير. 9- حقيقة عقد النكاح. 10- ضرورة العناية بالمرأة. 11- هدي الإسلام في الخطبة والعقد والوليمة. 12- التحذير من عضل النساء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، فتقوى الله طريقُ الهدى، ومخالفتُها سبيل الشّقاء.
أيّها المسلمون، الأسرةُ أساسُ المجتمَع، منها تتفرّق الأمَم والشّعوب، نواةُ بنائِها الزّوجان، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ [الحجرات:13]. والشريعة مبناها على الحِكَم ومصالح العباد، دَعَتِ الشبابَ لإعفاف أنفسِهم بالزّواج، قال عليه الصلاة والسلام: ((يا معشرَ الشّباب، منِ استطاعَ منكم الباءةَ فليتزوّج؛ فإنّه أغضّ للبصر وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطِع فعليه بالصيام؛ فإنّه له وجاء)) متّفق عليه [1].
حثَّ الدّين على اختيار الزّوجةِ الصّالحة ذاتِ الخلُق الرّاقي والتعامل الهادي، لا ترفعُ صوتًا ولا تؤذي زوجًا.
والسؤالُ عن حالِ الخاطب والمخطوبة أمرٌ لازم لبيان ما قد يخفى في أحدهما من مثالبَ قادِحة، وعلى المسؤول الصّدقُ في الجواب والبيانُ بكلّ وضوحٍ وأمانة لإبداء خوافي المحاسِن والمساوئ، وكتمانُ معايِب أحدِهما عندَ السؤال ضربٌ من الغشّ للمسلمين.
وإذا عزَم الخاطبُ على الخطبة أبيحَ له النّظر إلى مخطوبته بحضُور محرمِها ودونَ خَلوة بها، من غير تدليسٍ عليه في زينةٍ أو تجمّل، يقول المصطفى : ((إذا خطَب أحدُكم امرأةً فلينظر إليها؛ فإنّه أحرى أن يؤدَم بينهما)) رواه مسلم [2].
وليحذَر الخاطب قبلَ العقدِ الخلوةَ بمخطوبتِه أو الحديثَ معها بمهاتفةِ الاتّصال أو إلباسَ المخطوبة خاتمًا أو مسَّ جسدها أو الخروج بها من دارها، فإنّ ذلك من المعاصي وركضةٌ من الشّيطان يغوي بها الخاطبَين، وكثيرًا ما تتبدَّد أحلامُهما بتلك السيّئات.
والإسلامُ دين عدلٍ وقصد، أمَر الشبابَ بالزّواج، وحثّ على تيسير مهرِه، وإذا قلَّ المهرُ علَت المرأة، وشرُفَت عندَ الزوج مكانتُها وزادت بركتُها، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أعظمُ النّساء بركةً أسرهنَّ مؤونةً)) [3]. وأثرياءُ الصّحابة لم يغالوا في مهورِهم، يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: تزوّجتُ على وزنِ نواةٍ مِن ذَهب، ولمّا علِم النبيّ عن صداقِه قال له: ((بارَك الله لك)) [4].
والمَهر حقٌّ للمرأة لا يجوز للآباء أو الأوليَاء اختصاصُهم به، قال سبحانه: وَءاتُواْ ?لنّسَاء صَدُقَـ?تِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4].
وجمالُ المرأة في سترِها، وبهاؤها في حيائها، ورونقُها في عفافِها، والإسلامُ جاء آمرًا بسِتر المرأة، وبعضُ النّساء يقعنَ في المحرّمات في مواطنِ فرح، فتجوّز لنفسِها ما ضاقَ مِن المَلبس، وأخرى تلبسُ ما رقَّ منه ممّا لا يستر جسدَها، ومنهنّ من تُبدي شيئًا من ساقِها وفخذِها، ومنهنّ من لا تستُر أعلى جسدِها، يزيّن لهنّ الشيطان سوءَ عملهنّ.
والمرأةُ لا يحلّ لها أن تبديَ للمرأة إلاّ ما أبيح كشفُه أمامَ محارمِها مِن الرجال ممّا جرت العادةُ بكشفه في دارها مِن الرّأس واليدين والعنُق والقدَمين، ولا تبدِي المرأة عندَ النّساء أكثرَ من ذلك.
ومِن النّساء من تكشِف عورتَها لامرأةٍ أخرى لإزالةِ خوافي شعرِ جسدها، وهذا منكرٌ غليظ، فيه اطِّلاعٌ على العورات وخديعةٌ للزّوج وضياع لحقِّه في غيبته، عليها تهديدٌ من ربّ العالمين، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أيّما امرأةٍ وضعت ثيابَها في غير بيتِ زوجِها فقَد هتكت سترَها فيما بينها وبين الله)) رواه الحاكم [5].
والدّين وسطٌ في الإنفاق بين الإسراف والتقتير، يُعلن النكاحَ ولا يقَع في المحذور، ومِن النّساء من تتباهى في زينةِ الملبَس والتبرّج والتجمّل، تبدِّد الأموالَ وتهدر الأوقات بشهرةٍ زائفة أو رياءٍ ممقوت.
واحذري ـ أيّتها المرأة ـ مِن الخُيَلاء في الملبَس، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((بينما رجلٌ يمشي في حلّةٍ تعجِبه نفسُه مرجِّلٌ رأسَه يختال في مشيَته إذ خسف الله به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)) متّفق عليه [6].
والمرأة المسلمةُ متميِّزة بزينتِها وملبسِها وشعرها، بعيدةٌ عن تشبّهها بالرّجال أو غير المسلِمات، وتشبُّهُها بغير جنسِها يعرّضها للوعيد، فقد لعن رسول الله المتشبّهات من النّساء بالرجال [7] ، ولكلّ جنسٍ من الرّجال والنّساء خصائصُه وأحواله وملبسُه وزينتُه. المرأة تفخَر بأنوثتِها، والرّجل يعتزّ برجولتِه، وفي التّقليد ضعفٌ في النّفس وعدمُ رضًا بالخصائِص ونقصٌ في إدراكِ حكمةِ الخالِق.
وحواجبُ العينين زينةٌ مِن ربّ العالمين، وبعضُ النّساء تعمد إلى إزالةِ بهاء وجهِها وجمالِ عينيها بنتفِ حواجبها، وقد لعن الله مَن أزالت شعرَ حاجبها، يقول النبي : ((لعن الله النامصةَ والمتنمِّصة)) [8].
وبعض النّاس لضعفٍ في النّفس مولَع بالتّقليد، يضاهي غيرَه حتى في أفراحه، والرّجل محرّم عليه رؤيةُ المرأة الأجنبيّة في النكاح وغيره، ودخول الزّوج ليلةَ الزفاف على النساء الأجانب وجلوسُه على علوٍّ مع زوجتِه وهو يتطلّع إلى نساءِ المسلمين بكامِل زينتهنّ منكرٌ رذيل، يقول النبيّ : ((إيّاكم والدخول على النّساء)) متّفق عليه [9].
وجلوسُ الزّوج مع زوجته أمامَ النّساء تقليدٌ مقيت، دافعه الهوى، وظاهرهُ الخُيَلاء، وثمرتُه الشّقاء، فما حالُ الزّوجين أمام النساء وهنّ ينظرنَ إليهما؟! والناظر للزّوجين مِن الحضور ما بين شامتٍ في الخِلقة، وما بين حاسدٍ على النعمة، تقول فاطمة رضي الله عنها: (خيرٌ للمرأة أن لا ترى الرجالَ ولا يراها الرّجال) [10].
وإرخاءُ ذيلٍ طويل يُحمَل خلفَ الزّوجة ليلةَ زفافِها تشبّهٌ بغير المسلمين، حرامٌ عليها فعلُه.
والمعازِف والغناءُ لا تدني من الربّ، ومن أسبابِ قسوةِ القلب، حجابٌ كثيف عن الرحمن. وما يفعله بعضُ النّاس من المعازف ليلةَ النكاح جحودٌ لنِعمة الله وعصيانٌ له، ومِن السّرف استئجار عازفةٍ للغناء لعصيان ربِّ العالمين في دُجى السَّحَر زمنِ نزول العظيم جلّ جلاله إلى السّماء الدنيا، والعُبّاد في محاريبهم.
والمسلمُ حرامٌ عليه حضورُ مناسبةٍ فيها منكر، يقول الأوزاعي رحمه الله: "لا تدخلْ وليمةً فيها طبلٌ ومعازف".
وفي أحكام الإسلام غنيةٌ عن الحرام، ودينُنا أباح ضربَ الدفّ للنّساء خاصّة في وقتٍ مِن اللّيل بكلامٍ لا محذورَ فيه.
والتّصوير مِن كبائرِ الذّنوب، موجبٌ للّعنة والغَضب، قال عليه الصلاة والسلام: ((لعن الله المصوِّرين والمصوِّرات)) [11]. والمصوّر أشدّ الخلقِ عذابًا، قال : ((أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المصوّرون)) متفق عليه [12].
وتصويرُ النّساء يجني مفاسدَ وخيمة، وقد تسري صوَرُ النّساء إلى غير المحارم من الرّجال، فتنهار بذلك بيوت، والأبُ اللّبيب من يمنعُ زوجتَه وبناته من ورود أماكنِ التّصوير.
والعدلُ في المأكل والمَشرب وعدم البذَخ فيه دأبُ الفضلاء، سنّةُ خيرِ البشر، تصِف صفيّة رضي الله عنها وليمتَه بقولها: أولمَ النبيّ على بعضِ نسائِه بمدَّين من شعير [13].
ومِن مجانبةِ الصّواب أن تكونَ مبذِّرًا في الزّواج، شحيحًا في البذل في أوجُه الخيرات.
وتكرار ولائِم مناسبات النّكاح في ظاهرها أفراح، وفي حقيقتِها على الزّوج أتراح، للخطبةِ وليمةٌ، وفي يوم إلباس المخطوبة خامًا من قِبل خاطبِها مأدُبة، ومسّ يدها محرّم، وليلة عقد النكاح دعوة، وفي ليلةِ الزّفاف مآكل ومشارب متنوّعة، إرهاقٌ لمؤونَة الزّوج، هل مَن يسعى لبِناء بيتِ زوجيّة مُحاطٍ بالسّتر والعفاف تُستنزَف أمواله أم تخفَّف عنه الأعباء لإضافةِ لبنةٍ صالحة في المجتمع؟! والاكتفاءُ بوليمة واحدةٍ ليلةَ الزفاف أحبّ للزّوجين وأسلم وأكملُ وأوفق.
والله عزّ وجلّ جعل الليلَ لباسًا والنومَ سُباتا، والنبيّ كان يكرَه النومَ قبل العشاء والحديثَ بعدها. متفق عليه [14].
ولحظات الفرَح يُظهر التعبير عنها من غير سهَر فاحِش، وإعلانُ النكاح لا حاجة إلى امتداده إلى السَّحر، وساعاتٌ في الليل غنيةٌ عن جميعه.
وبعد: أيّها المسلمون، فمَن أسّس بنيانَه على التّقوى أزهى وأربى، ومن أحاطه بالمحرّمات أذِن بحلول الشّقاء، والزّوجان يستويان في لظى العِصيان ليلةَََ زفافِهما، يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: "إنّي لأعصِي الله فأرَى ذلك في خلُق امرأتِي ودابّتي" [15].
والمرأةُ الحاذِقة لا تزلزل بيتَها بمعصيةِ الله أوّلَ ليلتِها، فالذّنوب تعسِّر الأمورَ، وتوحِش القلبَ بين الزّوجين، وكلّما كان الزّواج أقربَ إلى الصّواب كانَ أحرى بالتّوفيق.
وجملة المخالفات في النّكاح داعيها عُقدةُ الشّعور بالعَجز والنّقص، وبعضُ النّاس قد لا يدرك حقيقةَ النّكاح، يظنّ أنّ مِن مستلزماتِه البذخ والتفنّن في المآكل والتّباهي في الملابس، وليس الأمر كذلك، بل النّكاح عقدٌ موثَّق غليظ بين زوجين، لا يُشاب بخطيئةٍ، ولا يعرَّض للانهيار بمعصية.
وعلى الآباء أن لا يُرخوا العنانَ للنّساء لارتكاب المعاصي بما يزيد النّكاح عقبات. والمرأةُ مستضعَفةٌ، إن لم تُؤخذ بِيَد وليِّها جنحت مع نفسِها لهواها، وعلى النّساء الإذعان لأوامِر الله وعدمُ الوقوع في المحرّمات، وعلى المرأة أن تشتغل بمعالي الأمور لإصلاح قلبها في طاعة ربّها، فموطنُها أمٌّ وراعية أسرةٍ وموجِّهة، ينبغي أن تُعليَ مِن فِكرها، وترقَى باهتماماتِها، فاليومَ عملٌ ولا حِساب، وغدًا حسابٌ ولا عمَل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في النكاح (5065، 5066)، ومسلم في النكاح (1400) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[2] أخرج أحمد (4/244)، والترمذي في النكاح (1087)، والنسائي في النكاح (3235)، وابن ماجه في النكاح (1688) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه خطب امرأة فقال النبي : ((انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)) ، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (675)، وابن حبان (4043)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (96). تنبيه: هذا الحديث لم يخرجه مسلم، والله أعلم.
[3] أخرجه أحمد (6/145)، والنسائي في الكبرى (5/ 402)، والبيهقي في الكبرى (7/235) من حديث عائشة رضي الله عنها، وصححه الحاكم (2/ 178)، ووافقه الذهبي، وفي سنده ابن سخبرة لا يدرى من هو، ولذا ضعف الألباني هذا الحديث في السلسلة الضعيفة (1117).
[4] أخرجه البخاري في النكاح (5155، 5167)، ومسلم في النكاح (1427) من حديث أنس رضي الله عنه.
[5] أخرجه أحمد (6/41، 173، 198، 267، )، وأبو داود في الحمام (4010)، والترمذي في الأدب (2803)، وابن ماجه في الأدب (3750)، وأبو يعلى (4680)، والطبراني في الأوسط (4743)، والحاكم (7780، 7781)، والبيهقي في الكبرى (7/308) من حديث عائشة رضي الله عنها، وحسنه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3021).
[6] أخرجه البخاري في اللباس (5789)، ومسلم في اللباس (2088) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في اللباس (5885) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[8] أخرجه البخاري في اللباس (5931، 5939، 5943، 5948)، ومسلم في اللباس (2125) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بنحوه.
[9] أخرجه البخاري في النكاح (5232)، ومسلم في السلام (2172) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
[10] أخرجه البزار في مسنده (526) بنحوه، قال الهيثمي في المجمع (4/255): "فيه من لم أعرفه، وعلي بن زيد أيضا".
[11] لعنُ المصوّرين أخرجه البخاري في الطلاق (5347) من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه.
[12] أخرجه البخاري في اللباس (5950)، ومسلم في اللباس (2109) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[13] أخرجه البخاري في النكاح (5172).
[14] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (547، 568، 599)، ومسلم في المساجد (647) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه.
[15] أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/109) بنحوه، وانظر: صفة الصفوة (2/238).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، الإسلامُ هو منبَع الحضارةِ والسُّؤدَد، والتمسُّك بِه يثمِر الرُّقيَّ والتقدّم، يبني الأمَمَ، وينشئ الأجيالَ بأمثل السّبُل، يسَّر مسالكَ النّكاح ودروبَ المودّة بزواج سعيدٍ يبهج الزوجَين وأهلهما، ويسرُّ المجتمع بأكملِه.
يختار الزوج امرأةً ذات دين وخلقٍ راق وأدبٍ رفيع، وإذا تقدّم خاطبٌ كفءٌ متَّسمٌ بالدين والخلُق لم يردّ، وبعدَ استشارةٍ لذوي النّهى واستخارة وعزمٍ على الاختيار يرى الخاطبُ مخطوبتَه بحضورِ محرمِها. ومع انشراحِ صدرٍ وتوكُّل يُعقد النّكاح، وفي ليلةِ الزّفاف فرحٌ معتدِل، لا مباهاةَ فيه ولا مفاخرة، يُعلَن فيه النّكاح ويدعَى إليه ويصنَع طعامٌ بقدرهم، لا إسرافَ فيه ولا تبذير، وتُزَفّ المرأة إلى زوجها، والمرأةُ الواعيَة ذات العقلِ الرّاجح والروح السامية تسعى إلى منعِ المحرّم في زواجِها لعلمِها أنّ المعصيةَ لها أثرٌ على حياتِها مع زوجها. والإسلامُ يسَّر النكاحَ وسهّل أبوابَه على الشّباب، النبيّ تزوّج صفيّةَ وهو في سفر، يقول أنس رضي الله عنه: حتّى إذا كان بالطّريق جهَّزتها له أمّ سليم، فأهدتها له في اللّيل، فأصبح النبيّ عروسًا [1].
ومِن قبائِح الصّنائع تأخيرُ الأبِ تزويجَ ابنته مع تقدُّم الكفءِ لها، أو حجرها على ابن عمّها، واعلم ـ أيّها الأب ـ أنّ ابنتَك مستضعفة في دارِك، منعَها حياؤها من إبداء مكنونِ نفسها، تصبِح أسيفةً وتمشي حزينة، تتألّم من دخول بوّابة العنوسة، والمرأةُ زهرة لها زمن قصيرٌ ثمّ تذبُل، ومِن الهدي القويم تزويجُها في سنّ مبكِّرَة، ولا غضاضة في عَرض الرّجل ابنتَه أو أختَه على الرّجل الصالح، وهذا من تمام الرّعاية والقيام بالولاية، وعمرُ الفاروق رضي الله عنه عرض ابنتَه حفصة على عثمان فردّها وما غضِب، فعرضها على أبي بكر فردّها وما أيِس، فعرضها على النبيّ فتزوّجها. رواه البخاري [2].
ومنعُ الآباء الخاطبَ ذا الدين والخلُق مخالفٌ لأمرِ الشّريعة، يقول النبيّ : ((إذا جاءكم مَن ترضون دينَه وخلقه فزوِّجوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد عريض)) رواه الترمذي [3].
فالرَشَد في اتِّباع الهُدى، واللّبيب من رجَا السعادةَ من أبواب الطاعة.
ثمّ اعلموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيّه فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على نبيّنا محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الصلاة (371)، ومسلم في النكاح (1365).
[2] أخرجه البخاري في النكاح (5122).
[3] أخرجه الترمذي في النكاح (1084)، وابن ماجه في النكاح (1967) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/164- 165)، وتعقبه الذهبي بأن فيه عبد الحميد بن سليمان قال فيه أبو داود: "كان غير ثقة"، وفيه أيضًا ابن وثيمة لا يعرف. ثم اختلف في إسناده، فنقل الترمذي عن البخاري أنه يرجح انقطاعه. ولكن للحديث شواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022 ).
(1/2720)
علم الغيب
التوحيد
نواقض الإسلام
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
27/4/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حفظ القرآن الكريم. 2- لا يعلم الغيب إلا الله تعالى. 3- كذب الكهان والمنجّمين. 4- التوكّل على الله والأخذ بالأسباب. 5- ضرر الكهّان والمنجّمين. 6- التحذير من القنوات الفضائية التي فيها برامج "حظ الإنسان".
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ مِن رحمة الله بهذه الأمّة أن حفِظ عليها مصدَرَ تشريعها، وهو كتابُه العزيز الذي تكفَّل بحفظِه ولم يكِل حفظَه لسواه، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر:9].
بيَّن فيه الحلالَ والحرام، قصَّ القصصَ والأخبارَ، ذكرَ فيه الحدودَ وحرَّم التعدّيَ عليها، ذكر الحدودَ في الاعتقاد والقول والعمَل، حفِظ هذا الكتاب العزيزَ بأنواعٍ من الحفظ، حفِظه في اللّوح المحفوظ بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ [البروج:21، 22]، حفِظه في الأرض، فهيَّأ له من جَمَعه وكتبَه واعتنى به، حفِظه في صدورِ الرجال بَلْ هُوَ ءايَـ?تٌ بَيّنَـ?تٌ فِى صُدُورِ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ [العنكبوت:49]، حفِظه حين وَحيِه وتنزيله، فلم تستطِع أيدي شياطين الجنّ والإنس العبثَ به، لقد كان الجنُّ قبل مبعثِ محمّد يسترِقون السّمع، فيسمعون شيئًا ممّا تقوله الملائكة مِن أوامر الله، فيسمَع الكلمةَ مسترقُ السمع، فيرسلها إلى أخيه الكاهن مِن الإنس، فيكذِب معها مائةَ كذبة، فيُظنّ صدقه على ما يقول، ولمّا اقترب مبعث محمّد حرس الله السماءَ بالشهب، فلم يستطيعوا الوصولَ إلى شيء من ذلك، وَأَنَّا لَمَسْنَا ?لسَّمَاء فَوَجَدْنَـ?هَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَـ?عِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ ?لآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى ?لأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:8-10]. رُميت الشياطين بالشّهب قبلَ المبعث النبوي، فأصاب الناسَ ذهول ممّا رأوا، فالإنس مِنهم مَن أيقن بهلاكه، فترك بهائمَه وهَام، والجنّ بحثوا ما مصدرُ ذلك؟ حتّى وجدوا النبيَّ يقرأ القرآن، وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مّنَ ?لْجِنّ يَسْتَمِعُونَ ?لْقُرْءانَ الآية [الأحقاف:29].
أيّها المسلمون، فحرس الله السمواتِ بالشّهب، وحفِظ الغيبَ فلم تمتدَّ إليه أيدي العابثين، لا من الجنِّ ولا من الإنس، فالغيبُ ممّا يجري في ملكوتِ السموات والأرض علمُه عند الله، فلا يعلم الماضي والحاضرَ والمستقبل إلا ربُّ العالمين أو مَن أطلعَه الله على شيء من ذلك كما قال جل وعلا في كتابه العزيز: إِلاَّ مَنِ ?رْتَضَى? مِن رَّسُولٍ [الجن:27].
أيّها المسلمون، لقد زاغَ قومٌ عن الهداية وتنكَّبوا الصّراط المستقيمَ وارتكبوا الغواية، وزعموا أنّهم يعلمون الغيبَ، واستدلّوا بالحوادث الفلكية على ما يجري في الأرض، نظَروا في الأفلاك في اجتماعها وافتراقها ومنازلها، فاستدلّوا بذلك على ادِّعائهم علمَ الغيب، وادّعاء علمِ الغيب إنّما هو تكذيبٌ لله ورسوله، وكفرٌ ومنازعة لله في سلطانِه.
أيّها المسلم، تأمَّل قولَ الله جلّ وعلا: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ و?لأرْضِ ?لْغَيْبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65]، فأخبَر تعالى أنَّ الغيبَ في السموات والأرض لا يعلمه إلا الله، والمؤمنون يؤمنون بالغيبِ وبما أخبرَ الله مما غاب عنهم يؤمنون به، ?لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِ?لْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلو?ةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3].
تأمَّل قولَ الله تعالى: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ ?للَّهِ وَلا أَعْلَمُ ?لْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى? إِلَىَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ?لأعْمَى? وَ?لْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ [الأنعام:50]. هذا نبيُّنا يأمره الله أن يقول: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ ?للَّهِ وَلا أَعْلَمُ ?لْغَيْبَ ، ويقول جلّ وعلا له أيضًا: قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء ?للَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ?لْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ ?لْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ?لسُّوء [الأعراف:188].
أيّها المسلم، إنَّ هناك منكرًا عند بعض الناس، وهم أولئك الذين يدَّعون علمَ الغيب، فيستدلّون بالطوالع والبروج على ما يقولون، فيربطون بينها وبين ما يقَع من نفع أو ضرّ أو سعادةٍ أو شقاء للبشرية، على ما يدَّعونه من علم الغيب، وكذبوا والله، والغيبُ لا يعلمه إلا الله.
أيّها المسلم، إنَّ نبيّنا يقول: ((مَن أتى كاهنًا فصدَّقه بما يقول فقد كفَر بما أُنزل على محمّد)) [1] ، ويقول : ((مَن أتى كاهنًا فسأله عن شيء لم تُقبل له صلاة أربعين يومًا)) [2].
أيّها المسلم، إنَّ ما يخبر به أولئك من المغيَّبات التي لا يعلمُها إلا الله، يقولون: سيحصل في هذا الشهر وفي هذا العام في هذا اليوم في تلك الليلة حوادثُ كذا وكذا، فإذا وقع أمرٌ ما قالوا: نحن قد علِمنا وأخبَرنا وتوقَّعنا ما يجري، وكلّ هذا من المغالطات، كلّ هذا من ادِّعاء علم الغيب، كلّ هذا من الكذِب والافتراء، هذا مذهبُ الفلاسفة والمجوس والصابئة الذين هُم كَفَرة بما جاءت به الأنبياء.
أيّها المسلم، إنَّ علمَ الغيب ممَّا اختصَّ الله به، فهو الذي يعلم ما كان وما يكون، إِنَّ ?للَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ?لسَّاعَةِ وَيُنَزّلُ ?لْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لأرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ ?للَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34]، وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ?لْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـ?تِ ?لأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59].
أخي المسلم، إنَّ أولئك الكهّان والمدَّعين علمَ الغيب علمَ ما سيكون وما سيجري يأتيهم الإنسانُ فيسألهم عن حالِه وعن مستقبلِه، ويأخذون منه الأموالَ الطّائلة، فيقول: حظّك كذا، يأتيك كذا، يتحقّق لك كذا، سيأتيك مالٌ سيأتيك كذا إلى آخره، ويظنّ هذا الظانّ أنَّ هؤلاء صادقون، وأنّهم يخبرون عن حقائق، وكذبوا والله، فلا علمَ عندهم، ولا معرفةَ عندهم، ولكنَّ الكذب هو المسيطر عليهم. وافق أمرُهم هوًى في بعض النفوس وضعفًا في الإيمان وقلّةً في العلم والمعرفة.
أيّها المسلم، إنّ الله جلّ وعلا قدَّر الأشياء، وعلِم ما العباد عاملون، وكتب هذا العلمَ قبل أن يخلقَ الخليقة بخمسين ألف سنة، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكُن، إذًا فما الفائدةُ من أولئك؟! وما الفائدة من الاستفسار منهم؟!
أيّها المسلم، أخفى الله عنك الأمورَ الآتية، وحجب عنك علمَها، ويجري ما يجري بقضاء الله وقدره، لا رادّ لقضائه، ولا معقِّب لحكمِه وهو سريع الحساب. خُذ بالأسباب النافعة، واتَّق الأسبابَ الضارّة، واستعِن بالله في أمورِك كلّها، سلِ اللهَ الثباتَ على الحق والاستقامة على الهدى، خُذ بالأسباب التي أذِن الله لك بتعاطيها، مع الثّقة بالله، وقوّة اليقين والتوكّل على الله، وتفويضِ الأمر إلى الله، وكُن دائمًا ملتجِئًا إلى الله، سائلا اللهَ العفوَ والعافية في الدّنيا والآخرة، سائلا الله من خيره وفضله، مستعيذًا به من البلاءِ والشرّ، الجَأ إلى الله، وعلِّق بالله أملك، وقوِّ يقينَك وتوكّلك على الله، ثمّ لا يضرّك شيء بعد هذا، في الحديث: ((ولا يردّ القدرَ إلا الدّعاء)) [3] ، فكثرةُ الدّعاء والالتجاء إلى الله والتضرّع بين يديه يدفع الله به عنك البلاءَ، ويحقّق لك الخير، والله أمَرك بدعائه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]. أمّا أولئك الدجّالون الكذّابون فلا علم عندهم بحقائقِ الأمور، وليسوا صادقين فيما يقولون، تخرُّص وظنون وأكاذيبُ وافتراء.
فاتّق الله أيّها المسلم، وإيّاك أن تسألهم عن شيء، إيّاك أن تستفسرَ منهم عن أمر، الآتي علمُه عند الله، ولا يؤمِّنك من المخواف ولا ينجيك من المكاره إلاّ التجاؤك إلى الله، وثقتك بالله، وسؤالُ الله أن يجعلَ فيما قضى وقدّر لك خيرًا، وقل دائمًا: اللهمَّ ما قضيتَ من قضاء فاجعل عاقبتَه لنا رشدًا. فمن ألحَّ على الله والتجأ إليه، كفاه وعافاه، ومَن اتّكل على أولئك الكهّان والدجّالين ألحقوا به الأذى والضّرر، فإن أعطاهم من المال ما يرضيهم حسَّنوا له كلَّ المستقبل، وقالوا: يأتيك المال والولدُ والجاه وإلى غير ذلك، وإن قلّ ما يعطيهم أخافوه فقالوا له: سيأتيك كذا وكذا، فأدخَلوا على قلبه الخوفَ والرعب، ممّا يدلّ على كذبهم وتناقضهم في كلّ ما يقولون.
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والهداية والعونَ على كل خير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البزار (3045 ـ كشف الأستار) من حديث جابر رضي الله عنه، وجوَّده المنذري في الترغيب (3/619)، وقال الهيثمي في المجمع (5/117): "رجاله رجال الصحيح خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف"، وصححه الألباني في غاية المرام (285). وله شواهد منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه زيادة، أخرجه أحمد (9290، 9536)، وأبو داود في الطب (3904)، والترمذي في الطهارة (135)، والنسائي في الكبرى (9017)، وابن ماجه في الطهارة (639)، والدارمي (1136)، وابن الجارود (107)، والحاكم (1/8)، وقال الترمذي: "ضعف البخاري هذا الحديث من قبل إسناده"، ونقل المناوي في الفيض (6/24) تضعيفَ البغوي وابن سيّد الناس والذهبي لهذا الحديث، ووافقهم على ذلك.
[2] أخرجه مسلم في السلام (2230) عن صفية عن بعض أزواج النبي بنحوه.
[3] أخرجه أحمد (37/68) (22386)، وابن ماجه في المقدمة (90) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وصححه ابن حبان، والحاكم (1/493)، وقال البوصيري في الزوائد: "سألت شيخنا أبا الفضل العراقي عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن"، وأخرجه الترمذي في القدر (2139) من حديث سلمان وقال: "حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (154).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، للأسَف الشّديد أنَّ بعضَ المحطّات الفضائية يوجد فيها برامِج ما يسمّى بحظِّ الإنسان ومستقبَل الإنسان، ينتصِب لذلك أقوامٌ أهلُ كذِب ودجلٍ وباطل، يتّصل بهم الكثيرُ من النّاس، يسألونهم: ما هو مستقبلي؟ ما حظي؟ ماذا سأنال في السنين الآتية؟ ماذا سيكون وضعي وحالي وأولادي؟ ما ستكون ثروتي؟ ماذا سيكون جاهي؟ ماذا سيكون موقعي في الحياة؟ إلى آخر ذلك، ثم ينبري أولئك الكهّان الكذّابون الدجّالون فيقول للواحد منهم: حظّك كذا، يسأله: متى وُلدتَ؟ في أيّ البروج؟ في أيِّ الأعوام؟ في أيِّ الطّوالع كان مولدُك؟ فيقول: كذا، فيقول: هذا طالِع سعد وهذا طالِع سعادة وطالِع خير وطالع كذا، فهَذا كلُّه مِن الكذِب والباطل. يتَّصل بهم الكثيرُ من أولئك، يظنّون أنّ عند أولئك علمًا، لا وربِّي، لا علمَ عندهم، ولا معرفةَ عندهم، ولكنّ الكذِب والافتراء هو الذي يكون عندهم.
أيّها المسلم، يا أخي المسلم، ما الفائدة من الاتِّصال بهم؟ ماذا تستفيدُ منهم؟ إمّا أن يغروك بأشياء، ويعِدوك بوعود تعلِّق عليها أماني، والأمَاني رأسُ أموال المفلِسين، أو يدخلونَ عليك رعبًا وخوفًا فتصاب بالهموم والأحزان.
يا أخي، الجَأ إلى ربِّك، اسأل ربَّك من فضله وكرمه، خذ بالأسباب النافعة التي أذِن الله لك بتعاطيها، الجَأ إلى ربِّك وفوِّض أمرك إلى ربِّك، واسأله العفوَ والعافية في الدنيا والآخرة، يقول نبيّنا لعمّه العبّاس: ((يا عم، سلِ الله العافيةَ؛ فما أعطِي أحدٌ بعد اليقين خيرًا من العافية)) [1] ، فاسألِ الله العافيةَ في الدّين والبدن، كان من دعاءِ نبيّكم : ((اللهمَّ إنّي أسألك العفوَ والعافيةَ في الدّنيا والآخرة. أسألك ـ يا ربِّ ـ العافيةَ في ديني وبدني وأهلي ومالي. اللهمَّ استر عورتي، وأمِّن روعتي، واحفظني من بين يديّ ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي، أعوذُ بعظمتك أن أغتال من تحتي)) [2] ، وفي الدّعاء المأثور: ((اللهمَّ إني أعوذ بك من جهدِ البلاء ودرَك الشقاء وشماتَة الأعداء وسوءِ القضاء)) [3] ، ((اللهمّ إنّي أعوذ بك من زوال نعمتك ومِن تحوُّل عافيتك ومن فجاءة نقمتِك)) [4].
أيّها المسلم، فالاتِّصال بأولئك ومحادثتُهم ومحاولة استكشافِ ما عندَهم هذا كلُّه من الجهل، كلّه من الخطأ، كلّه من ضَعف الإيمان وقلّة اليقين، أن تظنَّ بأولئك الضالّين خيرًا، أو تحسنَ الظنّ بهم، أو تظنّ أنّ عندهم علمَ الغيب، حُجب علمُ الغيب عن أنبياء الله وخير خلق الله، أفيكون عندَ أولئك خير؟! إنّ أولئك ليسوا بعلماء، وليسوا بأهلِ علم وفضلٍ، ولكنّهم أهل دجل وكذب، استطاعوا بكذبِهم وبهرجهم أن يخدَعوا عقولَ بعض الناس، فيزعمون أنّهم يحدِّدون مستقبلَهم، ويعلمونهم بما سيأتيهم، وكلّ هذا من الخطأ، هذه الأمورُ استأثر الله بعلمها، قَدْ جَعَلَ ?للَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً [الطلاق:3]، في الحديث: ((لن تموتَ نفسٌ حتّى تستكملَ رزقها وأجلَها)) [5] ، فالأرزاق والآجالُ علمُها عند الله، إذا بلَغ الجنينُ في بطنِ أمّه أربعةَ أشهر جاءَ الملك فكتَب رزقَه وأجلَه وعمله وشقيّ أم سعيد، كلّ ذلك مكتوب، وَعِندَهُ أُمُّ ?لْكِتَـ?بِ [الرعد:39]، لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَلاَ فِى ?لأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مُّبِينٍ [سبأ:3]، فما بالُنا ندَع الالتجاءَ إلى الله ونتّكل على أولئك الكهان وتوقّعاتهم السيّئة؟! وإن كانوا يدّعون أنهم أهلُ حضارةٍ وعِلم، لكِن الكهانةُ في أولئك كثيرة، فلا تثق بهم، ولا تطمئنّ إليهم، ولا تحاول سؤالَهم ولا استطلاعَ ما وراءهم. كن واثقًا بربِّك متَّكلا عليه معتمِدًا عليه مفوِّضًا أمورَك إليه، وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ بَصِيرٌ بِ?لْعِبَادِ [غافر:44].
واعلموا ـ رحِمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمَّ عن خلفائه الراشدين...
[1] هذا النص مركّب من حديثين، الأول: حديث العباس رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله، علمني شيئا أدعو به، فقال: ((سل الله العفو والعافية)) ، قال: ثم أتيته مرة أخرى فقلت: يا رسول الله، علمني شيئا أدعو به، قال: فقال: ((يا عباس، يا عم رسول الله ، سل الله العافيةَ في الدنيا والآخرة)) ، أخرجه أحمد (1/209)، والبخاري في الأدب المفرد (726)، والترمذي في الدعوات (3514)، وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح"، وصححه الضياء في المختارة (8/378-380)، والألباني في صحيح سنن الترمذي (2790). والثاني: حديث أبي بكر رضي الله عنه قال: قام رسول الله عامَ الأوّل على المنبر ثم بكى فقال: ((اسألوا الله العفو والعافية؛ فإنّ أحدا لم يعطَ بعد اليقين خيرا من العافية)) ، أخرجه أحمد (1/3)، والترمذي في الدعوات، باب: في دعاء النبي (3558) واللفظ له، والنسائي في عمل اليوم والليلة (882)، وابن ماجة في الدعاء، باب: الدعاء بالعفو والعافية (3849)، والبزار (75)، والطيالسي (5)، والحميدي (7)، وأبو يعلى (121)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه الضياء المقدسي في المختارة (1/156)، والألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3104).
[2] أخرجه أحمد (2/25)، والبخاري في الأدب المفرد (1200)، وأبو داود في الأدب (5074)، والنسائي في الكبرى (10401)، وابن ماجه في الدعاء (3871)، والطبراني في الكبير (10/343) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه، وصححه ابن حبان (961)، والحاكم (1902)، وهو في صحيح الترغيب والترهيب (659).
[3] أخرجه البخاري في الدعوات (6347)، ومسلم في الذكر (2707) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله يتعوّذ من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء.
[4] أخرجه مسلم في الذكر (2739) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[5] أخرجه البزار (2914) من حديث حذيفة رضي الله عنه بنحوه، وقال المنذري في الترغيب (2/340): "رواته ثقات إلا قدامة بن زائدة بن قدامة، فإنه لا يحضرني فيه جرح ولا تعديل"، وقال نحوه الهيثمي في المجمع (4/71)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1702). وفي الباب عن جابر رضي الله عنه، أخرجه ابن ماجه في التجارات (2144)، والطبراني في الأوسط (9074)، والقضاعي في مسند الشهاب (1152)، وصححه ابن حبان (3239، 3241)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (1743). وعن أبي أمامة رضي الله عنه، أخرجه الطبراني في الكبير (8/166)، وأبو نعيم في الحلية (10/27)، قال الهيثمي في المجمع (4/72): "فيه عفير بن معدان، وهو ضعيف". وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (1151)، وعزاه الحافظ في الفتح (1/20) لابن أبي الدنيا في القناعة، وقال: "صححه الحاكم".
(1/2721)
بين التوكل والتواكل
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
4/5/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تقوى الله والتوكل عليه فرج من الهموم والكروب. 2- الفرق بين التوكل والتواكل. 3- أخذ النبي بالأسباب مع توكله على الله. 4- حديث ابن عباس: ((احفظ الله يحفظك)). 5- المؤمن يتوكل على الله في سائر أحواله. 6- بعض جرائم اليهود في القدس المسلمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فيقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ?للَّهَ بَـ?لِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ?للَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً [الطلاق:2، 3]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، هاتان الآيتان الكريمتان من سورة الطلاق، وهي مدنية، ولهما سبب نزول، فقد ذكرت كتب التفسير بأن رجلاً من قبيلة أشجع، كان فقير الحال وكان كثير العيال، وأن ابناً له قد وقع في الأسر بيد المشركين، فأتى النبيَ صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إن ابني أسره العدو، وجزعت عليه أمه، فما تأمرني؟ فقال له عليه الصلاة والسلام: ((اتق الله واصبر، وأكثر من قولك: لا حول ولا قوة إلا بالله)) [1].
ولم تلبث مدة وجيزة حتى تمكن الابن من الانفلات من الأسر، وفي طريقه آتى على غنم سباها من الأعداء، فنزلت هاتان الآيتان الكريمتان من سورة الطلاق، لتوضح أن من يتوكل على الله حقَّ توكله، فإنه يكفيه ما أهمه وما أغمه، وما يحتاج إليه.
أيها المسلمون، إن التوكل على الله رب العالمين من أعظم ثمار الإيمان، وأهم أسباب العزة والطمأنينة لدى الأنام، وقد ورد التوكل في القرآن الكريم في سبعة وستين موضعاً، لبيان أهميته، وما من آية ورد فيها التوكل إلا واقترن بالإيمان، فيقول سبحانه وتعالى في سورة آل عمران وفي سورة إبراهيم أيضاً: وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُون [التغابن:13]، وفي سورة المائدة: وَعَلَى ?للَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة:23]، وفي سورة التغابن: وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُو.
أيها المسلمون، لذا كان التوكل على الله عز وجل جزءاً من عقيدة المؤمن بالله رب العالمين، والفهم الحقيقي للتوكل يحتم أن نؤمن بأنه طاعة لله والقيام بالأسباب المطلوبة بأي عمل من الأعمال، وقد يظن البعض ويتوهمون أن التوكل ترك العمل وعدم الأخذ بالأسباب، وهذا ظن خاطئ، ولا يقول به إلا الجهلة في أمور العقيدة والتوحيد، فإن ديننا الإسلامي العظيم قد أثنى على المتوكلين العاملين، فالتوكل مقره الخيط المتعلق بالله عز وجل، والعمل منوط بالجوارح، وشؤون الدنيا هي وسيلة لا غاية، لذى نقول: اللهم لا تجعل الدنيا في قلوبنا، واجعلها في أيدينا.
أيها المسلمون، إن رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم كان وباستمرار يأخذ بالأسباب المادية المطلوبة، فعلى سبيل المثال، ما حصل في معركة الأحزاب، فبعد أن أعد العدة توجه إلى الله رب العالمين بالدعاء قائلاً: ((اللهم منزل الكتاب، ومجريَ السحاب، وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم)) [2].
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم على ناقة فقال: يا رسول الله أرخي لناقتي وأتوكل؟ أي أتركها بدون عقال وأتوكل؟ فماذا كان جواب الرسول عليه الصلاة والسلام؟ ((اعقلها وتوكل)) [3] ، أي اربطها ثم توكل على الله.
أيها المسلمون، هناك فرق شاسع بين التوكل والتواكل، فالتوكل هو العمل والأخذ بالأسباب، والاعتماد على الله عز وجل، أما التواكل فهو الكسل والاعتماد على الغير وعدم الإنتاج، وعدم الأخذ بالأسباب، فالله سبحانه وتعالى يقول: وَقُلِ ?عْمَلُواْ فَسَيَرَى ?للَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَ?لْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105].
وقد طبق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مفهوم التوكل عملياً، ولاحق المتواكلين الكسالى، الذين لا يعملون، والذين يعتمدون على غيرهم، فمن أقواله رضي الله عنه: (أرى الرجل، فيعجبني، فإن قيل: لا حرفة له سقط من عيني)، فالرجل العاطل عن العمل يكون محتقراً في نظر أمير المؤمنين.
وشاهد عمر بن الخطاب أناساً يتعبدون في المساجد ولا يعملون، فسألهم عن عملهم فقالوا: نحن متوكلون، فقال لهم: لا، أنتم متواكلون، وبادرهم بالدرة. أي بالعصا التي يحملها، ثم قال: المتوكل هو الذي يلقي حبه في الأرض ويتوكل على الله، أي الذي يعمل ثم يتوكل على الله.
أيها المسلمون، ثم نقول للذين يخافون على أرزاقهم، ولا يتوكلون على الله، نقول للعمال الذين يتخلفون عن صلاة الجمعة، لأن رب العمل يرفض له السماح بأداء صلاة الجمعة، ويلزمهم العمل، نقول لهم: أين التوكل على الله؟، إنهم يدَّعون فيقولون: إذا أتينا إلى صلاة الجمعة فإن رب العمل يفصلنا، نقول لهم ما ورد في سورة الطلاق: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ?للَّهَ بَـ?لِغُ أَمْرِهِ [الطلاق:2، 3]، فهل نترك كلام الله ونتمسك بكلام العباد.
ونؤكد بأن التذمر التضجر والتأفف حين البحث عن العمل ليس من التوكل على الله، ونقول للتجار ولأصحاب الأملاك: إن التوكل على الله هو الرأفة والرحمة بالناس وعدم استغلالهم، ونقول للموظفين وللمستخدَمين: إن التوكل على الله هو الإخلاص في العمل المشروع، والقيام بالواجب الملقى على عواتقهم، دون محاباة، دون تزلف، دون تخوف، فالله عز وجل بيده الرزق ويتكفل الدفاع عن المسلمين، والمسلم الصادق يجب عليه أن يتوكل على الله وحده.
أخي المسلم، عليك أن تحفظ هذا الحديث النبوي الشريف، وأن تكرره باستمرار، عن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: ((يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) [4] ، وفي رواية أخرى: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك بالشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)) [5] صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتوكل أخي المسلم على الله الحي الذي لا يموت، وسيكون الله معك أينما توجهت وأينما حللت، جاء في الحديث الشريف: ((من قال حين يخرج من بيته: بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كُفيت ووُقيت، وتنحى عنه الشيطان)) [6] صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[1] عزاه الحافظ ابن حجر في الإصابة (3/11) إلى ابن مردويه في التفسير.
[2] رواه البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد، من حديث عبد الله بن أوفى (2744)، ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد والسير (3267).
[3] رواه الترمذي من حديث أنس (2441)، وقد حسنه الألباني في صحيح الترمذي (2044).
[4] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2516)، وهو عند أحمد أيضا (4/409-410) [2669]، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461). "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة.. وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
[5] الرواية أخرجها أحمد (5/18-19) [2803]، والحاكم (3/623)، والضياء في المختارة (10/24)، وصححها القرطبي في تفسيره (6/398).
[6] رواه الترمذي في سننه من حديث أنس بن مالك (3348)، ونحوه عند أبي داود في سننه (3321).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله، له الحمد في الدنيا والآخرة، له الحكم وإليه ترجعون، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاة وسلام دائمين إلى يوم الدين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، يا أبناء ارض الإسراء والمعراج، في الوقت الذي يعلن فيه عن ما يسمى بالهدنة ووقف إطلاق النار، تقوم السلطات الإسرائيلية بالاغتيال وهدم المنازل بالإضافة إلى الأمور الآتية:
المصادقة على بناء آلاف الشقق الاستيطانية في مدينة القدس وما حولها، وبخاصة في الجهتين الجنوبية والشرقية، وهو ما أعلن عنه من خلال أجهزة الإعلام، وذلك لخنق هذه المدينة من جميع الجهات.
مصادر أربعة عشر ألف دونم من أراضي بيت إكسا المحاذية لمدينة القدس، وهذا ما أعلن عنه من خلال أجهزة الإعلام أيضاً، وذلك لإقامة مستوطنة جديدة.
تجريف عشرات الآلاف من الدنمات التي تخص القرى الأمامية، وحرمان المواطنين من الوصول إلى أراضيهم، نتيجة إقامة ما يسمى بالجدار الواقي.
أيها المسلمون، بالرغم من معارضة المجتمع الدولي لهذه المصادرت، إلا أن هذه المعارضة هي معارضة شكلية غير مؤثرة وغير فعالة، ولا يوجد أي ضغط على الحكومة الإسرائيلية لوقف أعمال المصادرات وإقامة المستوطنات.
وإن حكم الإسلام في ذلك واضح وصريح، فإن ما يُبنى على الأرض المغتصبة يكون باطلاً، وإن ما يُبنى على الباطل فهو باطل، وإن الاعتداء على الأرض لا يعطي شرعية للبناء.
أيها المسلمون، وأما رابعاً وأخيراً بشأن المسجد الأقصى المبارك والسياحة لغير المسلمين به، فقد أصدرت الهيئة الإسلامية العليا ومجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات في القدس قبل يومين بياناً موحداً، بتوقيع كل من الهيئة الإسلامية ومجلس الأوقاف، وما أذيع عبر إذاعة الأعداء التي تقول بأن الهيئة الإسلامية لها موقف يختلف عن موقف الأوقاف، نقول: إن موقف المسلمين هو موقف واحد، ويتضمن البيان تأكيداً على المواقف الإيمانية التي تعتمد على القرار الرباني والآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة بأن الأقصى هو للمسلمين وحدهم، وأوضح البيان بأن وقف السياحة لغير المسلمين في هذه الظروف العصيبة، إنما يهدف المحافظة على حرمة المسجد الأقصى، وتجنيب الأقصى عن أي توتر محتمل، كما يهدف إلى حقن الدماء وعدم الاقتتال، وسيبقى المسلمون ـ بإذن الله ـ الحراس الأوفياء لمسجدهم المبارك ليقضى الله أمراً كان مفعولاً.
(1/2722)
شبابنا والإجازة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, الأبناء
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
11/5/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رغبة النفوس في الاستجمام والراحة. 2- نعمة الوقت والعمر. 3- ضرورة التخطيط لحفظ الأوقات. 4- ضرورة العناية بالشباب في الإجازة الصيفية. 5- خطورة الفراغ والبطالة. 6- العناية بتحصين مدارك الشباب. 7- ضرورة تيسير سبل الزواج. 8- وجوب تعاون جميع الجهات للحفاظ على الشباب. 9- الإشادة بالشباب المستقيم. 10- التحذير من السفر إلى الأماكن الموبوءة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسي بجماع الخير وملاكِ البرّ، وصيّةِ الله للأوّلين والآخرين وخير ذخرٍ للمؤمنين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131]. ومَن كان من أهل التّقى نال الجنانَ العُلا وفاز وارتقى.
أيّها المسلمون، في زَحمة التطلُّعات المتطاولةِ للناس، وفي ظلِّ التّواصل الكونيّ السّريع الموّاجِ بألوانِ السّلوك والطّبائع، وعلى حين فُسحةٍ مِن الوقت ووفرةٍ وانعِطافِ الرّوح إلى جِبِلَّة التبسُّط المشروع تسعى النّفوس الكالّةُ من نمطيّة الأعمال اليوميّة ورتابَة المسؤوليّات الوظيفيّة إلى البَحث عن مواطن الإخلاد إلى الهَدأة والسّكون وارتيادِ مجالَي الاعتبار والادِّكار، إجمامًا للنّفوس واستبضاعًا لقوّتها ومتناهِي نشاطِها، ولئِن كانت أعلامُ الإجازة الصيفيّة قد رفرفت وبنودُها قد خفقَت وتفاوَتَ النّاس في اغتنامِ هذه الفرصةِ الذهبيّة بين ظالمٍ لنفسه وهم كثير ومقتصدٍ وسابِق بالخيرات بإذن الله، فجديرٌ أيّما جدارةٍ بالمسلم الضَّنين بدينِه الشَّحيح بعمره وهو يقابل برامجَ الحياة بين الفراغ والانشغال أن تستوقفَه هذه الدرَّة النفيسة من دُرَر جوامع كلمِه ، وأن تكونَ نصبَ عينَيه وملءَ روحه وشعوره، ألا وهي قوله : ((اتَّق الله حيثما كنتَ، وأتبع السيِّئةَ الحسنة تمحُها، وخالقِ الناسَ بخلُقٍ حسن)) خرّجه الترمذي وغيره بسند صحيح [1].
معاشرَ المسلمين، نِعَم الله على عباده لا تُعدُّ ولا تُحصى، وآلاؤه التي أفاضَها عليهم ـ شكرَها من شكرَها وغَفل عنها من غَفل ـ لا تُحَدّ ولا تُستقصَى، وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].
ومِن أصول هذه النّعم العُظمى نعمة الوقتِ والعمُر والزّمان، وهذه الكلماتُ التي طاش ميزانها عندَ كثير من النّاس هي التي أغلى الإسلام قيمتَها وثنى الأعناقَ السّادرة إلى أهميَّتها، يقول جلّ شأنه: وَجَعَلْنَا ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ ءايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءايَةَ ?لَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءايَةَ ?لنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ?لسِّنِينَ وَ?لْحِسَابَ [الإسراء:12]، وما قَسَمُه سبحانه بأجزاءٍ من الزّمن إلا للفتِ الأنظار ونَهنَهة الأفكار لما اشتملت عليه مِن المنافع والآثار، كالفجر والضّحى والليل والنّهار والعصر.
وفي ذلك كلِّه دلالة واضحةٌ على أن لا شيءَ أنفس من الأعمار، ومَن أضاع وقتَه وتركه نهبَ العوادي كان كمَن بدّد عمرَه، فأفنى دنياه وخسِر آخرتَه، فلا أملاً حقَّق ولا حياةً حفِظ، وندِم حيث لاتَ ساعةَ مندَم، وتمنّى ساعةَ احتضاره ـ وربّما كانت في إقبال عُمُره لا إدباره ـ أن يؤخَّر حتّى يصلِح ما ثَلَم ويرتُقَ ما فتق، وأنّى له ذلك؟! حَتَّى? إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ ?لْمَوْتُ قَالَ رَبّ ?رْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـ?لِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ [المؤمنون:99، 100].
ويُعظم هذا الجللَ مَن يجمع إلى ذلك السطوَ على أوقاتِ الآخرين بالتُّرَّهات والسفاسف، يقول : ((نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النّاس: الصّحّة والفراغ)) أخرجه البخاريّ مِن حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما [2].
إخوةَ الإيمان، وممَّا يعين المسلمَ على صيانة وقتِه من الانسراب وحِفظِ عمره من البَعثرة والإهدار والخراب رسمُ خطّة عمليّةٍ تستغرق كلَّ أوقاتِه، مراعيًا الضرورات والحاجيّات والتحسينيّات، قاصدًا إلى مداراتِ الكمال، قاطعًا لنزعات النّفس اللّجوج، داحرًا لنزغات الشّيطان أن تثبّطَه، ومِن بدائع الإمام الشافعيّ التربويّة الحِكَميَّة قولُه رحمه الله: "إذا لم تشغل بفسَك بالحقّ شغلتك بالباطل".
ومَن اتَّخذ مِن حفظِ الوقت أساسًا ومِن اليقظة والاجتهاد نِبراسًا نال الرِّغاب، وولج رياضَ الحقّ والخير والصّلاح مِن أرحب باب، وقد وَرَد في مأثور الحِكم عن بعضِ السّلف رحمهم الله قوله: "مَن أمضى يومَه في غير حقّ قضّاه أو فرضٍ أدّاه أو مَجد أثَّله أو حمدٍ حصَّله أو خير أسَّسه أو علمٍ اقتبسَه فقد عقَّ يومَه وظلم نفسَه" [3].
فهذه إجازتُكم عبادَ الله، فاعمروها ولا تعبروها، اعمروها بالطّاعات، واحذَروا الغفلات المُهلكات. وها هي موارد الخير وميادينُ التّنافس مُشرَعَة كثيرة بحمد الله.
تلكم ـ يا رعاكم الله ـ شَذرة عن نفاسةِ الوقتِ وأهمّيَّته في حياة الفرد والمجتمع والأمّة، ونظرةٌ لما يمثِّله مِن مقياسٍ لارتقاء المجتمعاتِ في معارج الحضارة والعَطاء وسُلَّم الرقيِّ والمجد والنّماء. تلك المجتمعاتُ التي تتعامل مع الأحداث وتداعياتها بالدّقائق والثواني، لا بالتّهاون والتّواني.
إخوةَ العقيدة، ونعطِف بكم ـ يا رعاكم الله ـ لحديثٍ ذي صِلةٍ وثيقة بهذه الإجازة الصيفيّة، ألا وهي الحديث عن شريحة مهمّةٍ من شرائح المجتمَع، وفئة عزيزة غاليةٍ في الأمّة وهم شبابُها ونشؤها وجيلها، وضرورة العناية بتحصينِهم والاهتمام بهم، لا سيّما في أوقات الإجازات، بعدما أفرَزت الأحداث الأخيرة انخداعَ بعض شباب المجتمع بأفكار منحرفةٍ تفسد عقولَهم وتخِلّ بأمن بلادِهم، ممَّا يؤكّد ضرورةَ استثمار أوقاتِ الشّباب وملءِ وقت فراغهم بالبرامج النّافعة التي تعود عليهم وعلى مجتمعِهم بالنّفع في أمور دينهم ودنياهم، وتحذيرهم من مجالسة أصحابِ الأفكار المنحرفة أو السّفر إلى بقاع موبوءة، كما يحتِّم على أولياء أمورهم متابعةَ تحرُّكاتهم، ومراقبة تصرُّفاتِهم وما يطرأ عليها من جنوحٍ أو تغيير، بإيجاد آليّة للحوار البنَّاء معهم الممزوجِ بحدب وحنانِ الأبوّة، وفقًا للضّوابط الشرعيّة والإمكانات الاجتماعيّة والأسريّة.
أمّةَ الإسلام، إنّه نتيجةً للفراغ المستبدّ بكثير مِن أطياف المجتمَع وفئامِ الأمة وغياب الرّقابة الأسريّة ظهَرت انحرافات فكريّةٌ مقلِقة، أحدقت بالشّباب، وعصفت بكثيرٍ منهم في بيداء المسكِرات ومستنقعاتِ المخدِّرات واقتراف الجريمة، في لونٍ من ألوانِ التّغريب والتفلُّت من القيَم والثّوابت، وانسياقٍ محموم وراء شعاراتِ التقليد والتبعيّة بدعوى الحريّة والمدنيّة، واللّهث خلفَ سراب انفتاحٍ غير منضبط وعولمةٍ ثقافيّة مفضوحة. واستحوذَ على طائفةٍ أخرى الانحراف الفكريُّ الذريع، فعمدوا إلى الغلوّ والعنف والإرهاب، حتّى غدَوا كالدّاء العُياء في جسدِ الأمّة، وكالسّم الزّعاف في مطعمِها المَريء، بل وصل الإجرام ذِروتَه بتفخيخ المصاحف واستخدامِ المساجد عياذًا بالله. وممَّا زادَ الأمرَ ضغثًا على إبالَة الإرهابُ والإلحادُ في حِمى الحرمَين الشريفين حرسهما الله وأدام أمنهما. وإذا التاثت فطرةُ الشخص وبات صاحبُها مصدرَ عدوان وخلخلةٍ لأمن مجتمعه وزعزعةٍ لاستقراره الذي قابَل عدلَه بالظّلم وإصلاحَه بالفساد فلا غروَ أن يلقى جزاءَ الشّرع فيه، تحصينًا للمجتمع وأفراده مِن الجريمة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولولا العقوبةُ التي فرضها الله على الجُناة والمفسدين لأهلك الناسُ بعضهم بعضًا، وهي لا تتمّ إلا بمؤلمٍ يردعهم، ويجعل الجانيَ نكالاً وعِظةً لمن يُريد أن يفعلَ مثلَ فعله".
يُساقُ ذلك ـ أيها المسلمون ـ بعد أن ضربتِ الفتنة بكلكَلِها المظلِم، فأسفرت عن الفواجع والجرائم والدواهي والعظائم التي قطّعت الأكبادَ وبخعتِ النّفوسَ وأدرّت ماءَ الشّجون، فنحورُنا منها بدموعِنا تتخضَّب. ومِن الأسَى العميق أن كان وقودها شبابًا أغرارًا، ممّا أهاج الغيورَ إلى القول بوجوب تحصين المجتمع بالأمن الفكريّ، وفي المقام الأعلى فئة الشّباب؛ لأنّهم الصّياصي الشاهقة للأمّة وحصونُها المنيعة، ولأنّ مرحلة الشباب كما أنّها من أبهى وأزهى مراحل العُمُر فهي مِن أخطرها وأمضاها كذلك.
وممَّا يجب الاهتمامُ به وإيلاؤه أوفرَ العناية في هذه الآونة العصيبة تحصينُ مدارك الشّباب وثقافاتهم بأحكامِ الحدود الشرعيّة، كتحريم قتل النفس المعصومة وحكمِ الاعتداء على المعاهدين وأهلِ الذمّة وخطورة أمرِ التّكفير وإطلاق الأحكام جُزافًا ومفاهيم الجهادِ الشرعيّ وعدم الخلطِ بينه وبين ما يُظَنّ منه من صُوَر الإفساد في الأرض وحكمِ ترويع الآمنين وانتهاك حرماتِهم وسلب أموالهم وحكمِ المخدِّرات وشربها وتعاطيها وترويجها، حمايةً لهم ولمجتمعاتِهم وأمّتهم من أَنصاف المتعلِّمين وسهام المغرضين وشِباك الخصوم الحاقدين.
وممَّا يعين على تحصين الشّباب ويُعَدّ من القضايا الاجتماعيّة المهمّة التي تُطلُّ بهامتِها في الإجازةِ الصيفيّة وتُسهِم انحراف الشّباب وزعزعة استقرارهم النّفسيّ والاجتماعيّ ما يتعلّق بموضوع الزّواج وما أُحيط به من عقباتٍ كأداء كغلاءِ المهور والتكاليف والسّهر إلى هزيعٍ مِن الليل والإسراف والتّباهي بالمظاهر البرّاقة، مع التمسُّك بالموروثات البائِدة ممّا لا يقرّه شرع ولا يقبله عقلٌ ولا منطِق، فالزّواج بلا ريب مدعاةٌ للمسؤولية والاتّزان، وكابحٌ لعنان الشّباب النَّزِق.
كذلك صيانتُهم من صُوَر التحلّل الأخلاقيّ كالدّعة والتّرف والمُيُوعة والارتماء على قارعةِ الأرصِفة والطّرقات وذرع المقاهي والشّوارع والتسكُّع في الأسواقِ كمَهَل النّعَم دونَ أزِمّة أو خُطُم، وترك الحبل على الغارب لهم في مشاهدةِ سموم وعَفَن الفضائيّات والاطّلاع على فضائح وقبائِح شبكاتِ المعلومات دون حسيبٍ ولا رقيب، سواءٌ الفتيان والفتيات، ممّا يجب تحصينُ الشّباب منه، وغيابُ الرّقابة الأسريّة عن هذا السّلوك المشين خطأٌ كبير، بل وقتّال ربَما، والله عزّ وجلّ يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]، والمصطفى عليه الصلاة والسّلام يقول: ((كلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته)) خرجه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما [4].
أمّةَ الإسلام، وبعد تشخيصِ الدّاء فإنّ وصفةَ الدواء والعلاج للجنوح الشبابيّ الفكريّ والاجتماعيّ والأخلاقيّ تصرَف عبر مؤسّسات المجتمع العلميّة والإعلاميّة كلٌّ جَهدَ طوقِه وإخلاصِه، في ظلّ الدّعوة السلفيّة المعتدِلة، والعِبء في ذلك يقع على عاتق العلماء والدّعاة ورجال التّربية والإعلام وحملةِ الفكر والأقلام، انتشالاً للجيل من حَومَة التفسّخ والضّياع، وأخذًا بحُجَزهم عن الهُويِّ في سراديب الأفكار النّشاز، وإحباطًا لخُطَط الخصوم الذين يتّخذون الأحداثَ غَرضا وهدفًا لتحقيق مآربهم المشبوهة.
وبالتّوجيه الرفيق والتّرشيد اللطيف الرّقيق وتلاحُم أفرادِ الأسرة والمجتمع مع أبنائهم وفتح قنواتِ الحوار الهادئ الهادِف وتهيئة الفُرَص الوظيفيّة لهم حمايةً لهم مِن الفراغ والبطالة وتعاونِ الجهات المسؤولة مع ذوي اليَسار ورجال الأعمال واضطلاع وسائلِ الإعلام والقنوات الفضائيّة والشبكات المعلوماتيّة بدورها التربويّ في ذلك كلِّه يتحقَّق للمجتمع ما يصبو إليه من آمن واستقرارٍ ونماء وازدهار.
فإلى كلِّ أبٍ وأمّ ومُربٍّ وداعية ومعلِّمٍ وإعلاميٍّ، اللهَ اللهَ في تحصين الجيل واحتضان النشء وحِراسة الشباب من المؤثِّرات العقديّة واللوثات الفكريّة والتجاوزات السلوكية، نشِّئوهم على الحِفاظ على دينهم وصيانةِ عقيدتهم وسلامةِ أخلاقهم، عمِّقوا فيهم مفاهيمَ الولاء لدينهم والتّلاحم من ولاتِهم وعلمائِهم، وأن يكونوا أعيُنًا ساهرةً لحِفظ أمن بلادهم، مراعين في ذلك سلامةَ أسلوب الخِطاب وتوجيهه إلى العقول والمدارك، بكلّ منطِق وموضوعيّة ووضوحٍ وشفافيّة، في طرحٍ متَّزنٍ وفِكر نيِّر ونظرٍ ثاقب ورؤًى صادِقة، بعيدًا عن تشنّجات وعواصف العواطِف وقواصِم العواصم، رائدُ الجميع ذلك الإخلاص والصفاءُ وعُمق الولاء وصِدق الانتماء، وقبل ذلك وبعدَه عونُ الله وتوفيقه وفضله وتسديده، وحينئذ يسعَد الشباب ويُسعِدون، ويصلُحون ويصلِحون، ويحقِّقون لمجتمعِهم وأمّتهم ما إليه ترنو وإليه يصبون، وسنصِل وإيّاهم إلى موردٍ من الرِّيّ لا غُصَصَ فيه بإذن الله، وصمامٍ من الأمان لا خوفَ معه بتوفيق الله.
أيّها الأحبة الأكارم، وما كان بِدعًا أن نوليَ أحبّتنا الشبابَ هذا الحديثَ الممزوجَ بالألم والأمَل، وهم نشءُ الخير وعدّة الحاضِر وبسمة المستقبَل وشَذَاه العاطر، وإنَّ أمَّةً لا تولي قضايا شبابها جُلَّ اهتمامها فما هي في الحِرز الحريز، وأمّةً لا تسعى للحنُوّ والعطفِ على شبابها فليست في الذُّرى العزيز، وبالعمَل بهذه التّوجيهات المباركة يحصَّن الشباب في إجازاتِهم من لوثات الفِكر وتبديد الزّمان، وكان الله في عون المخلصين العاملين لخير دينهم وأمّتهم ومجتمعهم، إنّه خير مسؤول وأكرم مأمول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافّة المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه كان للأوّابين غفورًا.
[1] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في معاشرة الناس (1987)، والدارمي في الرقاق، باب: في حسن الخلق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن معاذ به. وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع، عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395). ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين" ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن، وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2655، 3160).
[2] صحيح البخاري: كتاب الرقاق، باب: لا عيش إلا عيش الآخرة (6412).
[3] انظر: فيض القدير (6/288).
[4] أخرجه البخاري في الجمعة، باب: الجمعة في القرى والمدن (893)، ومسلم في الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر... (1829).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، عالمِ السرِّ والخفيّات، وفَّق من شاء إلى اغتنام الأوقاتِ في الباقيات الصّالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نتضوّع بها عبيرَ الجنان الخالدات، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله خير الهداة والدّعاة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمّة الثقات، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، وليكن منكم على بالٍ أنّ سقطاتِ الشباب وعثراتِه لا تُحمَل قطعًا على العموم والشّمول، ولا تدعو إلى فَقد الثّقة والإحباط، بل يتعيّن هنا أن نذكرَ بكثير مِن الغبطة والابتهاج أنَّ الشباب المستقيم المستمسكَ بعُرى دينه السّائرَ على صراط الهدى والاعتدال هم الأكثر بحمد الله وفضلِه، ممَّا يؤكّد عدمَ الخلط بين مفاهيم الغلوّ المذموم والحرص المشروع على الالتزام بالسّنّة باطنًا وظاهرًا. وبهذا يُسَدّ الطريق أمام المرجفين والمخذِّلين ومَن يحاولون جرَّ الأحداث إلى خِدمة مآربَ مشبوهة، وقيعةً في الصالحين وسخريّة من المتديِّنين ونيلاً من مناهجنا الشرعيّة ومؤسّساتنا الاحتسابيّة، أو المساس بثوابت الأمّة وقيَم المجتمع. ولكُم في شباب هذه الدّيار المباركة وريثِي الدّعوة الإصلاحية السلفيّة المعتدلة والتفافِهم حول علمائهم وقادتهم خيرُ برهان في خير طَرَز وشامَة ومنظومة متألّقة في رغدٍ وعلوّ هامَة، منّةً من الله وفضلاً، وعند أهل الحديث: "الشاذّ يُحفَظ ولا يُقاس عليه".
أيّها المسلمون والأولياء، وجِّهوا الشبابَ إلى ميادين المجد والرّفعة، واعلموا جميعًا أنَّ الأصل في حياة المسلم الجدّ والحزم، ولا بأسَ بالترفيه المشروع والترويح المُباح في حدود الضّوابط الشرعيّة، ليعلمَ النّاس أنّ في ديننا فسحةً بحمد الله.
وممَّا يحسُن الإيصاء به تحذيرُ الأبناء من السّفر خارجَ هذه الجزيرة الفيحاء وديار الإسلام الشمَّاء التي حباها الباري جلّ في علاه بكلّ ما ترنو إليه النفوس من جمالِ الطبيعة الفتّان ومنتجعات الاصطياف العفيف، وأطرُهُم على ذلك أطرًا.
كذلك حثُّهم على تحصيل العلوم والمعارفِ والالتحاق بالدّروس العلميّة والدورات الشرعيّة والمراكز الصيفيّة التي يقوم عليها نخبةٌ وكوكبة من أهل الخير والصلاح، والاشتغال بحفظ كتابِ الله والسّنّة النبويّة العطرة، وثنيُهم إلى الانكباب على المطالعة الحرّة في كتُب السّيَر والتاريخ والآداب وغيرها، ونِعمَ الجليس والأنيس الكتاب، قيدُ الحِكَم وينبُوع المكارم، مع تشجيع ملكاتِهم وتنمية قدراتِهم وشغلِ طموحاتهم والسّعي في كلِّ ما مِن شأنه شغل أوقاتهم وإذكاء مواهبهم وطاقاتهم التي تعودُ عليهم وعلى مجتمعِهم بالنّفع والفائدة.
أيّها المسلمون، وممّا تتهلّل له سُبُحات وجوهِ المؤمنين أن يسّر الله سبحانه لكثير مِن المسلمين جعلَ زيارة الحرمَين الشريفين في أولوياتِ برامجهم الصيفيّة، وهذه منّةً عظمى، غيرَ أنّ ثمّة ملحظًا مهمًّا لزوّار المسجدِ الحرام في حثّهم على تعظيم هذا الحرَم المقدّس وهذه العرصات المباركة، والحفاظ على أمنِها واستقرارها، ولزوم السّكينة والآداب فيها، والمحافظة على طهارتها الحسيّة والمعنويّة، وتنزيهها عن كلّ المخالفات.
ونخصّ الأخواتِ المسلمات بلزوم الحجابِ الشرعيّ السابغ، واجتناب الطّيب والتبرّج بالزّينة، وامتثال الحياء والاحتشام، لتكونَ مأجورةً غير مأزورة، والله وحده وليّ التوفيق والسّداد.
هذا، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أغضَّ الكلام على التّكرار لفظًا وأنفعَه وعظًا كلامُ مَن أنزل القرآن وتولاّه من التحريف حِفظا، القائل في محكَم قيله وأصدق تنزيله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلّ وسلِّم وبارك على سيِّد الأوّلين والآخرين، وخاتم الأنبياء والمرسلين نبيّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحابته الغرِّ الميامين وأزواجِه الطاهرات أمّهات المؤمنين، والتّابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
(1/2723)
نصائح للزوجين
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا الأسرة
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
11/5/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فطرة الميل إلى السكون والاستقرار. 2- عظم الرابطة الزوجية. 3- أهمية الأسرة في المجتمع. 4- أسباب المشكلات الأسرية. 5- نصائح للزوجين. 6- كلمات للزوجة المسلمة. 7- كلمات للزوج المسلم. 8- التحذير من المعاصي والمخالفات في البيوت. 9- نصائح للمعدِّدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله وأطيعوه، فإنَّ تقواه أفضل مكتسَب، وطاعته أعلى نسب، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
أيّها المسلمون، إنَّ الله تعالى بلطيفِ حكمتِه وما أودَعَه في إبداع العالَم من عجائبِ قدرتِه خلق الإنسانَ مجبولاً إلى السّكَن والاستقرار، وطبَعَه في أصلِ خِلقته على الحاجة لذلك والاضطرار، ويسَّر له برحمتِه وفضلِه زوجًا من نفسِه ليسكنَ إليها ويرتبطَ بها؛ إذِ الإنسان لجنسِه أميَل وعليه أقبل، وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
أيّها المسلمون، الرّابطة الزوجيّة رابطةٌ عظمى، صدرت عَن رغبةٍ واختِيار، وانعقدَت عن خِبرة وسؤال وإيثار، عقدُها مأمورٌ بِه شرعًا، مستحسَن وضعًا وطبعًا، والأسرةُ هي اللبِنة الأولى لبناء المجتمعات، وبصلاحِها تصلح الأوضاع، وبفسادِها تفسد الأخلاقُ والطّباع، ركناها وقائداها زوجٌ وزوجَة، يجمَع بينهما ولاءٌ ووفاء ومودّة وصفاء وتعاطف وتلاطف ووفاق واتّفاق وآدابٌ وحُسن أخلاق، تحت سقفٍ واحد، في عِيشة هنيّة ومعاشرة مرضيّة. وفي كتاب الله وسنّة رسوله من الإصلاح التامّ والعدل العامّ ما يؤيِّد قواعدَ هذه الرابطة فلا تنثلِم، ويؤكّد عقائدَها فلا تنخَرِم.
أيّها المسلمون، إنَّ سببَ كثرةِ المشكلات وتفاقُم الخلافات وظهور المنازَعات وشُيوع الطلاق والفِراق لأسبابٍ تافهة إنّما هو التقصير في معرفة الأحكام الشرعية وآداب الحياة الزوجيّة وما تقتضِيه المسؤوليّة الأسريّة؛ إذ كيف تكون الأسرَة في هناءٍ وصفاء والزّوج ذو بذاءٍ وجفاء، إذا غضِب نفخ ونَفَث، واكفهرّ وازمجرّ، فيه حبّ الأنى والذّات، خيرُه مُقفَل وشرُه مرسل، كفٌّ يابِس ووجه عابس، ومعاملة فاسدة وأقوالٌ سافلة، تُورِث كَلْمًا لا يندمِل وصدعًا لا ينشعِب، وتترك المرأةَ حسيرةً كسيرة، حائرةً بين مُرَّين: طلبِ تطليقها أو الصبرِ على تعليقِها. وإنّ مَن الأزواج مَن إذا أبغضَ المرأةَ كدَّها وهَدَّها، وكهَرَها وظلمَها، وأكلَ مالَها ومنعَها حقَّها، وقطع نفقتَها، وربّما أخَذ ولدَها وهو تحتَ حضانتِها ورعايتِها، وتركها أسيرةَ الأحزان، تعاني كُرَب الأشجان، فأين الإحسان؟! أين الإحسانُ يا أهلَ القرآن؟!
أيّها المسلمون، وكيف يكون للأسرةِ هناءٌ وصفاء والزّوجة ولاّجة خرّاجة، ثرثارةٌ مِهذارة، طعَّانة لعّانة، لا تُجيب إلى إنصاف، ولا ترضَى بعَيش كفاف، تئنُّ عند طلبِها كسلاً تمارضًا، ولا ترضى لأمرِها مُعارضًا، مقصِّرة مفرِّطة، ومسرفة مفرِطة، كثيرة النّوم واللّوم، مَرهاء ملداء، لا كحلٌ ولا حنّاء، شَوهاء فَوهاء، تبطِل الحقَّ بالبكاء، تنسى الفضلَ وتُنكر الجميل، وتُكثِر على ذلك التّعليل والتّدليل، يقول النبي : ((اطَّلعتُ في النار فإذا أكثر أهلها النساء)) ، فقيل: لِم يا رسول الله؟ قال: ((يكفُرن العشير ـ يعني: الزوج ـ ويكفُرن الإحسان، لو أحسنتَ إلى إحداهن الدّهرَ ثمّ رأت مِنك شيئًا قالت: ما رأيتُ منك خيرًا قطّ)) أخرجه البخاري [1].
أيّها الزّوجان الكريمان، اتَّقيا الله في حياتِكما الزوجيّة، بُلاَّها بالحقوق، ولا تدمِّراها بالعُقوق، وليقُم كلّ واحدٍ منكما بما أوجبَ الله عليه تِجاه رفيق عمُره وشريك حياته، واخضعا لنصوص النّقل ومَنْطِق العقل قبل أن يستبدَّ بكما الشّقاق ويحصلَ الطلاق والفراق ويأكلَ أحدكما مِن النّدم كفَّيه ويعضَّ على يديه ويقُدَّ شعرَه ويمضغَ شفتَيه، واحتكِما لقول المولى جلّ وعلا: وَلَهُنَّ مِثْلُ ?لَّذِى عَلَيْهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، وقولِ النبيِّ : ((ألا إن لكم مِن نسائكم حقًّا، ولنسائكم عليكم حقًّا)) أخرجه الترمذي [2].
أيّها المسلمون، إنَّ من رام شريكًا للحياة بريئًا من الهفوات سليمًا من الزّلاّت فقد رام أمرًا مُعوِزًا، وطلب وصفًا معجِزًا، يقول النبيّ : ((لا يفرك مؤمنٌ مؤمنةً، إن كرِه منها خُلقًا رضيَ منها آخر)) أخرجه مسلم [3] ، ويقول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: ((أيّما امرأةٍ سألت زوجَها الطلاق من غير بأسٍ فحرامٌ عليها رائحة الجنة)) أخرجه أحمد [4].
أيّتها المرأة المسلمة والزّوجة المؤمنة، كوني لبعلك أرضًا يكن لكِ سماء، وكوني له مِهادًا يكُن لك عمادًا، وكوني له أمَة يكن لك عَبدًا، تعهَّدي وقتَ طعامِه، والزَمي الهدوءَ عند منامِه، فإنّ مرارة الجوع ملهَبَة، وتنغيصَ النوم مغضَبَة، اصحبيه بالقناعة، وعاشريه بحُسن السّمع والطّاعة، ولا تُفشي له سرًّا، ولا تعصي له أمرًا، واحذري أنواعَ التقصير، واجتنبي أسبابَ التّكدير، ولا تصومي صيامَ تطوّعٍ وزوجُك شاهد إلاّ بإذنه، ولا تأذني في بيتِه لمن يكرَه إلا بإذنِه، واعلمي أنّك أشدّ ما تكونين له إعظامًا أشدّ ما يكون لك إكرامًا، ولا تلحِفي به فيقلاك، ولا تتباعدِي عنه فينساك، واجتهدي على نفسك بما هو أدعى لرغبته وأملأ لعينِه، وليكُن ذلك وفقَ القيود الشرعيّة والآداب المرعيّة، وإذا دعاك لحاجتِه فحقِّقي رغبتَه وأجيبي دعوتَه، يقول رسول الهدى : ((إذا دعا الرجل امرأتَه إلى فراشه فأبت أن تجيبَ فبات غضبانَ عليها لعنتها الملائكة حتّى تصبح)) متفق عليه [5].
قومي بخدمتِه بنفسٍ راضية؛ فإنّ في خدمته تقويةَ مودَّة وإرساءَ محبّة، ولتكن أسماء بنتُ أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنها وعن أبيها لكِ في ذلك أسوةٌ وقدوة، تقول رضي الله عنها: تزوَّجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضحٍ وغير فرسه، فكنت أعلفُ فرسَه وأستقي الماءَ وأخرز غَربَه، وأعجن ولم أكن أحسِن أخبز، فكان يخبز لي جارات لي من الأنصار، وكنَّ نسوةَ صدق، وكنت أنقل النّوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله على رأسي، وهي منّي على ثلثَي فرسخ. أخرجه البخاري [6].
ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصفِ ما قامت به زوجه فاطمة بنتُ رسول الله ورضي عنها: إنّها جرّت بالرّحى حتى أثّرت بيدها، واستقت بالقربة حتّى أثّرت في نحرها، وقمّت البيتَ حتّى اغبرّت ثيابها، وأوقدت القِدر حتّى دكِنت ثيابُها. أخرجه أبو داود [7].
وحسبُ المرأةِ طوبَى وبشرَى قولُ الصّادق المصدوق : ((أيّما امرأةٍ ماتت وزوجُها راضٍ عنها دخلت الجنّة)) أخرجه الترمذي [8] ، وقوله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: ((إذا صلّت المرأة خمسَها وصامت شهرَها وحفظت فرجَها وأطاعت زوجَها قيل لها: ادخلي الجنةَ من أيّ أبواب الجنّة شئتِ)) أخرجه ابن حبان [9].
أيّها الزوج الكريم، اتّق الله في زوجك، لا تكلِّفها ما لا تطيق، وأعِنها عند الضِّيق، وأشفِق عليها إذا تعِبت، ودارِها إذا مرِضت، وراعِها عندَ ظرفِ حملِها ونفاسها ورضاعها، وأجزِل لها الشّكر، وتلقّاها ببرٍّ وبِشر، واعلَم أنَّ قوامتَك لا تعني القهرَ والغلبةَ والاستبداد والاحتقار، بل هي قوامة تحفَظ لها كرامتَها، وتستوجب تعليمَها وتأديبها وإعفافها، ولا يكن جلَّ همِّك مراقبة أخطائها وإحصاءُ زلاّتها، ولا تبالِغ في إساءة ظنٍّ بلا ريبَة، ولا تتغاضَ عمَّا يُخلُّ بالدّين والمروءة، واحذَر شكًّا قاتِلاً وظنًّا مدمِّرًا، يقول النبيّ : ((غَيرتان: إحداهما يحبُّها الله، والأخرى يبغِضها الله. الغيرةُ في الرّيبة يحبّها الله، والغيرة في غيره يبغضها الله)) أخرجه أحمد [10].
أيّها الزوجُ الكريم، إيّاك والمعاتبةَ الكثيرة، فإنّها تورث الضّغينة، ولا تمنَع أهلَك رِفدَك فيملّوا قربَك، ويكرَهوا حياتَك، ويستبطِئوا وفاتَك، يقول النبي : ((كفى بالمرء إثمًا أن يضيِّع من يقوت)) أخرجه أبو داود [11].
كُن جوادًا كريمًا، فمَن جاد ساد، ومن أضعَف ازدَاد، ولا خيرَ في السّرف، ولا سَرَف في الخير، وعاشروهن بالمعروف، أطعموهنّ واكسوهنّ، أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ [الطلاق:6]، لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ ?للَّهُ لاَ يُكَلّفُ ?للَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا ءاتَاهَا سَيَجْعَلُ ?للَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:7]، يقول رسول الله : ((اتَّقوا اللهَ في النّساء، فإنّكم أخذتموهنّ بأمانةِ الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمةِ الله، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوَتهنّ بالمعروف)) أخرجه مسلم [12] ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((إذا أنفقَ الرجل على أهله نفقةً يحتسبُها فهي له صدقة)) متفق عليه [13].
أيّها المسلمون، لقد كان سيّدُ الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام جميلَ العشرة، دائمَ البِشر مع أهله، يتلطَّف معهنّ، ويضاحكهنّ ويداعبهنّ، ويقول بأبي هو وأمّي صلوات الله وسلامه عليه: ((خيركم خيرُكم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) [14] ، ويقول : ((أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلَقًا، وخياركم خيارُكم لنسائهم)) أخرجه البخاري [15] ، ويقول عليه الصلاة والسلام حاثًّا وآمرًا: ((استوصوا بالنّساء خيرًا)) أخرجه البخاري [16].
أيّها الأزواج، لا تتجاوَزوا ما شرَع الله لكم من الضّرب غيرِ المبرِّح حالَ النشوز إلى ما حرّم عليكم من الضّرب المفظع والاعتداءِ الموجِع والجَلد المروِّع، فإنّ عواقبَه وخيمة وأضراره جسيمة، وفي البخاريّ أنّ النبيَّ قال: ((لا يجلِد أحدكم امرأتَه جلدَ العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم)) [17].
لقد تجاوَز رجالٌ على عهدِ رسول الله ، فطاف النّساء بآلِ رسول الله يشتكين الضربَ من أزواجهنّ، فقال رسول الله : ((لقد طاف بآل محمّدٍ نساء كثير يشتكين مِن أزواجهن، ليس أولئك بخياركم)) أخرجه أبو داود [18] ، وعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه أنَّ رسول الله قال: ((ولا تضربِ الوجهَ ولا تقبِّح)) أخرجه أحمد [19] ، فويل للظالم، ويل للظالم يوم اقتصاصِ المظالم.
أيّها الأزواج، إنَّ السهرَ والسمَر خارجَ المنزل من مثيرات القلق والأرق، ينغِّص على الزّوجة حياتَها، ويزعزع ويزلزل استقرارَها، ويَضيع بسببه الأولاد فلذةُ الأكباد وثمرة الفؤاد، حتّى يصيروا فريسةً لوحوش الظلام وفتنِ هذا الزّمان، فاحذروا هذا السهرَ واجتنبوه ولا تقربوه.
أيّها المسلمون، إنّ ظهورَ المعاصي والمخالفات وانتشارَ المنكرات في كثير من البيوتات من أعظم أسباب خرابِها ودمارها، ولقد دبَّ الشّقاء والشقاق وثارَت ثائرة الغيرة واشتعلت نيران الشكّ والحيرة بين كثير من الأزواج بسبب طبَق القنوات الخطرِ المحدِق والشرّ المطبق، فحين رأى غيرَها ورأت غيرَه رغِب عنها وزهدت فيه، وَمَا ظَلَمَهُمُ ?للَّهُ وَلَـ?كِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:117]، نعوذ بالله من الخزيِ والعار ومن فعل يقرِّب إلى النار.
فاتّقوا الله عبادَ الله، وطهِّروا بيوتكم ممّا يستوجب اللعنةَ والطرد والإبعاد، قُل إِنَّ ?للَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ [الرعد:27].
أيّها المسلمون، ألا فلتذهبِ المرأةُ مربيةَ أجيال برقِّة طَبع ولطافة حسّ وذكاءِ عاطفة، وليذهَبِ الرجل قوّامًا وقائدًا بقوّةِ بأس وجلالة فِكر وسلامة تقدير وتدبير، وليذهبِ الاثنان إلى حياةٍ كريمة في ظلِّ تمسّك بالدين وفعلٍ للواجبات واجتنابٍ للمحرمات وتعاونٍ على البر والتقوى، و((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلّى، ثمّ أيقظ امرأته فصلّت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحِم الله امرأةً قامت من الليل فصلّت، ثمّ أيقظت زوجها فصلّى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)) [20].
وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَ?تَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَـ?نٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَـ?هُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء كُلُّ ?مْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ [الطور:21].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (29) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه، وأخرجه أيضا مسلم في الكسوف (907).
[2] سنن الترمذي: كتاب الرضاع (1163) من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى (9169)، وابن ماجه في النكاح (1851)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (929، 2464).
[3] صحيح مسلم: كتاب الرضاع، باب: الوصية بالنساء (1469) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] مسند أحمد (5/277، 283) عن ثوبان رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أبو داود في الطلاق (2226)، والترمذي في الطلاق (1187)، وابن ماجه في الطلاق (2055)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (748)، وابن خزيمة كما في الفتح (9/410)، وابن حبان (4184)، وانظر تخريجه في الإرواء (2035).
[5] صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق (3237)، صحيح مسلم: كتاب النكاح (1436) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] صحيح البخاري: كتاب النكاح (5224)، وأخرجه أيضا مسلم في السلام (2182).
[7] سنن أبي داود: كتاب الأدب (5062)، وأخرجه أيضا أبو نعيم في الحلية (1/70، 2/41)، وأورده الألباني في ضعيف سنن أبي داود (1075).
[8] سنن الترمذي: كتاب الرضاع، باب: ما جاء في حق الزوج على المرأة (1161)، وأخرجه أيضا ابن ماجه في النكاح، باب: حق الزوج على المرأة (1854)، وأبو يعلى (6603)، والطبراني في الكبير (23/374)، والحاكم (4/173) من طريق مساور الحميري عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها، ومساور هذا وأمّه مجهولان، قال الذهبي في الميزان (4/95): "مساور الحميري عن أمه عن أم سلمة فيه جهالة، والخبر منكر"، ولذا ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1426).
[9] صحيح ابن حبان (4163) من طريق هدبة عن عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط (4598)، وقال ابن حبان: "تفرد بهذا الحديث عبد الملك بن عمير من حديث أبي سلمة، وما رواه عن عبد الملك إلا هدبة بن المنهال وهو شيخ أهوازي". وله شاهد من حديث عبد الرحمن بن عوف، أخرجه أحمد (1/191)، والطبراني في الأوسط (8805)، قال المنذري في الترغيب (2/671): "رواته رواة الصحيح خلا ابن لهيعة، وحديثه حسن في المتابعات". وفي الباب عن أنس عند أبي نعيم في الحليلة (6/308)، وعن عبد الرحمن بن حسنة عزاه الهيثمي في المجمع (4/306) إلى الطبراني، وقد حسنه الألباني في آداب الرفاف (ص286).
[10] مسند أحمد (4/154) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وأخرجه أيضا معمر في جامعه (10/409 ـ المصنف ـ)، والروياني (186)، والطبراني في الكبير (17/340)، وصححه ابن خزيمة (2478)، والحاكم (1525)، وقال الهيثمي في المجمع (4/329): "رجاله ثقات"، وأعله الألباني في السلسلة الضعيفة (3962) بجهالة أحد رواته.
[11] سنن أبي داود: كتاب الزكاة (1692) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أحمد (2/160، 193، 194، 195)، والنسائي في الكبرى (9177)، والبزار (2415)، والطبراني في الأوسط (4354، 5155)، والبيهقي في الكبرى (7/467، 9/25)، وصححه ابن حبان (4240)، والحاكم (1515)، والنووي في رياض الصالحين (ص94)، وانظر تخريجه في الإرواء (989). وهو عند مسلم في الزكاة (996) بلفظ: ((كفى بالمرء إثما أن يحبس عمّن يملِك قوته)).
[12] صحيح مسلم: كتاب الحج (1218) من حديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي.
[13] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (55)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1002) من حديث أبي مسعود رضي الله عنه.
[14] أخرجه الترمذي في المناقب، باب: فضل أزواج النبي (3895)، والدارمي في النكاح (2360) دون الشطر الثاني، والبيهقي في السنن الكبرى (7/468) من حديث عائشة رضي الله عنها، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (4177)، وله شواهد، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (285).
[15] أخرجه أحمد (2/250)، والترمذي في الرضاع، باب: ما جاء في حق المرأة على زوجها (1162)، وأبو داود في السنة، باب: الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه (4682) دون الشطر الأخير من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4176)، والحاكم (1/3)، والألباني في السلسلة الصحيحة (284). ولم يخرجه البخاري بهذا السياق.
[16] صحيح البخاري: كتاب النكاح (5186) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في كتاب الرضاع (1468).
[17] صحيح البخاري: كتاب النكاح (5204) من حديث عبد الله بن زمعة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في كتاب الجنة (2855) بنحوه.
[18] سنن أبي داود: كتاب النكاح (2146) من حديث إياس بن عبد الله رضي الله عنه، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى (9167)، وابن ماجه في النكاح (1985)، والدارمي في النكاح (2219)، والبيهقي في الكبرى (7/304، 305)، وصححه ابن حبان (4189)، والحاكم (2765)، وقال الحافظ في الفتح (9/303-304): "له شاهد من حديث ابن عباس في صحيح بن حبان، وآخر مرسل من حديث أم كلثوم بنت أبي بكر عند البيهقي"، وأورده الألباني في صحيح سنن أبي داود (1879).
[19] مسند أحمد (4/447)، ووأخرجه أيضا أبو داود في النكاح، باب: حق المرأة على زوجها، وابن ماجه في النكاح (1850)، والنسائي في الكبرى (9171)، وصححه ابن حبان (4175)، والحاكم (2/187-188)، والدارقطني كما في التلخيص الحبير (4/7)، وصححه الألباني في الإرواء (2033).
[20] أخرجه أحمد (2/250)، وأبو داود في الصلاة، باب: قيام الليل (1113)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار، باب: الترغيب في قيام الليل (1592)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل (1326) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (3/183-1148)، وابن حبان (6/307-3567)، والحاكم (1/309)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1287).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيّها المسلمون اتّقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
أيّها المسلمون، العدلُ يدعو إلى الألفَة ويبعَث على الطّاعة، وبالعدل والإنصاف يدوم الحبّ والائتلاف، وليس للجائر جار، ولن تُعمَر له دار.
أيّها المعدِّدون، اتقوا الله واعدلوا بين أزواجكم، اعدِلوا بينهنّ في مسكنهنّ وملبسهنّ ومأكلهنّ ونفقةٍ عليهنّ والمبيتِ عندهنّ، واحذَروا الجورَ والحيف، فإنّه من أسباب العذاب وموجبات العقاب، يقول النبيّ : ((إذا كانت عندَ الرجل امرأتان فلم يعدِل بينهما جاءَ يوم القيامة وشقُّه ساقط)) أخرجه أحمد [1] ، وكان رسول الله إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائِه، فأيتهنّ خرج سهمُها خرج بها معه. متفق عليه [2]. وكان يقسِم بين نسائه ويعدِل بينهن، ويقول : ((اللهمَّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تلُمني فيما تملك ولا أملك)) يعني القلب، أخرجه أبو داود [3].
اعدِلوا بينهن، وراعوا ما يحصل بينهن من الغيرة التي لا يقدرن على دفعها، ولا سبيل لهن إلى رفعها ومنعها، غيرةٌ تغيّر القلبَ والطبع، وتهيّج الغضب وتقلِب الوضع، فعن جسرةَ عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيتُ صانعةَ طعام مثل صفية، أهدت إلى النبي إناءً فيه طعام، فما ملكتُ نفسي أن كسرتُه، فقلت: يا رسول الله، ما كفارته؟ قال: ((إناءٌ كإناء، وطعام كطعام)) أخرجه أحمد [4] ، وعن عائشة مرفوعًا: ((إنَّ الغيرى لا تبصِر أسفلَ الوادي من أعلاه)) أخرجه أبو يعلى [5].
فتعاملوا بالعقل والحِكمة، واحذَروا قالةَ السوء وصاحبَ السوء وعملَ السوء، وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
واعلموا أنّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبّحة بقدسه، وثلّث بكم ـ أيّها المؤمنون ـ من جنّه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين...
[1] مسند أحمد (2/347، 471)، وأخرجه أيضا أبو داود في النكاح (2133)، والترمذي في النكاح (1141)، والنسائي في عشرة النساء (3942)، وابن ماجه في النكاح (1969) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن الجارود (722)، وابن حبان (4207)، والحاكم (2/186)، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ في البلوغ (1085): "إسناده صحيح"، وهو في صحيح سنن الترمذي (912).
[2] صحيح البخاري: كتاب الهبة (2594)، صحيح مسلم: كتاب التوبة (2770) عن عائشة رضي الله عنها.
[3] سنن أبي داود: كتاب النكاح (2134) من حديث عائشة رضي الله عنها، وأخرجه أيضا أحمد (6/144)، والترمذي في النكاح (1140)، والنسائي في عشرة النساء (3943)، وابن ماجه في النكاح (1971)، وقد اختلف في إرساله ووصله، ورجح الترمذي وغيره من الحفاظ إرساله، وصحح الموصول ابن حبان (4205)، والحاكم (2761)، وقال ابن كثير في تفسيره (3/502): "إسناده صحيح، ورجاله كلهم ثقات"، وانظر تخريجه في الإرواء (2018، 2024).
[4] مسند أحمد (6/148)، وأخرجه أيضا أبو داود في البيوع (3568)، والنسائي في عشرة النساء (3957)، والبيهقي في الكبرى (6/96)، كلهم من طريق فليت عن جسرة عن عائشة، قال البيهقي: "فليت العامري وجسرة بنت دجاجة فيهما نظر"، أما الحفظ فحسن إسناده في الفتح (5/125)، وأورده الألباني في ضعيف أبي داود (762).
[5] مسند أبي يعلى (4670)، قال الحافظ في الفتح (9/325): "سنده لا بأس به"، وقال الهيثمي في المجمع (4/322): "فيه محمد بن إسحاق وهو مدلس، وسلمة بن الفضل وقد وثقه جماعة ابن معين وابن حبان وأبو حاتم، وضعفه جماعة، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وبهاتين العلتين أعله الألباني في السلسلة الضعيفة (2985).
(1/2724)
التعاون على تيسير الزواج
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
4/5/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خلق التعاون بين المسلمين. 2- حاجة المجتمع المسلم إلى تيسير أمر الزواج. 3- خطأ اشتراط الغِنى في الخاطب. 4- خطأ المغالاة في المهور. 5- المعيار الصحيح في الخاطب والمخطوبة. 6- السنة النبوية في المهر. 7- مشروعية وليمة الزواج. 8- خطأ التباهي بالولائم والإسراف والتبذير فيها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادّ الله، يقول ربّنا جلّ جلاله وهو أصدق القائلين آمرًا عبادًه المؤمنين بهذا الخُلُق الكريم: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ [المائدة:2]. فيأمرُنا ربّنا جلّ جلاله أن نكونَ جميعًا أعوانًا على البرّ، أعوانًا على التقوى، أعوانًا على كلِّ أمر يحبّه ربّنا ويرضاه، ونهانا أن نتعاونَ على الإثم والعدوان، عن كلِّ أمر يبغضه الله من شرٍّ خاصّ أو عامّ، ثم يقول: وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ [المائدة:2].
هذه الآية ـ أيّها الإخوة ـ أصلٌ عظيم في التّعاون بين المسلمين، أصلٌ عظيم في وجوب التعاون بين أمّةِ الإسلام على الخير والهدى، وأصلٌ عظيم في تحذيرهم من أن يكونوا أعوانًا على الشرّ والبلاء.
أيّها المسلم، إنَّ مِن التعاون على البرّ والتقوى أن يتعاونَ المجتمع المسلمُ في الدّعوة إلى تسهيل أمر الزواج، وإلى بثِّ روح التعاون بين الجميع في إظهار شعيرةِ الزواج بالتعاون على ذلك لنسهِّل أمرَ الزواج لأبنائنا وبناتِنا.
أيّها الإخوة الكرام، كلُّ مسلمٍ منّا محتاجٌ إلى هذا الأمر العظيم، فمَن له أولادٌ يحتاج إلى تزويجهم، ومَن له بنات فهو يتمنّى لهنّ الزواجَ والعفاف، إذًا فهي مصلحة مشتركَةٌ بين الجميع للذّكور والإناث، والمجتمع المسلم إذا تعاون في تيسير أمرِ الزواج وتعاونَ الجميع في تذليل العقبات التي تعوق كثيرًا من أبنائنا عن الزواج، أو تعوق أيضًا بناتنا عن الزواج، فيبقى الذّكور عُزَّبًا، وتبقى الفتيات عوانسَ في البيوت، ليس هذا من مصلحةِ الجميع، ليس هذا من البرّ ولا من التقوى، ليس هذا من الخلُق الكريم، المطْلوبُ منّا جميعًا أن نتعاونَ في إفشاء الزّواج، في إشاعته وتكثيره وتيسير أمورِه وتذليلِ كلِّ الصِّعاب ما وجدنا لذلك سبيلاً.
أيّها المسلم، هذا الأمر لا تستطيع أن تفرضَه السّلطة، ولا أن تُلزم به النّاس، فلو أُلزم النّاس لاتَّخذوا حِيَلاً ووسائلَ يتخلّصون بها من كلِّ ما ألزِموا به، لكن إذا انبعَث الأمر من قلوب المجتمع المسلم، انبعث الأمرُ من روح التعاونِ والتساعد فإنّ هذا ممّا يعين على الخير والتقوى.
أيّها المسلمون، هناك عقباتٌ كأداء تحول بين شبابنا وبين فتياتنا من الزّواج، لو أنّ المجتمع المسلمَ تعاون في حلّها وتذليلها لصار خيرًا كثيرًا لمجتمعنا المسلم.
مِن تلكم العقبات أولاً: نظرُ بعض الآباء والأمّهات إلى مَن يتقدّم لخطبة الفتات، فنرى أحيانًا خطأ من أمّهات الفتيات، يتمثّل هذا الخطأ الذي تقع فيه الأمُّ أحيانًا من أنّها تنظر إلى خطيبِ ابنها بنظرٍ خاصّ، وتريد مواصفاتٍ معيّنةً، والأمر في ذلك أيضًا مادّي، فهي لا تريد لفتاتِها إلا من يكون ذا كذا وذا كذا، ذا مال أو ذا جاه أو ذا عملٍ كبير أو إلى غير ذلك، فهناك مِن الأمّ خطأٌ في أنّها لا ترغَب في زواج فتاتِها إلا بأمور معيّنة لو فكّرت حقًّا لرأت أنَّ كثيرًا ممّا تريد ليس من مصلحةِ الفتات في مستقبلها، فالأمرُ بيد الله، والفقر والغنى بيد الله، ويقول الله جلّ وعلا: إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32]. لا شكّ أنّه مطلوبٌ من الزوج القيامُ بالنفقة، لكن لا يُجعل الغنى وحدَه أو كثرة المال وحده هي الوسيلة، وإنّما يُسلَك الأمر الوسَط في ذلك.
قد يخطئ الأب أحيانًا إذا خُطِبت منه فتاته، فإمّا أن يطلبَ مهرًا زائدًا وتكلفاتٍ هائلة قد تثقل كاهلَ ذلك الشابّ الخاطب، تثقل كاهلَه، وتحمّله ما لا يطيق.
أيّها الإخوة، إنّ الآباءَ والأمهاتِ مسؤولون جميعًا عن هذه المهمّة الكبرى، والمطلوب منهم التعاون على البرّ والتقوى.
أيّها المسلمون، إنّ صداقَ المرأة أمر مطلوبٌ شرعًا، وَءاتُواْ ?لنّسَاء صَدُقَـ?تِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4]، هذا أمر لا شكّ فيه، ولكن ـ أيّها الأخ المسلم ـ ماذا تريد من صداقٍ تثقل به كاهلَ ذلك الخاطب؟! وقد لا يجد كثيرًا منه، وقد يتحمّل ديونًا ويأخذ قروضًا بفوائد متعدِّدة، يشتري سيّارات أو غيرها، ويحمِّل ذمَّتَه أمرًا لو فكّر فيه لرأى صعوبةَ الأمر وعسرَه عليه، ومتى يقضي ذلك الدّين، فيعيش في همٍّ وغمّ وثُقلِ الدَّين الذين يقلِق مضجعَه ويجعله في همّ وغمٍّ ملازم.
أيّها الأب الكريم، إنّه إذا تقدّم لفتاتِك خاطبٌ فانظر الدّينَ أوّلاً، ثمّ انظر عقلَه ورجاحة فكره وأهليّته لتلك الفتات، فإذا توسّمتَ فيه الخيرَ واستخرتَ الله واستشَرت غيرَك ممّن تظنّ أنّه يشيرك بالخير، فإيّاك أن تردَّ ذلك الزوجَ لأجل مطامعَ ماديّة، لا تجعل المادّةَ هي المعيار في القبول أو الردّ، ولكن اجعل الأخلاق والعقل وحسنَ التّصرّف هي الغاية المقصودة. أمّا المهر فلا تكلِّفه ما لا يطيق، لا تطلب ما لا يُستطاع، فما أوتيت من مهرٍ فسيجعل الله فيه بركة، فأنفقه قدرَ استطاعتك، والله سييسّر الأمور، وسيجعل الله بعدَ عسرٍ يُسرًا.
أيّتها الأمّ الكريمة، أعيني فتاتك على الزواج، وإذا كانت ترفُض الزواجَ لأجل المطامع الماديّة فكوني خيرَ عَون في إقناعها وتوجيهها وتبيينِ أنَّ هذا المطلبَ ليس مطلبًا شريفًا، وإنّما المطلب الشّريف دينُ ذلك الرّجل، خلقُه ورجاحة عقله، أهليتُه لتسلّم تلك الأمانة، فهي ـ والله ـ الغايةُ العظيمة التي يسعى لها العقلاء ذوو العقول الراجحة والآراء السديدة.
أيّها المسلمون، إنّ توسُّعنا في كثيرٍ من مهور النّساء أثقَلَ كواهلَ شبابنا وأتعَبَهم وفتح للطّامعين أبوابَ الطّمع المختلِفة، فتحمّلوا ديونًا أثقلت كواهلَهم، وعجزوا عن تسديدها، وأصبحوا في قلقٍ وهمّ من تلك الديون العظيمة.
أيّها المسلم، إنّ سنّةَ نبيّنا كانت تيسيرَ أمر الزواج، وكانت سنّته تهوينَ أمر الزواج وعدم المبالغة في ذلك، فكانت سنّته في مهور نِسائه التي يدفعها مهورًا لهنّ أو قبوله مهورَ بناته، كانت في غايةِ التواضع ليكون مثلاً يُقتَدى به، وإن يكن ذلك الأمر قد لا يكون يتطابِق مع الوضع، لكنّه بالنسبة إلى زمانِه كان يسيرًا، وكان مضرَب المثل في التيسير والتّسهيل، فما دفع لامرأةٍ من نسائه فوقَ أربعة مائة درهم، وما قبل لبناته أكثرَ من أربعة مائة درهم [1] ، هذا بلا شكّ في زمانِه كان مضرَبَ المثل في التواضع، وأنا لا أقول: تقيَّد بهذا، لكن المهمّ أن لا تكلِّف الخاطبَ ما لا يستطيع، لا تثقِل كاهلَه، ولا تحمِّله ما لا يطيق، ولا تجعل الزواجَ وقفًا على ذلك المهر الزائد، بل يسِّر الأمور، وأعِن على الزّواج، ولا تكلِّف ما لا يُطاق، وسيجعل الله في الأمر إن شاء الله بركةً في الحاضر والمستقبل.
أيّها المسلمون، نبيّنا شرع لنا وليمةَ الزواج، وحثَّنا عليها، فقال لعبد الرحمن بن عوف: ((أولم ولو بشاة)) [2]. فحثّ على الوليمة، وحثّ على حضورها، ورغّبَ في ذلك، لكن ـ أيّها الإخوة ـ للأسف الشّديد أنّ هذه الولائم أخذت مسارًا غيرَ صحيح، وسلكت مسلكًا غيرَ مناسب، وتباهى المجتمع في حفلات الزواج تباهيًا عظيمًا، وأصبح كلٌّ يُحدِث لنفسه نوعًا من المباهاة، عسى أن يكون سابقًا لغيره، وعسى أن يكونَ متقّدِّمًا على غيره، وعسى أن يُذكَر بأنّ حفلات الزواج عند فلان بلغت كيت وكيت، وأُنفِق عليها من الأموال ما أنفق عليها، فأصبح التّباهي بذلك مظهرًا، وهذا المظهر مظهرٌ خاطئ بلا شكّ.
أيّها الإخوة، إنّ نعمَ الله عظيمة علينا، وإنّ النّعم لا تدوم إلا بشكر الله عليها واستعمالِها فيما يُرضي الله، وإنَّ إضاعةَ المال في كثير من الولائم العظيمة التي ينفَق عليها في الليلة الواحدة مئاتُ الآلاف لا شكّ أنَّ هذا خطأ عظيم وخطرٌ كبير، وإنَّ المسلمَ ينبغي أن يحافظَ على نعم الله، ويتذكّر أقوامًا يتمنَّون لقمةَ العيش فلا يصلون إليها. فلنحمدِ الله على نعمه، ولنعرف قدرَ هذه النعمة، ولنقُم بحقِّها، ومِن حقِّها أن لا نجاوزَ الحدَّ فيها.
إنَّ بعضَ حفلاتِ زواجنا وللأسف خرجت من دور الإسراف إلى دورِ التبذير والإنفاق فيما حرّم الله، فهناك الإسراف عند بعضنا تكثيرُ المباحات، وهناك التبذير والإنفاق في الأمور المحرَّمة التي حرَّمها الشّرع، فالواجب على المسلمين تقوى الله والتعاونُ على البرّ والتقوى فيما بينهم والتناصحُ فيما بينهم؛ لأنّ هذه الأشياءَ لا يحلّها ولا يقضي عليها إلا التعاون بين المسلمين وتذكيرُ بعضهم بعضًا، عسى أن يفهمَ المجتمعُ تلك الأخطاءَ فيبتعد عنها، ويتيسّر أمرُ الزواج.
إنّ شبابَنا ذكورًا وإناثًا كلّهم محتاجون إلى الزواج، فلا بدّ من عملٍ عظيم يسبِّب تسهيلَ هذه المهمّات؛ التعاون بين المجتمع المسلم على الخير والتقوى، وتشجيعُ من رأينَا منه تعاونًا وتيسيرًا، حتى يكون الناس يقتدي بعضهم ببعض، ويتأسّى بعضهم ببعض، ويعين بعضهم بعضًا. أمّا إذا كان أهل الغِنى والثراء ينفقون الأموالَ الطائلة في الحفلات، وغيرهم يتمنّى أن يكونَ مثلَهم ويحاول الاقتداءَ بهم ولو تحمَّل من الديون ما لا طاقة له به فهذا هو الخطأ، فالقدوة الصالحةُ خيرٌ للمجتمع المسلم، وكلّ من سعى في خيرٍ وأعان على خير فإنّ له أجرًا عظيمًا.
فاتّقوا الله في أنفسكم، وقوموا بما أوجب الله عليكم، وابتعِدوا عن مظاهر الإسراف، وعن التبذير في الإنفاق في المحرّمات، أسأل الله أن يعينَنا جميعًا على كلّ خير، وأن يهديَنا سبلَ السلام، وأن يرزقَ الجميعَ التعاون على البرّ والتقوى، إنّه على كلّ شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرج أحمد (1/40-41، 48)، وأبو داود في كتاب النكاح (2106)، والترمذي في كتاب النكاح (1114)، والنسائي في كتاب النكاح (3349)، وابن ماجه في كتاب النكاح (1887) عن عمر رضي الله عنه قال: ألا لا تغالوا بصدق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها النبي ، ما أصدق رسول الله امرأةً من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح" ، وصححه ابن حبان (4620 ـ الإحسان ـ)، والحاكم (2/175-176)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1852).
قال الترمذي: "الأوقية عند أهل العلم أربعون درهما، وثنتا عشرة أوقية أربع مائة وثمانون درهما".
[2] أخرجه البخاري في النكاح (5072، 5153، 5155، 5167)، ومسلم في النكاح (1427) من حديث أنس رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عبادَ الله، رحِم الله امرأً فتح للنّاس أبوابَ الخير، رحم الله امرأً كان قدوةً لمجتمعه في التّعاون على الخير، رحم الله عبدًا كان أسوةً حسنة في الاقتصاد في هذه الأمور، رحم الله عبدًا كان أسوةً حسنة في البُعد عن مظاهرِ الإسراف وبعدٍ عن التبذير.
أيّها الإخوة، وليمةُ الزواج مطلوبة، ولكن هل المطلوب أن أدعوَ المئاتِ من الناس، وأكلّف نفسي بما لا أستطيع، أم المطلوب وليمةٌ قدرَ العائلة وأهل البيت؟
إنَّ هذه الولائمَ اليومَ أصبحت مظهرًا سيّئًا، يُوضَح فيها من أنواعِ المأكولات ما لا يُؤكل ولا عُشره، وكثيرٌ منها يُلقى في المزابل. نِعَمٌ عظيمة وخيرات كثيرة النّاس لا يتناولون منها إلا جزءًا، ومعظم أجزائها فإلى المزابلِ والعياذ بالله.
هذا ـ يا إخواني ـ مظهرُ سوء، الواجب على المسلمين التعاونُ على الخير، والتبصُّر في هذه النّعم، ومعرفة قدرها، وأن الله جلّ وعلا سائلنا عنها: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ?لنَّعِيمِ [التكاثر:8]، الله سائلنا عن هذه النّعم، في أيِّ شيء استعملناها؟ هل هذه النعم التي توضَع تؤكَل وتستهلك أم لا؟
بعضُ أولئك لو طُلِب منه إعانةٌ لفقير ومحتاج لما بذل درهمًا واحدًا، ولكن عند مظاهر السّرف والتّباهي تجود الأيدي بالأموال الطائلة في أمور هو يرتكِب فيها الخطأ من حيث لا يشعر.
فلنكن جميعًا أعوانًا على الخير، ولنتعاون في القضاء على مظاهر الإسراف والتبذير ووضع الولائم التي لا داعي لها، فلا بدّ من علاجِها بين المجتمع المسلم؛ لأنّ المجتمع المسلمَ مجتمعٌ يجب أن يتعاونَ على الخير بقدر ما يمكن.
أسأل الله أن يرزقنا وإيّاكم العملَ بما علمنا، وأن يجعلَنا ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم ألو الألباب.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمركم بذلك ربّكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد...
(1/2725)
استوصوا بالشباب خيراً
الأسرة والمجتمع
الأبناء
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
11/5/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة لاغتنام الأوقات والأعمال. 2- الوصاة بالشباب وحسن الرفق بهم. 3- مجد الإسلام الذي ضاع بقدر ما ضيعنا من ديننا. 4- التضييق على المسلمين ومنع كثيرين من الصلاة في الأقصى. 5- الهدنة مع اليهود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، يقول صلى الله عليه وسلم: ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) [1].
أيها المؤمنون، إن بناء المجتمعات لا يمكن أن يرتفع له لواء، إلا إذا سارت وراء الهدي النبوي، وخير من يوصى به لأهميته في البناء، الشباب الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((استوصوا بالشباب خيرا، فإنهم أرق أفئدة)) ، الشباب الذي لا يجد له في هذه الأيام مرشداً كريماً، ولا موجهاً عظيماً، ولا مربياً رفيعاً، ولا أباً رحيماً إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء شاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (ائذن لي بالزنا يا رسول الله)، كلمة خطيرة تكاد السموات يتفطرن منها، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هداً، إلى من يوجه هذا الكلام؟ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان يجلس حول الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابُه الكرام، يحيطون به كما تحيط النجوم بالقمر، وكما تحيط الجنود بالعَلم.
فثار الصحابة رضي الله عنهم، وثارت دماء الغضب في عروقهم، ولكنه عليه الصلاة والسلام كما عهدناه بحلمه ووقاره وجلاله وسكينته وأدبه وأخلاقه، يجلس في هدوء يرسل الحكمة كما يرسل القمر أضواءه.
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يهدؤوا، ثم دعا الشاب إليه، فجلس أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هدوء الأستاذ مع التلميذ، وبحكمة الطبيب مع المريض، قال للشاب: ماذا تريد يا فتى، قال: ائذن لي بالزنا يا رسول الله.
وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يرسل هذه الحكمة الرفيعة: ((يا فتى أفترضاه لأمك؟)) [2] ، كان عليه الصلاة والسلام يداوي الجراح الدامية بتنسم الروحانيات الصافية، ونزلت هذه الكلمة باستفهامها على سمع الفتى، ثم أخذت طريقها إلى قلبه، فصادفت مكاناً خالياً، فتمكنت منه، فقال: لا يا رسول الله.
ويكرر الرسول صلى الله عليه وسلم السؤال: ((أفترضاه لأختك؟ أفترضاه لعمتك؟ أفترضاه لخالتك؟)) وإذا بالشاب يجلس أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وينتفض ويقول: ادع الله لي يا رسول الله، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يدعو لهذا الفتى، فقال، الدعوة الأولى: ((اللهم حصن فرجه)) ، ثم قال في الثانية: ((وطهر قلبه)) ، ثم قال في الثالثة: ((واغفر ذنبه)).
يقول هذا الشاب: فخرجت من عند رسول صلى الله عليه وسلم، وليس على وجه الأرض أحد أحب إلي من رسول الله، هكذا يكون الدواء وهكذا يكون العلاج.
وصدق الله تبارك وتعالى وهو يخاطب نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107].
الشباب والصحة نعمتان من أجلّ نعم الله تبارك وتعالى، إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يداوي بالحكمة والموعظة الحسنة، لذلك ربى جيلاً لم تعرف البشرية له مثيلاً، اسمعوا إلى ما قاله عمر رضي الله عنه، وعمر أحد الذين دخلوا الإسلام في سن الشباب، كان عمره يوم أسلم ستاً وعشرين سنة، كان اسمه في سجل المسلمين رقم أربعين، عمر عندما دخل الإسلام ونطق بالشهادتين كان أول كلمة قالها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علام نخفي ديننا يا رسول الله؟ إن الإسلام والإيمان قد تمكنا من قلبه، إن الإسلام قد رسخ في فؤاده، علام نخفي ديننا يا رسول الله؟ لم لا تصدع بما تأمر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لم يأمرني بذلك)) [3] ، وإذا بالوحي يتنزل على قلب وفؤاد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: فَ?صْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ?لْمُشْرِكِينَ [الحجر:94]، فقال له جميع الجالسين: لا إله إلا الله، والله أكبر.
كل شيء إلى تغير وفناء، كل شيء إلى زوال، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت، فبادروا يا عباد الله بالرجوع إلى الله، بادروا بالصلح مع الله تبارك وتعالى، ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها، كان من دعاء الحبيب صلى الله عليه وسلم: ((اللهم بارك لأمتي في بكورها)) [4].
والرسول صلى الله عليه وسلم مر بالسيدة فاطمة رضي الله عنها بعد صلاة الفجر فرآها قد نامت بعد ما صلت، فقال لها: ((يا فاطمة قومي فاشهدي هذه الساعة التي يقسم الله فيها الأرزاق على العباد)) [5].
عباد الله، أمتنا الإسلامية أمة عظيمة، ولا نظير لها، كانت تسيطر على البحر الأبيض كله وعلى ثلثي البحر الأحمر، كانت تنام على بحر من البترول فماذا حدث؟، سلبتهم الدنيا أملاكهم، فالمقاطعات الإسلامية استولى على كثير منها المعسكر الشرقي، وضاعت الأندلس وظاعت صقلية وضاعت فلسطين، وسلبت الجولان واحتل بيت المقدس والضفة الغربية، لماذا؟ لأن الدنيا فتحت علينا، فنسينا الله تبارك وتعالى، نسينا أحكامه، ونسينا كتابه.
كانت الغنائم تأتي لبيت مال المسلمين من المشارق والمغارب في زمن عمر رضي الله عنه، جاءت الغنائم من بلاد فارس، فبكى بكاءً شديداً، فيقول له ابن مسعود رضي الله عنه: أتبكي يا أمير المؤمنين في يوم النصر؟ فيقول أمير المؤمنين: أخشى على المسلمين أن تفتنهم الدنيا، عمر يخشى من فتة الدنيا على المسلمين.
صدقت يا أمير المؤمنين تعال وانظر اليوم إلى أحوال المسلمين.
أمتنا أمة عظيمة، عندما أسلمنا وآمنا، عندما قرأنا القرآن واتخذناه منهجاً وسلوكاً ونظام حياة، عندما عشنا مع القرآن في نومنا وفي يقظتنا وفي أكلنا وشربنا وحياتنا، كانت حياتنا كلها مع القرآن، إذا أصبح مجتمعنا مجتمعاً قرآنياً منهجاً وسلوكاً، فسوف نقود العالم كله إلى شاطئ الأمان، وبغير ذلك كله لن نفلح أبداً، فأخلصوا قلوبكم لله يا عباد الله وافتحوا قلوبكم، واستعينوا بالله واصبروا، لا تنسوا الله تبارك وتعالى وأحسنوا صلتكم بالله، اجعلوا أيامكم كلها لله، قيل للإمام الحسن البصري رضي الله عنه أي الأيام عندك عيد يا إمام؟ فقال: كل يوم لا أعصي الله فيه، فهو يوم عيد.
عباد الله، أمر الله تعالى المؤمنين بالانضباط، فما هو الانضباط في الإسلام كما ورد في شريعة خير الأنام؟
الانضباط في قول الله تبارك وتعالى: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]، الانضباط الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال له ربه: فَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112]، فإذا أردنا أن نطبق الانضباط في مجتمعاتنا لا بد ان نأخذ جانبين: جانب الوقاية وجانب العلاج، أما الوقاية فهي إزالة الموانع التي تؤدي بنا إلى غضب الله وارتكاب المعاصي، أيكون هناك انضباط وأبواب الخمارات مفتوحة؟ أيكون هناك انضباط والنساء كاسيات عاريات؟ أيكون هناك انضباط ومعاملاتنا كلها معاملات ربوية؟ أيكون هناك انضباط والنفوس مشحونة بالحقد والحسد والشحناء وسفك الدماء؟
عباد الله، الإسلام ليس صلاة وصياماً وحجاً فقط، الإسلام استسلام لله تبارك وتعالى وتطبيق لمنهجه في كل نواحي الحياة.
عباد الله، اعلموا جيداً أنه لا يجوز بحال من الأحوال أن يمنع المصلون من الدخول إلى المسجد الأقصى المبارك، وذلك لقول الله عز وجل في كتابه العزيز: أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـ?جِدَ ?للَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ وَسَعَى? فِى خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِى ?لدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114]، فالمساجد هي بيوت الله ويأتي المصلون إليها لأداء الصلوات تطبيقاً لمنهج الله تبارك وتعالى في الأرض، ومن تجرأ على منع المصلين من الدخول إلىالمساجد فقد ارتكب إثماً عظيماً وجُرماً كبيراً سيحاسب عليه حساباً كبيراً من الله الواحد الجبار.
وتذكروا أيها المؤمنون أن من يتجرأُ على بيوت الله ويمنع المصلين من أداء الصلوات فهو عدو لله ومحارب لله، وسوف ينتقم الله تعالى منه.
وفي نفس الوقت يجب على المسلمين أن يحافظوا على مسجدهم، وأن يكون إيمانهم قوياً بالله عز وجل.
وانظروا أيها الإخوة إلى قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـ?جِدَ ?للَّهِ ، معناه أنه لا يوجد أحد أظلم من الذي يمنع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، أي أن هذا الظلم هو الظلم العظيم، ويختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: لَهُمْ فِى ?لدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ، أي لن يتركهم الله تبارك وتعالى في الدنيا ولا في الآخرة بل يصيبهم في الدنيا خزي، وهذا مظهر غيرة الله على بيوته، أما في الآخرة فلهم عذاب عظيم، فهل سمعتم على مر الزمان أن قوماً من الأقوام يمنعون الناس من أداء العبادات والشعائر الدينية، وهذا الفعل بذاته مخالف لكل الأعراف الدولية، وصدق الله تبارك وتعالى وهو يقول: أَرَأَيْتَ ?لَّذِى يَنْهَى? عَبْداً إِذَا صَلَّى? [العلق:9، 10]، فقد ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في أبي جهل عليه لعنة الله، والعبرة كما تعلمون بالعموم، وليس بالخصوص، فاتقوا الله يا عباد الله، وحافظوا على مسجدكم، فهو رمز مجدكم وعزكم وكرامتكم.
اللهم حرر المسجد الأقصى، وطهره من رجس الكافرين، واجعلنا فيه من عبادك المرابطين إلى يوم الدين، اللهم اجعله عامراً بالإسلام والمسلمين يا رب العالمين.
عباد الله، ورد في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بادروا بالأعمال سبعاً هل تنتظرون إلا غنىً مطغياًَ، أو فقراً منسياً، أو مرضاً مفسداً أو هرماً مفنداً أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)) [6].
عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى بالدعاء
وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله
[1] أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 306)، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب [3355]، وأخرجه ابن المبارك في الزهد، ومن طريقه البغوي في شرح السنة [4022] عن عمرو بن ميمون مرسلاً، وصحح سنده الحافظ في الفتح (11/234).
[2] أخرجه أحمد (5/256).
[3] أخرجه ابن خثيمة القرشي (ص 128) في جزئه بنحوه.
[4] رواه الترمذي في البيوع (1212)، وأبو داود في الجهاد (2606)، وابن ماجه (2236)، وأحمد (1/153)، وصححه ابن حبان (4754). والألباني في صحيح أبي داود (2270).
[5] في البيهقي وغيره (فاشهدي أضحيتك).
[6] رواه الترمذي في الزهد (2306). وقال حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وضعَّفه الألباني في الضعيفة (1666).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العزيز الوهاب، أنزل على عبده الكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب، ونشهد أن لا إله إلا الله، أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، وجعل أمتنا - ولله الحمد -خير أمة أخرجت للناس، وبعث فينا رسولاً منا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة، فالصلاة والسلام على سيد الأحباب، النبي الأمي المبعوث بالحق والصواب، الشافع المشفع يوم الحساب، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآب.
أما بعد: أيها المسلمون، إن الحدث الأبرز على الساحة الفلسطينية هو إعلان الهدنة من جانب الفلسطينيين المغلوبين على أمرهم فيما يسمى وقف إطلاق النار مع الجانب الإسرائيلي، وأسئلة عدة تفرض نفسها على الحدث، لأنه يتعلق بصميم وواقع شعبنا الفلسطيني المسلم الذي أعقب اندلاع انتفاضة الأقصى، فالحديث يشمل الفترة الزمنية الحالية من المعاناة، ناهيك عن المأساة المتواصلة على امتداد نصف قرن من الزمان، منذ سقوط فلسطين المسلمة في يد المحتلين، فهل يصمد وقف إطلاق النار الحالي؟ هل تؤدي هذه الهدنة إلى إعادة الهدوء والاستقرار والحياة إلى شعبنا المسلم؟ هل ستزول الحواجز ونقاط التفتيش، حواجز الإهانة والاضطهاد والإذلال؟ هل ستوقف إسرائيل عن تصفية المسلمين على امتداد الوطن؟ هل سيتم انسحاب إسرائيل الكامل وتفكيك جميع المستوطنات؟ هل ستعود مدينة القدس المسلمة لعصمة المسلمين وسيادتهم؟ هل سيعود المهجرون والنازحون والمبعدون إلى ديارهم ووطنهم وأهلهم؟ هل سيتم إطلاق سراح أبناء شعبنا الفلسطيني المسلم من زنازين الاحتلال وأقبية المعتقلات والسجون دون تمييز بينهم؟ هل ستتوقف إسرائيل عن استفزازاتها تجاه المسجد الأقصى المبارك؟
أيها المسلمون، إن المتابع للتجارب المريرة التي خاضها ويخوضها شعبنا قديماً وحديثاً وعلى امتداد عمر المأساة، يجد أن إسرائيل تضرب عرض الحائط بكل المواثيق والأعراف والمعاهدات.
ولقد أثبتت التجارب والأيام أنه لا يكاد حبر أي اتفاق يجف، حتى تنقض إسرائيل هذا الاتفاق، ومسلسل الأحداث منذ اتفاقات كامب ديفيد وأوسلو وشرم الشيخ والعقبة تدل على ذلك.
كانت هناك وعود منذ العام 1993م بإقامة دولة فلسطينية، وانسحاب إسرائيلي كامل، ولكن ماذا حدث؟ انسحبت إسرائيل فترة زمنية قصيرة من بعض المناطق بعد تقسيمها، ثم ما لبثت أن أعادت احتلالها بعد انتفاضة الأقصى.
إن حجم التضحيات الجسام التي بذلها ويبذلها شعبنا في المال والبنين، تفوق ما قدمه أي شعب من أجل حريته، ثم تأتي الضغوط من القريب والبعيد للقبول، بما يسمى الأمر الواقع.
إن ما يزيد الأمور تعقيداً هو ما يعلنه الأمريكيون إثر زياراتهم للمنطقة واجتماعهم مع زعمائها، من أن وقف إطلاق النار يجب أن يعقبه تفكيك الجماعات المسلحة قبل تفكيك المستوطنات، ويتحدث الأمريكيون أن الفلسطينيين هم عقبة في طريق السلام، وبعكس إسرائيل، فإنها دولة محبة للسلام، غير أنها محاطة بالأعداء.
وأنتم يا أهلنا في أرض فلسطين المباركة، أنتم في رباط إلى يوم القيامة، أنتم أهل الصبر والمصابرة والمرابطة، اجعلوا ثقتكم بالله تنكشف الأمور وتزول الغمة، ولا نريد أن نقول ما قال الشاعر:
صبرنا إلى أن ملّ من صبرنا الصبر وقلنا غداً أو بعده ينجلي الأمر
فكان غد شهراً ولو ومد حبله فقد ينطوي في جوف هذا الغد العمر
وقلنا عسى أن يدرك الحق أهله فصاحت عافاني الله ولا طعمُها مر
سلام على الدنيا سلام على الورى إذا ارتفع العصفور وانخفض النسر
أيها المسلم:
دع المقادير تجري من أعنتها ولا تبيتن إلا خالي البال
ما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال
(1/2726)
خلُق الإصلاح
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
11/5/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حبّ الخير للمسلمين. 2- الحثّ على الإصلاح بين الناس. 3- الاختلاف من طبيعة البشر. 4- النجوى المحمودة. 5- فضل الإصلاح بين المتنازعين. 6- إعطاء الزكاة للغارم لأجل الإصلاح. 7- الإصلاح بين الزوجين وبين الأقارب وبين المسلمين. 8- جواز الكذب لغرض الإصلاح. 9- حثّ القضاة على الإصلاح. 10- الإصلاح بين المتخاصمين يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ مِن خُلُق المسلم حبَّ الخير لإخوانِه المسلمين؛ لذا تراه يسعى في الإصلاحِ بينهم والتوفيق فيما بينهم وتضييقِ هُوّةِ النزاع والاختلاف، يُمليه عليه إيمانُه الحقيقيّ الذي يدعوه لأن يحبَّ لإخوانِه المؤمنين ما يحبُّ لنفسه، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه.
أيّها المسلم، فالإصلاح بين المسلمين خُلُق كريم، يسعى فيه ذوو التُّقى والمروءة الذين يحبُّون الخيرَ، ويصبرون على فعلِ الخير، ويتقرَّبون بذلك لربّهم.
أيّها المسلم، لقد أمرنا الله جميعًا بأن نصلِحَ بين إخواننا: فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الأنفال:1]، فأمرنا ربُّنا أن نصلحَ ذاتَ بينِنا، وأن نوفِّقَ بين إخواننا، وأن نسعى في رَأب الصّدع ما وجدنا لذلك سبيلاً.
أيّها المسلم، لا يخلو المجتمع المسلمُ من اختلافٍ في وجهة النظر، سواء كان هذا الاختلافُ بين الأفراد كنزاعٍ بين رجل وأبيه، وبينه وبين أخيه، وبينه وبين جاره، وبينه وبين زوجته، وبينه وبين شريكه، وبينَه وبين أيِّ فردٍ من أفراد الأمّة المسلمة، أو كان هذا الاختلافُ بين جماعةِ المسلمين عمومًا. إذًا فموقفُ المسلم من هذا الاختلافِ العامّ والخاصّ أنّه يسعى في الإصلاح والتّوفيق ما وجد لذلك سبيلاً، فيصلح بين الأفراد إن استطاع، وبين الجماعةِ إن قدر على ذلك، المهمّ أن يؤدِّيَ واجبَه، وأن يقومَ بهذه المسؤوليّة، امتثالاً لقوله تعالى: فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ.
أيّها المسلم، هذا الخُلُق الكريم يسعى فيه ذوو التّقى والمروءة والأخلاق الكريمة الذين يبتغون بسعيِهم مرضاةَ الله، فهم يخلِصون لله في هذا العمل؛ لذا قال الله: لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـ?حٍ بَيْنَ ?لنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ ?بْتَغَاء مَرْضَـ?تِ ?للَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].
أخي المسلم، تأمَّل معي هذه الآيةَ تأمُّلاً صحيحًا، فقد أخبر الله أنَّ نجوى العباد فيما بينهم ليس كلُّ نجوى خيرًا، فلا خيرَ في كثير من النّجوى إلا نجوى من يأمر في نجواه بالصدقة أو يأمر بالمعروف أو يسعى في الإصلاح بين المتنازعَين، فالتّناجي إذا كان حقيقتُه أمرًا بصدقة، أمرًا بمعروف، سعيًا في الإصلاح بين الناس، فذلك النّجوى النافعة والنّجوى المباركة، وإلاّ فالتّناجي على الإثم والعدوان عملٌ مذموم، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَـ?جَوْاْ بِ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ ?لرَّسُولِ وَتَنَـ?جَوْاْ بِ?لْبِرّ وَ?لتَّقْوَى? وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المجادلة:9]. إذًا فالتّناجي بين الاثنين أو أكثر إذا كان هدفُ هذا التناجي أن يأمرَ بالصدقة والإحسان لعباد الله ويأمرَ بمعروفٍ وينهى عن منكر أو إصلاحٍ بين الناس فذاك النّجوى المباركة، ثم قال جلّ وعلا: وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ ?بْتَغَاء مَرْضَـ?تِ ?للَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ، مَن يفعل هذه الأعمالَ يبتغي بها وجهَ الله لا يريد بها جاهًا في الدنيا ومكانًا في المجتمع، وأن يُنظَرَ إليه بأنّه رجل الإصلاح والتوفيق، لا يريد ثناءَ النّاس، إنّما يبتغي بعمله وجهَ الله جلّ جلاله، فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا.
أيّها المسلم، إصلاحُك بين المتنازعَين صدقةٌ مِنك على نفسك، يقول : ((يُصبح على كلِّ سُلامى من الناس صدقة كلّ يوم تطلع فيه الشمس، تعدِل بين اثنين صدقة، وتُعين الرجلَ في دابّته فتحمِله عليها أو ترفع له عليها متاعَه صدقةٌ، وأمرٌ بمعروف صدقة، ونهيٌ عن منكر صدقة)) [1]. إذًا فإصلاحُك بين النّاس صدقةٌ منك على نفسك، فاحرِص عليها وفَّقك الله للخير.
أيّها المسلم، كما سبق فالنّزاع يقع بين الأفرادِ وبين الجماعة، والنّزاع بين الجماعة يسعى ذوو التّقى في الإصلاح بينهم، ولذا قال الله: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ ?قْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى? ?لأُخْرَى? فَقَـ?تِلُواْ ?لَّتِى تَبْغِى حَتَّى? تَفِىء إِلَى? أَمْرِ ?للَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِ?لْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:9، 10]، فأمر اللهُ بالإصلاح بين جماعة المسلمين، وأرشدنا إلى أن يكونَ صلحُنا صلحَ عدلٍ لا ظلمَ ولا جور، فلا يقصِد المصلحُ بصلحه نفعَ فئة والإضرارَ بالأخرى، وإنّما يعدل في إصلاحه، فيوفِّق بينَ وجهات النّظر، ويحاول التقريبَ والتَّسديد ما وجد لذلك سبيلا، ولأجل هذا جازَ أن يُعطى من تحمَّل في ذمّته دُيونًا لأجل الإصلاح، أن يُعطى جُزءًا من الزّكاة، ففي تفسير قول الله جلّ وعلا في المستحقِّين لها ـ أي: الزكاة ـ: وَ?لْغَـ?رِمِينَ [التوبة:60]، قال العلماء: "الغارمون على قسمين: غارمٌ لمصلحة نفسه، وهو من تحمَّل ديونًا لمصلحةِ نفسه، فعجز عن تسديدها، فيُباح أن يُعطى من الزكاة، ثانيًا: غارمٌ تحمَّل لمصلحة الآخرين، للإصلاح بين الآخرين، فيُعطَى مِن الزّكاة قدرَ ما تحمّل ولو كان غنيًّا؛ لأنّ تلك مصلحةٌ عامّة للمسلمين، أن يصلحَ بين القبائل والفئات المتعدِّدة، فإذا تحمَّل حَمَالة في ذمّته جاز أن يأخذَ من الزكاة مقدارَ ما دفع لأجلِ الإصلاح والتّوفيق.
أيّها المسلم، وقد أمرنا ربّنا أن نُصلحَ بين الزّوجين إذا تنازعا: وَإِنِ ?مْرَأَةٌ خَـ?فَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَ?لصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، وقال: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَ?بْعَثُواْ حَكَمًا مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَـ?حًا يُوَفّقِ ?للَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35]. إذًا فالإصلاحُ بين الزوجين يقوم به الأهلون أهلُ المرأة وأهلُ الرّجل، يسعَون في الإصلاح بين الزوجين، وينظرون في أسباب الخلاف والنّزاع، فيسعَون في الإصلاح بينهما ما أمكن ذلك، فهو خيرٌ من وقوفِ كلٍّ مع صاحبه، وتعصّبه لرأيِه، هذا غيرُ مطلوب، المطلوب الإصلاحُ بين الزوجين والتوفيق بينهما ومحاولةُ إزالةِ أسباب النزاع ووعظهما، وتذكيرهما حتى يرجعا إلى الحقّ ويعودا إلى الصواب.
أيّها المسلم، نزاعٌ يقع أحيانًا بين الرَّحم، إذا استمرَّ ذلك النزاع أدّى إلى قطيعةِ الأرحام وبُعد بعضهم عن بعض، والشيطان حريصٌ على هذا الأمر العظيم؛ لأنّ قطيعةَ الرحم أمرٌ يسخطه الله، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:22، 23].
إذًا فالمسلمُ يسعى بين أفرادِ الرّحم عندها يبدو ظاهرةُ النّزاع والشّقاق، فيصلح بين الرّحم، ويوفِّق بينهم، ويذكِّرهم صلةَ الرّحم وما لها عند الله من الثواب، ويأمر الجميعَ بالصّبر والتّحمُّل وعدم اللّجوج في النّزاع ولا سيّما في الأمور المادّية التافهة، فيحذِّرهم من قطيعة الرّحم، ويسعى بالتوفيق، ويقرِّب بينهم ما استطاع لذلك سبيلاً.
أخي المسلم، فقد يكون بين الإخوة أشقّاء أو نحوه نزاع، وقد يكون بين الأب وأبنائه إلى غير ذلك، فذو التّقى يصلح ويوفِّق ويرشِدُ إلى صِلة الرحم، ويحذِّر من القطيعة ونتائجها السيّئة في الدنيا والآخرة.
أيّها المسلم، والأخوان المسلمان قد يختصمان ولو كانا بعيدَي الرحم، لكن أخوّة الإسلام تجمعهما، فالمسلم يسعى في الإصلاح ما استطاع لذلك، فإنّ هذا خلُقٌ حميد، ونبيّنا كان يصلِح بين الجماعات وبين الأفراد، ويحثُّ كلاًّ على الخير والصبر والتحمُّل.
أيّها المسلم، إنَّ سعيك في الإصلاح بين المتخاصمَين ولا سيّما الرحم خُلُق كريم وصدقةٌ وعملٌ صالح، في حديث أبي الدّرداء يقول : ((ألا أنبِّئكم بما هو أفضل من درجة الصوم والصّدقة والصّلاة؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إصلاحُ ذاتِ البين، فإنّ فسادَ ذاتِ البَين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)) [2]. إذًا فالساعون في الإصلاح هم في صدقةٍ وعمَل صلاح في أقوالهم وأعمالهم إن علِم الله منهم حسنَ النية وإخلاصَ العمل لله.
أيّها المسلم، ولمّا كان الإصلاح عملاً صالحًا يحبّه الله أباح لنا نبيّنا أن نتوسَّل بالكذب لأجل الإصلاحِ بين الناس، فيقول فيما صحَّ عنه: ((ليس الكذّابُ الذي يُصلح بين الناس فينمِي خيرًا أو يقول خيرا)) [3] ، فليس هذا بكذّاب إذا كذب كِذبةً يريد بها الإصلاحَ بين المتنازعَين ولا سيما الرّحم، ويذكر لهذا حبَّ هذا له وموالاته له، وكراهيته لذلك النّزاع، ويُلقي على الآخر كذلك، فتلك كِذبة في مصلحةٍ ولأجل عملٍ طيّب، فأبيح الكذبُ في ذلك، وفي لفظٍ تقول الصحابيّة: لم أسمع النبيَّ يرخِّص في شيء ممّا يقوله النّاس إلا في ثلاثةٍ: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديثِ الرجل امرأتَه والمرأة زوجَها [4]. إذًا ـ أخي ـ فلو كذبتَ لمصلحةٍ تريد بها لمَّ الشّعث، تريد بها تقريبَ وجهة النظر، تريد بها استئصالَ دَاء النّزاع، فإنّه مباحٌ لك الكذِب في ذلك لأجلِ الوصول إلى الغاية وهي إصلاح ذات البَين والتوفيق بين المتخاصمين.
أخي المسلم، إنّ شريعةَ الإسلام جاءت بالحثِّ على الإصلاح ولا سيّما في جانب القضاء، فالقضاءُ بين ذوي الرّحم يَسلك فيه القاضي الموفَّق الطريقةَ السليمة، فيجعل الرحمَ متواصلين ولا يجعلهم متقاطعين، يجعلهم متحابِّين ولا يجعلهم متباغضين، يسعى في رأبِ الصّدع، يسعى في جمع الكلِمة، يسعى في وحدةِ الصفّ، يسعى في التّوفيق ما وجد لذلك سبيلاً، ولذا كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعريّ يقول له: (أرجِئوا فصلَ النزاع بين المتخاصمَين؛ فإنّ فصلَ القضاء يوجب الضغائنَ بينهما) [5] ، فإذا حكمتَ لقريبٍ على قريبه، وأدَنتَ هذا ورجّحتَ جانبَ هذا، اتَّخذ موقفًا قاسيًا من أخيه، واستمرّت العداوة والبغضاءُ والقطيعة، لكن إذا أرجأتَ الفصلَ بينهما وحاولتَ مرّةً بعد مرّة عسى أن يسأمَا النّزاع، ويعودا إلى الرّشد والمحبّة، فذاك المقصدُ الأسمى من هذه المهمّة.
أيّها المسلم، فلا تعجَز عن الإصلاح، ولا تقُل: النّاس وشأنهم، وكلٌّ يُصلح نفسَه، وكلٌّ يدافع عن حقّه. لا، بل المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضُهم إزرَ بعض، ويواسي بعضهم بعضًا، ويتألّم بعضهم لألم البعض.
أسأل الله أن يصلحَ القلوبَ والأعمال، وأن يجعلنا وإيّاكم ممَّن وُفِّق للخير وهُدي سبيلَ الرشاد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الجهاد (2891، 2989)، ومسلم في الزكاة (1009) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس فيه ((وأمرٌ بمعروف صدقة، ونهيٌ عن منكر صدقة)) ، وهذا الجزء أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (720) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (6/444)، وأبو داود في الأدب، باب: في إصلاح ذات البين (4919)، والترمذي في صفة القيامة (2509) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث صحيح"، وصححه ابن حبان (5092)، والبزار كما في نصب الراية (4/354)، وابن حجر كما في فيض القدير (3/106)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني على شرط الشيخين، انظر: غاية المرام (414).
[3] أخرجه البخاري في كتاب الصلح، باب: ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس (2692)، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الكذب وبيان المباح منه (2605) من حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها.
[4] أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الكذب وبيان المباح منه (2605) عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها.
[5] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/303)، وابن أبي شيبة (4/534) بلفظ: (ردوا الخصوم حتى يصطلحوا)، وضعفه ابن حزم في المحلى (8/164).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، في يومِ القيامة تكونُ الخصومةُ بين الغرماء بين يدَي ربِّ العالمين، في الحديث: ((مَن كان لهُ عند أخيه مظلمة فليتحلَّل منه اليومَ قبل أن لا يكونَ دينار ولا دِرهم، إن يكن له حسنات أخِذ من حسناتِه، وإن لم يكن له حسناتٌ أخِذ من سيّئات مَن ظلمه، فطُرحت عليه ثمّ طرِح في النّار)) [1].
ومِن كمال كَرم ربِّنا وفضلِه وإحسانه أنّه تعالى يصلِح بين المتخاصمَين في ذلك اليوم العظيم، فيرضي المظلومَ حتّى يعفوَ عن ظالمه كرَمًا منه وجودًا.
بينما النبيّ جالسٌ بين أصحابه إذ ضحِك، فسأله عمر عن ذلك، فقال: ((في يومِ القيامةِ يجثو اثنان بين يدَي الله: ظالمٌ ومظلوم، فيقول المظلوم: يا ربِّ، خُذ مظلمَتي من هذا الظالِم، فيقول الظّالم: يا ربِّ، وأين هو وقد ذهبت الدنيا بأسرها؟! ـ أين أعطيه؟ ليس عندي ما أرضيه اليوم، الدّنيا انقضت ونحن في ذلك الموقف العظيم ـ، فيُصرُّ المظلوم على طلبه، فيقول الله له: ارفع رأسَك، فيرفع رأسَه، فإذا قصرٌ من ذهَب موشَّح باللؤلؤ، فيقول: يا ربّ، لمن هذا القصر؟ قال: تملِك ثمنَه، قال: وما ثمنُه؟ قال: تعفو عن ظالمِك، قال: يا ربّ، قد عفوتُ عنه، قال: خُذ بيده فادخُلا الجنّة)) [2] ، فضلاً من ربّنا وكرمًا.
إذًا فيا أخي، اسعَ في الإصلاح، ويا أيّها المسلم، لِن في يدِ إخوانِك، وتداركِ الأمور، ولا تستقصِِ كلَّ الأشياء، ففي الإصلاحِ خير، وكَفٌّ للنزاع، وحَسمٌ لاستمرار القطيعة بين المسلمين، هكذا فليكن المسلمون.
أسأل الله للجميع التوفيق والسدادَ لكلِّ ما يحبّه الله ويرضاه.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمركم بذلك ربّكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الرّاشدين...
[1] أخرجه البخاري في المظالم (2449) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه الحاكم (8718) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وقال الذهبي: "عباد ضعيف، وشيخه لا يعرف"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (1469).
(1/2727)
دعوة للتواضع
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
18/5/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحياة المادية اجتالت كثيرًا من الأخلاق. 2- ضرورة التواضع. 3- فضل التواضع. 4- آفات الكبر. 5- تواضع النبي وأصحابه. 6- حسن اللباس ليس في الكبر. 7- التواضع المحمود والتواضع المذموم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، في خِضَمِّ هذه العصورِ المتأخِّرة برزَت وبصورةٍ جليّة آلياتٌ مستجدَّة وإحداثيّاتٌ خدَمت معظمَ بقاع الأرض في تغطيةِ حاجياتها وتحسينيّاتها، حتى أصبحت طوفانًا مادّيًا جارفًا منحدِرًا من فوَّهَة بركانٍ فجَّرته الحضارة الماديّة الجافّة، والتي اجتالت على حسابها كثيرًا من المعايير الفاضلةِ، كما أنَّ حمأة التّنافس على اكتساب مستجدّات هذه الحياة لا ينبغي أن تكونَ حاجزًا مانعًا عن بقاء المبادئ الإنسانيّة الشريفة، والتي رعاها الإسلامُ حقَّ رعايتها، بل وطالب بها ودعا إليها في كلّ حينٍ وآن، مهما اتَّسع الناس في مادّيتهم أو ضاقوا.
ما أشدَّه مضَضًا ما تعانيه الأمّة المسلمة اليوم، إنّ كثيرًا من موروثاتها الروحيّة ليَذهبُ فُرُطًا، وإنّ الغفلة قد بلغت من النّاس مبلغَ من يظنّ أنه مسرمَد في هذه الحياة، وكأنّ رحى الأيّام لن تدورَ عليه يومًا ما، مما أبرز الصدرَ الوحر واللسانَ المذِق، والذي على إثرِه تندرس جملةٌ مِن معاني الأخلاق الشّريفة كما يُدرَس وشْي الثوب، حتى لا يُدرى ما زهدٌ ولا رحمة ولا صِلة ولا تواضع ولا لين، بل لقد أصبحَت مفاهيم بعضِ السّذَّج من الناس تجاه التّعامل مع الآخرين ومعاشرتهم: إن لم تكن ذئبًا أكلتك الذئاب، وإن لم تجهل يُجهل عليك، وإن لم تتغدَّ بزيدٍ تعشَّى بك.
ثُمّةَ زَعموا أنّ الفلسفةَ الأخلاقيّة العظمى عندهم هي في انطلاق النظرةِ للآخَرين من زاوية: كم تملك؟ وما مركزُك؟ ويرونَ أنّ في ذلك غنية وضمانًا للسّلام والرخاء، وعِوضًا عن التربيّة والتّهذيب الروحيّ، وأنّ ما عداها فهي سجايَا وخِصال أكلت عليها السِّنون وشرِبت، هكذا يزعُم جفاة الأخلاقِ الحميدة الذين أثَّرت فيهم المعاني النفسيّة التي تعلو بعَرَض مِن الدنيا وتهبِط بعرَض، وأنَّ أيَّ خللٍ في الحياة الاعتياديّة فإنّ المال يرمِّمها، والحسبَ والجاه يرأب الصدعَ فيها.
أما إنّه لو أدرك المسلِم أنَّ أوّل حقٍّ عليه للمسلمين هو أن يحملَ في نفسه معنى النّاس لا معنى ذاتِه لَعِلم أنّ من فاق الناس بنفسه الكبيرة دونَ تميّز كانت عظمته حقيقةً في أن يفوقَ نفسَه الكبيرة، متخطِّيًا ما فيها من طمع وجشعٍ وكبرياء، وبمثل هذا يصبِح الناس أحرارًا متى حكمتهم معاني الدَّعةِ والتّواضع والتوادِّ والتعاطف تحت ظلِّ الإسلام الوارف.
وأمّا المركز والمال والجاه فإنما هي عوارضُ سرعانَ ما تزول بعد ما كانت رسمًا ظاهرًا لا يمسُّ بواطن القلوب, فَأَمَّا ?لزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ?لنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ?لأرْضِ [الرعد:17].
كتب وهبُ بن منبّه إلى مكحول: "أما بعد: فإنّك قد أصبتَ بظاهرك عندَ الناس شرفًا ومنزلة، فاطلب بباطن عملِك عند الله منزلةً وزُلفى، واعلم أنّ إحدى المنزلتين تنازع الأخرى" [1].
بمثلِ هذا كلِّه ـ عباد الله ـ يتَّصل ما بين العظيم والسّوقة، وما بين الغنيّ والفقير، اتّصالَ التواضع في كلّ شيء، بعيدًا عن معاني الدّينار والدّرهم وحِماهما، حتى يكونوا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى.
أيّها المسلمون، التواضعُ بين المسلمين خصلةٌ مرجوَّة، هي أسٌّ في خلقِ المجتمعات، ومِِقبض رحى حُسنِ الاتّصال بينهم، لها موادٌّ من الحكمة وأضدادٌ من خلافِها، بتمامِها وصفائها يميز الله الخبيثَ من الطيّب، والأبيض من الأسود المربادِّ المجخِّي كما الكوز.
إنّه لا بدّ أن يكونَ للتواضع بين ظهرانينا محلٌّ طريّ لين، لم تستحكمه الشهوات ولا المصانعات، محلٌّ يُهَشُّ أمامه ويُبَشّ، محلّ يوحِي إلى المجتمع أنهم ليسوا غرباء ولو تفرَّقت نواحيهم، وإلا كان تواضعًا مفقودًا في تيهِ العقل المادّي الذي اكتسى فاقدُه ثيابَ كبر مدمّرةً، لا يهشُّ له الناظر، بل تغضُّ منه العيون، وتنبو عنه الأفئدة الحيّة، وينفضّ الناس من حوله، وحينئذ يكشِف مضمارُ المجتمع عن الستار المسدَل في صراع الأخلاق المحموم بين طغيان الأنَفَة وطوفان الإعوازِ إلى التواضع.
إنّه لا ينبغي لأحدٍ من المسلمين أن يمتنعَ عن التواضع أو يجبنَ عن تحقيقه؛ إذ به تكتسَب السلامة، وتورَث الألفة، ويُرفَع الحِقد، ويشعر الجميع بحقوقِهم تجاهَ غيرهم، والعكس بالعكس.
ألا فإنّ تواضعَ الشريفِ إنما هو زيادةٌ في شرفِه، كما أنّ تكبر الوضيع إنما هو زيادة في ضعته، كالعائل المستكبر الذي لا يكلِّمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكِّيه وله عذاب أليم.
فيا سبحانَ الله، كيف لا يتواضَع من خُلق من نطفة مذِرة، وآخرُه يعود جيفةً قذِرة، وهو بينهما يحمل العذِرةَ أجلَّكم الله؟!
إنّه لو لم يكن في التّواضع خصلة تُحمد إلا أنّ المرءَ كلَّما كثُر تواضعه كلَّما ازدادَ بذلك رفعةً لكان الواجِب على كلّ واحد منّا أن لا يتزيَّى بغيره.
ولا جَرَم عباد الله، فإنّ رسول الله يقول: ((ما من امرئ إلا وفي رأسه حَكَمة ـ يعني كاللجام ـ ، والحَكَمة بيدِ مَلَك، إن تواضَع قيل للملك: ارفع الحَكَمَة، وإن أراد أن يرفعَ قيل للملك: ضعِ الحَكَمة)) رواه الطبرانيّ والبزّار بسند حسن [2] ، وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((ما تواضَع أحدٌ لله إلاّ رفعه الله)) [3].
فاقدُ التواضع ـ عبادَ الله ـ إنما هو امرؤ استعبده الكبر القاتل والعجبُ الغالب، فهو عنيدٌ صلت، به يخبو قبسه ويكبو فرسه.
فاقدُ التّواضع عقله محصود؛ لأنّه بعُجبه وأنَفَته يرفع الخسيس ويخفِض النّفيس، كالبحر الخضمّ تسهل فيه الجواهر والدرّ، ويطفو فوقَه الخشَاش والحشاش، أو هو كالميزان يرفع إلى الكفَّة ما يميل إلى الخِفّة.
فاقدُ التواضع ـ عبادَ الله ـ عديم الإحساس بعيد المشاعر، شقيٌّ لا يتَّعظ بغيره، غير مستحضرٍ أنّ موطِئه قد وطِئه قبلَه آلاف الأقدام، وأنَّ مَن بعده في الانتظار.
ألا وإنّه ما رُئي أحَدٌ ترك التّواضعَ وترفَّع على من هو دونه إلا ابتلاه الله بالذّلّة لمن فوقه، ومن استطالَ على الإخوان فلا يثقَنَّ منهم بالصفاء.
من تكبَّر فلم يتواضع فقد رمى بثِقله في ثلاث خصال مذمومة:
أوّلها: أنه لا يتكبّر على أحد حتى يُعجَب بنفسه، ويرى لها الفضلَ على غيرها.
وثانيها: ازدراؤه بالناس مِن حوله، لأنّ من لم يستحقر الناس لم يتكبّر عليهم، وكفى بالمستحْقِر لمن أكرمه الله بالإيمان طغيانًا، وأنَّى للمستكبر أن يستعبد الناسَ وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!
وثالث الخصال: منازعة الله جلّ وعلا في صفاته، إذ الكبرياء والعظمَة له وحدَه لا شريك له، يقول سبحانه في الحديث القدسيّ: ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحدًا منهما ألقيتُه في جهنّم)) رواه مسلم [4].
ألا فليتَ شِعري، ما الذي يحمِل الكثيرين على أن يركنوا إلى العُجب والأنفة، وينأَوا بأنفسهم عن التّواضع وخفض الجناح؟! أفيكون السبب في ذلك فِطرةً يُفطر عليها المتكبِّر، فيدَّعي جِبِلِّيتها وصعوبةَ الخلاص منها؟! كلاّ والله، فالنّبي يقول: ((إنّ الله أوحي إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخَر أحد على أحد، ولا يبغيَ أحد على أحد)) رواه مسلم [5].
أم أنّ ذلك نقيصةٌ يجدها المرء في نفسه، ثُمَّةَ يسدُّ ثُلمتَها بعُجْبٍ وفخر يحتال بهما على نفسِه، ربما يكون مثل هذا، ولكن لمن جهل حقيقةَ الشّرف والرفعة، وأنها في التّواضع لا في الفرار منه، بحجّة سدِّ النقيصة أو قضاء الوطَر، يقول الصديق رضي الله تعالى عنه: (وجدنا الكرمَ في التقوى، والغنى في اليقين، والشّرفَ في التواضع) [6].
ثمّ إن لم يكن الأمرُ لا هذا ولا ذاك، فما الذي يحمِل المرءَ على ذلك؟! هل هو الحسد والتشفّي وحبّ الذات، أم هو سورةٌ كسَورة الخمرةِ تأخذ شاربها كلَّ مأخذ حتى ينتشي، فإذا انتشى عاوَد حتى يصير مدمِنًا، فيستوي عنده حال الخُمار والإفاقة؟!
وأيًّا كان ذلك فإنّ النأيَ عن التواضع سِمة مرذولة وخَصلة مستهجنةٌ ووسمٌ تعلق به نار الحدّادين؛ لأنّ عين المعجَب بنفسه تنظر من زاوية داكنة، فهي تعمى عن الفضائل، حتى يكون أسرعَ ما يتسرَّب الإيمان من امرئٍ هذه حاله كما يتسرَّب السائل من الإناء المثلوم.
ويا لله العجَب، كيفَ لا ينظر أمثالُ هؤلاء إلى سِيَر الأسلاف مِن قبلهم؟! وعلى رأسِهم إمامنا وقدوتُنا سيّد ولد آدم ذو النسب الرفيع والجاهِ الوسيع، فها هو قد نام على الحصير، وابتسَم في وجهِ مَن أوجعه، ووقَف إلى جانب امرأةٍ في الطريق تشكو إليه، وشرِب مع أصحابه في إناء واحد وكان آخرَهم شُربًا، كما أكل مع أهل الصفّة، ثم دخل مكّة في الفتح متواضعًا، ومشى في الأسواق والناس من حوله، يأكل مما يأكلون منه، ويشرَب مما يشربون، بأبي هو وأمّي صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا خليفتُه الصدّيق رضي الله تعالى عنه كان يحلِب لأهل الحيِّ أغنامهم، فلما بُويع بالخلافة قالت جاريةٌ منهم: الآن لا يحلِب لنا منائحَ [7] دارنا، فسمِعها فقال: (بلى، لأحلبنَّها لكم، وإني لأرجو ألا يغيِّرني ما دخلتُ فيه) [8].
ثُّمَّةَ الفاروق، وما أدراكم ما الفاروق، خطبَ بعد خلافتِه فقال: (اعلَموا أنّ تلك الشدّة قد أُضعِفت، ولكنّها إنما تكون على أهل الظلم والتعدِّي على المسلمين، فأمّا أهلُ السلامة والدين والقَصد فأنا ألين لهم من بعضِهم لبعض، وإنّني بعد شدَّتي تلك أضع خدِّي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف) [9] ، فلا إله إلا الله، أحقيقةٌ ما نسمع أم هو نسج من الخيال؟! أهو فُتون يتردَّد أم هي حقيقة اكتنفتها قلوبُ من يعرفون ما الدّنيا وما الله؟!
عند الترمذي والحاكم أنّ جبير بنَ مطعم قال: تقولون: فيَّ التِّيه [10] ، وقد ركبتُ الحمار، ولبستُ الشملة، وقد حلبت الشاة، وقد قال رسول الله : ((من فعَل هذا فليس فيه مِن الكبر شيء)) [11].
ألا فليتنبَّه لذلك المغرورون المعجَبون بأنفسِهم وجاهِهم في حينِ إنهم بادو الكبرياء كالحو الوجوه، ومَن هذه حاله فلا يغترَّ بكونِه يملك ألفًا، فإنّ عليه من الحقوق والتّبعات ما قد يزيد على الألفين.
ألا وإنّ حُسنَ الصورة وجمالَ المظهر لا يقدِّم في ذلك ولا يؤخِّر، فإنّ جمال الوجه في قبحِ نفسٍ كقنديلٍ على قبر مجوسي.
وهل ينفع الفتيانَ حسنُ وجوههم إذا كانت أخلاقهم غيرَ حِسان
ومن قايَس بين الجمال والفعال تبيَّن له أنّ الملاحة بالقباحة لا تفي بالمقصود، فلِلَّه ماذا يعني لباسُ المظهر إذا كان المخبر عاريًا باديةً للناس سوأته؟! يَـ?بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُو?رِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ?لتَّقْوَى? ذ?لِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26].
إنَّ مَن سُرَّ بأنَفَته فليعلمْ أنّ الجمل أشدُّ كبرًا منه، بل وأشدُّ منه ذلكم الطاووس الذي يمشي مشيَ المرِح المختال، يتصفَّح ذنَبَه وجناحيه فيقهقِه ضاحكًا لجمال سرباله وأصابيغ وشاحِه، فأيُّ فخر وأيّ سرورٍ فيما تكون فيه صورة البهائم متقدِّمة عليه؟!
فينبغي للعاقل إذا رأى مَن هو أكبر منه سنًّا تواضعَ له وقال: سبقني إلى الإسلام، وإذا رأى من هو أصغر منه تواضَع له وقال: سبقتُه بالذّنوب، وإذا رأى من هو مثله عدَّه أخًا قريبًا، فلا يحقِرنَّ أحدًا من المسلمين، فكم من عودٍ منبوذ ربما انتُفِع به فحكَّ الرجل به أذنَه، وقد قال ابن عيينة: "لو قيل: أخرِجوا خيار هذه القرية لأخرجوا من لا نعرف".
مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، وَ?خْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ?تَّبَعَكَ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيها من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه كان غفارًا.
[1] أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/54، 5/178) بنحوه.
[2] أخرجه الطبراني في الكبير (12/218) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (3/352)، والهيثمي في المجمع (8/82)، والسيوطي في الجامع الصغير، والمناوي في الفيض (5/467)، وله شواهد ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (538).
[3] أخرجه مسلم في البر (2588).
[4] أخرجه مسلم في البر (2620) من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما بنحوه.
[5] أخرجه مسلم في كتاب الجنة (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
[6] انظر: إحياء علوم الدين (3/343).
[7] جمع منيحة وهي الناقة أو الشاة المعارة للمنفعة.
[8] أخرجه الطبري في تاريخه (2/354).
[9] أخرجه البيهقي في الاعتقاد (ص360-361) من طريق سعيد بن المسيب عن عمر بنحوه.
[10] أي: يتهمونه بالكبر.
[11] أخرجه الترمذي في البر (2001)، والبيهقي في الشعب (8195)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وصححه الحاكم (7373)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1627).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانِه.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، لا زلنا نؤكِّد بأنّ التّواضع شأنُه عظيم وأمره جسيم، قد تكلَّم فيه أهل العلم والحكمة، وأجلبوا عليه بخيلهم ورجِلِهم، مبيِّنين ما له وما عليه بالأدلّة الشرعية، فجعلوا منه التواضعَ المحمود والتواضعَ المذموم.
فكان من التّواضع المحمود أن يتركَ المرء التطاولَ على عباد الله والترفّع عليهم والإزراءَ بهم، حتى مع وقوع الخطأ عليه، فقد قال النبي : ((ما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا)) رواه مسلم [1].
ومِن ذلك أيضًا التواضعُ للدّين والاستسلام لشرعِ الله بحيث لا تعارضه ـ أيها المرء المسلم ـ بمعقولٍ ولا رأي ولا هوًى، ولا تتَّهم للدّين دليلاً صحيحًا، وأن تنقادَ لما جاء به خاتم الرسل ، وأن تعبُدَ الله وفقَ ما أمرَك به، وأن لا يكونَ الباعث على ذلك داعي العادة، وأن لا ترى لنفسِك على الله حقًّا لأجل عملٍ عملتَه، وإنما تعلم أنّك ترجو رحمته وتخشى عذابَه، وأنّك لن تدخلَ الجنّة بعملك، وإنما برحمتِه لك.
كما أنّ من التواضع المحمود أيضًا أن تتركَ الشهوات المباحة والملذّات الكماليّة احتسابًا لله وتواضعًا بعد التمكُّن منها والاقتدار عليها، دونَ أن توصَف ببخل أو طمعٍ أو شحّ، فقد قال النبي : ((من ترك اللباس تواضعًا لله وهو يقدِر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيّره من أيّ حُلل الإيمان شاء يلبسها)) رواه أحمد والترمذي [2].
وممّا يزيد الأمرَ وضوحًا أنّ فاقدَ الشيء لا يعطيه، وأنّ المتواضعَ حقيقةً هو المقتدِر على الشيء لا العاجزُ عن تحصيله، فلقد قال رسول الله : ((يا عائشة، لو شئتُ لسارتْ معي جبال الذهب، جاءَني ملك فقال: إنّ ربَّك يقرأ عليك السلام ويقول: إن شئتَ نبيًّا عبدًا، وإن شئت نبيًّا ملِكًا، فنظرتُ إلى جبريل عليه السلام فأشار إليَّ أن ضعْ نفسَك، فقلتُ: نبيًّا عبدًا)) رواه أبو يعلى والطبرانيّ بسند حسن [3].
أمّا التواضع المذموم ـ يا رَعاكم الله ـ فهو التّواضع أمامَ نُصرة دينِ الله سبحانه، والذي يسبِّب التخاذلَ وهجرَ النّصيحة وهجر الأمرِ بالمعروف والنّهيِ عن المنكر والخنوعَ أمام الباطل والبعدَ عن نصرة الظالم والمظلوم، حتى يكون مَن هذه حاله كالكوز مجخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا.
كما أنَّ مِن التّواضع المذموم تواضعَ المرء لصاحب الدنيا والجاه والنسب رغبةً في شيء مما عنده حتى يُصبح عالةً أمام المغريات فيفتَن بها.
وعلى رأسِ الفِتن النّاقضة للتّواضع المحمود اتّباع الهوى والانحرافُ عن المنهج القويم والغلوّ في الدين أو الغلوّ في التفلّت من الدّين، وكذا الإحداثُ في الدّين والاعتداء على الحرمات أو الاستهانة بها كحرمةِ الدّين والمال والنّفس والعرض والعقل، والبعدُ عن طاعة الله ورسوله وأولي الأمر من المسلمين فيما هو طاعة لله وعدمُ ردِّ الأمور إلى الله والرسول عند التنازع كما قال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَأُوْلِى ?لأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ?للَّهِ وَ?لرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ ذ?لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]، إضافةً إلى الاستهانةِ بعلماءِ المسلمين الربّانيّين وعدمِ الرّجوع إليهم، وذلك من خلال الاستقلال بالرأي دونهم أو الإحساس بالكمَال الزائف الدّاعي إلى الاستغناء عنهم وعمّا يحملونه من نور وهدايةٍ وإخلاص ووسطيّة، يقودون من خلالها سفينةَ المجتمع إلى مرفأ الأمان والفَلاح المبين.
وحاصلُ الأمر ـ عبادَ الله ـ أنّ التّواضع مِن أعظمِ ما يتخلَّق به المرء، فهو جامع الأخلاق وأسُّها، بل ما مِن خُلُق في الإسلام إلا وللتّواضع منه نصيب، فبِهِ يزول الكبر، وينشرح الصدر، ويعمُّ الإيثار، وتزول القسوَة والأنانيّة والتشفّي وحبّ الذات، وهلمّ جرًّا.
اللهمّ إنّا نعوذ بك من الغلّ والحسَد، اللهمّ إنّا نعوذ بك من الغلّ والحسد، ونعوذ بك اللهمّ أن نجرّ بهما على مسلمٍ سوءًا يا ذا الجلال والإكرام.
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم ـ أيها المسلمون ـ فقال عزّ من قائل عليم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...
[1] أخرجه مسلم في البر (2588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (3/438، 439)، والترمذي في صفة القيامة (2481)، وأبو يعلى (1484، 1499)، والطبراني في الكبير (20/180، 188)، والبيهقي في الشعب (5/150، 151) من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه الحاكم (206، 7372)، وهو في السلسلة الصحيحة (718).
[3] أخرجه ابن سعد في الطبقات (1/381)، وأبو يعلى في المسند (4920) من حديث عائشة رضي الله عنها، ومن طريقه الذهبي في السير (2/195) وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وعزاه الهيثمي في المجمع (9/19) لأبي يعلى وحسّن إسناده، وهو مخرج في السلسلة الضعيفة (2045).
(1/2728)
النهي عن الضّرر
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
18/5/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من مقتضيات الأخوة الإيمانية. 2- النهي عن الإضرار. 3- التحذير من الإضرار في الوصية. 4- النهي عن الإضرار بالزوجة. 5- النهي عن الإضرار بالمعسرين. 6- التحذير من الإضرار في البيوع والمعاملات. 7- النهي عن الإضرار بالجيران. 8- النهي عن الإضرار في الشهادة والكتابة. 9- النهي عن الإضرار بالبنين والبنات. 10- النهي عن الإضرار بأصحاب الحقوق. 11- النهي عن الإضرار بذوي الحاجات. 12- النهي عن الإضرار في أنواع العبادة. 13- النهي عن الإضرار بالنفس. 14- التحذير من التستر على المجرمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، أخوَّةُ الإيمان تقتضِي مِن المؤمنِ أن يحبَّ لأخيه الخيرَ ويكره له الشرّ، يحبّ له ما يحبّ لنفسه، يكره له ما يكره لنفسه. إذًا فما يسعى في إلحاق الضّرر به، لا في بدنِه ولا في عِرضه ولا في مالِه ولا في ولدِه، بل هو بعيدٌ كلَّ البعد عن إلحاق الضّرَر بجميع صوَره وأشكاله، فإنّ إلحاقَ الضّرَر بالمسلم نوع من الأذى والله يقول: وَ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بِغَيْرِ مَا ?كْتَسَبُواْ فَقَدِ ?حْتَمَلُواْ بُهْتَـ?نًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب:58]، ونبيّنا يقول: ((لا ضرَرَ ولا ضِرار)) [1] ، وفي حديث آخر يقول : ((من ضارّ ضارّ الله به، ومن شاقّ شقّ الله عليه)) [2]. إذًا فالجزاء من جِنس العمل، فمَن سعى في الخير فرّج كربَ مكروب وهمَّ مهموم فرّج الله كرَبَه وهمّه، ومن يسَّر على مُعسِر يسّر الله عليه، ومَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، وعكس ذاك والعياذ بالله من مكَر بإخوانه المسلمين مُكِر به، ومن ضارّهم ألحق الله به الضّرر، ومن أساء إليهم سلّط الله عليه جزاءً وفاقًا، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أيّها المسلم، فكن مجتنبًا للضَّرر، سواء في نفسك بأن تُلحقَ بها ضررًا أو بزوجتك أو بأولادك أو بجيرانك أو بمَن تعامله أو بمَن لك عليه سُلطة تنفيذيّة، فكن بعيدًا عن الضّرر بكلّ معناه وصوَره لتكونَ من المؤمنين حقًّا.
والله جل وعلا قد بيّن لنا أنوعًا من الضّرر نهانا عن الوقوع فيها، فمِن ذلكم الإضرار في الوصيّة قال تعالى: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى? بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ وَصِيَّةً مّنَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ [النساء:12].
الإضرار في الوصيّة يكون بأحدِ أمرين: إمّا أن يوصيَ لوارثٍ بشيء فوقَ حقّه الذي يستحقّه من الميراث، فيكون بذلك مضارًّا ببقيّة الورثة، ولذا قال الرّسول : ((إنّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقّ حقَّه، فلا وصيّة لوارث)) [3]. ومنها ثانيًا: أن يوصيَ بأكثرَ من الثلث لغير الوارثين، والوصيّة بأكثر من الثلث لا تجوز إلا بموافقةِ الورثة، ونبيّنا يقول: ((الثلث، والثلث كثير، إنّك أن تذَرَ ورثتَك أغنياءَ خير من تذرَهم عالةً يتكفَّفون النّاس)) [4] ، ويقول : ((إنّ الله تصدّق عليكم عند موتكم بثلث أموالكم زيادةً في حسناتِكم)) [5]. إذًا فلا تجوز الوصيّة بأكثر من الثّلث، فإن فعل كان مضارًّا بذلك، ولهذا قال الله: فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:182]، وفي الحديث المرويّ عنه : ((وإنّ العبدَ ليعمل بطاعة الله سبعين سنةً، فيحضره الموت، فيجور في وصيّته فيدخل النّار، وإنّ العبدَ ليعمل بمعصية الله سبعين سنة، فيحضره الموت، فيعدِل في وصيّته فيدخل الجنة)) [6] ، وذلك أنّ الله جلّ وعلا جعل الوصيّة مشروطةً بعدم الضّرر، والإضرارُ في الوصيّة من كبائر الذّنوب كما قال ابن عبّاس [7] لأنّ الله قال: تِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَرُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَـ?لِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:13، 14].
ومِن أنواع الضّرر الضّرر بالمرأة أحيانًا، فبعضُ النّاس يُلحِق الضّرر بامرأتِه، إذا لم يكن في قلبِه محبّةٌ لها أحبّ أن يلحِقَ الضّرر بها، فربّما طلّقها ثمّ راجعها لأجل الإضرار والإساءة، قال تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ?لنّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ [البقرة:231]. كانوا في الجاهلية يطلِّق فإذا قارب انقضاءَ العدّة راجعها لإلحاق الضّرر بها، فجاء الإسلام وحدّد الطلاق بثلاث، ثم أيضًا مع هذا أرشد المسلمَ إذا أراد أن يُراجع بعد الطلاق فليراجع مراجعةَ مَن يُحبّ القيام بالواجب والمعاشرة بالمعروف، لا مراجعة من يريد الإضرارَ والإساءة، قال تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذ?لِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَـ?حًا [البقرة:228].
ومِن أنواع الضّرر بالمرأةِ أيضًا أن يُضارّ بها لأجل أن تفتديَ منه وتدفعَ له ما دفع لها ولم يكن من المرأة خطأ ولا تقصيرٌ في واجب، لكن ما قسَم الله محبةً بينهما، فيلحق الضّرر بها أو بأهلها أو بشرفِها لأجل أن يُعطَى ما دفع فيُمسِك عن القيل والقال، وهذا غايةُ الخِسّة والدّناءة، ولهذا قال الله: وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ [النساء:19]، فعضلُ المرأة والإساءة إليها لأجل أن تفتديَ بنفسها منه من غيرِ نقصٍ حصل منها هذا نوعٌ من الضّرر.
ومِن الضّرر بالمرأة أيضًا أن لا يعدِل بينها وبين ضرّتها، وأن يميل مع [واحدة] دون الأخرى، فهذا من الضّرر المنهيِّ عنه لأنّه خلاف العدل المأمور به شرعًا.
ومن أنواع الضّرر بالمرأة أو بالزّوج أن يُؤخَذ من المرأة أولادُها الصّغار لأجل إلحاق الأذى والضّرر بها، قال تعالى: وَ?لْو?لِد?تُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـ?دَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ?لرَّضَاعَةَ وَعلَى ?لْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ و?لِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ [البقرة:233]، فلا يضارّ الرجل المرأةَ بأخذ ولدِها الصغار لإفجاعها وإلحاقِ الأذى بها، كما لا تضارّ المرأة الرجلَ الذي فارقها بعدم القيامِ بحقّ الأولاد لأجل أن تضطرّه إلى أمورٍ يعجز عنها. فكلٌّ من الرّجل والمرأة لا يلحق الضّررَ بصاحبه، والنتيجة عند ذلك ضياعُ الأولاد وإصابتهم بالأزمات النفسيّة، فإنّ نزاع الزوجين النتائجُ السيئة تلحق بالأولاد.
ومِن أنواع الضّرر أيضًا الضّرر بالمعسِر العاجز عن التّسديد، فإنّ الله يقول: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى? مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]. فإذا عجز الغريم عن الدَّين وعلمتَ عجزَه عن الوفاء وعدمَ قدرتِه على الوفاء فلا تُلحِق الضّررَ به قولاً أو فعلاً لأنّه عاجز عن الوفاء، وعليك الانتظارُ حتى يفرّج الله الأمر.
ومِن أنواع الضّرَر أيضًا ما يتحكّم به بعض النّاس في البيع، فإذا أتاه المضطرّ المحتاجُ وعلم ضررَه وحاجتَه ضاعف عليه القيمةَ أضعافًا كثيرة، فما يستحقّه بألفِ ريال لا يعطيه تقسيطًا إلا بألفين أو أكثر، يتحكّم في مصير هذا العاجز المضطرّ، والبيع بالتّقسيط والأجل جائز، والزيادةُ لأجل التأجيل جائزة، لكن بالرّفق وعدمِ إلحاق المشقّة واستغلالِ ضرورتِه وحاجتِه، أن تحمّلَه من الديون ما يعجز عن وفائه، فإمّا أن تعينَه وترفُق به، وإلا فعدمُ إعطائك إيّاه أولى من إلحاق الضّرر به.
أيّها المسلم، ومِن أنواع الضّرر احتكارُ الأشياء وعدم بيعها إلا عندما يحتاج الناس إليها، فإنّ المحتكر خاطِئ ومتوعَّد بوعيدٍ شديد.
ومِن أنواع الضّرر الذي يُنهَى المسلم عنه الغشُّ في المعاملات وكِتمان عيوبِ السِلَع والتدليس والكذب وعدمُ الوضوح في البيع والشراء، هذا من إلحاق الضّرر بالمسلم، والمسلم مأمورٌ بالبعد عنه، ومن غشّنا فليس منّا.
ومِن أنواع الضّرر ـ أيّها المسلم ـ أن يكونَ الإنسان مُروِّجًا لسِلَع تضرّ بالناس في دينهم ودنياهم، فمروِّجو المخدّرات والمسكرات والساعون في بثّها في المجتمع المسلمِ هؤلاء قد ألحقوا ضررًا بالأمّة، وسعَوا في إفسادها وتدمير كيانِها والقضاء في قيَمها وأخلاقها، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
أيّها المسلم، وإنّ من أنواع الضّرر أن تلحقَ الأذى والضّرر بجارك، فتسيء إليه، إمّا أن تضَع في بيتك أمورًا تضرُّ به وتسيء إليه بجميع أنواع الضّرر، سواء كان هذا الضّرر بأصواتٍ مزعجة أو بفَتح نوافذَ ربّما تطّلع منها على عوراتِه أو تضَع في بيتك ما يقلِقه ويضجره، فإنّك مأمور بإكرام الجار، ومنهيّ عن إلحاقِ الضّرر بالجار، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرِم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره.
أيّها المسلم، ومِن أنواع الضّرر المنهيِّ عنه الضّرر في الشهادة وكتابةِ العقود، قال تعالى: وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ [البقرة:282]. فالشّاهد لا يضارّ، ولا يُدعَى إلى الشهادة في وقت هو لا يستطيع الحضورَ [فيه]، أو يكلَّف ما لا يطيق، كما أنّ الكاتبَ أيضًا لا يكلَّف بما لا يطيق، وكذلك الكاتب والشّاهد لا يضارّان في كتابتهما وشهادتهما، فشاهدُ الزّور يُعتبرَ مضارًّا بمَن شهد عليه، لأنّ شهادتَه ظلم وعدوان، وكاتب العقود بغير ما أمِر بكتابته يكون مضارًّا بما كتب، ومَن عنده شهادة يتوقَّف حصول الحقّ عليها إذا كتمَها كان مضارًّا بمَن له الحقوق؛ لأنّ الله يقول: وَلاَ تَكْتُمُواْ ?لشَّهَـ?دَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283].
هكذا أيّها المسلم، دين الإسلام يدعوك إلى الخير، يحذِّرك من إلحاق الضّرر بإخوانك المسلمين بكلّ ما تحمِله الكلمة من معنى.
فلنتَّق الله في أنفسنا، ولنترفّع عن الإضرارِ بإخوانِنا، لنكونَ مؤمنين حقًّا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر والحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] روي هذا المتن عن عدد من الصحابة، منهم: أبو سعيد الخدري أخرجه الدارقطني (3/77)، والبيهقي (6/69)، وصححه الحاكم (2345)، وحسنه النووي في الأربعين، ورواه مالك في الموطأ من هذا الوجه مرسلا (1461)، قال ابن عبد البر في التمهيد (20/158): "لا يسند من وجه صحيح". وعن عبادة بن الصامت عند ابن ماجه في الأحكام (2340)، وعبد الله في زوائد المسند (5/326)، والبيهقي (6/156، 10/133)، وهو منقطع. وعن ابن عباس عند أحمد (1/313)، وابن ماجه في الأحكام (2341)، وأبي يعلى (2520)، والطبراني في الكبير (11/302)، وسنده ضعيف. وعن عائشة عند الطبراني في الأوسط (1033)، وسنده ضعيف أيضا. وعن جابر عند الطبراني في الأوسط (5193)، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص304): "إسناده متقارب، وهو غريب، ورواه أبو داود في المراسيل مرسلا، وهو أصح". وعن أبي هريرة عند الدارقطني، قال ابن رجب: "إسناده فيه شك". وعن عمرو بن عوف المزني، قال ابن عبد البر (20/157): "إسناده غير صحيح". وعن ثعلبة بن أبي مالك عند ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2200)، والطبراني في الكبير (2/86). فلا تخلو طرق هذا الحديث من مقال، لكن كما قال النووي: "إن بعض طرقه تقوي بعضا"، قال ابن رجب: "وهو كما قال... وقد استدل الإمام أحمد بهذا الحديث... وقال أبو عمرو بن الصلاح: هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه، ومجموعها يقوي الحديث ويحسنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به، وقول أبي داود: إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها يشعر بكونه غير ضعيف والله أعلم". وانظر: إرواء الغليل (896).
[2] أخرجه أحمد (3/453)، وأبو داود في الأقضية (3635)، والترمذي في البر (1940)، وابن ماجه في الأحكام (2342) من حديث أبي صرمة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3091). وفي الباب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أخرجه الدارقطني (3/77)، والبيهقي (6/69)، وصححه الحاكم (2345).
[3] أخرجه أحمد (5/267)، وأبو داود في الوصايا (2870) وفي البيوع (3565)، والترمذي في الوصايا (2120)، وابن ماجه في الوصايا (2713) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (949)، قال الحافظ في الفتح (5/372): "في إسناده إسماعيل بن عيّاش, وقد قوّى حديثه عن الشّاميّين جماعة من الأئمّة منهم أحمد والبخاريّ, وهذا من روايته عن شرحبيل بن مسلم وهو شاميّ ثقة, وصرّح في روايته بالتّحديث عند التّرمذيّ"، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2494). وله شاهد من حديث عمرو بن خارجة عند أحمد (4/186، 187، 238)، والتّرمذيّ في الوصايا (2121)، والنّسائيّ في الوصايا (3641، 3643)، وقال الترمذي: "حسن صحيح". وشاهد ثان من حديث أنس عند ابن ماجه في الوصايا (2714)، والدرقطني (4/70)، والبيهقي (6/264)، وصححه الضياء المقدسي (2144، 2145، 2146)، وقال البوصيري في المصباح (3/144): "إسناد صحيح، رجاله ثقات". وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عند الدّارقطنيّ (4/98). وعن جابر عند الدّارقطنيّ (4/97) أيضا وقال: "الصّواب مرسل". وعن آخرين قال الحافظ في الفتح (5/372): "ولا يخلو إسناد كلّ منها عن مقال, لكن مجموعها يقتضي أنّ للحديث أصلا, بل جنح الشّافعيّ في الأمّ إلى أنّ هذا المتن متواتر فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أنّ النّبيّ قال عام الفتح: ((لا وصيّة لوارث)) ، ويؤثرون عمّن حفظوه عنه ممّن لقوه من أهل العلم, فكان نقل كافّة عن كافّة, فهو أقوى من نقل واحد".
[4] أخرجه البخاري في الجنائز (1296)، ومسلم في الوصية (1628) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[5] ورد هذا الحديث عن عدد من الصحابة، منهم: أبو هريرة أخرجه ابن ماجه في الوصايا (2709) وفيه طلحة بن عمرو المكي وهو متروك، قال البزار كما في نصب الراية (4/400): "لا نعلم رواه عن عطاء إلا طلحة بن عمرو، وهو وإن روى عنه جماعة فليس بالقوي". ومنهم أبو الدرداء أخرجه أحمد (6/440)، والطبراني في مسند الشاميين (1484)، وأبو نعيم (6/104)، قال البزار كما في نصب الراية: "قد روي هذا الحديث من غير وجه، وأعلى من رواه أبو الدرداء، ولا نعلم له عن أبي الدرداء غير هذه الطريق، وأبو بكر بن أبي مريم وضمرة معروفان، وقد احتمل حديثهما"، وقال الهيثمي في المجمع (4/212): "رواه أحمد والبزار والطبراني، وفيه أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط". ومنهم معاذ بن جبل أخرجه الدارقطني (4/150)، والطبراني في الكبير (20/54)، قال الحافظ في التلخيص (3/91): "فيه إسماعيل بن عياش وشيخه عتبة بن حميد وهما ضعيفان"، وقال الهيثمي: "فيه عتبة بن حميد الضبي وثقه ابن حبان وغيره وضعفه أحمد"، وأخرجه ابن أبي شيبة (6/226) عن معاذ موقوفا. ومنهم خالد بن عبيد السلمي أخرجه الطبراني (4/198)، قال الحافظ في التلخيص: "خالد مختلف في صحبته، رواه عنه ابه الحارث وهو مجهول". ومنهم أبو بكر الصديق أخرجه العقيلي في الضعفاء (1/275)، وابن عدي في الكامل (2/386) وفيه حفص بن عمر العدني قال ابن عدي: "أحاديثه كلها منكرة المتن والسند". والحاصل أن طرق الحديث كلها ضعيفة، لكن قد يقوّي بعضها بعضا كما قال الحافظ في بلوغ المرام، وقد حسّن الحديث الألباني في الإرواء (1641).
[6] أخرجه أحمد (2/278)، وأبو داود في الوصايا (2867)، والترمذي في الوصايا (2117)، وابن ماجه في الوصايا (2704) من طريق شهر بن حوشب عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وقال المنذري كما في تحفة الأحوذي (6/255): "شهر بن حوشب قد تكلم فيه غير واحد من الأئمة، ووثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين"، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود (614).
[7] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9/88)، وابن منصور في سننه (258، 259، 260)، وابن أبي شيبة في المصنف (6/227، 228)، والنسائي في الكبرى (6/320)، وابن جرير في تفسيره (4/288، 289)، والبيهقي في الكبرى (6/271)، وروي مرفوعا وصحح وقفه غير واحد من الحفاظ، قال ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (1/486): "وهو صحيح عن ابن عباس من قوله"، وصححه الحافظ في الفتح (5/359).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
واعلم ـ أيّها المسلم ـ أنّ أولادك مِن بنينَ وبنات أمانة في عنقِك، فإيّاك وإلحاقَ الضّرر بهم.
إنّ مِن إلحاق الضّرر بالفتاة أن تمنَعها من كفءٍ أراد الزواجَ بها وتعلم أهليّتَه لذلك، فتمنع زواجَ الفتاة لمصلحةٍ ترجوها منها، مرتّبٌ تقبِضه كلَّ شهر، تمنعُها الزواجَ مراعاةً لمصالحك الخاصّة، متجاهلاً منفعةَ الفتاة ومصلحتَها في المستقبل، هذا كلّه من الضّرر.
ومِن الضّرر أيضًا أن لا تزوّجَها إلاّ أن تعاوَض عن زواجها بزواجٍ لك أو لأحدِ أبنائك، فترتكبُ نكاحَ الشّغار الذي نهى عنه محمد [1].
ومِن الضّرر بالأولادِ تفضيل بعضهم على بعض حتى تكون الشّحناء والعداوة بينهم.
ومِن أعظم الضّرر بالأولاد من بنينَ وبنات إهمالُ تربيتهم وإهمال توجيهِهم وعدمُ النظر في ذلك، فإنّ هذا نقصٌ في حقِّك، فالواجب أن تتّقيَ الله في أولادك بتربيتهم وتوجيههِم ودعوتِهم إلى الخير وترغيبهم فيه.
ومِن أنواع الضّرر ـ أيّها المسلم ـ أن تعرفَ لذي حقٍّ حقّه فلا تعطِي أهلَ الحقوق حقوقَهم، الواجبُ أن تقضيَ ما في ذمّتك من الحقوق، والنبيّ يقول: ((مطلُ الغنيّ ظلمٌ، يُحلّ عرضَه وعقوبتَه)) [2].
ومِن أنواع الضّرر أن تعاملَ الناسَ بدرجاتٍ مختلِفة، فبعض النّاس إذا كان ذا عمل ومصلحةٍ وممّن يؤمّه الجمهورُ يراجعونَه ويبحثون عن معاملاتهم، فبعضهم نفسُه دنيئة، إن رأى ذا جاهٍ ومكانة أنجز معاملتَه وسعى في تخليصِها في أسرَع وقت، وإن رأى فقيرًا عاجزًا ضعيفَ القولِ قليلَ الحيلة ماطل في قضاءِ حاجته، وربّما أتعبَه الأيامَ والشهور؛ لأنّه لا يرجو منه منفعةً، فهو إنّما ينجِز معاملةَ من يرجو المنفعةَ منه، أمّا من لا يرجو منه منفعة ولا يحصِّل من ورائه مصلحة فهو يماطل بحقوقِه ويتهاون بذلك، وتلك خيانةٌ للأمانة التي اؤتمنتَ عليها، وهي إنجاز الأعمال والقيام بحقّ الخَلق كما أمرك بذلك ربّك: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لأمَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].
ومِن أنواع الضّرر ما قد يضرّ العبد بنفسِه في أنواع العبادة، فإنّ العبادةَ التي أمر الله بها وسطٌ بين غلوّ الغالين وجفاءِ الجافين، ولهذا النبيّ أنكر على عبد الله بن عمرو بن العاص لمّا تعمّق في العبادة، فجعل ليلَه قيامًا ونهاره صيامًا وأعرض عن أهله، فقال له: ((يا عبد الله بن عمرو، إنّ لربّك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا)) [3] ، فأمره أن يقومَ بالحقوق كلِّها، وأن لا يفرّطَ في بعضِها على حسابِ البعض الآخر، فهذا من أنواع الضّرر لأنّ تعطيلَ جانبٍ من جوانب الخير [بسببِ] جانبٍ آخر يضرّ بالجانب الآخر، وفي الحديث: ((المتبتِّل لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى)) [4].
أيّها المسلم، ومِن أنواع الضّرر أن تلحقَ الضّرر بنفسِك بإزهاق نفسِك والعياذ بالله، وقد حذّرنا الله من ذلك فقال: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ عُدْو?نًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30]. فإلحاق الضّرر بنفسِك بأيّ [نوعٍ] من أنواع الضّرر أعظمُه القتل وما دون ذلك، كلّ هذا محرّم عليك فعلُه، بل الواجبُ الصّبر والرّضا بما قضى الله وقدّر.
ومِن أنواع الضّرر التستُّر على المجرمين والآثمين وأربابِ الفساد والساعين في الأرض فسادًا، فمن تستّر عليهم أو آواهم أو أقامَ العُذرَ لهم فإنّه ملحِقٌ الضّررَ بنفسه وأمّته؛ لأنّ المؤمنَ يسعى في الخير جاهدًا وفي كفِّ الشرّ والأذى ما استطاعَ لذلك سبيلاً.
أسأل الله أن يوفِّقني وإيّاكم لصالح القول والعمل، وأن يجعلَنا ممّن يسعى في الخير جهدَه ويبتعد عن الضّرر جهدَه، إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في النكاح (5112)، ومسلم في النكاح (1415) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] هذا النص مركَّب من حديثين: الأول قوله : ((مطل الغني ظلم)) أخرجه البخاري في الحوالات (2287)، ومسلم في المساقاة (1564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والثاني قوله : ((ليُّ الواجد يحِلّ عرضه وعقوبته)) علقه البخاري في الاستقراض، باب: لصاحب الحقّ مقال، ووصله أحمد (4/389)، وأبو داود في الأقضية (3628)، والنسائي في البيوع (4689، 4690)، وابن ماجه في الأحكام (2427) من حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (5089)، والحاكم (4/102)، ووافقه الذهبي، وحسنه الحافظ في الفتح (5/62)، والألباني في الإرواء (1434).
[3] أخرجه البخاري في الصوم (1974، 1975، 1977)، ومسلم في الصيام (1159) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بنحوه.
[4] أخرجه ابن المبارك في الزهد (1179)، والبزار كما في مجمع الزوائد (1/62)، والحاكم في معرفة علوم الحديث (ص95)، والقضاعي في مسند الشهاب (1147، 1148)، والبيهقي في الكبرى (3/18) من حديث جابر رضي الله عنهما بلفظ: ((المنبتّ)) ، قال الهيثمي: "فيه يحيى بن المتوكل أبو عقيل وهو كذاب"، وفي سنده اختلاف بينه البيهقي، وقال المناوي في الفيض (2/544): "روي موصولا ومرسلا ومرفوعا وموقوفا، واضطرب في الصحابي أهو جابر أو عائشة أو عمرو، ورجح البخاري في التاريخ إرساله"، وانظر: السلسلة الضعيفة (1/21)، وضعيف الجامع (2020).
(1/2729)
محبة النبي
العلم والدعوة والجهاد, قضايا في الاعتقاد
أحاديث مشروحة, الاتباع
محمد أحمد حسين
القدس
18/5/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث: ((ثلاث من كنّ فيه)). 2- دليل محبة النبي اتباعه. 3- صور من محبة الصحابة للنبي. 4- قصة عبد الله بن حذافة السهمي مع قيصر الروم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، يا أحباب رسول الله، في رحاب المسجد الأقصى الذي يدعوكم دائماً للالتفاف حوله وللصلاة فيه وشد الرحال إليه، ليبقى عامراً بالإسلام والمسلمين، فأنتم أهله، وأنتم حراسه الأوفياء.
أيها المؤمنون، إن الإيمان الذي ترتبط به سعادة الدنيا والآخرة، ويتميز به المؤمن عن سواه من الناس، له علامات وطعم ومذاق، فقد أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار)) [1].
أيها المسلمون، يا أحباب المصطفى صلى الله عليه وسلم، بنيان واضح، وميزان حق لا يخالطه باطل، وصراط مستقيم لا يعتريه خلل، يذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتم للمؤمن إيمانه، ويزن أعماله، ثم ليجد مذاق هذا الإيمان وحلاوته وطعمه في قلبه ونفسه وعمله، فمن اعتقد وشهد بالألوهية والربوبية والوحدانية لله وحده، وأظهر مقتضيات هذا الاعتقاد على جوارحه بالعمل الصالح، فقد أدى حق الشهادة التي هي أول مراتب الإيمان، ولا يصح عمل دونها.
وتحقيق هذا الإيمان والشهادة كما ذكر العلماء هو العلم المنافي للجهل، واليقين المنافي للشك، والإخلاص المنافي للشرك، والصدق المنافي للكذب، والمحبة لمنافية للبغض، والانقياد المنافي للامتناع، والقبول المنافي للرفض، فمن تحقق به هذه الصفات والتزم بهذه الشروط، كان ممن ذاق حلاوة الإيمان، وأدرك حقائق الإسلام والإحسان، والتحق بركب أهل السعادة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وقد أثنى الله على المؤمنين في كثير من آيات القرآن الكريم فقال تعالى: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَيُطِيعُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:71].
ونقرأ في هذا الكتاب العزيز رضوان الله عن الأولين من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين في قوله تعالى: وَ?لسَّـ?بِقُونَ ?لاْوَّلُونَ مِنَ ?لْمُهَـ?جِرِينَ وَ?لانْصَـ?رِ وَ?لَّذِينَ ?تَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ ?للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ?لانْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة:100].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، من مقتضيات محبة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعته واتباعه فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن يعظم المؤمن أمره ونهيه، فلا يقدم عليه قول أحد من الناس، فكل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام.
لقد جعل الله اتباعه علامة على محبة الله وسبباً لمغفرة الذنوب، قال تعالى: إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31].
فلا يكتمل إيمان المؤمن حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب الناس إليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)) [2]. فمحبته عليه الصلاة والسلام بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى تكون باتباع هديه وسنته، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: أجمع العلماء على أن من استبانت له سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد.
وقد سجلت كتب السنن محبة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم للرسول صلى الله عليه وسلم، في مواقف إيمانية لا تصدر إلا عمن ذاق حلاوة الإيمان، واطمأنت نفسه لهدي المصطفى عليه الصلاة والسلام.
من ذلك مبيت علي كرم الله وجهه في فراش النبي عليه الصلاة والسلام ليلة الهجرة، وعلي يعلم أن قريشاً تتربص بالنبي عليه الصلاة والسلام لتنال منه، وبذلك كان علي كرم الله وجهه أول من قدم نفسه فدائياً في الإسلام.
ويضع الصديق رضي الله عنه رجله في فم جُحر في غار ثور في طريق الهجرة الشريفة، حينما لم يجد ما يغلق به فم الجحر، حرصاً على النبي صلى الله عليه وسلم من الأذى.
ويلدغ أبو بكر رضي الله عنه بأفعى ذاك الجُحر، وينزل دمعه على وجه النبي صلى الله عليه وسلم من الألم الذي كتمه، مخافة أن يزعج النبي عليه السلام في نومه.
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجعلون من أجسادهم تروساً تقي النبي عليه الصلاة والسلام من سهام المشركين ورماحهم، وهذا خبيب بن عدي رضي الله عنه، خرج به أهل مكة لقتله خارج الحرم، وقد نصبوا خشبة صلبه، وراحوا يمثلون به وهو حي، ويقطعون من جسده، القطعة تلو القطعة، وهم يقولون له: أتحب أن يكون محمد مكانك، وأنت ناج في أهلك؟ فاسمعوا جواب المؤمن يا مسلمون، ما هو جواب المؤمن الذي تغلغل الإيمان في قلبه، وتمكن حب الله ورسوله من فؤاده؟ (والله ما أحب أن أكون آمناً وادعاً في أهلي وولدي، وأن محمداً يشاك بشوكة). إنه الإيمان يصنع الرجال.ويرتجز خبيب قائلاً:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
ويترك درساً لأهل الإيمان بالصبر والثبات والتضحية من أجل العقيدة والدين، فرضي الله عنه وعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلنا ممن يسير على نهجهم، ويقتفي أثرهم، إنه نعم المولى ونعم النصير.
جاء في الحديث الشريف أن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يؤمن أحدكم حتى يجب لأخيه ما يحب لنفسه)) [3].
فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
[1] البخاري في الإيمان، باب حلاوة الإيمان عن أنس (15)، ومسلم في الإيمان، باب خصال من اتصف بهن وجد (60).
[2] البخاري في الإيمان، باب حب الرسول من حديث أنس (14)، ومسلم في الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله (62).
[3] البخاري في الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه (12)، ومسلم في الإيمان، باب الدليل على خصال الإيمان (64).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اهتدى واقتفى بهداه إلى يوم الدين.
وبعد: أيها المسلمون، لقد أظهر سلفكم الصالح رضوان الله عليهم من خلال مواقفهم الإيمانية حب بعضهم بعضاً، وحبهم لله، وفي الله، وقد وصفهم القرآن الكريم بذلك وقال بحق السابقين ومن جاء بعدهم من المؤمنين: وَ?لَّذِينَ تَبَوَّءوا ?لدَّارَ وَ?لإيمَـ?نَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى? أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ وَ?لَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ?غْفِرْ لَنَا وَلإِخْو?نِنَا ?لَّذِينَ سَبَقُونَا بِ?لإَيمَـ?نِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:9، 10].
أيها المسلمون، ما هي مواقف المسلمين اليوم من اللاجئين الذين شُردوا من ديارهم، إن اللاجئين في العراق يستغيثون بكل شعوب العالم لتخليصهم من محنتهم.
أيها المسلمون، أما مواقف المؤمنين في كراهيتهم للعودة إلى الكفر بعد أن أنقذهم الله منه فلا تكاد تحصى، فبعد أن ذاقوا حلاوة الإيمان وخالطت بشاشته قلوبهم وملأت جوانحهم، قضى الكثير منهم شهيداً في سبيل هذا الموقف، وامتحن الكثير منهم، فصبر للمحن، وثبت أمام الترهيب والترغيب، اعتزازاً بالإيمان، ودفاعاً عن الحق الذي يمثله.
راجع موقف أبي بكر رضي الله عنه يوم الردة، وانظر كيف انتصر الإمام أحمد لعقيدة الإيمان يوم المحنة والفتنة التي تمثلت بالقول الباطل بخلق القرآن الكريم وحدوثه.
وهذا صحابي جليل (عبد الله بن حذافة السهمي) يقع أسيراً في أيدي الروم، ويساومه ملكهم على إطلاق سراحه إن هو استجاب له، فعرض عليه التنصر، فماذا كان جواب الأسير ؟ لقد قال في أنفة وحزم المؤمن: (إن الموت لأحب إلي ألف مرة مما تدعوني إليه)، فقال: له قيصر إني لأراك رجلاً فهماً، فإن أجبتني إلى ما أعرضه عليك أشركتك في أمري، وقاسمتك سلطاني، فرد الأسير المكبل بقيده: (والله لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما فعلت)، قال: إذاً أقتلك؟ قال الأسير: اصنع ما تريد، ثم أمر به القيصر، وأمر برميه من يديه ورجليه بالسهام، وهو يعرض عليه مفارقة الإسلام فأبى، وأتي بأحد أسرى المسلمين أمام زميله الأسير وأمر بحرقه في قدر يغلي بالزيت.
وبقى الأسير على ثباته وإيمانه، ليعرض عليه قيصر تقبيل رأسه مقابل إخلاء سبيله، فقال الأسير ـ وهو وفي هذا الموقف، حيث يحرص الإنسان على الحياة والنجاة ـ، فقال: وعن جميع أسرى المسلمين؟ فقال قيصر: وعن جميع أسرى المسلمين، عندها قال عبد الله في نفسه: عدو من أعداء الله أقبّل رأسه ويخلي عني وعن أسرى المسلمين، لا أرى أنه يجوز ترك ذلك علي.
ثم دنا منه وقبل رأسه، وانطلق مع أسرى المسلمين، قادماً إلى المدينة، حيث الفاروق عمر خليفة المسلمين، فأخبره بما جرى له، فنظر الفاروق إلى الأسرى قائلاً: (حق على كل مسلم أن يقبِّل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ بذلك)، ثم قام وقبّل رأسه [1].
فهل كثير ـ أيها المسئولون في هذا الزمان ـ أن تولى قضية الأسرى المسلمين، أسرى الحرية مزيداً من الاهتمام بإطلاق سراحهم وعودتهم إلى أهلهم، فهم بحق يستحقون من كل مسلم أن يقبل رؤوسهم.
إنها مواقف الإيمان، مواقف من ذاقوا حلاوة الإيمان وتهيؤوا لنصرة الإسلام، فهل ذاق طعم الإيمان من يتآمر على المسلمين وديارهم؟ أو هل عرف حلاوة الإيمان من والى المشركين وحالفهم، وخان جماعة المسلمين وطعنهم في الصميم؟ وهل ذاق طعم الإيمان من يتاجر بأخلاق شباب المسلمين بترويج المخدرات وشرب المسكرات؟ وهل ذاق طعم الإيمان من فرط بأرضه وعرضه وكرامته؟
أسئلة كثيرة تجد جوابها في واقع المسلمين اليوم، فهل من مدكر؟ وهل من معتبر فاعتبروا يا أولي الأبصار.
[1] القصة أخرجها ابن عساكر في تاريخه (انظر تفسير ابن كثير 2/589)، وذكرها الذهبي في سير أعلام النبلاء (2/14).
(1/2730)
الدين النصيحة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الآداب والحقوق العامة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
18/5/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل كلام الله وكلام رسوله. 2- من جوامع كلمه. 3- منزلة النصيحة في الإسلام. 4- تعريف النصيحة. 5- النصح من صفات الأنبياء والمؤمنين. 6- معنى النصيحة لله تعالى. 7- معنى النصيحة لكتاب الله تعالى. 8- معنى النصيحة لرسول الله. 9- معنى النصيحة لأئمة المسلمين. 10- معنى النصيحة لعامة المسلمين. 11- تذكير باليوم الآخر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله واخشَوه، ومن يَخْش اللّهَ وَيَتَّقه فأولئك همُ الْفائِزون.
أيّها المسلمون، إنَّ خيرَ ما وُعِظت به القلوب وهُذِّبت به النّفوس آياتٌ مِن كتاب الله تعالى أو أحاديث من كلام رسول الله ، قال الله تعالى: هُوَ ?لَّذِى بَعَثَ فِى ?لأُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ [الجمعة:2].
فألقوا الأسماعَ، وافتَحوا القلوب، وتفكّروا بالعقول في كلماتٍ معدودات لسيّد البشر محمّد ، جمعت الدّينَ الإسلاميّ كلَّه، واستوعبت مصالحَ الدين والدّنيا، فما مِن خير إلاّ تضمّنته هذه الكلمات، ولا شرٍّ إلا حذّرت منه؛ لأنّ نبيّنا أوتيَ جوامعَ الكلِم واختُصر له الكلامُ اختصارًا، فألفاظه القليلةُ جمعت المعانيَ النّافعة العظيمةَ الكثيرة، وقد تكون الكلمة الواحدةُ متضمِّنةً الإسلامَ بتعاليمه كلِّها، كقوله : ((الإحسان أن تعبدَ الله كأنّك تراه)) رواه مسلم من حديث عمر رضي الله عنه [1] ، وقوله : ((البرّ ما اطمأنّت إليه النّفس واطمأنّ إليه القلب، والإثم ما حاك في النّفس وتردّد في الصّدر وكرِهت أن يطّلعَ عليه النّاس وإن أفتاك النّاس)) رواه أحمد وروى مسلم بعضه [2].
ومِن جوامع كلِمِه النّافعة المباركة قوله : ((الدّين النصيحة، الدّين النصيحة، الدّين النصيحة)) ، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامَّتِهم)) رواه مسلم من حديث تميم الداري رضي الله عنه [3].
وهذا الكلام النبويّ المبارك فيه حصرٌ وفيه قصر، بمعنى أنّ الدين محصور ومقصور في النّصيحة، فمن اتّصف بالنّصيحة فقد أحرَز الدينَ كلَّه، ومن حُرم النصيحةَ فقد فاته من الدين بقدر ما حُرم من النصيحة.
وتفسير النّصيحة هي القيامُ بحقوق المنصوح له مع المحبّة الصادقةِ للمنصوح له، والحقوقُ تكون بالأقوال وتكون بالأفعال وإراداتِ القلب، قال الأصمعي رحمه الله: "النّاصح الخالص من الغلّ، وكلّ شيء خلُص فقد نصَح" [4] ، وقال الخطابيّ: "وأصل النّصح في اللّغة الخلوص، يقال: نصحتُ العسلَ إذا خلّصه من الشّمع" [5].
والنّصح من صفاتِ الأنبياء والمرسلين والمؤمنين، والغشّ والخداع والمكر وفسادُ النوايا من صفات الكفّار والمنافقين، قال الله تعالى عن نوحٍ عليه الصلاة والسلام: أُبَلّغُكُمْ رِسَـ?لـ?تِ رَبّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:62]، وقال تعالى عن هود عليه السلام: أُبَلّغُكُمْ رِسَـ?لـ?تِ رَبّى وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف:68]، وقال تعالى عن صالح عليه السلام: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ ?لنَّـ?صِحِينَ [الأعراف:79]، وقال تعالى عن شعيب عليه السلام: ي?قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَـ?لَـ?تِ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءاسَى? عَلَى? قَوْمٍ كَـ?فِرِينَ [الأعراف:93]، وقال تعالى: لَّيْسَ عَلَى ?لضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى? ?لْمَرْضَى? وَلاَ عَلَى ?لَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ?لْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ [التوبة:91]، وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: بايعتُ النبيَّ على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصحِ لكل مسلم. رواه البخاري ومسلم [6]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: ((حقّ المسلم على المسلم ستّ: إذا لقيتَه فسلّم عليه، وإذا دعاك فأجِبه، وإذا استنصَحَك فانصَح له، وإذا عطس فحمِد الله فشمِّته، وإذا مرِض فعُده، وإذا مات فاتبَعه)) رواه مسلم [7]. وعن جبير بن مطعم أنّ النبيّ قال: ((ثلاثٌ لا يغلّ عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاصُ العمل لله، ومناصحة ولاةِ الأمر، ولزوم جماعة المسلمين)) رواه أحمد وابن حبان [8]. ومعنى الحديث أنّ هذه الخلال الثلاث تصلح القلوبَ وتطهّرها من الخيانة والغلّ والخبائث.
وصُلحاءُ هذه الأمّة هم المتّصفون بالنصيحة لله ولكتاب الله ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم، قال أبو بكر المزنيّ رضي الله عنه: "ما فاق أبو بكر رضي الله عنه أصحابَ رسول الله بصوم ولا بصلاةٍ، ولكن بشيء كان في قلبِه"، قال: "الذي كان في قلبه الحبّ لله عز وجلّ والنصيحة في خلقه" [9] ، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "ما أدرك عندنا مَن أدرك بكثرةِ الصّلاة والصّيام، وإنّما أدرك عندنا بسخاوةِ الأنفس وسلامةِ الصدر والنّصح للأمّة" [10] ، وسئل ابن المبارك رحمه الله: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: "النّصح لله" [11] ، وقال معمر: كان يقال: "أنصحُ الناس لك من خاف الله فيك" [12] ، وقال بعض السلف: "من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوسِ النّاس فإنما وبّخه" [13].
ومعنى النّصيحة لله تعالى هي عبادتُه وحدَه لا شريك له بإخلاصٍ ومتابعة للهدي النبويّ مع كمال الذلّ والخضوع والمحبّة لله عز وجل، وعدمُ الإشراك به في الدعاء أو الذبح أو النّذر أو الاستعانة أو الاستعاذة أو الاستغاثة أو التّوكّل أو الرّجاء أو الرّغبة أو الرّهبة أو أيّ نوع من أنواع العبادة لقول الله تعالى: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا [النساء:36]، وقال تعالى: وَأَنَّ ?لْمَسَـ?جِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ?للَّهِ أَحَدًا [الجن:18].
والنّصيحة لله تعالى هي الإيمان بصفاتِه جلّ وعلا التي وصف بها نفسَه أو وصفه بها رسوله ، وإثباتُها كلِّها لله إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهُه عزّ وجلّ عمّا لا يليق به تنزيهًا بلا تعطيل للصفات، واعتقادُ توحُّده وتفرُّده سبحانه بالخلق والتّدبير وتصريف الكونِ في الدّنيا والآخرة، لقوله تعالى: أَلاَ لَهُ ?لْخَلْقُ وَ?لأمْرُ تَبَارَكَ ?للَّهُ رَبُّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأعراف:54]، ولقوله عز وجل: لَيْسَ لَكَ مِنَ ?لأمْرِ شَىْء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَـ?لِمُونَ [آل عمران:128]، والتقرّبُ إليه بكلّ فريضةٍ ونافلة، ومجانبة محرَّماته، فمَن قام بهذه الحقوق لربّه فقد نصح لخالقه، وفي مراسيل الحسن البصريّ عن النبيّ قال: ((أرأيتُم لو كان لأحدكم عبدان فكان أحدُهما يطيعه إذا أمره، ويؤدّي إليه إذا ائتمَنَه، وينصح له إذا غاب عنه، وكان الآخر يعصيه إذا أمَرَه، ويخونه إذا ائتمَنَه، ويغشّه إذا غاب عنه، أيكونان سواء؟)) قالوا: لا، قال: ((فكذلكم أنتم عندَ الله عزّ وجلّ)) خرجه ابن أبي الدنيا [14] ، وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبيّ قال: ((قال الله تعالى: أحبُّ ما تعبَّدني به عبدي النصحُ لي)) رواه أحمد [15].
ومِن النّصح لله تعالى محبّة ما يحبّ الله تعالى من الأقوال والأفعال، وبغضُ ما يبغضه الله تعالى من الأقوال والأفعال.
قال بعض أهل العلم: "جماعُ تفسير النّصيحة هو عنايَة القلب للمنصوح له مَن كان، وهي على وجهين: أحدهما فرض، والآخر نافلة. فالنّصيحة المفترضة لله هي شدَّة العناية من النّاصح باتباع محبّة الله في أداء ما افترض ومجانبةِ ما حرّم. وأمّا النصيحة التي هي نافلة فهي إيثار محبَّته على محبّة نفسه، وذلك أن يَعرِض أمران: أحدهما لنفسه والآخر لربّه، فيبدأ بما كان لربِّه ويؤخِّر ما كان لنفسِه" [16].
وأمّا معنى النّصيحة لكتاب الله تعالى فشدّةُ حبِّه وتعظيمُه وشدّة الرّغبة في فهمه والعنايةُ بتدبُّره والاهتمام بحفظه بقدر الاستطاعة وبقدر ما يوفِّق الله تعالى ويعين ومداومة تلاوته والتخلُّق بآدابه والتّحاكم إليه ودعوة النّاس إلى العناية به تعلُّمًا وتعليمًا.
وأمّا معنى النّصيحة لرسول الله فطاعةُ أمره واجتناب نهيِه وتصديق أخباره وعبادة الله بشرعه ونُصرة سنّته، والعناية بهديه تعلُّما وتعليمًا، وبُغض من يكرَه سنّتَه، والاقتداء به ظاهرًا وباطنًا ومحبتُه أكثرَ من النفس والمال والأهل والولد، والردُّ من العلماء على الأهواء المضلّة بالكتاب والسنّة والذبُّ عن سنّة رسول الله.
ومعنى النّصيحة لأئمّة المسلمين الدعاءُ لهم بالصّلاح وحبُّ صلاحهم وحبُّ عدلهم ورشدهم وحبُّ اجتماع الكلمة عليهم ومحبةُ نشر حسناتهم وبُغض ذكر مثالبهم وطاعتُهم في طاعة الله ومحبةُ إعزازهم وعدمُ الخروج عليهم بالأقوال أو الأفعال وبُغض من يرى الخروجَ عليهم ومناصحتُهم فيما يعود على الأمّة بالخير في دينهم ودنياهم بالرّفق والحكمة والإخلاص لله تعالى وعدمُ الدعاء عليهم.
وأمّا معنى النّصيحة لعامّة المسلمين فأن يحبَّ لهم ما يحبّ لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه ويرحم الصغير منهم ويوقّر الكبير ومعاونتُهم على الحقّ وتعليمُهم وأمرُهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وأن يدفعَ عنهم الأذى والمكروهَ والأخطار التي تهدِّدهم، ومِن أعظم الأخطار الكبيرة وأكبر الشرور النازلة بالأمّة ما وقع من أعمالٍ تخريبيّة وإرهابيّة استحلّت الدمَ الحرام والمالَ الحرام وروَّعت الآمنين واستهدفت الأمنَ والاستقرار، نبعت من فكر تكفيريٍّ خارجيّ عاثَ في الأرض فسادًا، ذمَّه الرسول أشدَّ الذمّ، فمِن النصيحة لعامّة المسلمين اجتثاثُ هذا الفكر التكفيريّ وتحذيرُ المسلمين منه ورفعُ من عُلِم عنه الإعداد لهذا التخريب والإفساد للسّلطات ليلقى جزاءَه، وليكفَّ شرَّه عن الدّماء المعصومة والأموال المحرّمة، ولا يجوز التستُّر عليه بحال. والنّصحُ للمسلمين حمايتُهم من كلّ ضرر في عقيدتهم ودينهم ودنياهم، والخوارجُ يفسِدون الدّينَ والدّنيا.
بسم الله الرحمن الرحيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ?لْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الأنفال:24، 25].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (8).
[2] أخرجه أحمد (4/227، 228)، وأبو يعلى (1586، 1587)، والطبراني في الكبير (22/147، 148) من حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه بنحوه، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (2/351)، وقال الألباني في صحيح الترغيب (1734): "حسن لغيره". ويشهد له حديث مسلم في البر (2553) عن النواس بن سمعان رضي الله عنه بنحوه.
[3] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (55).
[4] انظر: تفسير القرطبي (7/234).
[5] انظر: جامع العلوم والحكم (ص79).
[6] أخرجه البخاري في الإيمان (57)، ومسلم في الإيمان (56).
[7] صحيح مسلم: كتاب السلام (2162).
[8] أخرجه أحمد (4/80، 82)، وابن ماجه في المناسك (3056)، والبزار (3417)، وأبو يعلى (7413)، والطبراني في الكبير (2/126، 127)، وصححه الحاكم (294، 295، 296)، وقال الهيثمي في المجمع (1/139): "في إسناده ابن إسحق عن الزهري وهو مدلس، وله طريق عن صالح بن كيسان عن الزهري ورجالها موثقون". وهو في صحيح سنن ابن ماجه (2480). وصححه ابن حبان (67، 680) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. قال الحاكم: "وفي الباب عن جماعة من الصحابة منهم: عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وأنس رضي الله عنهم وغيرهم عدة"، ومنهم: أبو سعيد الخدري وأبو الدرداء والنعمان بن بشير وأبوه بشير وأبو قرصافة وجابر رضي الله عنهم، انظر: مجمع الزوائد (1/137-140). وقد ذكر السيوطي هذا الحديث في الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة.
[9] انظر: جامع العلوم والحكم (ص81).
[10] أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/103)، والبيهقي في الشعب (7/439).
[11] انظر: جامع العلوم والحكم (ص81).
[12] انظر: جامع العلوم والحكم (ص81-82).
[13] انظر: جامع العلوم والحكم (ص82).
[14] عزاه ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص78) لابن أبي الدنيا.
[15] مسند أحمد (5/254)، وأخرجه أيضا الروياني (1193)، والطبراني في الكبير (8/206)، وأبو نعيم في الحلية (8/175)، والبيهقي في الزهد الكبير (702)، وأشار المنذري في الترغيب (2/362) إلى ضعفه، وقال الهيثمي في المجمع (1/87): "فيه عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد وكلاهما ضعيف"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (4032).
[16] انظر: تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/691).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، القويّ المتين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحقّ المبين، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيِّدنا محمّدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فاتقوا الله أيّها المسلمون، واخشوا يَومًا تُرجعُون فيهِ إِلى اللَّه ثمَّ توَفَّى كلُّ نفسٍ ما كسَبت وهم لا يُظلمون.
وتمسكوا بوصيّة سيٍِّد البشر لمعاذ رضي الله عنه لمّا قال له: ((اتَّق الله حيثما كنت، وأتبِع السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالق النّاس بخلقٍ حسن)) [1].
فإنّ لكلّ حسنةٍ ثوابًا، ولكلّ سيّئة عقابًا، فربّكم قائمٌ على كلّ نفس بما عمِلت، يُحصي على الخلقِ أعمالَهم، ثمّ يدينهم عليها، ويقول في الحديث القدسي: ((يا عبادِي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوَفِّيكم إيّاها، فمن وجدَ خيرًا فليحمدِ الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه)) [2].
وكلّ إنسانٍ يلقى كتابَه، فآخذٌ بيمينه، وآخذٌ بشماله، قال الله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَـ?نٍ أَلْزَمْنَـ?هُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ كِتَابًا يَلْقَـ?هُ مَنْشُورًا ?قْرَأْ كَتَـ?بَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ ?لْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13، 14]، فأعدُّوا لهذا اليوم، وقدِّموا لأنفسِكم أفضلَ ما تقدرون عليه من العمل.
عبادَ الله، إنّ الله أمرَكم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال تبارك وتعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلى عليَّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهمَّ وارضَ عن الصحابة أجمعين...
[1] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة (1987)، والدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان عن وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به، وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395). ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين" ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن، وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2655، 3160).
[2] جزء من حديث أبي ذر القدسي الطويل في تحريم الظلم، أخرجه مسلم في البر (2577).
(1/2731)
الإجازة الصيفية والسفر إلى الخارج
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
أعمال القلوب, الآداب والحقوق العامة, السياحة والسفر
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
25/5/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حب الناس للسفر في الإجازة. 2- سفر المعصية وسفر الطاعة. 3- من سفر الطاعة التفكر في صنع الله. 4- السفر للدعوة إلى الله. 5- نعمة الله على عباده في تذليل وسائل السفر. 6- غياب الرقابة على بنات المسلمين في السفر. 7- السياحة في ربوع الوطن. 8- آداب السفر: الإخلاص وسلامة المقصد - إذن الوالدين - التماس الوصية - توخي المرافق - الحرص على أدعية السفر - التفقه في أحكام السفر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، خير الوصايا الوصية بتقوى الله رب البرايا، فتقواه سبحانه أنفع الذخائر للمسلم وأبقاها، وآكد المطاب وأقواها، في قفوها منازل الحق والتوفيق، وفي التزامها الاهتداء إلى الرأي الثاقب الوثيق، فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ في كل أحوالكم، في حلكم وارتحالكم، وظعنكم وانتقالكم، ومن تنكب سواء التقوى انقلب خاسئاً وهو حسير، فلبئس المولى وبئس العشير.
أيها المسلمون، في دوامة التنامي الحضاري السريع، وفي خضم التقدم التقني المذهل، في أعقاب هذا العصر الوثاب، وما قابل ذلك من انحسار ملحوظ, بل وسريع في الجانب القيمي والأخلاقي والنفسي بِأَخَرة، أورث ذلك كله توسعاً مذموماً، وانفتاحاً محموماً، في كثير من المجالات، واستحكام أنماط وعادات في الحياة المعاصرة، وحدوث ظواهر مستجدة لم تكن على قدر من حسبان سلفنا الصالح رحمهم الله.
ولتلك الموروثات المعاصرة في شريعتنا ـ بمقاصدها وأهدافها ـ ضوابطها وأحكامها وآدابها، كما أسفرت هذه المدنية المادية عن تبرّم فئام من الناس من المكث في بلدانهم والاستقرار في أوطانهم، والتطلع بينهم إلى التنقل بين كثير من الأقطار, وحطّ عصا الترحال لجَوْب عدد من الأصقاع والأمصار، كل بحسب مقصده ومراده وبغيته ومرامه، وما أن يأفل نجم العام الدراسي، وينبلج صبح الفصل الصيفي، وتتوسط شمس الإجازة كبد السماء، تسفح الوجوه بفيحها وأوارها, وتشتد لفحات الهواجر، ويلتهب رَأْد الضحى، حتى ينزع الناس إلى مواطن الأفياء الظليلة الندية، والمياه الشفافة الرقراقة، والأجواء المخملية النضرة، إجماماً للنفوس، وتطلباً لمتناهي سكونها وهدوئها.
وفي غمرة هذه الأوقات المحتدمة تتبدّى ظاهرة جدّ مقلقلة، وتبرز قضية على غاية من الأهمية، جديرة بأن تسبر أغوارها، وتجلى مزاياها وعوارها، كيف، وقد غالى في فهمها أقوام ومعانيها، وشطوا عن حقيقتها ومراميها، وأكبر الظن ـ يا رعاكم الله ـ أنها قد خالجت أذهانكم, ولم تعد خافية على شريف علمكم، تلكم ـ دام توفيقكم ـ هي قضية السفر والارتحال، والسياحة والانتقال.
معاشر المسلمين، الأصل في السفر الإباحة، والأسفار قسمان:
سفر للمعصية ـ عياذاً بالله ـ، وسفر للطاعة، وسفر الطاعة يتضمن الواجب كسفر الحج وتحصيل الرزق عند انعدامه ونحو ذلك، ومنه ما هو مستحب كزيارة البقاع المقدسة، ومنه زيارة ذوي القربى وصلة الرحم والحب في الله، والسفر لطلب العلم وزيارة أهله، وإغاثة الفقراء والمنكوبين.
وأما السفر المباح فما كان للتطبب, والاتجار والتسبب، وما كان للسياحة والنزهة وترويح النفوس وتجرد عن نية الثواب والطاعة، فالأمور بمقاصدها، ولكل امرئ ما نوى، والنية إذا حسنت تحيل العادات إلى عبادات، وإذا عرفت فالزم.
إخوة العقيدة، إن السفر الذي احتُسب فيه الأجر والثواب, وحُرص فيه على الطاعة وأنزه الآداب لهو بحق روضة للعقول, وبلوغ للأنس المأمول، وهو مَجْلاة للسأم والكلال، وبُعداً عن الرتابة والنمطية والإملال، وفضاء رحب للاعتبار والادكار، قُلْ سِيرُواْ فِى ?لأرْضِ فَ?نظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ?لْخَلْقَ [العنكبوت:20].
إبان السفر تتجلى عظمة الخالق البارئ سبحانه، فتخشع له القلوب أمام بديع السموات والأرض، أمام بديع خلق الطبيعة الخلابة, وتسبّحه الروح لمفاتنها الأخّاذة الجذابة، أراض شاسعة فِيح، أنبتت أجمل زهو بأطيب ريح، رياض أُنُف، وحدائق غلب، ونخيل باسقات، وواحات مُورقات، رواسٍ شمّاء، وأرض مدحية وسماء, وأنهار تجري بأعذب ماء.
أَمَّنْ خَلَقَ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ ?لسَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَـ?هٌ مَّعَ ?للَّهِ [النمل:60]، أَمَّن جَعَلَ ?لأرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ ?لْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءلـ?هٌ مَّعَ ?للهِ [النمل:61].
فسبحان الله ـ عباد الله ـ، مشاهد في الطبيعة ذائعة، ومخلوقات بديعة رائعة، تدهش الألباب، وفي إتقانها العجب العجاب، تفعم النفس والقلب مسرّة وابتهاجاً، لكن شريطة أن تكون على ممس من القلب والروح والفكر، وسبحان الله، كم يغلب على كثير من الناس أن يمروا بهذه المناظر وكأنهم إزاءها دون نواظر. أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ?لأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ?لاْبْصَـ?رُ وَلَـ?كِن تَعْمَى? ?لْقُلُوبُ ?لَّتِى فِى ?لصُّدُورِ [الحج:46].
يقول الإمام أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله: "فنعوذ بالله من عيون شاخصة غير بصيرة، وقلوب ناظرة غير خبيرة".
إخوة الإيمان، ومن الحثّ اللطيف على السفر النافع المفيد قول الثعالبي رحمه الله: "من فضائل السفر: أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار, وبدائع الأقطار, ومحاسن الآثار ما يزيده علماً بقدرة الله تعالى, ويدعوه شكراً على نعمه".
إن العُلا حدثتني وهي صادقة* فيما تحدث أن العز في النُقَل
وهل بلغ الصحابة الأجلاء، والسلف النبلاء، والأئمة الفقهاء، ما بلغوا من ذُرا القمم, وقصب السبق بين الأمم إلا بالرحلة في طلب الحديث، وتحصيل العلوم والمعارف.
ومن المعروف أن الكُحْل نوع من الأحجار كالثرى يرمى على الطرق, فإذا تغرّب جُعِل بين الجفن والحدق.
أيها المصطافون، أيها المسافرون، يا من عزمتم على جَوْب الأمصار والأقطار، وركوب الأجواء والبحار، واقتحام الفيافي والقفار، وتحدي الشدائد والأخطار, تلبثوا ملياً، وتريثوا فيما أنتم بسبيله، وليكن في نواياكم أسوتكم ونبيكم ، حيث ارتحل من مكة إلى المدينة، حاملاً النور والضياء والهدى والإصلاح، وكذلك صحابته الكرام في أثره، حيث كانوا لنشر رسالتهم الربانية المشرقة أجل السفراء، وسار في ركابهم جلّة العلماء، فشقّوا الأرض شقاً، وذرعوها سفراً وتسياراً، طلباً للعلم والإفادة, والصلاح والسعادة، وتصعّداً في واقي الطهر والنبل، كل ذلك على كثرة المخاوف، وشُح الموارد، وخشونة المراكب، وقلة المؤانس, فهلاّ اعتبرنا بهم وشكرنا الباري جلّ في علاه على نعمه السوابغ.
وفي زمننا هذا المتضخم بالدعة والرفاه، وجدب النفوس من الآمال الغوالي أصبح السفر والتنقل ظاهرة جديرة بالاهتمام والتذكير بالآداب الشرعية والضوابط المرعية.
كيف, وبعض الناس يمتطون هذه الأيام متون الطائرات وأرفه المركبات، أإلى صلة الأرحام والقرابات؟ كلا، أإلى طلب العلم والأخذ من العلماء؟ كلا، أإلى الأعمال الخيرية والدعوية؟ كلا، أإلى مواطن الطهر والفضيلة؟ بكل الحُرقة: لا, وكلا، بل إلى مستنقعات الآثام والشرور, ومباءات المعاصي والفجور, لمبارزة الملك الديان, بالذنوب والعصيان، حيث أملى لهم الشيطان, أن هاتيك المنتجعات والشطآن, هي أدواء علاج الملل من الصيف اللافح، وأجواء الترفيه والسياحة والاصطياف.
أي دين وقيم عند من يسافرون إلى مباءات الأوبئة الفتاكة أجاركم الله؟! التي أسعرتها معطيات الحضارة السافرة، وألهبتها الشبكات الخبيثة المذهلة، وأذكاها الجفاف الروحي، واليباب الفكري والترف المادي الزائف، فكان هذا الفهم الخاطئ لمعنى السفر والسياحة، التي آضت عند بعض المنهزمين صناعة للتفلت من القيم, والتنصل من المبادئ والثوابت، في الوقت الذي تحولت فيه السياحة المعاصرة إلى استراتيجيات بنّاءة تخدم المثل والمبادئ, وتنبني على الفضائل العليا لتحقيق المصالح العظمى، مما كان سبباً في خلط الأوراق لدى كثيرين, بين السياحة البريئة والترويح المشروع وبين ضدها، وبضدها تتميز الأشياء.
حتى صرفت فئام من الأمة عن تأريخها وأصالتها وتراثها ولغتها، فأضحوا مُزَعاً تائهين أسرى الميليّة والتقليد والتبعية، والتقاليد المستوردة النشاز, حين هبت أعاصير الشهوات والملذات، وثارت لوثات الخلل الفكري والأخلاقي والانحرافات على جملة من السلوكيات في كثير من المجتمعات فتركتها في دياجير الظلمات.
وبنحو ذلك بعض الفتيات والأسر ممن حرموا متانة الدين وقوة الأخلاق, وعمق الأصالة والأعراق، حيث هتك بعضهن ـ هداهن الله ـ حجاب الطهر والاحتشام، ومما زاد الطين بلة والداء علة، اصطحاب البنين والبنات من المراهقين والمراهقات الذين سرعان ما تنغرز في أفئدتهم تلك الأوضاع الفاضحة والمشاهد المتهتكة.
فيا سبحان الله! كيف تقضي المرأة سحابة عامها كريمة معززة ثم تسافر لتطّرح خمارها وحياءها، فاتنة مفتنة.
أتقضي الفتاة ربيع عامها في جو مصون محافظ ثم تسافر لتبدد حياءها وحشمتها؟!
هل نحن ـ رجالاً ونساءً ـ في شك من ديننا؟! أولسنا على ثقة من قيمنا وثوابتنا؟!
إذن لماذا هذا الانفصام في الشخصية, والتناقض والازدواجية في قضايانا الاجتماعية.
وإنكم لتأسفون أن يعلق كل هذا على مشجب الترويح والترفيه, زعموا، ومحل الصواب أن هذا ضرب من خيانة الأمانة في التربية والتنشأة والله عز وجل يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
وهؤلاء وأمثالهم في كل مكان ـ إلا من رحم الله ـ كالغراب الأعصم, لا يعودون من أسفارهم إلا بكآبة المنظر, وسوء المنقلب, وندامة المعتقد الذي استعاذ منه المصطفى ، لطّخوا أبصارهم فيما حرم الله، حتى غار منها ماء الحياء وراؤه، وجمعوا إلى العصيان عقوق امتهان الأوطان، وهل أبرز صوراً من الإرهاب والإخلال بأمن المجتمع إلا ضروب من الأسفار, غير منضبطة بما في الشريعة والأسفار.
وللأوطان في دم الشرفاء الأحرار حقوق واجبة وديون مستحقة مما يعظم المسؤولية في رعايتها حق رعايتها وتنشئة الأجيال على أمنها وعنايتها.
أمة الإسلام، وأنّى تندمل جروحنا النازفة وشروخُنا الراعفة وفي الأمة من لا يبالي بدين ولا قيم ولا أمن ولا ذمم, فليت شعري! أبمثل هذا تبنى المجتمعات ويشاد صرح الحضارات؟! وليت شعري! أبمثل هذا تعمر الأوقات وتدوم الخيرات والبركات وتستجلب البهجة والسعادة والمسرات؟!.
أيها المسافرون، إن النار حفت بالشهوات، فلا يكلِمنّ الشيطان دينكم بدعوى الترفيه والاصطياف في بقاع وبيئة شائكة.
ويا بغاة الشر كفوا وأقصروا، وتذكروا وازدجروا.
وإلى الذين اضطروا إلى السفر وعزموا عليه الله الله من إقامة شعائر دينكم والاستمساك بأخلاقكم والولاء لعقيدتكم وأمتكم في عزة وإباء، وليكن منكم في السويداء أمن دينكم وقيمكم في الذُرا جمالة وجلالا، وفي القمة عزة وكمالاً، فكونوا له خير سفراء وطبقوه خير منهاج وأحسن مثالاً.
أيها الأحبة في الله, شُكر النعم رباط تمنعنا من الإباق, وإننا لنشكر المنعم المتفضل سبحانه أن طهر ديار الحرمين من كثير من الأدران, وبسط في أرجائها ظلال الأمن والأمان, كما نلهج بالشكر له جل جلاله وهو أهل الشكر أن خص بلادنا المباركة بالجمال الخلاب, والمناخ الآسر الجذاب, أحاط بذلك أمن وارف الظلال تفتقده كثير من الأصقاع, فحبذا المروج الخضراء, والمقام النشي والهواء, والمواقع المنمنمة الفيحاء, والجداول المنسابة بالري والماء, مما يحقق المقصد المشروع من السفر والسياحة في أوفر أسباب الحشمة والعفاف, وفي سياج منيع للدين والفضيلة, وفي بُعد عن أسباب الشر والفساد والرذيلة.
أينما أرسلت رائد الطرف في هذا الثرى الأفيح، وكيف بكم إذا كانت السياحة تعبدية في عرصات الحرمين الشريفين, إنها الطهر والنماء والرقي في معارج الخير والسناء ذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء [الجمعة:4].
ولقد منّّ الله على بلاد الحرمين الشريفين حرسها الله فجعلها واحة إيمان, ودوحة أمن وأمان، حباها الله من مقومات السياحة الحسية والمعنوية ما ليس لغيرها, ويأتي في الذؤابة منها تحكيم الشريعة التي فيها تحقيق مصالح العباد في أمور المعاش والمعاد, ودرء المفاسد عنهم والحفاظ على دينهم وأنفسهم وأموالهم وعقولهم وأعراضهم، ومجانبة مسالك العنف والإرهاب، والقتل والإرعاب، وإراقة الدماء المعصومة بغير وجه حق، والتعرض للمسلمين والمعاهدين والمستأمنين باعتداء أو إيذاء ونحو ذلك من صور الإفساد في الأرض، وبروز النسف والتفجير والعنف والتدمير, ويزيد الأمر خطورة حينما يصل الإجرام ذروته، في أفضل البقاع مكة المكرمة والمدينة النبوية التَيْن لهما من الحرمة والمكانة والقدسية ما لا يخفى على كل ذي بصيرة، ومما زاد الأمر ضِغثاً على إبالة، مصاحف مفخخة، ومساجد متحذة وكر للجريمة والتستر على أصحابها عياذاً بالله.
لكن الله بلطفه وكرمه، ثم بالجهود الموفقة المبذولة من ولاة الأمر نصر الله بهم دينه، أحبط هذه المحاولات الإرهابية البائسة، وكشف عوارها ومن يقفوا وراءها.
ألا فلتدومي سالمة يا أرض الحرمين الشريفين، ولتعيشي هانئة يا موئل العقيدة ومأرز الإيمان، فلقد أثبتِّ بفضل الله الخروج من الأزمات أكثر تماسكاً وأشد تلاحماً بحمد الله، ولتبقي بإذن الله على مر الدهور, وكر العصور شامةً في دنيا الواقع, ومثلاً يُحتذى, وأنموذجاً يقتفى في الأمن والأمان, وبذلك تتضح لك أخي السائح المبارك, والمسافر الكريم صورة الارتباط الوثيق بين الأمة والسياحة والسفر والأمان.
ألا شاهت وجوه الأعداء المتربصين, وخسئت أعمال المعتدين المفسدين المجرمين, وردّ الله كيد الكائدين إلى نحورهم, وحفظ الله بلادنا وبلاد المسلمين من شر الأشرار, وكيد الفجار, إنه خير مسؤول, وأكرم مأمول.
أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات من كل الذنوب والخطيئات، فاستغفروه, وتوبوا إليه, فهو أهل التقوى وأهل المغفرة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، هدانا إلى أقوم السنن والآداب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة منيب أواب، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير من خشي ربه بالغيب وإليه أناب، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين سواقب الأحساب، وعلى الصفوة الخيرة من الأصحاب, وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن شريعتنا الغراء قد أحاطت المسافر بجملة من الأحكام والآداب ابتداء من العزم على السفر وإلى غاية الإياب منه، منها:
أولاً: الإخلاص لله، وحسن المقصد وشرف الغاية ونبل الهدف، ومنها ثانياً: إذن الوالدين ورضاهما، قال الإمام الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ويحرم السفر بغير إذنهما، لأن الجهاد إذا منع مع فضله فالسفر المباح أولى".
ثالثاً: التماس الوصية والدعاء من أهل الصلاح والفضل، عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، إني أريد سفراً فزودني، قال: ((زودك الله التقوى)) ، قال: زدني، قال: ((وغفر ذنبك)) قال: زدني بأبي أنت وأمي، قال: ((ويسر لك الخير حيثما كنت)) [1] ، الله أكبر يا لها من وصية, ما أعظمها وأجمعها.
رابعاً: توخي المرافق المطاوع الموافق الذي يدلك على الله مظهره, ويذكرك إن غفلت مخبره، وما سمي السفر سفراً إلا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال ومعادنهم وطباعهم.
خامساً: الحرص على أدعية السفر فهي حصن حصين وكافية واقية من كل سوء بإذن الله، فيسن للمسافر إذا استوى على راحلته أن يقول: سُبْحَـ?نَ ?لَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـ?ذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى? رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:13، 14].
((اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى..)) الحديث [2].
وبعامة فعلى المسافر أن يكثر من ذكر الله عز وجل ودعائه, يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده)) [3].
ويجتهد المسافر في تمثل أدعية السفر ومعرفة مواطنها.
سادساً: فقه أحكام السفر وآدابه تعلماً ومساءلة لأهل العلم, وقوفاً على أحكام السفر وآدابه, كرخصة المسح على الخفين وقصر الصلاة وجمعها ومدة ذلك وكيفيته ومعرفة اتجاه القبلة والمحافظة على الصلاة في أوقاتها وغير ذلك.
أخي المسافر الكريم، وإذا قضيت نهمتك من سفرك فعجل بالرجوع إلى أهلك واسلك طريق العودة غير متوانِ إلى ديارك، يقول : ((السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه فإذا قضى أحدكم نهمته فليعجل إلى أهله)) [4] خرجه مسلم من حديث أبي هريرة.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن هذه الأحكام والآداب والأذكار لا تزال تحكم المسلم في شريعته ودينه في السفر كما في الحضر رفعاً للمشقة والإصر، وتذكيراً له بأنه موصول بخالقه في كل زمان وعلى أية حال, والله المسؤول أن يسلم المسافرين في جوه وبره وبحره من المسلمين, وأن يعيدهم إلى بلادهم سالمين غانمين, إنه جواد كريم.
[1] أخرجه الترمذي في الدعوات، باب: ما يقول إذا ودع إنساناً (3444)، وقال حسن غريب، وقال الألباني في صحيح الترمذي (2739): "حسن صحيح".
[2] أخرجه مسلم في الحج، باب: ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره (1342) من حديث ابن عمر.
[3] أخرجه الإمام أحمد (9323)، وأبو داود في الصلاة، باب: الدعاء بظهر الغيب (1536)، والترمذي في الدعوات، باب: ما ذكر في دعوة المسافر (3448)، وحسنه، وابن ماجه في الدعاء، باب: دعوة الوالد (3862)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (3115).
[4] أخرجه البخاري في الحج، باب: السفر قطعة من العذاب (1804)، ومسلم في الإمارة، باب: السفر قطعة من العذاب (1927).
(1/2732)
التفكر في عظمة الله وقدرته
الإيمان, التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الأسماء والصفات, الربوبية, الله عز وجل
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
25/5/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة الناس في هذا الزمان إلى التفكر في عظمة الله تعالى. 2- الإيمان بالله مبني على التعظيم والإجلال لله تعالى. 3- إثبات الصفات لله تعالى طريق التدبر. 4- نصوص في بيان عظمة الله عز وجل وقدرته. 5- أكثر الناس معرفة بالله أخشاهم له. 6- من التفكر في عظمة الله النظر إلى مخلوقاته البديعة بعين التدبر. 7- ما عرف الله حق قدره من أصرّ على العصيان والفجور. 8- معرفة الله عز وجل تورث العبد الثقة المطلقة به وبقدرته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]، قال تعالى: وَمَا قَدَرُواْ ?للَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91].
إخوة الإسلام، خفَتَتْ عظمة الله في نفوس بعض المسلمين اليوم، وعظم في نفوسهم قدر قوى الأرض البشرية، حين رأوا مُنجزات الحضارة المادية ونتاجها العلمي، من هندسة الصفات الوراثية, إلى الاستنساخ, إلى الصواريخ العابرة للقارات, إلى حرب النجوم, وضُروب المدافع والقنابل.
هذا التطور السريع والنمو الكبير في آليات التقدم المادي جعل فئاماً من الخلق يصابون بالانبهار، وتتسرب إلى دواخلهم الرهبة والهلع, وتضطرب نفوسهم, وتهزم عزائمهم، وهذا يحطم المجتمعات, ويزلزل بنيانها, ويحولها إلى مجتمعات حزينة منكسرة يائسة ضائعة, وحريٌّ بالمسلمين حين تهزهم عظمة البشر استحضار عظمة خالق البشر سبحانه، الذي يدبر أو الممالك, يأمر وينهى، يخلق ويرزق، يميت ويحيي، يداول الأيام بين الناس يقلب الدول فيسحب بدولة ويأتي بأخرى.
إن تعظيم الله عز وجل من أجل العبادات القلبية, وأهم أعمال القلوب التي يتعين ترقيقها وتزكية النفوس بها، لا سيما وأنه ظهر في زماننا ما يخالف تعظيم الله تعالى من الاستخفاف والاستهزاء بشعائر الله، والتطاول على الثوابت, والتسفيه والازدراء لدين الله، مع ما أصاب الأمة من وهنٍ وخورٍ وهزيمةٍ نفسية، قال تعالى: مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً [نوح:13].
إن الإيمان بالله عباد الله، مبني على التعظيم والإجلال له عز وجل، قال تعالى: تَكَادُ ?لسَّمَـ?و?تُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ [مريم:90]، قال المفسرون: "يتشققن من عظمة الله عز وجل".
منزلة التعظيم تابعة للمعرفة, فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الرب تعالى في القلب، وأعرف الناس به أشدهم لهم تعظيماً وإجلالاً, وقد ذم الله تعالى من لم يعظمه حق عظمته, ولا عرفه حق معرفته، ولا وصفه حق صفته، فقال: مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً [نوح:13]، قال المفسرون: "ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته".
تعظيم الله وإجلاله ـ عباد الله ـ لا يتحقق إلا بإثبات الصفات له كما يليق به سبحانه، وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت.
لقد كان نبينا يربي أمته على وجوب تعظيم الله، ففي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله فقال: يا محمد, إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر, ثم قرأ رسول الله : وَمَا قَدَرُواْ ?للَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ?لاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَ?لسَّمَـ?و?تُ مَطْوِيَّـ?تٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَـ?نَهُ وَتَعَالَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]) [1].
وورد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله : قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: وَمَا قَدَرُواْ ?للَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ?لاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَ?لسَّمَـ?و?تُ مَطْوِيَّـ?تٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَـ?نَهُ وَتَعَالَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ ورسول الله يقول: ((هكذا بيده ويحركها، يقبلُ بها ويدبر يمجد الرب نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أما الملك, أنا العزيز، أنا الكريم)) ، فرجف برسول الله المنبر حتى قلنا: ليخرن به [2].
فالله تعالى ـ عباد الله ـ هو الكريم العظيم, الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، أجل وأعلى، هو وحده الخالق لهذا العالم، لا يقع شيء في الكون من حركة أو سكون, أو رفعٍ أو خفض, أو عز أو ذل, أو عطاءٍ أو منع إلا بإذنه سبحانه، يفعل ما يشاء, ولا يُمانع ولا يُغالب، ولما قال الأعرابي لرسول الله : فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، قال رسول الله : ((ويحك! أتدري ما تقول؟!)) وسبّحَ رسول الله , فما زال يسبح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه, ثم قال: ((ويحك! أنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه, شأن الله أعظم من ذلك)) أخرجه أبو داود [3].
عباد الله، على قدر المعرفة يكون تعظيم الرب تعالى في القلب، وأعرف الناس به أشدهم لله تعظيماً وإجلالاً، تأمل آيات الله وإعجازه في الكون، في كتاب مقروء، وصفحات مشرقة منظورة، ليمتلئ قلبك إجلالاً وعظمة لله سبحانه: فَسُبْحَـ?نَ ?لَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شيء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:83].
تجد أمامك نافذة واسعة سعة الكون كله، إعجاز باهر, وآيات كريمة قد كتبت بحروفٍ كبيرة واضحة على صفحات الكون كله، ?للَّهُ خَـ?لِقُ كُلّ شيء وَهُوَ عَلَى? كُلّ شيء وَكِيلٌ لَّهُ مَقَالِيدُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ [الزمر:62، 63].
انظر إلى الشمس والقمر يدوران، والليل والنهار يتقلبان, بل انظر إلى تكوين نفسك وتركيب جسمك، من ذا الذي جعله بهذا التركيب وهذا النظام العجيب وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ [الذاريات:21].
فكر في النبات والشجر, والفاكهة والتمر، وفي البحر والنهر، إذا طاف عقلك في الكائنات, ونظرك في الأرض والسموات رأيت على صفحاتها قدرة الله, وامتلئ قلبك بالإيمان بالله، وانطلق لسانك بلا إله إلا الله، وخضعت مشاعرك لسلطان الله.
يقول عز وجل: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ?للَّهُ عَلَيْكُمُ ?لَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ مَنْ إِلَـ?هٌ غَيْرُ ?للَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ ?للَّهُ عَلَيْكُمُ ?لنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ مَنْ إِلَـ?هٌ غَيْرُ ?للَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ [القصص:71، 72].
ماذا نفعل لو لم تطلع الشمس؟! ماذا نفعل إذا غاب القمر ولم يظهر؟! كيف نعيش! كيف نزرع! كيف نأكل! بل كيف نتعلم ونعلم غيرنا؟!
هُوَ ?لَّذِى جَعَلَ ?لشَّمْسَ ضِيَاء وَ?لْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ?لسّنِينَ وَ?لْحِسَابَ مَا خَلَقَ ?للَّهُ ذ?لِكَ إِلاَّ بِ?لْحَقّ يُفَصّلُ ?لآيَـ?تِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس:5].
إن من تفكر في ذلك خاف الله تعالى لا محالة؛ لأن الفكر يوقعه على صفات جلال الله وكبريائه، فهو سبحانه العزيز الكريم المتعال الواحد القهار، هو سبحانه القهار الذي قهر كل شيء وغلبه، والذي لا يطاق انتقامه، مذل الجبابرة, قاسم ظهور الملوك والأكاسرة، هو سبحانه القوي الذي تتصاغر كل قوة أمام قوته، ويتضاءل كل عظيم أمام ذكر عظمته.
إن هذا الجيل الذي صده عن السبيل الاستكبار, وعلاه الغرور, وأسكره الترف, وجعل كتاب ربه وراءه ظِهرياً بحاجة ماسة إلى أن يعرف ربه حقاً، ويعظمه صدقاً, بتدبر أسماء الله الحسنى، التأمل في آياته، التفكر في إعجازه، فمن استيقن قلبه هذه المعاني لا يرهب غير الله، ولا يخاف سواه، ولا يرجو غيره، ولا يتحاكم إلا له، ولا يذل إلا لعظمته، ولا يحب غيره.
أما الذين يهجرون القرآن, ويرتكبون المحرمات, ويفرطون في الطاعات، أما الذين يتحاكمون إلى شرع غير الله، ما قدروا الله حق قدره، الذين يسخرون من الدين ويحاربون أولياء الله, ويستهزئون بسنة سيد البشر, ما قدروا الله حق قدره، من شهد قلبه عظمة الله وكبرياءه علم شأن تحذيره جل وعلا في قوله : وَيُحَذّرْكُمُ ?للَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]، قال المفسرون: "أي: فخافوه واخشوه".
ولأجل شهود صفات عظمته سبحانه وجلت قلوب المؤمنين لمجرد ذكره تعالى كما قال سبحانه: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، ويقول سبحانه: وَبَشّرِ ?لْمُخْبِتِينَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الحج:34، 35].
هذه ـ عباد الله ـ بعض عظمته سبحانه مما تتحمله العقول، وإلا فعظمة الله وجلاله أجل من أن يحيط بها عقل، فمن هذا بعض عظمته كيف يجعل في رتبته مخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً!! والذين لا يقدّرون الله حق قدره, ولا يعظمونه حق عظمته, تصاب نفوسهم بالوهن, وتمتلئ قلوبهم برهبة البشر، والهزيمة النفسية التي تظل تلاحقهم مهما أوتوا من قوة ونالوا من عدة وعدد، والهزيمة النفسية هي من أنكى الهزائم وأشدها خطراً على مستقبل الأمة, قال تعالى: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في التوحيد، باب: قول الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يُمْسِكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ.. (7451)، ومسلم في صفة القيامة والجنة والنار، باب: حدثنا احمد بن عبد الله بن يونس (2786).
[2] أخرجه الإمام أحمد (5391)، وبنحوه مختصراً أخرجه مسلم في صفة القيامة والجنة والنار، باب: حدثنا سعيد بن منصور (2788).
[3] أخرجه أبو داود في السنة، باب في الجهمية (4726)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود (1017).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى, وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الأعلى, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله, صاحب النهج السوي والخلق الأسمى, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، إن امتلاء القلب بعظمة الله يولّد ثقة مطلقة بالله، ويجعل المسلم هادي البال ساكن النفس مهما ادلهمت الخطوب، إن استشعار عظمة الله تملأ القلب رضاً وصبراً جميلاً، فلا يحزننا تقلّّّب الذين كفروا في البلاد، فإنهم مهما علوا وتجبروا لن يصلوا إلى مطامعهم، ولن يحققوا أهدافهم الدنيئة، فالله هو القوي الذي لا يغلب، لقد بلغ فرعون ما بلغ من طغيان إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى ?لأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ [القصص:4]، فماذا كانت نتيجة الطغيان فَأَخَذْنَـ?هُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـ?هُمْ فِى ?لْيَمّ وَهُوَ مُلِيمٌ [الذاريات:40].
إن معرفتنا بعظمة الله تورث القلب الشعور الحي بمعيّته سبحانه، التي تفيض السكينة في المحن، والبصيرة في الفتن، فعندما لجأ رسولنا إلى الغار, واقترب الأعداء حتى كانوا قاب قوسين أو أدنى, شاهرين سيوفهم، قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا، فرد عليه رسولنا ـ بكل ثقة ـ: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما)) [1].
إن استشعار عظمة الله ومعيته تبعث في النفس معنى الثبات والعزة, وتقوي العزائم حتى في أشد حالات الضنك، وقد كانت هذه الحقائق جلية عند الصحابة حتى مع الحصار الاقتصادي والاجتماعي في شعب أبي طالب، ولم تمض سوى أعوام حتى فتح الله على أبي بكر وعمر وغيرهم أعظم انتصارات.
ومن قبل يقف موسى وجنوده عند شاطئ البحر فيقول بعضهم: إن فرعون من ورائنا والبحر من أمامنا, فأين الخلاص؟! قَالَ أَصْحَـ?بُ مُوسَى? إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، فيرد نبي الله موسى عليه السلام استشعار لعظمة الله وثقة كاملةٍ بموعود الله إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، فكان بعدها النصر والتمكين.
[1] أخرجه البخاري في المناقب، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم منهم أبو بكر (3653)، ومسلم في فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق (2381).
(1/2733)
أكاذيب زائفة
قضايا في الاعتقاد
معجزات وكرامات
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
25/5/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أكذوبة تتناقلها وسائل الإعلام. 2- الهدف من إثارة هذه الأكذوبة. 3- أراجيف الكذبة عن النبي والرد عليها. 4- معاناة المسلمين في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة التوبة: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [التوبة:32]، ويقول سبحانه وتعالى في سورة الصف: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [الصف:8]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، يا أحباب محمد عليه الصلاة والسلام، تناقلت وسائل الإعلام الدولية المعادية للإسلام تناقلت خلال هذا الأسبوع أكذوبة كبيرة، مفادها "أي مفاد هذه الأكذوبة" بأن الإسلام نقل حضارة أديان سابقة حرفياً، وتزعم هذه الأكذوبة أن قصة الإسراء والمعراج موجودة في نقوش في المعابد الصينية، وهي رحلة لأحد عباد الديانات القديمة، ووسائل الإعلام الحاقدة تكرر هذه الأكذوبة مراراً حتى يصدقها الناس.
أيها المسلمون، والسؤال ما السر عن سبب الإعلان في هذا الوقت عن النقوش الصينية والتي تتحدث حسب زعمهم حول قصة للإسراء والمعراج منذ آلاف السنين؟ ولماذا لم يتحدث أحد عن ذلك في الأزمنة الماضية؟
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، إن التشكيك والطعن بالدين الإسلامي العظيم وبعقيدة المسلمين هو هدف مشترك لجميع أعداء الإسلام عبر التاريخ، وقد شهدت الحقب الزمنية الماضية محاولات للتشكيك بالإسلام وتكذيب القرآن الكريم، ولكن كل هذه المحاولات لم تحقق أهدافها الخبيثة في صرف المسلمين عن دينهم، فقد باءت ـ والحمد لله ـ بالفشل الذريع، بل ازداد المسلمون تمسكاً بدينهم واعتزازاً به، كما ازدادوا التفافاً حول المسجد الأقصى المبارك.
أيها المسلمون، إن معجزة الإسراء والمعراج التي يشك أعداء الإسلام بها قد وردت في القرآن الكريم بقوله عز وجل: سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لاْقْصَى ?لَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـ?تِنَا إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لبَصِيرُ [الإسراء:1].
إنها معجزة قطعية الدلالة والثبوت، وإن الهدف من التشكيك بهذه المعجزة واضح في صرف المسلمين عن الاهتمام بالمسجد الأقصى المبارك، ليقال بأن الصينيين قد سبقوا المسلمين بفكرة الإسراء والمعراج، وليقال بأن المسلمين قد نقلوا هذه الفكرة عن الصينيين، حاشا وكلا، إنها لأكذوبة وافتراء بحق الإسلام والمسلمين، وإن الذين يروجون لهذه الأكذوبة يريدون التقليل من أهمية القرآن الكريم والطعن في عقيدة المسلمين ولإضعاف تعلق المسلمين بالمسجد الأقصى المبارك.
أيها المسلمون، إذا افترضنا أن النقوش الصينة حول الإسراء والمعراج موجودة، فمعنى هذا أنه حين وصل الإسلام إلى الصين سجل الصينيون في وثائقهم قصة الإسراء والمعراح، وأنهم قد نقشوها على الحجارة لأهميتها، وليس كما يزعم أعداء الإسلام بأن هذه النقوش ـ إن كانت موجودة ـ أنها قد وجدت قبل الإسلام، وأن المسلمين لا يمكن أن يكونوا قد نقلوا هذه المعجزة عن الصينيين، لأن المسلمين يتلقون أوامرهم من الله رب العالمين، ثم هل نصدق كلام وتحليلات البشر الظنية الخاطئة ونكذب كلام رب العالمين، ونكذب القرآن الكريم الذي لاَّ يَأْتِيهِ ?لْبَـ?طِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
أيها المسلمون، لا تزال الحملة المسعورة الحاقدة ضد الإسلام وضد نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام وضد القرآن الكريم دستور المسلمين، أقول: لا تزال هذه الحملة قائمة غير قاعدة، وإن هذه الحملة بل هذه الحملات قد ازدادت في الفترة الأخيرة بشكل ملحوظ، والمستهدف هو نبي الهدى والرحمة، خاتم الأنبياء والمرسلين محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
إن هؤلاء المبشرين المتصهينين العدوانيين الذين ينشرون الإشاعات والأكاذيب بحق هذا النبي الكريم وبحق القرآن العظيم وبحق المسجد الأقصى الأسير، لا يدركون بأن الله رب العالمين قد أكرم هذا النبي الأمين بأن رفع ذكره في العالمين، بقوله عز وجل في سورة الشرح: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4]، وأنه عليه الصلاة والسلام قد أرسله الله رحمة مهدة للعالمين بقوله عز وجل في سورة الأنبياء: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]، وأن الله سبحانه وتعالى قد اصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم من بين خلقه ورسله، ليحمل هذه الأمانة العظيمة والرسالة الخالدة إلى البشرية جمعاء في كل زمان ومكان.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، كيف يوصف نبينا العظيم بالقاتل والمعتدي والإرهابي؟ وهو الذي عفا عن أهل قريش يوم الفتح الأعظم فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، فقد سأل عليه الصلاة والسلام أهل مكة: ((ما تظنون أني فاعل بكم)) ، قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال صاحب القلب الكبير قولته المشهورة ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) [1] ، فقد أعلن عليه الصلاة والسلام العفو العام عن أهل قريش الذين عادوه وخاصموه مدة واحد وعشرين عاماً، فحين دخل مكة لم يقتل أحد، لم يعتقل، لم يبعد، لم يبني سجوناً ولا معتقلات، لم يعذب المواطنين في الزنزانات، لم يهدم بيتاً، لم يشرد أسرة، لم يقطع طريقاً، لم يقلع شجرة، ولم يصادر أرضاً، ولم يمنع الناس من الوصول إلى الكعبة.
وإن السيرة النبوية المطهرة حافلة بآلاف المواقف الرحيمة الإنسانية غير العدوانية بعيداً عن الحقد والغطرسة والتجبر والغرور، والسؤال: لماذا هذا النبي العظيم هو الذي يتعرض إلى حملات التشويش دون سائر الأنبياء؟ إنها حملة صليبية حاقدة.
أيها المسلمون، إن الحركات التبشيرية الصليبيية المشبوهة تحاول أيضا محاكاة وتقليد القرآن الكريم، وهيهات هيهات لأساليبهم الهابطة الحاقدة، فإن الله عز وجل قد تكفل بحفظ القرآن الكريم وبحفظ اللغة العربية بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر:9]، وإن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد ـ في الكون كله ـ الذي سلم من الضياع والتغيير والتحريف، ومن الزيادة ومن النقصان، من هنا جاء أعداء الإسلام ليطعنوا في القرآن، لأنه الكتاب الوحيد في الكون كله لم يجري عليه تغيير أو تبديل إلى يوم القيامة إن شاء الله.
وإن المحاولات الفاشلة سابقاً ولاحقاً بتقليد أسلوب القرآن الكريم لم تؤثر على القرآن كما لم تؤثر على أهل القرآن، فإن أهل القرآن له حافظون ـ إن شاء الله ـ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وبالرغم من الضعف والفرقة والاختلاف بين المسلمين في هذه المرحلة التاريخية، إلا أن القرآن الكريم قد سجل في هذه المرحلة الرقم القياسي إنتشارا في العالم، كيف لا وأن القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى للنبي محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
كما أن عدد المقتنعين والمعتنقين للإسلام في هذه الأيام في تزايد بحمد الله وتوفيقه، وهذا ما حرك ضغينة الحسد في قلوب أعداء الإسلام، والله سبحانه وتعالى يقول: وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ?لْحَقُّ [البقرة:109]، ويقول الشاعر:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود
فنقول للحاقدين والمعتدين: إن محاولات التقليد للقرآن الكريم، ونشر هذه المحاولات عبر الإنترنت، هي محاولات فاشلة زائفة لن تنال من القرآن ولا من أهل القرآن، والله عز وجل يقول: وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [الصف:8]، ويقول سبحانه وتعالى في آية أخرى: بَلْ نَقْذِفُ بِ?لْحَقّ عَلَى ?لْبَـ?طِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ ?لْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:18]، صدق الله العظيم.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[1] أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (4/412) فقال: "حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله قام على باب الكعبة فقال: "فذكره في حديث طويل، وهذا سند معضل، وروي عن قتادة السدوسي مرسلاً، أخرجه الطبري في تاريخه (2/161) من طريق ابن إسحاق.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، له الحمد في الدنيا والآخرة، له الحكم وإليه ترجعون، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاة وسلام دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، هناك ثلاث نقاط مهمة تمس المسلمين في بيت المقدس أكناف بيت المقدس، وهي:
أولاً: المعتقلون في السجون الإسرائيلية من أهل القدس، فقد تلقيت رسالة من هؤلاء المعتقلين يشكون وضعهم الحياتي والمعيشي، ويطالبون بإطلاق سراهم، وهم يحتجون لأن موضوعهم لم يبحث مع الأسرى الفلسطينيين، ويطالبون ذوي الشأن أن يدرج موضوعهم مع سائر الأسرى، فقضية الأسرى واحدة لا تتجزأ، ونضم صوتنا إلى مطلبهم العادل ونطالب بإطلاق سراح المعتقلين جميعاً بلا استثناء.
ثانياً: مكتب الداخلية في مدينة القدس، القصة الطويلة التي لا تنتهي، لا يخفى على أحد أن الشكاوى تزداد من تصرفات بعض الأشخاص الذي يقفون أمام مكتب الداخلية بشكل مستمر، ويوجدون الفوضى ويعطلون مصالح المواطنين، والشرطة الإسرائيلية تعرفهم معرفة تامة، ولكن تغض النظر عنهم، لماذا؟
ولماذا لا توجد أزمة أمام مكتب الداخلية في القدس الغربية؟ هل صحيح أن السلطات الإسرائيلية المحتلة غير قادرة على حل الأزمة اليومية أمام مكتب الداخلية، أم أن الهدف هو إذلال الناس وابتزازهم، ودفع الرشاوى بطرق مباشرة وغير مباشرة.
والأنكى من ذلك أن الوزير المختص بالشؤون الداخلية يقول: إن ما يجري أمام مكتب الداخلية منظر غير حضاري. نعم إنه مظهر غير حضاري وغير إنساني أيضاً، فلماذا لا يعالج هذا الوزير المختص الموضوع بشكل جذري ؟ إنه من واجبه أن يقوم بذلك، وإننا لمنتظرون، فقد طال الانتظار.
أيها المسلمون، ثالثاً: عن المسجد الأقصى المبارك في هذا اليوم، الجمعة ـ كما شاهدتم ـ فقد منعت الشرطة الإسرائيلية المصلين المسلمين ممن تقل أعمارهم عن أربعين سنة من دخول المسجد الأقصى المبارك لدواعي أمنية كما يقولون، أما إدخال اليهود المتطرفين إلى باحات المسجد الأقصى بحراسة الشرطة فلا يؤثر على الأمن!!
فأين السياحة التي ستحصل، والمسلمون ممنوعون من دخول الأقصى؟
إن منع المسلمين من الصلاة في الأقصى يتعارض مع حرية العبادة التي، أي هذه الحرية، هي حق لكل إنسان، وسبق أن صدر بيان أول أمس عن الهيئة الإسلامية العليا ومجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية في بيت المقدس، تضمن البيان تأكيداً على المواقف الإيمانية التي تعتمد على القرار الرباني وعلى الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة بأن الأقصى هو للمسلمين وحدهم.
وأوضح البيان أن وقف السياحة لغير المسلمين في هذه الظروف العصيبة، إنما يهدف إلى المحافظة على حرمة المسجد الأقصى، وتجنيب الأقصى أي توتر محتمل، كما يهدف إلى حقن الدماء وعدم الاحتكاك، وسيبقى المسلمون ـ بإذن الله ـ السدنة والحراس الأوفياء لمسجدهم المبارك، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
(1/2734)
الكسب الطيب والكسب الخبيث
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
البيوع, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
25/5/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله تعالى خلق الخلق وتكفل برزقهم جميعاً. 2- من عرف أن الرزق بيد الله تعالى توكل عليه في طلبه وحده. 3- الحكمة في تفضيل بعض الخلق على بعض في الرزق. 4- أهمية القناعة للعبد المسلم. 5- اتخاذ الأسباب المباحة المشروعة في طلب الرزق مأمور به. 6- على المسلم الحذر من أنواع المكاسب الخبيثة. 7- من أنواع الكسب الطيب. 8- من أنواع الكسب الخبيث. 9- أسباب تحصيل البركة في الرزق. 10- الحذر من التناجي بالإثم والعدوان. 11- الحذر والتحذير ممن يظهرون خلاف ما يبطنون من النوايا السيئة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس, اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، يقول الله جل جلاله: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لرَّزَّاقُ ذُو ?لْقُوَّةِ ?لْمَتِينُ [الذاريات:56-58]، فأخبرنا تعالى أنه الرزاق لعباده، المتكفل برزقهم، فرزق العباد جميعاً بيد ربهم تعالى وتقدس، لا بحولهم ولا بقوتهم، فهو جل وعلا خلق الخلق وتكفل بأرزاقهم: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ?لأرْضِ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6]، وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ?للَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60].
وقد أمرنا تعالى أن نطلب الرزق منه، فَ?بْتَغُواْ عِندَ ?للَّهِ ?لرّزْقَ وَ?عْبُدُوهُ وَ?شْكُرُواْ لَهُ [العنكبوت:17].
والعبد يعلّق بالله أمله، وثقته فيما عند الله أعظم من ثقته فيما بيده، فهو لا يؤمل في المخلوق، مهما علت منزلته، وعظمت قدرته، لا يعلق أمله بأحد من الخلق, وإنما يعلق أمله بربه، ويعلم أنه لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع الله.
ولذا في الأثر عن ابن عباس: (إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يعطك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره) [1].
فما قدّر الله لك من الرزق فإنه حاصل لك، وما صرفه عنك فلن تناله، والخلق لو اجتمعوا على أن يوصلوا إليك نفعاً ما أراد الله حصوله لك لم يمكن ذلك، ولو أرادوا أن يضروك بشيء ما قدر الله ذلك فلن يستطيعوا لذلك سبيلاً.
أيها المسلم، تفكر في حكمة الله أن جعل البعض أغنياء والبعض فقراء، وما بين ذلك، وَ?للَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى? بَعْضٍ في ?لْرّزْقِ [النحل:71]، قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ ?لرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ [سبأ:36].
وهذا من كمال حكمته جل وعلا، فهو العليم بمصالح عباده، المقدر لهم كيفما شاء بكمال حكمته, وكمال رحمته, وكمال عدله، فأي أمر صرف عنك فاعلم أن لله حكمة في ذلك، وأي شيء قدر لك فاعلم أن لله حكمة في ذلك.
أخي المسلم، فكن راضياً بما قسم الله لك، ولا تكن جزعاً، ولاطامعاً فيما أيدي الناس، وإنما تكون ثقتك بربك جل وعلا، وقناعتك بما أعطاك الله.
أخي المسلم، والله حكيم عليم في توسيع الرزق وتضييقه على بعض العباد، وفي الأثر: ((إن من عبادي من لو أغنيته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لو أفقرته لأفسدت عليه دينه)) [2].
قال جل وعلا: وَلَوْ بَسَطَ ?للَّهُ ?لرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ في ?لأَرْضِ وَلَـ?كِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء [الشورى:27].
أخي المسلم، ليس المهم أن يكثر المال، ويرتفع الغنى، المهم أن يجعل الله في قلبك قناعة ورضا بِقَسْم الله, وأن تطمئن نفسك بذلك، فكم من مال أشغل أهله عن ما يجب عليهم، وصدهم حتى مصالح أنفسهم ومصالح أولادهم، وكم من مال أشقى أهله، فحملهم على الطغيان والأشر والبطر، وأفقدهم قوة الإيمان, وجعلهم يشتغلون بالحطام الفاني عما فيه خيرهم وصلاحهم في دينهم ودنياهم.
أيها المسلم، تأمل قول النبي : ((ليس الغنى عن كثرة العَرَض إنما الغنى غنى النفس)) [3].
فمن أغنى الله قلبه, ورزقه الطمأنينة والرضا بما قسم الله له, وبذل الأسباب النافعة فإنه يعيش مطمئناً قرير العين مرتاح البال, ومن فقد ذلك عاش في همّ وغم ولو اجتمعت له الدنيا بأسرها.
أخي المسلم، لا تلهينك الدنيا بزخارفها، ولا تشغلنك ملذاتها، وكن ـ يا أخي المسلم ـ متبصراً في أمرك، ناظراً إلى من هو دونك في الرزق والعافية، فإن نظرك إلى من هو دونك، يعطيك قناعة بقسْم الله، وإن نظرت إلى من هو أعلى منك ازدريت نعمة الله عليك، كما أخبر بذلك النبي [4].
أخي المسلم، ليكن عندك ميزان صدق تعرف به الحلال من الحرام، وتميز به الخبيث من الطيب، فلا يهولنك الحرام وإن كثر، قُل لاَّ يستوي ?لْخَبِيثُ وَ?لطَّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ?لْخَبِيثِ [المائدة:100].
أخي المسلم، الله جل وعلا أمرك بطلب الرزق, وأمرك بالأخذ بالأسباب التي تحصل لك المقصود، فَ?مْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ?لنُّشُورُ [الملك:15].
ويقول جل وعلا: وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ في ?لأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ?للَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَـ?تِلُونَ في سَبِيلِ ?للَّهِ [المزمل:20].
فقرن بين الأمرين، بين الضاربين ابتغاء فضل الله، وبين الساعين في الجهاد في سبيل الله، فطلب الرزق وابتغاؤه والأخذ بالأسباب أمر مطلوب شرعاً، ولكنّ المسلم أسباب طلب الرزق عنده بالطرق التي أباحها الشرع له، أما الأسباب المحرمة فإنه يبتعد كل البعد عنها، المسلم يطلب الرزق لكن بالطرق المأذونة شرعاً، ويبتعد عن الطرق المحرمة شرعاً.
أخي المسلم، من المكاسب المحرمة مكاسب الربا، فالمؤمن يتقي الربا بكل أحواله، ولا يغرنه أن يكون الربا فيه المكاسب العظيمة، فهو يتقي الله قبل كل شيء, ويتذكر قول الله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278، 279].
أيها المسلم، المسلم يتقي المكاسب الخبيثة كأكل أموال الناس بالباطل من غش وتدليس وخداع وأخذ مال بغير حق من سرقة بحقوق واجبة عليه مماطلة بالحق الواجب عليه أداؤه، ولذا يقول الله: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُم بِ?لْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ?لْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ ?لنَّاسِ بِ?لإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188].
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُمْ بِ?لْبَـ?طِلِ [النساء:29]، ومن أكل الباطل أخذ الرشوة، وقد لعن رسول الله الراشي والمرتشي باذلها وآخذها [5].
ومن أكل الحرام والمكاسب الخبيثة الاتجار بالمحرمات التي حرمها الشارع, من خمور ومخدرات وغير ذلك من كل ما حرم الشارع التعامل به، فالمسلم يتقي التجارة المحرمة، ويبتعد كل البعد عنها لتكون مكاسبه طيبة، ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ?لطَّيّبَـ?تِ [المؤمنون:51]، وقال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـ?كُمْ [البقرة:172]. ثم ذكر رسول الله الرجل يطيل السفر أشعث أغبر رافع يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام, وملبسه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك)) [6].
فاتق الله في مكاسبك, وابتعد عن كل مكسب خبيث، واسلك الطرق التي أذن الله لك فيها، واطلب الرزق من الأبواب التي شرع الله لك.
ولهذا المكاسب الطيبة تتمثل في أمور, فمنها: عمل الرجل بيده، ولذا قال : ((أفضل الكسب عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور)) [7] ، وَأَحَلَّ ?للَّهُ ?لْبَيْعَ وَحَرَّمَ ?لرّبَو?اْ [البقرة:275].
فعمل الإنسان وما يحصل له من خيرات من عمله بيده هو أفضل المكاسب وأعلاها، ثم البيع المبرور الذي صدق فيه البائع فلم يكذب ولم يكتم.
ثم أيها المسلم، عملك بيدك خير لك من سؤال الناس أعطوك أم منعوك.
ومن المكاسب الخبيثة أيضاً: السؤال من غير حاجة فلا تزال المسألة بالعبد حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم [8].
فيا أخي المسلم، اسلك الطرق المشروعة والطرق النافعة والبعد عن المكاسب الخبيثة, واطلب الرزق من أبوابه, وكن قانعاً بما كتب الله لك راضيا بذلك، واحذر أن تكون كلاًًّ وعالة على غيرك، وقد يسر الله لك الأمر, وهيئ لك من قوة البدن والفكر ما تطلب به الرزق, فإن طلب الرزق عزة وكرامة، وسلوك الطريق المشروع عون لك على كل خير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] لم أقف عليه من حديث ابن عباس، وأخرجه مرفوعاً من حديث أبي سعيد الخدري البيهقي في شعب الإيمان (1/221) وأعلّه بمحمد بن مروان السدي، وأبو نعيم في الحلية (5/106) وقال: غريب, وضعفه المناوي في فيض القدير (2/539)، وأخرجه بنحوه من حديث ابن مسعود مرفوعاً وموقوفاً البيهقي في شعب الإيمان (1/221-222).
[2] جزء من حديث قدسي، أخرجه من حديث أنس بن مالك ابن أبي الدنيا في الأولياء (9)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (8/318)، وقال: غريب من حديث أنس، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/44) وضعفه، وأعلّه ابن رجب في جامع العلوم والحكم (359)، وأخرجه من حديث عمر بن الخطاب الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (6/14)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/44) وضعفه.
[3] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: الغنى غنى النفس (5965)، ومسلم في الزكاة، باب: ليس الغنى عن كثرة العرض (1741) من حديث أبي هريرة.
[4] أخرجه مسلم في الزهد والرقاق، باب: حدثني زهير بن حرب (5264) من حديث أبي هريرة.
[5] أخرجه الإمام أحمد (6246)، وأبو داود في الأقضية، باب: في كراهية الرشوة (3109)، والترمذي في الأحكام، باب: ما جاء في الراشي والمرتشي (1257)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه في الأحكام، باب: التغليظ في الحيف والرشوة (2304).
[6] أخرجه مسلم في الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب (1686) من حديث أبي هريرة.
[7] أخرجه الإمام أحمد (15276), والطبراني في الكبير (22/197)، من حديث هانئ بن نيار، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1033)، وقد رُوي هذا الحديث عن جملة من الصحابة بألفاظ متقاربة، انظر: التلخيص الحبير (3/3) لابن حجر.
[8] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: من سأل الناس تكثراً (1381)، ومسلم في الزكاة، باب: كراهة المسألة للناس (1724) من حديث ابن عمر.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، بركة الرزق ليست بكثرته، ولكن بركة الرزق أمر يجعله الله في قلب العبد، فيرضى بما قسم الله له، قد أفلح من أسلم, ورزق كفافا,ً وقنّعه الله بما آتاه.
أيها المسلم، جاء في الكتاب والسنة بيان أسباب بركة الرزق، فالرزق قد يبارك للعبد فيه، وقد لا يبارك للعبد فيه، قد يعطى مالاً كثيراً، ولكن ينزع الله البركة منه، فلا ينفعه ولا يفيده، يَمْحَقُ ?للَّهُ ?لْرّبَو?اْ وَيُرْبِى ?لصَّدَقَـ?تِ [البقرة:276].
أيها المسلم، إن من أسباب بركة الرزق: تقوى الله جل وعلا في كل الأحوال، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ [الأعراف:96]، ويقول موسى عليه السلام في دعائه: رَبّ إني لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24].
ومن أسباب بركة الرزق: صلة الرحم، ففي الحديث: ((من أحب أن يُنسأ في أثره، ويبسط له في رزقه فليصل ذا رحمه)) [1].
ومن أسباب بركة الرزق: الإنفاق في وجوه الخير والصدقة على المساكين والمُعوزين، قال تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ?لرَّازِقِينَ [سبأ:39].
وأحسن إلى عباد الله يحسن الله إليك، قال تعالى: وَأَحْسِنُواْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [البقرة:195].
ومن فرّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة.
فبركة الرزق في الدنيا أن يخلف الله عليك عوضه، وبركته في الآخر ما ينالك من الثواب العظيم، في يوم أنت أحوج فيه إلى مثقال ذرة من خير.
أيها المسلم، إن الله جل وعلا حذّر المسلمين من أن يكون نجواهم فيها بينهم ظلماً وعدواناً، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَـ?جَوْاْ بِ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ ?لرَّسُولِ وَتَنَـ?جَوْاْ بِ?لْبِرّ وَ?لتَّقْوَى? وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا ?لنَّجْوَى? مِنَ ?لشَّيْطَـ?نِ لِيَحْزُنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ ?للَّهِ وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [المجادلة:9، 10].
أيها المسلم، فالمسلمون فيما بينهم سراً وعلانية أمرهم واضح ومنهجهم سليم وسرهم وعلانيتهم على وفق واحد, فإن إيمانهم صادقاً ظاهراً وباطناً، وأخلاقهم أخلاق الصدق وأعمالهم أعمال الحق، ترى أعمالهم واضحة, وترى أمورهم جلية، لا يظهر لك أمراً ويخفي عليك غير ذلك، ولذا قال الله لهم: إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَـ?جَوْاْ بِ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ ، لا تكن مناجاتكم وأحاديثكم وأموركم إثماً وعدواناً, فإنكم إذا تناجيتم بالإثم والعدوان صرتم سبب شر وبلاء, بل تكن لقاءاتكم دائماً لقاءات خير ولقاءات بر وتعاون على كل خير تسعد به الأمة في حاضرها ومستقبلها.
أما أولئك المندسون بين الأمة الذين امتلأت قلوبهم مرضاً وحقداً على الإسلام وأهله، فهؤلاء تراهم في الظاهر معك، ولكن في باطن أمورهم يتناجون بالإثم والعدوان, مناجاتهم فيما يخططونه وفيما يبرمونه من مؤامرة ضد الإسلام وأهله، إنهم إن لم ينبهوا فهم في غيهم وفي ضلالهم وفي كيدهم للإسلام وأهله.
فهم والعياذ بالله قلوب مريضة لا تطمئن ولا تهنأ إلا بالمكيدة للإسلام وأهله، الحقد ملأ قلوبهم, وطاعة الأعداء حكمتهم ومدهم يد العون مع الأعداء جعلتهم يعيشون في هذا المستنقع السيئ.
أيها المسلم، فلا يليق بك أن تتآمر ضد أمة الإسلام، ولا أن تلغي للإسلام وأهله الغوائل، ولا يليق بك، أن تكون مجالسك الخاصة مجالس سوء ومجالس تعاون على الإثم والعدوان.
أولئك الذين يختفون عن أنظار الناس، وإنما يطيب لهم ما يطيب لهم عندما يجتمعون فيما بينهم، فحدث عن مكرهم وخداعهم، ولكن الله بالمرصاد لمن أراد السوء، وَلاَ يَحِيقُ ?لْمَكْرُ ?لسَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر:43]، فهؤلاء ـ والعياذ بالله ـ لا خير فيهم، ولكن الله يفضحهم ويهتك أستارهم؛ لأن أمرهم خطير وشرهم مستطير.
إذن فالمسلم لا يليق به أن يكون مع هؤلاء، ولا يصاحب هؤلاء ولا يجالس هؤلاء ولا يركن إلى هؤلاء الذين في قلوبهم حقد على الإسلام وأهله، بل هو ينصح لله, وإذا نتناجى ستعرف نجواهم أمراً بخير. لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـ?حٍ بَيْنَ ?لنَّاسِ [النساء:114].
أما الذين تناجيهم أمراً بشر وتنظيم ضرر ومؤامرة دنيئة ومحاولة على ضرب الإسلام وأهله فإن هذه الملتقيات ملتقيات إثم وعدوان، المسلم يربأ بنفسه عن هؤلاء وعن صحبة أولئك وعن إعانة أولئك وعن السكوت والتغاضي عنهم.
هؤلاء لا خير فيهم وليس عندهم خير ولا صلاح, ولكنهم قوم خدعوا وانخدعوا وضعف الإيمان في قلوبهم, فأصبحوا آلة بأيدي أعدائهم في مكيدة الإسلام وأهله، ولكن الله تعالى لا يصلح عمل المفسدين، الذين يحاولون الإفساد في الأرض بأي أنواع الفساد، الله لا يصلح أعمالهم, ولا يوفقهم لأنهم أهل مكر وخداع وتناجٍ بالباطل، فأعمالهم يخفونها عن الناس؛ لأن كلاً يشذب أفعالهم, ويعلم سوء نواياهم وقبح ما يريدون، فالمسلم موقفه من أولئك موقف يشذب كل هذه الأحوال، ويكرهها ويكره أهلها، ولا يتستر على أحد منهم ولا يرضى عن أحد منهم وإنما ينصح لهم النصيحة, ويحذرهم من هذه المؤامرات الدنيئة، إن يكن في قلوبهم بقية من إيمان, وإلا فإنه لا يتستر عليهم ولا يرضى بأحوالهم، إذ الإيمان يمنع المؤمن من الفساد وأهله، والله ذكر عن المنافقين بقوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لارْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
أجل، إن هؤلاء مفسدون في الأرض تناجوا على الإثم والعدوان, والتقت مجالسهم على الشر والبلاد والمكيدة للإسلام وأهله، ولكن الله جل وعلا حكيم عليم فيما قضى وقدر سلط الله على أولئك من هتك أستارهم, وكشف عيوبهم, وأوضح باطلهم, وأخزاهم الله, والله على كل شيء قدير.
فيا أيها المسلم, كن واثقاً بالله حريصاً على دينك قبل كل شيء, ثم حريصاً على أمن أمتك وسلامتها، ولا تمكن للفساق والأراذل الأمر، ولا تعنهم على باطلهم، وحذّر أبناءك وإخوانك ومن تتصل بهم من هذه الأكاذيب والأباطيل، وهذه المكايد والخيانات التي لا يرضى بها المسلم.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
[1] أخرجه البخاري في الأدب، باب: من بسط له في الرزق بصلة الرحم (5527)، ومسلم في البر والصلة، باب: صلة الرحم (4639) من حديث أنس بن مالك.
(1/2735)
منهاج الإصلاح النبوي في حديث: ((لا تحاسدوا...))
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, أخلاق عامة, مساوئ الأخلاق, مكارم الأخلاق
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
3/6/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كمال الشريعة الإسلامية في جميع جوانبها. 2- إهمال الحضارة المادية المعاصرة لجانب الروح الإنسانية. 3- الحسد خطره وعاقبته وعلاجه. 4- النجش ومفهومه العام. 5- الحث على سلامة الصدور. 6- الحث على الأخوة الإسلامية. 7- التحذير من الظلم بشتى صوره. 8- ذم الكبر والحث على التواضع. 9- حرمة دم ومال وعرض المسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم [الحديد:28].
واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أعاذنا الله وإياكم منها.
وبعد: أمة الإسلام، إنه لم تأت شريعة أو نظام في قديم أو حديث أشمل وأكمل من شريعة الإسلام التي عالجت قضايا المادة والروح وأتت بصلاح الدين والدنيا، في توازن عميق وشمول دقيق، ذلك أن الشارع سبحانه خالق البشر وعالم بأحوالهم وما يصلحهم, وهذه الحضارة الحديثة مع وصولها إلى ما لم يوصل إليه من قبل من جهة المادة، إلا أنها أغفلت جانب الروح من بني الإنسان، وعجزت عن بناء المجتمع المثالي والفرد النبيل، بل أثبت الواقع المعاصر أن أبلغ الناس ظهوراً في الحضارة المادية هم أحط وأرذل الناس في الحضارة الأخلاقية، بل والإنسانية، وما ذاك إلا لخوائهم من الإيمان.
أيها المسلمون، لقد نسيت هذه الحضارة أيضاً أن البشر ليسوا جمادات... مهما توفرت أسباب المادة وترفها وتطورت الاتصالات والخدمات فإن البشر يبقون بشراً، لهم رغبات وأهواء ونزعات وتطلعات, يحبون ويكرهون، يوالون ويعادون، يغارون وينافسون، جبلت النفوس على حب الخير لذاتها، وجلب النفع لها، كما جبلت على حب التملك والسيطرة والاستحواذ على ما تشتهيه.
إلا أن الإسلام بشموله وكماله وجلاله وجماله هذّب هذه الطبائع وسما بالنفوس بأحكام وشرائع جعلها على مستوى الكمال, فجاءت التوجيهات الربانية والإرشادات النبوية بكل ما يهذب النفوس والأخلاق، ويهدي للتي هي أقوم وأحسن وأكمل وأفضل, فأمرنا الله تعالى بصلة الأرحام وبر الوالدين، والعطف على المسكين ومساعدة المحتاج وكف الظلم ودفع الضرر ورفعه وبذل الندى وكف الأذى، والأمر بالمعروف وإفشاء السلام ونشر المحبة بين المسلمين، كما نهانا عن الغش والخديعة، والحسد والغيبة والنميمة والأخلاق الرذيلة، والتعدي على الآخرين من أنفسهم وأموالهم، أو وأعراضهم أو دينهم وفكرهم.
وبالجملة، فقد أتى الإسلام بكل ما يحفظ ترابط المجتمع ويكفل حقوق أفراده، إن الإسلام ينشد إقامة المجتمع المتماسك الطاهر من الأثرة وحب الذات ليكونوا أمة فاضلة سليمة الصدور والنفوس، مهذبة المشاعر، طاهرة القلوب كما كان الجيل الأول, سلامة في المنهج والسيرة، وطهارة في القلب والسريرة، وإليكم رعاكم الله كلمات يسيرة، من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم تصلح أن تكون منهاج أمة وإن كانت أحرفاً معدودة.
روى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره، التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) رواه مسلم [1].
سبحان الله! كم جمعت هذه الكلمات اليسيرة من معانٍ عظيمة وتوجيهات كبيرة، فأولها النهي عن الحسد الذي هو تمني زوال النعمة عن الآخرين، وهو محرم ومذموم بالكتاب والسنة، وهو أول ذنب عصي به الله حين حسد إبليس آدم، ولم يزل به حتى أخرجه من الجنة فبالحسد لعن إبليس وجعل شيطاناً رجيماً، الحسد خلق اليهود والمشركين، إذ عادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفروا برسالته وهم يعلمون أنها الحق حسداً من عند أنفسهم، وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ?لْحَقُّ [البقرة:109].
الحاسد معترض على قضاء الله وقدره حيث لم يرض بما قسمه الله له ولغيره، وهو دليل على قبح النفس وسوء طبعها، أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ ?لْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ ?لنَّاسَ نَقِيراً أَمْ يَحْسُدُونَ ?لنَّاسَ عَلَى? مَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْر?هِيمَ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَءاتَيْنَـ?هُمْ مُّلْكاً عَظِيماً [النساء:53، 54].
الحاسد في حسده في غم لا ينقطع ومصيبة لا يؤجر عليها ومذمة لا يحمد عليها، يسخط عليه ربه فيغلق عليه باب التوفيق.
أيها المسلمون، إن الغيرة مركوزة في طباع البشر, ولا شك أن من رأى خيراً تمنى أن يكون ذلك له، وإنما اللوم في البغي بالحسد، وهو كراهة النعمة الواصلة إلى المحسود أو تمني زوالها، ويعظم الذنب إذا قارن ذلك غيبة ونميمة ووشاية وسعي لإزالة هذه النعمة.
أيها المسلمون، الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، كما يأكل القلب أيضاً، وفي منثور الحِكم: عقوبة الحاسد من نفسه.
ومن الناس من إذا رأى نعمة شكر الله تعالى بقلبه فذكره بلسانه وتبع السنة, ودعا بالبركة، وسأل الله الكريم من فضله، فيهذب بهذا نفسه، ويصلح قلبه وطباعه، ويريح خاطره، فيأجره الله تعالى ويرزقه.
ومن الناس من يخذله الشيطان حتى يتصف بصفته فيحرق نفسه ويموت بغيظه، لا أجراً حصل ولا مجداً أثّل.
للمبتلى بداء الحسد لماذا كل هذا؟ هل نسيت أنك مسلم تؤمن أن الله تعالى قسم الأرزاق بين خلقه، فمنهم ذو السعة، ومنهم من قدر عليه رزقه، رفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً, ورحمة ربك خير مما يجمعون.
هذه سنة الله في خلقه، ومن أراد السلامة في دينه والطمأنينة في قلبه ورضا ربه فليلاحظ نفسه وليطهر قلبه وليقنع بما قسمه الله، وليسأل الله تعالى من فضله، فهو سبحانه الذي يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع يعز من يشاء ويذل من يشاء، خزائن ملأى، وعطاؤه واسع.
إخوة الإسلام، وكما نهى النبي عن الحسد فقد نهى عن كل ما يوغر الصدور ويؤذي الآخرين، فنهى عن النجش بقوله: ((ولا تناجشوا)) ، والنجش هو المزايدة على السلعة بقصد رفع ثمنها لا لقصد الشراء, لأن في هذا غش وتغرير بالمشترين، ولكن معنى النجش أعم من ذلك فإن أصله إثارة الشيء بالمكر والحيلة والمخادعة, فيكون معناه: لا تخادعوا ولا يختل بعضكم بعضاً بالمكر والاحتيال، لأن في هذا ضرراً على المسلمين وغشاً لهم، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من غشنا فليس منا، والمكر والخداع في النار)) رواه الطبراني بسند صحيح [2].
ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التباغض والتدابر, خصوصاً على أهواء النفوس؛ لأن الله تعالى جعل المسلمين إخوة متحابين, وجعل المحبة دليل الإيمان، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم)) [3].
لذلك حرم الإسلام كل ما يوجب التنافر ويوقع العداوة والبغضاء, فحرم الخمر والميسر والغيبة والنميمة والبيع على بيع المسلم والخطبة على خطبته, كما حرم الظلم والكذب واحتقار الآخرين، وامتن الله تعالى عباده بقوله: وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً [آل عمران:103]. كما رغّب سبحانه في صلاح ذات البين فقال: فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ [الأنفال:1]، وقال سبحانه: لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـ?حٍ بَيْنَ ?لنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ ?بْتَغَاء مَرْضَـ?تِ ?للَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء:114].
أيها المسلمون، الكراهية والبغضاء والأحقاد والضغائن مرض في القلب فاتك وداء مردي إذا فشا في الأمة أفسدها، وأحال تعامل المجتمع قسوة وعناداً، يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض، وقد تذكيها سياسات مقيتة أو تسلط وظلم أو طمع وجشع أو حسد نبت في ظل غياب الإيمان، وهو منافٍ للإخوة التي جاء بها الدين وموافق لهوى الشيطان الرجيم.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب, ولكن في التحريش بينهم)) رواه مسلم [4].
عباد الله، سلامة الصدور هدأة للنفس وهناء في العيش وراحة في البال، وطريق إلى الجنة، وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار ثلاث مرات أنه من أهل الجنة، فلما سأله عبد الله بن عمرو قال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، قال عبد الله: هذه التي بلغت بك [5]. ولهذا كان من صفات المؤمنين الأبرار، الذين يخلفون المهاجرين والأنصار ما جاء في كتاب ربنا: وَ?لَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ?غْفِرْ لَنَا وَلإِخْو?نِنَا ?لَّذِينَ سَبَقُونَا بِ?لإَيمَـ?نِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10]. فكيف يكون مؤمناً من يحمل في قلبه العداوة والبغضاء لإخوانه المسلمين؟!، فضلاً عن علمائهم وصالحيهم ودعاتهم ومصلحيهِم، أم كيف يكون مؤمناً من يتعبد بكراهية خيار الأمة وبغض أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أو السلف الكرام؟!
عباد الله، ثم قال النبي الكريم عليه الصلاة والتسليم: ((وكونوا عباد الله إخواناً)) ، نعم، إن الأمة لا تكون أمة عزيزة منيعة حتى ترتبط بروابط الدين وتحقق معنى الأخوة الإسلامية التي لا تحققها شعارات جاهلية, ولا ولاءات حزبية ولا مصالح زائلة، بل تحققها مبادئ الإسلام السامية, الإسلام الذي آخى بين المسلمين على مختلف شعوبهم وقبائلهم ومراتبهم وجمع قلوبهم فعزوا بذلك وسمت نفوسهم فوق مبادئ الطبقية وعلت هممهم على الفوارق الأرضية، فأصبحت الموازين سماوية علوية، فكان الولاء للدين والمحبة والنصرة لمن أسلم لرب العالمين، ذهب الشح وغلب الإيثار، وأحب كل مسلم لأخيه ما يحب لنفسه فعامله بمقتضى ذلك، بالأخوة الإسلامية يشارك المسلم إخوانه المسلمين في أقطار الأرض أفراحهم وأتراحهم، ويقاسمهم آلامهم وآمالهم، بالأخوة تجتمع الكلمة ويتوحد الصف ويقوى التلاحم فتظهر قوة الأمة وعزتها.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأخوة أمر بأسبابها ومقتضياتها من أداء الحقوق للمسلمين كافة ومنع الأذى عنهم، ومن محاسن الإسلام رد السلام وتشميت العاطس وعيادة المريض، وإجابة الدعوة والمواساة، وحفظ الغيب والهدية ومساعدة المحتاج وتبسمك في وجه أخيك صدقة، والانكفاف عن المحرمات كالغيبة والنميمة وسوء الظن.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه, إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في البر والصلة، باب: تحريم الظلم... (2564).
[2] أخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 567)، والطبراني في الكبير (10/138)، والقضاعي في مسند الشهاب (354)، وقال الهيثمي: "رجاله ثقات وفي عاصم بن بهدله كلام لسوء حفظه"، المجمع (4/79).
[3] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: بيان أن لا يدخل الجنة إلا المؤمنون (54).
[4] أخرجه مسلم في صفة القيامة والجنة والنار، باب: تحريش الشيطان... (2812).
[5] أخرجه الإمام أحمد (12286).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الهادي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: ويمضي التوجيه النبوي الكريم في هذا الحديث الجامع العظيم نهياً عن رذائل الأخلاق, التي توقع بين المسلمين الشقاق, وتنافي معاني الأخوة فينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الظلم والكذب واحتقار الآخرين، فالظلم ظلمات يوم القيامة، حرم الله تعالى الظلم على نفسه وجعله محرماً بين عباده، وعد بإجابة دعوة المظلوم وتوعد بعقاب الظالم, وكم رأى الناس في مصارع الظالمين عجباً! وفي مآل أمورهم عبراً!
وسواء كان الظلم من دول أو حكام أو مسؤولين أو بين عامة فليتق الله كل من ولاه الله أمر ضعيف، من خادم أو عامل أو يتيم أو كانت له ولاية، فإن الجبار سبحانه يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
إن الحيف والظلم وسلب الحقوق وإهدار الكرامات مبعث للشقاء ومثار للفتن, وإذا فشا الظلم والتظالم في المجتمع كان بداية السقوط والزوال، أو أن يتسلط عليهم جبروت الأمم فيذيقهم من مرارة العبودية والإذلال ما هو أشد من مرارة الانقراض والزوال.
عباد الله، وفي حديث النبي العظيم النهي عن الكذب الذي من اتصف به كان حقيراً، وعند الله والناس دنيئاً صغيراً, صفة يكرهها الرحمن وتنافي الإيمان، إِنَّمَا يَفْتَرِى ?لْكَذِبَ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَـ?تِ ?للَّهِ [النحل:105].
أما المؤمن الصادق فهو كريم الطباع، مأمون الجناب، مرموق بالمحبة والإجلال, يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119], والصدق يهدي إلى البر والجنة, ويرفع صاحبه إلى مرتبة الصديقين مع الأنبياء والصالحين.
أما احتقار المسلمين فدناءة في النفس وكبر في القلب، وفي صحيح مسلم: ((الكبر بطر الحق وغمط الناس)) [1] أي احتقارهم, وهو صفة الشيطان ومانع من الهداية، سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَـ?تِي ?لَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ?لأرض بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا [الأعراف:146]، وما من خلق ذميم إلا والكبر يدب إليه.
فاتقوا الله عباد الله، وتواضعوا لخلق الله، فالله أعلم بمن اتقى، ورب ضعيف مستضعف أشعث أغبر، ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره، فلا تحقرن مسلماً ولو كان مقصراً. وفي صحيح مسلم: ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) [2]. ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَى? أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء عَسَى? أَن يَكُنَّ خَيْراً مّنْهُنَّ [الحجرات:11]، فالميزان عند الله والكرامة بالتقوى والديانة إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13], فليست التقوى ادعاءً أو تصنعاً ورياءً.
وأشار النبي إلى صدره ثلاث مرات وهو يقول: ((التقوى ها هنا)) ، وإذا وجدت التقوى في القلب ظهر أثرها على العمل والجوارح.
ثم يختم الحديث بقاعدة عظمى من قواعد الإسلام: ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)).
وكفى بهذه العبارة بلاغاً، إن حرمة المسلم عند الله عظيمة, وعاقبة التعدي عليه وخيمة، فمهما أخطأ أو قصّر تعمد أو تأول لا يحل دمه وعرضه وماله فكل ذلك معصوم إلا بكتاب الله، والتساهل في ذلك أو الاجتهاد فيه بلا علم باب شر وفتنة وبلاء ومصيبة، عافانا الله وإياكم.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه (91).
[2] أخرجه مسلم في البر والصلة، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله (2564).
(1/2736)
دعوة إلى التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
3/6/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خُلقَ الإنسان معرضاً للذنوب والعصيان. 2- فتح الله تعالى لعباده أبواب كثيرة من الخيرات. 3- تعريف التوبة النصوح وفضلها وشروطها. 4- من أجلّ نعم الله تعالى على عباده نعمة الأمن والأمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ معشر المسلمين ـ حق التقوى، فتقوى الله تبارك وتعالى, تقوى الله الجليل عدةٌ لكل شدة، وحصن أمين لمن دخله، وجُنةٌ من عذاب الله.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن ربكم خلق بني آدم معرّضاً للخطيئات ومعرّضاً للتقصير في الواجبات، فضاعف له الحسنات، ولم يضاعف عليه السيئات، قال الله تعالى: مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِ?لسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأنعام:160]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إن الله كتب الحسنات والسيئات فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة, فإن عملها كتبها الله عنده عشر حسنات, إلى سبعمائة ضعف, إلى أضعاف كثيرة, فإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله حسنة كاملة, فإن عملها كتبها الله عنده سيئة واحدة)) رواه البخاري [1].
وشرع الله لكسب الحسنات طرقاً للخيرات, وفرائض مكفرات للسيئات, رافعة للدرجات، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفّرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)) رواه مسلم [2].
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز, ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها, وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة)) رواه البخاري [3].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الإيمان بضع وسبعون ـ أو بضع وستون ـ شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) رواه البخاري ومسلم [4].
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله، والجهاد في سبيله)) قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: ((أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً)) قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تعين صانعًا، أو تصنع لأخرق)) قلت: يا رسول الله، أرأيت أن ضعُفت عن بعض العمل؟ قال: ((تكفّ شرّك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك)) رواه البخاري ومسلم [5].
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)) رواه مسلم [6].
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها, أو يشرب الشربة فيحمده عليها)) رواه مسلم [7].
وكما شرع الله كثرة أبواب الخير وأسباب الحسنات سدّ أبواب الشر والمحرمات، وحرم وسائل المعاصي والسيئات, ليثقل ميزان البر والخير، ويخف ميزان الإثم والشر، فيكون العبد من الفائزين المفلحين، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَ?لإِثْمَ وَ?لْبَغْىَ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِ?للَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـ?ناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)) رواه البخاري ومسلم [8].
وجماع الخير ومِلاك الأمر وسبب السعادة التوبة إلى الله، قال عز وجل: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، ومعنى التوبة: هي الرجوع إلى الله والإنابة إليه من فعل المحرم والإثم, أو من ترك واجب أو تقصير فيه, بصدق قلب, وندم على ما كان.
والتوبة النصوح يحفظ الله بها الأعمال الصالحة التي فعلها العبد, ويكفّر الله تبارك وتعالى بها المعاصي التي وقعت, ويدفع الله بها العقوبات النازلة والآتية، قال الله تعالى: فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ?لخِزْىِ فِى ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى? حِينٍ. روى ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية عن قتادة قال: "لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب فتُرِكت إلا قوم يونس لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنى منهم قذف الله في قلوبهم التوبة, ولبسوا المسوح, وألهوا بين كل بهيمة وولدها ـ أي فرقوا بينهما ـ ثم عجّوا إلى الله أربعين ليلة، فلما عرف الله الصدق من قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى منهم كشف الله عنهم العذاب, بعد أن تدلى عليهم"اهـ.
وقال تعالى: وَأَنِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود:3].
والتوبة واجبة على كل أحد من المسلمين, فالواقع في كبيرة تجب عليه التوبة لئلا يبغته الموت وهو على المعصية, فيندم حين لا ينفع الندم, والواقع في الصغيرة تجب عليه التوبة؛ لأن الإصرار على الصغائر يكون من كبائر الذنوب, والمؤدي للواجبات التارك للمحرمات تجب عليه التوبة أيضاً, لما يلحق العمل من الشرور وانتفاء موانع قبوله, وما يخشى على العمل من الشوائب المحذر منها كالرياء. عن الأغر بن يسار المزني قال: قال رسول الله : ((يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه, فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة)) رواه مسلم [9].
والتوبة باب عظيم تتحقق به الحسنات الكثيرة التي يحبها الله, لأن العبد إذا أحدث لكل ذنب يقع فيه توبة كثرت حسناته ونقصت سيئاته، قال الله تعالى: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـ?لِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ ?للَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـ?تٍ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الفرقان:68-70].
أيها المسرفون، تذكروا سعة رحمة الله وعظيم فضله وحلمه وجوده وكرمه حيث قبل توبة التائبين, وأقال عثرة المذنبين, ورحم ضعف هذا الإنسان المسكين, وأثابه على التوبة, وفتح له أبواب الطهارة والخيرات، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار, ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)) رواه مسلم [10].
والتوبة من أعظم العبادات وأحبها إلى الله تعالى, من اتصف بها تحقق فلاحه, وظهر في الأمور نجاحه, قال تعالى: فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً فَعَسَى? أَن يَكُونَ مِنَ ?لْمُفْلِحِينَ [القصص:67].
وكفى بفضل التوبة شرفاً فرح الرب بها فرحاً شديداً, عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة)) رواه البخاري ومسلم [11].
والتوبة من صفات النبيين عليهم الصلاة والسلام ومن صفات المؤمنين, قال الله تعالى: لَقَدْ تَابَ الله عَلَى? ?لنَّبِىّ وَ?لْمُهَـ?جِرِينَ وَ?لاْنصَـ?رِ ?لَّذِينَ ?تَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ ?لْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:117]، وقال تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام: سُبْحَـ?نَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]، وقال عن داود عليه السلام: وَ?ذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ?لاْيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17]، وقال عز وجل: ?لتَّـ?ئِبُونَ ?لْعَـ?بِدُونَ ?لْحَـ?مِدُونَ ?لسَّـ?ئِحُونَ ?لركِعُونَ ?لسَّـ?جِدونَ ?لاْمِرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?لنَّاهُونَ عَنِ ?لْمُنكَرِ وَ?لْحَـ?فِظُونَ لِحُدُودِ ?للَّهِ وَبَشّرِ ?لْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112].
ألا ما أجل صفة التوبة التي بدأ الله بها هذه الصفات المثلى من صفات الإيمان.
والتوبة عبادة لله بالجوارح والقلب, واليوم الذي يتوب الله فيه على العبد خير أيام العمر، والساعة التي يفتح الله فيها لعبده باب التوبة, ويرحمه بها هي أفضل ساعات الدهر؛ لأنه قد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، عن كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة توبة الله عليه حين تخلفه عن غزوة تبوك أنه قال: فلما سلمت على رسول الله قال وهو يبرق وجهه من السرور: ((أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك)) رواه البخاري ومسلم [12].
معشر المسلمين، إنها تحيط بكم أخطار عظيمة, وتنذركم خطوب جسيمة, وقد نزل من أعداء الإسلام بالمسلمين نوازل وزلازل, وأصابتهم الفتن والمحن, وإنه لا مخرج لهم من هذه المضائق وهذه الكربات إلا بالتوبة إلى الله والإنابة إليه.
فالتوبة واجبة على كل مسلم على وجه الأرض من الذنوب صغارها وكبارها ليرحمنا الله في الدنيا والآخرة، ويكشف الشرور والكربات ويقينا عذابه الأليم، وبطشه الشديد.
قال أهل العلم: إذا كانت المعصية بين العبد وبين ربه لا حق لآدمي فيها, فشروطها أن يقلع عن المعصية, وأن يندم على فعلها، وأن يعزم أن لا يعود إليها أبداً, وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فلا بد مع هذه الشروط أن يؤدي إليه حقه، أو يستحلّها منه بالعفو.
والتوبة من جميع الذنوب واجبة، وإن تاب من بعض الذنوب صحت توبته من ذلك الذنب, وبقي عليه ما لم يتب منه.
فتوبوا إلى الله أيها المسلمون، وأقبِلوا إلى رب كريم أسبغ عليكم نعمه الظاهرة والباطنة, وآتاكم من كل ما سألتموه، ومدّ في آجالكم، وتذكروا قصص التائبين المنيبين الذين منّ الله عليهم بالتوبة النصوح بعد أن غرقوا في بحور الشهوات والشبهات, فانجلت غشاوة بصائرهم وحييت قلوبهم, واستنارت نفوسهم, وأيقظهم الله من موت الغفلة, وبصرهم من عمل الغي وشقاوة المعاصي, وأسعدهم من شقاء الموبقات، فصاروا مولودين من جديد، مستبشرين بنعمة من الله وفضل, لم يمسسهم سوء, واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم.
بسم الله الرحمن الرحيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ?للَّهُ ?لنَّبِىَّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى? بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـ?نِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَ?غْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التحريم:8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: من همّ بحسنة أو بسيئة (6491)، ومسلم في الإيمان، باب: إذا هم العبد بحسنة (131).
[2] أخرجه مسلم في الطهارة، باب: الصلوات الخمس.. (233).
[3] أخرجه البخاري في الجنة وفضلها، باب: فضل المنيحة (2631).
[4] أخرجه البخاري في الإيمان، باب: أمور الإيمان (9)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان (35) واللفظ له.
[5] أخرجه البخاري في العتق، باب: أي الرقاب أفضل (2518)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله أفضل الأعمال (84).
[6] أخرجه مسلم في البر والصلة، باب: استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء (2626)،
[7] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء، باب: استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب (2734).
[8] أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله (7288)، ومسلم في الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر (1337).
[9] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء، باب: استحباب الاستغفار (2702).
[10] أخرجه مسلم في التوبة، باب: قبول التوبة من الذنوب (2759).
[11] أخرجه البخاري في الدعوات، باب: التوبة (6309) واللفظ له، ومسلم في التوبة، باب: من الحض على التوبة... (2747).
[12] أخرجه بتمامه البخاري في المغازي، باب: حديث كعب بن مالك (4418)، ومسلم في التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك (2769).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العزيز الوهاب الذي خلق الأسباب, وقدر المقادير فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن, لا إله إلا هو سريع الحساب, أحمد ربي وأشكره وأتوب إليه واستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مبرّأة من النفاق والارتياب، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله المنعم عليه بأفضل كتاب، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك والأصحاب.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه, فإن طاعته أقوم وأقوى, وتزودوا بهذه التقوى لداركم الأخرى، فإنها دار القرار، نعيمها أبدي, وعذابها سرمدي, واشكروا نعم الله عليكم بطلب رضوانه وملازمة طاعته والبعد عن معصيته.
وأعظم النعم نعمة الإسلام والإيمان, وما أجل نعمة الأمن والأمان، الأمن تنتظم به مصالح الدنيا والدين، وتصلح به الحياة في جميع جوانبها, وتندفع بوجوده الشرور والمخاوف عن الناس، وتدر معه الخيرات، وقد امتن الله به على أهل بيته العتيق بقوله: أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَماً ءامِناً يُجْبَى? إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شيء رّزْقاً مّن لَّدُنَّا وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص:57].
وبين النبي قدر نعمة الأمن وفضلها بقوله: ((من أصبح منكم ءامناً في سربه, معافاً في جسده, عنده قوت يومه, فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)) رواه الترمذي وقال: حديث حسن، من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه [1].
وشكر هذه النعمة بالمحافظة على أسبابها والحذر من أسباب اختلالها، ومن أسباب المحافظة على الأمن الأخذ على يد العابثين بالأمن والاستقرار, من السفهاء والفساق والمجرمين الذين يهدمون ولا يبنون, ويفسدون ولا يصلحون، ويفارقون جماعة المسلمين وإمامهم، قد زين لهم الشيطان صنيعهم, ودفعهم إلى مزالق الشر أعداء بلادهم, الذين شوهوا صورة الإسلام, وحققوا مكاسب لأعداء الإسلام بهذه الأعمال التخريبية الإجرامية الإرهابية, التي تظهر بين آونة وأخرى.
وإن أمن بلدكم مسئولية الجميع، فمن علم منه التوجه لهذا المسلك الخبيث والإعداد للإفساد في الأرض، فيجب رفع أمره للسلطة, قبل أن يحدث شيء من الحدث الذي يحقق أهداف أعداء الأمة، ويحقق أهداف أعداء البلاد.
وعلى الشباب الذين غرر بهم أن يبصروا مواقع أقدامهم، وأن يحذروا من كل فكر يخالف كتاب الله وسنة رسوله ، وألا ينخدعوا لمن يدعو إلى هذا الفكر المنحرف، وإن زعم لنفسه ما زعم، أو ادعى له أحد ما ادعى.
معشر الشباب، خذوا العلم من كتاب الله ومن سنة رسوله على فهم السلف الصالح الذين جعلهم الله وسطاً بين الأمم على يد الراسخين في العلم.
[1] أخرجه الترمذي في الزهد، باب في التوكل على الله (2346)، وقال: حسن غريب، وابن ماجه في الزهد، باب: القناعة (4141)، وصححه ابن حبان (الإحسان 671).
(1/2737)
هل من عودة لديننا?
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
3/6/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعدنا عن ديننا أساس ما يصيبنا من الشقاء والبلاء. 2- خطوات الإصلاح بين الزوجين. 3- الوصاة بالمرأة في الإسلام. 4- قصة امرأة صالحة أدركتها الوفاة. 5- بعض بدع الجنائز المنتشرة بين المسلمين. 6- أثر غياب الخلافة في ذلة المسلمين وهوانهم. 7- المؤامرة على فلسطين وبعض صور معاناة شعبها المسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، ما من يوم يمر إلا ويزداد الإسلام عظمة على عظمة، ونوراً على نور، كيف لا وهو دين الله تبارك وتعالى للناس أجمعين.
ولكن وللأسف الشديد ما نعانيه من الشقاء والمفاتن في هذه الأيام هو بسبب بعدنا عن دين الله وأخلاق الإسلام.
حياتنا الزوجية مشاكلها كثيرة، فهل كان عندنا إيمان بالله تعالى واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، أيحدث مثل هذا في الحياة الزوجية؟
والجواب: لا، لماذا؟ لأن الزواج في الإسلام عبارة عن شركة رأس مالها المودة والرحمة، والإسلام جعل للزوجة حقوقاً، وعليها واجبات، وجعل للزوج حقوقاً، وعليه واجبات، وعلى كل واحد منهما القيام بما عليه، والإسلام يسوس الأمور على طاعة الله ورضوانه، ويحيط الأسرة من جميع جوانبها بسياج منيع.
اسمع أيها المسلم إلى قول الله تبارك وتعالى عندما يريد أن يعالج مشكلات المرأة، ولا يعالجها بعد وقوعها، إنما يعالجها قبل أن تندلع المشكلات، قال الله تعالى: وَ?للَّـ?تِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ?هْجُرُوهُنَّ فِى ?لْمَضَاجِعِ وَ?ضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً [النساء:34].
هذا هو العلاج الرباني، وبدلاً من الذهاب إلى المحاكم ونشر أسرار البيوت ورفع الدعاوى ضد الأزواج والحكم عليهم بالسجن، فبالله عليكم كيف سيعيش الرجل مع زوجته بعد أن رفعت عليه قضية في المحاكم الإسرائيلية؟ ثم سجنته سنة أو أكثر من ذلك؟ كيف ستكون مصير الأسرة؟ كيف سيكون مصير الأولاد والبنات؟
عباد الله، أمتنا تحتاج إلى تربية إسلامية تقوم على تطبيق منهج الإسلام، وإذا حصل خلاف أو خصام أو شجار يجب أن تحل المشكلات على أسس وأحكام إسلامية فقط، ويجب أن يتدخل من يحكم بينهما لقول الله تبارك وتعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَ?بْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا [النساء:35].
ولقد وقعت أيام عمر رضي الله عنه خلافات بين زوجين، فأرسل حكمين، حكماً من أهل الزوج، وحكماً من أهل الزوجة، وأمرهما أن يصلحا بين الزوجين، فعاد الحكمان فسألهما عمر رضي الله عنه: هل أصلحتما؟ قالا: لم يصطلحا يا أمير المؤمنين، فضربهما عمر بعصاه، فقال الحكمان: ما ذنبنا يا أمير المؤمنين؟ فقال الفاروق: لو كان في نيتكما أن تصلحا بينهما، لأصلح الله بينهما، أوما قرأتما قول الله تبارك وتعالى: إِن يُرِيدَا إِصْلَـ?حاً يُوَفّقِ ?للَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً [النساء:35]، عليماً بنية الحكمين.
فهناك حكم إذا ذهب إلى الصلح دعا الله أن يوفقه على عدل وخير ومحبة ووفاق، وهناك حكم ـ والعياذ بالله ـ يزيد المشاكل ويعقدها.
عباد الله، إن من أسباب المشاكل الزوجية أن لا تلتزم المرأة المسلمة بواجبها، قد لا تصلي، وقد تخرج متبرجة، اسمعوا أيها المؤمنون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها يوم القيامة: ادخلي الجنة من أي أبوابها الثمانية شئت)) [1].
وأنتم أيها الرجال، اتقوا الله في النساء، واستمعوا لقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً)) [2].
عباد الله، إذا التزمنا منهج الله واتبعنا سنة المصطفى، ترى هل يحل بنا هذا الشقاء الذي نحن فيه الآن؟
والجواب: لا، وألف لا، لماذا نخالف سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم في أقوالنا وأعمالنا ورسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم يقول: ((ومن أحيا سنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد)) [3].
تعالوا ـ أيها المؤمنون ـ لنعيش وإياكم مع امرأة مؤمنة صادقة عارفة بالله، كانت لا تفوتها صلاة الجمعة في المسجد، وكرست حياتها لله تعالى، كان أخوها من الأولياء وكتب من ماله لها الشيء الكثير، كتبت وصيتها قبل أن تموت.
اسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ هذه الوصية: لا تقيموا مأتماً، ولا تصرخوا علي، ولا تولولوا، وتقيموا خريفاً ولا أربعين، ولا سنة، فإذا أنا متُّ ودخلت قبري، فلا تسمحوا لأحد أن يدخل معي قبري حتى لا يمسني، ولا يطلع علي، إنما الذي يقوم بدفني رجل محرم علي.
عباد الله، كيف ماتت هذه الفتاة المسلمة، حكمة بالغة في اليوم الذي دعي فيه الناس، ليحضروا عقد قرانها، وقبل أن يحضر المأذون بقليل، دخلت لتتوضأ، وتصلي لله تعالى ركعتي شكر، فماتت بعد كمال وضوئها، وتحول المهنئون إلى معزين، سبحان الله.
أيها المسلم:
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
وكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكا وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من عروس زينوها لزوجها وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر
وبدلاً من أن تلبس الفتاة ثياب زفافها لبست أكفانها، وبدلاً من أن تدخل الحمام لتغسل نفسها بنفسها، حُملت على خشبة عرجاء، وبدلاً من أن تخلع ثيابها بيديها، نامت على خشبة الغسل لتخلع ثيابها، أقسمت المغسلة التي غسلتها، أنها وهي تقعدها لتوضئها ـ فمن سنة غسل الميت الوضوء ـ أقسمت المغّسلة وهي تغسلها، ابتسمت كأنها على قيد الحياة، كأنها تقول لها: لماذا توضئونني، وقد توضأت قبل الموت، وقد مت على الوضوء.
فلو كان النساء كمثل هذه لفضلت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
وحملت على أعناق الرجال، وذهب بها إلى قبرها مدرجة في أكفانها، وجاء وقت الدفن، وجيئ بالأمانة، وفتح باب القبر، لا باب غرفة الزفاف، ونزل أبوها ـ تصوروا يا عباد الله ـ الأب بنفسه ينزل ويفك الأربطة عن كفنها، ووضع الخد على التراب، وأنامها على شقها الأيمن وقال لها: سلام عليك، إلى اللقاء يوم يجمع الله الأولين والآخرين.
هذه هي سُنة الدنيا ـ يا عباد الله ـ، ولما قرأوا وصيتها وجدوها أوصت بثلث مالها للفقراء والمساكين، سألوا عن مصاغها وجواهرها، فعلموا أنها تصدقت بها جميعاً على زميلاتها الفقيرات، فسألوا عن مكتبتها كم تحوي من الكتب، لم يجدوا فيها كتاباً تافهاً من الكتب التي يحملها شباب اليوم، لم يجدوا فيها مجلة خليعة، لم يجدوا إلا كتاب الله تبارك وتعالى، وجدوا فيها كتباً تفسيراً وسيرة للرسول صلى الله عليه وسلم.
هذه فتاة مسلمة، عرفت ربها، فإلى رضوان الله ورحمته وجنته سارت ـ كما نحسبها والله حسيبها ـ، خاطبتها الملائكة بقوله تبارك وتعالى: يأَيَّتُهَا ?لنَّفْسُ ?لْمُطْمَئِنَّةُ ?رْجِعِى إِلَى? رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَ?دْخُلِى فِى عِبَادِى وَ?دْخُلِى جَنَّتِى [الفجر:27-30].
هذه الفتاة، أوصت أن لا يكون هناك ذكرى للأربعين، لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا عزاء بعد ثلاثة أيام)) ، وكل ما يجري في موتنا وأفراحنا أو أكثره بدع ما أنزل الله بها من سلطان، ذكرى الخميس لماذا؟ لا أصل له، ذكرى الأربعين لماذا ؟ إذا سألتهم لماذا تحتفلون بمرور أربعين يوماً على الميت فلا تجد إجابة، إلا أن بعض الجهلة يقولون لك: إن الدود يبدأ بأكل أنف الميت بعد أربعين يوماً، أتحتفلون بأكل أنفه؟ لماذا لا تحتفلون بأكل لسانه المُر الذي كان يسيل أذى، لماذا؟ إنها ليست سُنّة من سنن الإسلام، إنها بدعة من بدع الفراعنة القدامى، كانوا يحتفلون بذكرى الأربعين، ويقولون بأن الروح بعد الموت تحاسب أربعين يوماً في السماء، ثم تنزل إلى الجسد بعد الأربعين، هذا هو كلام الفراعنة الوثنيين، وليس من كلام سيد المرسلين.
فاتقوا الله، ـ يا عباد الله ـ وحافظوا على فروجكم، وحافظوا على نسائكم وبناتكم، علموهم أحكام الإسلام، فهن بحاجة إلى العلم والمعرفة أكثر من الرجال، وذلك لغلبة الهوى عليهن في الصِبى، فإن الصبية في الغالب تنشئ في بيتها لا تلقن القرآن، ولا تعرف الطهارة من الحيض، ولا تعلم أركان الصلاة، ولا تحدَث قبل الزواج بحقوق الزوج، وربما رأت أمها تؤخر الغسل من الحيض إلى حين غسل الثياب، وتدخل الحمام بغير مئزر، وتقول: ما معي إلا أختي، وتأخذ من مال الزوج بغير إذنه، وربما تعمل له عمل الشياطين، تبغي أن تعطفه عليها، وهذا كله حرام شرعاً، وتصلي ـ ربما مع القدرة على القيام ـ قاعدة، وتحتال في إخفاء الحمل إذا حملت، إلى غير ذلك من الآثام.
وتذكروا ـ يا عباد الله ـ أن الزمان لا يخلو من الصالحات، والله سبحانه وتعالى يقول: فَ?لصَّـ?لِحَـ?تُ قَـ?نِتَـ?تٌ حَفِظَـ?تٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ?للَّهُ [النساء:34].
اللهم أصلح أبناءنا وبناتنا ونساءنا، واجعلهم في طاعتك يا رب العالمين، اللهم ارزقنا الصبر على البلاء، وارزقنا الرضا بالقضاء، وارزقنا الشكر عند العطاء.
عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى بالدعاء والاستغفار.
وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] أخرجه أحمد في مسنده برقم (1664)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (661).
[2] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: خلق آدم صلوات الله عليه وذريته (3331)، ومسلم في كتاب الرضاع، باب: الوصية بالنساء (1468) واللفظ للبخاري.
[3] أخرجه البيهقي في الزهد الكبير برقم (207)، وقال الألباني: ضعيف جداً، انظر: السلسلة الضعيفة (326).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي لا تدركه الأبصار، ولا تحويه الأفكار، ولا يكفيه الليل والنهار، ونشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في سلطانه، ولا مناوئ له في علو شانه، العزيز الذي لا يظلِم ولا يذل، والقوي فكل ما سواه زائل مضمحل، يقبل تائباً، ويعطي محروماً، ويغيث ملهوفاً، ويفقر غنياً، ويغني فقيراً، ويقصم جباراً، ويهلك ظالماً، ويرفع أقواماً، ويهلك آخرين.
ونشهد أن نبينا وحبيبنا وقدوتنا ومخرجنا من الظلمات إلى النور محمد رسول الله، صلاة ربي وتسليماته عليك أيها النبي الأمي، الذي إذا علّم فهو أستاذ المعلمين، والذي بعث الأمل في قلوب البائسين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون، إن تخبط العالم الإسلامي اليوم وهوان الأمة وتفرقها وضعفها يعود أساساً إلى غياب دولة الإسلام وغياب تطبيق منهج الله تبارك وتعالى كدستور ونظام حياة.
وبدأت عوامل الهزيمة والفرقة تسرى بعد المؤامرة الاستعمارية الحاقدة على دولة الخلافة وإسقاطها سنة 1924م، ومن المؤلم أن بعض العرب كانوا أول المساهمين في القضاء عليها، في وقت كانت فيه الدول الاستعمارية تتآمر فيما بينها لاقتسام عالمنا العربي، من خلال معاهدة سايكس بيكو التي أطلقت كل من فرنسا وبريطانيا يديها لاستعمار العالم العربي الإسلامي، وأعقب ذلك وفي غياب دولة الإسلام البدأ في تنفيذ وعد بلفور المشؤوم، الذي أعطى ـ من لا يملك ـ حق التصرف في أرض المسلمين، لمن لا يستحق هذا الحق.
وبدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين لاستعمارها وإقامة الوجود الصهيوني، وفي غياب دولة الإسلام أيضاً طرح مشروع تقسيم دولة فلسطين، وكان طبيعياً أن يرفض شعبنا هذا التقسيم الجائر الظالم، بل كان من الواجب رفض هذا التقسيم باعتبار فلسطين أرضاً إسلامية غير قابلة للتقسيم والتجزئة.
واستمرت المؤامرة من خلال الأنظمة العربية آنذاك، والتي رفعت شعارات القومية العربية، وغلّفتها بغلاف ديني لاستنهاض الهمم، ليس إلا، وقامت تحت ذرائع تحرير فلسطين الثورات والانقلابات العسكرية في أكثر من بلد عربي.
وتحت هذه الشعارات الرنانة والطنانة كانت الطامة الكبرى في سنة سبع وستين، حيث احتلت كل فلسطين، إضافة إلى أراضٍ عربية أخرى.
واستمر العجز العربي يتفاقم في ظل غياب دولة الإسلام، وأمام هذا الضعف بدأ الإحساس الديني يتنامى في الأمة الإسلامية، وبدأت الصحوة الإسلامية تدعو إلى العودة إلى تعاليم الإسلام، بعد أن تأكد للجميع أن لا عزة إلا بالإسلام وبقيام دولة الإسلام.
وتنبه المستعمرون والمحتلون لهذه الصحوة، وتنبه دعاة العلمانية إلى أن عودة الأمة للإسلام هي الخطر الحقيقي على مصالحهم ونفوذهم وسطوتهم، فكثف أعداء الأمة نار حقدهم ضد الجماعات الإسلامية وألصقوا بهم تُهم الإرهاب.
أيها المسلمون، إن المأساة الفلسطينية تندرج في إطار هذا التصور، فها هو شعبنا الفلسطيني الذي وقف وحيداً، يواجه أعتى وأقوى دولة، وأطول احتلال عرفه التاريخ البشري، فقدم آلاف الشهداء، وتم اعتقال الآلاف من خيرة أبنائه، وهدمت آلاف المنازل وصودرت، وجرِّفت الأراضي، ولم يحرك أحد من قادة الأمة ساكناً، ولم تعد قضيتنا قضية إسلامية، وما التغني بأمجاد الماضي إلا للبرهنة على العجز القائم اليوم.
أيها المسلمون، وإذ نشهد اليوم هدنة مصطنعة ومفروضة، فإن إسرائيل وعبر تاريخها الاستيطاني وسياستها التوسعية تستغل هذه الهدنة لتكريس احتلالها عبر تشكيل المستوطنات، حتى غدا سكان المستوطنات ـ وحسب الإحصاءات الإسرائيلية ـ في الضفة وقطاع غزة يشكلون ثلثي سكان إسرائيل.
وفي الوقت الذي ترفض فيه إسرائيل بحث قضية القدس وقضية اللاجئين نجد أنها تجُس نبض المسلمين من خلال تسريب معلومات خاطئة، ومفادها أن ثمة اتفاقاً على ما يسمونه حرية العبادة لسائر الأديان في المسجد الأقصى المبارك، وهذا بحد ذاته توطئة لتقسيم المسجد والنيل من قدسيته لا قدر الله.
أيها المسلمون، لقد أصبحت ـ وللأسف الشديد ـ قضية فلسطين قضيةً جزئية، تتعلق بإزالة الحواجز العسكرية، وأصبحت قضية فلسطين قضيةَ ما يسمى الجدار الآمن، هل ستتوقف إسرائيل عن بنائه أم ستواصل البناء؟
واليوم أصبحت قضية الأسرى هي القضية الأكثر احتداماً، لأن إسرائيل تريد أن تميز بينهم، ومن هنا نشدد على أهمية ضرورة إطلاق سراح الأسرى جميعاً دون تمييز، ودون مساومة، فذلك من حقهم.
ولكن إسرائيل تضرب عرض الحائط بكل المواثيق والأعراف التي تحافظ على حق السجين في حياة مطمئنة، فها هي تقوم بالتنكيل بالأسرى، بدلاً من إطلاق سراحهم، وما جرى في سجن عسقلان أكبر دليل على غطرستها وسياستها القمعية ضد شعبنا الفلسطيني داخل السجون وخارجها.
ومن على هذا المنبر الشريف نستنكر هذه الاعتداءات وهذه الممارسات الظالمة، ومن هنا نكرر أيضاً مطالبتنا بإطلاق سراحهم جميعاً دون قيد أو شرط.
اللهم أطلق سراح جميع الأسرى المسلمين، اللهم ارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وتولَ أمرهم، وشُد أزرهم، وكن معهم يا رب العالمين، اللهم أعدهم إلينا سالمين غانمين آمنين مطمئنين.
عباد الله، متى يدرك المسلمون أن قضيتنا هي قضية صراع عقدي بين الحق والباطل؟ وصدق الله تبارك وتعالى وهو يقول: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217].
ومِن هنا، فالواجب على أمتنا في كل مكان أن تعمل لإقامة دولة الإسلام حتى تعود لها الكرمة والعزة والمقدسات، وصدق الله تبارك وتعالى وهو يقول: وَقُلِ ?عْمَلُواْ فَسَيَرَى ?للَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَ?لْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105].
وفقنا الله وإياكم للعمل بكتابه وتطبيق سنة نبيه صلى الله على وسلم.
(1/2738)
الحث على نوافل الصلوات
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
3/6/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تسلُّط الشيطان على العبد بإلهائه عن صلاته. 2- شُرعت النوافل جبراً لنقص الفرائض. 3- أهمية النوافل وفضلها. 4- الترغيب في أداء السنن الرواتب، وصلاة الوتر، وركعتي الضحى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن من رحمة الله بنا, وإحسانه إلينا, وتفضله علينا أن شرع لنا نوافل من العبادة لتكون هذه النوافل جابرةً للنقص الحاصل علينا في أداء الفريضة.
أيها المسلم، لا يخلو واحد منا من تقصير في فرائض الإسلام, تقصير في الأداء, وخلل أثناء الأداء, وعدو الله إبليس يتسلّط على المسلم عند الدخول في الصلاة, يذكّّره ما كان غائباً عنه ويشغل قلبه بما لا خير له فيه, ولا مصلحة له منه, ولكن ليضعف قلبه في صلاته, وليضعف مناجاته لربه، فإن موقف المصلي موقف عظيم يناجي فيه ربه, ويفضي بحاجته إلى ربه, فعدوّ الله يذكره ما كان غائباً, اذكر كذا اذكر كذا, حتى ربما انصرف الواحد منا من صلاته ولو سألته أسهى الإمام؟ قال: لا أدري, وبأي شيء قرأ الإمام؟ قال: لا أدري, فيركع ويسجد ويقوم وهو بالجسد فقط، والقلب في جولات في الدنيا والأمور التي لا داعي لها, لكن عدوّ الله يفرح بهذا ليضعف شأن المسلم في صلاته.
ولأن المسلم لا يكتب له من صلاته إلا ما كان حاضر القلب أثناء الأداء يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت)، ولهذا في حديث الوضوء: ((ثم صلي ركعتين لا يحدث فيهما نفسه إلا غفر الله له)) [1].
فلما كان هذا الضابط ملازماً لنا في أداء الفرائض شرع رسول الله لنا نوافل من الصلوات ليجبر بها نقص فرائضنا, ولتكمل بها فرائضنا يوم قدومنا على الله.
أيها المسلم، إن أول ما نحاسب عنه يوم القيامة من أعمالنا فيما بيننا وبين الله، هذه الصلوات الخمس, فإن صلحت فقد أفلح المؤمن ونجح, وإن حصل فيها خلل قال الله: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فكملوا به نقص فريضته, وكذلك الزكاة والصوم والحج.
إذن أخي المسلم، فمحافظتك على نوافل الصلوات خير لك في أمورك كلها, جبر لنقص فريضتك, وتكميل لها, وزيادة خير على خير, ربيعة السلمي قدّم للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه فقال له : ((سلني حاجتك)) ، فقال: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: ((أو غير ذاك يا ربيعة)) ، قال: هو ذاك، قال : ((أعني على نفسك بكثرة السجود)) [2] فالمعنى أن كثرة السجود, كثرة النوافل طاعة سبب لمرافقة محمد في دار كرامة الله.
أيها المسلم، إن محافظتك على نوافل الصلاة سبب لمحبة الله لك وتوفيق الله لك في أعمالك كلها, في الحديث القدسي، يقول : ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه, ولئن استعاذني لأعيذنه)) [3] ، هذا الفضل العظيم سببه كثرة نوافل الصلاة, كثرة نوافل الطاعات من صلاة وصدقه وصيام وحج.
أيها المسلم، إذن فعليك المحافظة على هذه النوافل والعناية بها حتى تكون من الفائزين برضوان الله إن شاء الله, حتى تفوز برضوان الله والمسابقين إلى فعل الخيرات.
أيها المسلم، إن نبينا شرع لنا رواتب قبل الفريضة ورواتب بعدها, فأخبرنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنه حفظ عن رسول الله ركعتين قبل الظهر, وركعتين بعد الظهر, وركعتين بعد المغرب, وركعتين بعد العشاء, وركعتين قبل الفجر, وأخبر أن هذه الساعة ساعة لا يدخل على النبي فيها, وأن أخته حفصة أم المؤمنين أخبرته أن النبي إذا طلع الفجر وأذن المؤذن قام فصلى ركعتين قبل أن يخرج من منزله [4].
فهذه عشر نوافل ويسميها العلماء نافلة لأنها محببة قبل الوقت وبعده, فقبل الظهر ركعتين وبعده ركعتين وبعد المغرب ركعتين وبعد العشاء ركعتين وقبل الفجر ركعتين, أما بعد العصر فلا لأنه وقت نهي, وقبل العصر سنة مطلقة وكذلك ما قبل المغرب والعشاء.
وفي حديث أم حبيبة: ((من حافظ على ثنتي عشرة سجدة في يومه وليلته حرمه الله على النار, أربعاً قبل الظهر, ركعتين بعد الظهر, ركعتين بعد المغرب, ركعتين بعد العشاء, ركعتين قبل الفجر)) [5] ، وفي حديث الآخر أيضاً: ((من حافظ على أربعٍ قبل الظهر وأربع بعدها بنى الله له بهن بيتاً في الجنة)) [6].
أيها المسلم، هذه الفضائل العظيمة هي يسيرة على من يسرها الله عليه, هينة سهلة, وشاقة على من حُرِمَ التوفيق, وكم يشتغل الإنسان بقيل وقال, ويأخذ بأطرف الحديث, ويحدث غيره, وتذهب أوقاته دون أن يستغلها في هذا الفضل العظيم.
أيها المسلم، وهناك نوافل شرعت لنا فقبل العصر يروى أنه قال: ((رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً)) [7] ، وقبل المغرب يقول : ((صلوا قبل المغرب, صلوا قبل المغرب, صلوا قبل المغرب, ثم قال: لمن شاء)) [8] ، كراهية أن يتخذها الناس سنة.
وقال: ((بين كل أذانين صلاة)) [9].
وشرع لنا نبينا أن نصلي الضحى ركعتين ففي حديث أبي هريرة: أوصاني خليلي بثلاث: ((أن أوتر قبل أن أنام، وأن أصلي ركعتي الضحى, وأن أصوم من كل شهر ثلاثة أيام)) [10] ، وفي حديث أبي ذر لما ذكر النبي خلق الإنسان والأعمال التي يشكر بها ربه قال: ((يصبح على كل سلامى من الناس صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة, وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع عليها متاعه صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتين تركعهما من الضحى)) [11].
فيا أخي هذه النوافل تقوي صلتك بربك, وتجعلك على ارتباط بربك, فحافظ عليها أخي المسلم، وروض نفسك على ملازمتها فهي خير لك وعون لك على كل خير.
أخي المسلم، إن فعل النوافل في البيت نور للبيت, وخير يحل بالمنزل, ويقتدي بك غيرك, ويتأسى بك زوجتك وأولادك من ذكور وإناث، والبيت إذا عمر بالطاعة ابتعد عنه الشيطان، وإذا خرب من الخير امتلأ فيه الشياطين، فنوّر بيتك بالنوافل، ولهذا النبي يقول: ((لا تجعلوا بيوتكم قبورا)) [12] بمعنى صلوا فيها, وقال: ((خير صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة)) [13] ، فالفرائض محلها المساجد والنوافل محلها البيوت ليكون أقوى في الإخلاص وأعظم في الطاعة, وتخبر عائشة: (أن النبي إذا صلى العشاء لا ينام حتى يصلي قبل أن ينام أربع ركعات أو ست ركعات) [14] ، كل ذلك ليبتدأ يومه بالطاعة، ويختم يومه بالطاعة، فالطاعة في أول يومه، والطاعة عند النوم كلها حفظ للعبد وحفظ لدينه, حفظ لأخلاقه عون له على كل خير، فالصلاة خير موضوع, فمن استقل أو شاء أن يستكثر.
فيا أخي المسلم، لا تهمل هذه النوافل ولا تتلاشاها, فيا له من يوم ستكون محتاجاً إلى مثقال ذرة من خير يرجح بها ميزانك.
يا أخي كم لنا من تقصير وكم لنا من نسيان وإهمال, فهذه النوافل تجبر نقص صلواتنا, وتكون سبباً لإكمالها, وفوزنا برضاء الله يوم قدومنا عليه, إنها أعمال صالحة لن تضيع، هي مدخرة لك، ومكتوبة لك، وسترى جزاءها يوم قدومك على الله ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
حاول أن يكون هذا الجسد يستعمل في طاعة الله ويسخر في الأعمال الصالحة، فلا تستسهلها ولا تستقلها, كم مجالس تقضيها ساعات طوال في قيل وقال وما لا خير فيه في أمر الدنيا والدين, وتتكاسل وتضعف عن نوافل تقدمها لك, تعمر بيتك بالخير, أعمره بالطاعة والعمل الصالح.
أسأل الله أن يعيننا وإياكم على كل خير, وأن يوفقنا لاغتنام الأوقات في صالح الأعمال, إنه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: سَابِقُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ?لسَّمَاء وَ?لأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?للَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الحديد:21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه, إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الوضوء، باب: الوضوء ثلاثاً (160)، ومسلم في الطهارة، باب: صفة الوضوء وكماله (226) من حديث عثمان بن عفان.
[2] أخرجه مسلم في الصلاة، باب: فضل السجود والحث عليه (489).
[3] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: التواضع (6502) من حديث أبي هريرة.
[4] أخرجه البخاري في الجمعة، باب: الركعتين قبل الظهر (1181).
[5] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل السنن الراتبة.. (728)، والترمذي في الصلاة، باب: ما جاء فيمن صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة... (415)، وقال: حسن صحيح واللفظ له.
[6] أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: الأربع قبل الظهر وبعدها (1269)، والترمذي في الصلاة، باب منه آخر (428)، وقال: حسن صحيح غريب, والنسائي في المجتبى في قيام الليل وتطوع النهار، باب: الاختلاف على إسماعيل بن خالد (1816) من حديث أم حبيبة.
[7] أخرجه الإمام أحمد (5944)، وأبو داود في الصلاة، باب: الصلاة قبل العصر (1271)، والترمذي في الصلاة، باب: ما جاء في الأربع قبل العصر (430)، وقال: غريب حسن. من حديث ابن عمر.
[8] أخرجه البخاري في الجمعة، باب: الصلاة قبل المغرب (1183) من حديث عبد الله بن مغفل.
[9] أخرجه البخاري في الأذان، باب: كم بين الأذان والإقامة (624)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: بين كل أذانين صلاة (838) من حديث عبد الله بن مغفل.
[10] أخرجه البخاري في الصوم، باب: صيام أيام البيض ثلاث عشرة... (1981)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى... (721).
[11] أخرجه الإمام أحمد (20964)، وأبو داود في الصلاة، باب: صلاة الضحى (1285) من حديث أبي ذر.
[12] أخرجه الإمام أحمد (8586)، وأبو داود في المناسك، باب: زيارة القبور (2542)، من حديث أبي هريرة، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء في التطوع في البيت(1377) من حديث ابن عمر.
[13] أخرجه البخاري في الأدب، باب: ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله (6113)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب صلاة النافلة في بيته (781) من حديث زيد بن ثابت.
[14] أخرجه بنحوه أبو داود في الصلاة، باب: الصلاة بعد العشاء (1303).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن نبينا كان يحافظ على سنة الوتر وما كان يدع الوتر لا حضراً ولا سفراً، وأخبرنا : ((أن الله أمدنا بصلاة هي خير لنا من حمر النعم، الوتر ما بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر)) [1] وقال لنا : ((أوتروا يا أهل القرآن,فإن الله وتر يحب الوتر)) [2] ، وقال: ((من لم يوتر فليس منا)) [3].
وكان نبيكم يحافظ على الوتر,وشرع للمسلم أن يوتر آخر الليل إن وثق بنفسه في قيام الليل, أو يوتر أول الليل إن لم يثق بنفسه من قيام آخر الليل فليوتر بعد صلاة العشاء وسنتها، المهم المحافظة عليه، وهذا الوتر أكثر ما نقل عنه أنه أوتر بثلاثة عشر وأوتر إحدى عشر وربما أوتر بتسع ركعات متواصلات يجلس بعد الثامنة ثم يتابع ويقوم ويكمل التاسعة, وربما سرد سبعاً وربما سرد خمساً.
والوتر أقله واحدة وأدنى كماله ثلاثاً يوتر المسلم بها بعد العشاء وسنتها، فيصلي ثلاثة ركعات إن شاء فصل بينهما بثلاث وإن شاء وصلهما ثلاثاً, وإن صلى خمساً أو سبعاً فذاك خير وأفضل, وإن وفق للكمال فصلى إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ثنتين ويوتر بواحدة فذاك الكمال الذي هو هدي نبيكم تقول عائشة رضي الله عنها: (ما كان نبيكم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة, يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن, ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن, ثم يوتر من ذلك بثلاث) [4].
فحافظوا على الوتر رحمكم الله, ولا تضيعوه, فإن السلف يشددون في أمره, ويرغبون فيه, ويرون تاركه والمحافظة على تركه يرون ذلك نقصاً في حق الإنسان, فحافظوا عليه رحمكم الله لعلكم تفلحون.
نبيكم إذا سافر في سفره قصر الصلاة فلم يصل قبل الظهر ولا بعدها ولا بعد المغرب ولا بعد العشاء, لكن الركعتان قبل الفجر ما كان يدعهما مع الوتر لا في حضر ولا في سفر، تقول عائشة رضي الله عنها: (لم يكن محمد على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر) [5] ، وهو كان يقول: ((ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)) [6].
فيا إخواني هذه أعمال صالحة وقربات تقربوا بها إلى ربكم لعلكم تفلحون.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم لصالح العمل, وأن يجعلنا وإياكم من المسارعين في الخيرات, وأن يتقبل منا ومنكم أعمالنا, وأن يوفقنا لعمل يرضي ربنا قبل لقائه, إنه على كل شيء قدير.
نسأله تعالى التوفيق لما يحبه ويرضاه والتزود بعمل صالح، وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? [البقرة:197]، فخير الناس من تزود من دنياه لآخرته, ومن حياته لمعاده, يتزود قبل أن يندم وقبل أن يتمنى فرصة عمل يتقرب بها إلى الله.
قال بعض السلف رؤي أحد السلف بعد موته في منامه فقال: أنتم تعلمون ولا تعملون، ونحن نعلم ولا نعمل، والله وركعتان في صحيفة أحدنا أحب إليه من الدنيا وما فيها.
إن الأعمال الصالحة زاد لك يوم القيامة، إنها سبب لتهوين كرب السياق عليك، وإنها لأنس لك في لحدك, وإنها لشافعة لك يوم لقاء ربك, وإنها تثقل ميزان أعمالك.
فيا أخي المسلم، هذه الدنيا إنما يفرح بالحياة فيها المؤمن فيزداد عملاً صالح, ويتقرب إلى الله بما يرضيه, فاحمد الله على صحة بدنك وسلامة أعضائك, فواصل الخير والعمل الصالح.
أتي بعض السلف في آخر كبر سنه فقيل: ما هذه النوافل وقد كبر السن وثقل؟ قال: هذا جسد أتعبه بالطاعة قبل أن يأكله الدود.
إن المؤمن في هذه الحياة يفرح بيوم يزداد فيه عملاً صالحاً, وحسنات تكتب له قبل أن تختم أعماله, وتنقطع أعماله, وتطوى صحائفه بما عليه، أسأل الله لي ولكم الثبات والتوفيق والعون على كل خير.
[1] أخرجه أبو داود في الصلاة، باب استحباب الوتر (1418), والترمذي في الصلاة, باب ما جاء في فضل الوتر (452) وقال: غريب, وابن ماجه في إقامة الصلاة, باب ما جاء في الوتر (1168), من حديث خارجة بن حذافة.
[2] أخرجه الإمام أحمد (1265)، وأبو داود في الصلاة، باب: استحباب الوتر (1416)، والترمذي في الصلاة، باب: ما جاء أن الوتر ليس بحتم (453)، وقال: حسن، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء في الوتر (1169) من حديث علي بن أبي طالب.
[3] أخرجه الإمام أحمد (9424) من حديث أبي هريرة، وأبو داود في الصلاة، باب: فيمن لم يوتر (1419) من حديث بريدة.
[4] أخرجه البخاري في الجمعة، باب: قيام النبي بالليل (1147)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي (738).
[5] أخرجه البخاري في الجمعة، باب: تعاهد ركعتي الفجر... (1163).
[6] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب ركعتي الفجر (725) من حديث عائشة.
(1/2739)
اتباع الهوى (صوره – خطره – علاجه)
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
10/6/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة اتباع الهوى. 2- من صور اتباع الهوى: القول على الله بغير علم، الغفلة، الإخلاد إلى الأرض، الظلم، سوء الظن، الحكم بغير ما أنزل الله، العجب، عدم العدل. 3- علاج اتباع الهوى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق تقاته، فإن التقوى خير زاد يصحب المسلم في رحلته إلى الله والدار الآخرة حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أيها المسلمون، إن مجانبة الضلال والسلامة من الغواية والنأي عن فساد العمل منتهى أمل المسلم، وغاية أمله وذروة مقصده، لذا ليس عجباً أن ينبعث له حس مرهف وشعور يقظ، وفكر حي يحمله على تمام الحذر من كل ما يحول بينه وبين سلوك سبيل الاستقامة، فإن الحوائل كثيرة، وإن العوائق عديدة، غير أن من أظهر هذه الحوائل وأقوى هذه العوائق أثراً وأشدها خطراً اتباع الهوى, على معنى أن يكون دليل المرء وقائده ومرشده ما تميل إليه نفسه, ويهواه قلبه, ويلتذ به حسه لا ما يأمره به وينهاه عنه الله ورسوله.
ولما كان المسلم مأموراً بأن يجعل صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين، كما قال سبحانه مخاطباً أشرف خلقه وخاتم أنبيائه صلوات الله وسلامه عليه: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]؛ كان اتباع الهوى عاملاً خطيراً في النأي بحياة المسلم عن هذا الأصل العظيم من أصول السعادة وأسباب النجاة، ولذا حذّر سبحانه في حشد من آيات كتابه العزيز من اتباع الهوى مقروناً بجملة من الصفات المقبوحة والأحوال المرذولة التي تعد مع ذلك من الأسباب الباعثة عليه والمفضية إليه.
فمن ذلك عدم العلم بالله وآياته وشرعه، ومنه القول على الله بغير علم، كمن يتصدى للفتوى دون أن تجتمع فيه شروطها وآدابها، فيكون من نتيجة ذلك أن يفتي الناس بما تهوى الأنفس, لا بمقتضى الدليل من كتاب الله وسنة رسوله ، فيورد نفسه بذلك ويورد غيره موارد الهلاك, ويكون وبالاً على الأمة وسبباً في الانحراف عن الحق كما قال سبحانه: وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:119].
ومن ذلك الغفلة عن ذكر الله والإعراض عن شرعه, فإنها تحمل المسلم على ترك ما أمر به, ونهي عنه, والانصراف إلى شهوات النفس ولذات الحس وجعلها منتهى همّه, وغاية مقصده، فلاحظ في نفسه لغيرها، بل يكون حاله مشابهاً لحال الدواب والعجماوات.
ويزداد عظم الخطر عندما ينصرف المرء عن شريعة ربه بالكلية مصماً أذنيه عن البينات والهدى فتتشعّث عليه أموره, ويشيع الاضطراب في حياته، ولذا حذر سبحانه المؤمنين من هذه العاقبة فقال سبحانه: وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
ومنها الإخلاد إلى الأرض، والركون إلى الدنيا والعمل لها والرضا بها، حتى تكون أكبر همه ومبلغ علمه, لها يعمل, وإليها يقصد, ولأجلها يناضل، وفيها يوالي ويعادي، حتى يقعد به ذلك عن سمو الهدف ورفعة الغاية وشرف المقام الذي ينشده ألو الألباب بعملهم لله والدار الآخرة، فتكون عاقبة أمره خسراً وندامة لا تنتهي, وحسرة لا تنقطع, كما قال سبحانه: وَ?تْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ?لَّذِى ءاتَيْنَـ?هُ ءايَـ?تِنَا فَ?نْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ?لشَّيْطَـ?نُ فَكَانَ مِنَ ?لْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـ?هُ بِهَا وَلَـ?كِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ?لأرْضِ وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ?لْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ الآية [الأعراف:185، 186].
ومنها الظلم، والظلم يا عباد الله، تتسع أبعاده وتتنوع دروبه، فلا يقتصر على ظلم الإنسان نفسه بالمعاصي حتى يوردها موارد الهلاك، بل يتجاوز ذلك إلى ظلم غيره بألوان كثيرة تندرج كلها تحت مفهوم التعدي عليهم في الأنفس أو الأموال أو الأعراض فيورثه ذلك من ظلمات يوم القيامة ما لا منجى له منها كما قال سبحانه: بَلِ ?تَّبَعَ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَاءهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الروم:29].
ومنها تزيين سوء العمل في نفس صاحبه، فإن المرء إذا زين له سوء عمله انعكست لديه الموازين, فأصبح يرى الحق باطلاً، والباطل حقاً، والحسد قبيحاً، والقبيح حسناً، وإنها لمحنة يا لها من محنة، كما قال سبحانه: أَفَمَن كَانَ عَلَى? بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ وَ?تَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ [محمد:14].
ومنها الظن، الذي لا يغني من الحق شيئاً، كما قال سبحانه: وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ?لظَّنَّ وَإِنَّ ?لظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ ?لْحَقّ شَيْئاً [النجم:28]، وكما قال سبحانه: إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ?لظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ?لأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ ?لْهُدَى? [النجم:23].
ثم إن لاتباع الهوى في دنيا الواقع صوراً كثيرة لا يحدها حد, ولا يستوعبها حصر، غير أن من أعظمها خطراً، وأشدها ضرراً، ما يكون من اتباع الهوى في ميدان الحكم بين الناس، والفصل بينهم في الدماء والأموال والأعراض، ولذا أمر سبحانه نبيه داود عليه السلام بالحكم بين الناس بالحق, ونهاه عن اتباع الهوى لأن عاقبة ذلك الضلال عن سبيل الله, فقال تعالى: ي?دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَـ?كَ خَلِيفَةً فِى ?لأرْضِ فَ?حْكُمْ بَيْنَ ?لنَّاسِ بِ?لْحَقّ وَلاَ تَتَّبِعِ ?لْهَوَى? فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ الآية [ص:26].
وكذلك أمر سبحانه نبيه وأشرف خلقه وأعلمهم بربه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين الناس بما أنزل الله، وحذره من اتباع الأهواء فقال تبارك وتعالى: وَأَنِ ?حْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَ?حْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ ?للَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَ?عْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ?للَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ ?لنَّاسِ لَفَـ?سِقُونَ [المائدة:49].
وبين له أن مآل اتباع أهواء الضالين مفضٍ به وهو رسول رب العالمين إلى الضلال والخيبة والخسران, فقال سبحانه: قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ?لَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ مِنَ ?لْمُهْتَدِينَ [الأنعام:56].
ولا ريب يا عباد الله، أن هذا كله توجيه للأمة من بعده, وتحذير لها, وهدى وذكرى لأولي الألباب.
ومن صور اتباع الهوى أيضاً اعتداء المرء بنفسه وذهابه بها مذاهب العجب والغرور حتى يشمخ بأنفه, ويستعلي على غيره, ويأنف من قبول الحق ومن الإذعان للنصح متبعاً هواه، مضرباً عن كل ما سواه من البينات والهدى.
ومنه الحكم على الآخر وفقاً لما يمليه عليه هواه ولما يستقر في نفسه من آراء، فإذا بذلك يحمله على ترك العدل، والمسلم مأمور بالعدل مطلقاً، حيث قال سبحانه: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِ?لْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ ?لْو?لِدَيْنِ وَ?لاْقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَ?للَّهُ أَوْلَى? بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لْهَوَى? أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء:135].
ومن صور ذلك أيضاً أن تكون للرجل زوجات فلا يقم بمقتضى العدل بينهن, بل يتبع هواه فيحمله ذلك على الميل إلى إحداهن كل الميل، ويذر ما سواها كالمعلقة، بل إن الأمر ليتمادى به إلى تعامله مع أبنائه أيضاً, فإذا هو ميّال إلى بعضهم دون بعض، يرفعه ويهب له ويجعله محضياً بكل ألوان الرعاية والعناية، ويدع غيره من أبنائه مبعداً محروماً منسياً.
ومن صور ذلك أيضاً أن يتبع المعلم هواه فلا يقوم بما يجب عليه من العدل بين طلابه بجعل المفاضلة بينهم قائمة على أسس من الجد والاجتهاد ورعاية حق العلم, بل يميل إلى طائفة أو فرد منهم مقدماً من حقه التأخير, أو مؤخراً من حقه التقديم، اتباعاً للهوى وإعراضاً عن الحق.
وكم لاتباع الهوى في دنيا الواقع من صور, وكم لها من أضرار وآثار لا تقع تحت العد, ولا يستوعبها المجال، وحاصل ذلك أن اتباع الهوى والانقياد له مفض إلى الانحراف عن الصراط المستقيم, والحيدة عن طريق الله القويم, وإلى خسران الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.
وعلاج ذلك ـ يا عباد الله ـ أن يجعل المرء هواه تبعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن لا يقدم على أمر الله ورسوله شيئاً مهما عظم شأنه وعلا قدره, وأن يحتكم في كل دقيق وجليل من أمور حياته إلى حكم الله, ويرضى به ويسلم, فتكون عاقبة ذلك أن يرضى ويغضب لله, وأن يحب ويبغض في الله، وأن يعطي ويمنع لله.
فاعملوا ـ رحمكم الله ـ على مجانبة اتباع الهوى, وانأوا بأنفسكم عن سلوك كل سبيل يفضي إليه تكونوا من المفلحين, وصدق الله إذ يقول: أَفَرَأَيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ?للَّهُ عَلَى? عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى? سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى? بَصَرِهِ غِشَـ?وَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ?للَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي المتقين, أحمده سبحانه يعز الطائعين ويذل العاصين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله, شفيع المؤمنين وقائد الغر المحجلين، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله، إن اتباع ما أنزل الله من البينات والهدى والعمل به والتسليم له عاصم للمرء من اتباع الأهواء وحافظ له من التردي في وهدتها, مورثه إياه سعادة جعلها الله خالصة لمن اتبع شريعته واهتدى بهديه, وأعرض عن كل ما سوى ذلك، كما قال سبحانه مخاطباً عبده ونبيه محمداً آمراً إياه باتباع شريعته، محذراً له من اتباع الأهواء قال سبحانه: ثُمَّ جَعَلْنَـ?كَ عَلَى? شَرِيعَةٍ مّنَ ?لأَمْرِ فَ?تَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ?للَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ ?لظَّـ?لِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَ?للَّهُ وَلِىُّ ?لْمُتَّقِينَ [الجاثية:18، 19].
فهذا ـ يا عباد الله ـ هو الطريق المستقيم الموصل إلى رضوان الله والظفر بجناته، فالزموه واستمسكوا به ـ رحمكم الله ـ وحذار من اتباع الهوى فإنه الداء كل الداء.
(1/2740)
التوكل على الله
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
10/6/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة المرء إلى ربه. 2- فضل التوكل وعظمه. 3- الرسل أئمة المتوكلين. 4- الرزق وعلاقته بالتوكل. 5- قواعد في التوكل. 6- نماذج من توكل الأنبياء عليهم السلام. 7- واجب المسلم نحو المصائب والفتن. 8- أصناف الناس في التوكل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، فمن اتقى ربه علا، ومن أعرض عنه فله معيشة ضنكا.
أيها المسلمون، أسعد الخلق أعظمهم عبودية لله, وكل ما كان العبد أذل لله وأعظم افتقاراً إليه كان أقرب إليه وأعظم قدراً عنده وعند خلقه، والعبد عاجزٌ عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره، محتاجٌ إلى الاستعانة بخالقه، والله سبحانه هو الصمد الغني عما سواه, وكل ما سواه فقيرٌ إليه.
وذنوب العباد كثيرة ولا نجاة لهم منها إلا بمعونة الله وعفوه، وكثير من الكبائر القلبية من الرياء والكفر والحسد وترك التوكل قد يقع فيها المرء وهو لا يشعر بها، وقد يتورع عن بعض الصغائر الظاهرة وهو في غفلة عن هذه العظائم.
والأسباب المجردة تخذل المرء عن تحقيق مناه، وقد يطرق باباً يظن أن فيه نفعه فإذا هو ضرر محض، ولا ينجي من ذلك إلا التوكل على العزيز الرحيم؛ لذا عظم الله من شأن التوكل وجعله منزلة من منازل الدين, وقرنه بالعبادة في قوله: فَ?عْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123]، وجعله سبباً لنيل محبته إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُتَوَكّلِينَ [آل عمران:159]، وجعله شرطاً لحصول الإيمان به وَعَلَى ?للَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة:29].
مقام جليل القدر عظيم الأثر، فريضة من رب العالمين، به رضا الرحمن, وفيه منعة من الشيطان، منزلته أوسع المنازل وأجمعها، أقوى السبل عند الله وأحبها، أمر الله به رسوله عليه الصلاة والسلام في قوله: وَتَوَكَّلْ عَلَى? ?للَّهِ وَكَفَى? بِ?للَّهِ وَكِيلاً [الأحزاب:3].
والرسل أئمة المتوكلين وقدوتهم، قال تعالى عن نوحٍ عليه السلام أنه قال لقومه: إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ ?للَّهِ فَعَلَى ?للَّهِ تَوَكَّلْتُ [يونس:71]، وقال الخليل عليه السلام: رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ ?لْمَصِيرُ [الممتحنة:4]، وقال هودٌ عليه السلام: إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى ?للَّهِ رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [هود:56]، وقال يعقوب عليه السلام: إِنِ ?لْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُتَوَكّلُونَ [يوسف:67]، وقال شعيبٌ عليه السلام: وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِ?للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88]، وقال رسل الله لأقوامهم: وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ?للَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا [إبراهيم:12]، وقال مؤمن آل فرعون: وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ بَصِيرٌ بِ?لْعِبَادِ [غافر:44].
وفي مطلع النبوة والتنزيل أمرٌ بالتوكل وأنه يفتح المغلق ?قْرَأْ وَرَبُّكَ ?لأَكْرَمُ [العلق:3]، وجعله الله صفة لأهل الإيمان يتميزون به عمن سواهم إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـ?ناً وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
والشيطان لا سلطان له على عباد الله المتوكلين, قال عز وجل: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى? ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:99].
والتوكل مانعٌ من عذاب الله كما قال سبحانه: قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ ?للَّهُ وَمَن مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ ?لْكَـ?فِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ قُلْ هُوَ ?لرَّحْمَـ?نُ ءامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [الملك:28، 29].
وموجب لدخول الجنات كما قال سبحانه: وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ ?لْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ ?لْعَـ?مِلِينَ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [العنكبوت:58، 59].
بل المتوكلون حقاً يدخلون جنة ربهم بغير حساب, كما وصفهم نبيهم بذلك في قوله: ((هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)) متفق عليه [1].
وأوصى النبي ابن عباس بالتوكل وهو غلام صغير لتأصيل العقيدة في نفسه في بكور حياته فقال له: ((يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)) رواه الترمذي [2].
قال ابن القيم: "التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان ولجميع أعمال الإسلام، وإن منزلته منها منزلة الجسد من الرأس".
في التوكل راحة البال, واستقرارٌ في الحال، ودفع كيد الأشرار، ومن أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم, وبه قطع الطمع عما في أيدي الناس.
سئل الإمام أحمد عن التوكل فقال: "هو قطع الاستشراف باليأس من الناس".
والتوكل على غير الله ظلم وامتهانٌ للنفس، وسؤال المخلوق للمخلوق سؤال من الفقير للفقير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)) رواه الترمذي.
ومتى التفت القلب إلى غير الله وكله الله إلى من التفت إليه، وصار ذليلاً مخذولاً، قال : ((من تعلّق شيئاً وكل إليه)) رواه الترمذي [3].
قال شيخ الإسلام: "ما رجى أحداً مخلوقاً أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه" [4] , وكل من أحب شيئاً لغير الله فلا بد أن يضره, وهذا معلوم بالاعتبار والاستقراء، ولا يحملنك عدم رجاء المخلوق على جفوة الناس وترك الإحسان إليهم واحتمال الأذى منهم, بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم, وكما أنك لا تخافهم فلا ترجوهم وارجو الله في الناس, ولا ترجوا الناس في الله.
أيها المسلمون، الأرزاق بيد الخلاّق فما كان لك منها أتاك على ضعفك، وما كان لغيرك لم تنله بقوتك، ورزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص، ولا يرده عنك كراهية كاره، والرزق مقسوم لكل أحد من برٍ وفاجر ومؤمنٍ وكافر، قال عز وجل: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ?لأرْضِ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]. والرزق يساق إلى الدواب مع ضعف كثيرٍ منها وعجزها عن السعي في طلب الرزق، قال جل وعلا: وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ?للَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60]، وقد ييسره الله لك بكسب وبغير كسب.
والناس يؤتون من قلة تحقيق التوكل, ومن وقوفهم مع الأسباب الظاهرة لقلوبهم ومساكنتهم لها، ولو حققوا التوكل على الله بقلوبهم لساق الله إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب, كما يسوق للطير أرزاقها بمجرد الغدو والرواح، وهو نوع من الطلب والسعي لكنه سعي يسير، قال عليه الصلاة والسلام: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً)) رواه أحمد [5].
فلا تضيع زمانك بهمك بما ضُمن لك من الرزق، فما دام الأجل باقياً كان الرزق آتياً، قال حام الأصم: "لما علمت أن رزقي لم يأكله غيري أطمئن قلبي".
أيها المسلمون، وقّت الله للأمور أقدارها وهيئ للغايات أسبابها، والأمور الدنيا وزينتها قد يدرك منها المتواني ما يفوت المسافر، ويصيب منها العاجز ما يخطئ الحازم.
والالتفات للأسباب نقص في التوحيد, ومحو الأسبابِ أن تكون أسباب نقص في العقيدة، والإعراض عن الأسباب التي أمر بها قدح في الشرع، وعلى العبد أن يكون قلبه معتمداً على الله لا على الأسباب.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكمل المتوكلين، ولم يخل بالأسباب فقد ظاهر بين درعين يوم أحد، واستأجر دليلاً يدله على طريق الهجرة، وحفر الخندق غزوة الأحزاب.
وحقيقة التوكل القيام بالأسباب والاعتماد بالقلب على المسبب, واعتقاد أنها بيده، فإن شاء منع اقتضاءها, وإن شاء جعلها مقتضية بضد أحكامها, وإن شاء قام لها موانع وصوارف تعارض اقتضاءها وتدفعه.
والموحد المتوكل لا يطمئن إلى الأسباب ولا يرجوها، كما أنه لا يهملها أو يبطلها بكل يكون قائماً بها ناظراً إلى مسببها سبحانه ومجرِيها، وإذا قوى التوكل وعظم الرجاء أذن الله بالفرج، ترك الخليل زوجته هاجر وابنها إسماعيل صغيراً رضيعاً بوادٍ لا حشيش فيه ولا أنيس ولا زرع حوله ولا ضرع توكلاً على الله وامتثالاً لأمره، فأحاطهما الله بعنايته، فإذا الصغيرُ يكون نبياً وصفه الله بالحلم والصبر وصدق الوعد والمحافظة على الصلاة والأمر بها، والماء المبارك زمزم ثمرة من ثمار توكل الخليل عليه السلام.
ولما عظم البلاء ببني إسرائيل وتبعهم فرعون بجنوده, وأحاطوا بهم, وكان البحر أمامهم قَالَ أَصْحَـ?بُ مُوسَى? إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61], قال نبي الله موسى الواثق بنصر الله: كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:62], فأمره الله بضرب البحر فصار طريقاً يبساً, كُلُّ فِرْقٍ كَ?لطَّوْدِ ?لْعَظِيمِ [ٍالشعراء:63].
ويونس التقمة حوت في لجج البحر وظلمائه فلجأ إلى مولاه وألقى حاجته إليه لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:87]، فنبذ وهو سقيم في العراء، ومضى مجرداً في الخلاء.
وأم موسى ألقت ولدها موسى في اليم ثقة بالله امتثالاً لأمره, فإذا هو رسول من أولي العزم المقربين.
ويعقوب قيل له إن ابنك أكله الذئب ففوض أمره إلى الله وناجاه, فرده عليه مع أخيه بعد طول حزنٍ وفراق.
ولما ضاق الحال وانحصر المجال وامتنع المقال من مريم عليها السلام عظم التوكل على ذي العظمة والجلال, ولم يبق إلا الإخلاص والاتكال, فأشارة إليه فقالوا لها: كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى ?لْمَهْدِ صَبِيّاً [مريم:29]، فعندها أنطقه الله فقال: إِنّى عَبْدُ ?للَّهِ ءاتَانِىَ ?لْكِتَـ?بَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً [مريم:30].
ونبينا محمدٌ يتوارى مع صاحبه عن قومه في جبل أجرد في غارٍ قفرٍ مخوف, فبلغ الروع صاحبه, فقال: يا رسول الله، والله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا، فقال الرسول وهو واثق بربه: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما)) [6] ، فأنزل الله تأييده ونصره وأيده بجنودٍ لا ترى، فسكن الجأش وحصل الأمن وتمت الهجرة وانطلقت الرسالة.
وإذا تكالبت عليك الأيام وأحاطت بك دوائر الابتلاء فلا ترجُ إلا الله، وارفع أكف الضراعة, وألقِ كنفك بين يدي الخلاق, وعلق رجاءك به, وفوض الأمر للرحيم، واقطع العلائق عن الخلائق، ونادِ العظيم, وتحرّ أوقات الإجابة كالسجود وآخر الليل.
وإذا قوي التوكل والرجاء وجُمع القلب في الدعاء لم يرد النداء أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء [النمل:62].
فسلم الأمر لمالكه، والله عزيز لا يضل من استجار به, ولا يضيع من لاذ بجنابه.
وتفريج الكربات عند ثناء الكرب, واليسر مقترن بالعسر، وتعرف على ربك في الرخاء يعرفك في الشدة، وحسبنا الله ونعم الوكيل قالها الخليلان في الشدائد، ومن صدق توكله على الله في أصول شيء ناله ومن فوض أمره إليه كفاه ما أهمه، ومن حقق التوكل لم يكله إلى غيره, بل تولاه بنفسه وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، وعلى قدرك حسن ظنك بربك ورجائك له يكون توكلك عليه, فجالس ربك وحده مرجع شكواك، قال الفضيل رحمه الله: "والله لو يئست من الخلق حتى لا تريد منهم شيئاً لأعطاك مولاك ما تريد".
وهو سبحانه القدير لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا يجري حادث إلا بمشيئته، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، وَتَوكَّلْ عَلَى ?لْعَزِيزِ ?لرَّحِيمِ ?لَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى ?لسَّـ?جِدِينَ [الشعراء:217-219].
قال إبراهيم الخواص: "ما ينبغي للعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحدٍ غير الله".
ومن تعلّق بغير الله أو سكن إلى علمه وعقله ودوائه وكماله, واعتمد على حوله وقوته وكله الله إلى ذلك وخذله، قال في تيسير العزيز الحميد: "وهذا معروف بالنصوص والتجارب".
وأرجح المكاسب الثقة بكفاية الله وحسن الظن به، وليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده، ومن ظن أنه ينال ما عند الله بمعصيته ومخالفته كما ينال بطاعته والتقرب إليه, أو ظن أنه إذا ترك شيئاً من أجله لم يعوضه خيراً منه، أو ظن أن من فعل شيئاً لأجله لم يعطه أفضل منه، أو ظن أنه إذا صدقه في التوكل عليه أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله فقد ظن بالله ظن السوء، ولا يسلم من هذا إلا من عرف الله, وعرف أسماءه وصفاته, وعرف موجب حكمته وحمده.
قال ابن القيم: "أكثر الخلق, بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق وظن السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه يستحق فوق ما شاءه الله له، ومن فتش في نفسه وتغلغل في معرفة طواياها رأى ذلك فيها كامناً فليعتنِ اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله ويستغفره في كل وقت من ظنه بربه ظن السوء, وليظن السوء بنفسه" [7].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَ?ذْكُرِ ?سْمَ رَبّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَّبُّ ?لْمَشْرِقِ وَ?لْمَغْرِبِ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ فَ?تَّخِذْهُ وَكِيلاً [المزمل:8، 9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الطب، باب: من اكتوى أو كوى غيره.. (5705)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. ومسلم في الإيمان (218)، من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
[2] في صفة القيامة والرقائق والورع، باب: منه (2516)، وكذا أحمد (4/409-410) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الترمذي : "حديث حسن صحيح". قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة، وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2043).
[3] في الطب، باب: ما جاء في كراهية التعليق (3072)، وكذا أحمد (4/310)، والبيهقي في الكبرى (9/351)، والطبراني في الكبير (22/385)، من حديث عبد الله بن عكيم رضي الله عنه. قال الترمذي: "وحديث عبد الله بن عكيم إنما نعرفه من حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن عكيم لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم وكان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم".
[4] مجموع الفتاوى (10/257).
[5] في (1/30)، والترمذي في الزهد، باب: في التوكل على الله (2344)، وابن ماجه في الزهد، باب: التوكل واليقين (4164). قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وصححه ابن حبان (730)، والحاكم (4/318)، والضياء في المختارة (227، 228)، والحافظ في الفتح (11/306)، والألباني في الصحيحة (310).
[6] أخرجه البخاري في المناقب، باب: المهاجرين وفضلهم ومنهم أبو بكر (3653)، بنحوه، ومسلم في فضائل الصحابة (2381)، بنحوه من حديث أبي بكر رضي الله عنه.
[7] زاد المعاد (3/235) بتصرف يسير.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: أيها المسلمون، لا يستقيم توكل العبد حتى يصح توحيده، وعلى قدر تجريده التوحيد يكون صحة التوكل، ومتى التفت العبد إلى غير الله أخذ ذلك شعبة من شعب قلبه فنقص من توكله بقدر ذهاب تلك الشعبة، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالخلق لم تسد فاقته، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده.
والرضا والتوكل يكتنقان المقدور، فالتوكل قبل وقوعه والرضا بعد وقوعه، والرضا ثمرة التوكل, وروح التوكل التفويض, وإلقاء أمورك كلها إلى الله، يقول داود بن سليمان رحمه الله: "يستدل على تقوى المؤمن بثلاث: حسن التوكل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر فيما قد فات", وكلما كان العبد لله أعرف كان توكله عليه أقوى، وقوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه.
ومن توكل على الله فلا يعجل بالفرج، فالله ذكر كفايته للمتوكل عليه, وربما أوهم ذلك تعجيل الكفاية وقت التوكل، فالله جعل لكل شيء قدراً ووقتاً، فلا يستعجل المتوكل, فيقول قد توكلت ودعوت فلم أرى شيئاً, إِنَّ ?للَّهَ بَـ?لِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ?للَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً [الطلاق:3]، والله هو المتفرد بالاختيار والتدبير وتدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه, وهو أرحم به منه بنفسه.
(1/2741)
أحكام اليمين في الشريعة الإسلامية
فقه
الأيمان والنذور
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
10/6/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الأيمان في توثيق العقود وخطرها. 2- التحذير من الكذب في اليمين. 3- الترهيب من كثرة الحلف في البيع والشراء وغير ذلك. 4- النهي عن الحلف بغير الله. 5- لا تمنع اليمين صاحبها من فعل الخير إن بدا له ذلك. 6- اللغو في اليمين. 7- كفارة اليمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، اليمين بالله طريق من طرق الإثبات, إذ الدعوى والخصومة تكون بين مدعٍ ومدعاً عليه، ولهذا جاء عنه أنه قال: ((لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم, ولكن البينة على المدعي واليمين على المنكر)) [1].
أيها المسلم، فاليمين على المنكر, وقد تكون أيضاً من المدعي, فقد قضى النبي بالشاهد واليمين [2] , هذه اليمين هي حلف بالله جل وعلا يحلف بها المسلم إما لإثبات حق له أو يحلف بها لنفي ماادّعي عليه من الحقوق.
ولكن المؤمن حقاً الذي يخاف الله ويرجوه وهو على يقين بأن الخصومة ستعاد يوم القيامة, وأن الله جل وعلا يعلم سر العبد ونجواه, يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور: قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ?للَّهُ [آل عمران:29]، وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَ?حْذَرُوهُ [البقرة:235].
أيها المسلم، هذه اليمين هي تعظيم لله وإجلال لله, فلا يليق بك أن تكذب فيها وأن توقعها على غير موقعها, هذه اليمين يخبرها مؤمن يخاف الله ويتقيه, يمين مؤمن لا تخدعه زخارف الدنيا وأطماعها, يمين مؤمن دينه أغلا عنده من الدنيا بأسرها, يمين مؤمن يعلم أن الله سائله يوم القيامة عنها, ومحاسبه عنها.
بينة المدعي قد تقصر وقد لا يحسن, ويمينك قد يصدقك بها صاحبك, ولكن إن تبعت بها دنيا فسوف تنضرّ بها آخرتك إن كنت كاذباً فيها ومجترماً فيها.
فليتق المسلم ربه عندما تطلب منه اليمين, عندما تكثر بينات المدعي, أو لا يجد من يشهد له لأن بينته الإثباتية من شهود أو غيرها مفقودة, فاتق الله في يمينك, ولا تزل في يمينك, واعلم أنك إن كذبت في يمينك للتتغلب بها على خصمك فالله خصمك يوم لقاه, فاتق الله واحذر اليمين الكاذبة فإنها ممحقة للبركة في الدنيا, وقد يعجل لصاحبها العقوبة في الدنيا ويوم القيامة, فالأمر مهول, والأمر عظيم جداً.
يقول الله: إِنَّ ?لَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ?للَّهِ وَأَيْمَـ?نِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَئِكَ لاَ خَلَـ?قَ لَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ?للَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77].
أترضى لنفسك أن تكون في جملة هؤلاء، أترضى لنفسك أن تكون من هؤلاء الذين لا خلاق لهم, لا نصيب لهم في الآخرة, ولا يكلمهم الله, ولا ينظر إليهم, ولا يزكيهم, ولهم عذاب أليم, من يرضى لنفسه بهذا, إلا خاسر الحظ والعياذ بالله، قال أبو ذر من هم يا رسول الله, خابوا وخسروا قال: ((المسبل والمنان والمنفق سلعته باليمين كاذب)) [3].
أيها المسلم، اليمين الكاذبة ذنبها عظيم ووزرها كبير لا تنفع فيها الكفارة, لعظيم شأنها وكبير خطرها, فاتق الله في نفسك, وراقب الله قبل كل شيء.
نبينا يقول: ((من اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه لقي الله وهو عليه غضبان)) قالوا: يا رسول الله، ولو يسيراً، قال: ((ولو قضيباً أراك)) [4].
إذ جاء رجلان إلى النبي في خصومه أحدهما من حضرموت والآخر من كندة تخاصما في أرض, قال الحضرمي: يا رسول الله، هي أرضي اغتصبني هذا، وقال الآخر: هي أرضي أزرعها ورثتها من أبي، فسأل النبي المدعي: ((ألك بينة؟)) قال: لا، قال: ((إذن يحلف صاحبك)) قال: يا رسول الله، إذن يحلف ولا يبالي, هو فاجر لا يتورع عن شيء، فلما أراد أن يحلف قال النبي: ((لأن حلف علي يمين كذب ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان)) ، فعند ذلك اتعظ الرجل, وردّ الأمر إلى أهله [5].
هكذا الإيمان الصادق يحجز المسلم من أن يستمر على طغيانه وظلمه وعدوانه.
النبي عد الكبائر فقال: ((الإشراك بالله, وعقوق الوالدين, واليمين الغموس)) [6].
وأخبر أن من اقتطع بها مال امرئ مسلم أوجب له النار وحرم عليه الجنة, فاحذر أخي من ذلك, احذر من ذلك غاية الحذر, ولا توقع اليمين إلا وأنت على ثقة من صدق نفسك, موقنا بذلك, وإياك أن تخدعك الدنيا أو يستحوذ عليك الشيطان قائلاً: لا تضعف أمام خصمك, احتفظ بقوة شخصيتك, إلى غير ذلك. لا يا أخي، الدنيا منقضية وزائلة, والآثام والأوزار تتحملها يوم قدومك على الله, فتخلّص في حياتك قبل أن يؤخذ من حسناتك وتُحمّل سيئات وخطايا غيرك.
أيها المسلم، البعض من الناس لا يبالي باليمين في مصلحة يريدها, لا يبالي أن يكون في يمينه في موقف ما من المواقف يريد التخلص من هذا الموقف فيكذب في يمينه ولا يبالي.
أخي المسلم، النبي جعل من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله, ولا ينظر إليهم, ولا يزكيهم يوم القيامة, ولهم عذاب أليم، ذكر منهم: ((رجلاً جعل الله بضاعته لا يبيع إلا بيمينه ولا يشتري إلا بيمينه [7] )), بمعنى أن تعظيمه لله أمر هين في نفسه, فهو يحلف على البيع والشراء, إن أراد أن يبيع قال: والله دفع لي في هذا كذا, وهو كاذب, لأن المشتري إذا حلف أمامه ظن صدقه فيما قال فاشترى منه بما قال, والله يعلم أنه كذب وافتراء.
فإياك واليمين في بيعك أو اليمين في شرائك عظم الله, ووقر الله في اليمين, ولا تحلف إلا في الأمر الذي لا بد منه, أما أن تحلف دائماً فيوشك أن تستخف بالأيمان فلا تبالي بها ولا تهتم بها.
أيها المسلم، وأما الحلف على الأمور الماضية فهذا أيضاً على حالين: فقد تحلف على أمر ماض وأنت كاذب فيه فهذه هي اليمين الغموس, وقد تحلف على أمر ماضٍ وأنت صادق فيه فهذا لا شي عليه, لكن على كل اليمين يجب أن تعظم, ويجب أن تحترم, ولا ينبغي التساهل فيها كلها.
أيها المسلم, والحلف بغير الله نهينا عنه لأن من حلفنا به نعظمه, والتعظيم الحقيقي إنما هو لربنا جل وعلا, ولهذا نبينا نهانا عن الحلف بغير الله فقال : ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) [8] , يعني بذلك الشرك الأصغر, اللهم إلا أن يعظم من يحلف به بتعظيم الله فهذا شيء عظيم.
وقال : ((لا تحلفوا بآبائكم, من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليسكت)) [9] , فنهينا عن الحلف بآبائنا أو الحلف بأي شخص حتى بمحمد وهو سيد الخلق وأفضلهم, لا يجوز لنا أن نحلف به, لأن هذا أمر ممنوع إذ التعظيم المطلق إنما هو لربنا جل وعلا.
أيها المسلم، ربك يقول مخاطباً عباده المؤمنين: وَ?حْفَظُواْ أَيْمَـ?نَكُمْ [المائدة:89]، وحفظ اليمين يكون كما سبق بالصدق فيها وعدم الكذب فيها, ويكون حفظها أيضاً أفضل بإعطاء كفارتها إذا كانت هذه اليمين على أمور مستقبلة, حلفت أن لا تفعل أشياء ففعلت, أو حلفت أن لا تفعل الأشياء ففعلت, وهذه هي اليمين التي تجري فيها الكفارة.
هدي نبينا أنه إذا حلف على أمر لا يفعله ثم رأى الخيرة والصلاح فيه كفّر عن يمينه وفعل, وإذا حلف على أمر سيفعله ورأى المصلحة في تركه كفّر عن يمينه ولم يفعل, يقول : ((إني والله لأحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللت منه)) [10] ، أو قال: ((إلا كفرت عن يميني)) [11].
فإذا حلفت أيها المسلم على أمور تريد ألا تفعلها من حماقة حصلت لك فقلت: والله لا أفعل هذا الشيء, لا أدخل هذا المكان, أو لا أشتري هذه السلعة, أو لا أبيعها, ثم تبين لك أن المصلحة في خلاف ذلك, إذن فكفر عن يمينك واحفظ يمينك, لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ?للَّهُ بِ?للَّغْوِ فِى أَيْمَـ?نِكُمْ وَلَـ?كِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ?لأيْمَـ?نَ [المائدة:89].
أما لغو اليمين ما يجري على اللسان من غير إرادة يمين فهذا عفو, لا والله ما فعلت كذا, والله لا فعلت كذا, هذا لفظ يمين لا كفارة فيه, لكن إن حلفت يميناً أنك لا تفعل هذه الأشياء أو يميناً أنك ستفعلها، فالمطلوب منك إما أن تلتزم بيمينك إن كان خيراً, وإن كان عدم الالتزام أولى فكفر عن يمينك وافعل الذي هو الخير.
أيها المسلم، وكل أمر يمكنك أن تبتعد عن اليمين فهو أحسن لك, وخير لك وأفضل لك فكم من متسرع في الأيمان على أولاده, على زوجاته, على أهل بيته فربما خالفوا مراده ولم يوفوا بحقه فيكون خاسراً بذلك, ولهذا جاء في حديث مسلم: ((وأن نبرّ المسلم)) [12] , أن نبر يمين من أقسم علينا إذا أقسم علينا بأمر يمكننا فعله أن نبر قسم أخينا المسلم.
أيها المسلم، فاحفظ يمينك ولا تتساهل بها, الكذب ابتعد عنه بكل صوره, اليمين التي تريد أن تلزم نفسك بفعل شيء ثم تبين لك أن عدم فعله هو الأولى فكفر عن يمينك, الأمر الذي حلفت أن تفعله ثم تبين أن فعله أولى وأردت فعله فكفر عن يمينك. وربنا جل وعلا قال لنبيه : ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ ?للَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْو?جِكَ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ ?للَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَـ?نِكُمْ وَ?للَّهُ مَوْلَـ?كُمْ وَهُوَ ?لْعَلِيمُ ?لْحَكِيمُ [التحريم:1، 2].
حَلِفٌ من النبي إما أنه حلف على أنه لا يشرب ذلك العسل, أو حلف أن لا يطأ سريته فأمره الله أن يتحلل من يمينه بالكفارة؛ لأن ذلك هو الأولى فقال الله: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ ?للَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْو?جِكَ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ ?للَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَـ?نِكُمْ [التحريم:1، 2]. أي أن تحلل الله بالكفارة التي أوجبها الله لتكون سبباً لحل الارتباط بهذا اليمين.
فلنتق الله في أيماننا, ولنحذر من الكذب فيها, ولنحذر من ترك الكفارة فيما نريد أن نمتنع, ولا نجعل اليمين بالله حائلة بيننا وبين فعل الخير, قال الله تعالى في كتابه العزيز: وَلاَ تَجْعَلُواْ ?للَّهَ عُرْضَةً لأيْمَـ?نِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:224].
فلو حلف ألا يبر, أو أن لا يفعل خيراً فالأولى له أن يكفر ويفعل الخير, ولا يجعل اليمين عائقاً له من فعل الخير.
أقسم الصديق رضي الله عنه ليقطعن عن مسطح النفقة التي كان ينفق عليه لما حصل ما حصل منه قال الله له: وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ?لْفَضْلِ مِنكُمْ وَ?لسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ وَ?لْمُهَـ?جِرِينَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ?للَّهُ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور:22]، فلو استفزك الشيطان فقلت لأحد أولادك: ولله لا أكلمه, أو والله لا أنفق عليه, أو نحو ذلك، فكفر عن يمينك وأرغم عدو الله وابذل المعروف, وابذل الخير فذاك خير لك من أن تلج في طغيانك, وتعتمد على اليمين, فاليمين التي حلفتها لتمتنع منها من فعل الخير كفر عنها وافعل الخير, هكذا أمرك الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولعموم المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في تفسير القرآن، باب: إِنَّ ?لَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ?للَّهِ وَأَيْمَـ?نِهِمْ... (4552)، ومسلم في الأقضية، باب: اليمين على المدعى عليه (1711)، من حديث ابن عباس.
[2] أخرجه الإمام أحمد (13866)، والترمذي في الأحكام، باب: ما جاء في اليمين مع الشاهد (1344)، وابن ماجه في الأحكام، باب: القضاء بالشاهد واليمين (2369)، من حديث جابر بن عبد الله، وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس وعلي وسُرّق، ومحمد بن علي بن الحسين.
[3] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: بيان غلظ تحريم إسبال الإزار.. (106).
[4] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار (137)، من حديث أبي أمامة.
[5] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار (139) من حديث وائل بن حجر.
[6] أخرجه البخاري في الأيمان والنذور، باب: اليمين الغموس (6675) من حديث عبد الله بن عمرو.
[7] أخرجه الطبراني في الكبير (6/246)، وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح" (مجمع الزوائد 4/78).
[8] أخرجه أحمد (6037)، وأبو داود في الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بالآباء (3251)، والترمذي في النذور والأيمان، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله (1535)، وقال: حديث حسن من حديث ابن عمر.
[9] أخرجه البخاري في التوحيد، باب: السؤال بأسماء الله تعالى، والاستعاذة بها (7401)، ومسلم في الأيمان، باب: النهي عن الحلف بغير الله (1646) من حديث ابن عمر.
[10] أخرجه البخاري في المغازي، باب: قدوم الأشعريين وأهل اليمن (4385).
[11] أخرجه الإمام أحمد (19064). النسائي في الأيمان والنذور، باب: الكفارة بعد الحنث (3788)، وأبو داود في الأيمان والنذور، باب: في الرجل يكفر قبل أن يحنث (3276).
[12] أخرجه مسلم في اللباس والزينة, باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة (2066), من حديث البراء بن عازب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن ربنا تعالى بين لنا في كتابه كفارة اليمين التي حلفناها على ترك الأشياء أو فعلها, قال تعالى: لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ?للَّهُ بِ?للَّغْوِ فِى أَيْمَـ?نِكُمْ وَلَـ?كِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ?لاْيْمَـ?نَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَـ?كِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَـ?ثَةِ أَيَّامٍ [المائدة:89].
فجعل الله الكفارة على قسمين: أقساماً ثلاثة مخيراً فيها؛ إما أن تطعم عشرة مساكين أو تكسوهم أو تعتق رقبة, أنت في هذه الأشياء مخير، وإن كان ظاهر القرآن تقديم الإطعام, فإذا عدمت هذه الأشياء الثلاثة, لا عتق لا كسوة لاتستطيع الإطعام فانتقل إلى صيم ثلاثة أيام, ويستحب تتابعها لافتاء بعض الصحابة بذلك, هذه كفارة اليمين, والإطعام، قال العلماء: نص الله على عشرة مساكين وإطعام كل مسكين نصف صاع, أي كيلو ونصف من الأرز أو الحب أو التمر ونحو ذلك, تعطى لعشرة مساكين.
هذه هي كفارة اليمين, وإن تعددت الأيمان وتنوعت فلكل يمين كفارتها، فالمهم أن المسلم يحفظ يمينه فلا يكذب, ولا يتهاون بالكفارة, ولا يستخف باليمين, ويجعل الله نصب عينيه في يمينه حتى لا يقع في الهلكة.
أسأل الله أن يحفظنا وإياكم بالإسلام, وأن يجعلنا وإياكم من المستقيمين على طاعته, وأن لا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا, إنه على كل شيء قدير.
(1/2742)
قبل أن يهدم الأقصى
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد أحمد حسين
القدس
10/6/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أرض فلسطين أرض الرباط. 2- مؤامرة يهودية جديدة للسيطرة على الأقصى. 3- فضل المسجد الأقصى. 4- قانون يهودي جديد يحرم أهل فلسطين من أبسط حقوقهم الإنسانية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، حثّنا على الرباط في هذه الديار بقوله عليه الصلاة والسلام: ((أهل الشام وأزواجهم وذرياتهم، وعبيدهم وإماؤهم إلى منتهى الجزيرة، مرابطون في سبيل الله، فمن احتل منهم مدينة من المدائن فهو في رباط، ومن احتل منها ثغراً من الثغور فهو في جهاد)) [1] ، فوطنوا أنفسكم أيها المؤمنون على الرباط في هذه الديار احتساباً لثواب الله وطمعاً في مرضاته، وكونوا أهلاً لشرف حمل الأمانة التي كلفكم الله بها، واستأمنكم عليها، عسى أن يصدق فيكم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)) [2].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكنافها، لقد اختصكم الله بهذا الشرف العظيم، وحباكم الفضل الجزيل، بالرباط في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، لتكونوا طليعة أمتكم الإسلامية في المحافظة عليها أرضاً إسلامية عامرة بالإسلام والمسلمين، تقوم فيها منارات الهدى والهداية التي تشع من رحاب مسجدها الطاهر وأرضها المباركة.
هذا المسجد العظيم وبيت الله الكريم الذي تشد إليه الرحال وتشرئب إلى رؤياه أعناق الرجال، وقفت أمام عظمته وقدسيته مواكب الأبطال من الفاتحين والمحررين من أبناء أمتكم الذين أكرمهم الله بالجهاد والرباط في هذه الديار المباركة على امتداد التاريخ الإسلامي المشرق بالعز والنصر لإعلاء كلمة الله ورفع راية الحق التي بعثكم الله لإعلائها يوم اختار أمتكم خيرَ أمة أخرجت للناس، واصطفى نبيكم عليه الصلاة والسلام خاتماً للرسل والرسالات، فصلاة الله وسلامه على الهادي البشير والرحمة المهداة من الحق للخلق وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107].
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، يوم أمس وأمس الأول، شهدت مدينتكم المقدسة ممارسات غريبة قام بها قطعان المستوطنين وجماعات المتطرفين من اليهود، الذين يحلمون بقدس خالية من الأغيار والأعداء على حد زعمهم، فقد أعلن مؤسس الكيان الصهيوني: "أنه لا معنى لإسرائيل بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون انتزاع موقع الهيكل من العرب".
لقد جرت مسيرات المتطرفين في شوارع هذه المدينة المقدسة وحول بوابات مسجدها الأقصى المبارك، في الوقت الذي ضيقت فيه سلطات الاحتلال الخناق على تحرك المواطنين في المدينة المقدسة من خلال الحواجز العسكرية وإغلاق الشوارع والطرقات أمام أبناء المدينة، تحت حجج منع الاحتكاك والتحسب من وقوع ما يخل بالأمن على حد زعم هذه السلطات وأذرع أمتها المختلفة.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن هذه الممارسات وغيرها ترنو إلى تحقيق أهداف سلطات الاحتلال في إظهار مدينتكم التي يزحف إليها التهويد في حملة مسعورة ومحمومة، كأنها مدينة خالصة لهؤلاء المستوطنين والثعابين، الذين لا يقصرون جهداً في زرع البؤر الاستيطانية في كل مكان من المدينة تصل إليه أيديهم وأيدي المنظمات اليهودية التي ترعى الاستيطان وتمده بكل المقومات المادية، وترعاه الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وصولاً لأهداف الصهيونية الداعية إلى تفريغ مدينتكم وأرضكم تفريغاً كاملاً من كل ما لا يمت للصهيونية بصلة.
ومن ذلك إغلاق المؤسسات الخدماتية الفلسطينية في المدينة المقدسة كبيت الشرق والغرفة التجارية وغيرها من المؤسسات الفلسطينية التي أغلقت لمدد متفاوتة وأعيد تجديد إغلاقها مؤخراً، إن هذا الإجراء يصب في سياق إفراغ المدينة من أهلها ومؤسساتها، هذه المؤسسات التي تعين المواطن المقدسي والفلسطيني على الصمود والثبات في مدينة القدس التي يحاول الاحتلال منذ يومه الأول صبغها بالصبغة الإسرائيلية، والقضاء على ما بقي من مظاهر عروبتها وإسلاميتها لحساب أهدافه ومخططاته التي تهدف إلى عزل المدينة بالكامل عن محيطها الفلسطيني، ليس من خلال أطواق العزل والحواجز فحسب، بل من خلال تفريغها من المؤسسات التي تساهم في إبقاء الوجه العربي والهوية الإسلامية لهذه المدينة وديارنا المباركة.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إنها القدس، القدس رمز عقيدتكم وعنوان عزتكم ومسرى ومعراج نبيكم عليه الصلاة والسلام إلى السماوات العلا، فهي بوابة الأرض إلى السماء ودرة الشام وقلب فلسطين، ومسجدها الأقصى المبارك، مقر الأنبياء واجتماعهم في الصلاة خلف نبيكم عليه وعليهم أفضل الصلاة والتسليم ليلة إسرائه إيذاناً بقيادته للبشرية، وقيامكم على هذا الإرث إلى يوم الدين، فماذا أنتم فاعلون؟
ومسجدكم المبارك ثاني مسجد في الأرض بعد بيت الله الحرام، وهو أولى القبلتين وثالث مسجد تشد إليه الرحال ويضاعف الله فيه ثواب الأعمال، فقد ورد عن ميمونة رضي الله عنها مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت:" يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس، قال: ((أرض المحشر والمنشر، ائتوه، فصلوا فيه، ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة)) ، قلنا: يا رسول الله فمن لم يستطع أن يتحمل إليه قال: ((من لم يستطع أن يأتيه فليهدي إليه زيتاً يسرج فيه، فإن من أهدى إليه زيتاً كان كمن أتاه)) [3] ، والمقصود في هذا إعمار هذا المسجد مادياً ومعنوياً ونصرته من قبل جميع المسلمين في هذا العالم.
إنها القدس الطيبة المباركة، فهنيئاً لأهلها ومن نزل مرابطاً في أكنافها وتمسك بإعمارها وحافظ على عقاراتها وأرضها، ومنع تسريبها إلى السماسرة والمتاجرين بعزة الأمة وكرامة الوطن لقاء عرض زائل ومتاع قليل وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [الحديد:20].
جاء في الحديث الشريف عن سهل بن سعد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والرَوحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها)) [4] أو كما قال.
فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
[1] أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب، والربعي في فضائل الشام، وقد ضعفه الألباني، فضائل الشام (7)،وضعيف الترغيب والترهيب (1809).
[2] رواه أحمد في مسنده من حديث أبي أمامة (21816) قال الهيثمي: رواه عبدالله وجادة عن خط أبيه والطبراني ورجاله ثقات. مجمع الزوائد 7/288.
[3] أخرجه ابن ماجه في سننه (1407)، قال البوصيري في مصباح الزجاجة: إسناد طريق ابن ماجه صحيح، رجاله ثقات. وضعفه الألباني، ضعيف ابن ماجه (298).
[4] أخرجه البخاري (2892) في كتاب الجهاد والسير، باب فضل رباط يوم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد: أيها المسلمون، اعلموا أن الله أمر أمراً، بدأ به بنفسه، وثنى بملائكة قدسه، فقال تعالى، ولم يزل قائلاً عليماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، لبيك اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن القرابة الصحابة التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، في جعجعة الحديث عن السلام وأوهامه أقر البرلمان الإسرائيلي ما يعرف بقانون الدخول إلى إسرائيل أو قانون الجنسية، كما اتخذت الحكومة الإسرائيلية قراراً بإطلاق سراح بعض الأسرى من السجون الإسرائيلية ولبيان هذين الحدثين أقول: إن هذا القانون الذي يستهدف أول ما يستهدف أبناء غزة والضفة الغربية، الذين يتزوجون من أبناء شعبنا في القدس أو الداخل الفلسطيني، وذلك في تدخل مباشر وإجراء تعسفي سافر في حق من أبسط الحقوق الإنسانية الاجتماعية في اختيار شريك الحياة، وكأن جداراً من الفصل يشبه جدار الفصل العنصري الذي تقيمه سلطات الاحتلال لفصل أجزاء كبيرة من الأرض الفلسطينية عن بعضها البعض، تحاول في هذا السياق سلطات الاحتلال إقامة جدار بين أبناء الشعب الواحد والأسرة الواحدة في خطوة إضافية تضاف إلى الممارسات الهادفة إلى تشتيت أبناء الشعب الفلسطيني وزيادة معاناتهم، فأين حقوق الإنسان من هذا الإجراء؟ وأين مدنية الألفية الثالثة وحضارة القرن الحادي والعشرين التي يتغنى بها عالم المدنية الديمقراطية اليوم؟ أم أن إنساننا غير هذا الإنسان؟
أما إطلاق سراح بعض الأسرى ممن أنهوا أو شارفوا على إنهاء محكوميتهم من السجون الإسرائيلية فما هو إلا ذر للرماد في العيون، وإيهام العالم بأن الحكومة الإسرائيلية جادة بالسير في طريق السلام وإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين الذين تحتل قضيتهم أولويات اهتمام شعبنا، هذا الشعب الذي لم تعد تخفى عليه هذه الخدع والممارسات.
إن حق الأسرى في الحرية وإطلاق سراحهم حق شرعي وإنساني، ضمنته كل الشرائع السماوية والمواثيق والأعراف الدولية، فعلى سلطات الاحتلال أن تطلق سراح جميع الأسرى وفق هذه المعايير، التي تضمن كرامة الإنسان وحقه في العيش حراً بين أهله وفوق تراب وطنه، إننا ونحن نرحب بالأخوة الذين تم إطلاق سراحهم وعادوا للعيش بين أهلهم وذويهم وشعبهم، نسأل الله تعالى أن يمن على كافة الأسرى والمعتقلين بالخلاص من قيد السجن والسجان، إنه نعم المولى ونعم المصير.
وأنتم يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، يا من اختصكم الله أن تكونوا حلقة في سلسلة الرباط الممتدة في هذه الديار، كونوا على مستوى المسؤولية لتحمل الأمانة في المحافظة على القدس وأكنافها، وتخلقوا بأخلاق سلفكم الصالح من الفاتحين والمحررين الذين سكنوا في هذه الديار وجاوروا مسجدها الأقصى، وضم رفاتهم ترابها الطهور على أن يقضى الله أمراً كان مفعولاً، وكما قال القائل:
كونوا بني قومي جميعاً إذا اعترى خطب ولا تتفرقوا آحادا
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت آحادا
واعلموا أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً، ولن يغلب عسر يسرين.
(1/2743)
معالم في عظمة الإسلام
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال البشرية قبل الإسلام. 2- أجل نعمة على البشرية هي الإسلام. 3- فضل الصحابة وعلماء الأمة في نشر الدعوة والمعرفة. 4- فشل محاولات الأعداء في طمس معالم الإسلام. 5- شروط النصر والتمكين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]، اتقوا الله وتمسكوا بما شرع لكم من الدين القويم، واشكروه على ما منّ به عليكم من ملة أبيكم إبراهيم حين ضل عن الحق من الأمة سواد عظيم، وتمسكوا بطاعة الله على منهاج رسوله ، فإن في ذلك السلامة والنجاة والعز والرفعة والجاه، وإياكم ومعاصيه فإنها توجب أليم العقاب, ووبيل العذاب.
فاتقوا الله, وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
وبعد أيها المسلمون، إن أجل نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض عامة وعلى المسلمين خاصة نعمة الإسلام، وبعثة نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام، لقد كان أهل الأرض قبل مجيء الإسلام في ظلام دامس، وضلال طامس، عدا غُبّر من أهل الكتاب وبقايا ممن على الحنيفية ملة إبراهيم. أما من سواهم من ورثة الأديان السماوية، وصانع المعتقدات الوثنية الأرضية، فقد اغتالوا زكى النفوس وسليم الفطر فذبحوها على عتبات الوثنية, وغمسوها في لجج الجاهلية، فاستزرعوا الأصنام في جنبات الحرم, وغيبوا العقول في متاهات الظلم.
وهكذا انطمست أنوار الرسالة السماوية، وتلاعب الشيطان ببني آدم، فاشتدت حاجة أهل الأرض إلى بعثة نبي رسول من عند الله، يخرجهم من الظلمات إلى النور، وأدركتهم رحمة أرحم الراحمين، فكانت بعثة محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين، فأشرقت به الأرض بعد ظلماتها، واجتمعت عليه الأمة بعد شتاتها، وجاء الإسلام العظيم يحمل للبشرية كل خير، ويزيح عنها كل شر.
إنه الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل, يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر, ويحل لهم الطيبات, ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
واختار الله له أنصاراً وأعواناً، هم صحابة رسول الله , أبر الناس قلوباً، وأغزرهم علماً، وأقلهم تكلفاً، فجاهدوا في الله حق جهاده، وحفظوا لنا الدين، ونقلوا إلينا الشريعة، ونشروا الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، بالعدل والرحمة حتى أظهره الله على الدين كله، وأخمد به نار المجوس، ودمّر كبرياء اليهود، وكشف ضلال النصارى، وحطّم أصنام الوثنية، وملأ الأرض عدلاً, والقلوب فقهاً وخشية وإيماناً، وصنع قادة وسادة وأحباراً، فتحوا البلاد بالجهاد، والقلوب بالعلم والحكمة والقدوة والرحمة، وأخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وفجروا ينابيع العلم حتى ملؤوا مدارس العالم ومكاتب الدنيا بعلومهم ومؤلفاتهم, مما لم يعرف العالم له نظيراً من سائر الملل.
هذا هو دين الإسلام الذي شهد الله تعالى به بالكمال فقال سبحانه: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].
أيها المسلمون، ولقد وقف الشيطان وحزبه من هذا الدين ولا زالوا يقفون موقف العدو اللدود، واستخدموا كل ما يملكون من الوسائل للقضاء عليه, أو للصد عنه، أو تشويهه, حاربوه فانتصر عليهم، حاولوا محاصرته في بلده ومنع انتشاره فاكتسح كل الحواجز والحدود، وامتد نوره ساطعاً في أرجاء المعمورة فاعتنقته القلوب السليمة والفطر المستقيمة؛ لأنه دين الله، دين الفطرة، الذي يلائم كل زمان ومكان, حاولوا الدس فيه وإلقاء الشبه على تشريعاته وأحكامه، فارتدت سهامهم في نحورهم, وبقي هذا الدين غضاً طرياً كما أنزل.
كما دخل على المسلمين منافقون خادعون فكشف الله سريرتهم, وأظهر للمسلمين علاماتهم، ليحذروهم إلى يوم الدين, ولتعرفنهم في لحن القول.
كما دخل أعداء الدين للفرقة بين المسلمين، لإلقاء العداوة بينهم وتمزيقهم, فخرجت فرق شتى فكان ذلك مصداق ما أخبر به النبي من افتراق أمته على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهذه الفرقة الواحدة هي الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، من كان على مثل ما كان عليه النبي وأصحابه [1].
ولا تزال بإذن الله موجودة إلى قيام الساعة، يقول النبي : ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)) رواه مسلم [2].
وبهذا يبقى دين الإسلام منتصراً، ويبقى من تمسك به منصوراً، ومن خالف ذلك فلا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئاً.
أمة الإسلام، ومع اختلاف الناس وتشعبهم في دينهم وانتشار الجهل والهوى في بعض الأعصار أو الأمصار إلا أن الله تعالى رحيم بأمته، قد جعل في هذه الأمة الخير إلى قيام الساعة، فلم ينقطع من العلماء الربانيين من يدعو الأمة ويرشدها إلى العودة إلى دينها الصحيح الصافي من الشوائب والعوائق، ويردها إلى المورد العذب الأصيل، الكتاب والسنة، ليكون المجتمع على مثل ما كان عليه النبي وأصحابه، وهذه سنة الله الماضية.
ومع هذا فلا يزال أيضاً أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين والعملاء والمدسوسين يواصلون حربهم ضد الإسلام الصحيح بكل ما يستطيعون من مكائد ودسائس وافتعال مواقف وتذليق منافقين إلا أن دين الله واضح وسنة المصطفى بينة, والمحجة بيضاء ناصعة, ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وتعود السهام إلى صدور أصحابها خاسئة ذليلة, ويبقى الإسلام طوداً شامخاً, وحصناً منيعاً محفوظاً بحفظ الله، يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ f هُوَ ?لَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [التوبة:32,31].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الإمام أحمد (27510)، والترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة (2640) وقال: حسن صحيح، وأبو داود في السنة، باب: شرح السنة (4596)، وابن ماجه في الفتن، باب: افتراق الأمم (3991)، وأخرجه بزيادة ((من كان على مثل...)) الترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة (2641) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: هذا حديث حسن غريب مُفسَّر لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه.
[2] في الإمارة، باب: قوله : ((لا تزال طائفة...)) (1920) من حديث ثوبان، وأخرجه أيضاً من حديث جابر بن عبد الله ومعاوية. وأخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: قول النبي : ((لا تزال طائفة..)) (7311) من حديث المغيرة بن شعبة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله كثيراً كما ينعم كثيراً، خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله شهادة تامة نرجو بها النجاة يوم لقاه.
وبعد: أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
أمة القرآن، أمة التوحيد والإيمان، إنه لا يشك مسلم في نصر الله لأوليائه، ودفاعه عنهم إِنَّ ?للَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ [الحج:38]، كَتَبَ ?للَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ ?للَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21].
وَلَن يَجْعَلَ ?للَّهُ لِلْكَـ?فِرِينَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141].
ولكن هذا لا يكون لمن تخاذل وبدل دينه الصحيح, وحارب التوحيد والسنة، وحكم غير شرع الله، وولغ في المعاصي وعادى أولياء الله، إنما الدفاع والنصر والتمكين لمن قبض على دينه، وعض بالنواجذ على ما جاء في الوحيين, واطرح الهوى, واتبع الهدى, وأخلص قصده وعمله لربه، عند ذلك يتحقق له وعد الكمال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَـ?لَهُمْ [محمد:7، 8]، وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ [الحج:40].
وأما الناعقون والمعتدون فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم، ولا يجوز لمسلم أن يتنازل عن دينه ومعتقده, أو يساوم على مبادئه وثوابته, كما لا يجوز أن تكون أخطاء بعض المسلمين, أو المتحمسين لدينهم, أو المتهورين في تصرفاتهم سبباً في ترك الحق الواجب علينا اتباعه. وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايَـ?تِ ?للَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَ?دْعُ إِلَى? رَبّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ [القصص:87].
اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء، ولا تشمت بنا الحاسدين والأعداء.
(1/2744)
معالم في عظمة الإسلام
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
17/6/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال البشرية قبل الإسلام. 2- أجل نعمة على البشرية هي الإسلام. 3- فضل الصحابة وعلماء الأمة في نشر الدعوة والمعرفة. 4- فشل محاولات الأعداء في طمس معالم الإسلام. 5- شروط النصر والتمكين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]، اتقوا الله وتمسكوا بما شرع لكم من الدين القويم، واشكروه على ما منّ به عليكم من ملة أبيكم إبراهيم حين ضل عن الحق من الأمة سواد عظيم، وتمسكوا بطاعة الله على منهاج رسوله ، فإن في ذلك السلامة والنجاة والعز والرفعة والجاه، وإياكم ومعاصيه فإنها توجب أليم العقاب, ووبيل العذاب.
فاتقوا الله, وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
وبعد أيها المسلمون، إن أجل نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض عامة وعلى المسلمين خاصة نعمة الإسلام، وبعثة نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام، لقد كان أهل الأرض قبل مجيء الإسلام في ظلام دامس، وضلال طامس، عدا غُبّر من أهل الكتاب وبقايا ممن على الحنيفية ملة إبراهيم. أما من سواهم من ورثة الأديان السماوية، وصانع المعتقدات الوثنية الأرضية، فقد اغتالوا زكى النفوس وسليم الفطر فذبحوها على عتبات الوثنية, وغمسوها في لجج الجاهلية، فاستزرعوا الأصنام في جنبات الحرم, وغيبوا العقول في متاهات الظلم.
وهكذا انطمست أنوار الرسالة السماوية، وتلاعب الشيطان ببني آدم، فاشتدت حاجة أهل الأرض إلى بعثة نبي رسول من عند الله، يخرجهم من الظلمات إلى النور، وأدركتهم رحمة أرحم الراحمين، فكانت بعثة محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين، فأشرقت به الأرض بعد ظلماتها، واجتمعت عليه الأمة بعد شتاتها، وجاء الإسلام العظيم يحمل للبشرية كل خير، ويزيح عنها كل شر.
إنه الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل, يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر, ويحل لهم الطيبات, ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
واختار الله له أنصاراً وأعواناً، هم صحابة رسول الله , أبر الناس قلوباً، وأغزرهم علماً، وأقلهم تكلفاً، فجاهدوا في الله حق جهاده، وحفظوا لنا الدين، ونقلوا إلينا الشريعة، ونشروا الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، بالعدل والرحمة حتى أظهره الله على الدين كله، وأخمد به نار المجوس، ودمّر كبرياء اليهود، وكشف ضلال النصارى، وحطّم أصنام الوثنية، وملأ الأرض عدلاً, والقلوب فقهاً وخشية وإيماناً، وصنع قادة وسادة وأحباراً، فتحوا البلاد بالجهاد، والقلوب بالعلم والحكمة والقدوة والرحمة، وأخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وفجروا ينابيع العلم حتى ملؤوا مدارس العالم ومكاتب الدنيا بعلومهم ومؤلفاتهم, مما لم يعرف العالم له نظيراً من سائر الملل.
هذا هو دين الإسلام الذي شهد الله تعالى به بالكمال فقال سبحانه: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].
أيها المسلمون، ولقد وقف الشيطان وحزبه من هذا الدين ولا زالوا يقفون موقف العدو اللدود، واستخدموا كل ما يملكون من الوسائل للقضاء عليه, أو للصد عنه، أو تشويهه, حاربوه فانتصر عليهم، حاولوا محاصرته في بلده ومنع انتشاره فاكتسح كل الحواجز والحدود، وامتد نوره ساطعاً في أرجاء المعمورة فاعتنقته القلوب السليمة والفطر المستقيمة؛ لأنه دين الله، دين الفطرة، الذي يلائم كل زمان ومكان, حاولوا الدس فيه وإلقاء الشبه على تشريعاته وأحكامه، فارتدت سهامهم في نحورهم, وبقي هذا الدين غضاً طرياً كما أنزل.
كما دخل على المسلمين منافقون خادعون فكشف الله سريرتهم, وأظهر للمسلمين علاماتهم، ليحذروهم إلى يوم الدين, ولتعرفنهم في لحن القول.
كما دخل أعداء الدين للفرقة بين المسلمين، لإلقاء العداوة بينهم وتمزيقهم, فخرجت فرق شتى فكان ذلك مصداق ما أخبر به النبي من افتراق أمته على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهذه الفرقة الواحدة هي الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، من كان على مثل ما كان عليه النبي وأصحابه [1].
ولا تزال بإذن الله موجودة إلى قيام الساعة، يقول النبي : ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)) رواه مسلم [2].
وبهذا يبقى دين الإسلام منتصراً، ويبقى من تمسك به منصوراً، ومن خالف ذلك فلا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئاً.
أمة الإسلام، ومع اختلاف الناس وتشعبهم في دينهم وانتشار الجهل والهوى في بعض الأعصار أو الأمصار إلا أن الله تعالى رحيم بأمته، قد جعل في هذه الأمة الخير إلى قيام الساعة، فلم ينقطع من العلماء الربانيين من يدعو الأمة ويرشدها إلى العودة إلى دينها الصحيح الصافي من الشوائب والعوائق، ويردها إلى المورد العذب الأصيل، الكتاب والسنة، ليكون المجتمع على مثل ما كان عليه النبي وأصحابه، وهذه سنة الله الماضية.
ومع هذا فلا يزال أيضاً أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين والعملاء والمدسوسين يواصلون حربهم ضد الإسلام الصحيح بكل ما يستطيعون من مكائد ودسائس وافتعال مواقف وتذليق منافقين إلا أن دين الله واضح وسنة المصطفى بينة, والمحجة بيضاء ناصعة, ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وتعود السهام إلى صدور أصحابها خاسئة ذليلة, ويبقى الإسلام طوداً شامخاً, وحصناً منيعاً محفوظاً بحفظ الله، يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ f هُوَ ?لَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [التوبة:32,31].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الإمام أحمد (27510)، والترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة (2640) وقال: حسن صحيح، وأبو داود في السنة، باب: شرح السنة (4596)، وابن ماجه في الفتن، باب: افتراق الأمم (3991)، وأخرجه بزيادة ((من كان على مثل...)) الترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة (2641) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: هذا حديث حسن غريب مُفسَّر لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه.
[2] في الإمارة، باب: قوله : ((لا تزال طائفة...)) (1920) من حديث ثوبان، وأخرجه أيضاً من حديث جابر بن عبد الله ومعاوية. وأخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: قول النبي : ((لا تزال طائفة..)) (7311) من حديث المغيرة بن شعبة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله كثيراً كما ينعم كثيراً، خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله شهادة تامة نرجو بها النجاة يوم لقاه.
وبعد: أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
أمة القرآن، أمة التوحيد والإيمان، إنه لا يشك مسلم في نصر الله لأوليائه، ودفاعه عنهم إِنَّ ?للَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ [الحج:38]، كَتَبَ ?للَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ ?للَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21].
وَلَن يَجْعَلَ ?للَّهُ لِلْكَـ?فِرِينَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141].
ولكن هذا لا يكون لمن تخاذل وبدل دينه الصحيح, وحارب التوحيد والسنة، وحكم غير شرع الله، وولغ في المعاصي وعادى أولياء الله، إنما الدفاع والنصر والتمكين لمن قبض على دينه، وعض بالنواجذ على ما جاء في الوحيين, واطرح الهوى, واتبع الهدى, وأخلص قصده وعمله لربه، عند ذلك يتحقق له وعد الكمال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَـ?لَهُمْ [محمد:7، 8]، وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ [الحج:40].
وأما الناعقون والمعتدون فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم، ولا يجوز لمسلم أن يتنازل عن دينه ومعتقده, أو يساوم على مبادئه وثوابته, كما لا يجوز أن تكون أخطاء بعض المسلمين, أو المتحمسين لدينهم, أو المتهورين في تصرفاتهم سبباً في ترك الحق الواجب علينا اتباعه. وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايَـ?تِ ?للَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَ?دْعُ إِلَى? رَبّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ [القصص:87].
اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء، ولا تشمت بنا الحاسدين والأعداء.
(1/2745)
قل هو من عند أنفسكم
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آثار الذنوب والمعاصي, المسلمون في العالم
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
17/6/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وعد الله المؤمنين بالنصر والظفر. 2- تحقيق هذا الوعد في تاريخ المسلمين. 3- أسباب هزائم المسلمين في هذا العصر. 4- حول معاناة المسلمين في القدس. 5- المؤامرة على الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة محمد: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَـ?لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَـ?لَهُمْ [محمد:7-9]. ويقول سبحانه وتعالى في سورة الروم: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى? قَوْمِهِمْ فَجَاءوهُم بِ?لْبَيّنَاتِ فَ?نتَقَمْنَا مِنَ ?لَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، هاتان الآيتان الكريمتان توضح صورة لنا، لا لبس فيها ولا غموض، أن الله عز وجل قد ربط الأسباب بالمسببات، فهو سبحانه يعطي وعداً على نفسه بأن ينصر المؤمنين، لأن النصر من عنده وحده، ولن يخلف الله وعده، ولكن يا مسلمون متى يتحقق وعد الله؟ والجواب: إذا نصرنا الله، وكيف يكون نصر المؤمنين لله؟
أيها المسلمون، أقرأ على مسامعكم بعض فقرات من رسالة قيمة وجّهها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الصحابي الجيل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الذي كان قائداً للجيوش الإسلامية في العراق، يقول عمر في هذه الرسالة التي كتبت قبل أربعة عشر قرناً: (فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب).
أيها المسلمون، إن أمير المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يركز في رسالته أول ما يركز على تقوى الله رب العالمين، فإن أول عامل من عوامل نصر المؤمنين لله هو الاتصاف بتقوى الله في جميع الأحوال، وتقوى الله هي أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب.
أيها المسلمون، ويقول عمر في رسالته أيضاً: (وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم)، فمن عوامل النصر ـ يا مسلمون ـ الابتعاد عن المعاصي، لأن المعاصي والآثام إذا اقترفها المسلمون تكون أشد خطراً عليهم من أعدائهم.
والأشد خطراً وإثماً هو المجاهرة بالمعاصي، وهذا ما نشهده في أيامنا هذه، فإن ارتكاب المعاصي والآثام والموبقات والمجاهرة بها من أسباب إلحاق الهزائم المتكررة بالأمة.
أيها المسلمون، ويتابع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسالته القيمة فيقول: (وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة)، أي أن من أسباب نصر الله للمؤمنين معاصي أعدائهم، ولولا ذلك لم تكن للمسلمين غلبة على أعدائهم، لأن عدد المسلمين أقل عدداً من الأعداء، ولأن عدة المسلمين لم تكن كعدتهم، وإن استوى الطرفان، أي المسلمون والأعداء في المعصية، كانت الغلبة للأعداء كما نلحظ في أيامنا هذه.
أيها المسلمون، من المعلوم أن المسلمين عبر التاريخ لم يسبق لهم أن انتصروا على أعدائهم بسبب زيادة في العدد أو العدة، فما من معركة انتصر بها المسلمون إلا وكان الأعداء أكثر منهم عدداً وعدة، إنما انتصر المسلمون على الأعداء بتقوى الله والتزام الشريعة الإسلامية والابتعاد عن المعاصي، والله رب العالمين يقول في معركة بدر: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ?للَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، أي وأنتم ضعاف، وعددكم قليل، وهذا يؤكد بأن نصر المسلمين لم يكن في يوم من الأيام مرتبطاً بالقوة المادية، ولا يعني هذا إهمال القوة المادية، ولكن ليست هي العامل الأساس في النصر، والدليل على ذلك ما حصل قبيل معركة اليرموك، فقد قال أحد الجند من المسلمين: ما أكثر الروم وما أقل العرب! لأن الروم عددهم كثير، فأجابه قائدهم: لا بل قل: ما أكثر العرب وما أقل الروم، فالعبرة يا مسلمون ليست بالعدد، بل بالكيف والنوع، وانتصر المسلمون على الروم رغم التفاوت في العدد.
أيها المسلمون، إن انتشار المعاصي بين المسلمين في هذا الوقت لمؤشر على الهزيمة المستمرة، فلا بد من العودة إلى الله رب العالمين، وبالدعاء والتضرع له مع إعداد العدة، ليحقق الله وعده، وليُجري النصر للمؤمنين، فالنصر من الله رب العالمين لمن يستحق النصر، وأي شك في ذلك هو شك بالإيمان، وهو عين الهزيمة.
أيها المسلمون، والسؤال بالمقابل: كيف يكون نصر الله للمؤمنين؟
إن الله العلي القدير العزيز الجبار لا يعوزه أي أسلوب من الأساليب، ولا أي شكل من أشكال النصر للمؤمنين، فيقول الله عز وجل في سورة المدثر: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى? لِلْبَشَرِ [المدثر:31]، ويتمثل جند الله أحياناً بالملائكة كما حصل في معركة بدر، لقوله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَ?سْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ ?لْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]، ويقول سبحانه وتعالى أيضاً في سورة الأنفال: إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ?لْمَلَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ?لرُّعْبَ فَ?ضْرِبُواْ فَوْقَ ?لاعْنَـ?قِ وَ?ضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12].
أيها المسلمون، قد يقول قائل: نحن الآن في عصر الصواريخ والأقمار الصناعية والبوارج البحرية، وهذه الأساليب الحديثة المتطورة هي التي تقرر النتائج وتحسم الموضوع، فما علاقة نصر الله وقدرته في هذا المجال؟ والجواب على هذا الطرح التشكيكي، أقول: إن قدرة الله رب العالمين أزلية دائمة، وهي قائمة، سواء كان ذلك في عصر الجِمال أم في عصر الصواريخ، وإن حرب تشرين عام ثلاثة وسبعين للميلاد لتؤكد ذلك، حين انطلق الجند المؤمنون بهتاف: الله أكبر، كانوا يشاهدون القتلى من الأعداء قبل أن يصلوا إليهم، وكاد هؤلاء الجند أن يقلبوا الموازين لولا الأوامر بالتوقف.
ثم إن هزيمة العراق مؤخراً جاءت نتيجة للخيانات أولاً، وثانياً لأن المسئولين في العراق وقتئذ لم يطلبوا النصر من الله، ولم يكون متصلين بالله، ولم يتقوا الله أصلاً، فكيف سيأتيهم النصر، والله سبحانه وتعالى يقول: إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، جاء في الحديث الشريف: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم، قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس )) [1]. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[1] رواه أحمد في مسنده من حديث أبي أمامة (21816) قال الهيثمي: رواه عبد الله وجادة عن خط أبيه والطبراني ورجاله ثقات. مجمع الزوائد 7/288.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، له الحمد في الدنيا والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاة وسلام دائمين إلى يوم الدين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء المعراج، هناك ثلاث نقاط تهم المؤمنين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس وهي:
أولاً: الأسرى المعتقلون السياسيون في السجون الإسرائيلية، لقد قام قبل أيام أهالي الأسرى المعتقلين السياسيين بمسيرات عدة يطالبون فيها بالإفراج عن أبنائهم، ويشرحون الأوضاع السيئة التي يعيشها أبناؤهم خلف القضبان، ونحن نضم صوتنا إلى مطالبهم العادلة، فالحرية والكرامة هما حق شرعي لكل إنسان، وما بعد الضيق إلا الفرج إن شاء الله.
ثانياً: مكتب الداخلية في مدينة القدس مرة أخرى، وسبق أن أشرنا إلى الشكاوى من قِبل المواطنين الذين يعانون ما يعانونه أمام مكتب وزارة الداخلية في القدس، واليوم نشرت الصحف المحلية عن اعتقال قائد حرس مكتب الداخلية وعن اعتقال عدد من اللذين يعملون في مكتب الداخلية بتهمة الرشاوى وتهمة التحرش الجنسي، ونحن نقول: ليس هذا الاعتقال هو العلاج الكافي، نحن نقول: لا بد من تسهيل المعاملات لدى المواطنين ورفع المعاناة والتعقيد والابتزاز وحماية الناس من المستغلين، فإن تسهيل المعاملات أصلاً يمنع أي ابتزاز وأي رشاوى.
ونشكر الشباب الذين حاولوا فرض النظام والهدوء ومنع الفوضى والرشاوى من أهل القدس، هذا هو جهدهم، وبارك الله فيهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أيها المسلمون، ثالثاً: المسجد الأقصى المبارك، ويوم الخميس القادم تصادف ذكرى إحراقه، وفي هذه الأجواء وقبل أيام، يصرح ما يسمى بوزير الأمن الداخلي الإسرائيلي أنه سيسمح للزوار من غير المسلمين بزيارة باحات المسجد الأقصى المبارك اعتباراً من الأسبوع القادم، سواء وافقت الأوقاف أم لم توافق، حسب قوله.
وينطبق على هذا الوزير المثل القائل: "سكت دهراًً، ونطق كفراً" فهل من صلاحياته أن يقرر إعادة برامج السياحة للمسجد الأقصى المبارك؟ ونؤكد له ولغيره بأن الأوقاف الإسلامية هي صاحبة الصلاحية والاختصاص في الإشراف على المسجد الأقصى المبارك، وأن استئناف برامج السياحة هو بيد الأوقاف الإسلامية في الوقت الذي تراه مناسباً، وإن الأوقاف الإسلامية ترفض التهديد، كما ترفض التدخل في شؤونها، فلا يجوز شرعاً أن يتدخل غير المسلم في شئون المسلمين عامة، والله سبحانه وتعالى يقول: وَلَن يَجْعَلَ ?للَّهُ لِلْكَـ?فِرِينَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141]، ويقول عز وجل: وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، وسيبقى المسلمون والمرابطون ـ بإذن الله ـ السدنة والحراس الأوفياء لمسجدهم المبارك، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
(1/2746)
فضل المدينة وحرمتها
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
17/6/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مكانة المدينة في الإسلام.2- فضائل المدينة. 3- فضل سكنها. 4- فضل الصلاة في مسجدها. 5- فضل مسجد قباء. 6- فضل الصبر على سُكناها. 7- المدينة وآخر الزمان. 8- ما ينبغي أن يتحلى به ساكن المدينة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله فإن تقواه أفضل مكتسب، وطاعته أعلى نسب يِـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ?للَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الأنفال:29].
أيها المسلمون، تتفاوت البلدان والأوطان شرفاً ومكانة وعلواً وحرمة ومجداً وتأريخاً، وتأتي المدينة النبوية بلد المصطفى أرض الهجرة ودار الإيمان، وموطد السنة في المكان الأعلى والموطن الأسمى، هي بعد مكة سيدة البلدان, وثانيتها في الحرمة والإكرام, والتعظيم والاحترام، فيها قامت الدولة النبوية, والخلافة الإسلامية، وبها ضربتا بعروقهما, وسمقتا بفروعهما، وصدق رسول الله إذ يقول: ((أمرت بقرية تأكل القرى, يقولون يثربُ وهي المدينة)) متفق عليه [1].
دارة المحاسن ودائرة الميامن, طيبة الغراء وطابت الفيحاء، توسع العين قرة والنفس مسرة، الفضائل مجموعة فيها, والإيمان يأرز في نواحيها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها)) متفق عليه [2]. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين, كما تأرز الحية إلى جحرها)) أخرجه مسلم [3] ، وعند الحاكم والبيهقي من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ليعودن كل إيمان إلى المدينة حتى يكون كل إيمان بالمدينة)) [4].
متنفس الخواطر ومرتع النواظر، بلدةٌ معشوقة السكنى طيبة المثوى، سكنها مع الإيمان شرف بالغ، واستيطانها مع التقوى عزٌ شامخ، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ((من استطاع أن يموت في المدينة فليفعل, فإني أشفع لمن مات بها)) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه [5]. وعند النسائي من حديث صميته: ((من مات بالمدينة كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة)) [6]. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (اللهم ارزقني شهادة في سبيلك, واجعل موتي في بلد رسولك محمد ) أخرجه البخاري [7].
فيا هناء ساكنيها ويا سعادة قاطنيها، ويا فوز من لزم الإقامة فيها, حتى جاءته المنية في أراضيها.
في البعد عنها يهيجُ الشوق إليها, ويتضاعف الوجد عليها، وكان رسول الله إذا قدم من سفر ونظر إلى جدراتها ودوحاتها ودرجاتها أوضع راحلته, وحركها واستحثها, وأسرع بها لحبه لها، فهي حبيبة المحبوب , القائل: ((اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد)) متفق عليه [8].
ولا غرو فهي داره ومهاجره فيها نصب محرابه ورفع منبره وفيها مضجعه ومنها مبعثه، وفيها أحد جبلٌ يحبنا ونحبه، بلده البديع ودرعه المنيع وحصنه الرفيع، يقول عليه الصلاة والسلام: ((رأيت أني في درعٍ حصينة فأولتها المدينة)) أخرجه أحمد [9].
بلدةٌ آمنة ومدينة ساكنة لا يهراق فيها دم, ولا يحمل فيها سلاحٌ لقتال. فعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: أهوى رسول الله بيده إلى المدينة فقال: ((إنها حرم آمن)) أخرجه مسلم [10].
لا يكيد أهل المدينة أحد أو يريدهم بسوءٍ أو شر إلا امّاع كما يمّاع الملح في الماء، يقول رسول الهدى : ((من أخاف أهل المدينة ظلماً أخافه الله عز وجل, وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً)) أخرجه أحمد [11] ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((من أخاف أهلها فقد أخاف ما بين هذين)) وأشار إلى ما بين جنبيه ـ بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه ـ. أخرجه ابن أبي شيبة [12].
ومن مناقبها المأثورة وفضائلها المشهورة أنها محفوظة مصونة محروسة محفوفة، لا يدخلها رعب الدجال ولا فزعه ولا يردها ولا تطؤها قدمه، محرم عليه أن يدخل نقابها أو يلج أبوابها، يريدها فلا يستطيعها، الملائكة على أنقابها وأبوابها وطرقها ومحاجها صافون بالسيوف صلتة, يحرسونها ويذبونه عنها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال)) متفق عليه [13] ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((يأتي المسيح من قبل المشرق همته المدينة حتى ينزل دبر أحد, ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام وهناك يهلك)) أخرجه مسلم [14].
يأتي الدجال سبخة الجرف عند مجتمع السيول عند الضريب الأحمر فيضربُ رواقه، وترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل منافق ومنافقه وكل كافر وكافرة وكل مشرك ومشركةٍ، وصدق رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد)) أخرجه مسلم [15].
هي حرام ما بين لابتيها وحرتيها وجبليها ومأزميها، لا ينفّر ولا يصاد صيدها, ولا يؤخذ طيرها, ولا يعضد شوكها, ولا يخبط شجرها,ولا يقطع عضاهها، ولا يختلى خلاها, ولا تؤخذ لطعتها إلا لمن يعرفها، يقول رسول الهدى : ((إن إبراهيم حرم مكة, وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها, لا يقطع عضاهها, ولا يصاد صيدها)) أخرجه مسلم [16].
ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: لو رأيت الظباء في المدينة ما ذعرتها، قال رسول الله : ((ما بين لابتيها حرام)) متفق عليه [17]. ويقول عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (كان أبو سعيدٍ يجد أحدنا في يده الطير قد أخذه فيفكه من يده ثم يرسله) أخرجه مسلم [18].
ومن أظهر فيها بدعةً أو حدثاً أو شركاً أو آوى زانياً أو مبتدعاً فقد عرض نفسه للوعيد الشديد واللعن الأكيد يقول رسول الهدى : ((المدينة حرم ما بين عير إلى ثور, فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً)) متفق عليه من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه [19].
ومن اعتقد جواز الطواف بالقبور أو التبرك بتربتها أو الاستشفاء بها أو التوسل بأصحابها أو ندائها ودعاء أهلها فقد اعتقد باطلاً، وأتى حادثاً منكراً، ومن اعتقد أن البركة إنما تحصل بمسح جدارٍ أو عمودٍ أو باب أو تقبيل منبرٍ ومحراب فقد جانب الصواب, وخالف السنة والكتاب فعليه الكف عن ذلك, والتوبة وعدم العودة.
أيها المسلمون، في سكنى المدينة النبوية من الفوائد الشرعية والعوائد الأخروية والمصالح الدينية والسعادة النفسية ما يستحقر دونها كل عيش واسع ورغدٍ ورفاه في غيرها من البلدان والأوطان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلمّ إلى الرقاءِ هلمّ إلى الرقاء, والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده لا يخرج منهم أحدٌ رغبة عنها إلا أخلفه الله فيها خيراً منه)) أخرجه مسلم [20] ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ليسمعن ناسٍ برخص من أسعار ورزق فيتبعونه, والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون)) أخرجه البزار والحاكم وصححه [21].
الصلاة في مسجدها مضاعفة الجزاء فرضاً ونفلاً في أصح قولي العلماء فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه, إلا المسجد الحرام)) متفق عليه [22] ، ووجه ذلك أن قوله : ((صلاة في مسجدي هذا)) نكرة في سياق الإثبات في معرض الامتنان فتعم الفرض والنافلة.
قال ابن النجار رحمه الله تعالى: "ومن صيغ العموم أيضاً النكرة في صياغ إثبات الامتنان". وقال ابن حجر رحمه الله تعالى: "ويمكن أن يقال: لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه" انتهى كلامه رحمه الله.
إلا أن صلاة النافلة في البيت أفضل من صلاتها في مسجد رسول الله حتى ولو كانت مضاعفة، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة)) أخرجه الشيخان وأبو داود واللفظ له [23] ، وأخرج ابن ماجه بإسناد صحيح عن عبد الله بن سعد قال: سألت رسول الله : أيما أفضل الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ فقال: ((ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد، فلئن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة)) [24].
وفي هذا المسجد المبارك بقعة هي روضة من رياض الجنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي)) متفق عليه [25]. وعند أحمد: ((ومنبري هذا على ترعة من ترع الجنة)) [26] ، وعند النسائي: ((إن قوائم منبري هذا رواسب في الجنة)) [27] ، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة ولو على سواك أخضر إلا تبوأ مقعده من النار أو وجبت له النار)) أخرجه أبو داود وابن ماجه [28].
وثبت الفضل في الصلاة في مسجد قباء عن المبعوث في أم القرى فعن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله : ((من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة)) أخرجه ابن ماجه [29] ، ولا يقصد في أوقات النهي لكونها أوقاتاً ينهى عن التنفل فيها.
ولا يزار في المدينة النبوية من المساجد سوى هذين المسجدين مسجد رسول الله ومسجد قباء.
أيها المسلمون، البركة في المدينة حالة في صاعها ومدها ومكيالها وثمرها وقليلها وكثيرها، دعا لها النبي بالبركة وقال: ((اللهم اجعل في المدينة ضعفي ما بمكة من البركة)) متفق عليه [30] ، ((من تصبح كل يومٍ سبع تمرات عجوةٍ لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر)) [31] ، ((وفي عجوة عالية شفاء أو إنها ترياق أول البكرة)) [32].
قدم رسول الله المدينة وهي أرض وباء ومرض وبلاء متغيرةٌ الماء فاسدة الهواء قد كانت للغرباء كثيرة الأدواء زائرها محموم وقاطنها موعوك موحوم, أخذت الحمى فيها أبي بكر وبلال وعائشة أم الأفضال، فدعا رسول الله ربه أن يصححها وأن ينقل حماها إلى الجحفة, فاستجاب الله منه الدعاء وحقق له النداء، ففي البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ((رأيت كأن امرأة سوداء ثائرة خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة وهي الجحفة, فأولت أن وباء المدينة نُقل إليها)) أخرجه البخاري [33]. قال ابن حجر: "فعادت المدينة أصح البلاد بعد أن كانت بخلاف ذلك".
من صبر على لأوائها وبلوائها وغمار شدتها وغلوائها نال السعود وتحققت له الفضل الموعود ألا وهو شفاعة صاحب المقام المحمود والحوض المورود ، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((من صبر على لأوائها وشدتها كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة)) أخرجه مسلم [34] ، وعن أبي سعيد مولى المهري أنه جاء أبا سعيدٍ الخدري رضي الله عنه ليالي الحرة فاستشاره في الجلاء من المدينة وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله وأخبره أنه لا صبر له على جهد المدينة ولأوائها فقال له أبو سعيد: (ويحك! لا آمرك لا بذلك إني سمعت رسول الله يقول: ((لا يصبر أحد على لأوائها فيموت إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة إذا كان مسلماً)) أخرجه مسلم [35].
هذه هي المدينة فضائلها لا تحصى وبركاتها لا تستقصى, ومع ذلك كله فسيأتي عليها زمان في آخر الأزمان عند قيام الساعة يقول فيه النبي : ((يتركون المدينة على خير ما كانت لا يغشاها إلا العواف يريد عوافي السباع والطير, وآخر من يحشد راعيان من مزينة يريدان المدينة ينعقان بغنمهما فيجدانها وحوشا, حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرا على وجوههما)) متفق عليه [36].
فاغتنموا ـ يا رعاكم الله ـ فيها الأوقات واستكثروا من الصالحات والحسنات.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري كتاب الحج، باب: فضل المدينة وأنها تنفي الناس (1871)، ومسلم في الحج (1382)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري كتاب الحج، باب: الإيمان يأرز إلى المدينة (1876)، ومسلم في الإيمان (147).
[3] صحيح مسلم كتاب الإيمان (146).
[4] مستدرك الحاكم (4/501) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذه السياقة.
[5] مسند أحمد (2/104)، والترمذي في المناقب، باب: ما جاء في فضل المدينة (3917)، وابن ماجه في المناسك، باب: فضل المدينة (3112)، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (3741).
[6] سنن النسائي الكبرى (2/488), وأخرجه الطبراني في الكبير (6/274), وصححه ابن حبان (9/58).
[7] صحيح البخاري كتاب الحج، باب: كراهية النبي أن تعرى المدينة (1890).
[8] صحيح البخاري كتاب المرضى، باب: عيادة النساء الرجال (5654) واللفظ له، ومسلم في الحج (1376)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
[9] مسند أحمد (1/271) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وكذا البيهقي في الكبرى (7/41)، قال الهيثمي في المجمع (7/181): "وفي إسناده عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو ضعيف"، وقال ابن حجر في الفتح (13/341): "وهذا سند حسن"، وله شاهد من حديث جابر رضي الله عنه. أخرجه الدارمي في الرؤيا، باب: في القمص والبئر واللبن والعسل والسمن (2159)، والنسائي في الكبرى (4/389)، وابن أبي شيبة في المصنف (30489). وصححه الحاكم (2/141)، وابن حجر في الفتح (13/341).
[10] صحيح مسلم كتاب الحج (1375).
[11] مسند أحمد (4/55)، والطبراني في الكبير (7/143)، والبيهقي في الكبرى (2/483)، قال الهيثمي في المجمع (3/306): "وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف".
[12] مصنف ابن أبي شيبة (6/406) من حديث جابر رضي الله عنه، وكذا أخرجه أحمد (3/354)، والطبراني في الأوسط (1089)، قال المنذري في الترغيب (2/152): "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح". ومثله قال الهيثمي في المجمع (3/306).
[13] صحيح البخاري كتاب: الحج، باب: لا يدخل الدجال المدينة (1880)، ومسلم كتاب الحج (1379).
[14] صحيح مسلم كتاب الحج (1380) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[15] صحيح مسلم كتاب الحج (1381) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[16] صحيح مسلم كتاب الحج (1362) من حديث جابر رضي الله عنه.
[17] صحيح البخاري كتاب الحج، باب: لابتي المدينة (1873)، ومسلم في الحج (1372).
[18] صحيح مسلم كتاب الحج (1374).
[19] البخاري في الحج، باب: حرم المدينة (1867)، ومسلم في الحج (1370) واللفظ له.
[20] صحيح مسلم الحج (1381).
[21] مستدرك الحاكم (4/501).
[22] البخاري في فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1190)، ومسلم في الحج (1394).
[23] صحيح البخاري كتاب الأذان، باب: صلاة الليل (731)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها (781)، وأبو داود في الصلاة، باب: صلاة الرجل التطوع في بينه (1044) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
[24] سنن ابن ماجه كتاب إقامة الصلاة والسعة فيها، باب: ما جاء في التطوع في البيت (1378)، وأخرجه أحمد (4/342)، والبيهقي في الكبرى (2/411). وصححه ابن خزيمة (1202)، والضياء المقدسي في المختارة (388).
[25] صحيح البخاري كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب: فضل ما بين القبر والمنبر (1196)، ومسلم في الحج (1391).
[26] مسند أحمد (2/360).
[27] سنن النسائي كتاب المساجد، باب: فضل مسجد النبي (696).
[28] سنن أبي داود كتاب الأيمان والنذور، باب: ما جاء في تعظيم اليمين عند منبر النبي (3246)، وابن ماجه في الأحكام، باب: اليمين عند مقاطع الحقوق (2325). وأخرجه أيضاً مالك في الأقضية، باب: ما جاء في الحنث على منبر النبي (1434)، وأحمد (3/375)، وصححه ابن الجارود في المنتقى (1/233)، والحاكم (4/329).
[29] سنن ابن ماجه كتاب إقامة الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة في مسجد قباء (1414)، وأخرجه أيضاً أحمد (3/487)، والنسائي في المساجد، باب: فضل مسجد قباء والصلاة فيه (699)، وصححه ابن حبان (1627)، والحاكم (3/12). قال الهيثمي في المجمع (4/11): "وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف". وصححه الألباني في ص حيح الترغيب (1180، 1181).
[30] صحيح البخاري في الحج، باب: المدينة تنفي الخبث (1885)، ومسلم في الحج (1369) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[31] أخرجه البخاري في الأطعمة، باب: الهجرة (5445)، ومسلم في الأشربة (2047)، من حديث سعد رضي الله عنه.
[32] أخرجه مسلم في الأشربة (2048).
[33] صحيح البخاري كتاب التعبير، باب: إذا رأى أنه أخرج الشيء من كورة... (7038).
[34] صحيح مسلم كتاب الحج (1377).
[35] صحيح مسلم كتاب الحج (1374).
[36] صحيح البخاري كتاب: الحج، باب: من رغب عن المدينة (1874)، ومسلم في الحج (1389)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه وأطيعوه ولا تعصوه, ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها المسلمون، ينبغي لساكن المدينة أن يُعرف بحسن سيرته وصلاح سريرته وصفاء قلبه وطهارته، وأمانته وعفته، وصدق لسانه وحديثه مجافياً مستقبح الفعال مجانباً فاحش الأقوال، وعلى ساكنيها أن يكونوا أوفياء لها أمناء عليها غيارى على حرمتها، فلا يدنسوها بقذر المحرمات ونتن القنوات والفضائيات ودنس المخالفات، وعلى المجترئين على حرمتها وقداستها ممن أتوا من الأخلاق قبائحها وأظهروا من الأفعال فضائحها انتهاكاً لحق الحرم ومكانته, واستخفافاً بعظمته وحرمته واغترارًا بالمسامحة والتجاوز ورجاء العفو والمغفرة عليهم أن يتقوا الله عز وجل وأن يرعووا ويقصروا ويتوبوا ويرجعوا، وأن يستشعروا أنهم في أرض درج عليها رسول الله وصحابته الكرام وعاشوا فيها بالهدى والتقى، فالله, الله في اقتفاء آثارهم وسلوك منهاجهم والسير على طريقتهم.
رزقنا الله جميعاً فيها حسن الأدب، وغفر لنا جميعاً الخطأ والزلل، وتجاوز عنا جميعاً بعفوه ومغفرته.
(1/2747)
أحكام الطلاق في الشريعة الإسلامية ـ الإفساد في الأرض
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الطلاق, الفتن, قضايا الأسرة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
17/6/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بمعرفة كل من الزوجين الحق الواجب عليه تستقيم الحياة الزوجية. 2- مراحل تأديب المرأة. 3- الطلاق أبغض الحلال إلى الله وإنما شرع للحاجة الملحة. 4- ضبط الإسلام الطلاق من حيث زمن التطليق وعدد الطلقات. 5- فرح إبليس بالتفريق بين الزوجين. 6- يحرم على الرجل إخراج الزوجة المطلقة من بيته حتى تنقضي عدتها. 7- حرص الشيطان على إغواء الإنسان بتزيينه للباطل. 8- بعض الناس يتخذون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة للإفساد في الأرض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، يقول الله جل وعلا مبيناً حق كل من الزوجين على صاحبه: وَلَهُنَّ مِثْلُ ?لَّذِى عَلَيْهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، فبين تعالى أن على الزوج واجباً نحو امرأته, وأن على المرأة واجباً نحو زوجها.
عندما يتصور كل من الزوجين هذه الواجبات أو هذا الواجب حق التصور, ويؤدي كل منهما الواجب عليه نحو صاحبه, عند هذا تستقيم الحياة الزوجية, وينتظم البيت, وتعيش الأسرة هناء وطمأنينةً وسكينة, ويتفرغ كل منهما للقيام بالحق الواجب عليه.
فالرجل عندما يتصور حقاً أنه راعٍ على امرأته والله سائله عنها, أنها أمانة عنده والله سائله عن تلكم الأمانة, أن المرأة بمنزلة الأسير عنده, فهو مطالب بواجب النفقة سُكنى وكسوة وسائر النفقات, ومطلوب منه أن يعاشرها ويعاملها بالمعروف, حسن خلق ولين جانب وتعامل حسن.
المرأة أيضاً تتصور هذا الواقع فتعلم أن بعقد النكاح أصبحت تبعاً لزوجها, وأن الواجب عليها القيام بحقه, السمع والطاعة له بالمعروف, عدم المخالفة, القيام بالحياة الزوجية.
فإذا عرف كل واجبه, وأدى كل واجب عليه فإن الحياة الزوجية تكون حياة طيبة مطمئنة, تسودها المحبة والمودة والوئام, وينشأ النشئ في ظل ذلك التعاون المبارك, وإنما تصاب الحياة الزوجية بما تصاب به عندما يضعف أداء كل من الواجب عليه, فيقصر الرجل في حق المرأة, يقصر في كسوتها, في مسكنها, في النفقة عليها, يسيء عشرتها, يخاطبها بأسوأ خطاب, لا يتحمل خطأها, يعاقب عند كل زلة, ويعاقب عند كل هفوة، فهو لا يعرف جميلاً, ولا يحتفظ بأعمال طيبة, وعندما يكون ذلك من المرأة فتسيء الخلق, ولا تسمع, ولا تطيع أو غير ذلك, تدخل الأهلون من قبل الزوج أو قبل الزوجة, فإن تدخلهما وإشعالهما نار الفتنة بين الزوجين مما يقوض سلامة البيت وطمأنينته.
أيها المسلم، إن الإسلام حريص على انتظام الحياة الزوجية واستمراريتها، ولذا أرشد الزوج عندما يشعر من المرأة بتقصير لقوله: وَ?للَّـ?تِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ?هْجُرُوهُنَّ فِى ?لْمَضَاجِعِ وَ?ضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً [النساء:34].
فأمر بالموعظة, والذكرى تنفع المؤمنين, يعظها ويذكرها الله, ويخوفها من عصيان زوجها, فإن يكن فيها خير وإيمان ردعها إيمانها أن تستمر على الخطأ, وهجرها في الكلام, وهجرها في المضجع, فعسى الهجر أن يذكرها ويأدبها, وإما بأدب الضرب بضرب غير بمرح, وإنما أدب يكفي في ذلك. فإن تأزمت الأمور شرع حكمان يأتيان من قبل المرأة والزوج ليقوّما الوضع بين الزوجين وأسباب الخلاف وهل يمكن تلافي ذلك الخلاف أما لا؟ كل هذا حرص على استمرار النكاح وعلى انتظام الحياة الزوجية.
أيها المسلم، إن الطلاق في الإسلام لم يأت الحل الأول, وإنما جاء عندما تتعذر الحلول كلها, وتبذل الأسباب فلا تغني شيئاً, فعند ذلك شرع الله الطلاق، أي: أذن للزوج فيه.
والطلاق يهدم البيت, ويشتت الأسرة ويفرقها, فتبقى المرأة أيماً والأولاد من بنين وبنات ربما ضاعوا بين قسوة أب وعدم قدرة أم, وتلك البلية العظمى.
أيها المسلم, عندما أذن الله في الطلاق إنما أذن وشرع للحاجة الملحة إلى ذلك, لم يشرعه محبة له, ولكن لأن فيه مصلحة فشرع ذلك الطلاق, وهذا الطلاق من أبغض الحلال إلى الله كما قال : ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق)) [1].
وتوعد المرأة المسلمة حينما تطلب الطلاق من زوجها بلا سبب يقتضيه, فيروى أنه قال: ((أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة)) [2].
ثم هذا الطلاق أيها المسلم لم يأت فوضوي, ولم يجعل أمره لشهوة الرجل أو المرأة, بل جاء بنظام دقيق مؤثر نافع, فهو دواء, والدواء إنما يستعمل بقدره فقط، ألا ترى الطبيب لو وصف لك أنواعاً من العلاج مأكولاً أو مشروباً، هل تتناولها جرعة واحدة، وتقول: يكفي؟! لا، لا بد له من أوقات مناسبة، إذن فالطلاق دواء إنما يستعمل في الحاجة إليه.
ولقد كانوا في الجاهلية قبل الإسلام يطلقون طلاقاً فوضوياً، فيطلق الرجل المرأة في أي وقت شاء، فإذا قاربت العدة راجعها، وربما جمع لها مئات من الطلقات، فجاء الإسلام وحد من هذه الجاهلية, جعل للطلاق عدداً، وجعل له زمناً, كل ذلك للتأمل والتفكر والتذكر فعسى الأمر يعود إلى مجاريه.
فأولاً: الشارع جعل للطلاق وقتاً فلم يأذن للمسلم أن يطلق متى شاء، لكي يمنع أهل الحماقة من حماقاتهم والذين لا يتفكرون في الأمور أن يوقفهم عند حدهم.
فالطلاق في الشريعة إنما هو في وقت مخصص، وهو أن يطلقها في طهر عقب الحيض، أي في طهرٍ ما جامعها فيه، فإن طلقها في طهر وطئها فيه صار بذلك عاصياً لله؛ لأنه يحتمل أنها حامل، فتطول المدة عليها، وهو أيضاً قد لا يرغبها، لطول المدة عليها، فيكون في ذلك ضرر عليه وعليها، فحرم عليه أن يطلقها في طهر وطئها فيه.
وحرم عليه أن يطلقها وهي حائض؛ لأن الحيض يمنعه من الاستمتاع، فربما انصرفت نفسه عنها، وفيه أيضاً تطويل المدة عليها.
وحرم عليه أن يجمع ألفاظ الطلاق بلفظ واحد، بأن يقول لها هي طالق بالثلاث, سمع النبي رجلاً يقول لامرأته: أنت طالق بالثلاث, فغضب وقال: ((أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم)) حتى قام رجل فقال: أأقتله يا رسول الله؟ [3] دل على أنه ارتكب إثماً عظيماً.
ثم إن النبي منع المسلم من أن يتساهل ويتلاعب بالطلاق, وجعل الطلاق نافذاً سواء أكان هازلاً في أدائه, أو كان جاداً في أدائه.
فيقول : ((ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة)) [4].
فلا يحل لك أن تطلق من باب المزاح واللعب، فإن هذا حكم شرعي، والله يقول: وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَـ?تِ ?للَّهِ هُزُوًا [البقرة:231].
ثم شرع له إذا طلقها الطلقة الواحدة أن يتركها حتى تنقضي عدتها, ولا يجمع لها في الطهر بين طلقتين، فإنه لا ينفعه ذلك، بل إذا طلقها وليس له فيها رغبة فبانقضاء عدتها تكون أجنبية عنه، لا تعود إليه إلا بعقد جديد برضاها؛ لأنها طلقة واحدة انقضت عدتها, كل هذا حتى لا يستغرق المسلم ألفاظ الطلاق, ولا يقع في المشاكل, فإنه إن طلقها الطلقة الثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره, نكاح رغبة لا نكاح تحليل, كل هذه أمور محافظة على البيت أن ينهدم على أيدي سفيه.
أيها المسلم، إن عدو الله إبليس يفرح بك في حال غضبك وحماقتك فيجعل الطلاق نصب عينيه ويلقيه على مسامعك, فإن اتقيت الله وتبصرت بالأمور لم تطع عدو الله في مراده, جاء في الحديث: ((أن الشيطان ينصب عرشه على الماء, ويبث جنوده فيأتيه الواحد ويقول: ما زلت بفلان حتى فرقت بينه وبين أبيه أو بينه وبين أمه وأخيه, يقول: ما فعلت, يوشك أن يصالحه. ويأتيه آت ويقول: ما زلت بفلان حتى فرقت بينه وبين امرأته, قال: فيدنيه ويضمه إليه ويقول: أنت وأنت وأنت)) [5]. فعدو الله يفرح بالتفريق بين الزوجين يفرح بتشتيت الأسرة وتفرقها.
أيها المسلم، كن حريصاً على استمرار الحياة الزوجية.
أيها الرجل، أنت أقوى وأشد ثباتاًً فإياك وإياك أن تعصف بك الريح فتطلق بلا سبب يقتضيه, إياك والضجر وقلة الصبر ونفاذ الحلم، تأمل في كلامك قبل أن تقوله, وتدبر عواقب الأمور, وإذا غلب الغضب عليك فاقعد من قيام, واضطجع من قعود, وتوضأ وتعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم، واخرج عن المنزل فعسى الغضب أن يزول وتنقشع سحائبه.
أيها الرجل، أيها الرجل العاقل المسلم، أيها الرجل المسلم العاقل، ليس لائقاً بك أن يكون الطلاق دائماً بك على لسانك, لا تجعله حل المشاكل, فالمشاكل يمكن حلها بكل سبب, لا تجعل خصومتك مع الناس وغلطك مع الآخرين أن تكب غضبك على امرأتك, عندما ينجم منها تقصير في واجب أو عدم قيام بواجب فما أمكن أن تتلافاه فتلافاه, وما أمكن أن تتجاوزه فتجاوزه, ما دام الدين سليماً والعرض نزيهاً والشرف محافظ عليه, فبقية الأمور يمكن الصبر عليها, ويمكن تداركها, ويمكن إصلاحها, أما العجلة في أمر الطلاق على أتفه الأسباب وأحقر الأسباب فهذا غير لائق بالرجل العاقل ذي العقل الرزين والرأي السليم.
أيها المسلم، لا بد من صبر ولا بد من تحمل ولا بد من تصور للمعاني بعد الطلاق, أما إذا كان الإنسان لا يبالي, ضعف في الإيمان, قلة في الصبر، نفاذ في الحلم, فإن يهدم بيته في لحظة من اللحظات.
أيها المسلم، إن الطلاق شرع لتخليص الرجل من عدم ملائمة المرأة أو تخليص المرأة من عدم ملائمة الرجل, لكن ما أمكن تداركه والصبر عليه فالمطلوب من الزوجين السعي في لم الشعث وتدارك الأخطاء.
ثم أهل الرجل وأهل المرأة عليهم أيضاً واجب أن يبذلاه حتى لا تقع المشاكل, فينصح أهل المرأة المرأة, ويوصوها بالصبر وعدم الضجر, وينصح أهل الرجل الرجل فيوصونه بالصبر والثبات, فإذا تعاون الجميع على الخير أمكن استمرار الحياة الزوجية على أطيب الأحوال.
أيها المسلم، بعض الرجال يمارس ضغوطاً على المرأة حتى يحصل الطلاق لينتقم منها, فيتخذ من الضغوط, الأولاد أولاً, ربما لا يمكنهم من رؤية أمهم, وربما يتركهم فلا يراعاهم ولا ينفق عليهم فيضيعوا, إما أن يأخذهم عنده فيعاملون غير معاملة الرفق واللين, وإما أن يتركهم عند أمهم فلا يرعاهم ولا ينفق عليهم, وقد تتأثم الأم على زوجها فتنتقم منه فتمنع أولاده من الذهاب إلى أبيهم، كل هذه الأغلاط والأخطاء ينبغي تلافيها وتداركها، وأن لا نتخذ من الطلاق وسيلة انتقام وضغط للآخرين, وإلحاق الضرر بالآخرين.
فلنتفق الله في أنفسنا, ربنا جل وعلا أمر الزوج إذا طلق أن يترك المرأة في المنزل مدة العدة لعل الله أن يحدث بعد ذلك أمراً، لعله أن يندم ولعلها أن تندم، جعل الطلاق مراحل: أولى ثم ثانية ثم ثالثة.
أولى فإن يكن من المرأة الخطأ ندمت أو من الرجل، ثم الثانية, فإذا طلقها الثالثة علم أن الحياة الزوجية لا يمكن استمرارها واستقرارها.
فعلى الجميع لزوم حدود الله، والوقوف عندها؛ لأن الله يقول: وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1].
فلنتق الله في طلاقنا, لا من حيث الزمن, ولا من حيث العدد, ولا من حيث الإقدام عليه إلا بعد تعذر كل وسيلة يمكن أن نستعملها حتى لا نلجأ إلى الطلاق ولانجعله الحل لمشاكلنا.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، والعون على كل خير، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يأيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ?لنّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ ?لْعِدَّةَ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَـ?حِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ?للَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً [الطلاق:1].
[1] أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: في كراهية الطلاق (2178)، وابن ماجه في الطلاق، باب: حدثنا سويد بن سعيد (2018) من حديث ابن عمر، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود (472).
[2] أخرجه الإمام أحمد (21874)، وأبو داود في الطلاق، باب: في الخلع (2226)، والترمذي في الطلاق، باب: ما جاء في المختلعات (1187)، وقال: حديث حسن، وابن ماجه في الطلاق، باب: كراهية الخلع للمرأة (2055)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1672).
[3] أخرجه النسائي في الطلاق، باب: الثلاث المجموعة وما فيه من التغليظ (3401) من حديث محمود بن لبيد. قال ابن حجر: "رجاله ثقات لكن محمود بن لبيد ولد في عهد النبي ولم يثبت له من سماع وإن ذكره بعضهم من الصحابة فلأجل الرؤية، فتح الباري (9/362).
[4] أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: في الطلاق على الهزل (2194)، والترمذي في الطلاق، باب: ما جاء في الجد والهزل في الطلاق (1184)، وقال: حسن غريب والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي وغيرهم، وابن ماجه في الطلاق، باب: من طلق أو نكح... (2039).
[5] أخرجه مسلم في صفة القيامة والجنة والنار، باب: تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس (2813) من حديث جابر.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
وبعد: أيها المسلمون، يقول الله جل وعلا: وَيَئَادَمُ ?سْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ?لْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـ?ذِهِ ?لشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا ?لشَّيْطَـ?نُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَـ?كُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـ?ذِهِ ?لشَّجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ?لْخَـ?لِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ ?لنَّـ?صِحِينَ فَدَلَّـ?هُمَا بِغُرُورٍ [الأعراف:19-22].
أيها المسلم يبين لنا ربنا جل وعلا أنه أسكن أبانا آدم وزوجته الجنة, وأباح لهما كل شيء فيها إلا شجرة واحدة عينها لهما ونهاهما عن قربانها, ولا تأكلا من هذه الشجرة فتكونا من الظالمين، هذه شجرة واحدة منع آدم وزوجته من الأكل منها وسائر ثمار الجنة أبيحت لآدم وزوجته, ماذا عمل عدو الله إبليس؟ وسوس لهما وقال لهما: إن ربكما ما نهاكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، فإذا أكلتما منها كنتما من الخالدين دائماً, وقاسمهما أقسم لهما أنه ناصح فدلاهما بغرور.
أيها الإخوة، هكذا الشيطان يعمل مع بني آدم يظهر لهم الشر والفساد والبلاء في قالب الإصلاح والمصلحة, يزين لهم الباطل حتى يظنوه خيراً, ويقبح لهم الخير حتى يظنوه باطلاً، وهكذا أعوان الشياطين من شياطين الإنس الذين يسعون في الأرض فساداً, يغوون الجهال ويغرونهم ويصدوهم عن طريق الله المستقيم, يرونهم الباطل في قالب الحق, والشر في قالب الخير, ليظن الجاهل أن أولئك محقون, والله يعلم أنهم مفسدون.
أيها المسلم، كم من عدو متربص بالأمة ساعٍ في الأرض فساداً، لكنه يلبس لبوساً لأجل أغراضه ومطامعه, فقد يكون في قلبه مرض ونفاق وحقد على الإسلام وأهله، لا يروي غليله, ولا يطفئ حقده إلا أن يرى بين المسلمين شراً, فهو والعياذ لله داعية ضلال وساعٍ في الأرض فساداً, يأتي لجاهل ولمراهق ولغمر لا يفهم, فيحسن له الباطل, يحسن له قتل الأبرياء وسفك الدماء وإخلال الأمن, يقول هذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, أقتل, ودمر, واختر من تقتله وأنت آمر بمعروف أوناهٍ عن منكر، وقد يأتيه يوم ويقول له: هذا من كراهية أعداء الله وموالاة أولياء الله, وقد يأتيه في صور شتى، لكن يعلم الله منه أن قصده الفساد والإثم، يقول لهم: افعلوا وأقدموا على إجرامكم فإنكم في الجنة؛ لأنكم قتلتم الكفار والمشركين, فأهل الإسلام المصلين الصائمين يراهم هذا الخبيث يراهم مجرمين يجب قتلهم واستئصالهم.
هكذا يحسن أعداء الإسلام لمن لا بصيرة عنده, ولا علم عنده يحسن له الشر كما حسن الشيطان لأبينا آدم الأكل من تلكم الشجرة حتى أهبطه الله إلى الأرض, لكن الله تدارك أبينا آدم فتاب عليه وعفا عنه.
أيها الشاب المسلم، فاحذر دعاة السوء، احذر دعاة السوء ومجالس السوء وأرباب السوء مهما أظهروا لك من الغيرة على الدين, ومهما قالوا لك من الدفاع عن الدين, إذا كانوا يأمرونك بقتل المسلمين وسفك دمائهم وترويعهم والإخلال بأمنهم فاعلم أنهم مجرمون ومفسدون, المصلح لا يدعو إلى فتنة, ولا يؤيد الفتنة, وإنما يدعو إلى الخير بالطرق الشرعية.
أما سفك الدماء وقتل الأبرياء، سفك الدماء تدمير الأمة, ارباكها، فليس هذا من الدين أبداً، هذا كله من تزيين الشيطان, لا تطع أولئك, ولا تنقد لهم, ولا تطعهم فيما يقولون وما يبغضون, إنهم أعداؤك وأعداء دينك وإن تظاهروا بما يتظاهرون به, فلو كان في القلب إيمان وإسلام لاحترموا الدماء والأموال والأعراض، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، وروى في الحديث: ((لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)) [1].
فيا أخي المسلم، كيف يستبيح إنسان قتل رجل أمن مثلاً, هذا رجل يدافع عن دين ثم عن أمته فلماذا تسفك دمه؟ لماذا؟ لأن هذا الذي خطط لهذا يرى أولئك كفاراً دماؤهم حلال, وقتلهم واجب, كل هذه من المغالطات كل هذه من دعاة الفتن, من دعاة الضلال, من أقوام امتلأت قلوبهم مرضاً وحقداً على الإسلام وأهله.
فاتقوا الله يا شباب الإسلام، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله وإلى دينه أمر مطلوب شرعاً, لكن بالطرق الشرعية المأذون بها, بالأمر بالمعروف في حدوده, والدعوة إلى الله بوسائلها, إما أن نتخذ من سفك الدماء وترويع الآمنين أن نتخذها وسيلة وندعي أن هذا دعوة وأن هذا إصلاح هذا ليس بالإصلاح أبداً, وهذا مناف للإصلاح, وبعيد كل البعد عنه.
فلنتق الله في أنفسنا، ولنتق الله في أمننا وأمن مجتمعنا ولنحرص على التناصح والتعاون فيما بيننا في سبيل ما يقلص هذه الجريمة, ويقطع دابرها, فكل منا مسؤول عن واجبه نحو أمته, والنبي يقول لنا: ((لعن الله من آوى محدثاً)) [2]. فالمحدث الفاجر الظالم لا يجوز إيواؤه ولا يجوز التستر عليه؛ لأنه والعياذ بالله إذا ترك واستمر على إجرامه وفساده فضرره ليس على فئة معينة, ضرره عليك وعلى فلان وعلى أهلك وعلى مجتمعك.
فلنتق الله في أنفسنا ولا نطع أعداءنا ولا نطع من في قلبه مرض على الإسلام وأهله فأمننا نحن جميعاً مسؤولون عنه, نرجوا الله أن يحفظنا من كل سوء, وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن ذنوبنا أن لا تكون جنداً علينا, نسأل الله السلامة والثبات, ولا شك أن ما أصاب العباد فبذنوبهم وما ربك بظلام للعبيد.
[1] أخرجه البخاري في الديات، باب: قول الله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً (6862) من حديث ابن عمر.
[2] أخرجه مسلم في الأضاحي، باب: تحريم الذبح لغير الله... (1978) من حديث علي بن أبي طالب.
(1/2748)
حقيقة العطاء من الله تعالى
التوحيد
الربوبية
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
24/6/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثير من الخلق يخطئون في معرفة حقيقة العطاء. 2- العطاء من الله تعالى لخلقه قد يكون عطاء بذل وقد يكون عطاء منع وحجب. 3- لكل عطاء من الله تعالى حكمة قد يعلمها المُعطَى وقد تخفى عليه. 4- بيان المراد بالدنيا التي جاءت النصوص بذمها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه فإنه سبحانه يعلم السرَّ وأخفى، ولا تغرنكم الحياة الدنيا, ولا يغرنكم بالله الغرور.
أيها المسلمون، في غمرة السعي إلى إدراك المنى وبلوغ الآمال والظفر بالرغائب يغفل أو يتغافل فريق من الناس أن عاقبة هذا السعي لن تكون وفق ما يأمُل على الدوام، ولذا فإنه حين يقع له بعض حرمانٍ مما يحب، وحين يُحال بينه وبين ما يشتهي تضيق عليه الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه, ويُزايله رشده فيُفضي به ذلك إلى التردي في وهدة الجحود لنعم الله السابغة ومننه السالفة، فيصبح ويمسي مثقلاً بالهموم, مضطرب النفس, لا يهنأ له عيش ولا تطيب له حال.
وإن الباعث على هذا ـ أيها الإخوة ـ هو الخطأ في معرفة حقيقة العطاء وحقيقة المنع, وتصور أنهما ضدان لا يجتمعان, ونقيضان لا يلتقيان.
من أجل ذلك كان للسلف رضوان الله عليهم في هذا الباب وقفات محكمات لبيان الحق والدلالة على الرشد والهداية إلى الصواب، فقد نقل الإمام سفيان الثوري رحمه الله عن بعض السلف قوله: "إن منع الله عبده من بعض محبوباته هو عطاءُ منه له؛ لأن الله تعالى لم يمنعه منها بخلا، وإنما منعه لطفاً"، يريد بذلك أن ما يمن الله به على عبده من عطاء لا يكون في صورةٍ واحدةٍ دائمةٍ لا تتبدل, وهي صورة الإنعام بألوان النعم التي يُحبها ويدأبُ في طلبها، وإنما يكون عطاؤه سبحانه إلى جانب ذلك أيضاً في صورة المنع والحجب لهذه المحبوبات؛ لأنه وهو الكريم الذي لا غاية لكرمه ولا منتهى لجوده وإحسانه, وهو الذي لا تعدل الدنيا عنده جناح بعوضة كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي في جامعه بإسناد صحيح عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)) [1].
إنه سبحانه لم يكن ليمنع أحداً من خلقه شيئاً من الدنيا إلا لحكمةٍ بالغة وتقديرٍ عليم ومصالح قد تخفى على أكثر الناس، يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الترمذي في جامعه وابن حبان في صحيحه بإسناد صحيح عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله إذا أحبَّ عبداً حماه عن الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء)) [2]. وفي روايةٍ للحاكم في مستدركه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى ليحمي عبده المؤمن وهو يُحبه, كما تَحْمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه)) [3].
ويشهد لهذا أيضاً كما قال العلامة الحافظ ابن رجب رحمه الله: "أن الله عز وجل حرَّم على عباده أشياء من فضول شهوات الدنيا وزينتها وبهجتها حيث لم يكونوا محتاجين إليه, وادَّخره لهم عنده في الآخرة، وقد وقعت الإشارة إلى هذا بقوله عز وجل: وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ?لنَّاسُ أُمَّةً و?حِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِ?لرَّحْمَـ?نِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْو?باً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـ?عُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?لأَخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)) أخرجه الشيخان في صحيحهما [4].
وفي الصحيحين أيضاً من حديث حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تلبسوا الحرير ولا الديباج, ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة, ولا تأكلوا في صحافها, فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)) [5].
وأخرج الشيخان في صحيحهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة)) [6]. هذا مع أنه شتان بين خمرٍ لذةٍ للشاربين, لا يُصدعون عنها ولا يُنزفون, وتلك هي خمر الآخرة، وبين خمرةٍ هي ضغث من عمل الشيطان يريد أن يوقع بها العداوة والبغضاء بين المؤمنين, ويصدهم بها عن ذكر الله وعن الصلاة, وتلك هي خمر الدنيا.
وأخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد بإسناده عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (لو لا أن تنقص حسناتي لخالطتكم في ليِّن عيشكم, لكني سمعت الله عيَّر قوماً فقال: أذهبتم طَيّبَـ?تِكُمْ فِى حَيَـ?تِكُمُ ?لدُّنْيَا وَ?سْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ).
وإن الواقع الذي يعيشه كل امرئٍ في حياته ليقيم الأدلة البينة والبراهين الواضحة على صحة وصدق هذا الذي نقله سفيان رحمه الله، فكم من مأملٍ ما لو بلغ أمله لكانت عاقبة أمره خُسرا, ونهاية سعيه حَسْرةً وندماً، وكم من حريصٍ على ما لو ظفِرَ بما أراد لأعقبه ظَفَرُه هزيمةٍ يجر أذيالها, ويتجرع مرارتها, ولذا وجه سبحانه الأنظار إلى حقيقة أن المرء كثيراً ما يُحب من حضوض الدنيا ما هو شرٌ له ووبال عليه, ويكره منها ما هو خيرٌ له وأجدرُ به فقال عز اسمه: كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
ونهى سبحانه نبيه صلوات الله وسلامه عليه عن النظر إلى ما مُتع به المترفون ونظراؤهم من النعيم مبيناً له أنه زهرة ذابلة, ومتعة ذاوية, امتحنهم بها وقليل منهم الشكور, فقال تبارك وتعالى: وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى? مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْو?جاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [طه:131].
وإذن فليس بدعاً ـ أيها الإخوة ـ أن يكون منعُ الله الإنسان من بعض محبوباته عطاءً منه له؛ لأنه منع حفظٍ وصيانةٍ وحماية, وليس منعَ حجب أو بُخلٍ أو حرمان.
وصدق الله إذ يقول: ?عْلَمُواْ أَنَّمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ?لأَمْو?لِ وَ?لأَوْلْـ?دِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ?لْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ?للَّهِ وَرِضْو?نٌ وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [الحديد:20].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] في الزهد, باب ما جاء في هوان الدنيا على الله (2320).
[2] أخرجه الترمذي في الطب, باب ما جاء في الحمية (2036), وابن حبان في صحيحه (الإحسان:2/443).
[3] المستدرك (4/231) وصحح إسناده.
[4] أخرجه البخاري في للباس, باب لبس الحرير...(5832), ومسلم في اللباس والزينة, باب تحريم استعمال إناء الذهب...(2073) من حديث أنس بن مالك.
[5] أخرجه البخاري في الأطعمة, باب الأكل في إناء مفضض (5426), ومسلم في اللباس والزينة, باب تحريم استعمال إناء الذهب...(2067).
[6] أخرجه البخاري في الأشربة, باب قوله تعالى: إنما الخمر والميسر... (5575), ومسلم في الأشربة, باب عقوبة من شرب الخمر (2003).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا عباد الله، لقد بين أهل العلم أن الذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا ليس راجعاً إلى تمامها الذي هو الليل والنهار المتعاقبان إلى يوم القيامة، فإن الله جعلهما خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
وعن عيسى عليه السلام أنه قال: ((إن هذا الليل والنهار خِزانتان فانظروا ما تضعون فيهما)) [1].
وليس الذم أيضاً راجعاً إلى مكان الدنيا الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم مِهاداً وسكنا, ولا إلى ما أودعه الله فيها من الجبال والبحار والأنهار والمعادن, ولا إلى ما أنبته فيها من الزُّروع والأشجار, ولا إلى ما بث فيها من الحيوان وغير ذلك، فإن ذلك كله من نعمة الله على عباده بما جعل لهم فيه من المنافع وما لهم به من اعتبار واستدلالٍ على وحدانية خالقه وقدرته وعظمته.
وإنما الذم الوارد لها راجع إلى أفعال بني آدم فيها؛ لأن غالب هذه الأفعال واقع على غير الوجه الذي تُحمد عاقبته, وتؤمن مغبته, وترجى منفعته.
فاتقوا الله عباد الله, وابتغوا فيما آتاكم الله الدار الآخرة, ولا تنسوا نصيبكم من الدنيا.
[1] أخرجه البيهقي في الزهد الكبير (2/295).
(1/2749)
عظم الإخلاص وخطر الرياء
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
24/6/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الإخلاص. 2- فوائد الإخلاص ومنافعه. 3- فضل النية الصالحة. 4- خطر الرياء وعاقبته. 5- تصحيح بعض المفاهيم في باب الإخلاص. 6- أسباب حفظ العمل من الرياء والعجب. 7- من علامات الإخلاص وإماراته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، فالعز في طاعة المولى، والذل في اتباع الهوى.
أيها المسلمون، القلوب لا تطمئن إلا بالله، وغنى العبد بطاعة ربه والإقبال عليه، ودين الحق هو تحقيق العبودية لله، وكثيراً ما يخالف النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد تحقيق عبوديتها لله، وإخلاص الأعمال لله أصل الدين، وبذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالإخلاص في قوله: فَ?عْبُدِ ?للَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ?لدّينِ [الزمر: 2].
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين أن عبادته قائمة على الإخلاص فقال له: قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ?للَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ?لدّينَ [الزمر:11].
وبذلك أمرت جميع الأمم قال جل وعلا: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَذَلِكَ دِينُ ?لقَيّمَةِ [البينة:5].
وأحق الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة من كان أخلصهم لله, قال أبو هريرة رضي الله عنه : من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: ((من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)) رواه البخاري [1].
والإخلاص مانع بإذن الله من تسلط الشيطان على العبد, قال سبحانه عن إبليس: فَبِعِزَّتِكَ لأغوينهم أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ?لْمُخْلَصِينَ [ص:82، 83].
والمخلص محفوظ بحفظ الله من العصيان والمكاره، قال سبحانه عن يوسف عليه السلام: كَذ?لِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ?لسُّوء وَ?لْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ?لْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].
به رفعة الدرجات وطرق أبواب الخيرات يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((إنك لن تُخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة)) متفق عليه [2].
وإذا قوي الإخلاص لله علت منزلة العبد عند ربه، يقول بكر المزني: "ما سبقنا أبو بكر الصديق بكثير صلاةٍ ولا صيام, ولكنه الإيمان وقر في قلبه والنصح لخلقه".
وهو سببٌ لتفريج الكروب, ولم ينجّ ذا النون سوى إخلاصه لمعبوده: لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:87].
المخلص لربه مجاب الدعوة, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((انطلق ثلاثة نفر مما كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه, فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال كل واحد منهم متوسلاً إلى الله بصالح عمله وإخلاصه: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت فخرجوا يمشون)) متفق عليه [3].
بتجريد الإخلاص تزول أحقاد القلوب وضغائن الصدور، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين)) رواه أحمد [4].
والإخلاص شرطٌ في قبول توبة المنافق، قال عز وجل: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ فِى ?لدَّرْكِ ?لاْسْفَلِ مِنَ ?لنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إِلاَّ ?لَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَ?عْتَصَمُواْ بِ?للَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لْمُؤْمِنِينَ [النساء:145، 146].
في الإخلاص طمأنينة القلب وشعورٌ بالسعادة وراحة من ذل الخلق، يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: "من عرف الناس استراح" أي: أنهم لا ينفعونه ولا يضرونه.
وكل عمل لم يقصد به وجه الله طاقة مهدرة وسراب يضمحل، وصاحبه لا للدنيا جمع ولا للآخرة ارتفع، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً, وابتغي به وجهه)) رواه النسائي [5].
وإخلاص العمل لله وخلوص النية له وصوابه أصل في قبول الطاعات يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (لا ينفع قول وعمل إلا بنية، ولا ينفع قولٌ وعملٌ ونية إلا بما وافق السنة) [6].
والإخلاص أن تكون نيتك لله لا تريد غير الله، لا سمعة ولا رياء ولا رفعة عند أحد ولا تزلفاً ولا تترقب من الناس مدحًا ولا تخشى منهم قدحا، والله سبحانه غني حميد لا يرضى أن يشرك العبد معه غيره، فإن أبى العبد إلا ذلك رد الله عليه عمله، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي، قال الله عز وجل: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)) رواه مسلم [7].
أيها المسلمون، العمل الصالح وإن كان كثيراً مع فساد النية يورد صاحبه المهالك، فقد أخبر الله عز وجل عن المنافقين أنهم يصلون وينفقون ويقاتلون، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم أنهم يتلون كتاب الله في قوله: ((ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر)) متفق عليه [8].
ولفِقد صدقهم في إخلاصهم قال الله عنهم: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ فِى ?لدَّرْكِ ?لاْسْفَلِ مِنَ ?لنَّارِ [النساء:145]، ((وأول من تسعر بهم النار يوم القيامة قارئ القرآن والمجاهد والمتصدق بماله, الذين لم تكن أعمالهم خالصة لله، وإنما فعلوا ذلك ليقال فلانٌ قارئ، وفلان شجاع، وفلانٌ متصدق)) رواه مسلم [9].
والعمل وإن كان يسيراً يتضاعف بحسن النية والصدق والإخلاص، ويكون سبباً في دخول الجنات, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق، فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين, لا يؤذيهم فأدخل الجنة)) رواه مسلم.
((وامرأة بغي رأت كلباً يطيف ببئر كاد يقتله العطش، فسقته بموقها ماءً فغفر الله لها)) متفق عليه [10].
يقول عبد الله بن المبارك: "رب عملٍ صغيرٍ تعظمه النية، ورب عملٍ كبيرٍ تصغره النية"، قال ابن كثير رحمه الله في قوله: ?للَّهُ يُضَـ?عِفُ لِمَن يَشَاء [البقرة:261] "أي: بحسب إخلاصه في عمله".
والواجب على العبد كثرة الصالحات مع إخلاص النيات، فكن سبّاقاً لكل عمل صالح، ولا تحقرن أي عملٍ تخلص نيتك فيه، فلا تعلم أي عملٍ يكون سبباً لدخولك الجنات، ولا تستخفن بأي معصية فقد تكون سبباً في دخولك النار، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((دخلت امرأة النار في هرةٍ حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)) متفق عليه [11].
والله جل وعلا متصف بالحمد والكرم، وإذا أحسن العبد القصد ولم تتهيأ له أسباب العمل فإنه يؤجر على تلك النية وإن لم يعمل, كرماً من الله وفضلاً، يقول عليه الصلاة والسلام: ((من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء, وإن مات على فراشه)) رواه مسلم [12] ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي لا مال عنده وينوي الصدقة: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، قال: ((فهو بنيته)) رواه الترمذي [13].
بل إن الهمّ بعمل صالح يؤجر عليه العبد وإن تخلف العمل، قال عليه الصلاة والسلام: ((من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة)) متفق عليه [14].
والمسلم يجعل نيته صادقة في كل خير، يقول عمر رضي الله عنه: (أفضل الأعمال صدق النية فيما عند الله, فإن صدق العمل النية فذاك، وإن حيل بين العمل والنية فلك ما نويت، ومن سرّه أن يكمل له عمله فليحسن النية, فإن الله يؤجر العبد إذا حسنت نيته حتى بإطعام زوجته).
أيها المسلمون، إذا قوي الإخلاص وعظمت النية وأخفي العمل الصالح مما يشرع فيه الإخفاء قرب العبد من ربه وأظله تحت ظل عرشه، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ـ وذكر منها ـ: رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) رواه مسلم [15].
وكلما أخفي العمل كان أقرب إلى الإخلاص، قال جل وعلا: إِن تُبْدُواْ ?لصَّدَقَـ?تِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ?لْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [البقرة:271].
يقول بشر بن الحارث: "لا تعمل لتُذكر، أكتم الحسنة كما تكتم السيئة".
وفُضّلت نافلة الليل على نافلة النهار واستغفار السحر على غيره لأن ذلك أبلغ في الإسرار، وأقرب إلى الإخلاص.
وعلى العبد الصبر عن نقل الطاعة من ديوان السر إلى ديوان العلانية, وإذا أخلصت في العمل ثم أثنى عليك الخلق وأنت غير متطلع إلى مدحهم فليس هذا من الرياء، إنما الرياء أن تزين عملك من أجلهم. سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه، فقال: ((تلك عاجل بشرى المؤمن)) رواه مسلم [16].
ومن كان يعمل صالحاً ثم اطلع الخلق على عمله فأحجم عن الاستمرار في تلك الطاعة ظناً منه أن فعله بحضرتهم رياء فذلك من حبائل الشيطان، فامضٍ على فعلك, يقول الفضيل ابن عياض: "ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما".
وبعض الناس يظن أن الإخلاص مقصور على الصلاة والصدقة والحج دون غيرها من الأوامر، ومن رحمة الله ورأفته بعباده أن الإخلاص يستصحب في جميع العبادات والمعاملات، ليُثاب العبد على جميع حركاته وسكناته, فزيارة الجار وصلة الرحم وبر الوالدين هي مع الإخلاص عبادة، وفي جانب المعاملات من الصدق في البيع والشراء وحسن عشرة الزوجة والاحتساب في إحسان تربية الأبناء كل ذلك مع الإخلاص يُجازى عليه بالإحسان، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى اللقمة تضعها في فيّ امرأتك)) متفق عليه [17] ، قال: شيخ الإسلام: "من عبد الله وأحسن إلى الناس فهذا قائم بحقوق الله وحق عباد الله في إخلاص الدين له، ومن طلب من العباد العوض ثناءً أو دعاءً أو غير ذلك لم يكن محسناً إليهم لله".
أيها المسلمون، الإخلاص عزيز والناس يتفاضلون فيه تفاضلاً كبيراً، ولدفع عوارضه من آفة الرياء والعجب بالعمل إلجأ إلى الله دوماً بالدعاء أن تكون من عباده المخلصين، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وكأن أكثر دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا).
وأكثر من مطالعة أخبار أهل الصدق والإخلاص، واقرأ سير الصالحين الأسلاف، واحتقر كل عمل صالحًا تقدمه، وكن خائفًا من عدم قبوله أو حبوطه، فليس الشأن الإتيان بالطاعات فحسب, إنما الشأن في حفظها مما يبطلها.
ومن حفظ العمل عدم العجب وعدم الفخر به, فازهد في المدح والثناء فليس أحد ينفع مدحه وضر ذمه إلا الله, والموفق من لا يتأثر بثناء الناس وإذا سمع ثناءً لم يزده ذلك إلا تواضعًا وخشية من الله، وأيقن أن مدح الناس لك فتنة، فادع ربك أن ينجيك من تلك الفتنة، واستشعر عظمة الله وضعف المخلوقين وعجزهم وفقرهم، واستصحب دومًا أن الناس لا يملكون جنة ولا نارًا، وأنزل الناس منزلة أصحاب القبور في عدم جلب النفع لك ودفع الضر عنك، والنفوس تصلح بتذكر مصيرها، ومن أيقن أنه يوسد في اللحد فريدًا أدرك أنه لن ينفعه سوى إخلاصه مع ربه, وكان من دعاء السلف: "اللهم إنا نسألك العمل الصالح وحفظه".
أيها المسلمون، ثوب الرياء يشف ما تحته, يفسد الطاعة ويحبط الثواب، وهو من أقبح صفات أهل النفاق يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142], وهو من أشد الأبواب خفاءً, وصفه ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: (أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل). قال الطيبي رحمه الله: "وهو من أضر غوائل النفس وبواطن مكائدها, يبتلى به المشمرون عن ساق الجد لسلوك طريق الآخرة".
والنبي خافه على أمته وحذرهم منه قال عليه الصلاة والسلام: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((الشرك الخفي، يقوم الرجل يصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه)) رواه أحمد [18].
قال في تيسير العزيز الحميد: "الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال".
المرائي مضطرب القلب مزعزع الفكر، لا يُخلص في عبوديته ومعاملته, يعمل لحظ نفسه تارة ولطلب الدنيا تارة ولطلب الرفعة والمنزلة عند الخلق تارة، المرائي يفضحه الله ويهتك ستره ويظهر خباياه، ضاعت آماله وخاب سعيه, وعومل بنقيض قصده, يقول النبي : ((من يسمّع يسمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به)) رواه مسلم [19].
وإن أخفى المرائي كوامن نفسه وخفايا صدره أظهرها الله، يقول النبي : ((المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)) متفق عليه [20].
فاخشى على أعمالك من الخسران، فالميزان يوم الحشر بمثاقيل الذر، المن والأذى يبطل البذل، والرياء يحبط العمل، وإرادة الدنيا وثناء الخلق متوعد فاعله بدخول النار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى? إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَـ?هُكُمْ إِلَـ?هٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـ?لِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف:110].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفره إنه هو الغفور الرحيم.
[1] في العلم باب الحرص على الحديث (99).
[2] أخرجه البخاري في الجنائز باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص (1296)، ومسلم في الوصية باب الوصية بالثلث (1628).
[3] أخرجه البخاري في الإجارة باب: من استأجر أجيرًا فترك الأجير أجره... (2272)، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب قصة أصحاب الغار الثلاثة (2743).
[4] أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/ 183)، وصححه ابن حبان (الإحسان 1/ 270) من حديث زيد بن ثابت.
[5] في الجهاد باب من غزا يلتمس الأجر والذكر (3140)، وجود إسناده ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 16).
[6] أخرجه ابن أبي الدنيا بإسناد ضعيف، انظر: جامع العلوم والحكم (1/ 13) لابن رجب.
[7] في الزهد والرقائق باب من أشرك في عمله غير الله (2985) من حديث أبي هريرة.
[8] أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكل به (5059)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها باب فضيلة حفظ القرآن (797) من حديث أبي موسى الأشعري.
[9] في الإمارة باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار (1905) من حديث أبي هريرة.
[10] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب حديث الغار (3467)، ومسلم في السلام باب فضل سقي البهائي (2245) من حديث أبي هريرة.
[11] أخرجه البخاري في بدء الخلق باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (3318)، ومسلم في البر والصلة والآداب باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان (2619)، من حديث أبي هريرة.
[12] في الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى (1909) من حديث سهل بن حنيف.
[13] في الزهد باب: ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر (2325) وقال: حسن صحيح، من حديث أبي كبشة الأنصاري.
[14] أخرجه البخاري في الرقاق باب: من هم بحسنة أو بسيئة (6491)، ومسلم في الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت ، وإذا هم بسيئة (131) من حديث ابن عباس.
[15] أخرجه البخاري في الزكاة، باب الصدقة باليمين (1423)، ومسلم في الزكاة باب فضل إخفاء الصدقة (1031) من حديث أبي هريرة.
[16] في البر والصلة والآداب، باب إذا أثنى على الصالح... (2642) من حديث أبي ذر.
[17] أخرجه البخاري في الوصايا، باب أن يترك ورثته أغنياء.... (2742) ومسلم في الوصية باب الوصية بالثلث (1628) من حديث سعد بن أبي وقاص.
[18] أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/ 30)، وابن ماجه في الزهد باب الرياء والسمعة (4204) واللفظ له، وحسن إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (4/ 237) من حديث أبي سعيد الخدري.
[19] في الزهد والرقائق باب من أشرك في عمله غير الله (2987) من حديث جندب العلقي.
[20] أخرجه البخاري في النكاح، باب المتشبع بما لم ينل وما ينهى من افتخار (5219)، ومسلم في اللباس والزينة باب النهي عن التزوير في اللباس... (2129) من حديث عائشة.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، لا أنفع للقلب من تجريد الإخلاص ولا أضر عليه من عدمه، وكلما قوي إخلاص الدين لله كملت العبودية، ومن عرف الناس أنزلهم منازلهم, ومن عرف الله أخلص له أعماله، وكلما صحت العزيمة وعظمت الهمة طلب الإنسان معالي الأمور, ولم يلتفت إلى غير الله, ولم ينظر إلى ما سواه، وليس من الرشد طلب الآخرة بالرياء, وإياك أن تطلب بعملك محمدة الناس أو الطمع بما في أيديهم.
والإخلاص يحتاج إلى مجاهدة قبل العمل وأثناءه وبعده، وآفة العبد رضاه عن نفسه، ومن نظر إلى نفسه بعين الرضا فقد أهلكها، وأمارة الإخلاص استواء المدح والذم، والله يحب من عبده أن يجعل لسانه ناطقًا بالصدق وقلبه مملوء بالإخلاص وجوارحه مشغولة بالعبادة.
(1/2750)
حقيقة العطاء من الله تعالى
التوحيد
الربوبية
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
24/6/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثير من الخلق يخطئون في معرفة حقيقة العطاء. 2- العطاء من الله تعالى لخلقه قد يكون عطاء بذل وقد يكون عطاء منع وحجب. 3- لكل عطاء من الله تعالى حكمة قد يعلمها المُعطَى وقد تخفى عليه. 4- بيان المراد بالدنيا التي جاءت النصوص بذمها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه فإنه سبحانه يعلم السرَّ وأخفى، ولا تغرنكم الحياة الدنيا, ولا يغرنكم بالله الغرور.
أيها المسلمون، في غمرة السعي إلى إدراك المنى وبلوغ الآمال والظفر بالرغائب يغفل أو يتغافل فريق من الناس أن عاقبة هذا السعي لن تكون وفق ما يأمُل على الدوام، ولذا فإنه حين يقع له بعض حرمانٍ مما يحب، وحين يُحال بينه وبين ما يشتهي تضيق عليه الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه, ويُزايله رشده فيُفضي به ذلك إلى التردي في وهدة الجحود لنعم الله السابغة ومننه السالفة، فيصبح ويمسي مثقلاً بالهموم, مضطرب النفس, لا يهنأ له عيش ولا تطيب له حال.
وإن الباعث على هذا ـ أيها الإخوة ـ هو الخطأ في معرفة حقيقة العطاء وحقيقة المنع, وتصور أنهما ضدان لا يجتمعان, ونقيضان لا يلتقيان.
من أجل ذلك كان للسلف رضوان الله عليهم في هذا الباب وقفات محكمات لبيان الحق والدلالة على الرشد والهداية إلى الصواب، فقد نقل الإمام سفيان الثوري رحمه الله عن بعض السلف قوله: "إن منع الله عبده من بعض محبوباته هو عطاءُ منه له؛ لأن الله تعالى لم يمنعه منها بخلا، وإنما منعه لطفاً"، يريد بذلك أن ما يمن الله به على عبده من عطاء لا يكون في صورةٍ واحدةٍ دائمةٍ لا تتبدل, وهي صورة الإنعام بألوان النعم التي يُحبها ويدأبُ في طلبها، وإنما يكون عطاؤه سبحانه إلى جانب ذلك أيضاً في صورة المنع والحجب لهذه المحبوبات؛ لأنه وهو الكريم الذي لا غاية لكرمه ولا منتهى لجوده وإحسانه, وهو الذي لا تعدل الدنيا عنده جناح بعوضة كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي في جامعه بإسناد صحيح عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)) [1].
إنه سبحانه لم يكن ليمنع أحداً من خلقه شيئاً من الدنيا إلا لحكمةٍ بالغة وتقديرٍ عليم ومصالح قد تخفى على أكثر الناس، يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الترمذي في جامعه وابن حبان في صحيحه بإسناد صحيح عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله إذا أحبَّ عبداً حماه عن الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء)) [2]. وفي روايةٍ للحاكم في مستدركه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى ليحمي عبده المؤمن وهو يُحبه, كما تَحْمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه)) [3].
ويشهد لهذا أيضاً كما قال العلامة الحافظ ابن رجب رحمه الله: "أن الله عز وجل حرَّم على عباده أشياء من فضول شهوات الدنيا وزينتها وبهجتها حيث لم يكونوا محتاجين إليه, وادَّخره لهم عنده في الآخرة، وقد وقعت الإشارة إلى هذا بقوله عز وجل: وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ?لنَّاسُ أُمَّةً و?حِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِ?لرَّحْمَـ?نِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْو?باً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـ?عُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?لأَخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)) أخرجه الشيخان في صحيحهما [4].
وفي الصحيحين أيضاً من حديث حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تلبسوا الحرير ولا الديباج, ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة, ولا تأكلوا في صحافها, فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)) [5].
وأخرج الشيخان في صحيحهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة)) [6]. هذا مع أنه شتان بين خمرٍ لذةٍ للشاربين, لا يُصدعون عنها ولا يُنزفون, وتلك هي خمر الآخرة، وبين خمرةٍ هي ضغث من عمل الشيطان يريد أن يوقع بها العداوة والبغضاء بين المؤمنين, ويصدهم بها عن ذكر الله وعن الصلاة, وتلك هي خمر الدنيا.
وأخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد بإسناده عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (لو لا أن تنقص حسناتي لخالطتكم في ليِّن عيشكم, لكني سمعت الله عيَّر قوماً فقال: أذهبتم طَيّبَـ?تِكُمْ فِى حَيَـ?تِكُمُ ?لدُّنْيَا وَ?سْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ).
وإن الواقع الذي يعيشه كل امرئٍ في حياته ليقيم الأدلة البينة والبراهين الواضحة على صحة وصدق هذا الذي نقله سفيان رحمه الله، فكم من مأملٍ ما لو بلغ أمله لكانت عاقبة أمره خُسرا, ونهاية سعيه حَسْرةً وندماً، وكم من حريصٍ على ما لو ظفِرَ بما أراد لأعقبه ظَفَرُه هزيمةٍ يجر أذيالها, ويتجرع مرارتها, ولذا وجه سبحانه الأنظار إلى حقيقة أن المرء كثيراً ما يُحب من حضوض الدنيا ما هو شرٌ له ووبال عليه, ويكره منها ما هو خيرٌ له وأجدرُ به فقال عز اسمه: كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
ونهى سبحانه نبيه صلوات الله وسلامه عليه عن النظر إلى ما مُتع به المترفون ونظراؤهم من النعيم مبيناً له أنه زهرة ذابلة, ومتعة ذاوية, امتحنهم بها وقليل منهم الشكور, فقال تبارك وتعالى: وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى? مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْو?جاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [طه:131].
وإذن فليس بدعاً ـ أيها الإخوة ـ أن يكون منعُ الله الإنسان من بعض محبوباته عطاءً منه له؛ لأنه منع حفظٍ وصيانةٍ وحماية, وليس منعَ حجب أو بُخلٍ أو حرمان.
وصدق الله إذ يقول: ?عْلَمُواْ أَنَّمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ?لأَمْو?لِ وَ?لأَوْلْـ?دِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ?لْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ?للَّهِ وَرِضْو?نٌ وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [الحديد:20].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] في الزهد, باب ما جاء في هوان الدنيا على الله (2320).
[2] أخرجه الترمذي في الطب, باب ما جاء في الحمية (2036), وابن حبان في صحيحه (الإحسان:2/443).
[3] المستدرك (4/231) وصحح إسناده.
[4] أخرجه البخاري في اللباس, باب لبس الحرير... (5832), ومسلم في اللباس والزينة, باب تحريم استعمال إناء الذهب...(2073) من حديث أنس بن مالك.
[5] أخرجه البخاري في الأطعمة, باب الأكل في إناء مفضض (5426), ومسلم في اللباس والزينة, باب تحريم استعمال إناء الذهب...(2067).
[6] أخرجه البخاري في الأشربة, باب قوله تعالى: إنما الخمر والميسر... (5575), ومسلم في الأشربة, باب عقوبة من شرب الخمر (2003).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا عباد الله، لقد بين أهل العلم أن الذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا ليس راجعاً إلى تمامها الذي هو الليل والنهار المتعاقبان إلى يوم القيامة، فإن الله جعلهما خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
وعن عيسى عليه السلام أنه قال: ((إن هذا الليل والنهار خِزانتان فانظروا ما تضعون فيهما)) [1].
وليس الذم أيضاً راجعاً إلى مكان الدنيا الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم مِهاداً وسكنا, ولا إلى ما أودعه الله فيها من الجبال والبحار والأنهار والمعادن, ولا إلى ما أنبته فيها من الزُّروع والأشجار, ولا إلى ما بث فيها من الحيوان وغير ذلك، فإن ذلك كله من نعمة الله على عباده بما جعل لهم فيه من المنافع وما لهم به من اعتبار واستدلالٍ على وحدانية خالقه وقدرته وعظمته.
وإنما الذم الوارد لها راجع إلى أفعال بني آدم فيها؛ لأن غالب هذه الأفعال واقع على غير الوجه الذي تُحمد عاقبته, وتؤمن مغبته, وترجى منفعته.
فاتقوا الله عباد الله, وابتغوا فيما آتاكم الله الدار الآخرة, ولا تنسوا نصيبكم من الدنيا.
[1] أخرجه البيهقي في الزهد الكبير (2/295).
(1/2751)
عظم الإخلاص وخطر الرياء
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
24/6/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الإخلاص. 2- فوائد الإخلاص ومنافعه. 3- فضل النية الصالحة. 4- خطر الرياء وعاقبته. 5- تصحيح بعض المفاهيم في باب الإخلاص. 6- أسباب حفظ العمل من الرياء والعجب. 7- من علامات الإخلاص وإماراته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، فالعز في طاعة المولى، والذل في اتباع الهوى.
أيها المسلمون، القلوب لا تطمئن إلا بالله، وغنى العبد بطاعة ربه والإقبال عليه، ودين الحق هو تحقيق العبودية لله، وكثيراً ما يخالف النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد تحقيق عبوديتها لله، وإخلاص الأعمال لله أصل الدين، وبذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالإخلاص في قوله: فَ?عْبُدِ ?للَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ?لدّينِ [الزمر: 2].
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين أن عبادته قائمة على الإخلاص فقال له: قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ?للَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ?لدّينَ [الزمر:11].
وبذلك أمرت جميع الأمم قال جل وعلا: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَذَلِكَ دِينُ ?لقَيّمَةِ [البينة:5].
وأحق الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة من كان أخلصهم لله, قال أبو هريرة رضي الله عنه : من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: ((من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)) رواه البخاري [1].
والإخلاص مانع بإذن الله من تسلط الشيطان على العبد, قال سبحانه عن إبليس: فَبِعِزَّتِكَ لأغوينهم أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ?لْمُخْلَصِينَ [ص:82، 83].
والمخلص محفوظ بحفظ الله من العصيان والمكاره، قال سبحانه عن يوسف عليه السلام: كَذ?لِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ?لسُّوء وَ?لْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ?لْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].
به رفعة الدرجات وطرق أبواب الخيرات يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((إنك لن تُخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة)) متفق عليه [2].
وإذا قوي الإخلاص لله علت منزلة العبد عند ربه، يقول بكر المزني: "ما سبقنا أبو بكر الصديق بكثير صلاةٍ ولا صيام, ولكنه الإيمان وقر في قلبه والنصح لخلقه".
وهو سببٌ لتفريج الكروب, ولم ينجّ ذا النون سوى إخلاصه لمعبوده: لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:87].
المخلص لربه مجاب الدعوة, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((انطلق ثلاثة نفر مما كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه, فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال كل واحد منهم متوسلاً إلى الله بصالح عمله وإخلاصه: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت فخرجوا يمشون)) متفق عليه [3].
بتجريد الإخلاص تزول أحقاد القلوب وضغائن الصدور، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين)) رواه أحمد [4].
والإخلاص شرطٌ في قبول توبة المنافق، قال عز وجل: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ فِى ?لدَّرْكِ ?لاْسْفَلِ مِنَ ?لنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إِلاَّ ?لَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَ?عْتَصَمُواْ بِ?للَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لْمُؤْمِنِينَ [النساء:145، 146].
في الإخلاص طمأنينة القلب وشعورٌ بالسعادة وراحة من ذل الخلق، يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: "من عرف الناس استراح" أي: أنهم لا ينفعونه ولا يضرونه.
وكل عمل لم يقصد به وجه الله طاقة مهدرة وسراب يضمحل، وصاحبه لا للدنيا جمع ولا للآخرة ارتفع، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً, وابتغي به وجهه)) رواه النسائي [5].
وإخلاص العمل لله وخلوص النية له وصوابه أصل في قبول الطاعات يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (لا ينفع قول وعمل إلا بنية، ولا ينفع قولٌ وعملٌ ونية إلا بما وافق السنة) [6].
والإخلاص أن تكون نيتك لله لا تريد غير الله، لا سمعة ولا رياء ولا رفعة عند أحد ولا تزلفاً ولا تترقب من الناس مدحًا ولا تخشى منهم قدحا، والله سبحانه غني حميد لا يرضى أن يشرك العبد معه غيره، فإن أبى العبد إلا ذلك رد الله عليه عمله، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي، قال الله عز وجل: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)) رواه مسلم [7].
أيها المسلمون، العمل الصالح وإن كان كثيراً مع فساد النية يورد صاحبه المهالك، فقد أخبر الله عز وجل عن المنافقين أنهم يصلون وينفقون ويقاتلون، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم أنهم يتلون كتاب الله في قوله: ((ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر)) متفق عليه [8].
ولفِقد صدقهم في إخلاصهم قال الله عنهم: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ فِى ?لدَّرْكِ ?لاْسْفَلِ مِنَ ?لنَّارِ [النساء:145]، ((وأول من تسعر بهم النار يوم القيامة قارئ القرآن والمجاهد والمتصدق بماله, الذين لم تكن أعمالهم خالصة لله، وإنما فعلوا ذلك ليقال فلانٌ قارئ، وفلان شجاع، وفلانٌ متصدق)) رواه مسلم [9].
والعمل وإن كان يسيراً يتضاعف بحسن النية والصدق والإخلاص، ويكون سبباً في دخول الجنات, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق، فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين, لا يؤذيهم فأدخل الجنة)) رواه مسلم.
((وامرأة بغي رأت كلباً يطيف ببئر كاد يقتله العطش، فسقته بموقها ماءً فغفر الله لها)) متفق عليه [10].
يقول عبد الله بن المبارك: "رب عملٍ صغيرٍ تعظمه النية، ورب عملٍ كبيرٍ تصغره النية"، قال ابن كثير رحمه الله في قوله: ?للَّهُ يُضَـ?عِفُ لِمَن يَشَاء [البقرة:261] "أي: بحسب إخلاصه في عمله".
والواجب على العبد كثرة الصالحات مع إخلاص النيات، فكن سبّاقاً لكل عمل صالح، ولا تحقرن أي عملٍ تخلص نيتك فيه، فلا تعلم أي عملٍ يكون سبباً لدخولك الجنات، ولا تستخفن بأي معصية فقد تكون سبباً في دخولك النار، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((دخلت امرأة النار في هرةٍ حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)) متفق عليه [11].
والله جل وعلا متصف بالحمد والكرم، وإذا أحسن العبد القصد ولم تتهيأ له أسباب العمل فإنه يؤجر على تلك النية وإن لم يعمل, كرماً من الله وفضلاً، يقول عليه الصلاة والسلام: ((من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء, وإن مات على فراشه)) رواه مسلم [12] ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي لا مال عنده وينوي الصدقة: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، قال: ((فهو بنيته)) رواه الترمذي [13].
بل إن الهمّ بعمل صالح يؤجر عليه العبد وإن تخلف العمل، قال عليه الصلاة والسلام: ((من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة)) متفق عليه [14].
والمسلم يجعل نيته صادقة في كل خير، يقول عمر رضي الله عنه: (أفضل الأعمال صدق النية فيما عند الله, فإن صدق العمل النية فذاك، وإن حيل بين العمل والنية فلك ما نويت، ومن سرّه أن يكمل له عمله فليحسن النية, فإن الله يؤجر العبد إذا حسنت نيته حتى بإطعام زوجته).
أيها المسلمون، إذا قوي الإخلاص وعظمت النية وأخفي العمل الصالح مما يشرع فيه الإخفاء قرب العبد من ربه وأظله تحت ظل عرشه، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ـ وذكر منها ـ: رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) رواه مسلم [15].
وكلما أخفي العمل كان أقرب إلى الإخلاص، قال جل وعلا: إِن تُبْدُواْ ?لصَّدَقَـ?تِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ?لْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [البقرة:271].
يقول بشر بن الحارث: "لا تعمل لتُذكر، أكتم الحسنة كما تكتم السيئة".
وفُضّلت نافلة الليل على نافلة النهار واستغفار السحر على غيره لأن ذلك أبلغ في الإسرار، وأقرب إلى الإخلاص.
وعلى العبد الصبر عن نقل الطاعة من ديوان السر إلى ديوان العلانية, وإذا أخلصت في العمل ثم أثنى عليك الخلق وأنت غير متطلع إلى مدحهم فليس هذا من الرياء، إنما الرياء أن تزين عملك من أجلهم. سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه، فقال: ((تلك عاجل بشرى المؤمن)) رواه مسلم [16].
ومن كان يعمل صالحاً ثم اطلع الخلق على عمله فأحجم عن الاستمرار في تلك الطاعة ظناً منه أن فعله بحضرتهم رياء فذلك من حبائل الشيطان، فامضٍ على فعلك, يقول الفضيل ابن عياض: "ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما".
وبعض الناس يظن أن الإخلاص مقصور على الصلاة والصدقة والحج دون غيرها من الأوامر، ومن رحمة الله ورأفته بعباده أن الإخلاص يستصحب في جميع العبادات والمعاملات، ليُثاب العبد على جميع حركاته وسكناته, فزيارة الجار وصلة الرحم وبر الوالدين هي مع الإخلاص عبادة، وفي جانب المعاملات من الصدق في البيع والشراء وحسن عشرة الزوجة والاحتساب في إحسان تربية الأبناء كل ذلك مع الإخلاص يُجازى عليه بالإحسان، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى اللقمة تضعها في فيّ امرأتك)) متفق عليه [17] ، قال: شيخ الإسلام: "من عبد الله وأحسن إلى الناس فهذا قائم بحقوق الله وحق عباد الله في إخلاص الدين له، ومن طلب من العباد العوض ثناءً أو دعاءً أو غير ذلك لم يكن محسناً إليهم لله".
أيها المسلمون، الإخلاص عزيز والناس يتفاضلون فيه تفاضلاً كبيراً، ولدفع عوارضه من آفة الرياء والعجب بالعمل إلجأ إلى الله دوماً بالدعاء أن تكون من عباده المخلصين، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وكأن أكثر دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا).
وأكثر من مطالعة أخبار أهل الصدق والإخلاص، واقرأ سير الصالحين الأسلاف، واحتقر كل عمل صالحًا تقدمه، وكن خائفًا من عدم قبوله أو حبوطه، فليس الشأن الإتيان بالطاعات فحسب, إنما الشأن في حفظها مما يبطلها.
ومن حفظ العمل عدم العجب وعدم الفخر به, فازهد في المدح والثناء فليس أحد ينفع مدحه وضر ذمه إلا الله, والموفق من لا يتأثر بثناء الناس وإذا سمع ثناءً لم يزده ذلك إلا تواضعًا وخشية من الله، وأيقن أن مدح الناس لك فتنة، فادع ربك أن ينجيك من تلك الفتنة، واستشعر عظمة الله وضعف المخلوقين وعجزهم وفقرهم، واستصحب دومًا أن الناس لا يملكون جنة ولا نارًا، وأنزل الناس منزلة أصحاب القبور في عدم جلب النفع لك ودفع الضر عنك، والنفوس تصلح بتذكر مصيرها، ومن أيقن أنه يوسد في اللحد فريدًا أدرك أنه لن ينفعه سوى إخلاصه مع ربه, وكان من دعاء السلف: "اللهم إنا نسألك العمل الصالح وحفظه".
أيها المسلمون، ثوب الرياء يشف ما تحته, يفسد الطاعة ويحبط الثواب، وهو من أقبح صفات أهل النفاق يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142], وهو من أشد الأبواب خفاءً, وصفه ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: (أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل). قال الطيبي رحمه الله: "وهو من أضر غوائل النفس وبواطن مكائدها, يبتلى به المشمرون عن ساق الجد لسلوك طريق الآخرة".
والنبي خافه على أمته وحذرهم منه قال عليه الصلاة والسلام: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((الشرك الخفي، يقوم الرجل يصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه)) رواه أحمد [18].
قال في تيسير العزيز الحميد: "الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال".
المرائي مضطرب القلب مزعزع الفكر، لا يُخلص في عبوديته ومعاملته, يعمل لحظ نفسه تارة ولطلب الدنيا تارة ولطلب الرفعة والمنزلة عند الخلق تارة، المرائي يفضحه الله ويهتك ستره ويظهر خباياه، ضاعت آماله وخاب سعيه, وعومل بنقيض قصده, يقول النبي : ((من يسمّع يسمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به)) رواه مسلم [19].
وإن أخفى المرائي كوامن نفسه وخفايا صدره أظهرها الله، يقول النبي : ((المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)) متفق عليه [20].
فاخشى على أعمالك من الخسران، فالميزان يوم الحشر بمثاقيل الذر، المن والأذى يبطل البذل، والرياء يحبط العمل، وإرادة الدنيا وثناء الخلق متوعد فاعله بدخول النار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى? إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَـ?هُكُمْ إِلَـ?هٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـ?لِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف:110].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفره إنه هو الغفور الرحيم.
[1] في العلم باب الحرص على الحديث (99).
[2] أخرجه البخاري في الجنائز باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص (1296)، ومسلم في الوصية باب الوصية بالثلث (1628).
[3] أخرجه البخاري في الإجارة باب: من استأجر أجيرًا فترك الأجير أجره... (2272)، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب قصة أصحاب الغار الثلاثة (2743).
[4] أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/ 183)، وصححه ابن حبان (الإحسان 1/ 270) من حديث زيد بن ثابت.
[5] في الجهاد باب من غزا يلتمس الأجر والذكر (3140)، وجود إسناده ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 16).
[6] أخرجه ابن أبي الدنيا بإسناد ضعيف، انظر: جامع العلوم والحكم (1/ 13) لابن رجب.
[7] في الزهد والرقائق باب من أشرك في عمله غير الله (2985) من حديث أبي هريرة.
[8] أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكل به (5059)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها باب فضيلة حفظ القرآن (797) من حديث أبي موسى الأشعري.
[9] في الإمارة باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار (1905) من حديث أبي هريرة.
[10] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب حديث الغار (3467)، ومسلم في السلام باب فضل سقي البهائم (2245) من حديث أبي هريرة.
[11] أخرجه البخاري في بدء الخلق باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (3318)، ومسلم في البر والصلة والآداب باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان (2619)، من حديث أبي هريرة.
[12] في الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى (1909) من حديث سهل بن حنيف.
[13] في الزهد باب: ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر (2325) وقال: حسن صحيح، من حديث أبي كبشة الأنصاري.
[14] أخرجه البخاري في الرقاق باب: من هم بحسنة أو بسيئة (6491)، ومسلم في الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت ، وإذا هم بسيئة (131) من حديث ابن عباس.
[15] أخرجه البخاري في الزكاة، باب الصدقة باليمين (1423)، ومسلم في الزكاة باب فضل إخفاء الصدقة (1031) من حديث أبي هريرة.
[16] في البر والصلة والآداب، باب إذا أثنى على الصالح... (2642) من حديث أبي ذر.
[17] أخرجه البخاري في الوصايا، باب أن يترك ورثته أغنياء.... (2742) ومسلم في الوصية باب الوصية بالثلث (1628) من حديث سعد بن أبي وقاص.
[18] أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/ 30)، وابن ماجه في الزهد باب الرياء والسمعة (4204) واللفظ له، وحسن إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (4/ 237) من حديث أبي سعيد الخدري.
[19] في الزهد والرقائق باب من أشرك في عمله غير الله (2987) من حديث جندب العلقي.
[20] أخرجه البخاري في النكاح، باب المتشبع بما لم ينل وما ينهى من افتخار (5219)، ومسلم في اللباس والزينة باب النهي عن التزوير في اللباس... (2129) من حديث عائشة.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، لا أنفع للقلب من تجريد الإخلاص ولا أضر عليه من عدمه، وكلما قوي إخلاص الدين لله كملت العبودية، ومن عرف الناس أنزلهم منازلهم, ومن عرف الله أخلص له أعماله، وكلما صحت العزيمة وعظمت الهمة طلب الإنسان معالي الأمور, ولم يلتفت إلى غير الله, ولم ينظر إلى ما سواه، وليس من الرشد طلب الآخرة بالرياء, وإياك أن تطلب بعملك محمدة الناس أو الطمع بما في أيديهم.
والإخلاص يحتاج إلى مجاهدة قبل العمل وأثناءه وبعده، وآفة العبد رضاه عن نفسه، ومن نظر إلى نفسه بعين الرضا فقد أهلكها، وأمارة الإخلاص استواء المدح والذم، والله يحب من عبده أن يجعل لسانه ناطقًا بالصدق وقلبه مملوء بالإخلاص وجوارحه مشغولة بالعبادة.
(1/2752)
حديث المسيء صلاته
فقه
الصلاة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
24/6/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم منزلة الصلاة وفضلها. 2- كيف تكون الصلاة مؤثرة؟ 3- شرح حديث الرجل الذي أساء صلاته بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم. 4- أهمية الرفق في الدعوة والتعليم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، الصلوات الخمس أعظم أركان الإسلام بعد التوحيد، فهي الركن الثاني من أركان الإسلام, وهي عمود الإسلام، وهي الدالة على وجود إيمان في القلب, فإن الإيمان اعتقاد وأعمال وأقوال, والصلوات الخمس تمثل ذلك الاعتقاد الحقيقي, ولذا من ترك هذه الصلاة فأنت في شك من سلامه دينه.
وهذه الصلوات الخمس تزكي القلب, وتطهر النفس, وتنهى عن منكرات الأخلاق والأعمال, إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، وهي مشتملة على ذكر الله وَلَذِكْرُ ?للَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].
فمن أولها إلى آخرها ما بين تعظيم لله, تنزيه لله, وما بين التجاء واضطرار, وكمال التقى إلى ذي العزة والجلال.
والمصلي يناجي ربه من حين ما يقول: الله أكبر, فهي إشارة إلى كشف الحجاب بينه وبين ربه, فموقفه في صلاته موقف العز, موقف الشرف, موقف الفضل موقف الخير كله.
هذه الصلوات الخمس قرة عين نبيكم صلى الله عليه وسلم القائل: ((حبب إلي من دنياكم النساء والطيب, وجعلت قرة عيني في الصلاة)) [1] ، وهي راحته وأنسه فهو يقول صلى الله عليه وسلم: ((أرحنا يا بلال بالصلاة)) [2].
ولكن يا أخي, متى تكون هذه الصلاة مؤثرة؟ ومتى يكتسب العبد منها تلك الفضائل والأعمال الجليلة؟ نعم أيها المسلم, إنما تكون صلاته مؤثرة في نفسه مزكية لقلبه مصلحةً لعمله إذا أداها بطمأنينة, وخشوع أثناء أدائها.
فالمطمئن فيها هو الذي ينتفع بها ويتأثر بها, أما الذي يؤديها صورة لكنه لا يطمئن, ينقرها نقر الغراب, لا تراه مطمئناً في قيام, ولا في قراءة, ولا في ركوع, ولا في سجود، ولا في رفع بعد الركوع, ولا في جلوس بين السجدتين, ولا في التشهد الأخير, وإنما يؤديها عادة, وربما استغرق في أدائها بضع دقائق أو أقل.
يدخلها ثم يتعب ويملُ منها ويحب الفراغ منها بكل ما أمكنه, تلك صلاة لا تؤثر عليه شيئاً, ولا يستفيد منها, ولا ينتفع بها.
أيها المسلم، فإن أردت أن تكون صلاتك مؤثرة في نفسك مزكية لأخلاقك, مطهرة لقلبك, فاطمئن في أدائها, وتأن في أدائها, واعلم أنها فرصة لك تناجي ربك, إياك والملل منها, إياك والضجر منها, بل كن محباً لهذه الصلاة, مستأنساً فيها, تراها الفرصة الطيبة والساعة المباركة واللحظات الخيرة.
أيها المسلم، فحاول أخي أن تطمئن في أداء الصلاة, ولا يستخفنك الشيطان فيشغلك بأفكار بعيدة ووساوس, فتؤدي الصلاة بغير الأداء الشرعي الذي أمر الله به, وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلم، في عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جاء رجل وصلى, ثم سلم على النبي فقال له النبي: ((ارجع فصل فإنك لم تصل ـ ثلاث مرات ـ)) ، ثم قال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني, في الصحيحين عن أي هريرة رضي الله عنه قال: دخل النبي المسجد فدخل رجل وصلى ثم أتى فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل)) رجع فصلى ثم جاء فسلم على النبي فقال: ((ارجع فصل فإنك لم تصل)) صلى ثالثاً ثم جاء فقال: ((ارجع فصل فإنك لم تصل)) [3] ، هو صلى ظاهراً, قيام ركوع قيام بعد الركوع سجود جلوس بين السجدتين تشهد، ومع هذا فالنبي يقول له: ((ارجع فصل فإنك لم تصل)) فما تكرر ثلاث مرات استيقن الرجل أن هناك نقصاً في الصلاة, لكنه لا يدري ما هذا النقص وما محل هذا النقص وهذا التقصير, فقال مقسماً: والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني، هذا مقدار علمي هذه الصلاة التي رأيتني صليتها هي غاية علمي, أظن أن هذه هي المشروعة.
فلما تصور الرجل خطأه, وطلب التعليم واستعد لقبول التعليم عند ذلك بين له أكمل الخلق علماً وأرفقهم بجاهلٍ وأحسنهم تعليماً وتوجيهاً ودعوة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، فقال له: ((إذا قمت إلى الصلاة فكبر)) لم يزجره, ولم ينتهره, ولم يسبه, ولكنه أراد أن يعلم الخطأ الذي وقع فيه, ثم جاء هذا التعليم برفق ولين وحسن تعليم, وصدق الله: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]، وصدق الله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
فقال له: ((إذا قمت إلى الصلاة فكبر)) أي تكبيرة الإحرام التي هي مفتاح الصلاة, وفي الحديث: ((مفتاح الصلاة الطهور, وتحريمها التكبير, وتحليلها التسليم)) [4] ، فتكبيرة الإحرام أول شيء يدخل به في الصلاة, فكبر فإن من لم يؤد تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته أصلاً.
((ثم أقرأ ما تيسير معك من القرآن)) ولا شك أن الفاتحة هي أولى ما تيسر, لأن الأحاديث الصحيحة دالة على أن أي صلاة لا تقرأ فيها فاتحة الكتاب فصلاته باطلة لحديث ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) [5].
ثم قال ((ثم اركع)) أي بعد الفاتحة اركع لأن ما زاد على الفاتحة سنة, ويحافظ عليها, ثم قال بعد ((اركع حتى تطمئن راكعاً)) ، اركع حتى تطمئن في ركوعك فتكون حال الركوع مطمئناً لتقول الذكر المشروع في الركوع: سبحان ربي العظيم, وإن أتيت به ثلاثاً فخير, وإن أوصلته إلى العشر فذاك منتهى الكمال.
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم [6] , وربما قالها عشراً، ويقول: سبحانك ربنا وبحمدك, اللهم اغفر لي, وكان يركع ركوعاً مطمئناً فيه يضع يديه على ركبتيه مطمئناً في ركوعه غير رافع لرأسه ولا مطأطأه إلى الأرض, بل ركوع في غاية الاعتدال صلوات الله وسلامه عليه.
((ثم ارفع حتى تعدل قائماً)) أمره بالطمأنينة في الرفع بعد الركوع، فقال حتى تعتدل راكعاً, أي تستقيم بعد الرفع من الركوع فلا تصل الركوع بالسجود, ولكن أطمئن واعتدل قائماً حتى تعود العظام إلى مكانها، وكان صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع اعتدل قائماً يقول الذكر المشروع بعد الركوع: ((اللهم ربنا لك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد, أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد)) [7] ، يقول أنس: حتى يقول القائل: قد ذهل، أي قد نسي [8].
((ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً))، أمره أن يطمئن في سجوده, والسجود من أشرف أعمال العبد وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد, والنبي قال لنا: ((أما الركوع فعظموا فيه الرب, وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء، فقمن ـ أي حري ـ أن يستجاب لكم)) [9].
فأمره بالطمأنينة في السجود ليؤدي الذكر المشروع: سبحان ربي الأعلى مرة أو ثلاثاً والكمال عشراً، وسبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي.
وكان نبيكم في سجوده ربما قال: اللهم اغفر لي ما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أو يقول: أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك.
وكان يأمر بالاعتدال في السجود فكان يجافي عضديه عن جنبيه وبطنه عن فخذيه ويكون سجوده في غاية الاعتدال والخضوع لله.
ثم قال له: ((ثم ارفع حتى تعدل جالساً))، أمره بالطمأنينة في الجلسة بين السجدتين حتى يؤدي الذكر المشروع، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول بين السجدتين: ((رب اغفر لي وارحمني واجبرني وارزقني وعافني)) قال أنس: (حتى يقول القائل: قد ذهل) أي قد نسي.
ثم أمره بالطمأنينة في السجدة الثانية ثم قال له: ((ثم افعل هذا في صلاتك كلها)). أي كل قيام وركوع وسجود وقيام بعد الركوع وجلوس بين السجدتين, كلها اطمئن فيها كلها لتكون الصلاة صلاة مقبولة مؤثرة بتوفيق من الله.
أيها المسلم، إن نبينا صلى الله عليه وسلم حذرنا من الإخلال بصلاتنا فقال صلى الله عليه وسلم: ((أشد الناس سرقة الذي يسرق من صلاته)) قالوا: كيف يسرق من صلاته؟ قال: ((لا يتم ركوعها ولا سجودها)) [10] ، فجعل الذي لا يطمئن في الركوع ولا في السجود سارقاً من صلاته.
قال أبو عبد الأشعري: إن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى رجل لا يطمئن في ركوعه وينقر سجوده قال: ((لو مات هذا لمات على غير ملة محمد صلى الله عليه وسلم)) [11].
أيها المسلم، فاطمئن في صلاتك، اطمئن في أدائها, لا تجعلها أمراً عادياً وكأنه ثقل ألقيته من فرائض الله، هي عبادة من أجل العبادات, أحسن النية في أدائها, وأخلص لله في أدائها, واطمئن فيها, واحمد الله أن جعلك تحب هذه الصلاة وترغب في هذه الصلاة وتطمئن في هذه الصلاة, أدها كما أمرك الله, وكما شرع لك رسوله صلى الله عليه وسلم, واحذر الاستعجال بها احذر الاستعجال والاستخفاف بها.
أيها الإمام بالمصلين, اتق الله فيمن وراءك, فإن وراءك المؤمنين, فاتق الله فيهم, وصل بهم صلاة تطمئن فيها لكي ينالوا الثواب العظيم، فإن أسأت وأخللت بأداء الصلاة فلهم الأجر وعليك الوزر والإثم.
فليتق الله في صلاته وليطمئن فيها, فإن الطمأنينة في أدائها عنوان صدق الإيمان وقوته قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون:1، 2]، خشوعهم نتيجة للطمأنينة والسكينة والإقبال على هذه الفريضة بقلب مخلص محب لهذه الصلاة وَ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ?لْخَـ?شِعِينَ ?لَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـ?قُوا رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ ر?جِعُونَ [البقرة:45، 46].
فاطمئنوا إخواني في صلاتكم, واسكنوا في صلاتكم وأدوها عن طمأنينة ورغبة فيها وحب لها, ولا تستثقل وقتها فإنها ساعات عظيمة ولحظات مباركة.
أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن قبل الله صلاته, وتقبل أعماله, ووفقه لأدائها كما يرضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الحشر:7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (11884)، والنسائي في كتاب عشرة النساء، باب: حب النساء (3939) من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح النسائي (3639).
[2] أخرجه الإمام أحمد برقم (22578)، وأبو داود في كتاب الأدب، باب: في صلاة العتمة (4985)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (4985).
[3] أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات (757)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (397).
[4] أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (1075)، والترمذي في كتاب الطهارة، باب: ما جاء في مفتاح الصلاة الطهور (3)، وأبو داود في كتاب الطهارة باب: فرض الوضوء (61)، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب: مفتاح الصلاة الطهور (275)، جميعهم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (61).
[5] أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم (756)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (394).
[6] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل (772).
[7] أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع (477).
[8] أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: المكث بين السجدتين (821)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب: اعتدال أركان الصلاة وتخفيفهما (472).
[9] أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب: النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود (479).
[10] أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (11138) من حديث أبي سعيد, والدارمي في كتاب الصلاة، باب: في الذي لا يتم الركوع والسجود (1328) من حديث أبي قتادة عن أبيه, وقال الألباني: (صحيح لغيره) انظر صحيح الترغيب والترهيب (524).
[11] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (3840)، وفي المعجم الأوسط (2691)، وابن أبي شيبة في مصنفه برقم (2981)، والحديث حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (528).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، سيرة محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الله وتبصيره للجاهلين وتعليمه لهم سيرة من أكمل السير وأفضلها وأحبها, ذلكم أنه صلى الله عليه وسلم يرفق بالجاهل ويحلم عليه ويقدر جهله وعدم علمه.
انظر كيف عامل ذلك الإنسان الذي رآه يسيء في صلاته, لم ينتهره, ولم يغلظ القول عليه, ولم يخاطبه بجفاء وغلظة, وإنما قال: ((ارجع فصل فإنك لم تصل)) ، فلما استيقن الرجل الخطأ عند ذلك واستعد للتعليم علمه النبي الأمر المشروع, ولم يقل له أعد ما مضى من صلاتك, فإن ما مضى كان عن جهل وعن عدم علم والنبي يقول: ((إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) [1] ، فما مضى لم يقل: اقض هذه الصلاة ولا كاليوم أنت صليت إنما علمه الصلاة الحاضرة ليعمل بها في المستقبل وما مضى فعن جهل وقلة علم فعفى الله عما مضى وسلف.
أيها الداعي إلى الله قد ترى في الجماعة من هو يخل بالصلاة, إما لا يطمئن, إما يسابق الإمام إلى غير ذلك من المخالفات, فعلم الجاهل, واحلم عليه حتى يقبل منك التوجيه, ويقبل منك التعليم, ويعلم أن قصدك إسعاده وتخليصه من الجهل, لا تخاطبه بخطاب سيء, ولا تقل له قول عنف, ولكن أرفق به حتى يقبل منك وينشرح صدره إليك، فالرفق ما وضع في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه, الرفق خير كله, وقدوة الدعاة إلى الله وقدوة الموجهين وقدوة العلماء سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم, فلنتأس به في أقواله وأعماله وتوجيهاته ونصائحه, والله يقول لنا: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لاْخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
فإن سلكنا هذا المسلك بتوفيق من الله استطعنا تعليم جاهلنا وتوجيهه والأخذ بيده بما فيه الخير, وإن قابلناه بالعنف والإنكار والكراهية وغلظ القول فإن الناس ينفرون منا ولا يقبلون منا توجيهاً ولا تعليماً.
فلنقتد بنبينا وهو خير قدوة لنا وخير أسوة لنا في كل أحوالنا صلوات الله وسلامه عليه أبداً دائماً إلى يوم الدين.
[1] أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب: طلاق المكره والناسي (2043)، والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1731).
(1/2753)
عمارة بيوت الله
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
المساجد, فضائل الأزمنة والأمكنة
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
24/6/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل عمارة المساجد. 2- عمارة المساجد بتشييدها والتعبد فيها. 3- المسجد الأقصى الأسير ولمحات من جراحاته. 4- ذكرى حريق المسجد الأقصى. 5- بعض معاناة المسلمين في القدس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة التوبة إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـ?جِدَ ?للَّهِ مَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَأَقَامَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَى? ?لزَّكَو?ةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ?للَّهَ فَعَسَى? أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ?لْمُهْتَدِينَ [التوبة:18]، ويقول سبحانه وتعالى في سورة البقرة: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـ?جِدَ ?للَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ وَسَعَى? فِى خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِى ?لدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، إن المساجد بيوت الله في الأرض، وهي منارة للعلم وموئل للعلماء، وهي زينة الدنيا وبهجتها، وحسبها شرفاً وفخراً أن الله عز وجل قد أضافها إلى نفسه، وهي منسوبة إليه، فقد ورد في الحديث القدسي: ((إن بيوتي في الأرض المساجد، وزواري فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني، فحق على المزور أن يكرم زائره)) [1].
أيها المسلمون، لقد أولى رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم عنايته بالمساجد، فأرسى أول ما أرسى قواعد مسجد قباء في ضاحية من ضواحي المدينة، وذلك حين هاجر من مكة المكرمة في طريقه إلى المدينة المنورة، وشارك في بناء هذا المسجد بيديه الشريفتين ومعه عدد من الصحابة الكرام، فكان مسجد قباء أول مسجد أسس في تاريخ الإسلام، ويمثل هذا المسجد أول عمل قام به رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة النبوية.
ثم أقام عليه الصلاة والسلام المسجد النبوي الذي هو مكان للعبادة والعلم، وكان مركزاً للدولة الفتية ومنطلقاً للرايات الإسلامية.
أيها المسلمون، يطلق على المسجد لفظ الجامع الذي تقام فيه صلوات الجمع، وذلك لأنه يجمع الناس ويؤلف فيما بينهم، فمن مهام المسجد تجميع الناس، لا تفريقهم.
وللمسجد في الإسلام حرمته واحترامه، فكلنا نحن المسلمين في ضيافة الله رب العالمين، فلا يجوز رفع الأصوات، ولا يجوز الهرج والمرج والصخب في المساجد والذي يسكن قلبه تسكن جوارحه، والذي يطمئن قلبه تطمئن جوارحه، والذي يخشع قلبه تخشع جوارحه.
أيها المسلمون، إن عمارة المسجد في الإسلام تشمل كما هو معلوم المعنى الحقيقي للإعمار في البناء والتجديد والترميم والصيانة والتنظيف، كما تشمل المعنى المجازي لإقامة الصلوات وتلاوة القرآن الكريم وحضور دروس العلم.
والعمّار في هذين المعنيين الحقيقي والمجازي أهل للثواب العظيم عند الله، وإعمار المساجد من الصدقات الجارية التي لا ينقطع ثواب الإنسان عنها بعد وفاته، فقد روى الصحابي الجليل عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله، بنى الله له مثله في الجنة)) [2] ، واستند الصحابي عثمان أثناء توليه الخلافة إلى هذا الحديث الشريف، فأجرى الإصلاحات اللازمة في المسجد النبوي، وأنقذه من الانهيار والتصدع، ووسع مساحته ليتسنى لأكبر عدد ممكن من المسلمين الصلاة في المسجد النبوي، وحصل إجماع من الصحابة على ما قام به عثمان في خلافته.
أيها المسلمون، إن الحديث النبوي الشريف الذي رواه الصحابي عثمان رضي الله عنه قد ورد بألفاظ عامة، وتشمل هذه الألفاظ من بنى مسجداً صغيراً أو كبيراً، وسواء كان ذلك من قبل الأفراد أو الجماعات أو اللجان أو الدول، وسواء كان البناء جديداً أو تجديداً أو ترميماً أو توسيعاً، ويؤكد هذا الحديث حديث نبوي آخر، ولفظه: ((من بنى مسجدا كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة)) [3] والقطاة نوع من الحمام البري الذي يعيش في الصحارى والبراري، والمفحص هو الموضع الذي تحفره القطاة في الأرض، لتضع فيه بيضها، وهو عبارة عن عش أرضي، والمعلوم بداهة أن المسجد لا يقوم عملياً على مساحة تساوي مرقد طير القطاة، إلا أنه يمكن أن تكون مشاركة الشخص في إشادة المسجد توازي مقدار مفحص القطاة في المساحة، وذلك إذا اشترك الشخص مع مئات بل آلاف الأشخاص في بناء المسجد، فهذا الحديث النبوي الشريف يعتبر من دلائل النبوة، وأن ما يقوله عليه الصلاة والسلام هو وحي يوحى، ويؤخذ من هذا الحديث روح التشجيع للناس على المشاركة الجماعية في إشادة بيوت الله من خلال التبرع بالمال، ولو شيئاً قليلاً، ومن خلال التبرع بالجهد، ولو كان ضعيفاً، ومثل ذلك في المشاريع الخيرية والعامة.
أيها المسلمون، لقد منح الله عز وجل المسلمين ثلاثة مساجد كبرى، وهي المسجد الحرام بمكة المكرمة، والمسجد النبوي في المدينة المنورة، والمسجد الأقصى في بيت المقدس، وميزها عن غيرها من المساجد قول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)) [4].
وكان المسجد الأقصى ولا يزال، أكثر المساجد اختباراً وامتحاناً ومسرحاً للأحداث، فقد سبق أن وقع الأقصى أسيراً في قبضة الصليبيين مدة تقارب المائة سنة، وحولوه إلى إصطبل لخيولهم، وذبح الصليبيون وقتئذ في باحاته سبعين ألفاً من المسلمين، كما تقول كتب التاريخ.
ويقع الأقصى في محن جديدة منذ عام1967م، وحتى الآن واليهود يدعون أن الأقصى لهم، وأنه مُقام على أنقاض هيكل سليمان المزعوم، والحركات اليهودية قد صنعت مجسماً لهيكلهم المزعوم، ويوزعونه في أرجاء العالم ظناً منهم أن هذا المجسم سيعطيهم حقاً في الأقصى.
أيها المسلمون، أمس الخميس صادفت ذكرى مؤلمة حزينة، ألا وهي ذكرى حريق المسجد الأقصى المبارك، ففي صباح يوم الخميس، الحادي والعشرين من شهر آب أغسطس عام 1969م، امتدت يد الغدر والحقد والتآمر، وقامت بحرق منبر صلاح الدين الأيوبي وأجزاء من سقف المسجد من الجهة الشرقية، كما شمل الحريق قبة المسجد الداخلية، بالإضافة إلى حرق عدد من النوافذ وكميات كبيرة من السجاد والبسط والمفروشات، للدلالة على أن الذين قاموا بجريمة الحرق أكثر من واحد.
وهبَّ وقتئذ أهل بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وتمكنوا من إخماد الحريق، كما تمكنوا من إحباط مؤامرة تدويل القدس، واليوم تزداد تصريحات المسؤولين الإسرائيليين بشأن الأقصى، وأن لليهود حقاً فيه، ونؤكد على الموقف الإيماني بأن الأقصى للمسلمين وحدهم بحكم من رب العالمين، وأن جميع المؤامرات التي تحاك ضد الأقصى لن تغير من القرار الرباني، إنه مسرى رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى السماوات العلى، إنه أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[1] رواه بنحوه البيهقي في شعب الإيمان (2943)، وابن أبي شيبة في مصنفه (34615).
[2] أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب: من بنى مسجداً (450). ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب: فضل بناء المساجد والحث عليها (533).
[3] رواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/310) والبزار في مسنده (9/412). والبيهقي في سننه الكبرى (2/437). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: (رواه البزار والطبراني في الصغير ورجاله ثقات) وروى هذا الحديث عن عائشة وابن عباس.
[4] أخرجه البخاري في كتاب الجمعة (1189)، ومسلم في كتاب الحج (1397).
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، أتناول في هذه الخطبة نقطتين لا تزالان قائمتين، وتهم واقع المسلمين في فلسطين، وهما:
أولاً: مكتب وزارة الداخلية للمرة الثالثة، أتناول هذا الموضوع للمرة الثالثة، وذلك بسبب التطورات التي تحصل أمام مكتب الداخلية وعلى مرأى ومسمع المسئولين في هذا المكتب، فبالإضافة إلى الرشاوى والابتزاز والاستغلال، فقد حصلت عدة إسقاطات جنسية، ولا أريد أن أذكر أرقاماً تتعلق في هذه الإسقاطات حتى لا تصابوا بالصدمة والإحباط، وهل سمعتم يا مسلمون أن دوائر حكومية في العالم تكون وكراً للإسقاط الجنسي، ثم لماذا لا تحل مشكلة المواطنين في المعاملات التي تتعلق بهم من إصدار شهادات ميلاد أو تجديد هويات؟؟
إن أفراد العصابة الذين تولوا الرشاوى والإسقاطات يستغلون حاجة المواطنين لمراجعة مكتب الداخلية، وذلك حرصاً من المواطنين على إثبات مواطنتهم وحقوقهم، وحرصاً منهم على التمسك بوطنهم وأرضهم، ويتوجب على المسؤولين في الداخلية حل هذه المشكلة المفتعلة وتسهيل معاملات المواطنين، ولنا عودة إلى هذا الموضوع في خطب مستقبلية ـ إن شاء الله ـ إن لم تحل هذه المشكلة.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، ثانياً: الاغتيالات والاجتياحات العسكرية وهدم المنازل ومصادرة الأراضي بآلاف الدونمات، هذا ما يقوم به الجيش الإسرائيلي في الأرض المباركة المقدسة، ونتساءل هل هذه الممارسات الظالمة ستحل المشاكل وتقود إلى السلام؟ هل الذي يدعو إلى السلام حقيقة يقوم بمثل هذه الأعمال؟
إن التصعيد الخطير في مناطق الاحتلال يزيد من إراقة الدماء، وهل أعمال البطش والتنكيل تؤدي إلى استسلام الشعب الفلسطيني أم تزيده إصراراً وثباتاً وعناداً في المطالبة في حقه الشرعي؟؟ وهل الذي يطالب بحقه الشرعي يتهم بالتحريض والإرهاب؟؟
أيها المسلمون، قيل لنا: لماذا لا تبادر الدول العربية والإسلامية لإنقاذنا وحمايتنا؟ والذي قال هذه المقولة يدرك تماماً نوعية الأنظمة القائمة في هذه الدول حالياً، وهل يرجى منها خير حتى نطالبها؟ ولكننا نقول، وما نستطيع قوله: إن المرابطة في أرض الإسراء والمعراج واجب شرعي، وإن حماية المقدسات والدفاع عنها وعلى رأسها الأقصى المبارك واجب شرعي أيضاً، هذا هو قدرنا، وسنبقى محتفظين بالأمانة التي حملنا إياها آباؤنا وأجدادنا حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
(1/2754)
الكبر
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق, مكارم الأخلاق
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
1/7/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية أعمال القلوب. 2- خطورة الكبر. 3- الكبر وأثره في الأمم السابقة. 4- أضرار الكبر. 5- منشأ الكبر. 6- أقسام الكبر. 7- فضل التواضع وأثره. 8- أحق الناس بالتواضع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، فالتقوى في مخالفة الهوى والشقا في معارضة الهدى.
أيها المسلمون، صلاح ابن آدم في الإيمان والعمل الصالح، والسعي في إصلاح القلب أفضل من نوافل العبادات، وأعمال القلوب في الثواب والعقاب كأعمال الجوارح يثاب على الموالاة والمعاداة في الله، وعلى التوكل والعزم على الطاعة، ويُعاقَب على الفكر والحسد والعجب والرياء، وكل ما ازداد العبد تواضعاً وعبودية ازداد إلى الله قرباً ورفعة.
وأصل الأخلاق المذمومة كلها الكبر والاستعلاء, به اتصف إبليس فحسد آدم, واستكبر, وامتنع من الانقياد لأمر ربه، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـ?ئِكَةِ ?سْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى? وَ?سْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة:34]، وبه تخلف الإيمان عن اليهود الذين رأوا النبي وعرفوا صحة نبوته، وهو الذي منع ابن أبي ابن سلول من صدق التسليم، وبه تخلف إسلام أبي جهل، وبه استحبت قريش العمى على الهدى، قال سبحانه: إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ ?للَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات:35]، ودعا سليمان عليه السلام بلقيس وقومها إلى نبذ الاستعلاء والإذعان, أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ [النمل:31].
وهو سببٌ للفرقة والنزاع والاختلاف والبغضاء, قال جل وعلا: فَمَا ?خْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ?لْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [الجاثية:17]، وبسببه تنوعت شنائع بني إسرائيل مع أنبيائهم بين تكذيب وتقتيل, أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم ?سْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87].
وهو من أوصاف أهل النفاق، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ?للَّهِ لَوَّوْاْ رُءوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ [المنافقون:5].
وعذبت الأمم السالفة لاتصافهم به, قال تعالى عن قوم نوح: وَ?سْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَ?سْتَكْبَرُواْ ?سْتِكْبَاراً [نوح:7].
وقال عن فرعون وقومه: وَ?سْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَـ?هُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـ?هُمْ فِى ?لْيَمّ فَ?نظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لظَّـ?لِمِينَ [القصص:39، 40].
وقال عن قوم هود: فَأَمَّا عَادٌ فَ?سْتَكْبَرُواْ فِى ?لأَرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ?للَّهَ ?لَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِئَايَـ?تِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت:15].
المستكبرون هم أعداء الأنبياء وأتباعهم, قَالَ ?لْمَلاَ ?لَّذِينَ ?سْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يـ?شُعَيْبُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [الأعراف:88]، وموسى عليه السلام استعاذ بالله منهم، قال جل وعلا: وَقَالَ مُوسَى? إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ ?لْحِسَابِ [غافر:27].
المتكبر متبع لهواه ينظر إلى نفسه بعين الكمال وإلى غيره بعين النقص، مطبوع على قلبه لا يقبل ما لا يهوى, كَذَلِكَ يَطْبَعُ ?للَّهُ عَلَى? كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35]، والله تعالى يبغضه, إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18]، المتصف بالكبر مصروفٌ عن الاعتبار والاتعاظ بالعبر والآيات، سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَـ?تِي ?لَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ?لارْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ [الأعراف:146].
والمستكبر عن الحق يبتلى بالانقياد للباطل، وقد تعجل له العقوبة في الدنيا, فقد شلت يدُ رجل في عهد النبوة بسبب الكبر، يقول سلمة بن الأكوع: أكل رجل عند النبي بشماله, فقال له: ((كُل بيمينك)) ، قال: لا أستطيع، قال: ((لا استطعت)) ما منعه إلا الكبر، قال: فما رفعها إلى فيه. رواه مسلم [1].
وقد خسفت الأرض بمتكبر, يقول النبي : ((بينما رجلٌ يمشي في حلةٍ تعجبه نفسه مرجلاً رأسه يختال في مشيته إذ خسف الله به, فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)) متفق عليه [2].
وفي الآخرة يعامل بنقيض قصده, فمن ترفع عن الناس في الدنيا يطأه الناس بأقدامهم في الآخرة، يقول المصطفى : ((يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صور الذر يطؤهم الناس بأرجلهم)) رواه الترمذي [3].
قال في نوادر الأصول: "كل من كان أشد تكبراً كان أقصر قامة في الآخرة، وعلى هذا السبيل كل من كان أشد تواضعاً لله فهو أشرف قامة على الخلق" [4].
ومن حمل في قلبه ولو شيئاً يسيراً من الكبر حرم عليه دخول الجنة، يقول النبي : ((لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر)) رواه البخاري [5].
والنار دارٌ لهم, أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْمُتَكَبّرِينَ [الزمر:60]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ألا أخبركم بأهل النار كل عتلٍّ جوّاظٍ مستكبرٍ)) متفق عليه [6].
ويقول النبي : ((احتجت الجنة والنار، فقالت النارُ: فيّ الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: فيّ ضعفاء الناس ومساكينهم)) رواه مسلم [7].
أيها المسلمون، الكبرياء من خصائص الربوبية لا ينازع فيه, ومن اتصف به من المخلوقين عذبه الله, يقول النبي في الحديث القدسي: ((قال الله عز وجل: العز إزاري والكبرياء ردائي، فمن ينازعني في واحدٍ منهما عذبته)) رواه مسلم [8].
والله جل وعلا هو المتكبر, قال سبحانه عن نفسه: ?لْعَزِيزُ ?لْجَبَّارُ ?لْمُتَكَبّرُ [الحشر:23].
والإسلام حمى جناب الكبرياء والعظمة لله وحرم كل طريق ينازع الرب في كبريائه، فمنع لبس الذهب والحرير للرجل؛ لكونهما مدعاة للكبر والخيلاء، وتوعد المسبل إزاره بالعذاب, فقال عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) قالها ثلاثاً, قال أبو ذرٍ: خابوا وخسروا منهم يا رسول الله؟ قال: ((المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) رواه مسلم [9].
ونهى عن ميل الخد والإعراض به تعاظماً على الآخرين، ولم يأذن بمشية الخيلاء تبختراً في غير الحرب، قال جل وعلا: وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى ?لأرْضِ مَرَحاً [لقمان:18]، ونهى عن التشدق في الكلام اعتزازا, قال عليه الصلاة والسلام: ((وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم منى يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون)) رواه الترمذي [10].
فانزع عنك رداءَ الكبر والتعاظم فإنهما ليسا لك، بل هما للخالق، والبس لباس الانكسار والتواضع فما دخل قلب به شيء من الكبر قط إلا نقص من عقله بقدر ما دخل من ذلك أو أكثر.
ومنشأ هذا من جهل العبد بربه وجهله بنفسه، فإنه لو عرف ربه بصفات الكمال ونعوت الجلال، وعرف نفسه بالنقائص والآفات لم يستعل ولم يأنف، يقول سفيان ابن عيينه رحمه الله: "من كانت معصيته في الكبر فاخشى عليه فإبليس عصا متكبراً فلعن" [11].
والعذاب يقع على من تغلغل ذلك في قلبه وتكون خفة وشدته بحسب خفتها وشدتها، ومن فتحها على نفسه فتح عليه أبواباً من الشرور عديدة، ومن أغلقها على نفسه فتحت له بإذن الله أبواب من الخيرات واسعة.
والكبر المباين للإيمان لا يدخل صاحبه الجنة، كما في قوله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60]، ومن الكبر ما هو مباين للإيمان الواجب, بل كبره يوجب له جحد الحق واحتقار الخلق, يقول النبي : ((لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر)) قالوا: يا رسول الله، إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة، قال: ((الكبر بطر الحق وغمط الناس)) رواه مسلم [12].
ولا تفخر على أحدٍ فدنياك زائلة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((حق على الله أن لا يرتفع شيءٌ من الدنيا إلا وضعه)) رواه البخاري [13].
أيها المسلمون، في التواضع رفعة الدنيا والآخرة، يقول صلى الله عليه وسلم: ((ما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه)) رواه مسلم [14].
وهو من أخلاق الأنبياء وشيم النبلاء، موسى عليه السلام رفع الحجر لامرأتين أبوهما شيخٌ كبير، وداود عليه السلام كان يأكل من كسب يده، وزكريا عليه السلام كان نجاراً، وعيسى عليه السلام يقول: وَبَرّاً بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً [مريم:32]، وما من نبي إلا ورعى الغنم.
ونبينا كان رقيق القلب رحيماً خافض الجناح للمؤمنين لين الجانب لهم، يحمل الكل ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الدهر، وركب الحمار وأردف عليه، يسلم على الصبيان، ويبدأ من لقيه بالسلام، يجيب دعوة من دعاه ولو إلى ذراعٍ أو كراع، ولما سألت عائشة رضي الله عنها ما كان النبي يصنع في بيته قالت: (يكون في مهنة أهله ـ يعني خدمتهم ـ فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة) رواه البخاري [15].
التواضع سبب العدل والألفة والمحبة في المجتمع، يقول : ((إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد, ولا يبغي أحدٌ على أحد)) رواه مسلم [16].
المتواضع منكسر القلب لله خافض جناح الذل والرحمة لعباده، لا يرى له عند أحدٍ حقاً, بل يرى الفضل للناس عليه، وهذا خلقٌ إنما يعطيه الله من يحبه ويقربه ويكرمه.
وبعد أيها المسلمون، فأكرم التواضع بعد حق الله التواضع في جنب الوالدين ببرهما وإكرامهما وطاعتهما في غير معصية، والحنو عليهما والبِشْرُ في وجههما والتلطف في الخطاب معهما وتوقيرهما والإكثار من الدعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما، قال جل وعلا: وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:24].
والاستنكاف عن أوامرهما والاستكبار عليهما والتأفف من قضاء حوائجهما ضرب من الكبر والعقوق متوعداً صاحبه بدخول النار.
وتواضع لدين ولا تعارضه برأي أو هوى، ولا تعرض عن تعلمه والعمل به، ومن أسدى إليك نصحاً فاقبله واشكر قائله، ومن أمرك بمعروفٍ أو نهاك عن منكرٍ فامتثل لرشده, فالحظوة في التواضع للطاعة، يقول الفضيل رحمه الله: "التواضع أن تخضع للحق وتنقاد له" [17] ، قال رجل لمالك بن مغول: "اتق الله" فوضع خده على الأرض [18].
والمعلم والمتعلم يتواضعان لبعضهما مع توقير المعلم، ولقد كان شيخ المحدثين أبو موسى المديني يقرئ الصبيان القرآن في الألواح مع جلالة قدره وعلو منزلته.
وتواضع للمرضى بعيادتهم والوقوف بجانبهم وكشف كربتهم وتذكيرهم بالاحتساب والرضا والصبر على القضاء، وألن جانبك لذوي الفقر والمسكنة، وتصفح وجوه الفقراء والمحاويج وذوي التعفف والحياء في الطلب, وواسيهم من مالك وتواضع لهم في حسبك، يقول بشر بن الحارث: "ما رأيت أحسن من غني جالسٍ بين يدي فقير" [19].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: تِلْكَ ?لدَّارُ ?لاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً في ?لأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم, كتاب الأشربة (2021).
[2] صحيح البخاري, كتاب اللباس والزينة (2088) بنحوه.
[3] سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب: منه (2492)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ولفظه : ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذّر في صور الرجال، يغشاهم الذّل من كل مكان فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بُولَسَ تعلوهم نار الأنيار، يسقون عصارة أهل النار طينة الخبال)). وأخرجه أيضاً بهذا اللفظ أحمد في المسند (2/179)، والحميدي في المسند (2/272)، والبخاري في الأدب المفرد (557). قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". ولم أقف عليه باللفظ الذي ذكره الخطيب إلا في نوادر الأصول في أحاديث الرسول، للحكيم الترمذي (1/225).
[4] نوادر الأصول (1/225).
[5] بل هو في مسلم كتاب الإيمان (91)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[6] صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب: قوله تعالى: عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (4918)، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2853)، من حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه.
[7] صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2846)، بمعناه. وأخرجه أيضاً البخاري في التفسير، باب: قوله تعالى: وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ (4850) بمعناه. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. واللفظ الذي ذكره الخطيب عند احمد في المسند (3/79)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[8] صحيح مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب (2620)، بنحوه، ولم يقل فيه: قال الله عز وجل، من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما.
[9] صحيح مسلم، كتاب الإيمان (106)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[10] سنن الترمذي، كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في معالي الأخلاق (2018)، بنحوه من حديث جابر رضي الله عنه. قال الترمذي: "حديث حسن غريب". وله شاهد من حديث أبي ثعلبة أخرجه أحمد (4/193)، والطبراني في الكبير (22/221)، وصححه ابن حبان (482). قال المنذري في الترغيب (3/277): "رواه أحمد ورواته رواة الصحيح".
[11] انظر سير أعلام النبلاء (8/461).
[12] صحيح مسلم كتاب الإيمان (91)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[13] صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير، باب: ناقة النبي (2872) من حديث أنس رضي الله عنه.
[14] صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب (2588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[15] صحيح البخاري كتاب الأذان، باب: من كان في حاجة أهله فأقيمت الصلاة فخرج (676).
[16] صحيح مسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865)، من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
[17] أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/91).
[18] أخرجه الطبراني في الصغير (222)، والبيهقي في الشعب (6/301).
[19] أخرجه البيهقي في الشعب (6/298).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، الله يحب تواضع العبد عند أمره امتثالاً وعند نهيه اجتناباً، والشرف ينال بالخضوع والاستكانة لله والتواضع للمسلمين ولين الجانب لهم واحتمال الأذى منهم والصبر عليهم، قال جل وعلا: وَ?خْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:88]. كل ذلك مع التشاغل بتلاوة كتاب الله والنظر في الأحاديث, مع حسن الخلق وبذل المعروف وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة، وعامل الناس معاملة إيثار لا استئثار، والمتواضع من إذا رأى أحداً قال: هذا أفضل مني.
يقول الشافعي رحمه الله: "أرفع الناس قدراً من لا يرى قدره، وأكبر الناس فضلاً من لا يرى فضله" [1] ، وإذا أنعم الله عليك بنعمة فاستقبلها بالشكر والابتسامة، قال عبد الله بن المبارك: "رأس التواضع أن تضع نفسك عند من هو دونك في نعمة الله حتى تعلمه أن ليس لك بدنياك عليه فضل" [2].
[1] أخرجه البيهقي في الشعب (6/304).
[2] أخرجه البيهقي في الشعب (6/298).
(1/2755)
وصايا للشباب
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, قضايا دعوية
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
1/7/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جاءت الصحوة الإسلامية بعد فتور الأمة وغفلتها. 2- كما يرزأ الإسلام بأعدائه فإنه قد يرزأ أحياناً بأتباعه. 3- الفصل في قضايا الأمم المصيرية يكون بيد علمائها ومحنّكيها. 4- كما جاءت الشريعة بالقتال جاءت بالرفق والتسامح والصبر. 5- دعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة على فهم سلف الأمة. 6- أهمية العلم الشرعي في زمن الفتن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70، 71].
اتقوا الله واقصدوا مرضاته، وسارعوا إلى مغفرته وجناته, ولا تغرنكم الدنيا، ولا يلهينكم زخرفها، حلالها حساب, وحرامها عقاب، ومصيرها إلى الخراب، فكم من ذاهب بلا إياب من الأهل والأحباب في رحلات متتابعة إلى الدار الآخرة.
وبعد: أيها المسلمون، في الأعصار المتأخرة من تاريخ أمتنا، وقبل بضعة عقود كانت الأمة في مجملها تعيش غفوة في دينها وإعراضاً عن قرآنها وسنة نبيها وانقطاعاً من تاريخها.
لقد كان المسلم المستقيم على دينه في أكثر ديار المسلمين يعيش غربة في وطنه ووحشة بين أبناء جلدته في غربة الدين، وذلك في ظل الهزيمة الشاملة للمسلمين أمام الاستعمار، والذي لم يكن الاحتلال العسكري أخطر أسلحته، بل الفكري والثقافي، ومحاولة إقناع المسلمين بأن الإسلام قد انتهى عصره، وأن التغريب هو حتمية التاريخ، وانخدع بذلك بعض أبناء المسلمين، فيمموا فكرهم ومنهجهم جهة الشرق والغرب, حتى تطبعت بعض ديار المسلمين وانطبع أهلها على نظام حياة بعيد عن الإسلام.
ولقد كان المأزق الحقيقي للأمة أن صار الإسلام بين عجز علمائه وجهل أبنائه، وهذه سنة الله في الأمم إذا ابتعدت عن كتاب ربها ومنهاجه، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
حتى إذا احلولك الظلام وأرخى سدوله على الأرض أو كاد أذن الله حينها بانفراج, ولعتمات الليل بنفس وانبلاج، فشهدت الأمة عودة صادقة لجموعها وانعطافة جادة لشبابها، فوصلوا من حبال دينهم مارث، وأحيوا في نفوسهم ما درس، فعمرت المساجد وأحييت السنن، وأقبل الشباب أفواجاً لطلب العلم، وقامت فريضة الجهاد بعدما كانت غائبة أو مغيبة، وظهرت عودة حميدة للدين في صفوف الأمة رجالاً ونساءً، شيباً وشباباً، في كل أنحاء العالم, بحمد الله تعالى.
وبقدر ما استبشر الصالحون والأخيار بهذه العودة العامة للدين، والتمسك بحبل الله المتين بقدر ما أغاضت الصحوة قلوب الكافرين والمنافقين، فقالوا: نزوة عما قليل تزول، أو تيار سيذهب ويحول، وسعوا في تثبيط شبابها ولمز شيوخها، وتشويه سيرتها ومسيرها، وأصبح انتشار ركاب الإيمان غصة في حلوق الشانئين، ومشكلة تؤرق الظالمين, إلا أن الله غالب على أمره, ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فقامت على سوقها واجتازت الحدود وتخطت السدود، وأصبحت هماً حقيقياً وخصماً صعب المراس لأعاديها، ولا خوف عليها فلديها من الأصالة والوعد الإلهي بالتمكين ما يؤهلها للبقاء بل للغلبة، وإنما الخطر المحدق، والهم المقلق والخوف منها عليها, ومن شمالها على يمينها.
أيها المسلمون، إن الإسلام كما يرزأ بأعدائه وشانئيه فإنه يرزأ أحياناً بأبنائه ومحبيه، وذلك إذا جفوا الصراط الأقوم، وحادوا عن السبيل الأهدى، فإليكم يا شباب الإسلام ممن انتظرتهم الأمة عقوداً في غفوتها، فطلعوا نجوماً زهراً في صحوتها، إليكم همسات مصحوبة بدعوات، وكلمات بالحب مقرنات, من فؤاد أقضه ما يرى من تجاوزات ومخالفات مما يمكن أن يعيق الخطا ويفرح العدا، ويجعل بأس المسلمين بينهم.
نقف مع الشباب وقفة أثارها وأجاشها وهيج شجونها ما أفرزته الأزمان المتأخرة من اختلاف في المناهج والرؤى واجتهاد من غير أهله وأحكام ورؤى غير واضحة، يذكي ذلك تقصير في الاستمداد من العلم الشرعي والعلماء وسعار من المستفزين لهم بفكرهم أوعملهم أو تسلطهم في ميدان الفسق أو الفكر المنحرف, إضافة إلى تسلط الأعداء واحتلال الأراضي ونهب الثروات, مما أفرز ردة فعل لم تضبط في بعض الأحيان بميزان العلم والعقل.
شباب الإسلام، إننا نرى أن الفصل في قضايا الشعوب ومعالجة الشؤون المصيرية للأمم عند أهل الأرض قاطبة تكون من اختصاص علمائها وشأن كهولها, ممن عركتهم الحياة وحنكتهم التجارب.
وفي غزوة بدر قال النبي لأصحابه: ((أشيروا علي أيها الناس)) فقام أبو بكر فتكلم, ثم قام عمر فتكلم, ثم قام المقداد بن عمرو فتكلم, ثم قام سيد الأنصار سعد بن معاذ فتكلم رضي الله عنهم أجمعين [1]. مع أن في الصحابة شباباً يدكون الجبال بعلمهم وفروسيتهم وفضلهم.
لكن ذلك توارى لدينا في واقعنا المعاصر فأصبح الحديث عن تلك القضايا ومعالجة تلك الشؤون كلأً مباحاً للشبان والشيب والعالم والجاهل, بل تجد من يتقحم في مسائل لو عرضت للفاروق لجمع لها أهل بدر, وأصبح الحديث عن القضايا الشرعية ومصائر الأمة ميداناً للعوام في الشريعة والصحافيين, وقد قال النبي في الاصطفاف للصلاة: ((ليلني منكم أولو الأحلام والنهى)) [2].
فالقضايا الكبرى كاستعداء بعض الأمم وجر الأمة إلى مواجهات غير متكافئة وتحديد ساح المعارك كل ذلك مما يجب أن تقف عنده جرأة الشباب وإقدامهم, وينتهي دونها بحثهم واجتهادهم, ويكلوا الأمر فيها للعلماء الربانيين الذين شابت لحاهم في الإسلام, وهم بعد ذلك معذورون أمام الله كما يعذرون في التاريخ.
نعم التاريخ الذي نقل إلينا أن إيقاف زحف التتر كان بتوجيه وحكمة العلماء الربانيين وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, فاقرؤوا التاريخ.
لقد آن للأمة أن تقتنع أن الحديث في المصائب والبث في القضايا الكبرى ليس كل أحد, فليس بالضرورة لمن برع في فن الوعظ والتأثير مثلاً أن يحسن الخوض في تلك الشؤون, وليس لمن أكرمه الله في البلاء في دروب الجهاد أن يحتكر توجيه الأمة في هذه القضايا.
إننا كما نذود عن تلك القضايا الجاهلين بالدين الكاشحين عنه والشانئين أهله فإننا أيضاً نذود المحبين له الراغبين في نصرته إذا توارى العلم والحلم خلف حجب من العواطف وقلة التجارب إذا نأت عن الموقف الشرعي الصحيح, وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ?لاْمْنِ أَوِ ?لْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لاْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]. وَلاَ تَسُبُّواْ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ فَيَسُبُّواْ ?للَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108].
شباب الإسلام، أبناءه ومحبيه، إن شريعة الإسلام كما جاءت بالسيف والرمح فقد جاءت بالرفق والنصح، وكما جاءت بمنازلة العدو فقد جاءت بالصبر على بلائه والكف عن إيذاءه ليس لذاته ولا كرامة، بل لمصلحة الإسلام والمسلمين في مواطن تعمل فيها الأدلة ويعرفها الراسخون في العلم.
ولقد اقتيد أبو جندل رضي الله عنه يرسف في قيوده يسوقه مشرك من أمام النبي وهو يصيح: أأرد أفتن. وأطيب الخلق يرى ويصبر؛ لأنه يعلم أن العاقبة خير, وهو ما حصل كما في صحيح البخاري.
وقبل ذلك كان الإسلام في فترته الأولى حين بدأ يشب ويترعرع بين الحجر ودار ابن الأرقم كان أتباعه القلة يتعرضون للأذى والبطش ولم يأمر أحد منهم بالرد, وإنما بالصبر فكانت الخيرة في اتباع هذا الأمر حتى حمد الصحابة عاقبتهم وقويت شوكتهم.
إن مراعاة حال المسلمين قوة وضعفاً قدرة وعجزاً ظهوراً وانحساراً معتبرة في جريان الأحكام أو النهي والإلزام والتأثيم وعدمه, ونحن بحاجة إلى إعداد وبناء, وصبر ودعاء, ودعوة أقوى والتجاء.
وأمام الشباب كثير من الواجبات والمسؤوليات في تسلسل تقتضيه السنن الربانية وتوجيه النصوص الشرعية, حتى تستعيد الأمة صدارتها, وتأخذ مكانها الريادي.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَ?صْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ?لَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [غافر:77].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الجهاد والسير، باب: غزوة بدر (1779).
[2] أخرجه مسلم في الصلاة (432).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي من اعتصم بحبله وفقه وهداه, ومن اعتمد عليه حفظه ووقاه, أحمده سبحانه وأشكره وأثنى عليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ومصطفاه, صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, ومن سار على نهجه وهداه, وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها المسلمون، دعوة إلى شباب الأمة وعماد مستقبلها, ياغرة في جبين الدهر, ويادرة في جبين الأمة, دعوة صادقة إلى الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح, دعوة إلى العلم الشرعي وإلى العلماء الربانيين.
إن وجود المثيرات واستفزاز الظالمين مع الحمية والغيرة للدين ليست عذراً لمخالفة الشريعة أو الخروج عن السنة في معالجة الأحداث والقضايا, إن الله تعالى تعبدنا باتباع شريعته وسنته لا باتباع الهوى والاجتهاد المخالف للنص، وفي صلح الحديبية كما في البخاري لما عاهد النبي كفار مكة على أمور منها: أن يخرج من غير عمرة إلا في العام القابل, وأن يرد من أتاه مسلماً من مكة إلى أهل مكة, وأن لا يردوا من أتاهم مرتداً, فلم يعجب ذلك عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وقال للنبي : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟! فلم نعطِ الدنية في ديننا, وجادل في ذلك, ثم ذهب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال له مثل ذلك, حتى قال له أبو بكر: إنه لرسول الله وليس يعصي ربه, وهو ناصره, فاستمسك بغرزه فو الله إنه على الحق، إلى أن تبينت العاقبة أن الخير كله كان فيما أمضاه النبي قال عمر بعد ذلك: فعملت لذلك أعمالا، أي: من الصالحات [1] ، لعل الله أن يكفر عن مجادلته تلك.
إذن لا مجال للاجتهاد مع النص ولو كان في ذلك خذل في الظاهر أو ألمٌ في الباطل، فإن الخير كل الخير في اتباع الدليل واطراح هوى النفوس.
أيها المسلمون، وإذا غاب العلم الشرعي أو غيِّب تحولت الطاقات إلى كوارث, ولست مدعياً أن ما ذكرته السبب الوحيد فيما ذكر, ولكن الإيراد للتنبيه على عظم وأهمية مرتبة العلم الشرعي في التأثير في المواقف.
ولما جادل ابن عباس رضي الله عنهما الخوارج بالعلم رجع منهم ثلاثة آلاف في موقف واحد.
وهاكم رعاكم الله قصة يتجلى فيها موقف العلم إزاء العاطفة رواها البخاري رحمه الله, وذلك عندما توفي النبي وماج الناس بين مصدق ومكذب, والعاطفة تقتضي الرغبة في عدم التصديق حتى قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد يهدد ويتوعد من يقول إن الرسول قد مات, وذلك لهول الفاجعة وعظم المصيبة، فجاء أبو بكر رضي الله عنه وعمر يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، من كان منكم يعبد محمد فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ?لرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ?نقَلَبْتُمْ عَلَى? أَعْقَـ?بِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى? عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ?للَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي ?للَّهُ ?لشَّـ?كِرِينَ [آل عمران:144]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: والله لأكن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها منه الناس، فما أسمع بشرا إلا يتلوها، قال عمر: والله ما هو ألا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي, وحتى أهويت على الأرض حينما سمعته تلاها، علمت أن النبي قد مات، رواه البخاري [2].
قال ابن حجر: "في الحديث قوة جأش أبي بكر وكثرة علمه، وانظر كيف سارع عمر بالرجوع وتخلى عن تلك العاطفة عندما بلغه النص الشرعي الفاصل".
[1] أخرجه البخاري في الشروط، باب: الشروط في الجهاد... (2734)، ومسلم في الجهاد والسير (1785).
[2] أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب: مرض النبي ووفاته (4454).
(1/2756)
فاعتبروا
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
1/7/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ما يصيب الأمة من بلايا ورزايا بسبب ذنوبها. 2- الاعتبار بقصة فرعون وعذاب الله له. 3- دعوة للاستقامة على دين الله وشريعته. 4- جرائم اليهود المتلاحقة على أرض فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، ما سر ما نعانيه من حقد في القلوب، وشحناء في الصدور، وفرقة في الصفوف؟ ما سر ما نعانيه من ضيق المعايش، ومن رفع البركة من الصدور؟
إذا أردتم أن تعلموا ذلك فاقرؤوا قول الله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، إن ما نعانيه من نقص في المعايش ومن شدة في المؤونة ومن سوء المعاملة، مرده أننا أعلنا الحرب على الله، وتذكروا ـ أيها المؤمنون ـ أن الله لا يحارب، ومن يعلن الحرب على الله فسوف ينتقم الله منه، اسمعوا قول الباري جل في علاه: وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِ?لسّنِينَ وَنَقْصٍ مّن ?لثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:130]، والسنين هي الأيام المجدبة الشديدة القهر، ويقول الإمام رجاء بن حيوة رضي الله عنه: (كانت النخلة لا تثمر في السنة إلا بلحة واحدة)، فمن الذي يملك الزرع والإنبات إلا الله؟ من الذي يملك الأمر كله إلا الله؟
فلماذا أخذهم الله بالسنين ونقص من الثمرات؟ لقولهم: وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [الأعراف:132]، كفر وعناد وإصرار على الكفر والإلحاد، قالوا لنبيهم: مهما تأتنا به من آية بمعنى أنهم لن يؤمنوا ولن يصدقوا، مهما فعلت فنحن مصرون كل الإصرار على عدم الإيمان بالواحد القهار، فكيف كانت سنة الله في معاملة المصرّين والمعاندين؟ انفتحت عليهم أبواب الغضب، فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والسيول التي تهلك الأخضر واليابس، والتي تهدم البيوت، والجراد هو أكثر جند الله تعالى إذا تحرك من قواعده وسارت أسرابه، فلا تقوى على القضاء عليه المدافع الثقيلة أو البعيدة المدى أو الدفاع الجوي، لأن الذي يحركه من قواعده هو الذي إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون، أكلت الزرع، وصيرت الأرض الخضراء صحراء جرداء.
تضرعوا إلى الكريم موسى عليه السلام قَالُواْ ي?مُوسَى ?دْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا ?لرّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْر?ءيلَ [الأعراف:134]، الله لا يحارب أيها المؤمنون، الله لا يخدع، لأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يريد الله أن يعامل العباد بمقتضى رحمته وعدله، يريد أن يعاملهم بالرحمة لهم يتذكرون فيرجعون، إنه سبحانه وتعالى قال لموسى وهارون: ?ذْهَبَا إِلَى? فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى? فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى? [طه:43، 44]، يقول الإمام العارف بالله قتادة رضي الله عنه: (إذا كان هذا عطفك بفرعون الذي قال: أَنَاْ رَبُّكُمُ ?لأَعْلَى? [النازعات:24]، فكيف يكون عطفك بعبد قال: سبحان ربي الأعلى، وإذا كان هذا عطفك بفرعون الذي قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرِى [القصص:38]، فكيف يكون عطفك بعبد قال: لا إله إلا الله).
عباد الله، إن فرعون وهو يعاني سكرات الموت بين أمواج البحر كان يقول: أغثني يا موسى، ولم يغثه موسى عليه السلام، وإذا برب العزة يقول لموسى: يا موسى لقد استغاث بك سبعين، مرة ولم تغثه، وعزتي وجلالي لو استغاث بي مرة واحدة، لوجدني قريباً مجيباً، ولكنه لم يقل: يا رب، بل إنه عندما قال: آمنت، لم يقل: آمنت بالله، إنما قال: ءامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـ?هَ إِلاَّ ?لَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْر?ءيلَ [يونس:90]، منعه كبرياؤه وصلفه وعناده أن يقول: آمنت أنه لا إله إلا الله، لم يرض أن يقولها أو ينطق بها، والكل يعلم أن لهذا الكون إلهاً حكيماً عليماً خالقاً ورازقاً.
وهناك ـ يا عباد الله ـ سلاح الجراثيم وما يعرف اليوم بالحرب البيولوجية، يقول المولى تبارك وتعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ?لطُّوفَانَ وَ?لْجَرَادَ وَ?لْقُمَّلَ [الأعراف:133]، والقمل حشرة خفيفة إذا ثارت بين الناس كانت موصلاً جيداً للطاعون والجرب، الطاعون والأمراض الجلدية، ملأ القمل فراشهم، فكانوا لا ينامون ليلاً، ثم بعد ذلك سلط الله عليهم سلاح الضفادع، فماذا فعلت؟ كان الواحد إذا وضع الطعام أمامه ليأكل تحول الطعام إلى ضفادع، امتلأت الآنية بالضفادع، فإذا رفع الطعام إلى فمه قفزت الضفادع إلى فمه فلا يستطيع الأكل، لا ينام ليلاً لأن الفراش مليئ بالقمل، لا يأكل نهاراً، لأن الطعام مليئ بالضفادع.
فماذا عن الشراب والماء؟ قال الله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ?لطُّوفَانَ وَ?لْجَرَادَ وَ?لْقُمَّلَ وَ?لضَّفَادِعَ وَ?لدَّمَ ، كان الواحد إذا رفع الماء إلى فمه ليشرب، وعندما يقترب الماء من فمه يتحول الماء إلى دم أحمر، سبحان الله، غفرانك يا رب العالمين، الماء يتحول إلى دم أحمر ءايَـ?تٍ مّفَصَّلاَتٍ فَ?سْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ [الأعراف:133]، ومع ذلك أعطاهم الله تبارك وتعالى فرصة لعلهم يتذكرون، فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ?لرّجْزَ إِلَى? أَجَلٍ هُم بَـ?لِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ [الأعراف:135]، ينقضون عهد الله تعالى، وليس عهد الله كبقية العهود ـ يا عبد الله ـ فماذا حدث بعد ذلك؟ لا بعد من فعل صارم، لا بد من أمر جازم وحازم، فَ?نتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـ?هُمْ فِي ?لْيَمّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِئَايَـ?تِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَـ?فِلِينَ [الأعراف:136]، التكذيب بآيات الله والغفلة عن ذكر الله بهما يأخذ اللهُ تعالى الأمم، أخذ عزيز مقتدر.
أرأيتم ـ يا عباد الله ـ كيف عاقب الله تبارك وتعالى الأمم الماضية، ونحن يجب علينا أن نعتبر ونتعظ ونتعلم، وأن لا نأمن مكر الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأعراف:99].
إذاً فلماذا انتشر الفساد بيننا؟ لماذا تسرب الفساد إلى مجتمعنا؟ بل انتشر بين الأفراد والأسر، كيف لا ونحن في أيام الفتن، فقد ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: ((أيما امرأة أدخلت على قوم من هو ليس منهم فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده، وهو ينظر إليه احتجب الله منه، وفضحه على رؤوس الخلائق في الأولين والآخرين)) [1].
لماذا هذا التسيب إياه الناس؟ إنني أقول هذا الكلام، لأن هناك عبثاً في البيوت، فالواجب علينا أن نتقي الله في أبنائنا وبناتنا، وأن نعلمهم الحلال من الحرام، إن الله تبارك وتعالى لم يبعث الرسل للتحريم أو التحليل فقط، إن الحلال والحرام بين، وإنما بعث الرسل ليُربّوا الناس حتى يراقبوا الله تبارك وتعالى.
اسمعوا أيها المؤمنون إلى هذا الرجل، وقد قدم له طعام ذات يوم، فقال لابنته: وهي السيدة رابعة رحمها الله ـ وكان لها من العمر ست سنوات ـ قال لها: يا رابعة تعالي لتأكلي فقالت: والله لا آكل حتى أعلم، أمن الحلال هو أم من الحرام، طفلة لم تتجاوز السادسة من عمرها، لكن قلبها معلق مع الله تبارك وتعالى، قال لها: يا رابعة، وإذا كان من الحرام، ولم نجد غيرها، فماذا أنت فاعلة؟ فماذا قالت التي تربت على معرفة الله تبارك وتعالى؟ قالت: يا أبتاه أصبر على جوع الدنيا خير من أن أصبر على عذاب النار يوم القيامة.
عباد الله، عسى الله تبارك وتعالى أن يغير حالنا إلى أحسن الأحوال، نحن في محنة عظيمة.
أيها الناس، ضاعت الأخلاق، وضاعت الأرزاق، قولوا للقائمين على التربية: إن الأخلاق في انحدار، وقد طغى الشباب، وفسدت الفتيات، فتن كقطع الليل المظلم، يبيت الحليم منها حيران، وقد صار الحليم حيران، وقد جلس القاضي حيران، اللهم سلم يا رب العالمين.
أيها المصلحون، انظروا إلى الأمة بعين الرعاية والعناية، انظروا إليها بعين الإسلام، اتقوا الله تبارك وتعالى، فقد كفى ما كان، فقد طال بنا زمن العصيان، فحالنا لا يرضى به الواحد الديان.
وأنتم أيها المرابطون، حافظوا على دينكم، وحافظوا على مسجدكم، مظاهر الفساد انتشرت في مدينتنا المقدسة، فبعض التجار عندنا لا يأتون لأداء صلاة الجمعة إلا بعد انتهاء الخطبة، حرصاً منهم على البيع والشراء، أعيدوا هيبة هذه المدينة المقدسة، حافظوا على الصلوات في المسجد الأقصى المبارك، تناصحوا في الله، لماذا أصبح الواحد منا يسير في بيت المقدس، وكأنه يسير في بد أجنبي!! أصوات الآذان في الشوارع، والنساء كاسيات عاريات، حفلات صاخبة محرمة، معاملات ربوية، إدمان على المخدرات، مشاكل كثيرة جراء المعاملات الفاسدة، نصب واحتيال، وعلى مستوى رفيع، ثم بعد ذلك نتوجه إلى الله تعالى أن ينصرنا على أعدائنا!
حقاً ـ يا عباد الله ـ للمسلم أن يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء وطلب النصر على الأعداء، ولكن متى؟ عندما تكون القلوب طاهرة، وعندما تكون الأيدي متوضأة، بعد التوبة والإخلاص والعمل الصالح، وتذكروا أن الخلاص من كل ذلك في خطوة واحدة في قوله تبارك وتعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ?لنَّفْسَ عَنِ ?لْهَوَى? فَإِنَّ ?لْجَنَّةَ هِىَ ?لْمَأْوَى? [النازعات:40، 41].
ربنا عليك توكنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير.
عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى بالدعاء، وادعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: التغليظ في الانتفاء (2263)، والنسائي في الطلاق، باب: التغليظ في الانتفاء من الولد (3481)، وابن ماجه في الفرائض، باب: من أنكر ولده (2743)، والدارمي في النكاح، باب: من جحد ولده وهو يعرفه (2238)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4108)، والحاكم (2/202-203).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي قدم نبينا صلى الله عليه وسلم على كل نبي أرسله، وفضل كتابنا على كل كتاب أنزله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه الله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله القائل: ((ثلاثة لا ترى أعينهم النار يوم القيامة: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين كفت عن محارم الله)) [1] ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على هديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون، استباحة الأرض الفلسطينية أمام قوات الاحتلال، وإطلاق يدها تعيث في الأرض فساداً وقتلاً واغتيالاً وتدميراً ليس بالأمر الجديد المفاجئ لشعبنا المسلم المرابط الصابر المبتلى، فمن يتتبع الاحتلال يرى أن السياسة الإسرائيلية والنهج الصهيوني المبرمج كانا يتحينان الفرص وينتهزان حالات وقف إطلاق النار أو ما يسمى الهدنة لتعاود عدوانها من جديد ضد أمتنا وشعبنا، فمن خلال حروب عام 1948م والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956م وحرب عام 1967م والاجتياح لجنوب لبنان عام 1982م كانت إسرائيل تخترق وقف إطلاق النار والقرارات المتعلقة بما يسمى بالهدنة، وتمكنت من مصادرة الأرض العربية الإسلامية وأقامت المستعمرات، وحولت مياه نهر الأردن، وأقامت ما يسمى بالجدار الطيب في جنوب لبنان، وخط بارليف على قناة السويس، هذه الإجراءات والممارسات كانت وفق النهج الصهيوني تهدف إلى بث النفوذ والسيطرة وفرض سياسة الأمر الواقع، مدعومة بقوى الاستعمار، وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا.
ومع ذلك، فإن إسرائيل لم تتعظ من الحروب السابقة التي خاضتها مع أمتنا العربية، فقد تهاوى خط بارليف، وتلاشى الجدار الطيب، وأكدت الحروب السابقة أن الأمن لن يتحقق من خلال فوهات البنادق، وأن السلام لن يتحقق مع الاحتلال، وأن كل خطوط الدفاع تتهاوى وتسقط أمام قوى الإيمان.
لقد قلنا من على هذا المنبر الشريف في خطبة سابقة، ومن منطلق إيماني، ومن رؤيا صائبة بمجريات الأحداث: إن الهدنة الظالمة التي فرضت على شعبنا لن تدوم طويلاً، ولن يكتب لها النجاح، فإسرائيل خرقت الهدنة مراراً وتكراراً وبأعمال لا تعد ولا تحصى من اغتيالات واعتقالات وتصفيات، واستمرار وتقطيع أوصال الأرض الفلسطينية وإقامة ما يسمى الجدار الآمن، ومصادرة الأرض لفتح طرق التفافية وأنفاق جديدة.
وبدلاً من إقامة الحواجز العسكرية فحسب، فقد تم جعلها نقاط تفتيش وعبور دائمة مزودة بأجهزة الكترونية تزيد من معاناة شعبنا الصامد المرابط دون أن يحرك العالم ساكناً، دون احتجاج من أمتنا على الوضع المأساوي المؤلم، فما من أحد يقول: كفاكم ظلماً وعدواناً.
هذا ـ يا أيها المسلمون ـ هو واقع شعبنا المسلم في الضفة الغربية وقطاع غزة، أما في مدينتنا المقدسة والتي أضعنا هيبتها وقداستها بأنفسنا ـ وللأسف ـ، فإن إسرائيل تنتهج أيضاً سياسة مبرمجة تهدف إلى تهجير أبناء القدس عن طريق فرض الضرائب الباهظة، ومنع البناء، وهدم المنازل، وشراء العقارات بوساطة أصحاب النفوس الخبيثة، وبطرق ملتوية ومشبوهة، وبزجِّها بالمستوطنين، واستمرار سياسة الإذلال أمام مكاتب الداخلية والتأمين الوطني، وتشويه سمعة المقدسيين في الصحف الإسرائيلية، والتغاضي عن مسئولي الداخلية، عن حالات الإبتزاز والرشاوى تاركة المجال أمام بعض المحامين المرتشين وبعض الزُعْران ـ أي التافهين ـ والمتساقطين من العبث بكرامة المواطن واستقراره وحرصه على مواطنته في مدينة القدس الشريف والنبيل من سمعته وشرفه.
أيها المسلمون، إن محاولات المتطرفين اليهود تأدية صلواتهم في باحات المسجد الأقصى المبارك تعتبر وصمة عار في جبين الأمة بأسرها، ولهذا نحذر دائماً وبشكل مستمر من ابعاد وأهداف هذه المحاولات تجاه هذا المسجد المبارك، والتعرض للمسؤولين والعاملين في المسجد الأقصى والمبارك ونقولها مدوية: "إن المسجد للمسلمين وحدهم، ولن نسمح لأيٍ كان من تأدية شعائرهم في مسجدنا "، فمسجدنا جزء من عقيدتنا، والمسلمون وحدهم هم أصحاب القرار فيه مهما كلف الثمن.
ومن هنا وباسم جميع المسلمين نستنكر وبشدة ما تقوم بها قوات الاحتلال من منع المسلمين دخول المسجد الأقصى المبارك، والسماح وبالقوة للمستوطنين والمتطرفين الدخول إلى ساحاته، فأنتم يا سلطات الاحتلال تقومون بمنع المصلين المسلمين من تأدية صلوات الجمعة في المسجد الأقصى المبارك، ألا تخافون من الله؟ ألا تخشون أن يخسف الله بكم الأرض؟ ألا تخافون من الله أن يسلط عليكم ما سلطه على الأمم السابقة من أصناف العذاب؟ كفاكم ظلماً وعدواناً.
عباد الله، إن المفاجئ والمؤلم أن يمتد الخلاف إلى داخل الصف الفلسطيني، والواجب علينا أن نكون صفاً واحداً أمة واحدة تحت راية واحدة، نحكم بدستور الإسلام، فقرآننا واحد، وعقيدتنا واحدة، ونبينا واحد، وشريعتنا واحدة.
وتذكروا أن الشقاق والنزاع والخصام يضعف الأمم القوية، ويميت الأمم الضعيفة، فالعدو لا يتمكن منا، ما دمنا متحدين، ما دمنا مجتمعين يداً واحدة، واحذروا كل الحذر من الاقتتال الداخلي، فإن حصل لا قدر الله فهو نهاية وجودكم، ولن يرحمكم الله تبارك وتعالى: وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:46]، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
[1] أخرجه الطبراني في الكبير (19/416)، من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب (2/159): "ورواته ثقات إلا أبا الحبيب العنقري لا يحضرني حاله". وقال الهيثمي في المجمع (5/288): "وفيه أبو حبيب العنقري ويقال القنوي ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات". والحديث له شواهد من حديث أبي هريرة بمعناه.
(1/2757)
يا باغي الخير أقبل – البدع في رجب
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
1/7/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من رحمة الله بهذه الأمة أن نوع لها طرق الخيرات. 2- يثاب المسلم على كل عمل أخلص فيه سواء كان من العبادات البدنية أو القلبية.3- فضائل وثواب: الشهادتان، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج، الصدقة، مساعدة المكروب، الشفاعة الحسنة، تربية الأبناء، الإحسان على اليتيم، الإصلاح بين الناس. 4- النية الصالحة في الخير تقوم مقام فعله إذا عجز عنه. 5- فضيلة شهر رجب المحرم لا تبرر إحداث عبادات خاصة بهذا الشهر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله، إن من رحمة الله بهذه الأمة أن نوع لها طرق الخيرات، ويسر لها ذلك، ورتب على هذه الأعمال الصالحة ثواباً عظيماً في الدنيا والآخرة.
أيها المسلم، فأنت على خير في أقوالك وأعمالك الصالحة، بل أعمال القلوب تثاب عليها، نطق اللسان عمل الجوارح كل ذلك تثاب عليه بأنواع من الأعمال الصالحة، فإذا عجزت من نوع قدرت على نوع آخر، ومن وفق لاستكمال الخير فذاك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، يقول ربنا جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?رْكَعُواْ وَ?سْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَ?فْعَلُواْ ?لْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77]، ويقول ربنا جل وعلا: فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى? الله مَرْجِعُكُمْ [المائدة:48]، ويقول ربنا جل وعلا: وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133].
أيها المسلم، فواجبات الإسلام سواء الواجبات العينية أو الكفائية أو الأمور المستحبة كل هذه الأعمال يثاب العبد عليها على فعلها مع النية الصالحة، وكلما حسنت النية وعظم القصد زاد الثواب عند ربنا جل وعلا: مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160]، ذاك فضل الله على هذه الأمة المحمدية، فاشكروا الله على نعمته، وتسابقوا لفعل الخير لعلكم تفلحون.
أيها المسلم، أركان الإسلام الخمسة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، هذه هي أركان الإسلام دعائم الإسلام، لا يصح إسلام عبد إلا باستكمال هذه الأركان كلها.
فأولها تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله كلمة التوحيد لا إله إلا الله، هي أعلى شعب الإيمان كما قال : ((الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله)) [1] ، كلمة التوحيد من قالها في يوم عشر مرات كان كمن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، من قالها في يوم مائة مرة كان له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ورفعت له مائة درجة وحطت عنه مائة خطيئة، من صلى على نبينا صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً.
الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، في الحديث الآخر: ((مثل الصلوات الخمس كمثل نهر غمر بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟)) قالوا: لا يا رسول الله، قال: ((فكذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا والسيئات)) [2].
أيها المسلم، أداؤك للزكاة ركن من أركان دينك، ومع أدائك لها فلك من الله الثواب العظيم خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَو?تَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ [التوبة:103]، وما نقص صدقة من مال بل تزده.
صومك لرمضان وقيامك ليله من أسباب تكفير الذنوب ورفع الدرجات، ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [3] ، ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [4] ، ((الصوم لي وأنا أجزي به)) [5].
حجك لبيت الله ((من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) [6].
أيها المسلم، وكل واجبات الإسلام فإنها صدقة منك على نفسك وثواب مدخر لك يوم لقاء ربك، أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة منك على نفسك، كما قال : ((وأمرك بالمعروف صدقة ونهيك عن المنكر صدقة)) [7].
برّك بوالديك وإحسانك إليهم صدقة منك على نفسك مع كونه أمراً شرعياً واجبا عليك، صلتك لرحمك عملٌ صالح وإحسان منك إلى نفسك مع أنه أمر مطلوب منك شرعاً (( من أحب أن ينسأ له في أجله ويبسط له في رزقه فليصل ذا رحمه)) [8].
أيها المسلم، تفريج كرب المكروب وهم المهموم وقضاؤك لحاجة أخيك كلها أعمال صالحة صدقة منك على نفسك، وثوابٌ مدخر لك يوم القيامة، ((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)) ، ((من فرّج عن مسلم كربةً من كرب الدنيا فرَّج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة)) ، ((ومن ستر مسلماً في الدنيا ستره الله في الدنيا والآخرة)) [9].
أخي المسلم، عيادتك للمريض واتباعك للجنازة ونصرك للمظلوم وإفشاؤك السلام وإجابة دعوة أخيك وإبرار قسمه إن أقسم أعمال صالحة وهي حقوق للمسلم على المسلم، ولها ثواب عند الله.
أخي المسلم، معاشرتك لامرأتك مع النية الصالحة عملٌ صالح وصدقة منك على نفسك، ولذا يقول : ((وفي بضع أحدكم صدقة)) قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: ((أرأيتم لو وضعها في الحرام كان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) [10].
أخي المسلم، شفاعتك لأخيك عند احتياجه إلى شفاعتك عمل صالح وصدقة منك على نفسك مَّن يَشْفَعْ شَفَـ?عَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا [النساء:85]، وفي الحديث: ((اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء)) [11].
أيها المسلم، كل هذه الأعمال الصالحة متى عملتها بنية صادقة فاظفر من الله بالثواب العظيم، إن عاجلاً أو آجلاً، وقد يجمع الله لك بين ثوابي الدنيا والآخرة.
أخي المسلم، نفقتك على البنات وإحسانك إليهن صدقة منك على نفسك ((من عال جاريتين حتى تبلغا كنت أنا وهو في الجنة كهاتين)) [12].
إكرامك اليتيم وإحسانك إليه عمل صالح، وفي الحديث عنه : ((أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)) [13].
أيها المسلم، نفقتك على زوجتك وعلى ولدك مع النية الصالحة صدقة منك على نفسك، يقول لسعد بن أبي وقاص: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تضع في فِيّ امرأتك)) [14] وفي الحديث لما عد النبي الدنانير ذكر أفضلها: ((ديناراً أنفقه المسلم على ولده)) [15].
أيها المسلم، تربيتك للأولاد وعنايتك بأخلاقهم وأعمالهم إلى أن يستقيموا على الخير ويسلكوا الطريق المستقيم صدقة منك على نفسك وعمل صالح يجري لك بعد موتك، في الحديث ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعوا له)) [16].
أيها المسلم، إنفاقك من مالك الطيب مع النية الصالحة ثوابه عظيم وإن قلت النفقة، في الحديث عنه : ((من تصدق ولو بعدل ثمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتلقاها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي فلوه حتى تكون مثل الجبل العظيم)) [17] ، والله يقول: مَّثَلُ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَ?للَّهُ يُضَـ?عِفُ لِمَن يَشَاء وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].
أخي المسلم، حلمك على الجاهل وإعراضك عن السفيه وتحمل ذلك ثواباً عظيماً ?دْفَعْ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ?لَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ [فصلت:34، 35].
خُذِ ?لْعَفْوَ وَأْمُرْ بِ?لْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ ?لْجَـ?هِلِينَ [الأعراف:199]. إماطتك الأذى عن طريق المسلمين صدقة منك على نفسك كما في الحديث: ((وتميط الأذى عن الطريق صدقة)) [18].
إصلاحك بين الخصمين ولا سيما الأقرباء وسعيك في التوفيق بينهم وتضييق شقة الخصام بينهم صدقة منك على نفسك، وفي الحديث: ((أن تعدل بين اثنين صدقة)) [19].
أيها المسلم، النبي لما ذكر فضل إعتاق الرقاب ومن عجز عنها قال: ((تعين صانعا أو تصنع لأخرق)) [20] ، فجعل إعانة المسلم العاجز عن بعض أموره صدقة منك على نفسك.
أخي المسلم، نيتك الصادقة في قلبك تبلغك مبلغ الأعمال مبلغ العاملين، يقول يوم تبوك: ((إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا نزلتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر)) [21] ، ولذا قال الله: وَلاَ عَلَى ?لَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ?لدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ [التوبة:92].
ولما ذكر رسول الله : ((من أعطاه الله المال والعلم فهو يعمل في ماله بعلمه يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقا واجبا، وإن هذا لأعلى المنازل)) وذكر الآخر الذي ((أعطاه الله العلم ولم يعطه المال، فهو يتمنى مال الأول ليعمل مثل عمله)) قال النبي : ((فهو بنيته، فهما في الأجر سواء)) [22].
والله لا ينظر إلى صورنا وأموالنا ولكن ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا، فكم من قلب مقتد بالخير حريص على كل خير لا يمنعه سوى عجز مالي أو عجز بدني، والله يعلم ما انطوت عليه قلوب العباد، ولو صدقوا لله لكان خيراً لهم.
أيها المسلم، فميادين الخير كثيرة وطرق الخير عديدة، فإياك أن تزهد في القليل، فمن أعطى القليل أعطى الكثير، في الحديث يقول : ((لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)) [23] وقال: ((كل معروف صدقة)) [24] ، وفي الحديث عنه : ((أربعون خصلة: أعلاها منيحة العنز، من عمل بواحدة منها تصديقاً لثوابها ورجاء لموعدها إلا أدخله الله الجنة، ولا يهلك على الله إلا هالك)) [25].
فاستبقوا الخيرات وتنافسوا في الأعمال الصالحات، وربنا يقول وهو أصدق القائلين: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ?لنَّاسُ أَشْتَاتاً لّيُرَوْاْ أَعْمَـ?لَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:6-8].
بغي من بغايا بني إسرائيل مرت بكلب يلهث عند بئر، فنزلت وملأت موقيها من الماء، فسقت الكلب، فشكر الله لها فغفر لها، قالوا يا رسول الله: ألنا في البهائم من أجر؟ قال: ((إن في كل كبد رطبة أجر)) [26].
فسارع إلى فعل الخير واغتنم أي عمل صالح تقدر عليه فلن يضيع عند الله شيئاً، أعمال صالحة مدخرة، فاحرص على التزود من صالح العمل. أسأل الله أن يعين الجميع على كل خير، وأن يهدينا صراطه المستقيم، وأن ييسر لنا فعل الخيرات، ويعيننا عليها فضلاً منه وكرما، والله ذو الفضل العظيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها (50 ).
[2] أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا (1072 ).
[3] أخرجه البخاري في الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان (36 )، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (1266).
[4] أخرجه البخاري في الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان (36 )، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (1267).
[5] أخرجه البخاري في الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم (1771)، ومسلم في الصيام، باب فضل الصيام (1944).
[6] أخرجه البخاري في الحج، باب قول الله تعالى فلا رفث (1690)، ومسلم في الحج، في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (2404).
[7] أخرجه أحمد (8004)، ومسلم بنحوه في صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى...( 1181).
[8] أخرجه البخاري في البيوع ، باب من أحب بسط الرزق (2067 ) ، ومسلم في البر والصلة ، باب صلة الرحم (2557 ) بلفظ (( من سره )).
[9] أخرجه البخاري في المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلم المسلم (2442 )، ومسلم في البر والصلة، باب تحريم الظلم (2580 ) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما, لكن بلفظ (( ستره الله يوم القيامة ))، أما (( ستره الله في الدنيا والآخرة )) فهو حديث آخر أخرجه مسلم في الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن (2699 ) عن أبي هريرة.
[10] أخرجه مسلم في الزكاة، باب أن اسم الصدقة يقع على كل نوع (1674).
[11] أخرجه البخاري في الزكاة، باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها (1342 ).
[12] اخرجه الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في النفقة على البنات والأخوات (1837)، ومسلم بنحوه في البر والصلة والآداب، باب فضل الإحسان إلى البنات (4765).
[13] أخرجه الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في رحمة اليتيم وكفالته (1841)، ومسلم بنحوه في الزهد والرقائق، باب الإحسان إلى الأرملة والمساكين واليتيم (5296).
[14] أخرجه البخاري في الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة (54)، ومسلم في الوصية، باب الوصية بالثلث ( 3076).
[15] أخرجه مسلم في الزكاة، باب فضل النفقة على العيال والمملوك (994).
[16] أخرجه مسلم في والوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631).
[17] أخرجه البخاري في الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب (1410)، ومسلم في الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها (1014).
[18] أخرجه مسلم في الزكاة، باب أن اسم الصدقة يقع على كل نوع... (1009).
[19] أخرجه مسلم في الزكاة، باب أن اسم الصدقة يقع على كل نوع... (1009).
[20] أخرجه البخاري في العتق، باب أي الرقاب أفضل (2518)، ومسلم في الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الإعمال (84).
[21] أخرجه البخاري في الجهاد والسير، باب من حبسه العذر عن الغزو (2839)، ومسلم في الإمارة، باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر (1911).
[22] أخرجه أحمد (17563)، وابن ماجه في الزهد، باب النية (4228).
[23] أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء (2626).
[24] أخرجه البخاري في الأدب، باب كل معروف صدقة (6021)، ومسلم في الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع (1005).
[25] أخرجه البخاري في الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب فضل المنيحة (2631).
[26] أخرجه البخاري في المساقاة، باب فضل سقي الماء (2363)، ومسلم في السلام، باب فضل سقي البهائم المحترمة وإطعامها (2244).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، أيها المسلم، طرق الخير عديدة والأعمال الصالحة كثيرة، والموفق من وفقه الله لفعل الخير.
أخي المسلم، وعندما تعجز عن الخير، وتضعف نفسك عنه: إما عجزاً أو كسلاً فاحرص أن تكف عن الناس أذاك، احرص على أن يسلم الناس من شر لسانك ومن شر يدك، احرص أن لا تكون عونا للإجرام وأهله، فالنبي لما ذكر طرق الخير لأحد الصحابة ويبدي عند كل طريق عجزه قال: ((تمسك عن الشر، فذاك صدقة منك على نفسك)) [1] ، فإذا عجزت من فعل الخيرات فلا تعجز من أن تكف عن فعل السيئات وتمتنع من أذى المسلمين، ((فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم)) [2] ، فكفك الأذى وامتناعك عن الأذى وإعراضك عن إلحاق الضرر بالمسلمين صدقة منك على نفسك، فإما خيراً تفعله، وإما تكف عن الشر، وتترك المشاة وشأنهم وتشتغل بما ينفعك وتلهو بذلك عن تتبع عيوب الناس والاشتغال بما يضرهم أو السعي بينهم بالنميمة أو اغتيالهم أو رميهم بما هم برآء منه فأمسك لسانك عما لا ينفع.
((وهل يكب الناس على وجوههم ـ أو قال ـ على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)) [3]. وكم كلمة قالت لصاحبها دعني، وكم من كلمة أوبقت صاحبها في عذاب الله.
أيها المسلم، هذا شهر رجب أحد الأشهر الحرم، هذا الشهر هو أحد الأشهر الحرم الذي قال الله فيها: إِنَّ عِدَّةَ ?لشُّهُورِ عِندَ ?للَّهِ ?ثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـ?بِ ?للَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ?لسَّم?و?ت وَ?لأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة:36]، وقول النبي : ((ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)) [4].
ليس لهذا الشهر خصوصية بعمرة تؤدى فيه، ولا بصيام بعض أيامه، ولا بإحياء بعض لياليه، ولا بصدقة لأجل الشهر، كل هذه الأمور لا أصل لها في الشرع، فلا يشرع لنا أن نعتقد أن عمرة في رجب لها مميزات عن غيرها، ولا أن نعتقد أن صيام بعضه أو كله أو أحد لياليه لها فضل على غيرها، ولا نعتقد أن قيام بعض ليالي الشهر أو ليلة أو كل لياليه لها فضل، ولا أن صيام بعض أيامه لها فضل، فلا صيام لأي يوم رجب متميز عن غيره، ولا قيام أي ليلة من ليالي رجب متميزة عن غيرها من الليالي، ولا عمرة في رجب ولا صدقة في رجب.
كل هذه الأمور لا دليل عليها من كتاب الله ولا من سنة رسول الله ، ولو كان خيراً لسبقنا إليه محمد وصحابته الكرام.
إذن فمن خص رجب بعمرة فيه أو خصه بصيام بعض أيامه أو خصه بإحياء بعض لياليه أو خصه بصدقة فيه زاعماً بأن لها فضلاً عن سائر الشهور، فنقول هذا من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان.
[1] أخرجه أحمد (20989)، والبخاري بنحوه في العتق (2518)، ومسلم في الإيمان (84).
[2] أخرجه البخاري في الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (10)، ومسلم في الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل (40).
[3] أخرجه الترمذي في الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة (2616)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجة في الفتن، باب كف اللسان في الفتنة (3973).
[4] أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أرضين (3197).
(1/2758)
وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ
العلم والدعوة والجهاد, قضايا في الاعتقاد
الاتباع, التربية والتزكية
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
8/7/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الطريق إلى الله واحد, وطرق الباطل مختلفة. 2- كل سبيل يوصل إلى رضوان الله فهو من الطريق إليه. 3- من رحمة الله بعباده أن نوع لهم سبل الخير الموصلة إليه تبعاً لاختلاف قدراتهم ورغباتهم. 4- من الناس من وفقه الله للجمع بين سبل الخير كلها. 5- كل من ذاق حلاوة الإيمان ثم استبدلها بشهواته أعرض الله عنه وشقي في الدنيا والآخرة. 6- إذا أحب الله عبداً أشرقت له دنياه وأخراه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله وراقبوه، واذكروا أنكم موقوفون بين يديه يَوْمَ يَنظُرُ ?لْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [النبأ:40]، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ?لإِنسَـ?نُ مَا سَعَى? [النازعات:35]، يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ?لإِنسَـ?نُ وَأَنَّى? لَهُ ?لذّكْرَى? [الفجر:23].
أيها المسلمون، إنه إذا كانت سبل الباطل وطرقه كثيرة لا تكاد تحصر فإن الطريق إلى الله تعالى في الحقيقة واحد لا تعدد فيه، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه موصلاً لمن سلكه إليه وإلى رضوانه وجناته، كما قال سبحانه: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]. فوحد سبيله لأنه في نفسه واحد لا تعدد فيه, وجمع السبل المخالفة له لأنها كثيرة متعددة، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده والدارمي في سننه بإسناد حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي خط خطًا مستقيًا ثم قال: ((هذا سبيل الله)) ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله ثم قال: ((هذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)) ثم قرأ: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ الآية [1].
فالطريق إلى الله أيها الإخوة واحد؛ لأنه سبحانه الحق المبين، والحق واحد مرجعه إلى واحد، وأما الباطل والضلال فلا ينحصر، بل كل ما سواه باطل، وكل طريق إلى الباطل فهو باطل.
وأما ما يقع في كلام أهل العلم من أن الطريق إلى الله متعددة متنوعة وأن الله جعلها كذلك لتنوع الاستعدادات واختلافها رحمة منه وفضلاً فهو قول صحيح أيضًا، لا ينافي وحدة الطريق إليه, وبيان ذلك كما قال العلامة الإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله: "أن الطريق واحدة جامعة لكل ما يرضي الله، وما يرضيه متعدد متنوع، فجميع ما يرضيه طريق واحد، ومراضيه متعددة متنوعة بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال، وكلها طرق مرضاته، فهذه هي التي جعلها الله سبحانه برحمته وحكمته كثيرة متنوعة جدًا، لاختلاف استعداد العباد وقابلياتهم, ولو جعلها نوعًا واحدًا مع اختلاف الأذهان والعقول وقوة الاستعدادات وضعفها لم يسلكه إلا واحد بعد واحد، ولكن لما اختلفت هذه الاستعدادات تنوعت الطرق، ليسلك كل امرئ إلى ربه طريقًا يقتضيه استعداده وقوته وقبوله.
ومن هنا يعلم تنوع الشرائع واختلافها مع رجوعها كلها إلى دين واحد، مع وحدة المعبود ووحدة دينه، ومنه الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((الأنبياء إخوة لعلاّت، أمهاتهم شتى ودينهم واحد)) [2] ، فأولاد العلات من كان والدهم واحدًا وأمهاتهم متعددة، فشبه صلوات الله وسلامه عليه دين الأنبياء بالأب الواحد، وشبه شرائعهم بالأمهات المتعددة، فإنها ـ أي هذه الشرائع ـ وإن تعددت فمرجعها لأب واحد.
وإذا تقرر هذا فمن الناس من يكون العلم والتعليم سيد عمله وطريقه إلى الله، قد وفر عليه زمانه مبتغيًا به وجه الله، فلا يزال كذلك، عاكفًا على طريق العلم والتعليم, عاملاً بما علم, حتى يصل من تلك الطريق إلى الله، أو يموت في طريق طلبه، فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته, كما قال سبحانه: وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَـ?جِراً إِلَى ?للَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ?لْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ?للَّهِ الآية [النساء:100].
ومن الناس من يكون الذكر وتلاوة القرآن سيد عمله، هو الغالب على أوقاته، قد جعله زاده لمعاده، ورأس ماله لمآله، فمتى فتر عنه أو قصر رأى أنه قد غبن وخسر.
ومن الناس من يكون سيد عمله الصلاة، فمتى قصر في ورد منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها، أو مستعد لها أظلم عليه قلبه، وضاق صدره.
ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي، كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفان وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا وسلك منه طريقه إلى ربه.
ومن الناس من يكون طريقه الصوم فهو متى أفطر تغير قلبه، وساءت حاله.
ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد فتح الله له فيه, ونفذ منه إلى ربه.
ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ منه الحج والاعتمار.
ومنهم الجامع لتلك المنافذ، السالك إلى الله في كل واد، الكادح إليه من كل طريق، فهو قد جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه، ونصب عينه، يؤمها أين كانت، ويسير معها حيث سارت، قد ضرب مع كل فريق بسهم، فأين كانت العبودية وجدته، إن كان علم وجدته مع أهله، أو جهاد وجدته في صفوف المجاهدين، أو صلاة وجدته في القانتين، أو ذكر وجدته في الذاكرين، أو إحسان وجدته في زمرة المحسنين، أو محبة ومراقبة وإنابة إلى الله وجدته في زمرة المحبين المنيبين، يدين بدين العبودية أنى استقلت ركائبها، ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها، لو قيل له: ما تريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفذ أوامر ربي حيث كانت، وأين كانت، جالبة ما جلبت، مقتضية ما اقتضت، جمعتني أو فرقتني، ليس لي مراد إلا تنفيذها، والقيام بأدائها, مراقبًا له فيها، عاكفًا عليه بالروح والقلب والبدن، قد سلمت إليه المبيع منتظرًا منه تسليم الثمن، إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ [التوبة:111].
فهذا يا عباد الله، هو العبد السالك إلى ربه النافذ إليه حقيقة نفوذًا يتصل به قلبه، ويتعلق به تعلق المحب التام المحبة بمحبوبه، فيسلو به عن جميع المطالب سواه، فلا يبق في قلبه إلا محبة الله ومحبة أمره، فكانت عاقبة ذلك أن قربه ربه واصطفاه، وأخذ بقلبه إليه وتولاه في جميع أموره، في دينه ومعاشه، وتولى تربيته أحسن وأبلغ مما يربي الوالد الشفيق ولده، فإنه سبحانه المقيم لكل شيء من المخلوقات، طائعها وعاصيها، فكيف تكون قيوميته بمن أحبه وتولاه, وآثره على ما سواه, ورضيه به من دون الناس ربًا وحبيبًا ووكيلاً وناصرًا ومعينًا وهاديًا، فلو كشف الغطاء عن ألطافه وبره وصنعه له من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبه محبة له، وشوقًا إليه، وشكرًا له.
ومن ذاق شيئًا من ذلك، وعرف طريقة موصلة إلى الله ثم تركها، وأقبل على إراداته وراحاته ولذاته ونزواته وقع في آثار المعاطب، وأودع قلبه سجن المضايق، وعذب في حياته عذابًا لم يعذب به أحد من العالمين، فحياته عجز وغم وحزن، وموته كدر وحسرة، ومعاده أسف وندامة، قد فرط عليه أمره، وتشتت عليه شمله، يستغيث فلا يغاث، ويشتكي فلا يُشكى، قد رحلت أفراحه وسروره مدبرة، وأقبلت آلامه وأحزانه وحسراته، قد أبدل بأنسه وحشة, وبعزه ذلاً، وبغناه فقرًا.
ذلك بأنه عرف طريقه إلى ربه ثم تركها ناكبًا عنها، مكبًا على وجهه، فأبصر ثم عمي، وعرف ثم أنكر, وأقبل ثم أدبر، ودعي فما أجاب، وفتح له فولى ظهره الباب، قد ترك طريق مولاه وأقبل بكليته على هواه، فلو نال بعض حظوظه، وتلذذ براحاته فهو مقيد القلب عن انطلاقه في فسيح التوحيد، وميادين الأنس، ورياض المحبة وموائد القرب، قد انحط لاعراضه عن إلهه الحق أسفل سافلين، وإعراض الكون عنه إذا أعرض عن ربه حائل بينه وبين مراده، فهو قبر يمشي على الأرض، روحه في وحشة من جسمه، وقلبه في ملال من حياته، يتمنى الموت ويشتهيه ولو كان فيه ما فيه، حتى إذا جاءه الموت على تلك الحال ـ عياذًا بالله من ذلك ـ فلا تسل عما يحل به من العذاب الأليم؛ لوقوع الحجاب بينه وبين مولاه الحق, فهذه عاقبة إعراضه وإيثار شهوته وشطحاته على مرضاة ربه.
فمن أعرض عن الله بالكلية ـ يا عباد الله ـ أعرض الله عنه بالكلية، ومن أعرض الله عنه لزمه الشقاء والبؤس والنحس في أعماله وأحواله، وقارنه سوء الحال وفساده في دينه ومعاشه.
فالمحروم كل المحروم إذن هو من عرف الطريق إليه ثم أعرض عنها، أو وجد بارقة من حبه ثم سلبها، ولم ينفذ إلى ربه منها، لا سيما إذا مال بتلك الإرادة إلى شيء من اللذات المحرمة، أو انصرف بجملته إلى الشطحات والنزوات، عاكفًا على ذلك ليله ونهاره، وغدوه ورواحه، هابطًا من الأوج الأعلى إلى الحضيض الأدنى، ثاويًا في سجن الهوى، مقيمًا في أسر العدو، هائمًا في أدوية الحيرة" [3].
وصدق سبحانه إذ يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى? وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذ?لِكَ أَتَتْكَ ايَـ?تُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذ?لِكَ ?لْيَوْمَ تُنْسَى? [طه:124-126].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند الإمام أحمد (1/435), وسنن الدارمي (1/78).
[2] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء, باب: قول الله: واذكر في الكتاب مريم... (3443), ومسلم في الفضائل (2635).
[3] طريق الهجرتين (1/278-283) بتصرف واختصار.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا عباد الله، إن الله إذا أقبل على عبده السالك إليه استنارت حياته، وأشرقت ظلماته، وظهر عليه آثار إقبال من بهجة الجلال ونضرة الجمال, وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة؛ لأنهم تبع لمولاهم سبحانه، فإذا أحب عبده أحبوه، وإذا والى وليًا والوه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن الله تعالى إذا أحب عبدًا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله تعالى يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)) [1].
ويجعل الله قلوب أوليائه تفد إليه بالود والمحبة والرحمة، وناهيك بمن يتوجه إليه مالك الملك ذو الجلال والإكرام بمحبته، ويقبل عليه بأنواع كرامته، ويلحظ إليه الملأ الأعلى وأهل الأرض بالتبجيل والتكريم, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا على كل ما تبلغون به محبة الله بإخلاص العمل لله، ومتابعة رسول الله.
[1] أخرجه البخاري في بدء الخلق, باب: ذكر الملائكة (3209), ومسلم في البر والصلة والآداب (2637).
(1/2759)
محبة الله عز وجل
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الله عز وجل, فضائل الأعمال
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أن الإنسان مع من أحب في الآخرة. 2- تدبر كتاب الله وفهم معانيه، والتقرب إلى الله بالنوافل، وذكر الله عز وجل من أعظم أسباب نيل محبة الله تعالى. 3- تقديم رضى الله رسوله ولو سخط الناس. 4- أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله. 5- إدراك العبد محبة الله له منزلة عظيمة ومنَّة جسيمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فلا سعادة إلا في تقواه ولا فلاح ولا فوز ولا نجاة إلا في اتباع هديه وشريعته.
معاشر المسلمين، جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال رسول الله : ((ما أعددت لها)) فكأن الرجل استكان ثم قال: يا رسول الله، ما أعددت لها من كثير صلاةٍ ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال : ((فأنت مع من أحببت)) [1].
وفي رواية قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي : ((فإنك مع من أحببت)) [2].
وفي صحيح مسلم عن أنس أنه قال: ((فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم، وإن لم أعمل بأعمالهم)) [3].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله عن هذه المحبة العظيمة: "هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص الآملون, وإلى أملها شمّر السابقون, وعليها تفان المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، وهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهي الحياة التي من حُرمها فهو في جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو بحار الظلمات، والشفاءُ الذي من عدمه حلّت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة؛ إذ لهم من معرفة محبوبهم أوفر نصيبٍ" انتهى من كلامه رحمه الله.
معاشر المسلمين، ولنيل منزلة هذه المحبة, وللفوز بهذه السعادة ذكر العلماء أسباباً لتحصيلها وطرقاً كثيرة للفوز بها.
أصول هذه الأسباب وقوائد هذه الطرق مردها ما تتشنف أسماعنا به وما تصغي آذاننا إليه، أول هذه الأصول:
قراءة القرآن بتدبرٍ مع الفهم لمعانيه والتعقل لأسراره وحكمه، ولهذا فإن رجلاً من أصحاب نبينا استجلب محبة الله بتلاوة صورة الإخلاص, فظلّ يرددها في صلواته، فلما سُئل عن ذلك قال: إنها صفة الرحمن, وأنا أحبُ أن أقرأها، فقال النبي : ((فأخبروه أن الله يحبه)) رواه البخاري [4].
الأصل الثاني عباد الله، التقرب إلى الله جل وعلا بالنوافل, بعد الحرص العظيم على الالتزام بالواجبات والوقوف الجازم عند الحدود والفرائض, فرسولنا يحكي عن رب العزة جل وعلا أنه قال: ((من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه, ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها, ولئن سألني لأعطينه, ولئن استعاذني لأعيذنه)) رواه البخاري [5].
وثالث هذه الأصول معاشر المؤمنين، دوام ذكر الله جل وعلا على كل حالٍ ذكرٌ باللسان والقلب والعمل, فربنا جل وعلا يقول: فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، ونبينا يقول: ((إن الله عز وجل يقول: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت به شفتاه)) رواه ابن ماجه بسند صحيح [6].
ويقول المصطفي وهو سيد الذاكرين: ((سبق المفردون)) ، قالوا: يا رسول الله, ومن المفردون؟ قال: ((الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)) رواه مسلم [7].
ورابع هذه الأصول إيثار محاب الله جل وعلا ومحاب رسوله على محاب النفس عند غلبات الهوى, والتسنم إلى محافه عز وجل وإن صعب المرتقى, فيؤثر العبد رضا الرحمن عز وجل على رضا غيره, وإن عظمت فيه المحن, وثقلت فيه المؤن, وضعف عنه الطول والبدن، يقول ابن القيم رحمه الله: "إيثار رضا الله جل وعلا على غيره هو عن أن يريد العبد ويفعل فيه مرضاته, ولو أغضب الخلق, وهي درجة الإيثار, وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه, وأعلاها لأولي العزم منهم, وأعلاها لسيد الخلق محمد " انتهى.
وذلك يا عباد الله لا يكون ولا يتحقق إلا بثلاثة أمور:
أولها: قهر هوى النفس، وثانيها: مخالفة الهوى، وثالثها: مجاهدة الشيطان وأوليائه.
وخامس هذه الأصول أيها المسلمون، أن يطالع القلب أسماء الله وصفاته, وأن يشاهدها ويعرفها, ويتقلب في رياض هذه المعرفة، فمن عرف الله جل وعلا بأسمائه وصفاته وأفعاله التي أثبتها الوحيان كما اعتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن تبعهم بإحسان اعتقاداً كما جاءت في النصوص من غير تحريف ولا تعطيلٍ ولا تمثيلٍ ولا تكييفٍ ولا تأويل أحبه الله جل وعلا وأكرمه وأرضاه, فربنا جل وعلا يقول مرغباً منادياً عباده: وَللَّهِ ?لاسْمَاء ?لْحُسْنَى? فَ?دْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، وثبت عن المصطفى أنه قال: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)) [8].
سادس هذه الأصول إخوة الإسلام، مشاهدة بر الله جل وعلا بعباده, وإحسانه عليهم, والتعرف على آلائه ونعمه الظاهرة والباطنة, فإنها داعية إلى محبته سبحانه.
فالإنعام والبر واللطف معاني تسترق مشاعر الإنسان, وتستولي على أحاسيسه, وتدفعه إلى محبة من يسدي إليه النعمة, ويوصل إليه المعروف, ولا منعم على الحقيقة ولا محسن إلا الله, هذه دلالة العقل الصريح والنقل الصحيح.
فالمحبوب في الحقيقة عند ذوي البصائر هو الله جل وعلا, والمستحق للمحبة كلها هو سبحانه وبحمده, وغيره فمحبوب فيه عز وجل, والإنسان بالطبع يحب من أحسن إليه ولاطفه وواساه وأعانه على جميع أغراضه وأهدافه, إذا عرف الإنسان هذا حق المعرفة علم أن المحسن إليه هو الله جل وعلا, وأن أنواع الإحسان لا يحيط بها حصرٌ: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?لإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [الأنعام:34].
وحينئذ إذا انطلق المسلم من هذا المنطلق فإنه حري بالتوفيق للقيام بواجب الشكر لله جل وعلا باللسان والقلب والعمل, ويفوز حينئذ بكل خير, ويسعد بكل عاقبة حميدة, فربنا جل وعلا وعد بالمزيد لمن شكره: لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، ونبينا يقول: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير, وليس ذلك إلا للمؤمن, إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) رواه مسلم [9] ، وفي الحديث أيضاً: ((إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها, ويشرب الشربة فيحمده عليها)) رواه مسلم [10].
سابع هذه الأصول, وهو من أعجبها وأعظمها: انكسار القلب بكليته بين يدي الله عز وجل, والتذلل له سبحانه, والخشوع لعظمته بالقول والبدن: قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون:1، 2]، ويقول عن خير الخلق: إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَبا [الأنبياء:90].
ثامن هذه الأصول، تحين وقف النزول الإلهي لمناجاته جل وعلا وتلاوة كلامه والتأدب بآداب العبودية بين يديه, ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة النصوح إليه سبحانه, فربنا جل وعلا يقول عن صفوة الخلق: تَتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]. فأصحاب الليل هم أشرف أهل المحبة؛ لأن قيامهم في الليل بين يدي الله جل وعلا يجمع لهم جل أسباب المحبة وأصولها, ولهذا فلا عجب أن ينزل أمين السماء جبريل عليه السلام على أمين الأرض محمدٍ ويقول له: ((واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل, وعزه استغناؤه عن الناس)) حديث صحيح [11].
يقول الحسن البصري: لم أجد من العبادة شيئاً أشد من الصلاة في جوف الليل, فقيل له: ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوها؟ فقال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره. نسأل الله من فضله.
وتاسع هذه الأصول: محبة الصالحين والسعي من القرب منهم ومجالستهم، فرسول الله يقول في الحديث الصحيح: ((قال الله عز وجل: وجبت محبتي للمتحابين فيّ, ووجبت محبتي للمتجالسين فيّ, ووجبت محبتي للمتزاورين فيّ)) [12]. وفي حديث صحيح عن النبي : ((أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)) [13].
عباد الله، وآخر هذه الأصول البعد عن كل سبب وطريق يحول بين القلب وبين الله جل وعلا, وذلك لا يتحقق ولا يكون إلا ببعد المسلمين والمؤمنين وبعد مجتمعاتهم عن أنواع السيئات وألوان المحرمات وصور الموبقات، فالقلوب إذا فسدت فلن تجد فائدة فيما يصلحها من شؤون دنياها, ولن تجد نفعاً أو كسباً في أخراها يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما سمعنا، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الآداب، باب علامة حب الله عز وجل (3688). ومسلم في البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (2639).
[2] أخرجه البخاري في المناقب، باب مناقب عمر بن الخطاب (3688). ومسلم في البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (2639).
[3] أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (2639).
[4] أخرجه البخاري في التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (7375). ومسلم في صلاة المسافرين، باب فضل قراءة قل هو الله أحد (813). كلاهما عن عائشة رضي الله عنها.
[5] أخرجه البخاري في الرقاق، باب التواضع (6502).
[6] أخرجه البخاري معلقا في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى لا تحرك به لسانك ، وابن ماجة في الأدب، باب فضل الذكر (3792). وأحمد (10585).
[7] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى (2676).
[8] أخرجه البخاري في التوحيد، باب إن لله مائة اسم إلا واحدا (7392). ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها (2677). كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه مسلم في الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير (2999). عن صهيب رضي الله عنه.
[10] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب (2734). عن أنس بن مالك.
[11] رواه الطبراني في الأوسط(4 / 306 )، والحاكم في المستدرك (4/360)، وصححه. وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (1/243).
[12] أخرجه أحمد (21525)، ومالك في الموطأ، في كتاب الجامع، باب ما جاء في المتحابين في الله (1779). وابن حبان في صحيحه (2/335). والضياء في المختارة(8/306).
[13] رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/87)، والطيالسي في مسنده (1/101).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فهي وصية ربنا جل وعلا في الأولين والآخرين.
معاشر المسلمين، إدراك محبة الله للعبد منزلة عظيمة ومنة جسيمة وسعادة أبدية وحياة طيبة زكية, فعلى العبد الموفق السعي لنيلها بكل طريقٍ محمدي ونهج نبوي من سيرة وسنة المصطفى , صحة في الاعتقاد وسلامة في التعبد وإحساناً في الأخلاق، وجملة ذلك في تحقيق الإيمان الصحيح، ومزاولة التقوى لله جل وعلا سراً وجهراً: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:62، 63].
ألا وإن من مقتضيات محبة الله جل وعلا الإكثار من الصلاة والتسليم على النبي المصطفى، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن جميع الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(1/2760)
الإحسان في أداء الحقوق
فقه
الديون والقروض
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
8/7/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمر الله تعالى عباده بتوثيق الحقوق. 2- من أكل أموال الناس بالباطل جحد الحقوق والمماطلة في أدائها. 3- يجب على القادر أداء الحقوق إلى أصحابها. 4- كيف يصنع إذا لم تكن الحقوق واضحة بين المتخاصمين؟. 5- لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يجبر أصحاب الحقوق على التنازل عن حقوقهم في الخصومات. 6- أخذ العبرة من قصة المقترض والخشبة. 7- من علامات كمال الإيمان حسن المعاملة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن الله جل وعلا أمر المؤمنين بأن يوثقوا البيوع فيما بينهم, إما بالكتابة: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَ?كْتُبُوهُ [البقرة:282]، وأمر بالإشهاد: وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ [البقرة:282]، وأمر أن توثق الحقوق بالرهان لا سيما في السفر: وَإِن كُنتُمْ عَلَى? سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَـ?نٌ مَّقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، ثم إنه تعالى أمر بأمر آخر فوق هذا كله فقال: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ?لَّذِى ?ؤْتُمِنَ أَمَـ?نَتَهُ وَلْيَتَّقِ ?للَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283].
أيها المسلم، فإذا أمنك أخوك على حق بينك وبينه لم يكن هناك كتابة ولا رهون ولا إشهاد, ولكنه أمنك وأطمأن لإيمانك وصدقك, فإياك أن تخونه, وإياك أن تسيء ظنه بك, وإياك أن تكذب, فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ?لَّذِى ?ؤْتُمِنَ أَمَـ?نَتَهُ وَلْيَتَّقِ ?للَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283], ليسدد الحقوق, ليوفي ما عليه من الحقوق, ليبرئ ذمته من حقوق الآخرين.
أيها المسلم، إن حقوق الناس مبنية على المشاحة والمضايقة, فلا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه, والأصل حرمة أموال المسلمين, ((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام)) [1]. والله يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُمْ بِ?لْبَـ?طِلِ [النساء:29].
فمن أكل أموال الناس بالباطل جحود الحق الواجب عليك, فتجحد ما في ذمتك, وتنكر ما عليك من حق, ومن أكل أموال الناس بالباطل وظلمهم أن تماطل في الوفاء, فلا تعطي حقوقهم بطمأنينة نفس، لكن تماطلهم عسى أن يرضوا منك باليسير, ويقتنعوا منك باليسير, فيسقطوا بعض ما عليك رجاء أن يحوزوا البقية, فيرتجع أموالهم بجزء منها مقابل مماطلتك وظلمك وتأخيرك للوفاء.
إذن, ما أخذت من هذا فإنك أخذته بغير حق ظلماً وعدواناً، إذ الواجب عليك أن تسدد الحق الواجب عليك, وأن تؤدي ما في ذمتك عن طوع واختيار, في الحديث: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه, ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)) [2].
أيها المسلم، فما في ذمتك من حقوق فأدها عن طيب نفس وعن رضا نفس, لا تجحد, لا تماطل بالوفاء, لا تضار صاحب الحق, لا تلجئه إلى شكاية ورفع إلى الجهات المختصة, لا تتعبه وتشغله حتى يتعب منك, وربما ترك حقه عجزاً عن مطالبتك, فتظن أن ذلك مباحٌ لك, والله يعلم أنه حرام عليك, إذ الواجب أن تؤدي الحق بطيب نفس واختيار, هذا إذا كنت قادراً ولا عذر لك، والنبي يقول: ((من كان له عند أخيه مظلمة من مال أو عرض فليتحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له حسنات أخذ من حسناته, وإن قضيت الحسنات قبل أن يقضي عليه أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) [3].
أيها المسلم، فأبرئ ذمتك من حقوق العباد, وأدها أداءً كاملاً, ولا عذر لك إلا أن تكون معسراً عاجزاً عن التسديد، فالله يقول: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى? مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، أما إن كنت قادراً فأدّ الحق فوراً, والنبي يقول: ((مطل الغني ظلم, يحل عرضه وعقوبته)) [4].
أيها المسلم، أدّ أثمان المبيع وأد أجره العين المستأجرة, كل هذا واجب أداؤها, وواجب تسليمها والمبادرة بذلك.
أيها المسلم، البعض من الناس لديه قدرة على التحايل والمراوغة إذا توجه الحق عليه هرب بكل وسيلة أن يحضر الوفاء, بعلل واهية وأكاذيب وأباطيل, يماطل بصاحب الحق ويتعبه ويعييه, ليلجأ إلى الخصومة, أو يتعب ويكل ويعجز فيترك حقه عجزاً لا شفاعة من نفس ولكن عجزاً عن المطالبة, وكل هذا لا يبرؤك من الحقوق ولا يبرؤك من حقوق الناس ولا يعفيك من الواجب عليك.
أيها المسلم، أما إن كانت الحقوق غير واضحة للجميع بأن يكون الأمر مشتبهاً وحقوق متداخلة قد لا يستطيع الخصمان أن يخلصا حق كل من الآخر، فالنبي قد أرشدنا إلى الطريق السوي في ذلك, فتروي أم سلمة زوج النبي : أن شخصان اختصما إلى النبي في مواريث دائرة بينهما ليس لأحدهما بينه, فقال لهم النبي : ((إنكم تختصمون إلي, وإنما أنا بشر, ولعل بعضكم ألحن بحجته من الآخر فأقضي له بنحو مما أسمع, فمن فضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه, فإنما أقطع له قطعة من النار يحملها على عنقه يوم القيامة)) فبكى الرجلان, وقال كل منهما: حقي لأخي, فقال : ((أما إذا قلتما فاذهبا واقتسما وتوخيا الصواب واستهما, وليحلل كل منكما صاحبه)) [5] ، فأرشدهما النبي إلى هذا الطريق الذي تبرأ به الذمم, مواريث مندرسة لا يعلم كل ماله من الآخر، أمرهم النبي أن يتوخيا الصواب, ويفعلا قدر ما يظنا أن ذلك هو الحق, ثم يبديا بينهما قرعة فمن خرجت له القرعة فله ذلك النصيب, ثم يقتسما, ويحلل كل منهما صاحبه, حتى تكون النفوس مطمئنة وراضية، هكذا حكم رسول الله , وهذان الرجلان عندما وعظهم النبي بهذه الموعظة العظيمة بكيا إشفاقاً من الله وخوفا من الله، هكذا حال أهل الإيمان.
أيها المسلم، فلا يحل لك المضارة لصاحب الحق ليصالحك عن التنازل عن حقك بشيء لأجل الإضرار, إنما الصلح لو كان الأمر مجهولاً, لو كان الأمر غير واضح, أما الأمور الواضحة والحقوق الجلية التي لا إشكال فيها فواجب المسلم أن يؤدي ما عليه, وأن لا يضار بأخيه المسلم, فمطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته, والله يقول: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ?لَّذِى ?ؤْتُمِنَ أَمَـ?نَتَهُ وَلْيَتَّقِ ?للَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283].
فتقوى الله واجب بين العباد في تعامل بعضهم مع بعض, فلا عدوان ولا ظلم ولا فرار من الحقوق, ولكن أداء ووفاء, ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِ?لْعُقُودِ [المائدة:1]، هذا أمر الله أن نوفي بالعقود عقود البيع عقود الإجارات كل عقود بيننا مما أباح الشرع التعاقد بها فواجبنا أن ينفذ كل منا العقد الذي التزم به؛ لأن هذا هو المطلوب من المسلمين أن يكون الصدق والوفاء بينهما خلق سائر وعمل صالح, هكذا الإيمان الصادق.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم لصالح القول والعمل, وأن يعيننا على أنفسنا ويكفينا بحلاله عن حرامه وبطاعته عن معصيته وبفضله عمن سواه.
أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه, وتوبوا إليه, إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الحج، باب: الخطبة أيام منى (1741)، ومسلم في القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679)، كلاهما من حديث أبي بكرة.
[2] أخرجه البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها (2378) من حديث أبي هريرة.
[3] أخرجه البخاري في المظالم والغصب، باب: من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له (2449).
[4] أخرج الجملة الأولى منه (مطل الغني ظلم) البخاري في الحوالات، باب: الحوالة وهل يرجع في الحوالة (2287)، ومسلم في المساقاة (1564)، كلاهما من حديث أبي هريرة. وأخرجه بلفظ: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) أحمد في المسند (4/222)، وأبو داود في الأقضية، باب: في الحبس في الدين وغيره (3628)، والنسائي في البيوع، باب: مطل الغني (4689)، وابن ماجه في الأحكام، باب: الحبس في الدين والملازمة (2427)، من حديث عمرو بن الشريد.
[5] أخرجه الإمام أحمد في المسند (6/320)، وأبو داود في الأقضية، باب: في قضاء القاضي إذا أخطأ (3583)، من حديث أم سلمة.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، رسول الله يحث المسلمين على الصدق في تعاملهم، رسول الله لا يلزم أهل الحقوق أن يتنازلوا عن حقوقهم، لا يلزمهم التنازل عن حقوقهم, بل يكون موقفه مع صاحب الحق لا مع من عليه الحق فقط, وإنما موقفه مع صاحب الحق ليعطى حقه ومع من عليه حق لينظم كيف يؤدي الحق, أما أن يفرض على صاحب الحق أن يتنازل عن شيء من حقه, فإن هذا لم تأت به السنة, فحقوق الناس هم أولى بها, ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه.
أيها المسلم، قد تلجأ أحياناً للمماطلة, وقد تستعين بمحام لكي يماطل بصاحب الحق ويظلم صاحب الحق كل هذا من التعاون على الإثم والعدوان, الواجب الإنصاف وإعطاء الناس حقوقهم, وأن لا يظلم من له الحق ولا من عليه الحق.
اسمع إذن سنة محمد , اسمع عدالته، اسمع موقفه مع من له الحق ومن عليه الحق؛ لتعلم أن شريعته شريعة العدل والحق والإنصاف، يروي جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري رضي الله عنه: (أن أباه استشهد يوم أحد, وكان على أبيه دين, فاستمهل الغرماء فلم يمهلوا, وأراد أن يعطيهم ثمر حائطه مقابل حقهم فأبوا, فأتى النبي فقال له: ((إني آتيك غداً)) , فأتى النبي حائطه وطاف فيه وبرك فيه, ثم قال: ((جد لهم)) فجد لهم ثلاثين وسقا من التمر وبقي له سبعة عشر وسقا).
فرسول الله لم يفرض على الغرماء التنازل لما أبوا أن يتنازلوا عن حقهم لم يفرض عليهم شيئاً من ذلك, ترك الأمر لهم, وفي بعض الألفاظ عن جابر: (أن يهودياً كان له على أبي جابر ثلاثون وسقاً من تمر فكلمه جابر أن يعطيه ثمرة حائطه ويتنازل عن الباقي فأبى, فكلم رسول الله أن يشفع له, فكلم النبي اليهودي فأبى, أبى أن يتنازل عن حقه, فالنبي لم يلزم ذلك اليهودي بالتنازل, ولم يفرض عليه التواضع عن حقه, وإنما أتى لحائط جابر فطاف فيه وأمره أن يجد فجد ثلاثين وسقاً فأعطاه حقه كاملاً, وبقي لجابر بقية من ذلك [1].
إذا نظر المسلم إلى هذا علم العدالة في الشريعة وأن أهل الحقوق لا يظلمون ولا يحملون على ما لا يريدون, وأن الأمر بيد صاحب الحق فهو أحق بماله إن شاء تنازل وإن شاء استوفى حقه كاملاً, إذا كنت في أول الأمر أخذت ماله واستفدت منه أتريد أن تضاره في القضاء, لماذا ما رتبت أمرك عندما أردت الأخذ من حقوق الناس؟
أما إذا تحملت حقوق الناس أردت المماطلة والمراوغة حتى ينقصوا من الحقوق, وحتى يرضوا بإسقاط النصف في سبيل النصف الباقي لا, حقوق الناس واجب أداؤها, واجب تسديدها, حرام المماطلة فيها, حرام المضارة في الحقوق, حرام المضارة في أهل الأملاك, واجب الوفاء سواء كانت قيمة مبيعات أو قيمة أجور أو غير ذلك, كل هذه الحقوق واجب على المسلم أن يؤديها بطيب نفس حتى يكون من الصادقين.
فعلامة الإيمان الصادق أن يكون المسلم ذا وفاء وقيام للحق وتسديد للحق دون أي مماطلة، قص علينا نبينا قصة من أخبار بني إسرائيل من أخبار الماضين, وما قصه مما هو صحيح إليه فهو خبر صدق عن محمد , ملخص هذه القصة: ((أن رجلاً فيمن قبلنا استدان من رجل ألف دينار, فقال له: من عنده الدنانير: أبغني كفيلاً, قال: كفى بالله كفيلاً, قال: أبغني شهيداً, قال: كفى بالله شهيداً, فأعطاه ألف دينار على أن يسددها بعد عام وقدر ذلك الشهر وذلك اليوم الذي يكون فيه السداد.
لما مضى العام الكامل وجاء اليوم الذي هو موعد السداد خرج ذلك الرجل بألف دينار ليجد مركباً لعله أن يوصله إلى صاحب الحق فيعطيه حقه في وقته, فما وجد سفينة يركبها, ما وجد مركبا بحريا يسير عليه, فلما انقضى ذلك اليوم وهو يراقب عسى مركب بحريا يوصله إلى مكان صاحب الحق, فأيس من ذلك, فأخذ خشبة ونجرها وجعل فيها الألف الدينار وصحيفة العقد وزجها وختمها وألقاها في البحر, وقال: اللهم إن فلان طلب مني كفيلاً فرضي بك كفيلاً, ورضي بك شهيداً, وهذا حقه فأسألك أن توصله إليه.
قال: وخرج ذلك الرجل في ذلك اليوم يرتقب الموعد الذي وعده صاحبه, فما وجد أحداً جاء, وإنما رأى خشبة قد ألقيت على ساحل البحر, فأخذها من باب أنها حطب لأهله, فلما نشرها إذا الصحيفة والألف الدينار موجود فيها, فأخذ حقه ألف الدينار, وأخذ صحيفته, وحمد الله, وأثنى على صاحب الحق أنه أوصل حقه في يومه.
ثم إن من عليه الحق بعد أيام وجد مركباً فسار عليه وجاء بالألف الدينار إلى صاحبه فقال: إني أعتذر فقد أخرت الوفاء لأني والله ما وجدت مركباً أسير عليه، قال: ألم تبعث لي خشبة فيها ألف دينار وصحيفة، قال: يا أخي والله ما وجدت مركباً أسير عليه، قال: اعلم أن الله قد قضى عنك ما عليك, وأن تلك الخشبة التي ألقيتها في البحر ما زال الريح بها حتى ألقتها على الساحل, فأخذتها وأخذت نصيبي, فارجع راشداً بما معك, فجزاك الله خيراً)) [2].
لا شك أنها قصة أخبرنا بها نبينا ليبين لنا فضل الأمانة وأداء الحقوق وحسن التعامل بين المسلمين، نسال الله أن يجعلنا وإياكم ممن عمل بشرع الله وتأدب بآداب الله، وأدى الحقوق الواجبة, ولم يخن, ولم يماطل, ولم يتعب صاحب الحق, هذا هو المطلوب منا في تعاملنا, وهو الذي يمليه علينا إيماننا بالله ورسوله, فحسن المعاملة بين المسلمين دليل على الإيمان الصادق.
وأما سوء المعاملة وظلم العباد فإنها نقص في حق الإنسان, فلا تغرنك يا أخي مجرد محافظتك على الطاعة مع خيانة الأمانة وظلم الناس والتعدي عليهم، فالإيمان الصادق يدعوك إلى الصدق والأمانة والوفاء، قال: بعض السلف: والله ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا بكثرة صيام ولكن بإيمان وقر في القلب.
فالصادق في صلاته وصيامه وتعبده هو الذي يعطي الناس حقوقهم ويوفي الناس حقوقهم بلا مماطلة, وأما من يتظاهر بالخير ويتظاهر بالصلاح ولكن عند المعاملة لا تجد شيئاً، فهذا دليل على النقص في الديانة, نسأل الله السلامة والعافية, وأن يجعل إيماننا صادقاً ظاهراً وباطناً, إنه على كل شيء قدير.
[1] أخرجه البخاري في المغازي، باب: إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا (4053).
[2] أخرجه البخاري في الحوالات، باب: الكفالة في القرض والديون... (2169)، من حديث أبي هريرة.
(1/2761)
أهمية العلم وفضله
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي, قضايا الأسرة, قضايا المجتمع
محمد أحمد حسين
القدس
8/7/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العلم وأهله. 2- أهمية العلم. 3- التربية العلمية مسؤولية الجميع. 4- مقومات التربية. 5- التربية وعلاقتها بالأخلاق. 6- معالجة لظاهرة التسرب من المدارس وترك التعليم في سن مبكرة. 7- نصائح عامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس، قبل بضعة أيام بدأ العام الدراسي الجديد وقد توجه إلى المدارس ما يزيد على المليون طالب وطالبة من أبناء هذا الشعب الصابر المرابط؛ لينتظم هؤلاء الطلبة في تحصيل العلم والاستزادة من المعرفة التي حث الله على طلبها في أول سورة نزلت من القرآن الكريم على قلب نبينا عليه الصلاة والسلام، فقال تعالى: ?قْرَأْ بِ?سْمِ رَبّكَ ?لَّذِى خَلَقَ خَلَقَ ?لإِنسَـ?نَ مِنْ عَلَقٍ ?قْرَأْ وَرَبُّكَ ?لأَكْرَمُ ?لَّذِى عَلَّمَ بِ?لْقَلَمِ عَلَّمَ ?لإِنسَـ?نَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]، وحسب العلم شرفا أن تكون أول الآيات المنزلة من القرآن الكريم تحث على القراءة والكتابة، وهما من أهم الوسائل الموصلة إلى العلم والثقافة وحفظ المعارف المختلفة.
وترتكز هذه العملية التربوية التعليمية على الإيمان بالله الذي أراده الله لكل بني البشر، فبالعلم والإيمان تستقيم أحوال الإنسان وتصلح المجتمعات الإنسانية، ولعل إهتمام شعبنا بالعلم وطلبه هو من أهم المقومات التي حافظت على تماسك هذا الشعب وإبقاء قضيته حية، على الرغم مما أصابه من نكبات وويلات ولجوء وتشريد وإضطهاد وإحتلال.
أيها المسلمون، أيها المربون، إن عملية التربية والتعليم تحتاج إلى تكافل كل الجهود لإنجاحها وتقدمها وضبطها، فلا تقع المسؤولية على عاتق المعلمين والمربين وحدهم، بل لا بد من مشاركة الأسرة والمجتمع بهذه المسؤولية العظيمة، خاصة في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها عملية التعليم في ظل تقطيع أوصال الوطن وفرض الأطواق والحصار ومنع التجوال، ما يستوجب جهدا مضاعفا من المعلمين والطلاب وأولياء الأمور والمشرفين على العملية التعليمية بالوزارات والجامعات.
رسالة التربية والتعليم رسالة شريفة وغايتها نبيلة، اضطلع بها العظماء من المربين والفضلاء من المعلمين، الذين وهبوا ويهبون حياتهم في سبيل نهضة أمتهم وبعث عزها وحضارتها.
إن الأجيال التي تربت في مدرسة الغزالي والجيلاني وابن تيمية والعز ابن عبد السلام، هي التي قادة الأمة وردة غزو المغول وطهرت البلاد من دنس الصليبيين وأعادة للأمة مجدها المسلوب وحقها المغصوب؛ لأن تلك الأجيال تربت على العقيدة الإسلامية التي تقوم على الإيمان والعلم والعمل والأخلاق، فالنهوض بالعملية التعليمية يحتاج إلى غرس القيم الإيمانية والأخلاقية في نفوس الأبناء، إذ كيف يمكن للمرابط أن يصمد في أرضه ويتابع مسيرة علمه إن لم يكن محصنا بالعلم والأخلاق، فانهيار الأخلاق يؤذن بعواقب وخيمة على الشعب والأرض والأمة، فليس بمجتمع مسلم ذلك الذي تموت فيه الفضائل لتحيا الرذائل، ويقدم أهل الفجور ويأخر المتقون، ويكذب الصادقون ويصدق الكاذبون، وليس بمجتمع مسلم ذلك الذي يظلم فيه المحق ويحابى المبطل، وتفسد فيه الذمم وتدمر الضمائر.
أيها المسلمون، أيها المرابطون في ديار الإسراء والعراج، إن المجتمع المسلم الذي يقوده أهل العلم والذي تربوا الأمة إلى الوصول إليه، هو مجتمع العلم النافع والتربية الفاضلة، فلا انفصال في المجتمع المسلم بين العلم والأخلاق، ولا بين السياسة والأخلاق، ولا بين السلم والأخلاق ولا بين الحرب والأخلاق، فالمجتمع المسلم هو مجتمع العلم والمعرفة والإيمان والعمل والعدل والإحسان والبر والرحمة والصدق والأمانة، والعزة والتواضع والحياء والعفاف والمروءة والنجدة والغيرة على الحرمات والإستعلاء على الشهوات، وهذا لا يكون إلا بالتربية الفاضلة التي يوجهها العلم النافع الذي يربط الإنسان بربه ?قْرَأْ بِ?سْمِ رَبّكَ ?لَّذِى خَلَقَ.
وإذا أردنا أن نكون كذلك فلا بد من انتهاج سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بالتربية والقدوة، يقول سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه: (كنا نعلم أولادنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلمهم السورة من القرآن) ولله در القائل:
إذاً هاتوا المصاحف كي نربي على التقوى لنا طفلا وطفلة
إذاً هاتوا الحديث لكي نربي على الإيمان في الميدان أهله
إذاً هاتوا نقيم الطهر فينا ونضع فوق هذا الطهر دولة
جاء في الحديث الشريف عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فضل العالم على العابد، كفضلي على أدنى رجل من أصحابي)) [1]. أو كما قال.
فيا فوز المستغفرين استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقون بالإجابة.
[1] أخرجه الترمذي في العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة (2685)، والطبراني في الكبير (8/233)، بلفظ: ((كفضلي على أدناكم)). من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه. قال الترمذي: "حسن غريب صحيح". وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2161).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى أله الطيبين الطاهرين وصحابته أجمعين ومن إقتدى وإهتدى بهم إلى يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله أحب لعباده أن يعملوا لدينهم ودنياهم حتى يفوزا بنعم الله وينالوا رضوانه.
وبعد أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسرء والمعراج لنجاح العملية التربوية لا بد من القضاء على الظواهر السلبية التي تتفشى بين الطلبة، ومن هذه الظواهر ظاهرة التسرب من المدارس وترك التعليم في سن مبكرة، ومما يعين على هذه الظاهرة عدم اهتمام الأهل بمتابعة الأبناء وحثهم على طلب العلم، وصحبة السوء التي تقود إلى رذائل الأخلاق كتعاطي المخدرات وانتشارها بين أبناء المدارس، هذه الظاهرة التي اجتاحت أخلاق أبناء هذه المدينة المقدسة، ولم تقتصر على الطلاب بل شملت فئات كثيرة وقعت في براثن المتاجرين والمروجين لهذه السموم التي تفتك بالعلم والأخلاق وبالدين والأجسام، وتؤدي إلى انتشار الفاحشة والوقوع في شَرك الإسقاط والخيانة والعمالة، فهلا أدرك المربون والمعلمون والآباء والأمهات وكل صاحب مسؤولية ما لهذه الآفات من مخاطر على الجيل ومستقبله؟!، وعملوا على محاربة هذه الظواهر وتكاثفت كل الجهود للقضاء عليها.
أيها المسلمون، لقد حرص الإسلام منذ يومه الأول على نشر العلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع)) [1] ، وقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام فداء بعض الأسرى بعد معركة بدر قيام الأسير من مشركي مكة بتعليم عشرة أولاد من أبناء المسلمين، حرصا منه عليه الصلاة والسلام على نشر العلم بين جميع المسلمين، وقد كلف أمير المؤمنين الفاروق عمر رضي الله عنه عدداً من أعوانه بتفحص الناس، فمن وجدوه لا يعرف القراءة والكتابة ألزموه بذلك، وفي هذا دلالة على إلزامية التعليم ومجانيته في ظل الدول الإسلامية، وقد عرف عن الوزير نظام الملك أنه كان ينفق الأموال الطائلة على التعليم وعلى إقامة المدارس والجامعات والمكتبات، مما دفع بالحاكم السنجوقي إلى توجيه اللوم والعتاب له لهذه النفقات، فاجابه الوزير بقوله: "لقد أقمت لك جيش يسمى جيش الليل، وهم الطلاب، إذا نامت جيوشك ليلا قامت جيوش الطلاب على أقدامهم صفوفا بين يدي ربهم، فأرسلوا دموعهم وأطلقوا ألسنتهم ومدوا إلى الله أكفهم بالدعاء لك ولجيوشك، فأنت وجيوشك في خسارتهم تعيشون، وبدعائهم تبيتون، وببركاتهم تمطرون وترزقون"، فتأثر الملك بهذه الإجابة وشكر الوزير على عمله ومنجزاته العلمية، وهكذا أخوة الإيمان هو العلم مع الإيمان والعمل.
أيها المسمون، أيها المرابطون، هل عمل ولاة الأمور في هذه الأيام على إعداد الجيل على هذه التنشئة، وأنصفوا القائمين على عملية التربية والتعليم لتهيئة وسائل العيش الكريم لهم حتى يتفرغوا للعلم والعطاء، متحلين بالإخلاص والصبر والصدق فيما يعلمون ويدعون إليه، ويأدونه لهذه الرسالة الجليلة في التربية والتعليم.
إن الأمة تعقد الآمال على هذه الأجيال الصاعدة للخلاص من مرحلة الضعف والهوان، والعودة إلى مراقي العلم والعز والمعرفة في ظلال الإسلام ودولته الراشدة التي تسوس الرعية تحكمها بالعدل والسوية، وتعيد للمسلمين عزهم وللمؤمنين مجدهم، "فلن يصلح أخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أولها"، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج في الوقت الذي تسمح سلطات الاحتلال بدخول السياح واليهود المتطرفين والمستوطنين إلى المسجد الأقصى بالقوة تمنع هذه السلطات المسلمين من الوصول إلى المسجد الأقصى لأداء الصلاة فيه، متذرعة بحجج الأمن ومنع الإخلال بالنظام وهي حجج واهية، وتحدد أعمار الداخلين إلى المسجد وكأنها فرضت نفسها مكان رب العالمين، والعياذ بالله من هذا العمل الظالم لتكليف الناس عند سن محددة بأداء العبادة، هذا بالإضافة إلى إقامة الحواجز لإعاقة وصول المسملين إلى المسجد الأقصى والتدقيق في هوياتهم، وغير ذلك من الإجراءات التعسفية التي تتعارض مع أبسط الحقوق الإنسانية، التي توفر للإنسان حق العبادة وحرية الوصول إلى أماكنها.
إن المسلمين في هذه الديار المباركة يرفضون هذه الإجراءات ويعتبرونها عدوانا على مقدساتهم وعباداتهم، كما يرفض شعبنا الفلسطيني إقامة جدار الفصل العنصري الذي يمزق أحياء المدينة المقدسة، ويمس حقوق أهلها في أرضهم ومنازلهم وجامعتهم ومدارسهم، لأن جامعة القدس يلتهم جدار الفصل هذا جزءا كبيرا من حرمها الجامعي، وهذا الجدار طال ضرره مساحات واسعة من مدن وقرى وأراضي الضفة الغربية حيث فصل بين الأهل وأبناء الأسرة الواحدة.
يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن تعاونكم على نشر الأخلاق وتمسككم بعقيدتكم والمحافظة على وحدة صفكم والتنبه لما يحاك ضدكم من مؤامرات، كل هذا كفيل بمواجهة مخططات الاحتلال وإفشالها، في الوقت الذي يعزز صمودكم وثباتكم في أرضكم الطاهرة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.
[1] أخرجه الترمذي في العلم، باب: فضل طلب العلم (2647)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وقال: "حديث حسن غريب، ورواه بعضهم فلم يرفعه". وحسن إسناده الضياء القدسي في المختارة (6/125)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2047).
(1/2762)
إنا عرضنا الأمانة
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, خصال الإيمان
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
15/7/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إشفاق السموات والأرض والجبال من حمل الأمانة. 2- بيان الأمانة. 3- أهمية الأمانة والتحذير من تضييعها. 4- عظم ثواب المحافظ على الأمانة. 5- مفاسد تضييع الأمانة. 6- أمانة الوظيفة والعمل. 7- أمانة الودائع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيقول الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا ?لأَمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً لّيُعَذّبَ ?للَّهُ ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْمُنَـ?فِقَـ?تِ وَ?لْمُشْرِكِينَ وَ?لْمُشْرِكَـ?تِ وَيَتُوبَ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:72، 73].
إنَّ حِملاً ثقيلاً وواجبًا كبِيرا وأمرًا خطيرًا عُرِض على الكون سمائِه وأرضِه وجبالِه، فوجِلت من حمله، وأبَت من القيام به، خوفًا من عذاب الله تعالى، وعُرضت هذه الأمانة على آدم عليه الصلاة والسلام، فحمَلها واستقلّ بها، وقول الله تعالى: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً أي: الإنسان المفرّط المضيِّع للأمانة هو الظلومُ الجهول، لا آدم عليه الصلاة والسلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الأمانةُ الفرائضُ، عرضها الله على السمواتِ والأرض والجبال، إن أدَّوْها أثابَهم، وإن ضيّعوها عذّبهم، فكرِهوا ذلك وأشفَقوا منه مِن غير معصية، ولكن تعظيمًا لدين الله تعالى) [1] ، وقال الحسن البصري رحمه الله: "عَرَضها على السَّبع الطِّباق الطرائق التي زُيِّنت بالنّجوم وحملةِ العرش العظيم، فقيل لها: هل تحمِلين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: قيل لها: إن أحسنتِ جُزيتِ، وإن أسأتِ عُوقبتِ، قالت: لا، ثم عرَضها على الأرضين السّبع الشّداد التي شُدّت بالأوتاد وذُلِّلت بالمِهاد، قال: فقيل لها: هل تحمِلين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: قيل لها: إن أحسنتِ جُزيتِ، وإن أسأتِ عوقبتِ، قالت: لا، ثمَّ عرَضها على الجبال فأبَت" [2].
الأمانةُ ـ يا عباد الله ـ هي التّكاليفُ الشرعيّة، هي حقوقُ الله وحقوقُ العباد، فمن أدَّاها فله الثّواب، ومن ضيَّعها فعليه العقاب، فقد روى أحمد والبيهقيّ وابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنّه قال: (الصّلاةُ أمانة، والوضوءُ أمَانة، والوَزن أمانةٌ، والكَيل أمانة) وأشياء عدّدها، (وأشدُّ ذلك الودائع) [3] ، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (والغسل من الجنابة أمانة) [4].
فمَن اتَّصفَ بكمَال الأمانة فقد استكمَل الدّينَ، ومن فقَد صفةَ الأمانة فقد نبَذ الدّينَ، كما روى الطبرانيّ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لا إيمانَ لمَن لا أمانةَ له)) [5] ، وروى الإمام أحمد والبزار والطبرانيّ من حديث أنَس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا إيمانَ لمَن لا أمانةَ له، ولا دينَ لمن لا عهدَ له)) [6] ، ولهذا كانت الأمانة صفةَ المرسَلين والمقرَّبين، قال الله تعالى عن نوح وهودٍ وصالحٍ عليهم الصلاة والسلام: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:107، 108].
وكلَّما انتُقِصت الأمانة نقصَت شعبُ الإيمان لِما روى مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: حدّثنا رسول الله أنَّ الأمانةَ نزلت في جذر قلوبِ الرجال أي: وسطها، ثمّ نزلَ القرآن، فعلِموا من القرآن، وعلِموا من السنَّة، ثم حدّثنا عن رفع الأمانة فقال: ((ينام الرّجل النومةَ، فتُقبَض الأمانة من قلبه، فيظلّ أثرها مثل الوَكت، ثمّ ينام الرجل، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظلّ أثرها مثل أثر المجل، كجمرٍ دحرجته على رجلك، فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء)) ، ثمّ أخذَ حصاةً فدحرجها على رجله، ((فيُصبح النّاس يتبايَعون، لا يكاد أحدٌ يؤدِّي الأمانة، حتّى يقال: إنَّ في بني فلان رجلاً أمينا، وحتى يقال للرَّجل: ما أظرفَه ما أعقله!! وما في قلبه مثقالُ حبّة من خردل من إيمان)) [7] ، والظّاهر أنَّ الرجلَ إذا تعمّد تضييعَ الأمانة بالتّساهل في الفرائض وواجبات الدّين والخيانة في حقوق العباد يعاقَب بعد ذلك بقبض الأمانة من قلبه، وينزَّه الله تعالى أن يقبِض الأمانةَ من قلب أحدٍ من غير سببٍ من العبد، ومن غير استخفافٍ منه بواجبات الدين وحقوقِ العباد، كما قال الله تعالى: فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ ?للَّهُ قُلُوبَهُمْ وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لْفَـ?سِقِينَ [الصف:5]. وآخرُ الحديث يدلّ على أنّ الأمانةَ هي الإيمان، وهي الدين وواجباته. فالتّوحيد وهو عبادة الله وحده لا شريك له وعدمُ إشراكِ أحدٍ معه في العبادة أمانةٌ، والصّلاة أمانة، والزّكاة أمانة، والصّيام أمانة، والحجّ أمانة، وصِلة الرّحم أمانة، والأمرُ بالمعروف أمانة، والنّهيُ عن المنكر أمانة، والمال أمانة فلا تستعن به على المعصية، والعين أمانة فلا تنظر بها إلى ما حرّم الله، واليدُ أمانة، والفرج أمانةٌ، والبطنُ أمانة فلا تأكل ما لا يحلّ لك، والأولادُ عندك أمانة فلا تُضيّع تربيتَهم الصالحة، والزّوجات عند الرّجال أمانة فلا تُضيَّع حقوقُهن، وحقوق الأزواج على النّساء أمانةٌ، وحقوق العباد الماديَّة والمعنويّة أمانة فلا تُنتقَص.
وقد وعد الله على أداء الأمانات والقيامِ بحقوقها أعظمَ الثّواب فقال تعالى: وَ?لَّذِينَ هُمْ لأَمَـ?نَـ?تِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ر?عُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلَو?تِهِمْ يُحَـ?فِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْو?رِثُونَ ?لَّذِينَ يَرِثُونَ ?لْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [المؤمنون:8-11] والفردوس أعلى الجنة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنّه قال: ((اكفلوا لي بستٍّ أكفل لكم بالجنّة)) ، قلت: ما هنّ يا رسول الله؟ قال: ((الصّلاة والزّكاةُ والأمانة والفرجُ والبطن واللّسان)) رواه الطبراني [8] ، قال المنذريّ: "بإسناد لا بأس به" [9] ، وفي الحديث: ((أوَّلُ ما تفقِدون من دينكم الأمانة، وآخرُ ما تفقِدون من دينكم الصلاةُ)) [10].
والتّفريطُ في الأمانات والتّضييعُ لواجباتِ الدين يورثُ الخللَ والفسادَ في أحوال النّاس، ويجعل الحياةَ مرّةَ المذاق، ويقطَع أواصِرَ المجتمَع، ويعرّض المصالحَ الخاصّة والعامّة للخطر والهدر، ويُفسد المفاهيمَ والموازين، ويؤذِن بخرابِ الكون، قال وقد سُئل: متى السّاعة؟: ((إذا ضُيِّعتِ الأمانة فانتظِر الساعة)) [11].
فاتقوا الله عبادَ الله، وحافِظوا على الأماناتِ، حافظوا على حقوق الله وحقوق العباد والواجبات، واحذَروا المحرَّمات، قال الله تعالى: وَ?لَّذِينَ هُمْ لأَمَـ?نَـ?تِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ر?عُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَـ?د?تِهِم قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ فِى جَنَّـ?تٍ مُّكْرَمُونَ [المعارج:32-35].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وبقوله القويم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه من الغفور الرحيم.
[1] أخرجه ابن جرير في تفسيره (22/54) من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وانظر: تفسير القرطبي (14/255)، وتفسير ابن كثير (3/523).
[2] أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (3/523).
[3] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5266)، وقال المنذري في الترغيب (2/358): "رواه غيره مرفوعا، والموقوف أشبه"، وقال في موضع آخر (4/4): "ذكر عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب الزهد أنه سأل أباه عنه فقال: إسناده جيد"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1763، 2995).
[4] انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (14/254).
[5] جزء من حديث أخرجه الطبراني في الأوسط (2292) وفي الصغير (162) وقال: "لم يروه عن عبيد الله إلا مندل، ولا عنه إلا حسن، تفرد به الحسين بن الحكم"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (302).
[6] أخرجه أحمد (3/135)، والطبراني في الأوسط (2606)، وهو أيضا عند أبي يعلى (2863)، وصححه ابن حبان (194)، وقال الهيثمي في المجمع (1/96): "فيه أبو هلال، وثقه ابن معين وغيره، وضعفه النسائي وغيره"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3004).
[7] أخرجه مسلم في الإيمان (143)، وهو أيضا عند البخاري في الفتن (7086).
[8] أخرجه الطبراني في الأوسط (4925، 8599)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2899).
[9] قال في الترغيب والترهيب (1/300): "رواه الطبراني في الأوسط بإسناد لا بأس به، وله شواهد كثيرة".
[10] أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (216، 217)، والضياء في المختارة (1583) من حديث أنس رضي الله عنه. وأخرجه الطبراني في الكبير (7/295) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه وليس فيه ذكر الصلاة، قال الهيثمي في المجمع (4/145): "فيه المهلب بن العلاء ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات". وجاء موقوفا عن ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي شيبة (7/256، 260، 505)، وسعيد بن منصور (97)، والطبراني (9/141، 311، 353)، والبيهقي في الشعب (2027، 5273) وغيرهم، وصححه الحاكم (2538)، وقال الهيثمي في المجمع (7/330): "رجاله رجال الصحيح غير شداد بن معقل وهو ثقة". وانظر تخريج الحديث في السلسلة الصحيحة (1739).
[11] أخرجه البخاري في العلم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والعزّةِ التي لا تُضام، أحمَد ربّي وأشكره على آلائه العِظام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فاتقوا الله حقَّ تقواه، وأطيعوه بفعل ما أمَر واجتناب ما نهى عنه وزَجر، تفوزوا بجنّته ورضاه.
قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لأَمَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ?لنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِ?لْعَدْلِ إِنَّ ?للَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58]، وهذه الآية المباركة عمّت جميعَ الأماناتِ.
ومن أعظم الأمانات الوظائفُ والأعمال والمناصبُ وحقوقها، فمن أدَّى ما يجب لله تعالى عليه فيها وحقَّق بها مصالحَ المسلمين التي أنيطَت بها والتي وُجدَت لأجلها فقد نصَح لنفسِه وإمامه، وعمِل خيرًا لآخرته، ومن قصّرَ في واجباتِ وحقوق الوظائف والمناصِب ولم يؤدِّ ما أُنيط بها من منافِع العباد أو أخذَ بها رشوةً أو اختلس بها مالاً فقد غشّ نفسَه وقدّم لها زادًا يرديها، وغدر بنفسه وظلمها، وفي صحيح مسلم أنّ رسول الله قال: ((إذا جمعَ الله الأوَّلين والآخرين يومَ القيامة يُرفَع لكل غادر لواء، ويقال: هذه غَدرة فلان بن فلان)) [1].
ومِن أعظَم الأمانات الودائعُ والحقوق التي أمِنَك النّاس عليها، فقد روى أحمد والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (القتلُ في سبيل الله يكفّر الذنوبَ كلّها إلا الأمانة)، قال: (يؤتَى بالعبد يوم القيامة فيقال له: أدِّ أمانتَك، فيقول: أي ربِّ، كيف وقد ذهبتِ الدّنيا؟! فيقال: انطلِقوا بِه إلى الهاويَة، فيُنطلَق به إلى الهاوية، وتُمثّل له الأمانة كهيئتِها يومَ دُفعت إليه، فيراها فيعرِفها، فيهوي في أثرِها حتّى يدركها، فيحملها على منكبَيه حتى إذا ظنَّ أنه خارج اخْلولت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبدَ الآبدين) [2] ، وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه أنّ النّبيّ قال: ((أدِّ الأمانةَ إلى من ائتمنك، ولا تخُن من خانك)) [3].
عباد الله، إنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه المصطفى وخليله المجتبى فقال عزّ وجلّ: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرا)) ، فصلّوا وسلّموا على سيّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
http://www.gangbangsquad.com/s 1 /i-brittany.html
[1] أخرجه مسلم في الجهاد (1735) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو عند البخاري أيضا (6177، 6178).
[2] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5266)، وقال المنذري في الترغيب (2/358): "رواه غيره مرفوعا، والموقوف أشبه"، وقال في موضع آخر (4/4): "ذكر عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب الزهد أنه سأل أباه عنه فقال إسناده جيد"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1763، 2995).
[3] أخرجه أبو داود في البيوع (3535)، والترمذي في البيوع (1264)، والدارمي في البيوع (2597) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (2296)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (423).
(1/2763)
شيّبتني هود
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
15/7/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- هجر كثير من المسلمين لكتاب الله. 2- فقْد العلم. 3- سبب مشيب النبي. 4- ضرورة تدبّر سورة هود. 5- تاريخ نزول السورة. 6- صبر الأنبياء ومصابرتهم. 7- تقرير التوحيد. 8- سنة الاحتقار لأتباع الرسل. 9- خلُق النصرة والمؤازرة. 10- أهمية القدوة الصالحة. 11- إشفاق النبي على أمته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فإنّ الوصيّةَ المطروقةَ لي ولكم ـ عبادَ الله ـ هي تقوى الله سبحانه التي هي العزّ يومَ الذلّ، وهي النّجاة يومَ الهلاك، ما خاب من تمسّك بها، وما أفلحَ من ودّعها وقلاها، فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ي?أُوْلِى ?لألْبَـ?بِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].
أيّها النّاس، النّاظر في واقع كثير من المسلمين اليوم بعين بصيرته ليوقِنُ أنّه واقعٌ مؤرِّق، إذ أنّ صلتَهم بكتاب ربّهم يكتنِفها الهَجر والعقوق، بل ولربّما وصلَ الأمر إلى أبعدَ من ذلك، حتّى إنّ أحدَنا قد لا يُبعِد النّجعة لو قال: إنّ عِلل الأمم السّابقة قد تسلّلت إلى أمّة الإسلام لِواذا مِن حيث تشعر هِي أو لا تشعر، ألا تقرؤون ـ يا رعاكم الله ـ قولَ الباري جلّ شأنه: وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ ?لْكِتَـ?بَ إِلاَّ أَمَانِىَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [البقرة:78]، أي: لا يعلمون الكتابَ إلاّ تلاوةً وترتيلاً، بحيث لا يجاوز حناجرَهم وتراقيَهم، وذلك ـ عبادَ الله ـ بسبب الغياب القلبيّ والعجز عن تدبّر القرآن، وهم على قلوبٍ أقفالها إلاّ من رحم الله، وبسبَب البُعد عن اكتشافِ سننِ الله في الأنفسِ والآفاق وحُسن تسخيرها والنفاذِ من منطوق النصّ وظاهره إلى مقصدِه ومرماه والتحرير غيرِ المبعَّض من تقديس الأفهام المغلوطةِ والتأويلات المآربيّة، والتي انحدرت إلى كثيرٍ من أوساط المسلمين على كافّة طبقاتهم من لوثاتِ عللٍ وأفهام يغذِّيها شعورٌ طاغٍ من حبّ الدّنيا وكراهيّة الموت.
كلّ ذلك ـ أيّها المسلمون ـ سببٌ ولا شكّ لذهاب العلمِ وهو موجود، ولفَقدنا الماءَ في البيداء وهو على ظهورنا محمول، على الرّغم من التقدّم الملحوظ في فنون الطّباعةِ ووسائل النّشر وتقنيات التسجيل الصوتيّ والمرئيّ. روى الإمام أحمد والترمذيّ وابن ماجه عن زياد بن لبيد الأنصاريّ رضي الله عنه قال: ذكر النبيّ شيئًا فقال: ((وذاك عند ذهاب العلم)) ، قلنا: يا رسول الله، كيف يذهب العلمُ ونحن قرأنا القرآنَ ونقرِئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرِئونه أبناءهم؟! فقال: ((ثكلتكَ أمّك يا ابنَ لبيد، إن كنتُ لأراك من أفقهِ رجلٍ في المدينة، أوليس هذه اليهود والنّصارى بأيديهم التّوراة والإنجيل ولا ينتفعون ممّا فيهما بشيء؟!)) [1].
إذًا الأمّة المنتميَة إلى القرآن لا ينبغي أن تكونَ مجهولةً مستوحِشة، مبعثرةَ الحواس وكأنّها تُنادَى مِن مكان بعيد، وكتابُ الله سبحانه ما شانَه نقصٌ ولا شابَته زيادة، فيه الخلاصة الكافيَة لأحوال النبوّات الأولى وأنباء ما قد سبق، إِنَّ هَـ?ذَا لَفِى ?لصُّحُفِ ?لأُولَى? صُحُفِ إِبْر?هِيمَ وَمُوسَى? [الأعلى:18، 19].
أيّها النّاس، لقد عاش رسول الله ثلاثةً وستّين عامًا، أسفر له بعدَها صُبح المشيب، ألمّ الشيبُ بلُمتِه، وهو سمة عفّته وتُقاه، ترى فيه هيبتَه ووقارَه، وتشاهد منه حنكتَه وعنوان تجربتِه، يسأله أبو بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه فيقول: يا رسول الله، ما شيّبك؟ قال: ((شيّبتني هود والواقعة وعمّ يتساءلون وإذا الشّمس كوِّرت)) رواه الترمذي والحاكم وأبو يعلى [2].
فيا لله أيّها المسلمون، إنّنا لنسمع كثيرًا أنّ السنّ سبب في الشّيب، وأنّ صروف الحياة ومهامِهَهَا المتقلّبة تشيب منها المفارق، فما ظنّكم بمن تمرّ به هذه كلّها واحدةٌ تلوَ الأخرى ثمّ هو ينسب المشيبَ إلى آياتٍ من كتاب ربِّه يردّدها ومعانٍ يتأوّلها ويتدبّرها.
لماذا سورةُ هودٍ أيّها المسلمون؟ ما الذي تحويه هذه السّورة كي تُحدِثَ تغيّرًا في النفس والحال؟ بلهَ التغيّر الذي يكون على البدن والأعضاء؟
إنّ هذا الحديث برمّته ليستحثّنا إلى أن نكشفَ اللثام ونذوّب الرَّان الذي يغشى القلوبَ حينما تمرّ بنا هذه السّورة وأخواتُها دون أن تستوقفَنا مليًّا لنعلم بوضوح وجلاءٍ كيف شيَّبت مفارقَ إمامنا وقدوتِنا ، يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: دخلتُ على امرأةٍ وأنا أقرأ سورةَ هود، فقالت: يا عبد الرحمن، هكذا تقرأ سورة هود؟! واللهِ إني فيها منذ ستّة أشهر وما فرغتُ من قراءتها [3].
ولا غروَ ـ أيها المسلمون ـ أن تقول المرأة مثلَ هذا، فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه قبلها: (لا تهذُّوا القرآنَ هذّ الشّعر، ولا تنثروه نثرَ الدّقل، وقِفوا عند عجائبِه، وحرّكوا به القلوبَ، ولا يكن همُّ أحدِكم آخرَ السورة) [4].
لقد نزلت سورةُ هود بجملتها بعدَ سورة يونس وسورة الإسراء، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم من المفسّرين. وهذه الفترةُ التي نزلت بها هذه السورة تُعَدُّ من أحرجِ الفترات وأشدّها كمدًا على نبيّنا ؛ لأنّها مسبوقة بأعظم حَدَثين له، فقد تُوفّيت زوجُه خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها، وكانت له وزيرَ صدقٍ على الإسلام، يشكو إليها، وهي معه في المِحنة قلبًا مع قلبِه، بمالِها تواسيه، وبكلامِها تسلّيه، وتُوفِّي عمّه أبو طالب، وكان له عضُدًا ومنَعَة وناصرًا على قومِه، حتى تتابعت على رسول الله المصائب، فسُمِّي ذلك العام عامَ الحزن، فكان نزول سورة هود في مثل هذه الفترة تسليةً وتثبيتًا له ولمَن معه مِن المؤمنين، وتسريةً عنه وعنهم ممّا يساوِر قلوبَهم من الوحشة والضّيق والغربَة، في مجتمعاتٍ تكاد تجمِع على تكذيبهم والبَطش بهم، ومن ثمّ يكون وقعُ مثلِ هذه السورة منصبًّا على القصَصَ والأمثال؛ لأنّ فيها من التّسلية والعبرة وشدِّ العزم والحضّ على الصبر والمجاهدة ما ليس في غيرها، وَكُلاً نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء ?لرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120].
فيرى رسول الله السورةَ برمّتها تتحدّث عن نوح وقومِه وهودٍ وقومه وصالح وقومِه وإبراهيمَ وقومِه ولوط وقومِه وشعيبٍ وقومه ثمّ موسى مع فرعونَ وملئه، جملةٌ من الأنبياء، ثلاثة منهم من أولي العزمِ من الرّسل، يواجه اللاحقُ منهم مع قومه مواقفَ مشاكلة لما واجهه السابقُ منهم، ويصدُق في الجميع قوله جلّ وعلا في سورة يوسف: حَتَّى? إِذَا ?سْتَيْئَسَ ?لرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّىَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ?لْقَوْمِ ?لْمُجْرِمِينَ [يوسف:110]. يشير سبحانه إلى أنّ مرحلةَ اليَأس إنّما تكون بعد تتابُع ضرباتِ الجهال من أقوام الرّسل والوقوع تحتَ وطأة الشّتم والتكذيب والإجماع على التآمر، ناهيكم عن اختناق أنفاسهم فتراتٍ، ثمّ يتعرّضون خِلالها للموت كرّاتٍ ومرّات، ليكُن ذلك كلُّه فإنّ سنّة الله لا تتخلّف، وخليقٌ بأنبياء الله ورسله وأتباعهم أن يصابروا ويرابطوا حتّى يأذن الله لهم بالفرج.
لقد افتتحَ الله جلّ وعلا سورةَ هود بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَـ?تُهُ ثُمَّ فُصّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ ?للَّهَ إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ [هود:1، 2]. إنّ هذا الكتابَ الذي أُحكمت آياته فُسِّر مضمونُه بأنّه ينبغي أن لا يُعبَدَ إلا الله في الأرض، وأنّ هذه العبادة والدّعوة إليها لم تكن بِدعًا من الدعوات، ولا هي وليدةَ نزولها على محمّد ، إنّما هي دعوة الرّسل من أوّلهم إلى آخرهم، كلّهم يقولون لأقوامهم: اعبُدوا الله ما لكم من إله غيره؛ فلا ذبحَ إلا لله، ولا رجاءَ إلا في الله، ولا خوفَ إلا من الله، ولا استغاثة واستعانةَ إلا به، ولا توكّل إلا عليه، ولا رغبة ولا رهبة إلا له ومنه، ولا تحكيمَ إلا بشرعه الذي شرَعَه.
بعدَ هذه الآيةِ يتتابع القصَص، فيكون من حوارات نوح وقومِه أن قالوا له: مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ ?تَّبَعَكَ إِلاَّ ?لَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ ?لرَّأْى وَمَا نَرَى? لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَـ?ذِبِينَ [هود:27]، ويقول قوم محمّد مثلَ ما قال قوم نوح: إِذْ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ [الأنفال:49].
إنّه الاحتقار والازدراءُ الذي ينبعث من النّفوس الخبيثة والمليئةِ بالضّغينة والكِبر الذي هو بطر الحقّ وغمط النّاس. إنّه احتقارٌ لصاحب الرّسالة من أولي العزم من الرّسل، يتبعه ازدراءٌ مشين للأتباع المخلِصين. إنّه ليس عارًا ألبتّةَ رذالةُ مَن اتّبعوا الحقّ، فإنّ الحقّ في نفسه صحيح، سواء اتّبعه الأشراف أو الأراذل من الناس، يقول ابن كثير رحمه الله: "بل الحقّ الذي لا شكّ فيه أنّ أتباعَ الحقّ هم الأشراف ولو كانوا فقراءَ، والذين يأبَونه هم الأراذل ولو كانوا أغنياء" [5] ، ولمّا سأل هرقل ملكُ الرّوم أبا سفيان عن صفاتِ النبي قال له فيما قال: أشرافُ الناس اتّبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل [6].
لو كان الاتّباع بالشّرف ـ أيّها المسلمون ـ لما رفع الإسلامُ سلمانَ الفارسيّ، ولما وضع الشركُ الشقيَّ أبا لهب، ورسول الله يقول في الحديث الصحيح: ((رُبّ أشعثَ أغبَر ذي طمرَين مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسمَ على الله لأبرَّه)) [7] ، ولمَّا رأى الصحابة رضي الله عنهم عبدَ الله بن مسعود رضي الله عنه وهو على نخلة، فضحِكوا من دقَّة ساقَيه، والريحُ تميل بهما، فقال رسول الله : ((أتعجبون من دقّة ساقيه؟! إنّهما أثقل في الميزان من جبل أحد)) [8].
إنّ أمثالَ هؤلاء المحتقَرين من قِبل بعض أهل الزُهُوّ والأنفة وذوي النّزَق [9] لتعلو بهم المكانة في الآخرة جرَّاءَ إيمانهم بربّهم وتوكّلهم عليه، على ضعفٍ في قوّتهم وقلّة الناصرين لهم من النّاس، حتّى ألِفوا مسلكَ النّزاهة والاستقامة؛ لأنّ الرجلَ الخرِب الذمّة الساقطَ المروءة لا قوّة له ولو لبِس جلودَ السباع وتسربَل بدروع المُحارب المدجّج أو مشى في ركاب العظماء من بني الدّنيا. وهذا درسٌ جِدُّ مهمّ ضرب الله لنا مثلَه حينما قال لوط عليه السلام: لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءاوِى إِلَى? رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]، يقول أبو هريرة رضي لله عنه: قال رسول الله : ((رحمةُ الله على لوط، لقد كان يأوي إلى ركن شديد)) [10] يعني الله عز وجل.
فلا إله إلا الله، كم يُصيب محتقِريهم من همّ وغمّ حين تتجلّى الأمور وتنكشف، ويدخل أهل النّار النّار فيقولون حينها: مَا لَنَا لاَ نَرَى? رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ ?لأشْرَارِ أَتَّخَذْنَـ?هُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ ?لأبْصَـ?رُ [ص:62، 63]، والجواب يا رعاكم الله: وَنَادَى أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ أَصْحَـ?بَ ?لنَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ ?للَّهِ عَلَى ?لظَّـ?لِمِينَ [الأعراف:44].
وفي ثنايا سورة هود يعترضنا قصَصٌ هو من الأهمّية بمكان، يتبيّن من خلاله صدقُ المدّعي وصفاء قلبه وحبُّه المتجرّد من الغَشَش والدّخيلة تجاه إخوانه في الدّين وبني ملّته، حيث يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه، يعلم خطورةَ خذلانهم وخطورةَ إعانتهم على باطلهم وعظمَ ذلك عند الباري جلّ وعلا، يعلم أثرَ قول المصطفى : ((انصُر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) [11] ، وأنّ نصرَه [ظالمًا] هو حجزُه عن الظّلم، ويعلم قولَه : ((المسلم أخو المسلم، لا يظلِمه، ولا يخذله، ولا يسلمه)) [12] ، فهو لا يظلمه ولا يخذله في الحقّ، ولا يُسلمه لأهوائه ونزغات الشّيطان التي تميد به عن سواء الصّراط.
هذه المبادئ الرّاسخة ينبغي أن يعيَها كلّ مسلم تجاه إخوانه في الملّة. إنّه موقفُ نوح عليه السلام من أتباعه المؤمنين حينما قال لقومه: وَي?قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبّهِمْ وَلَـ?كِنّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَي?قَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ ?للَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [هود:29، 30]، يقول ابن كثير رحمه الله: "كأنّهم طلبوا منه أن يطردَ المؤمنين عنه احتشامًا ونفاسَة منهم أن يجلسوا معهم، كما سأل أمثالهم خاتمَ الرسل أن يطردَ عنهم جملةً من الضعفاء، ويجلس معهم مجلسًا خاصًّا، فأنزل الله: وَلاَ تَطْرُدِ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِ?لْغَدَاةِ وَ?لْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنعام:52]" [13].
إنّ المسلم الحقَّ لينأى بنفسه أن يضعَ حظوظه على الإضرار بإخوانه من خلال الحسَد أو التشفّي أو إيثار العاجل على الآجل أو الوقوع في الاجتهادات الخاطئة أو البُعد عن النّصح المشروع وتوجيه النّاس وإرشادهم من خلال الحثّ على الخير أو الحجز عن الشرّ، أو أن يبنيَ كيانه وبُلغَته على أنقاص غيره وشِقوتِه، كلا، وهيهات هيهات أن يتمخّض مثل هذا البتّ المهتزّ عن نهايةٍ صالحة. إنّه في الحقيقةِ كمسلكِ إخوةِ يوسف عندما نشدوا راحتَهم بقولهم: ?قْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ?طْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَـ?لِحِينَ [يوسف:9]، وصدَق رسول الله إذ يقول: ((من أكَل برجل مسلم أكلةً فإنّ الله يطعمه مثلَها من جهنّم، ومن كُسي ثوبا برجل مسلم فإنّ الله يكسوه مثلَه من جهنّم، ومَن قام برجل مسلم مقامَ سمعة ورياء فإنّ الله يقوم به مقامَ سمعةٍ ورياء يومَ القيامة)) رواه أحمد وأبو داود [14].
ولا يسعُنا إلاّ أن نقولَ كما قال النبيّ : ((اللهمّ إنّا نعوذ بك من الجوع فإنّه بئسَ الضجيع، ونعوذ بك من الخيانة فإنّها بئست البطانة)) [15].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنّة، ونفعني وإياكم بما فيها من الآيات والحكمة، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.
[1] أخرجه أحمد (17473)، وابن ماجه في الفتن (4048) من طريق الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن زياد به. وصححه الحاكم (3/590)، ووافقه الذهبي، لكن سالمًا لم يسمع من زياد فهو منقطع. وله طريق أخرى، فأخرجه الترمذي في العلم (2653)، والدارمي في مقدمة سننه (288)، ومن طريقه البيهقي في المدخل (854) من طريق عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن أبي الدرداء، وقال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه الحاكم (1/179)، ووافقه الذهبي، لكن عبد الله بن صالح كاتب الليث فيه ضعف، وقد خولف، فرواه أحمد (23990)، والنسائي في الكبرى (5909) من طريق الوليد بن عبد الرحمن عن جبير بن نفير عن عوف بن مالك، وصححه ابن حبان (4572)، والحاكم (1/98-99)، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في تعليقه على المشكاة (1/81): "سنده صحيح".
[2] أخرجه الترمذي في التفسير (3297) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: "حسن غريب لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (2/476) على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وكذا الألباني في السلسلة الصحيحة (955).
[3] أخرجه البيهقي في الشعب (2/361)، وانظر: صفة الصفوة (3/192، 4/440).
[4] أخرج بعضه البيهقي في الشعب (2/360)، وعزاه ابن كثير في تفسيره (4/235) للبغوي.
[5] تفسير القرآن العظيم (2/443).
[6] أخرجه البخاري في بدء الوحي (7)، ومسلم في الجهاد (1773) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[7] أخرجه مسلم في البر (2622) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[8] أخرجه أحمد (1/420)، والبزار (1827، 3309)، وأبو يعلى (5310، 5365)، والشاشي (661، 904)، والطبراني (9/78)، وأبو نعيم في الحلية (1/127)، والبغدادي في تاريخه (1/148، 7/191) من طرق، وصححه ابن حبان (7069)، وقال الهيثمي في المجمع (9/289): "أمثل طرقها فيه عاصم بن أبي النجود وهو حسن الحديث على ضعفه، وبقية رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح".
[9] النزق: الطيش والخفة عند الغضب.
[10] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3372، 3387)، ومسلم في الإيمان (151).
[11] أخرجه البخاري في المظالم (2443، 2444) من حديث أنس رضي الله عنه.
[12] أخرجه البخاري في المظالم (2442)، ومسلم في البر (2580) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وليس فيه: ((ولا يخذله)).
[13] تفسير القرآن العظيم (2/444).
[14] أخرجه أحمد (4/229)، وأبو داود في الأدب (4881)، وأبو يعلى (6858)، والطبراني في الكبير (20/309) والأوسط (697، 3572)، والبيهقي في الشعب (6717) من حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (934).
[15] أخرجه أبو داود في الصلاة (1547)، والنسائي في الاستعاذة (5468، 5469) وابن ماجه في الأطعمة (3354) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (1029)، والنووي في رياض الصالحين (ص472)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (3002).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا يليق بجلاله وعظمتِه، لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، قصصٌ آخر من قصَصِ سورة هود، يُراد من خلاله التنويهُ إلى أهمّية القدوة الصالحة وأثرِها في بناء المجتمعات ورِفعتِها، لا سيّما إذا كان أصحابها من ذوي الهيئاتِ كالسّلاطين والعلماء والأمراء وكبَراء النّاس، ويزداد الأمر قوّة في المصلحين ومَن ينتسبون إلى الصّلاح؛ إذ خطواتُهم محسوبة وأفعالهم مرقوبة، وأعين النّاس تقع على ما يظهر منهم في القول والفعل، فما أعظمَها هوّةً حين يرونَه حيث نهاهم، ينكر منكَرًا فيأتي مثلَه، أو يحذّر من بدعةٍ ويقع في أختِها؛ تسقط هيبته، ويتضاءل الاقتداءُ به، فيخلِط العامّة بين حقِّه وباطله وزينه وشينِه، ومِن ثمّ تكون حالات النّاس معهُ:
يومًا يمانٍ إذا لاقيتَ ذا يمنٍ وإن لقيت معَدّيا فعدناني
فيكثر تتبُّع الرّخص من قِبلهم والتشوّف إلى الزّلاّت والثغرات، ولقد تمثّل النّأي عن ذلك في شخص النبيّ شعيب عليه السلام حينما قال لقومه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى? مَا أَنْهَـ?كُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ?لإِصْلَـ?حَ مَا ?سْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِ?للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
وبعد: أيّها النّاس، فإنّ القصص في السورة يتتابع، والنّهل منها في مثل هذه العجالة يطوّل بنا المقامَ، إلاّ أنّ ثمّة أمرًا يحسُن أن نختمَ به، وهو أنّ الرسل جميعًا قد دعوا أقوامَهم إلى الله، فلمّا لم يستجيبوا لهم تنوّع عليهم العذاب، فمنهم من أرسلَ الله عليه حاصبًا، ومنهم من أخذته الصّيحة، ومنهم من خسف الله بهم الأرض، ومنهم من أغرق.
وبعدَ تمام السّرد يقول الله لنبيه : ذ?لِكَ مِنْ أَنْبَاء ?لْقُرَى? نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ [هود:100]، ثم يقول: وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، ثمّ يتّجه الخطاب إلى النبيّ مرّةً أخرى بهذا الإنذار الذي فيه التّحذير من الرّيبة أو الشكّ في صحّة ما يدعو إليه: فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابَاؤهُم مّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ [هود:109]. إنّ توفيةَ هذا النّصيب تعني هلاكَ من بلغتهم الرّسالة ثمّ هم يعاندون، فإنّهم سيطيحون كما طاحَ آباؤهم من قبل.
ألا إنّ هذا نذيرٌ مقلِق، وإنّ خوفَ النبيّ على مستقبلِ أمّته وقومِه جعل الشيبَ يتسلّل إلى رأسِه، ما يحبّ أن يكونَ لهم مثلُ هذا المصير المزهِق، ولذلك قال النبيّ لصحبِه: ((كلّ أمّتي يدخل الجنّة إلا من أبى)) ، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنّة، ومن عصاني فقد أبى)) [1].
هذا، وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشريّة، محمد بن عبد الله بن عبد المطّلب صاحب الحوض والشّفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون، فقال عزّ من قائل عليم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...
[1] أخرجه البخاري في الاعتصام (7280) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/2764)
حقيقة الشهادتين
التوحيد, قضايا في الاعتقاد
أهمية التوحيد, الاتباع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
15/7/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ركنا التوحيد. 2- مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله. 3- مقتضيات شهادة أن محمدا رسول الله. 4- تعظيم السلف للسنة النبوية. 5- التحذير من الغلو في النبي. 6- كلمة توجيهية للمعلمين والمعلمات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، ركنا التوحيد تحقيقُ شهادة أن لا إله إلا الله وتحقيق شهادة أنّ محمدًا رسول الله، فلا إسلامَ لعبدٍ حتى يحقِّق معنى هاتين الشهادتين تحقيقًا عن صدق وإخلاصٍ ويقين.
شهادةُ أن لا إله إلا الله تُلزم قائلَها إفرادَ الله بجميع أنواع العبادة. تلزم قائلَها أن يعتقدَ أنّ الله وحده المعبود بحقّ، وأنّ كلّ [معبود] سواه فإنّما هو معبودٌ بباطل، ذَلِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ?لْبَـ?طِلُ [لقمان:30]. تلزم قائلَها أن يكونَ دعاؤه لله وحدَه، فلا يدعو مع الله غيرَه. تلزِم قائلها أن تكونَ كلّ عباداته [لله]، فذبحُه لله، ونذره لله، وتوكّله على الله، ورغبته فيما عند الله، وخوفه الحقيقيّ من الله، وكمال رجائِه لله، وتجعل قلبَه متعلّقًا بالله محبّةً وخوفًا ورجاءً، يعلم حقّا أنّ الله إنّما خلقه ليعبده وحدَه لا شريك له، فهو حينما ينطق بكلمة "لا إله إلا الله" فإنّما ينطق بها مُعلِنًا توحيدَ الله، مُعلِنا إخلاصَ دينه لله، مُعلِنًا براءتَه من كلّ ما يُعبَد من دون الله، متألِّها لله حقًّا بقلبه ولسانه وجوارحه، فتلك الشهادة النافعة المؤثّرة التي مَن كانت آخرَ كلامه من الدنيا دخل الجنة.
وثاني ذلك تحقيق شهادة أنّ محمّدًا رسول الله، فتلزم هذه الكلمة قائلَها الإيمانَ بمحمّد ، وأنّه عبد الله ورسوله، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَ?لْكِتَـ?بِ ?لَّذِى نَزَّلَ عَلَى? رَسُولِهِ وَ?لْكِتَـ?بِ ?لَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ [النساء:136]. يؤمن بهذا النبيّ الكريم، وأنّه خاتم أنبياء الله ورسله، مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَـ?كِن رَّسُولَ ?للَّهِ وَخَاتَمَ ?لنَّبِيّينَ [الأحزاب:40]. يؤمن بعموم رسالته وشمولِها، وأنّ رسالته عامّة لكلّ الثقلين جنِّهم وإنسهم، وأنّ الله جل وعلا افترض على العباد كلِّهم طاعةَ هذا الرسول واتّباع شريعته، وأنّ من خرج عن شريعته فليس بمؤمن، وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28]، قُلْ ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنّى رَسُولُ ?للَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، وعنه قال: ((لا يسمع بي من يهوديّ ولا نصرانيّ ثمّ لا يؤمن بي إلا دخل النّار)) [1]. وتلزم هذه الكلمة قائلَها طاعةَ هذا النبيّ الكريم وامتثالَ أمره، فإنّ طاعته طاعة لله، مَّنْ يُطِعِ ?لرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ?للَّهَ [النساء:80]، وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ [الحشر:7]. تلزم قائلها تصديقَ هذا النبيّ الكريم، وَ?لَّذِى جَاء بِ?لصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُتَّقُونَ [الزمر:33]. تلزم قائلها الاستجابةَ له ، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]. تلزم قائلَها التحاكمَ إلى سنته والرضا بحكمه والاطمئنان وانشراح الصدر لذلك، فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65]. تلزم قائلها أن يصدرَ كلّ أحواله من هذه السنة النبويّة، وأن يردَّ كلّ نزاع إلى الكتاب والسنة، فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ?للَّهِ وَ?لرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ ذ?لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]. تلزم قائلها نصرةَ هذا النبيّ في حياته ونصرتَه بعد موته بالدفاع عن سنته وحماية شريعته، فَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَ?تَّبَعُواْ ?لنُّورَ ?لَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157].
أيّها المسلم، إنّ الخارجين عن سنّته والمعطّلين للعمل بها لا يخلو إمّا أن يكون ـ والعياذ بالله ـ عدم إيمان بسنّته وعدمَ يقين بها، فهذا ـ لا شك ـ ردّةٌ عن الإسلام، فإنّ مَن لم يقبل سنّته ويرفض العملَ بها فقد ردّ شرع الله، يقول الله جل وعلا: وَمَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم:3، 4]، ويقول : ((ألا إنّي أوتيتُ القرآن ومثله معه)) [2] ، ومن قدّم الهوى على سنّته فذلك ضلال بعيد، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِينًا [الأحزاب:36].
وتلزم قائلَها أن يقدِّم سنةَ رسول الله على قول كلّ قائل كائنًا من كان، فلا قولَ لأحد مع قوله ، فقوله الحقّ، وحكمُه العدل، ولقد كان سلف الأمّة يعظّمون هذه السنّة تعظيمًا كبيرًا، ويذمّون من خالفها أو حاول تقديم آراء النّاس عليها، قال الإمام الشافعي رحمه الله: "لا يجوز لمسلم بلغته سنّة رسول الله أن يدعَها لقول قائلٍ من الناس كائنًا من كان".
حدَّث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله أنّه قال: ((إذا استأذنَت أحدَكم امرأتُه إلى المسجد فلا يمنعها)) ، فقال ابنٌ لعبد الله: واللهِ لنمنعهنّ، قال الراوي: فسبّه عبد الله سبًّا ما سمعتُه سبّه مثلَه وقال: أقول لك: قال رسول الله وتقول: لأمنعهنّ!! [3] ولمّا حدّث أحد الصحابة عن النبي أنّه نهى عن الحذف بالحجارة وقال: ((إنّه لا ينكأ عدوًّا، ولكن يفقأ العينَ ويكسِر السن)) ، فخالفه أحد أبنائه فقال: والله، لا أكلّمُك أبدًا [4] ؛ لأنّ تعظيم هذه السنة في نفوسهم شيء كبير.
إنّ المؤمنَ حقًّا المؤمن برسول يعلم أنّه الواسطة بينه وبين الله في تبليغ شرعه، وهو يتحرّى سنّته، ويقتدي بسنّته، قال الله تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]. فهو يقتدي بسنته في الأقوال والأعمال، ولقد ذكر الصحابة رضوان الله عليهم هديَ النبيّ في كلّ شؤون حياتِه، ليبيّنوا للنّاس هذه السّنّة، ويوضحوا لهم هذه الطّريقة، فالمسلم حقّا من يقتدِي بمحمّد في صلاته وفي كلّ شؤونه، فهو صلّى بالناس وقال: ((صلّوا كما رأيتموني أصلّي)) [5] ، وحجّ بالناس وقال: ((خذوا عنّي مناسككم)) [6].
والصحابة رضوان الله عليهم نقلوا لمَن بعدهم هديَ النبيّ في كلّ أحواله، نقلوا هديه في سفره وحضره، نقلوا سنّته في منامه ويقظتِه، نقلوا سنّته في ضحكه وبكائه، وفي كلّ أحواله وتعاملاته، وفي كلّ أخلاقه، أوضَحوا للنّاس هذا بأقوالهم وأعمالهم، إذ هو القدوة الكاملة والأسوة الحسنة صلّى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
هكذا الإيمان به، اتّباعٌ لسنّته، وعمل بها، وتحكيمٌ لشريعته، لكنّهم لا يغلون فيه غلوَّ النّصارى في أنبيائهم، فلا يرفعونه عن منزلته التي أنزله الله إياها؛ لأنّه يأبى ويكرَه ذلك، يقول لنا : ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابنَ مريم، إنّما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)) [7] ، وقال أيضًا في دعائه: ((اللهمّ لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتدّ غضب الله على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) [8] ، حذّر ما يصنعون خوفًا عليهم من الشرك الذي وقع فيه من قبلهم.
فالمحبّ له هو المعظِّم لسنّته، العاملُ بشريعته، المقتدي به في أقواله وأعماله، ليس المحبّ له من يغلو فيه ومن يرفعه فوق منزلته التي أنزله الله إياها، فهو عبد الله ورسوله، عبدٌ لا يعبَد، ورسول لا يكذَّب، وإنّما يُطاع ويُتّبع صلوات الله وسلامه عليه. فأسعدُ الناس به من اتّبع سنّته وعمل بها وطبّقها على نفسه في أقواله وأعماله، فإنّه يكون بذلك من الصادقين، ويكون بذلك من المؤمنين حقًّا.
هكذا حال سلف الأمّة من الصّحابة والتابعين، تعظيمًا لهذه السنة، ورضًا بها، واطمئنانًا بها، ولا يزال المسلم يتحرّى اتّباعَ سنّته ويتحرى الاقتداء به في الأقوال والأعمال حتى يكون بذلك من الصادقين.
أسأل الله أن يثبّتنا وإياكم على دينه، وأن يجعلنا وإيّاكم من المؤمنين حقًّا، إنّه على كلّ شيء قدير.
ومِن حقّه إكثارُ الصلاة والسلام عليه، فهو يقول: ((من صلّى عليَّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)) [9] ، وقد أمرنا الله بقوله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (153) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه أحمد (4/130)، وأبو داود في السنة (4604) من حديث المقدام بن معديكرب رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (12)، والحاكم (1/109)، وأقره الذهبي، وهو في صحيح سنن أبي داود (3848).
[3] أخرجه البخاري في الأذان (873)، ومسلم في الصلاة (442)، وهذه رواية الدارمي في مقدمة سننه (442).
[4] أخرجه البخاري في الأدب (6220)، ومسلم في الصيد (1954) عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الأذان (631) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
[6] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).
[7] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3445) من حديث عمر رضي الله عنه.
[8] أخرجه مالك في الموطأ: كتاب النداء للصلاة (416) عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلا، ومن طريقه ابن سعد في الطبقات (2/240-241)، ووصله عمر بن محمد عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا، أخرجه البزار ومن طريقه ابن عبد البر في التمهيد (5/43)، ونقل عن البزار أنه قال: "إن مالكا لم يتابعه أحد على هذا الحديث إلا عمر بن محمد عن زيد بن أسلم، وليس بمحفوظ عن النبي من وجه من الوجوه إلا من هذا الوجه، لا إسناد له غيره، إلا أن عمر بن محمد أسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي ، وعمر بن محمد ثقة روى عنه الثوري وجماعة"، وقد ظنّ ابن عبد البر أن عمر هذا هو عمر بن محمد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فصحح الحديث بناء عليه، والظاهر أنه ليس كذلك بل هو عمر بن محمد بن صهبان كما جاء مصرحا به في بعض نسخ البزار، ولذا قال الهيثمي في المجمع (2/28) بعدما عزا هذا الحديث إلى البزار: "وفيه عمر بن صهبان وقد اجتمعوا على ضعفه". وللحديث شاهد مسند من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه أحمد (2/246)، والحميدي (1025)، وأبو يعلى (6681)، والمفضل الجندي في فضائل المدينة (51)، وصححه الألباني في تحذير الساجد (ص17). وشاهد آخر من حديث عمر رضي الله عنه، قال الدارقطني في العلل (2/220): "يرويه أصحاب الأعمش عنه عن المعرور عن عمر موقوفا، وأسنده عبد الجبار بن العلاء عن ابن عيينة عن الأعمش عن المعرور عن عمر عن النبي ، ولم يتابع عليه، والمحفوظ هو الموقوف".
[9] أخرجه مسلم في الصلاة (384) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عبادَ الله، غدًا السبت اليوم السادس عشر من الشّهر السابع لهذا العام، يبدأ أبناؤنا وبناتنا عامًا دراسيًّا جديدًا، نسأل الله أن يكون عامَ خير وبركة على الجميع.
أيّها الإخوة، ابتداءُ الفصل الدراسي لهذا العام في جميع مراحل التعليم الجامعيّ فما دونه، وبهذه المناسبة العظيمة أحبّ أن أتحدَّث حديثًا قصيرًا مع إخواني المعلّمين ومع الأخوات المعلّمات ومع سائر مَن هو مُعنى بالتّربية والتعليم ومن هو مسؤول عنها على اختلاف مسؤوليّتهم.
فليعلمِ الجميع أنّ الواجبَ تقوى الله في كلّ الأحوال، فتقوى الله واجبٌ على كلّ فرد، في نفسه وفيما تحتَ يده، تقوى الله واجب على كلّ فرد في نفسه، وواجب عليه تقوى الله فيما وُلِّي مِن أمانة وما عُهِد إليه من مسؤولية، والله سائلٌ كلَّ راعٍ عمّا استرعاه حفِظ ذلك أم ضيّعه.
وفي الحقيقة المسؤولون عن التّعليم عمومًا عليهم مسؤولية عظيمة وواجب كبير، ذلكم أنّ التعليم ليس المهمّ منه مجرّد إمضاء الوقت وانقضاء الفصل شهرًا بعد شهر، وليس المهمّ منه مجرّد أداء المعلّم حصّةً دراسيّة يؤدّيها وينصرف، ولكن الواجب على المعلّم والمعلّمة أمران:
أمرٌ يتعلّق بأداء العمل ذاتِه وأداءِ المنهج وتبيين ذلك وتوضيحه.
وواجبٌ آخر سلوكيّ، أن يكونَ اهتمام المعلّم والمعلّمة بسلوك الطالب والطالبة، الاعتناء بسلوكهم، بمعنى: الحرص على شرح الحقّ لهم وتوضيح الهدى لهم، الحرص على أن يزوّدَهم بعلومٍ نافعة وأفكار طيّبة، وأن يزيلَ عن نفوسهم كلّ ما علق بها من شُبَهٍ وشكوك وأوهام.
إنّنا في عالم اليوم امتلأ بالقنوات الفضائيّة المتعدّدة ووسائل الإعلام المختلفة التي تبثّ في العالم أمورًا كثيرة ومسلسلات وبرامج متعدّدة، منها ما هو شرّ محض، ومنها ما هو دون ذلك، ومنها ما فيه شيء من خير، إلى غير ذلك. ولا شكّ أنّ وسائل الإعلام على اختلافها غزت كلَّ بيت، وأصبَح كلٌّ يشاهد ويقرأ وينظر ويرى.
فالواجبُ على رجال العِلم والتّربية أن يتَّقوا الله في أنفسهم، وأن يحاولوا إصلاحَ نشئنا وتوجيههم التوجيهَ السليم، وعندما يرى أو يسمع مِن بعضهم فكرًا طرأ عليه وعلق به من تلكم الأفكار المنحرِفة البعيدة عن الهدى التي لا ارتباطَ لها بديننا ولا بأخلاقنا وبأوضاع مجتمعنا الطيّب، فالواجب أن نعالجَ ذلك، بأن نكشفَ هذه الأشياء الضارّة، ونوضح هذه الأمور الباطلة، ونحذِّر منها بالأصول والقواعد الشرعيّة.
إنّ المعلِّم أو المعلّمة لهم أثر عظيم في توجيه النّشء بالتّوجيه السليم، وحتى مدرِّسي الجامعات ومَن يلقي المحاضرات لا بدّ أن يهتمَّ بإصلاح العقيدة والسلوك والدعوة إلى مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال، وعندما يشعر من إنسانٍ يحمل فكرًا غريبًا ورأيًا مخالفا فعليه أن يتّقيَ الله وأن يكونَ ذا أفقٍ واسع وصدر رحبٍ ليصغيَ إلى ما عند أولئك، ويستمعَ إلى ما لديهم من أفكار وآراء، حتّى يستقصيَ كلَّ الأمور، ثمّ يحاول علاجَها بالأسلوب النافع المؤثِّر الذي يدعو إلى قبول ذلك الإنسان الحقّ وزهده في هذا الباطل.
هذه التّوعية لا بدّ منها، فالأمّة اليومَ بأمسّ الحاجة إلى أن تحصَّن فكريًّا وعقديًّا مِن أخطار تلك الحمَلات الإعلاميّة الجائرة المختلفة التي يقوم عليها وعلى إعدادِها أمّة تعادي الأمّة، بل تعادي الإنسانيّةَ بأسرها، تدعو إلى كلّ رذيلة وفساد، وإلى كلّ خُلُق منحرف، وإلى كلّ فِكر سيّئ، فهذه الأمور لا نستطيع أن نُغلقَها أمامَ شبابنا وفتياتنا، لكن نستطيع أن نحصِّن نفوسَهم، نحصِّن قلوبهم وأفكارَهم بالتوعيّة السليمة والتربية النافعة والدعوة الصادقة وتوضيح ذلك الباطل ودحضِه بالحجج الشرعيّة، حتى نتمكّن بتوفيق الله من تحصين نشئِنا وإحاطتِهم بالأخلاق القيّمة، ليكونوا على بصيرة في دينهم، وليتركوا هذه الآراء الشاطّة البعيدة عن الهدى والحقّ.
هي حملاتٌ إعلاميّة جائرة مسخَّرة ضدّ الأمة الإسلاميّة بالأخصّ، بل ضدّ الخَلق كلّهم، فلا بدّ للمعلّم والمعلّمة ـ كلٌّ على حسَب قدرته ودرجته ـ أن يحمل هذا الفكرَ وهو تحصين هذا النّشء ودعوتهم إلى الخير وتحذيرُهم من وسائل الهَدم والضلال.
إنّ الأمّة مستهدفة في دينها، ومستهدفة في أمنها وقيَمها وأخلاقها، والأعداء يحاولون إبعادَها عن دينها وأخلاقها، لكن إذا تكفّل المعلّمون ذكورًا وإناثًا بهذه التّوعية السليمة والتوجيه الصادق فإنّي أرجو من الله أن يكونَ لهم أثرٌ في سلامة مجتمعنا وحماية أبنائِنا من الانزلاق في هذه الرذائل.
أسأل الله للجميع التوفيق والعونَ والثبات على الحقّ والاستقامة عليه، إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد امتثالاً لأمر ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ في خلفائه الراشدين...
(1/2765)
أمة لا تعرف القنوط
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, الكبائر والمعاصي
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
15/7/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من القنوط واليأس من رحمة الله. 2- القنوط يدفع العبد إلى المزيد من المعاصي. 3- القنوط صفة الضالين. 4- أمتنا لا تعرف القنوط في الشدائد. 5- حديث الطائفة المنصورة بلسم لجراحات المسلمين. 6- استمرار الجرائم اليهودية لتهويد القدس وهدم الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في سورة الزمر: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، لهذه الآية الكريمة سبب نزول، فقد أخرج الشيخان البخاري ومسلم عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله نداً، وهو خلقك)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تزاني حليلة جارك)) [1] ، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات الكريمة، وربط الرواة هذه المناسبة بآيات من سورة الفرقان، ونصها: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـ?لِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ ?للَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـ?تٍ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى ?للَّهِ مَتاباً [الفرقان:68-71].
أيها المسلمون، كما أخرج الشيخان، البخاري ومسلم عن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة؟ فنزلت هذه الآية قُلْ ي?عِبَادِىَ [الزمر:53].
وأخرج الحاكم والطبراني عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نقول ما لمفتتن توبة إذا ترك دينه بعد إسلامه ومعرفته، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل فيهم قُلْ ي?عِبَادِىَ ).
فهذه الآية الكريمة يا مسلمون تنهى عن القنوط واليأس من رحمة الله، وينبغي على الشخص مرتكب المعاصي أن يتوب توبة نصوحاً، وأن يقلع عن معاصيه ثم يرجو من الله الرحمة والمغفرة له.
أيها المسلمون، إن القنوط هو اليأس من رحمة الله عز وجل، وهو مرض من أمراض القلوب المعنوية التي تتناقض مع الإيمان، وإن القنوط صفة من الصفات الذميمة المنهي عنها، وقد ورد لفظ القنوط مع مشتقاته في القرآن الكريم ست مرات، كما ورد لفظ اليأس مع مشتقاته في القرآن الكريم ثلاث عشرة مرة.
أيها المسلمون، لقد عالج القرآن الكريم ظاهرة القنوط واليأس من خلال الإيمان والتوحيد، وينحو ديننا الإسلامي العظيم باللائمة على من يتصف بالقنوط لأن الاتصاف به يؤدي إلى إنكار رحمة الله سبحانه وتعالى، ويؤدي إلى الإصرار على ارتكاب المعاصي والموبقات، مع أن رحمة الله قد وسعت كل شيء لقوله في سورة الأعراف: وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَ?لَّذِينَ هُم بِئَايَـ?تِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:156]، ويقول عز وجل في سورة الشورى: وَهُوَ ?لَّذِى يُنَزّلُ ?لْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ?لْوَلِىُّ ?لْحَمِيدُ [الشورى:28]، فالله رب العالمين واسع الرحمة، فإنه ينزل المطر من بعد ما يأس الناس من نزوله.
أيها المسلمون، لقد كشف القرآن الكريم نفسية القانطين اليائسين بأنهم أنانيون ولا يبحثون إلا عن مصالحهم الخاصة، فيقول سبحانه وتعالى في سورة هود: وَلَئِنْ أَذَقْنَا ?لإِنْسَـ?نَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ [هود:9]، ويقول في سورة الإسراء: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى ?لإنْسَـ?نِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ?لشَّرُّ كَانَ يَئُوساً [الإسراء:83]، ويقول في سورة الروم: وَإِذَا أَذَقْنَا ?لنَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم:36]، أي إذا أذقنا الكفار نعمة من النعم فرحوا بها بطراً ورئاء، وإذا أصابتهم شدة بسبب أفعالهم المنكرة، إذا هم ييأسون من رحمة الله.
أيها المسلمون، لقد وصف القرآن الكريم اليائسين بالضلال في قوله عز وجل في سورة الحِجر على لسان إبراهيم عليه السلام: قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ ?لضَّآلُّونَ [الحجر:56]، ولا يخفى أن الكفار يتصفون باليأس لقوله سبحانه وتعالى في سورة يوسف: وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [يوسف:87]، وفي سورة العنكبوت: وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَـ?تِ ?للَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [العنكبوت:23]، وما ينطبق على الأفراد فإنه ينطبق على الأمم والشعوب.
أيها المسلمون، أما المؤمن الصادق فإنه يشكر الله دائماً حين النعم ويصبر ويرجو رحمة ربه حين الشدائد، فلا ييأس ولا يقنط، ولا يتذلل ولا يستسلم إلا لله.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، لقد مرت محن ومصائب على المسلمين في الماضي أيام التتار والصليببيين وغيرهم، فكان أجدادنا يجتازون الصعاب بكل صمود وإصرار وثبات وتضحية، وذلك بما أودع فيهم من عقيدة قوية وإيمان راسخ وعمل نافع بناء، كما ابتليت أمتنا الإسلامية ولا تزال بنكبات وهزائم متوالية في القرن الماضي وفي بداية هذا القرن، غير أن ذلك يجب أن لا يفقدنا الثقة بالله عز وجل خالق الكون والإنسان والحياة، القائل في سورة البقرة: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، القائل في سورة آل عمران: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ?لصَّـ?بِرِينَ [آل عمران:142].
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، إن النكسات والنكبات التي تنتاب الأمم الواعية لا تضعف من قوتها ولا تفقدها الثقة بنفسها ولا تيأس ولا تقنط، بل إن ذلك يحفزها للرجوع إلى الله عز وجل قولاً وعملاً، وللأخذ بالأسباب.
على الأمة الإسلامية أن تبتعد عن الذنوب والآثام والفوضى والخصام، كيف تنهض أمة هذه صفاتها؟
على الأمة الإسلامية أن تحذر من المثبطين للعزائم والذين يصطادون في الماء العكر، ومن الذين يشمتون بما حل بالمسلمين، وأن نحذر من الطابور الخامس الذي يثير الإشاعات والتثبيطات بين المسلمين، على الأمة الإسلامية أن تبحث عن الأعمال التي تعيد مد الإسلام وتحيي الأمل في نفوس المسلمين، كيف لا، وقد بشرنا رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم بقوله: ((ما تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا ما أصابهم من اللأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك)) ، قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)) [2] صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[1] أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب: قوله تعالى: فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (4477)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب: كون الشرك أقبح الذنوب (86).
[2] رواه بنحوه أحمد في مسنده من حديث أبي أمامة (21816)، قال الهيثمي: رواه عبد الله مجادة من خط أبيه، والطبراني ورجاله ثقات، مجمع الزوائد (7/288).
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الذاكرين الشاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، صلاة وسلام دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
يا أبناء أرض الإسراء والعراج، أمس الخميس مر عامان على أحداث أمريكا التي عرفت بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وحتى الآن لم تعرف أمريكا كيف ومتى وقعت هذه الأحداث ومتى خطط لها ؟ وقامت أمريكا إزاء ذلك خلال هذين العامين بحربين ضد المسلمين في أفغانستان والعراق، ولكن أمريكا، وحتى الآن لم تحقق أحلامها، فالمقاومون والمجاهدون المسلمون في أفغانستان والعراق لا يزالون يحاربون المحتلين، ولن يمكنوهم من ديار الإسلام حتى يرحلوا عنها، فعلى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يتحدوا كما أمرهم الله رب العالمين بقوله: وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، ويحذر سبحانه وتعالى المسملين من الفرقة والاختلاف بقوله: وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:46]، وذلك حتى يتمكن المسلمون من دحر الغزاة والمحتلين الذين يدعون بأنهم يحاربون الإرهاب حسب تفسيراتهم، وهم فعلاً الذين يقومون بالأعمال الإرهابية في أفغانستان والعراق.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج بعد أيام تصادف ذكرى صبرا وشاتيلا في لبنان، هذه المجزرة التي ذهب ضحيتها الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ من أهل فلسطين اللاجئين في لبنان، ولا يزال المجرمون الذين قاموا بمجزرة صبرا وشتيلا يمارسون المجازر ضد شعبنا الفلسطيني المرابط الأبي، ولا تزال محاولات الاغتيال قائمة غير قاعدة في غزة وفي غيرها، بحجة الدفاع عن النفس، وتتحمل السلطات المحتلة مسؤولية العنف الذي يقع في ديارنا المباركة المقدسة، إن الهدف من القتل والاغتيال والبطش والاعتقال والإبعاد والهدم والانهيار هو لفرض الاستسلام، وإن شعبنا الذي يطالب بإنهاء الإحتلال لن يقبل الاستسلام، ولن يقبل الدنية والمذلة والضيم والظلم، لأنه شعب حضاري، ولأنه صاحب حق شرعي، يستمد حقه من الله رب العالمين، ولأن جذوره ممتدة عبر آلاف السنين في هذه الديار، هذا وإن الله عز وجل لن يغفر لحكام الدول العربية والإسلامية سكوتهم وصمتهم إزاء ما يقع بحق هذا الشعب المرابط، ولأنهم أي الحكام لم يلبوا صرخات ونداءات الثكالى والأرامل والأيتام التي انطلقت من المدن والقرى والمخيمات، وَسَيَعْلَمْ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
أيها المسلمون، أما المسجد الأقصى المبارك قرة عيون المسلمين، فهو يواجه في هذه الأيام تحديات جديدة بهدف رفع يد المسلمين عنه، ولن يتحقق هذا الهدف بإذن اله وعونه وتاييده، فللبيت رب يحميه، ونحمل السلطات المحتلة مسؤولية ما تقوم به من المس بحرمة الأقصى، فالأقصى للمسلمين وحدهم، والمسلمون هم سدنته وحراسه، ولن يتخلوا عنه، لأن التخلي عنه بمثابة تخلٍ عن جزء من العقيدة والإيمان، وسيبقى أهل الرباط في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، سيبقون ملتفين حوله، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، وينبغي على أهل الرباط أن يتواجدوا وبشكل استمراري في المسجد الأقصى المبارك.
(1/2766)
التنفير من خوض غمار التكفير
أديان وفرق ومذاهب, التوحيد
فرق منتسبة, نواقض الإسلام
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
22/7/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقصد جمع الكلمة. 2- فتنة التكفير. 3- كلام العلماء في التحذير من تكفير المسلم. 4- التكفير حقّ لله تعالى. 5- متى يكون الرجل كافرا؟ 6- مفاسد التكفير. 7- مفهوم خاطئ.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها النّاس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتّقوا الله رحمكم الله، فلباس التّقوى جُنّة يتحصّن بها المتحصِّنون، وخشيةُ الله عروةٌ وثْقى يتمسّك بها المتمسِّكون، وأداءُ الفرائض واجتناب المحرّمات وسيلةُ مثلى يتوسّل بها المتوسّلون.
أيّها المسلمون، مَن تأمَّل مقاصدَ الشّرع في العبادات والمعاملات والآدابِ والأخلاق والأوامِر والنّواهي تبيّن له مقصدٌ كبير وغاية عُظمى، تلكم هي جمعُ الكلِمة وغرسُ المحبّة وزرعُ الأُلفة ونشر المودّة بين أفرادِ الأمّة، والحثّ على التناصُر والتعاون والبعدُ عن أسباب العداوة والبغضاء وما يحمِل على الكراهة والشّحناء وما يثير الأحقادَ وضَغائن القلوب والتحذيرُ الشديد مِن الطّعن في المسلمين وعيبِهم وهمزِهم ولمزهِم وإبداء عوراتِهم وتتبُّع عثَراتِهم والتّشهير بهم وإساءةِ الظنِّ بهم والاتهام ببدعةٍ أو كفر أو فسوقٍ أو نفاق أو ظلمٍ أو جهل.
جمعُ الكلمَة ـ أيّها المسلمون ـ سبيلهُ إقامةُ شرع الله وإظهار شعارِ الإسلام وشعائره والتعاون على البرّ والتقوى والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والنصحُ المشفق لكلّ مسلم. ولا تكون قوّة أهل الإسلام ونفاذ كلمتهم وشدّةُ منَعَتهم إلاّ بتناصرهم وتآزُرهم.
أيّها الإخوة في الله، وإنَّ متغيِّراتِ العصرِ ومضلاّت الفتَن وتكالبَ الأعداء وتداعيَ الأكَلَة تدعو المسلم الغيورَ على أمّتِه النّاصح لإخوانه لأن يربَأ بنفسه أن يكونَ مِعوَلاً في يدِ أعدائه مِن حيث يدري أو لا يدري، يقعُ في إخوانه المسلمين، فيَشتم هذا، ويشهِّر بهذا، ويتنقّصُ هذا، ويحتقِر هذا، ويكفِّر ويبدِّع، بل قد يسلَم منه الكافرُ والمشرك، ولا يسلم منه أخوه المسلم.
عبادَ الله، وهذه ـ حفظكم الله ـ وقفةٌ عِند فتنة خطيرةٍ، بدأت تُطِلّ برأسها في بعض المجتمعات والفئات، ينبغي أن يتنادَى أهلُ العِلم والإيمان والفضل والصّلاح والدّين والغيرة إلى مقاومتِها والتّحذير منها. حذّر منها السّلفُ رحمهم الله، وبيّنوا خطرَها وعوارها، إنّها مسألة تكفير المسلمِ لأخيه المسلم والمجازفةُ بالحكم على المسلم بخروجه من ملّةِ الإسلام وعدِّه مِن أهلِ الكفرِ والشّرك والقطعُ والجزم بأنّه خالد مخلّدٌ في النّار عياذًا بالله، ولا حولَ ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.
مسألةُ التّكفير مِن المسائل الكبار والقضايا العِظام، لها آثارُها العظيمة، فلا يحلّ لمسلم أن يقدِم عليها إلا ببرهانٍ عنده من الله ودليلٍ هو في دلالته أوضحُ من الشّمس في رابعة النّهار.
لقد نبّه أهلُ العلم سلفًا وخلفًا إلى خطورةِ هذه المسألة وعِظم شأنِها وما يترتّب عليها من آثارٍ وتبِعات في الدّنيا وفي الآخرة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "اعلم أنّ مسائل التّكفير والتّفسيق هي من مسائلِ الأسماء والأحكام التي يتعلّق بها الوعدُ والوعيد في الدّار الآخرة، ويتعلّق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمةُ وغير ذلك في دار الدّنيا، فإنّ الله سبحانه أوجَب الجنّة للمؤمنين، وحرّم الجنّة على الكافرين، وهذه الأحكام الكلّية في كلّ وقت وفي كلّ مكان" [1].
وقال ابن الوزير: "وكم بينَ إخراج عوامّ فِرَق الإسلام أجمَعين وجماهير العلماء المنتسِبين إلى الإسلام إخراجهم من الملّة الإسلاميّة وتكثير العدوّ بهم وبين إدخالهم في الإسلام ونصرتِه بهم وتكثير أهلِه وتقوية أمره، فلا يحلّ الجُهد في التفرقَة بتكلّف التّكفير لهم بالأدلّة المعارَضة بما هو أقوى منها أو مثلها ممّا يجمَع الكلمةَ ويقوّي الإسلامَ ويحقِن الدماء ويُسكّن الدّهماء"، قال: "وقد عوقِبت الخوارجُ أشدَّ العقوبةِ وذُمَّت أقبحَ الذمّ على تكفيرهم لعصاة المسلمين، فلا يأمن المكفِّر أن يقعَ في مثل ذنبهم، وهذا خطرٌ في الدّين جليل، فينبغي شدّة الاحتراز فيه".
ويقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "وبالجملة فيجِب على مَن نصح نفسَه أن لا يتكلّمَ في هذه المسألة إلاّ بعلمٍ وبرهانٍ مِن الله، وليحذَر من إخراجِ رجلٍ مِن الإسلام بمجرّد فهمِه واستحسانِ عقلِه، فإنّ إخراجَ رجلٍ من الإسلام مِن أعظمِ أمور الدّين".
ويقول الإمام الشوكانيّ: "اعلَم أنّ الحكمَ على الرّجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلمٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقومَ عليه إلاّ ببرهان أوضحَ من الشّمس في رابعة النّهار، فإنّه قد ثبتَ في الأحاديث الصّحيحة المرويّة عن طريق جماعةٍ من الصّحابة رضوان الله عليهم عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم أنّه قال: ((من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدُهما)) [2] ، وفي لفظ: ((من دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدوّ الله وليس كذلك إلا حارَ عليه)) [3] ، أي: رجَع عليه، وفي حديث آخر: ((من رمَى مؤمِنًا، بكفرٍ فهو كقتلِه)) [4] ".
ويقول ابن دقيق العيد رحمه الله معلِّقًا على هذه الأحاديث: "وهذا وعيد عظيمٌ لمن كفّر أحدًا من المسلمين وليسَ هو كذلك"، وقال: "وهي ورطة عظيمةٌ وقَع فيها خلقٌ من العلماء اختلفوا في العقائدِ، وحكَموا بكفرِ بعضهم بعضًا".
أيّها المسلمون، الكفرُ حكمٌ شرعيّ، والكافر هو من كفّره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم، فليس الكفرُ حقًّا لأحدٍ من النّاس، بل هو حقّ لله وحدَه، يوَضّح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: "فلهذا كان أهلُ العلم والسنّة لا يكفّرون من خالفَهم وإن كان ذلك المخالف يكفِّرهم؛ لأنّ الكفرَ حكم شرعيّ، فليس للإنسان أن يعاقبَ بمثله، كمَن كذب عليك ليس لك أن تكذِب عليه؛ لأنّ الكذبَ حرام لحقّ الله تعالى، وكذلك التكفيرُ حقّ لله، فلا يكفَّر إلاّ من كفّره الله ورسوله" [5] ، قال: "والخوارجُ المارقون الذين أمَر النبيّ بقتالهم، قاتلَهم عليّ رضي الله عنه وأئمّة الدّين من الصّحابة والتابعين، وقد ثبَت ضلالهم ـ أي: الخوارج ـ بالنصّ والإجماع، ولم يكفِّرهم أحدٌ من الأئمّة، وإنّما قاتلوهم لبغيِهم، فكيف بالطّوائف المختلفين الذين اشتَبَه عليهم الحقّ في مسائلَ غلِط فيها مَن هو أعلم منهم، فلا يحلّ لإحدى هذه الطوائف أن تكفِّر الأخرى ولا تستحلَّ دمَها ولا مالها" [6] ، قال: "وتكفيرُ الجهميّة مشهور عند السلف، لكن ما كانوا يكفِّرون أعيانَهم، فإنّ الذي يدعو إلى القول أعظمُ من الذي يقول به، والذي يعاقِب مخالفَه أعظمُ من الذي يدعو، والذي يكفِّر مخالفه أعظمُ من الذي يعاقِبه، ومع هذا كان الولاة الذين كانوا يقولون بقول الجهمية: إنّ القرآنَ مخلوق وإنّ الله لا يُرى في الآخرة ويدعون الناسَ إلى ذلك ويمتحِنونهم ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم ويكفِّرون مَن لم يجِبهم، مع هذا كلِّه ترحّم عليهم الإمام أحمد واستغفر لهم لعلمه بأنه لم يُبِن لهم أنّهم مكذِّبون لرسول الله ، لكن تأوّلوا فأخطؤوا وقلّدوا من قال ذلك" [7]. بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنّ الإمامَ أحمد صلّى خلفَ الجهميّة الذين دعَوا إلى قَولهم وامتحَنوا النّاس وعاقبوا مَن لم يوافِقهم بالعقوبات الغليظة، لم يكفّرهم أحمد وأمثالُه، بل كان يعتقد إيمانَهم وإمامتهم، ويدعو لهم، ويرى الائتمامَ بهم والصلاةَ خلفهم والحجّ والغزوَ معهم والمنعَ من الخروج عليهم، ما يراه هو وأمثاله من الأئمّة، وينكرون ما أحدثوا من القولِ الباطل الذي هو كفرٌ عظيم وإن لم يعلموا هم أنّه كفر، وكان ينكِره ويجاهِدهم على ردّه بحسَب الإمكان، فيجمَع بين طاعة الله ورسوله في إظهار السنّة والدّين وإنكار بدعِ الجهميّة الملحدين وبين رِعاية حقوقِ المؤمنين من الأئمّة والأمّة وإن كانوا جهّالاً مبتدعين وظلمةً فاسقين" انتهى كلامه رحمه الله [8].
إذا كان الأمرُ كذلك ـ أيّها المسلمون ـ فينبغي أن يُعلمَ أنّ الإيمانَ والكفرَ محلُّها القلب، ولا يطّلع على ما في القلوب إلا الله، وفي التنزيل: مَن كَفَرَ بِ?للَّهِ مِن بَعْدِ إيمَـ?نِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِ?لإِيمَـ?نِ وَلَـ?كِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ ?للَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106].
فالكافِر ـ عياذًا بالله ـ هو من شرَح صدرًا بالكفر، فلا بدّ من شرحِ الصّدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النّفس إليه، فلا اعتبارَ بما يقع من طوارقِ عقائدِ الشرّ لا سيّما مع الجهل وعدم الجزم بمخالفتها لطريق الإسلام، ولا اعتبارَ بصدور مكفِّرٍ لم يُرد به فاعلُه الخروجَ مِن الإسلام إلى ملّة الكفرِ، ولا اعتبار بلفظٍ تلفّظ بِه المسلم يدلّ على الكفر وهو لا يعتقِد معناه، وإن كانت هذه كلّها أمورًا منكرةً محرّمة ممنوعة يجِب الإنكارُ على صاحبِها والتحذير منها وبيان الحقّ فيها، ولكنّها لا توجب الحكمَ والجزم بكفر صاحبها.
وبعد: أيّها المسلمون، ففي مسألة التّكفير زلَّت أقدامٌ ما كان لها أن تزلّ، وضلّت أفهام ما كان لها أن تضلّ، وخاضت ألسنةٌ وأقلام بغير علمٍ ولا برهان، فينبغي الحذرُ من ذلك كلِّه، والسّلامة لا يعدِلها شيء، كما ينبغي الحرصُ على جمعِ كلمة المسلمين، فحين تحصل الفرقة والنفرةُ وشتات الكلمةِ يستبدّ كلُّ ذي رأي برأيه، ويدّعي كلٌّ الكمالَ لنفسه، ويعجِب كلَّ سالكٍ مسلكُه، ويحصُر الحقّ والغَيرة في نفسه وفئتِه، فيحتقرُ إخوانَه، ويزدري مسلكَهم، ويثير الغبارَ من حولِهم، وحينئذٍ تتنافر القلوب، ويقع التهاجرُ والتقاطع، وتضعف الدّعوة إلى الله، وتقلّ منفعةُ العِلم، ولا يقع القبول والتّوجيه والإرشاد، ويتغلغل الأعداء، ولعمرو الله إنّ هذه لهي بُغية الأعداء، فلا حولَ ولا قوّة إلا بالله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ ?لسَّلَـ?مَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا فَعِنْدَ ?للَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذ?لِكَ كُنتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنَّ ?للَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:94].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] مجموع الفتاوى (12/468).
[2] أخرجه البخاري في الأدب (6104)، ومسلم في الإيمان (60) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري في الأدب (6045)، ومسلم في الإيمان (61) واللفظ له من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الأدب (6105) من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه.
[5] الرد على البكري (2/492).
[6] مجموع الفتاوى (3/282-283) بتصرف.
[7] مجموع الفتاوى (23/348-349).
[8] مجموع الفتاوى (7/507-508)بتصرف.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله فالقِ الإصباح، أحمدُه سبحانه وأشكره على نعمٍ تتوالى وتتجدّد في المساء وفي الصباح. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله، أغنى نورُ رسالته عن كلِّ مصباح، صلّى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتّابعين ومن تبِعهم بإحسان فسلك سبيلَ الفلاح.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، عندما تتقرَّر خطورةُ التّكفير وعِظمُ شأنه وشدّةُ القول فيه فإنّ ذلك لا يعني التساهلَ وتمييعَ القضايا وإغلاقَ بابِ الردّة عياذًا بالله والحكمَ بالإيمان لمن ظهَر كفرُه بالدليل والبرهان وانشرَح صدرُه بالكفر والطّغيان، ولكن المقصود بيانُ خطرِ المسألة والحذر من الجرأةِ في اقتحام أبوابِها حتّى قال بعض أهل العلم: إنّك لو متَّ ولم تقُلْ في فِرعونَ شيئًا لم يؤاخِذك الله بذلك يومَ القيامة.
فالتكفير ـ رحمكم الله ـ عندَ أهلِ العلم خطير، له شروطٌ وموانع بيّنها أهل العلم، فقد يكون الرّجل لم تبلُغه النصوصُ الموجبة لمعرفة الحقّ، وقد تكون عنده ولكنّها لم تثبُت عنده أو لم يتمكّن من فهمها، وقد تعرضُ له شبهاتٌ يعذُره الله بها، فمَن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلبِ الحقّ وأخطأ فإنّ الله يغفِر له خطأه كائنًا ما كان، سواء من المسائل النظريّة أو العمليّة، هذا الذي عليه أصحابُ رسول الله وجماهير أئمّة الإسلام، وأهلُ العلم قد يحكمون على الأمر بأنّه كفر، ولا يحكمون بأنّ كلَّ من وقع منه خارجٌ من الملّة؛ لأنّ شرطَ ذلك أن لا يكونَ له عذرٌ مقبول.
ألا فاتّقوا الله رحمكم الله، واحفَظوا ألسنتَكم، ولا يستجرِيَنّكم الشيطان، واجتمِعوا على الحقّ، وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ [المائدة:2].
ثم صلّوا وسلّموا على نبيّ الرّحمة والهدى، فقد أمركم بذلك المولى جلّ وعلا فقال قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك نبيّنا محمّد صاحبِ الوجه الأنور والجبين الأزهر والخُلق الأكمل، وعلى آله الطيّبين الطاهرين...
(1/2767)
الدين النصيحة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الآداب والحقوق العامة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
22/7/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل كلام الله وكلام رسوله. 2- من جوامع كلمه. 3- منزلة النصيحة في الإسلام. 4- تعريف النصيحة. 5- النصح من صفات الأنبياء والمؤمنين. 6- معنى النصيحة لله تعالى. 7- معنى النصيحة لكتاب الله تعالى. 8- معنى النصيحة لرسول الله. 9- معنى النصيحة لأئمة المسلمين. 10- معنى النصيحة لعامة المسلمين. 11- تذكير باليوم الآخر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا اللهَ واخشَوه، ومَن يَخْش اللّهَ وَيَتَّقه فأولئك همُ الْفائِزون.
أيّها المسلمون، إنَّ خيرَ ما وُعِظت بهِ القلوبُ وهُذِّبت به النّفوس آياتٌ مِن كتاب الله تعالى أو أحاديثُ من كلام رسول الله ، قال الله تعالى: هُوَ ?لَّذِى بَعَثَ فِى ?لأُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ [الجمعة:2].
فألقوا الأسماعَ، وافتَحوا القلوب، وتفكّروا بالعقول في كلماتٍ معدوداتٍ لسيّد البشَر محمّد ، جمَعت الدّينَ الإسلاميّ كلَّه، واستوعَبت مصالحَ الدّين والدّنيا، فما مِن خيرٍ إلاّ تضمّنته هذه الكلماتُ، ولا شرٍّ إلا حذّرت مِنه؛ لأنّ نبيَّنا أُوتيَ جوامعَ الكلِم واختُصِر له الكلامُ اختصارًا، فألفاظُه القليلةُ جمعت المعانيَ النّافعة العظيمةَ الكثيرة، وقد تكون الكلمة الواحدةُ متضمِّنةً الإسلامَ بتعاليمِه كلِّها، كقولِه : ((الإحسانُ أن تعبدَ اللهَ كأنّك تراه)) رواه مسلم من حديث عمر رضي الله عنه [1] ، وقوله : ((البرّ ما اطمَأنّت إليه النّفسُ واطمأنّ إليه القَلب، والإثمُ ما حاكَ في النّفس وتردّد في الصّدر وكرِهتَ أن يطّلعَ عليه النّاس وإن أفتاك النّاس)) رواه أحمد وروى مسلم بعضه [2].
ومِن جوامِع كلِمِه النّافِعة المبارَكة قولُه : ((الدّين النّصيحة، الدّين النّصيحة، الدّين النّصيحة)) ، قلنا: لمن يا رَسول الله؟ قال: ((لله ولكتابِه ولرسولِه ولأئمّةِ المسلمين وعامَّتِهم)) رواه مسلم من حديث تميم الداريّ رضي الله عنه [3].
وهذا الكلامُ فيه حصرٌ وقَصر، بمعنى أنّ الدّين محصور ومقصورٌ في النّصيحة، فمنِ اتّصف بالنّصيحة فقد أحرَز الدينَ كلَّه، ومن حُرِم النصيحةَ فقد فاتَه من الدّين بقدر ما حُرم من النصيحة.
وتفسيرُ النّصيحة هي القيامُ بحقوق المنصوح له مَع المحبّة الصادقةِ للمنصوح له، والحقوقُ تكونُ بالأقوال والأعمال وإراداتِ القلب، قال الأصمعي: "النّاصحُ الخالِص من الغِلّ، وكلّ شيء خلُص فقد نصح" [4] ، وقال الخطابيّ: "وأصلُ النّصح في اللّغة الخلوص، يقال: نصحتُ العسلَ إذا خلّصته من الشّمع" [5].
والنّصحُ مِن صفاتِ الأنبيَاء والمرسَلين والمؤمنِين، والغشُّ والخِداع والمَكر وفسادُ النوايا من صفات الكفّار والمنافقين، قال الله تعالى عن نوحٍ عليه الصلاة والسلام: أُبَلّغُكُمْ رِسَـ?لـ?تِ رَبّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:62]، وهو أنّه أرادَ بأمّته الخيرَ ونصح لهم، وقال تعالى عن هودٍ عليه الصلاة والسلام: أُبَلّغُكُمْ رِسَـ?لـ?تِ رَبّى وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف:68]، وقال عن صالح عليه السلام: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ ?لنَّـ?صِحِينَ [الأعراف:79]، وقال عن شعيب عليه السلام: ي?قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَـ?لَـ?تِ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءاسَى? عَلَى? قَوْمٍ كَـ?فِرِينَ [الأعراف:93]، وقال تعالى: لَّيْسَ عَلَى ?لضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى? ?لْمَرْضَى? وَلاَ عَلَى ?لَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:91]، وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: بايعتُ النبيَّ على إقامِ الصّلاة وإيتاءِ الزّكاة والنّصحِ لكلِّ مسلم. رواه البخاريّ ومسلم [6]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: ((حقُّ المسلم على المسلم ستّ: إذا لقيتَه فسلّم عليه، وإذا دعاك فأجِبه، وإذا استنصَحَك فانصَح له، وإذا عَطس فحمِدَ الله فشمِّته، وإذا مرِض فعُده، وإذا ماتَ فاتبَعه)) رواه مسلم [7]. وعن جبير بن مطعم أنّ النبيّ قال: ((ثلاثٌ لا يَغلّ عليهن قلبُ امرئ مسلم: إخلاصُ العملِ لله، ومناصحةُ ولاةِ الأمر، ولزوم جماعة المسلمين)) رواه أحمد وابن حبان [8]. ومعنى الحديث أنّ هذِه الخلالَ الثلاث تصلِح القلوبَ وتطهّرها مِن الخيانة والغِلّ والخبائث.
وصُلحاءُ هذِه الأمّة هم المتّصِفون بالنّصيحة لله ولكتابِه ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم، قال أبو بكر المزنيّ رضي الله عنه: "ما فاقَ أبو بكر رضي الله عنه أصحابَ رسول الله بصومٍ ولا بصلاةٍ، ولكن بشيءٍ كان في قلبِه"، قال: "الذي كانَ في قلبِه الحبّ لله عزّ وجلّ والنصيحةُ في خلقه" [9] ، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "ما أدرَك عندنا مَن أدرَك بكثرةِ الصّلاة والصّيام، وإنّما أدرَك عندَنا بسخاوةِ الأنفُس وسلامةِ الصّدور والنّصح للأمّة" [10] ، وسئل ابنُ المبارك رحمه الله: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: "النّصح لله" [11] ، وقال معمَر: كانَ يقال: "أنصحُ النّاس لك من خافَ الله فيك" [12] ، وقال بعضُ السلف: "من وعَظ أخاه فيما بينَه وبينَه فهي نصيحة، ومن وعَظه على رؤوسِ النّاس فإنّما وبّخه" [13].
ومعنى النّصيحةِ لله تعالى هِي عبادتُه وحدَه لا شريكَ له بإخلاصٍ ومتابعةٍ للهدي النبويّ مع كمالِ الذلّ والخضوع والمحبّة لله عزّ وجلّ، وعدمُ الإشراك به في الدّعاء أو الذّبح أو النّذر أو الاستعانَة أو الاستعاذَة أو الاستغاثَة أو التّوكّل أو الرّجاء أو الرّغبَة أو الرّهبَة أو أيّ نوعٍ من أنواع العبادة لقوله تعالى: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا [النساء:36]، وقال تعالى: وَأَنَّ ?لْمَسَـ?جِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ?للَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، وقال عز وجل: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ?لشَّيطَـ?نَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ ?عْبُدُونِى هَـ?ذَا صِر?طٌ مُّسْتَقِيمٌ [يس:60-61].
والنّصيحةُ للهِ تعالى أيضًا هِي الإيمانُ بصفاتِه جلّ وعلا التي وصَف بها نفسَه أو وصفَه بها رسولُه ، وإثباتُها كلِّها لله تعالى إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهُه عزّ وجلّ عمّا لا يليقُ به تنزيهًا بلا تعطيل للصّفات، واعتقادُ توحُّده وتفرُّده سبحانَه بالخَلق والتّدبير وتصريفِ الكونِ في الدّنيا والآخرة، لقوله تعالى: أَلاَ لَهُ ?لْخَلْقُ وَ?لأمْرُ تَبَارَكَ ?للَّهُ رَبُّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأعراف:54]، والتقرّبُ إليه بكلِّ فريضةٍ ونافلة، ومجانبةُ محرَّماتِه، فمَن قام بهذه الحقوقِ لربّه فقد نصح لخالقه، وفي مراسيل الحسن البصريّ عن النبيّ قال: ((أرأيتُم لو كانَ لأحدِكم عبدان فكان أحدُهما يطيعُه إذا أمرَه، ويؤدّي إليه إذا ائتمَنَه، وينصَح له إذا غابَ عنه، وكانَ الآخر يعصيه إذا أمَرَه، ويخونُه إذا ائتمَنَه، ويغشّه إذا غابَ عنه، أيكونان سواء؟)) قالوا: لا، قال: ((فكذلكم أنتم عندَ الله عزّ وجلّ)) خرّجه ابن أبي الدنيا [14] ، وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النّبيّ قال: ((قال الله تعالى: أحبُّ ما تعبَّدني به عَبدي النّصحُ لي)) رواه أحمد [15].
ومِن النّصح لله تعالى أيضًا محبّة ما يحبّ الله تعالى من الأقوال والأفعال، وبغضُ ما يبغضه الله تعالى.
قال بعضُ أهلِ العلم: "جماعُ تفسير النّصيحة هو عنايَة القلبِ للمنصوح له مَن كان، وهي على وجهين: أحدُهما فرضٌ، والآخر نافلة. فالنّصيحة المفترَضة لله تعالى هي شدَّة العنايةِ من النّاصح باتّباع محبّةِ الله في أداءِ ما افترَض ومجانبةِ ما حرّم. وأمّا النّصيحة التي هي نافلة فهي إيثار محبَّتِه على محبّة نفسِه، وذلك أن يَعرِضَ أمران: أحدُهما لنفسِه والآخر لربّه، فيبدأ بما كان لربِّه ويؤخِّر ما كانَ لنفسِه" [16].
وأمّا معنَى النّصيحةِ لكتاب الله تعالى فشدّةُ حُبِّه وتعظيمُه وشدّة الرّغبة في فهمِه والعناية بتدبُّره والاهتمام بحفظِه بقدرِ الاستطاعة وبقدر ما يوفِّق الله تعالى ويعين ومداومة تلاوته والتخلُّق بآدابه وأوامره والبعدُ عن نواهيه والتّحاكمُ إليه ودعوة النّاس إلى العنايةِ به تعلُّمًا وتعليمًا وعملاً، قال الله تعالى: إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ ?لْمُؤْمِنِينَ ?لَّذِينَ يَعْمَلُونَ ?لصَّـ?لِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9].
وأمّا النّصيحة لرسولِ الله فطاعةُ أمره واجتناب نهيِِه وتصديقُ أخباره وعبادةُ الله بشرعِه ونُصرة سنّته، والعناية بهديه تعلُّما وتعليمًا، وبُغضُ من يكرَه سنّتَه، والاقتداء به ظاهرًا وباطنًا، ومحبتُه أكثر من النّفس والمال والأهلِ والولد، قال : ((لا يؤمنُ أحدُكم حتّى أكونَ أحبَّ إليه من نفسِه وأهلِه وماله وولدِه والناس أجمعين)) [17] ، والردُّ من العلماء على الأهواءِ المضلّة بالكتابِ والسنّة والذبُّ عن سنّته.
ومعنى النّصيحةِ لأئمّة المسلمين الدعاءُ لهم بالصّلاحِ وحبُّ صلاحِهم وحبُّ عدلِهم ورشدِهم وحبُّ اجتماعِ الكلمة عليهم ومحبةُ نشرِ حسناتهم وبُغضُ ذكرِ مثالبِهم وطاعتُهم في طاعةِ الله ومحبةُ إعزازِهم وعدمُ الخروجِ عليهم بقولٍ أو فعل وبُغضُ مَن يَرى الخروجَ عليهم ومناصحتُهم فيما يعودُ على الأمّة بالخير في دينِهم ودنياهم بالرّفق والحكمةِ والإخلاصِ لله تعالى وعدمُ الدّعاء عليهم والقيامُ بما يُسندون إلى الأمّة من الأعمالِ على الوَجه الذي يُرضي الله ويخدمُ مصلحةَ المسلمين.
وأمّا معنى النّصيحة لعامّة المسلمين فأن يحبَّ لهم ما يحبُّ لنفسِه ويكرَهَ لهم ما يكرهُ لنفسه ويرحمَ الصغير منهم ويوقّرَ الكبيرَ وأن يعاونهم على الحقّ ويعلّمهم ما ينفعهم ويذكِّرهم وينشرَ الأمرَ بالمعروف بينهم والنهيَ عن المنكر بقدر ما تتحقّق به مصلحةُ المجتمع في حدود الشرع الحَنيف قال : ((لا يؤمن أحدُكم حتّى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه)) [18] ، ويدفعَ عنهم الأذَى والمكروهَ ويدفعَ عن العامّة فسادَ المفسدين وشرورَ المارقين المجرمين، كالخوارج والبغاة وقطّاع الطّرق ومروِّجي المخدِّرات والمعتدين على حدود الله، لحماية دين النّاس ودنياهم، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ?لْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الأنفال:24، 25].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعنا وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيّدِ المرسلين وبقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (8).
[2] أخرجه أحمد (4/227، 228)، وأبو يعلى (1586، 1587)، والطبراني في الكبير (22/147، 148) من حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه بنحوه، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (2/351)، وقال الألباني في صحيح الترغيب (1734): "حسن لغيره". ويشهد له حديث مسلم في البر (2553) عن النواس بن سمعان رضي الله عنه بنحوه.
[3] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (55).
[4] انظر: تفسير القرطبي (7/234).
[5] انظر: جامع العلوم والحكم (ص79).
[6] أخرجه البخاري في الإيمان (57)، ومسلم في الإيمان (56).
[7] صحيح مسلم: كتاب السلام (2162).
[8] أخرجه أحمد (4/80، 82)، وابن ماجه في المناسك (3056)، والبزار (3417)، وأبو يعلى (7413)، والطبراني في الكبير (2/126، 127)، وصححه الحاكم (294، 295، 296)، وقال الهيثمي في المجمع (1/139): "في إسناده ابن إسحق عن الزهري وهو مدلس، وله طريق عن صالح بن كيسان عن الزهري ورجالها موثقون"، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (2480). وصححه ابن حبان (67، 680) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال الحاكم: "وفي الباب عن جماعة من الصحابة منهم: عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وأنس رضي الله عنهم وغيرهم عدة"، ومنهم: أبو سعيد الخدري وأبو الدرداء والنعمان بن بشير وأبوه بشير وأبو قرصافة وجابر رضي الله عنهم، انظر: مجمع الزوائد (1/137-140). وقد ذكر السيوطي هذا الحديث في الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة.
[9] انظر: جامع العلوم والحكم (ص81).
[10] أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/103)، والبيهقي في الشعب (7/439).
[11] انظر: جامع العلوم والحكم (ص81).
[12] انظر: جامع العلوم والحكم (ص81-82).
[13] انظر: جامع العلوم والحكم (ص82).
[14] عزاه ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص78) لابن أبي الدنيا.
[15] مسند أحمد (5/254)، وأخرجه أيضا الروياني (1193)، والطبراني في الكبير (8/206)، وأبو نعيم في الحلية (8/175)، والبيهقي في الزهد الكبير (702)، وأشار المنذري في الترغيب (2/362) إلى ضعفه، وقال الهيثمي في المجمع (1/87): "فيه عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد وكلاهما ضعيف"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (4032).
[16] انظر: تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/691).
[17] أخرجه البخاري في الإيمان (15)، ومسلم في الإيمان (44) من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين)).
[18] أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (45) من حديث أنس رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، القويّ المَتين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له الملك الحقّ المبين، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيِّدنا محمّدًا عبدُه ورسوله الصادِق الوعد الأمين، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين.
أمّا بعد: فاتّقوا الله أيّها المسلمون، واخشَوا يَومًا تُرجعُون فيهِ إِلى اللَّه ثمَّ توَفَّى كلُّ نفسٍ ما كسَبت وهم لا يُظلمون.
وتمسَّكوا بوصيّة سيٍِّد البشر لمعاذ رضي الله عنه لمّا قال له: ((اتَّقِ اللهَ حيثما كنتَ، وأتبِع السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالقِ النّاسَ بخلقٍ حسن)) [1].
فإنّ لكلّ حسنةٍ ثوابًا، ولكلّ سيّئةٍ عقابًا، فربّكم قائمٌ على كلّ نفسٍ بما كسبت، يُحصي على الخلقِ أعمالَهم، ثمّ يدينُهم عليها، ويقول في الحديثِ القدسيّ: ((يا عبادِي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوَفِّيكم إيّاها، فمَن وجدَ خيرًا فليحمدِ الله، ومن وجَد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه)) [2].
وكلّ إنسانٍ يلقى كتابَه، الذي عمله في الدّنيا كتبَه الله عليه في الدّنيا ويلقاه يومَ القيامَة، فآخذٌ كتابَه بيمينِه، وآخذٌ كتابَه بشمالِه، قال عزّ وجلّ: وَكُلَّ إِنْسَـ?نٍ أَلْزَمْنَـ?هُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ كِتَابًا يَلْقَـ?هُ مَنْشُورًا ?قْرَأْ كَتَـ?بَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ ?لْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13، 14]، فأعِدُّوا لهذا اليَوم، وقدِّموا لأنفسِكم أفضلَ ما تقدِرون عليه من العمَل فإنّ هذه الدار دار عمل، الآخرة دار جزاء وليس فيها عمل، قدِّموا لأنفسكم، واعلموا بأنكم ستعرضون على الله عزّ وجلّ، باديةً صفحاتُكم لا تخفى عليه أعمالكم.
عبادَ الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم، إنّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد، كما بارَكت على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيدٌ، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهمَّ وارضَ عن الصحابة أجمعين...
[1] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة (1987)، والدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان عن وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به، وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395). ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين" ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن، وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2655، 3160).
[2] جزء من حديث أبي ذر القدسي الطويل في تحريم الظلم، أخرجه مسلم في البر (2577).
(1/2768)
التحذير من تضييع الأولاد
الأسرة والمجتمع
الأبناء, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
22/7/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قتل الأولاد من أخلاق الجاهلية. 2- نعمة الأولاد. 3- وجوب العناية بالأولاد. 4- هدي النبي مع الصغار. 5- فضل النفقة على الأولاد. 6- ظاهرة إهمال الأولاد وتضييعهم. 7- الأولاد أمانة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، إنّ الله جلّ وعلا عاب على أهل الجاهليّة أعمالاً عمِلوها هي سوء وفسادٌ وظلم وقَسوة في القلب، عابَ عليهم هذه الأخلاقَ محذِّرًا للأمّة مِن شرّها وضررها، فمِن تلكم الأخلاق السيّئة ما كانوا عليه في جاهليّتهم من وأد البنات أي: قلتهنّ، خوفَ العار مرّة وخوفَ الفقر أخرى، وَإِذَا ?لْمَوْءودَةُ سُئِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8، 9]، وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِ?لأنْثَى? ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى? مِنَ ?لْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى? هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى ?لتُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58، 59]. وكانوا يقتلون الأولاد عمومًا خوفًا من ضيق المعيشة، قال تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَـ?دَكُمْ مّنْ إمْلَـ?قٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:51]، وقال: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـ?قٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [الإسراء:31]، وقال جلّ وعلا: قَدْ خَسِرَ ?لَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَـ?دَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ ?للَّهُ ?فْتِرَاء عَلَى ?للَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [الأنعام:140]، وفي الحديث لمّا عدّ كبائرَ الذنوب قال: ((وأن تقتلَ ولدَك خشيةَ أن يطعمَ معك)) [1].
جاء الإسلامُ فعدم هذا الخلقَ الرّذيل، وأقام على أنقاضِه خلقًا كريمًا هو رحمة وعطفٌ وإحسان. فبيّن تعالى أنّ الولدَ هِبة من الله للعبد: لِلَّهِ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَـ?ثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء ?لذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَـ?ثاً [الشورى:49، 50]. وبيّن تعالى أنّ الأولادَ زينةٌ في هذه الحياة الدّنيا: ?لْمَالُ وَ?لْبَنُونَ زِينَةُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا [الكهف:46]، زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ?لشَّهَو?تِ مِنَ ?لنّسَاء وَ?لْبَنِينَ وَ?لْقَنَـ?طِيرِ ?لْمُقَنطَرَةِ مِنَ ?لذَّهَبِ وَ?لْفِضَّةِ وَ?لْخَيْلِ ?لْمُسَوَّمَةِ وَ?لأنْعَـ?مِ وَ?لْحَرْثِ ذ?لِكَ مَتَـ?عُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا [آل عمران:14]. وامتنَّ الله على عباده بهذه النعمة، وبيّن تعالى في معرض ذمّه لمن خالف شرعَه ممتنًّا عليه بنِعمه قال: وَبَنِينَ شُهُودًا [المدثر:13]، فذكّره بنعمته أنّ أبناءه يشاهدُهم ويراهم.
أيّها المسلم، فالولد نعمةٌ من الله على العبد، يشكر الله عليها ويثنِي بها عليه خيرًا.
أيّها المسلم، وجاء الإسلامُ يدعو إلى العنايةِ بالأولاد تربيةً وأدَبًا، فهديُ محمّد رحمةُ الصّغار والإحسان إليهم ومداعبتُهم وإدخال السّرور والأنسِ عليهم. قبّل النبيّ بعضَ أولادِه وعنده رجل من الأعراب، قال: تقبّلون الصغار؟! إنَّ عندي عشرةَ ولدٍ ما قبّلتُ واحدًا منهم، قال: ((ما آلو أن نزعَ الله الرحمةَ مِن قلبك؟!)) [2]. وكان يداعِب الصغارَ، مرّ بطفلٍ فقدَ طائرًا معه فقال: ((يا أبا عمير، ما فعل النغير؟)) [3]. وكان يصلّي وهو حاملٌ أمامةَ بنت ابنتِه، إذا قام رفَعها، وإذا سجَد وضعَها [4]. ودخل الحسن أو الحسَين عليه وهو يخطب النّاس، فنزل من المنبر وحمله وقال: ((صدَق الله: ?لْمَالُ وَ?لْبَنُونَ زِينَةُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا )) [5]. وأمَر بتربيتِهم وتأديبِهم: ((مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناءُ عشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع)) [6] ، وقال: ((ما نَحلَ والدٌ ولدَه خيرًا مِن أدبٍ حسن)) [7] ، والله يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6]. والولدُ الصّالح نعمة للأبِ بعد موته، فهو امتدادٌ لحياته، وأعمالٌ صالحة تجري على الأبِ في قبره، في الحديث الصّحيح: ((إذا مات ابنُ آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو عِلم يُنتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له)) [8]. ومِن دعاءِ الصّلحاء من المسلمين: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ?لَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى? و?لِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـ?لِحًا تَرْضَـ?هُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّى مِنَ ?لْمُسْلِمِينَ [الأحقاف:15].
أيّها المسلم، والنّفقة على الأولادِ عمل صالحٌ وقربة تتقرّب بها إلى الله، عدَّ النبيّ أوجهَ النّفقة في الخير فقال: ((الدنانيرُ أربعة: دينار تصدّقتَ به، ودينار أعتقتَ به رقبة، ودينار أنفقتَه على يتيم، ودينارٌ [أنفقته] على ولدِك، أعظمُها أجرًا دينارٌ أنفقتَه على ولدك)) [9] ، وقال لسعد بن أبي وقّاص: ((إنّك لن تنفقَ نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلا أُجرتَ عليها، حتّى ما تضع في في امرأتِك)) [10] ، وقال له أيضًا: ((إنّك أن تذرَ ورَثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرَهم عالةً يتكفّفون النّاس)) [11].
أيّها المسلم، إذا تأمّل المسلمُ كلَّ ما ذُكر حقَّ التأمُّل يأسَف أحيانًا لتفريط بعضِ النّاس في أولادِهم ذكورًا وإناثًا، تفريطٌ في الرّعاية، تفريط في النّفقة، تفريط في العنايَة، لماذا هذا التصرّف الخاطئ؟ لأنّ الأبَ بعيدٌ كلَّ البعدِ عن أولادِه من بنينَ وبنات. متى يكون هذا البُعد؟ يكون ـ أيّها الإخوة ـ في تصرّف بعضِ النّاس شهوةٍ جامحةٍ تدعوه إلى أن يذهبَ هنا وهناك إلى أماكنَ بعيدة عن بلده ليضعَ شهوتَه في امرأةٍ ثمّ يعود ولا يدري ما النتائج؛ ولا هل حصل له ولدٌ أم لا؟ وقد يعلَم بوجودِ أولاد أو بناتٍ له، لكن لضعف الإيمان وقلّة الخوف من الله وعدم المبالاة أضاع تلك الذرّيّة وأهمَلهم وجنَى عليهم جنايةً هو يتحمّل وزرَهم يومَ لقاء الله.
أيّها المسلم، تدبّر وتعقّل في أمرك، تدبّر واقعَك، ليس الهدفُ أن ترضيَ غريزتَك الجنسيّة على أيّ سبيل كان.
تأمَّل ـ أخي ـ وتدبّر واحترِم أيّ نظامٍ وُضع لك مقصودٌ به خيرٌ لك في الحاضر والمستقبل، وضبطٌ للأحوالِ كلّها، أمّا مجاوزة ذلك وعدَم المبالاة والآمالُ والأماني الكاذِبة فتلك ـ والله ـ أمور تخالِف شرعَ الله. كم من إنسانٍ وضع شهوتَه في أيّ مكان كان ثمّ أضاع تلك الذرّيّة وتناساهم وأهملهم وضيّعهم، إمّا لعجزه، وإمّا لعدَم مبالاته وعدمِ اهتمامه وقيامه بالواجب.
أيّها المسلم، إنّ هذا أمرٌ يخالف شرعَ الله، بل هو معصيةٌ لله ورسوله. كم طفلٍ رضيع أضعتَه في حجر أمّه، وكم فتاةٍ أضعتَها وتجاهلتها، تتخطّفها أيدِي العابثين وأنتَ المسؤول عنها يومَ القيامة. لا تُلقِ بالمسؤوليّة على غيرك، ولا تجعَل الأمرَ معلّقًا بيدِ غيرك. انظر نفسَك، فأنتَ السّبب في كلّ ما يجري، أنتَ السّبب في كلّ ما حصل، أنتَ السّبب فيما وقع، فتدارك الأمرَ وتُب إلى الله.
أيّها المسلم، إنّ المؤمنَ حقًا من يتصوّر الأشياء، ويحاول جاهدًا وضعَ الأمور موضعها، وأمّا التجاوزات والتعدّيات والضربُ بكلِّ نظام وأمرٍ فيه مصلحةٌ عرضَ الحائِط بلا مبالاة، وإنّما تقوده شهوتُه إلى أمر يندَم عليه بعدَ حين، فتلك أمور لا تليق بالمسلم.
هذا النشءُ من بنين وبناتٍ تركتَهم لمن؟ تركتَهم في بلادٍ لا قريبَ لهم، لا أخَ ولا عمَّ ولا غير ذلك. من يتولّى تربيتَهم؟ من يعتني بأحوالِهم؟ من ينفق عليهم؟ من المسؤول عنهم ذكورًا وإناثًا؟ أتدعُهم يشحتون النّاس ويستعطون النّاس؟! أتدعُهم لشياطين الجنّ والإنس يتخطّفونهم ويفسِدون قيَمَهم وأخلاقهم؟! أتتركهم لتتلقّاهم الأيدي العابِثة بالقيَم والفضائل؟! وأنتَ المسؤول أوّلاً وقبلَ كلّ شيء، ولا عذرَ لك، ولا تُلقِ بالمسؤولية على غيرك، وأنتَ السّبب الأوّل والآخر في ذلك.
فاتّقوا الله عبادَ الله، واعتنوا بأبنائكم وبناتِكم، وتدبّروا في أمورِكم كلّها، والله جل وعلا أباح التعدّد بلا شكّ ولا ريب، ولكن في حقّ من؟ في حقّ مَن يقيم للأمور وزنَها، ومَن يقدّر الأمورَ قدرها، أمّا أولئك الذين لا يبالون ولا يهتمّون ولا يراعون فهؤلاء ظالمون لأنفسهم، مفسِدون وساعون في الفساد، هؤلاء لا يبالون ولا يهتمّون، إن هي إلا الشهوات فقط، وما وراء ذلك لا يتصوّرونه، وقد يتصوّرونه لكن يتجاهلون الأمرَ، ويتناسَون الأمر، ويُلقون باللّوم واللائمة على غيرهم، فيقولون: مُنِعنا وما مُكِّنّا وما أُذِن لنا، إلى غير ذلك. هذه أعذارٌ واهية، هذه أعذار غير مقبولة، ولا عذرَ لك أمام الله في تضييع أولادِك وبناتك.
فاهتمَّ بالأمر، وأقِم لهذا الأمرِ شأنَه، وإيّاك والمماطلة، وإيّاك والإهمالَ والإضاعة، فإنّك بهذا تكون عاصيًا وآثمًا، وأيّ وزر فإنّك تتحمّله؛ لأنّك السّبب في كلّ ما جرى.
أسأل الله للجميع التوفيقَ والهداية والعونَ على كلّ خير، إنه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَ?لْو?لِد?تُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـ?دَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ?لرَّضَاعَةَ وَعلَى ?لْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ و?لِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى ?لْوَارِثِ مِثْلُ ذ?لِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلَـ?دَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا ءاتَيْتُم بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:233].
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم لما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في التفسير (4761)، ومسلم في الإيمان (86) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الأدب (5998)، ومسلم في الفضائل (2317) عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى النبي فقال: تقبلون الصبيان؟! فما نقبلهم، فقال النبي : ((أوَأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟!)).
[3] أخرجه البخاري في الأدب (6129، 6203)، ومسلم في الآداب (2150) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الصلاة (516)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (543) عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[5] أخرج أحمد (5/354)، وأبو داود في الصلاة (1109)، والترمذي في المناقب (3774) والنسائي في الجمعة (1413)، وابن ماجه في اللباس (3600) عن بريدة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله ، فأقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل فأخذهما فصعد بهما المنبر ثم قال: ((صدق الله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ. رأيت هذين فلم أصبر)) ، ثم أخذ في الخطبة. قال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه ابن خزيمة (1456، 1801)، وابن حبان (6038)، والحاكم (1059)، وهو في صحيح سنن أبي داود (981).
[6] أخرجه أحمد (2/187)، وأبو داود في الصلاة (495)، والدارقطني (1/230)، والحاكم (1/311)، والبيهقي (2/228، 229) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، وصححه الألباني في الإرواء (247).
[7] أخرجه أحمد (4/78)، والبخاري في التاريخ الكبير (1/422)، والترمذي في البر والصلة (1952)، وعبد بن حميد في المنتخب من المسند (362)، والعقيلي في الضعفاء (3/308)، وابن حبان في المجروحين (2/188)، وابن عدي في الكامل (5/86)، والقضاعي في مسند الشهاب (1295، 1296، 1297)، والبيهقي في الكبرى (2/18) من طريق عامر بن أبي عامر الخزاز عن أيوب بن موسى عن أبيه عن جده، وأعله البخاري والترمذي والبيهقي بالإرسال، وصححه الحاكم (7679)، وتعقبه الذهبي بقوله: "بل هو مرسل ضعيف، ففي إسناده عامر بن صالح الخزاز واه"، وذكر له الألباني في السلسلة الضعيفة (1121) علّة ثالثة.
[8] أخرجه مسلم في الوصية (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه مسلم في الزكاة (995) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[10] أخرجه البخاري في الجنائز (1296)، ومسلم في الوصية (1628) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[11] هو جزء من الحديث السابق.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أخي المسلم، أولادُك بنين وبنات أمانةٌ في عنقِك، والله سائلٌ كلاًّ عمّا استرعاه، فيقول : ((كلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته، الرّجل راعٍ في بيته ومسؤول عن رعيّته)) [1] ، راعٍ على أولادِه، والله سائله عن رعيّته، سيكون أبناؤك وبناتك خصماءَ لك أمامَ الله يوم القيامة، سيخاصِمك الأبناء والبناتُ بين يدي الله في ذلك اليومِ العظيم، عن تقصيرك، عن إساءَتك، عن إهمالك، عن تضييعِك، عن عدمِ مبالاتك، عن نسيانِك، عن هذه التصرّفات الباطلة اللاأخلاقيّة، ولكنّها تصرّفات الحمقى، تصرّفات من لا مسؤولية [له]، تصرّفات مَن لا يبالي ولا يرعوي.
أيّها المسلم، كيف ترضى وتعلم أنّ فتاةً لك في بلادٍ لا تَرى أبًا ولا عمًّا وابن عمٍّ ولا قريبًا، تنادي: أين أبوها؟ أين ذلك الأبُ الذي تسبّب في وجودها؟ أين هو؟ أين الرّعاية؟ أين النّفقة؟ أين الحِفظ؟ أين العِناية؟ فكم من فتاةٍ تمسَح دموعَ الحزن دائمًا وأبدًا، وكم شابّ يعلم أنّ له أبًا، لكن هذا الأبُ غاب وأهمَل ونسِي وتجاهل.
فاتّقوا الله في أنفسكم، واعلموا أنّ هذه التصرّفات الواقعة من بعض أفرادِ المسلمين تصرّفات خاطئة، لا ينبغي أن يُعانَ عليها ولا أن يسهَّل أمرُه فيها، بل ينبغي للمسلمين أن يتواصَوا بالحق، ويتعاونوا على الهدى. ومَن يعلمُ أنّ له أقرباء في بلادٍ لا ناصرَ ولا مؤويَ لهم فالواجب عليه أن يهبَّ ليسترجعَهم، فإنّ هذه مسؤوليّة الأب، فإن أهملَ الأب وضيّع وصار من الخائنين لأمانتِهم فمسؤوليّة الإخوان والأعمام والأقارب أن ينقِذوا هذا النسلَ من الضّياع والفساد والانحراف، لأنّ هذا من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ومِن التعاون على البرّ والتّقوى، ومن صلةِ الرحم الواجبة، أمّا أن يقال: الأب ضيّع والأبُ أهمل فلا نبالي، فهذا خطأ بلا شكّ، بل الواجب الإنقاذ والسعيُ في إيجاد حلٍّ لهؤلاء الذين ضيّعهم أولئك الآباء المهمِلون الخائِنون لأماناتِهم.
أسأل الله للجميع التوفيقَ والعون على كلّ خير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد امتثالا لأمر ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(1/2769)
أنواع الأنفس
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
محمد أحمد حسين
القدس
22/7/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعدنا عن ديننا سبب آلامنا ومشاكلنا. 2- أنواع النفس الإنسانية في القرآن. 3- ضرورة محاسبة النفس وتزكيتها. 4- جرائم إسرائيلية جديدة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، طاعة الله تبارك وتعالى وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة على كل مسلم، وما يصيب المسلمين في هذه الأيام من الويلات والمصائب إلا بسبب بعدهم عن طاعة الله، سلوا أنفسكم: لماذا تسلط عليكم أعداؤكم؟ لماذا هذا الذل والهوان؟ لماذا هذا الضلال والزيغ والعصيان؟ والجواب واضح، لأننا ابتعدنا عن ديننا، ولله در عمر بن عبد العزيز رحمه الله حين قال: "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناًً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله، ليس لأحدٍ تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في رأي من خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، من استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، ووفاه جهنم وساءت مصيراً".
وتذكروا ـ يا عبد الله ـ أن الاعتصام بالسنة منجاة، فعليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما على الأرض من عبد على السبيل الصحيح والسنة ذكر الله في نفسه، ففاضت عينه من خشية ربه فيعذبه الله أبداً، وما من عبد ذكر الله في نفسه فاقشعر جلده من خشية الله إلا غفر الله له.
فكتابنا سيد الكتب وأجمعها، وشريعتنا أوضح الشرائع وأدقها، وطريقتنا مسددة بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويحفظ السنة ويفهم معانيها لا يصح الاقتداء به، ومن هنا قال أهل العلم: "ولو رأيتم الرجل تربع في الهواء أو مشى على الماء فلا تقتدوا به حتى تروا صنيعه في الأمر والنهي، فإن رأيتموه ممتثلاً لجميع الأوامر، مجتنباً لجميع النواهي، فاقتدوا به، وإن رأيتموه يخل بالأوامر ولا يجتنب النواهي فاجتنبوه".
عباد الله، وورد في الحديث الصحيح عن الصحابي الجليل شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله)) [1].
إن سيد المرسلين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يريد أن يجعلنا من الأكياس الفطناء، فليس الكيس الفطن من نسي الله تعالى واتبع هواه وأضله شيطانه، ولكن الكيس الفطن هو الذي يحاسب نفسه ويوقفها عند كل عمل من الأعمال، لكي يزكيها وينهرها، لأن النفس كالطفل، إن أدبتها وهذبتها صلحت واستقامت، وإن أهملتها وتركتها خابت وخسرت.
والنفس ـ يا عبد الله ـ في القرآن على أقسام ثلاثة: أولها: النفس اللوامة، تلك التي أقسم الله تبارك وتعالى بها في سورة القيامة في قوله عز وجل: لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلاَ أُقْسِمُ بِ?لنَّفْسِ ?للَّوَّامَةِ [القيامة:1، 2]، وهذه النفس تارة تقبل على الله، وتارة تعرض، وتارة تذكر المولى عز وجل، وتارة تغفل، وتارة تفرح، وتارة تحزن، وتارة ترضى، وتارة تغضب، فالمؤمن ـ يا عباد الله ـ لا تراه إلا يلوم نفسه دائماً ويقول: "ما أردت بهذا؟ لم فعلت هذا؟".
ثانياً: النفس الأمّارة بالسوء، وهي التي ذمها الله تبارك وتعالى في سورة يوسف عليه الصلاة والسلام، في قوله عز وجل: وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى إِنَّ ?لنَّفْسَ لامَّارَةٌ بِ?لسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى [يوسف:53].
وتذكروا ـ أيها المؤمنون ـ أن الله تبارك وتعالى قد امتحن الإنسان بهاتين النفسين: الأمارة واللوامة.
والنفس الأمارة، الشيطانُ قرينها وصاحبها، وهو الذي يعِدها ويمنيها، ويأمرها بالسوء ويزينه لها، ويريها الباطل في صورة الحق، ويطيل الأمل أمامها، ويمدها بالشهوات المهلكة، ويستعين عليها بهواها، فينقلها من عز الطاعة إلى ذل المعصية، ومن السماع الرحماني إلى السماع الشيطاني، ومن الاستعداد لرب العالمين إلى الاستعداد للقاء إخوان الشياطين.
وأما النفس الثالثة: فهي النفس المطمئنة التي أكرم الله بها صاحبها، وهي التي ذكرها في أواخر سورة الفجر في قوله تبارك وتعالى: يأَيَّتُهَا ?لنَّفْسُ ?لْمُطْمَئِنَّةُ ?رْجِعِى إِلَى? رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَ?دْخُلِى فِى عِبَادِى وَ?دْخُلِى جَنَّتِى [الفجر:27-30]، هذه النفس التي أيدها الله تعالى بجنود عديدة، فجعل المَلَك قرينَها وصاحبها، وهو الذي يوجهها ويقذف فيها الحق، ويزجرها عن الباطل، ويمدها بما علمها من القرآن والذكر الحكيم وجميع أعمال الخير والبر، وحبب إليها الطاعات والعبادات.
أيها المؤمنون، يقول المولى تبارك وتعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]، فقد دلت الآية الكريمة على وجوب محاسبة العبد لنفسه، يقول الإمام المفسر ابن كثير رحمه الله: "أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة، ليوم معادكم وعرضكم على ربكم".
ثم تأملوا ـ يا عباد الله ـ في ختام هذه الآية، تأملوا ما جاء في ختام ذلك الأمر الإلهي، وهو قوله: إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ، أي اعلموا أنه عامل بجميع أعمالكم وأحوالكم، ولا تخفى عليه منكم خافية، ولا يغيب عنه من أموركم جليل ولا حقير.
فانتبهوا ـ يا عباد الله ـ ولا تكونوا من الذين نسوا الله، فأنساهم أنفسهم، فقد كان أمير المؤمنين وخليفة المسلمين أبو بكر رضي الله عنه يقول في خطبته: (أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجَل معلوم، فمن استطاع أن يقضي الأجل وهو في عمل الله عز وجل فليفعل، ولن تنالوا ذلك إلا بالله عز وجل، إن قوماً جعلوا آجالهم لغيرهم، فنهاكم الله أن تكونوا أمثالهم، أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدموا في أيام سلفهم، وخلوا بالشقاوة أو السعادة، أين الجبارون الأولون الذين بنو المدائن وحصنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآكام، هذا كتاب الله تبارك وتعالى لا تنقضي عجائبه، فاستضيئوا منه ليوم الظلمة، إن الله تبارك وتعالى قد أثنى على عبده ونبيه زكريا وأهل بيته، فقال تبارك وتعالى: إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـ?شِعِينَ [الأنبياء:90]، فلا خير في قول لا يراد به وجه الله تعالى، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله، ولا خير فيمن يغلب جهلُه حِلمَه، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم).
فلو تأملت أخي المسلم قول أمير المؤمنين في هذه الخطبة المباركة وحاسبت نفسك وطرحت عليه تلك الأسئلة، لفزت بالسعادة في الحياة الدنيوية والأخروية، فالفلاح والنجاح والصلاح لمن زكى نفسه بالطاعة، وطهرها من دنس الذنوب والمعاصي، طهرها من الغفلة، وأيقظها بالذكر والتوبة، قال تعالى بعدما أقسم بسبعة أشياء من مخلوقاته في سورة الشمس: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـ?هَا [الشمس:9]، وخسر وخاب من غفل عنها وأهملها.
عباد الله، رحم الله عبداً قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها وفطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائداً.
وتذكروا ـ عباد الله ـ أنه حق على العاقل أن لا يغفل عن أربعة ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو بها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها، فيما يحل ولا يحرم، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات وإجماماً للقلوب.
عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى بالدعاء والتسليم، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة. فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] رواه ابن ماجه في سننه(4259)، والترمذي في جامعه (2459)، وقال الألباني: ضعيف. انظر ضعيف ابن ماجه (4260).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله ذي العز المجيد والبطش الشديد، المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، المنتقم ممن عصاه بالنار بعد الإنذار بها والوعيد، نحمده، وهو أهل للحمد والثناء والتمجيد، ونشكره على نعمه، وبالشكر تدوم وتزيد.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا كفؤ ولا عدل ولا ضد ولا ند، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى التوحيد، الساعي بالنصح للقريب والبعيد، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغر الميامين.
أما بعد: فيا عباد الله، إن ما جرى يوم الجمعة الماضي من قبل سلطات الاحتلال وإطلاقهم العيارات المطاطية وقنابل الصوت وقنابل الغاز على المصلين الراكعين الساجدين بين يدي الله تعالى في هذا المسجد المبارك أمر منكر، وفيه إعلان الحرب على الله، ونحن من هذا المكان الطاهر نستنكر هذه الجرائم، ونشكوهم إلى الله عز وجل، وتذكروا أن الله سوف ينتقم منهم، سوف ينتقم ممن يعتدي على بيوته وحرماته وعباده، فالمسجد الأقصى له حرمته عند الله تبارك وتعالى، وهو مكان مقدس عند المسلمين، وهو مكان لعبادة المسلمين وحدهم، ونحن نعلم علم اليقين أن أحداً من المسلمين لم يعتدِ على دور العبادة لأحد، وأن هذه الأفعال والجرائم ليس لها أي مبرر إلا أمر واحد، وهو الاعتداء على المقدسات الإسلامية، وبخاصة المسجد الأقصى المبارك.
وأنتم ـ أيها المؤمنون ـ فوتوا الفرصة عليهم، وكونوا على قدر تحمل المسؤولية تجاه هذا المكان الطاهر، كونوا الأمناء والأوفياء والحراس والسدنة له، وتذكروا أن الله تبارك وتعالى قد شرفكم بالرباط في هذه الديار المقدسة.
أيها المؤمنون، إن المأساة التي تعيشها أمتنا الإسلامية في شتى أنحاء العالم، مردُها الأساس غياب دولة الإسلام واستهتار قادة وحكام العرب بدستور الأمة، وركونهم إلى الغرب الحاقد لحل مشكلاتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية، ناسين أو متناسين أن نور الإسلام قد أضاء ظلمات الجهل التي كانت أوروبا غارقة فيها، ونسي حكام الأمة أن حضارة الإسلام كانت النبع الذي استقت منه شعوب الأرض جميعاً، ولما بعُدت الأمة عن منهج الله القويم أذاقها الله لباس الجوع والخوف، وتكالبت عليها قوى الشر والبغي والعدوان، تستبيح الأرض، وتنتهك الحرمات، وتستعبد الإنسان، وترتكب أبشع الجرائم والمجازر.
أيها المؤمنون، انظروا إلى واقع الأمة اليوم، ها هو شعبنا يذبح أمام وعلى مرأى ومسمع العالم أجمع، وتجد إسرائيل العون والدعم الدولي لتغطية عدوانها المتواصل، وممارساتها القمعية ضد شعبنا المسلم، لفرض سياسة التوسع ولانتزاع اعتراف شعبنا، بفرض الأمر الواقع.
أمريكا عدوة الاسلام والمسلمين تعتبرنا عقبة أمام ما يسمى خارطة الطريق، وتجاهلت عمليات التصفية الاغتيال وهدم المنازل وتقطيع أوصال الأرض الفلسطينية، كما أن استخدامها المتوقع لحق النقض (الفيتو) ضد قرار ما يسمى مجلس الأمن الدولي، الذي يمنع إسرائيل من طرد الرئيس الفلسطيني عن أرض الوطن يكشف بلا مواربة عمق التحالف الاستراتيجي بينها وبين إسرائيل، وهو بواقع الأمر وصمة عار ولطمة قاسية لكل المرتَمين في أحضانها، أما الدول الأوروبية فقد جمدت أموال الفلسطينيين، ووصفت الجماعات والحركات الإسلامية بالجماعات الإرهابية، استجابة للضغوط الأجنبية، حرب مبرمجة لضرب الإسلام والمسلمين في كل مكان.
إن الأيام القادمة حبلى بالمفاجآت، فالحصار الخانق واستمرار حملات الاغتيال وتعالي الأصوات هنا وهناك ضد إرادة شعبنا المسلم المرابط، إنما يقصد به حشرنا في زاوية المواجهة الذاتية والاقتتال الداخلي، بذريعة الخلاص من المعاناة والقضاء على ما يسمونه الإرهاب الفلسطيني.
فحذار ثم حذار ـ أيها المسلمون ـ من كل الأصوات والدعوات المشبوهة إلى تريد جرَّ شعبنا إلى الاقتتال الداخلي، إن الوحدة الإسلامية ورفض الوعود الأمريكية ورفض الضغوط الخارجية هي السبيل القوي لصمود شعبنا وإفشال مخططات أعدائنا، التي يراد بها الاستسلام من قبل شعبنا، في وقت تصم الدول العربية آذانها عن استغاثة شعبنا وعن نصرته ورفع الضيم والظلم عنه.
أيها المؤمنون، علينا أن نكون أمة صادقة تفتخر بدينها، وتتمسك بتعاليم نبيها، وعلينا أن لا نخضع للإملاءات والشروط الخارجية، وأن نكون فوق الأحداث، قادرين على حل مشكلاتنا، بعيداً عن المؤثرات الخارجية، وأن نفوت الفرص على أعدائنا، فنحرمهم من النيل من كرامتنا أو تدنيس مساجدنا أو ضرب شبابنا.
إن كرامتنا وعزتنا وقوتنا في ديننا، مهما تكالبت علينا قوى الشر والطغيان، علينا أن نكون أهلاً لهذا الرباط الذي خصنا الله تبارك وتعالى به، وصدق الله تبارك وتعالى وهو يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].
(1/2770)
يا أهل الجزيرة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
فضائل الأزمنة والأمكنة, قضايا دعوية
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
29/7/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرّ بقاء الأمم. 2- قضية الثوابت والمنهج. 3- نور الإسلام لن ينطفئ. 4- اختيار الله تعالى لهذه الجزيرة. 4- شيء من تاريخ الجزيرة. 5- من نعم الله تعالى على هذه الجزيرة. 6- أهمية تحكيم الشريعة والتحاكم إليها. 7- التحذير من الخصوم المغرضين. 8- نداء لأبناء الجزيرة. 9- عالميّة الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فهي جِماع الخيرات، وينبوع البركات، ومصدَر الرحمات، ونور الظلمات، وسببُ الرّقِيّ في علوّ الدّرجات والأمانِ من الدّركات وتكفيرِ الذنوب والسيّئات، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الحديد:28].
أيّها المسلمون، سِرُّ بقاء الأمَم وسبب فَخار الشّعوب وأساس بناء الأمجادِ وإشادةِ الحضارات إنّما يرتكز على قواعدِ المبادئ والثّوابت، ويكمُن في ظلال المثُل وضِفاف القيَم. والمستقرئ لعوامل أزماتِ الأمم وانتكاساتِ الشعوب وتقويض أمجادِها وانهيار حضاراتها عبرَ التأريخ يدرِك أنّ مردَّ ذلك كلِّه إلى التّفريط في المبادئ والمساس بالأصول والثوابت.
وإنّ اللهَ جلّت حكمتُه قد منّ علينا ـ نحن أمّةَ محمّد ـ بهذا الدّين القويم، واختار سبحانه ـ وله الحكمة البالغةُ فيما يخلق ويختار ـ هذه الجزيرةَ لتكون قاعدةَ انطلاقِه إلى كلّ الخليقة في جميع أصقاعِ المعمورة.
معاشرَ المسلمين، لقد قامت في دنيا النّاس حضاراتٌ شتَّى، وواجهت أزماتٍ متعدّدة، غيرَ أنّ القضيّة المهمّةَ في حياةِ الأفراد والأمَم على مدار التأريخ كلّه هي قضيةُ الثوابت والمنهج. وإنّ مِن رحمة الله سبحانه بهذه الأمّة أمّةِ محمّد عليه الصلاة والسلام أن وقاها شرورَ المحقِ والاستئصال، وقضى بوجودِ الطّائفة المنصورة والفرقةِ النّاجية إلى قيام الساعة، فرايةُ التّوحيد لا تسقط أبدًا، وصوتُ الإسلام لا ينقطِع سرمَدًا، هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [الصف:9]. روى البخاريّ ومسلم في صحيحيهما أنّ رسول الله قال: ((لا تزال طائفةٌ من أمّتي على الحقّ ظاهرين حتّى يأتيَهم أمر الله وهم ظاهرون)) [1]. ولم يزل سبحانه تفضًُّلاً منه ومنَّة يوفِّق لإقامَة عقيدةِ التّوحيد ويُمكِّن لشريعة الإسلام مع أنّ عواملَ الضّعف ما برِحت والتحدّياتِ للإسلام وأهلِه ما فتئت تصيبُ الأمّة بالوهَن والأدواء في عددٍ من أجزاء جسدِها المثخَن بالجراح.
إخوةَ العقيدة، والمتأمِّل في تأريخ هذهِ الأمّة في أطواره المختلفة يجِد أنّ دولةَ الإسلام لم ينقطع موكبُها، ولم تنطفئ أنوارُها بحمد الله، منذ أن أشادَ المصطفى صرحَ حضارة الإسلام الأولى. نعم، كانت ولا تزال هناك محاولاتٌ مستمرّة ترمي إلى إقصاء الإسلام وتجريد أهلِه من إمكاناتِه الماديّة والمعنويّة، وحرمانِهم من حقوقهم وقوّتهم في شتّى المجالات، وغزوِهم عقديًّا وفِكريًّا وتربويًّا وإعلاميًّا، ولكن يأبى الله إلاّ أن يتمَّ نورَه ولو كره الكافرون.
إخوةَ الإيمان، لقد شاء الله لهذه الجزيرةِ اصطفاءً واختيارًا، فجعلها منطلقًا للرسالة الإسلاميّة الخالدَة ومتنزَّلا لوحيِهِ ومهدًا لدعوة نبيِّه عليه الصلاة والسلام وقلبةً لعبادِه ومهوًى لأفئدتِهم ومحلاًّ لأداء مناسِكِهم، فأمنُها أمنٌ لجميع البلاد، ونورُ إيمانها ساطعٌ بحمد الله في كلّ الأصقاع والوهاد، وهي مأوَى كلِّ مضطهَدٍ في دينِه من سائر العِباد. قلعةٌ من قِلاع الهدى، وصخرة شمّاء تتهاوى أمامَها سهامُ العِدى، وتتلاشى أمام شموخِها عوامل الرّدى. هي منارةُ الإسلام ومأرِز الإيمان ومحضِن العقيدة ومركز الحضارة ومنطلَق الهداية والقيادة والسّيادة والرّيادة للعالم الإسلامي، والخطّ الأخير في غُرّة الوجودِ الإسلامي، وخاتمةُ سور الدّفاع العقديّ والإيمانيّ. هي معقِل الشريعة وعاصمتُها الخالدَة ورأسُ مال الأمّة وأغلى أرباحها، تُعدُّ بمثابةِ مركز القلبِ في جسم الإنسانيّة، حفِظها الله فلم تطأها قدمُ مستعمِر، وسلّمها الله فلن تعبثَ بأمنِها يُد دعيٍّ مستهتِر، لا مكانَ فيها للعمليّات الإرهابيّة، ولا مجالَ فيها للأعمال التخريبيّة والأفعال الإجراميّة، فالله سبحانه قد بسط أمنَه في ربوعِها، ونشر أمانَه في كلّ أرجائها، فله الحمد والمنّة.
وإنّ المسلمَ الحقَّ لينشرح صدرُه بالتمكين لقبلة الإسلام الأولى وانطلاقةِ دعوتِه الكبرى، ويفرح ويغتبِط حينَ يرى صفاءَ العقيدة، ويغمره السّرور ويكتنفُه الحبور حين يجد الراحةَ والأمنَ وهو يحجّ ويعتمر بكلّ أمان واطمئنان، بعدما كانت رحلة الحجّ والعمرة رحلةً مصيريّة تُمثِّل حياةً أو موتًا، فللّه الحمد أوّلا وآخرًا وباطنًا وظاهرًا.
معاشرَ المسلمين، ولقد شهِدت الجزيرة العربية أحقابًا عِجافا، وأتى عليها حينٌ من الدّهر لم تكن شيئًا مذكورًا إلا بالظّلم والنّهب والجهل والسّلب وشيوع القتل والفوضى، حيث كانت مسرحًا للجرائم ومثَلاً في انعدام الأمن وكثرة المخاوف، حتى
ضجّ الحجيج وضجّ البيت والحرمُ واستصرخت ربَّها في مكَّة الأُممُ [2]
حين انفرطَ عِقدها وذهبت ريحُها، ولم تزل في هذا الوضع المتردّي حتّى قيّض الله لها أئمّةَ الدعوة الإصلاحيّة المباركة، فعانق سلطانُ الحكم سلطانَ العلم في زمنٍ كثُر فيه الجهل والخوف وعمّ فيه التخلّف والاضطراب ووهنت صلةُ الناس بعقيدتهم وانعدم توثُّقهم بشريعتهم، فأجرى الله على أيديهم مِن الخير للبلاد والعبادِ ما يشهَد به المنصفون ويشرَق به الحاقدون الشّانئون، فأُعلِيت راية التّوحيد ووُئدت الخُرافةُ وأُبطل التنديد، فتحًا من المجيد، وتيسيرًا من العزيزِ الحميد، حتى قرّت عيون الموحِّدين بانتشاره ورسوخِ أصوله وقواعده وإشعاعِ نور العِلم وكشفِ الشبهات عنه وتبدُّدِ سُحُب الجهالةِ واضمحلال مسائلِ الجاهلية وتحقيقِ الوحدة والأخوّة وتأمين السّبُل وشيوع الأمن واطمئنان ركّاب السفينة إلى من يقودُها بمهارةٍ واقتدار وسطَ الأمواج الهائجة، فيوصلها بإذن الله إلى بَرِّ الأمان وشاطئ السّلامة والنجاة، وهذا من مقتضيَات الإمامة في هذا الدين، وهل تُحمَى البيضة وتُصان الحوزة وتقوى اللُّحمة إلا بذلك؟!
وما الدّينُ إلا أن تُقامَ شرائعٌ وتؤمَن سبلٌ بينَنا وهضابُ
أمّة الإسلام، ومِن أفضال الله وآلائه وتمامِ منِّه ونعمائه على هذه الجزيرة مع ما نعِمت به من الدّعوة الإصلاحيّة الكبرى أنّها تميّزت بخصائصَ فريدة وثوابتَ عتيدة، أهمُّها صفاءُ المعتقَد في زمنٍ غشيته غاشيةٌ سوداء، فأُلبِس التّوحيد الخالص لله نسجًا من الخرافات والانحرافات، وعبثت بأهلِه الأوهامُ والخيالات، فبُدِّل مسلمون غيرَ المسلمين، وهبطوا في هوّة سحيقةٍ من الظُلْم والظُلَم، فعاش العالم في جوٍّ مُربادّ وظلمةٍ مطبِقة، وفيما العالمُ مستغرق في هجعتِه ومدلِجٌ في ظلمتِه إذَا بصوتِ الإمام المصلِح الشّهير والمجدِّد الكبير ـ طيَّب الله ثراه وأكرم في الجنّة مثواه وأمطر عليه شآبيبَ الرحمة والرضوان وسحائبَ البرّ والغفران ـ يدوّي من قِبَل صحراء نَجد حاضرةِ التّوحيدِ والعلم والدّعوة والمجد لإيقاظ الأمّة من سباتها العميق، حتّى تبدَّت تباشير فجر الإصلاح، ونادى منادي الحقّ أن حيّ على الفلاح، وسطعت شمس الحقّ والحقيقة بعدما كانت في أُفول، وتبدَّدت ظلماتُ الجهالة بعدما كانت في امتدادٍ وشمول، فحمدًا لك اللهمّ حمدًا حمدًا، وشكرًا لك اللهمّ شكرًا شكرًا.
لك الحمد كلّ الحمد لا مبدأٌ له ولا منتهى والله بالحمدِ أجدرُ
كانت جزيرتُنا بالأمس عاريةً واليومَ قد لبِست أثوابَها القُشُبا
لقد كان فيها من الهرج ما يُبكي العيونَ تفاصلُه.
كانت ممزّقة الأطراف مرهقَة فالخير منعفِر والأمن مندثِر والركن مهدودُ
فأصبحت بعد ضمِّ الشّمل شامخةً حينَ استتبّ لها بعثٌ وتجديدُ
فالدّار عامرة والأرض زاهرةٌ والسُّحْبُ ماطِرة والأمنُ منتشِر
فتمثّلت الجزيرة بعدَ الدّعوة الإصلاحية نسجًا وحدويًا يقلّ نظيره، نجدُها وحجازها، جنوبها والشّمألُ، في منظومةٍ متألّقة متّحدة، بعدما أدّى الشّقاق في الأمّة إلى ضمورِ معاني الوَحدة فيها، في وقتٍ كانت فيه كثير من الكيانات تعاني الفرقةَ في أقسى معانيها، في انقساماتٍ عصيبة ومشاحنات إقليمية، ولقد كانت نتيجة ذلك وآثاره أمنًا وارفَ الظّلال بحمد الله في عالمٍ ضرب الخوفُ فيه أطنابَه، ولم يعُد آمنًا على نفسِه وماله وعِرضه، فالحمد لله ثم الحمد لله حمدًا لا كفاءَ له على ما أنعَم وأسدَى.
أمّةَ الإسلام، أبناءَ الجزيرة، ولقد كان من الثّوابت المهمّة في هذه الجزيرة تحكيمُ الشريعة والتّحاكم إلى الكتاب والسنة، فلا تعصّب لأحدٍ من المذاهب، ولا جمودَ على مشرب من المشارب، مع العنايةِ بالتّربية والتّعليم الإسلاميّ والتركيز على العلوم والمناهجِ والمؤسّسات الشرعية، ومنها إقامة الوحدةِ الإسلاميّة ودعمُ التضامن الإسلامي وإعزاز شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعلاءُ شأن الحِسبة وتكريم أهلِها والاهتمام بالمرأة المسلمة في التزامها بحجابِها وعفافِها وحِشمتِها وحيائِها، في منأًى عن تبرّجها وسفورِها واختلاطِها، فنالت فتاةُ الجزيرةِ قصبَ السّبق في حصانتِها وصيانتِها، وسلِمت من الدّعوات المأفونةِ في تحرّرها من قيَمها وتجرّدها مِن مُثُلِها بدعوى الحرّيّة المزعومة والتقدّميّة الزائفة، ومنها تبنّي قضايا المسلمين الكبرى، ويأتي في مقدّمتها قضيّة أولى القبلتين وثالث المسجدين الشريفين ومسرى سيّد الثقلين عليه الصلاة والسلام الذي يمرّ اليومَ بمرحلةٍ خطيرة ويدخل في نفقٍ مظلِم من التحدّيات والمؤامرات غير مسبُوقة، أقرّ الله الأعينَ بفكِّ أسره وقربِ تحريره، وكذا دعمُ قضايا الأقليات الإسلاميّة في شتّى أنحاءِ العالم، جعله الله خالصًا لوجهِه الكريم.
يُقال ذلك ـ أيّها المسلمون ـ تذكيرًا بالنّعم، ليُشكَر المنعم المتفضّل سبحانه، وتأكيدًا على الثّوابت المتينة حتى يتذكّرها جيلُ اليوم الذي يُخشَى أن ينخدعَ ببريق المدنيّة المعاصرة، وإهابةً بالأمّة للتذكّر والاتّعاظ والاعتبار، وليسَ هذا القول لأحدٍ مجاملةً ومدحًا، ولا لغيره ذمًّا وقدحًا، ولكنّه لله ثمّ للحقيقة والتأريخ.
ألا فليعلم ذلك أهلُ الجزيرة، فيلتزموا نهجَ السّلف ليكونوا خيرَ خلف، تمسّكًا بالثوابت والأصالة، وحسنَ تعاملٍ مع المتغيّرات المعاصرة، على ضوء منهج الوسطيّة والاعتدال، بعيدًا عن مسالك الغلوّ والجفاء والإفراط والتّفريط والتميّع والانهزاميّة والانبِهار، في مجالِ العقيدة والمنهج والفكر والتربيّة والتعليم والإعلام، وفي كلّ مجالٍ من المجالات.
معاشرَ المسلمين، ولقد دأب الخصومُ على رفع عقيرتِهم عند تجدُّد كلّ نعمة وتبدُّد كلّ نقمة، فشنّوا الحملاتِ الإعلاميّة المغرِضة، وبثّوا الدّعايات والوشايات الكاذِبة ضدَّ هذه الجزيرةِ ودعوتِها الإصلاحيّة، فادَّعَوها مذهبًا خامسًا وخروجًا على ما كان عليه المسلمون الأوائِل، بدعوى الوهّابيّة أو إلصاق تهمة الإرهاب بها أو غير ذلك على حدّ قولِ الأوّل:
إنّ بَنِيَّ زمّلوني بالدّمِ شِنشِنةٌ أعرفُها مِن أخزم [3]
يردّدها بعضُ من أرخى زمامَ نفسِه لخصمِه، وأعار عقلَه وفكرَه لغيره، فصار يهذي بما لا يدري ويهرِف بما لا يعرف، جهلاً أو إغراضًا، دونَ رويّة وتثبّت ونظرٍ وتيقّن. وشأن المسلم الحصيفِ الواعي أن ينظرَ بميزانِ النّقل الصحيح والعقل الصريح، كما أنّ علينا جميعًا ـ يا رعاكم الله ـ الحذرَ من كلّ دعوةٍ تخالف ثوابتَنا ومنهجَنا الصحيح، وإن تزيَّنت ببهرج القول وتنميق القوالبِ والأساليب.
فاللهَ اللهَ عبادَ الله، اللهَ اللهَ يا أهلَ الجزيرة، في الثّبات على عقيدتِنا وشريعتنا، والمحافظة على مكتسباتِ حضارتنا وإنجازاتِ جزيرتِنا، لا إشادةً بأمجادِ الماضي فحَسب، وإنّما استمساكٌ وعزمات وعمل وجدٌّ وثبات، بالنهوض والشموخ لبناء صرحٍ لا كالصّروح وحضارة لا كالحضارات، فيبني الأبناءُ والأحفاد كما يبني الآبَاء والأجداد، ويفعلون مثلَ ما فعلوا، ولعلَّ في هذا استنهاضًا لهِمم أبناءِ الجزيرة أن يكونوا مع عِظم هذا التّشريف على مستوى الثقةِ والتّكليف، سائرين على دربِ جماعةِ المسلمين، تحت رايةِ التوحيد وعلى منهاج النبوة، لا تتوازعهم الفرقُ والأهواء، ولا تفرّقهم الجماعات والأحزابُ والآراء، محيِين لما اندرس من معالمِ هذا الدين، مصحّحين لما التبس مِن مفاهيمِه، محاذرين كلَّ شائعةٍ وتشويش، مجانبين كلَّ ذائعَة وتهويش تقصِد الإساءةَ والثلبَ والتحريش، مُبقين حقَّ الامتيازِ في هذه الجزيرة على ضوءِ هذه الشّريعة، دونَ تقليدٍ دامس لا يردّ يدَ لامس، وأن يكون دورُهم مع حراسةِ العقيدة والشريعة الإفادةَ من منجزاتِ الحضارة المعاصِرة في شتّى المجالات، أصالة وتجديدًا لا تبعيّة وتقليدًا، وبناءً عليه فلا بد مِن بعثِ روح التفاؤل والأمل والجدّ والعمَل لبناء حياةٍ سعيدة تجمَع بين الأصالة والمعاصَرة في هذه الجزيرةِ على يدِ أبنائِها الأُصلاء، لا غيرهم مِن الدُّخَلاء، تأثيرًا لا تَأثُّرًا. ألا فليعلمْ ذلك المنهزِمون ممَّن طأطؤُوا هاماتِهم وأسلموا قيادَهم لقراصنة الفكر الملوَّث وسماسرة الأخلاق الوافِدة، فنبَتت نوابتُ تعرفُ منهم وتنكر.
أيّها الأحبّة، ومع كلّ ما حبَا الله مهدَ الإسلامِ ومأرز الإيمان مِن المزايا والخصائص فإنّ المتقرِّر لدى النّصَفَة أنّ الكمالَ لله وحدَه، وأنّ العصمة ليست لأحدٍ مِن خلقِه سوى أنبيائه ورسله فيما يبلّغون من شرعِه، والموفَّق الملهَم من سُخّر في الخير مفتاحًا وللشرّ مغلاقًا، فحرص على إبراز هذه المزايا، حميّةً للدين والشريعة ليس إلاّ، وسعى في تحقيق الضمانات الواقية للمحافظة عليها في عالمٍ يَموج بالتحدّيات رَفعًا لراية الصّلاح والإصلاح بالأساليب الشرعية، وسدًّا لهذا الزحف المهول والأمواج العاتية لصدِّها عن هذه الجزيرة وأهلِها، لا سيّما مِن الشباب والفتيات، حتّى لا تُهيّأ الأجواء لاستقبال التيّارات الوافدة المحمومة أو الأفكار المنحرِفة والثقافات المسمومة في شتّى المجالات، وكان الله للمخلصين لدينهم وأمّتهم ومجتمعهم معينًا ونصيرًا، إنّه نعم المولى ونعم النصير، وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لأمُورِ [الحج:40، 41].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيّد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات من جميع الذنوب والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه كان للأوّابين غفورًا.
[1] ترجم البخاري بنحوه في كتاب الاعتصام، ووصله مسلم في الإمارة (1920) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
[2] هذا البيت لأحمد شوقي من قصيدة له بعنوان: "ضج الحجيج"، رفعها للسلطان عبد الحميد سنة 1904م، يعبر فيها عن خطورة ترك التمرد الذي قاده الشريف حسين في مكة على الأمة.
[3] هذا البيت لأبى أخزم الطائي، وهو جدّ حاتم أو جدّ جده، مات ابنه أخزم وترك بنين، فوثبوا يوما على جدهم فأدموه فقال هذا البيت، يعنى أن هؤلاء أشبهوا أباهم في العقوق، والششنة الطبيعة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، شرح صدورَ أهل الإسلام بالهدى، ونكتَ في قلوب أهلِ الغيّ فلا تعي الحكمةَ أبدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، إلهًا واحدًا أحدًا فردًا صمدًا، وأشهد أنّ نبيّنا وحبيبنا وقدوتَنا محمّدًا عبد الله ورسوله أكرِم به عبدًا وسيّدًا، وأعظِم به أصلاً ومحتِدًا، صلى وسلّم عليه وعلى آله وصحبِهِ صلاةً وسلامًا تامّين دائمين إلى أن يُبعَث الناس غدًا.
أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281]. وعليكم بالجماعة، فإنّ يد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النّار.
عبادَ الله، ومع كلّ ما ذكِر من الخصائص والمزايا لهذه الجزيرةِ فهي ليست دعوةً إقليميّة ولا عنصريّة، وإنّما هي دعوة إسلاميّة عالميّة آفاقيّة؛ لأنّ الإسلام هو دين العالميّة الحقّة، وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]، وهو قدَر الله الكونيّ والشرعيّ في هذه الجزيرة، بل فخرُها وشرفها، لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَـ?بًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10]. وما موقع هذه الجزيرةِ من العالم إلاّ موقعُ القبلة من المصلَّى والتّاج من الحُلَّة والغرَّة من التحجيل، وقولوا لي بربّكم من الذي لا يطبَع قُبلتَه على قِبلتِه ويهيم بحبّ عرصاتِ الشعائر ومقدّسات المشاعر وأماكِن المناسِك لكلّ ناسك ومأوى ومثوى خاتم النّبوات ومنطلَق أشرف الرّسالات؟! بل حبُّها في ضمير كلّ مؤمن يفيض، ومن قلب كلّ شانئٍ يغيض، واللّبيب المنصِف الذي لم تُعشِ نورَ بصرِه وبصيرتِه رواسب الغِلّ والشّحناء والحقدِ والحسَد والبغضاء يدرك أنّ هذه الحقيقةَ معلمٌ من معالم هذه الشريعة وملمَح مهمّ من ملامِح هذه الملّة، ينبغي أن يُروَى فلا يطوى، ويَظهَر فلا يُغمَر، ويُبانَ فلا يُطمَر، فلهذه الجزيرةِ الغراء ورجالاتِها عبرَ التأريخ الإسهامُ البنّاء في المجالات الدعويّة العالميّة والمناشط الخيريّة الإسلاميّة في كثير من بقاعِ العالم، مع ما يؤمَّل مِن بذل المزيد في ذلك.
ولا غروَ فهذا من صميم ثوابتِها وأهمِّ أهدافها ومنطلقاتِها وأشهر إنجازاتِها ومكتسباتها، في منهجٍ فريد يُعلي رايةَ الحقّ والعدل والخير للإنسانيّة، وينأى بها عن مواطنِ الشرّ والعنف والإرهاب والفوضى، جعله الله خالصًا لوجهه الكريم، وضاعف مثوبتَها، وزادها من الخير والتوفيق بمنِّه وكرمه، وحفظها من كيدِ الكائدين وحقدِ الحاقدين وعدوان المعتدين.
ألا فلتسلَم جزيرتنا الشمّاء، ولتهنأ ربوعُنا الغنّاء، ولتبقَ عبرَ الأعصار درّةَ الأمصار وواحة أمنٍ وأمان ومنطلَق خير وسلام للبشريّة كافّة، ولتدُم ما دامت السموات والأرض حارسةً للعقيدة ذائدةً عن الشريعة ساعية لكلّ خير وصلاح للإسلام والمسلمين، بل والإنسانية جميعًا، وشاهت وجوهُ الخصوم المتربّصين، ورغِمت أنوف الحاقدين الحاسدين.
وإن رغِمت أنوفٌ من أناسٍ فقل: يا ربِّ لا تُرغِم سواها
وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
ألا وصلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على النبيّ المجتبى والرسول المصطفى، خير الورى طُرًّا، وأتقاهم لربّه جهرًا وسرًّا، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلّم وبارك على سيّد الأوّلين والآخرين وخاتم الأنبياء والمرسلين، نبيّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وصحابته الغرّ الميامين....
(1/2771)
من خصائص بلاد الحرمين
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية, محاسن الشريعة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
29/7/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التذكير بنعم الله تعالى. 2- اجتماع الكلمة في بلاد الحرمين. 3- نعمة الإسلام والدعوة إلى الله تعالى. 4- من خصائص بلاد الحرمين. 5- منزلة المرأة في بلاد الحرمين. 6- حال المرأة في بلاد أعداء الإسلام. 7- استنكار أعداء الإسلام للحدود الشرعية. 8- السبيل إلى شكر الجليل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا ربَّكم في السرّ والعلانية، فتقوى الله خيرُ ما عمِلتم، وأفضلُ ما ادَّخرتم.
أيّها المسلمون، اذكروا نعمَ الله عليكم الظاهرة والباطنة، واشكروه عليها يزدْكم منها ويحفظها عليكم، فنعمُ الله عليكم لا تعدّ ولا تحصى، قال الله تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?للَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل:18]. وهل يقدِرُ النّاس أن يعدّوا الأنفاسَ أو حركاتِ طرف العيون؟ إنّهم لا يقدرون، والنعم أكثر من الأنفاس، وأكثر من حركاتِ طرف العيون، وما الأنفاسُ وحركات طرف العيون إلاّ بعض نِعم الله على خلقه.
أيّها النّاس، إنّ الله عزّ وجلّ قد أولاكم مِن فضلِه وكرمِه ونعمِه عامّةً وفي هذه البلاد خاصّة ما لا تقدرون على أن تحصوه، فضلاً عن أن تقدِروا على شكرِه، وخصّكم بخصائص يلزمنا رعايتُها وتقديرها وشكرُ الله سرًّا وعلانية، فممّا خصَّ الله به هذهِ البلادَ أن عافاها من الأحزابِ المتناحِرة والاتّجاهات والأفكار الضّارّة التي ظهَر أثرُ ضررها على البلادِ التي ابتليَت بها، فلا مكانَ للأحزاب المتناحرة في بلادنا؛ لأنّ دينَ المواطنين في هذه المملكة هو الإسلام الحقُّ العظيم الذي يحرّم الحزبيّات والأهواء، قال الله تعالى: وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، وقال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء [الأنعام:159].
والإسلامُ هو الحقّ، والحقّ يجمع ولا يفرق، ويعدِل ولا يظلم، ويصلح ولا يفسد، ويرحم ولا يقسو، وولاءُ المسلم لهذا الحقّ ولمن ينفِّذون الحقّ ويدافِع عن الأرضِ التي يهيمِن عليها هذا الحقّ بكلّ أنواعِ المدافعة، فظهر جليًّا أنّ غايةَ المسلم هي نصرة الإسلام، وأنّه يلزمه أن يعينَ ولاةَ الأمر على تنفيذ الشريعة، ويلزمه أن يدافعَ عن حوزةِ الدّين. وإذا كان هذا محلَّ اتفاق بين المسلمين فلا مكانَ للحزبيّات في بلادنا، ولأنّ الأحزاب متباينةُ الأهواء، والأهواء تضعِف الأمّة وتشغِل بالَ وليّ الأمر عن الأمور المهمّة للرّعية، وأحسنُ أحوال المسلمين إذا كان سلطانُ الدّين قويًّا على نفوس الأمّة، مع كون وليّ الأمر قويًّا في نفوذه، وإذا كان سلطان الدّين ضعيفًا على بعض النّفوس وسلطانُ وليّ الأمر قويًّا نجحَت الأمور أيضًا، وقمِع المفسدون في الأرض. ووليُّ الأمرِ في هذه البلادِ ونوّابُه أقوياءُ النّفوذ بحمدِ الله وبفضلِه، ثمّ بالتّلاحم بين القيادة والمواطنين بما يوجبُه الدين الإسلاميّ من الاجتماع على الحقّ والتعاضُد، ونبذِ الفرقة والاختلاف، ونحنُ على عقيدةِ المهاجرين والأنصار والذين اتّبعوهم بإحسان الذين أثنى الله عليهم بقوله: وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـ?هَدُواْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ ?لْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:74]، وأثنى الله عليهم بقوله: وَ?لسَّـ?بِقُونَ ?لأوَّلُونَ مِنَ ?لْمُهَـ?جِرِينَ وَ?لأنْصَـ?رِ وَ?لَّذِينَ ?تَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ ?للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة:100]، ومن نَدَّ عن ذلك فبحثُه عن الحقّ بتجرّد والحوارُ معه من أسبابِ هدايتِه.
ونحمد الله تعالى أن جعلَنا من المسلمين، لأنّ الإسلامَ أعظم نعم الله على العباد، قال تعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]. والمسلم مع ما هو فيه من الهدى خاشعٌ لله متواضِع مخبِت لربّه، لا يحتقر عباد الله، ولا يتعدّى حدودَ ربّه، حرّم عليه الإسلام الظلمَ والعدوان، حتّى لغير المسلمين، وأمره دينه بالعدل والإحسان والرّحمة والخير للبشرية.
ومِن الخير للإنسان والخيرِ للبشرية دعوةُ الإنسان إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والطريق المشروعِ الذي ينصر الحقَّ ويدحض الباطل، قال الله تعالى: ?دْعُ إِلِى? سَبِيلِ رَبّكَ بِ?لْحِكْمَةِ وَ?لْمَوْعِظَةِ ?لْحَسَنَةِ وَجَـ?دِلْهُم بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِ?لْمُهْتَدِينَ [النحل:125].
والإسلامُ أعزُّ على المسلمِ مِن نفسِه وأهلِه ومالِه وولده، وقد يتجرّدُ المسلم من المال، وقد يخسَر الجاه، وقد يواجه المصاعبَ والمتاعب، ولكنّه سعيد إذا سلِم له دينه.
هذا مصعبُ بن عمير رضي الله عنه أوّل مهاجرٍ إلى المدينةِ النبويّة الطيّبة، بعثه النّبيّ يدعو إلى الإسلامِ ويعلّم القرآنَ، كان شابًّا غنيًّا مترَفًا، فلمّا أسلمَ حرمَته أمّه من المال، فرآه النبيّ وقد حال لونه وتغيّر وعليه لباسٌ ممزّق، ففاضت عيناه لما رأى به من الجَهد والخصاصة [1] ، ولكنّه كان غنيًّا بإيمانه، ولمّا استُشهد في أحدٍ لم يجدوا كفنًا له، وإنّما كفّنوه في نمِرة وفي لباسٍ غطّى رأسَه ثمّ غطّوا بقيّة جسمِه بالإذخر [2] ، وكان أيضًا الكثير من المهاجرين بهذه الحال رضي الله تعالى عنهم.
ومِن خصائصِ هذه البِلاد بيتُ الله الحرَام، قِبلةُ المسلمين ومَهوى أفئدتهم الذي جعله الله سببًا لانتظام مصالحِ النّاس، قال تعالى: جَعَلَ ?للَّهُ ?لْكَعْبَةَ ?لْبَيْتَ ?لْحَرَامَ قِيَامًا لّلنَّاسِ [المائدة:97]، قال المفسِّرون: البيتُ الحرام مدارٌ لمعاشهِم ودينهم، فيقومون فيه بما يصلح دينهم ودنياهم، يأمنُ فيه خائفهم، وينصَر فيه ضعيفهم، ويربَح فيه تجّارهم، ويتعبّد فيه متعبِّدهم.
ومِن خصائصِ هذه البلاد مسجدُ رسول الله ، آخر مساجدِ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والذي جعل الله الصلاةَ فيه أفضلَ من ألفِ صلاة فيما سواه إلاّ المسجدَ الحرام. وفي تربةِ المدينة الطيّبة مثوى رسول الله ولا يعرَف قبرُ نبي غيره.
ومن خصائص هذه البلاد المحاكمُ الشرعيّة التي تحكم بالشّرع في الأموال والدماء والحدود والمنازعات والقضايا، ويستوي أمامَ هذه المحاكم الملِك فمَن دونه.
وممّا مَنَّ الله به على هذه البلاد الأمنُ المستتبّ الذي يأمَن الناس فيه على دمائِهم وأموالِهم ومصالحهم الدينيّة والدنيويّة، والذي صارت فيه مضربَ المثل في العالم، وفاقت هذه البلادُ في الأمن غيرَها ولله الحمد، وما وَقع في الآونةِ الأخيرة من تخريبٍ وإرهاب مردُّه إلى أفكار ضارّةٍ وافدة، قوبِلت بشدّةِ حزم، وحُوصرت وحُوربت أشدَّ المحاربة من ولاة الأمرِ والعلماء، وحاربَت هذه الأفكارَ التكفيريّة مناهجُ التعليم لدينا منذ وضِعت. ومناهج التعليم لدينا لا تخرِّج إلا رجالاً أسوياء، يخدمون دينَهم ووطنَهم، ويحبّون الخيرَ للبشريّة، ولكن لكلّ قاعدةٍ شذوذ، وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? [الأنعام:164]، ولن يتأثَّر أمنُ هذه البلاد بتخريب هذه الفِئة المنحرِفة، فما هي إلا فقّاعة لا تلبث أن ينفتِق.
وممّا منّ الله به على هذه البلاد الاستقرارُ السياسيّ الذي تستقرّ معَه الأوضاع، وتزدهِر معه الحياة، ويتّسع العمران، وينتشِر معه العلم، وتعمّ النهضَة، ويزداد النموّ السكانيّ، وتوظَّفُ الأموال في مصالحِ الناس، ويعزّ الدين، وتنطفئ الفتن، إلى غير ذلك من المصالح.
وممّا منّ الله به على هذه البلاد أنّ حقوقَ الإنسان مكفولةٌ في ظلّ الشريعة الإسلاميّة، وأعداءُ هذه البلاد يتكلّمون في قصورٍ في حقوق المرأة في بلادنا، ويعتَرضون على إقامة الحدود الشرعيّة، بزعم أنّها تنافي حقوقَ الإنسان، ساء قولاً هذا القول، وساء قصدًا.
المرأةُ في هذه البلاد ـ أمًّا كانت أو بنتًا أو أختا أو عمّة أو خالة أو بنتَ أخ أو بنتَ أخت أو زوجة ـ تنال حقّها الواجبَ مِن كلّ ذي قرابةٍ لها، يؤدّيه واجبًا إسلاميًّا طائعًا مختارًا منشرحًا، والزوجُ يقوم بحقوق زوجته، لا يُحوِجُها إلى غيرِه، وتنال المرأة حقوقَ المواطنةِ في هذه الدولة، وتتهيّأ لها الحياةُ الكريمة، وأمامَها مِن الوظائف ما يتلاءم وفطرتَها واستعدادَهَا، بما لا يتعارَض مع الدّين والخُلُق. وما تقوم به المرأة من مهمَّاتٍ في بيتها ومجتمعها بتربيةِ الأجيال لا يقوم به خدَمٌ ولا غيرُهم. ووضع المرأة في بلادنا أحسنُ منه في بلادٍ أخرى، وما يقال في هضمِ حقوق المرأة يقصد منه أعداءُ هذه البلاد خروجَ المرأة من قيَم دينها وخروجها من أخلاقِها الإسلاميّة، وأن تكونَ مبتذلةً في أيّ مجال سلعةً رخيصة للعابثين. والمرأةُ في مجتمعِنا كلّما كبر سنّها وضعُف جِسمها ازدادت تقديرًا واحتِرامًا ورحمَة.
والذين ينادون بحقوقِ المرأة أليستِ المرأة عندهم ممتهَنةَ الكرامة؟! أليست تعطِي مِن شرفها وعِرضها أكثرَ ممّا تأخذ؟! ألم يطردوها مِن البيتِ إذا بلغت سنَّ الزواج؟! ألم يدَعوها لقسوة الحياة وذئاب البشر؟! فتلجأ إلى اقتناء الكلابِ ونحوِها، تعوِّض بذلك ما فقدته من وَفاء البشر، وإذا عجزت عن أن تقدِّم عطاءً زَجّوا بها في دورِ العجزة، فهي موجودة مفقودة، حيّةٌ كميّتة، أهذه حقوق المرأة؟! أهذه حقوق المرأة؟! من كان بيتُه مِن زجاج فلا يرمِ الناسَ بالحجارة.
وأمّا مَا يستنكِرون من الحُدود التي تقام في المملكة كقطع يد السّارق فإنّ إقامةَ الحدود بأمر الله تعالى، قال الله تعالى: وَ?لسَّارِقُ وَ?لسَّارِقَةُ فَ?قْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَـ?لاً مّنَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، والذي شرَع ذلك ربُّ العالمين أرحمُ الراحمين وأحكم الحاكمين، وفي الحديث عن النبيّ : ((إقامة حدٍّ من حدود الله خيرٌ لهم مِن أن يمطَروا أربعين صباحًا)) [3].
والذين يتباكَون على المجرمين العُتاة المفسِدين ألا يحزَنون على الأبرياءِ الذين أُزهِقت نفوسهم أو سلِبت أموالهم. إنّ إقامةَ حدّ واحد يحمي ويحصِّن الملايينَ من النّاس مِن عبَث المفسدين، وإنّ الحكم بما أنزل الله هو إصلاحُ للأرض، وليس هضمًا لحقوق الإنسان، قال الله تعالى: وَأَنِ ?حْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَ?حْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ ?للَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَ?عْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ?للَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مّنَ ?لنَّاسِ لَفَـ?سِقُونَ أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْمًا لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:49، 50].
أيّها الناس، إنّ نعمَ الله عليكم وعلينا عظيمةٌ وآلاؤُه جسيمة، وإنّها توجب الشكرَ لله تعالى، وشكرُ الله تعالى هو بتقواه والاستقامةِ على دينه، قال الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]. وشكرُ الله على هذه النعم أن نكونَ في يومِنا أحسنَ ممّا في أمسِنا، وأن نكونَ في غدِنا أحسنَ ممّا في يومنا؛ لأنّ الله أمر بالتّقوى في أوّل سورة في القرآن، وأمر بالتّقوى في آخر آيةٍ نزلت من القرآن، وهي قوله تعالى: وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، وأكّد على التّقوى في آياتٍ كثيرة في المدّة التي بين ذلك؛ ليلتزمَ المسلم بالتقوى في كلّ أحواله، وليكونَ دائمًا صاعدًا في درجات التقوى إلى آخر نفسٍ من حياته، ليفوزَ بخَيرَي الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، تِلْكَ ?لْجَنَّةُ ?لَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].
ودينُنا الإسلاميّ يوجب علينا أن نكونَ مع ولاة أمرِنا يدًا واحدة وصفًّا موحّدًا أمام ما يمكِن أن يستجدَّ من تحدّيات تستهدف الإسلامَ وتعاليمَه، أو تستهدف ثوابتَ مجتمعنا، بل إنّ لهذه البلاد حقًّا على كلّ مسلم في الأرض كلّها لما خصّها الله به من الخصائص المعلومة الفاضلة.
بسم الله الرحمن الرحيم: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ [المائدة:2]، وقال تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَ?خْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ?لْبَيّنَـ?تُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين بقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2476) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال: "هذا حديث حسن غريب"، والراوي عن علي رجل مبهم، وقد أورده الألباني في ضعيف سنن الترمذي (440).
[2] أخرجه البخاري في المناقب (3897، 3914)، ومسلم في الجنائز (940) عن خباب بن الأرت رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (2/362، 402)، والنسائي في قطع السارق (4904)، وابن ماجه في الحدود (2538) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه، وصححه ابن الجارود (801)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (231).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الجلالِ والإكرام، ذي العزّة التي لا تضام والملكِ الذي لا يرَام، أحمد ربّي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك القدوس السلام، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الشاكر للإنعام، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبه الكرام.
أمّا بعد: فاتّقوا ربَّكم، واخشوا يومًا ترجَعون فيه إلى الله، ثمّ توَفّى كلّ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
عبادَ الله، إنّ العبدَ مهما عمِل مِن الطاعات مبتعِدًا عن المحرّمات لا يقدِر أن يؤدّي شكرَ نِعم الله عليه، ولكن حسبُ العبدِ معرفة نِعم الله عليه وشعورُه بالتقصير في الشكر وأن يسدِّد ويقاربَ في طاعة ربِّه مع الإخلاصِ واتّباع السنة.
والشكرُ يكون بالتحدُّث بنِعَم الله، قال الله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ [الضحى:11]، ويكون الشكر أيضًا بمحبّة المنعِم تبارك وتعالى، ويكون الشّكر أيضًا بالفِعل والعمَل، وهو زيادةُ الطاعات، وصرفُ النّعَم فيما يرضي اللهَ تعالى، قال عزّ وجلّ: ?عْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ?لشَّكُورُ [سبأ:13]، ويقول لعائشة رضي الله عنها وقد قالت: يا رسول الله، تقوم من الليل حتّى تتفطّر قدماك وقد غفر الله لك ما تقدّم مِن ذنبِك وما تأخّر! فقال: ((يا عائشة، أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!)) [1].
عبادَ الله، حاسِبوا أنفسَكم قبلَ سكنى القبور، وقدِّموا من طاعة ربّكم ما ينجيكم من عذابٍ أليم، فإنّ ما توعَدون لآتٍ، وَمَا أَمْرُ ?لسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ?لْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل:77].
وصلّوا وسلّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين، فقد أمركم الله بالصلاة والسّلام عليه في قوله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرا)).
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وسلّم تسليمًا كثيرًا. اللهمّ وارضَ عن الصحابة أجمعين...
[1] أخرجه البخاري في التفسير (4837)، ومسلم في صفة القيامة (2820) عن عائشة رضي الله عنها.
(1/2772)
التحذير من المسابقات التجاريّة
فقه
البيوع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
29/7/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إباحة البيع. 2- حرص المؤمن على المكاسب الطيبة. 3- النهي عن الغرر. 4- صور من بيوع الجاهلية. 5- تساهل الناس في الميسر في هذا الزمان. 6- من صور الميسر بعض المسابقات التجارية. 7- تحريم الغشّ.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، البيعُ أحدُ طرق الاكتساب، ولذا أباحه الله لتعلُّق مصالح العبادِ به، وَأَحَلَّ ?للَّهُ ?لْبَيْعَ وَحَرَّمَ ?لرّبَو?اْ [البقرة:275]. وجعل البيعَ المبرور مِن خير المكاسب، سئل النبي : أيُّ الكسب أفضل؟ قال: ((عملُ الرجل بيده، وكلّ بيع مبرور)) [1]. قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَو?ةِ مِن يَوْمِ ?لْجُمُعَةِ فَ?سْعَوْاْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ وَذَرُواْ ?لْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ ?لصَّلَو?ةُ فَ?نتَشِرُواْ فِى ?لأَرْضِ وَ?بْتَغُواْ مِن فَضْلِ ?للَّهِ [الجمعة:9، 10]، وجعل الضَّاربين في الأرض للتّجارة مثلَ الضّاربين في سبيل الله: وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى ?لأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ?للَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ [المزمل:20].
أيّها المسلم، وهذا البيعُ الذي أباحه الله والذي تتعلَّق به مصالح الناس هو البيعُ الذي يحصُل به تبادلُ المنافع من غير ضررٍ يلحَق بأحد المبايعَين، ولذا حذَّرنا الله من أن يأكلَ بعضنا مالَ بعض: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُمْ بِ?لْبَـ?طِلِ [النساء:29].
أيّها المسلم، بعث الله محمّدًا وللنّاس بيوعاتٌ فيما بينهم، عقودٌ فيما بينهم، في أخذِهم وعطائهم، فأقرَّ منها ما كان عدلاً نافعًا، وألغى منها ما كان ظلمًا ضارًّا، فبيوعات الجاهليّة المشتمِلة على العدلِ والخير أقرَّها الإسلام وأبقاها وهذَّبها، وعقودهم المشتملةُ على الضّرر والغرر والظلمِ ألغاها الإسلام وأبطلها وأقام على أنقاضها عقودًا خالية مِن كلّ ضرر وأذًى. ذلكم أنّ شريعةَ الإسلام شريعةُ الخير والرحمة، جاءت بما يُسعِد البشرية في حياتها وآخرتها، جاءت بما يحقِّق لها المنفعةَ الدائمةَ، ويبعِد عنها الظلمَ والعدوان.
أيّها المسلم، إنّ المؤمنَ حقًّا في بيوعاتِه يحاول موافقةَ الشرع لتكونَ المكاسبُ مكاسبَ طيّبة، ولتكون التجارة تجارةً نافعة، يسعَد بها في دنياه وآخرته. أمَّا البيوع الباطلة والمكاسب الخبيثة فالمسلم يترفّع عنها طاعةً لربّه وبُعدًا عن كلّ ما يضرّه في دينه ودنياه.
أيّها المسلم، جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله عن بيع الحَصاة وعن بيع الغرر [2].
أخبرنا أبو هريرة أنّ نبيّنا نهانا عن بيع الغرر، نهانا عن البيع المشتمِل على الغرر، وهذا الغرر المنهيّ عنه سواء في جانب البائع أو جانب المشتري، فكلٌّ منهما منهيّ عن بيع الغرَر حتّى ولو رضي أحدٌ بذلك، فالغرر الضارّ لا يُقرُّ في الإسلام، وليس تراضي المتبايعَين بمبيحٍ لهما ما حرَّم الله عليهما.
الغررُ الذي نهى عنه يعود إلى جهلِ البائع أحيانًا بعَين ما باع، أو جهلِ المشتري بعَين ما اشترى، ويعود تارةً أخرى إلى آجالٍ مجهولة لا يُعلَم انتهاؤها، وكلّ ذلك أمرٌ محرّم.
وقد جاء في السنّة النّهيُ عن بيوعٍ تشتمل على الخِداع والغرَر؛ لأنّ في هذا غشًّا وإن رضيَ به أحدهما أو رضيا به جميعًا، فليس الرّضا بمبيح لهما ارتكابَ ما حرّم الله عليهما.
أيّها المسلم، لهذا شرط العلماءُ في البَيع علمَ المشتري بحقيقةِ ما اشتراه، وعلمَ البائع بحقيقة الثّمن، وعلمَهما بقدر الأجل المضروبِ لهما، كلُّ ذلك حمايةً من أن يأكلَ النّاس بعضهم مالَ بعض ظلمًا وعدوانًا.
لقد كانوا في الجاهليّة يتبايَعون بيوعًا فيها خِداع، الغنيمةُ لأحدهما والغُرم على الآخر، عقودُ بيع يكون أحدُ المتبايعَين غانمًا، ويكون أحدهما غارمًا؛ لأنّها مبنيّة على المغامرة والجهالةِ وعدم العلم، فجاء الإسلام فألغى ذلك كلَّه.
قدِم النبيّ المدينةَ وهم يُسلِمون في ثمارِهم السّنةَ والسّنتين مِن غير علمٍ بحقيقة البيع، فقال: ((من أسلمَ فليسلِم في كَيل معلوم ووزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم)) [3] ، فحذّرهم مِن أن يشتروا الثمارَ إلى آجالٍ غير معلومة، بمعنى أن يكونَ المشترَى لا يُعلَم قدرُه، فقال: ((من أسلمَ فليسلِم في كيلٍ معلوم ووزن معلومٍ إلى أجل معلوم)).
كانوا في الجاهليّة إذا أرادوا البيعَ أحيانًا جعلوا مجرَّد لمسِ العَين المبيعة موجِبًا للبيع وإن لم يعلَم المشتري بحقيقةِ ما لمس؛ الذي لمسَه هل هو يساوي تلك القيمةَ أو لا يساويها؟ وقد يجهَل البائع ذلك، فجاء الإسلام ليقول: نهى رسول الله عن بيع الملامسة والمنابذة [4] ، كانوا ينبذون الثوبَ، ويقول: ما طرحتُه عليك فبكذا، وذا يقول: قبلتُ، وهما لا يعلمان حقيقةَ الأمر، وقد يعلم أحدُهما ويجهله الآخر.
كانوا في جاهليّتهم يجعلون للبيع آجالاً مجهولة، وربّما باعوا ما تنتجُه الناقة أو ما ينتِجه إنتاجُها، ويجعلون ذلك غايةً في الأجل، فنُهوا عن ذلك، أو يبيعون إنتاجَ الإنتاج، وكلُّ ذلك نُهُوا عنه لِما فيه من الضّرر.
كانوا يبيعون الثمارَ قبل بُدوِّ صلاحها والحبوبَ قبل اشتدادِها، فنُهُوا عن ذلك مخافةَ الخداع والغرَر، كلُّ هذا حمايةً لمكاسب المسلمين من أن يأكلَ بعضهم مالَ بعض، ويظلم بعضُهم بعضًا.
أيّها المسلم، وللأسف الشّديد أنّ البعضَ من المسلمين تساهلوا في هذا الأمر، وتساهلوا في هذا الباب، فهنا بيعُ الميسر الذي قال الله فيه: إِنَّمَا ?لْخَمْرُ وَ?لْمَيْسِرُ وَ?لأنصَابُ وَ?لأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ ?لشَّيْطَـ?نِ فَ?جْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]. بيوع الميسر بيوعٌ محرّمة، بيوع يحكمها الحظّ، بيوع تنبني على الحَظّ سواء من أحدِ الطرفين [أو من كليهما]، بيوعٌ فيها مغامراتٌ ودخول على أشياء ربّما فاز هذا أو خسر، وهذا أمر لا يقرُّه الشرع؛ لأنّ الشرعَ يريد من المسلم العملَ والجدَّ، ولا يريد الاتّكالية على هذه المغامرات والمغالطات.
أيّها المسلم، تسمَع دائمًا أو تقرأ في الصّحف كثيرًا ما تُعلنه بعضُ الجهات بعضُ الشركات والمؤسّسات عن بيعٍ أو نحو ذلك، وهذا الإعلان لهذه الشركة يصحَبه بطاقة يشتريها الإنسانُ بمبلغٍ من المال، يسجِّل اسمَه، ثمّ تُسحَب الأسماء فمَن وافقَ حظّه ذلك فاز بهذه الجائزة، قد يدفع مثلاً مائةَ ريال ثمّ تأتيه جائزته بمليون ريال أو أكثر أو أقل، لماذا؟ لأنّه ظهر اسمه في هذا السَّحب، ففاز بهذه الجائزة التي يُرَى أنّه فاز بها. نعم، فاز بها ولكن على حسابِ مَن؟ على حسابِ أمّةٍ تقدّمت لهذه المسابقة، وربح أولئك الأموال الطائلة، فإن أنفقوا مليونَ ريال على واحدٍ فقد فازوا بمئاتِ الملايين، أخذوها من النّاس بلا مقابل، وأخذوها ظلمًا وعدوانًا.
هذا الميسرُ حرَّمه الشرع لما فيه من الظّلم، ولما فيه من الكسَل والخمول، ولما فيه من الاتّكالية الزائدة، ولما فيه من إضعاف الهِمم في النفوس.
أيّها المسلم، إنّ هذا الغررَ في الميسر في هذه المسابقات التجاريّة وغيرها كلّها يقصَد من خلالها ابتزازُ أموال النّاس، يحوكها عقلاءُ تجاريّون، همُّهم الطمع المادّي، فيجعلون تلك المسابقاتِ ليفوزوا بها وينالوا بها مصالحَهم، وعلى حسابِ الآخرين. كلُّ هذا في شرعِنا غيرُ جائز؛ لأنّنا مأمورون بالعدل والإنصاف، ونُهينا عن كلِّ ظلمٍ وجهالة وخِداع وغرَر، وأمِرنا بالعدل والإيضاح، ونُهينا عن الغشّ والتّدليس.
إنّ المسلم لا يظلم أحدًا ولا يرضى الظلمَ حتّى على نفسه، النبيّ لمّا نهى المسلمين عن بيع الثّمار قبلَ بدوِّ صلاحها نهى البائعَ والمشتري جميعًا، وقال: ((أرأيتَ لو منعَ الله الثمرةَ بِم تستحلُّ مالَ أخيك؟!)) [5] ، لو قال: أنا مقدِم وراضٍ، قيل له: لا يجوز، بمَ تستحلّ مال أخيك؟!
هكذا الشرعُ يحمينا حمايةً قويّة من أن نتهالك وأن يأكلَ بعضنا مالَ بعض، ونرضى بهذه المسابقاتِ وأمثالها، ونجعلها مصادرَ اكتساب، ونخضع لتلك المؤسّسات الجائرة وتلك الإعلاناتِ الكاذبة التي يُقصَد من خلالها أكلُ أموال النّاس ظلمًا وعدوانًا، فنبيّنا نهانا عن هذه الأمور كلِّها، وأمرنا أن تكونَ مكاسبنا مكاسبَ ناتجة عن تبادُلِ النافع، ينفع بعضنا بعضًا، ولا يضرّ بعضنا بعضًا.
أسأل الله للجميع التوفيقَ والعون على كلّ خير، وأن يجنّب مكاسبَنا كلّ خبيث، ويجعلنا ممّن اكتفى بما أباح الله له عمّا حرم الله عليه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الحشر:7].
[1] مدار هذا الحديث على وائل بن داود واختلف عليه فيه: فأخرجه أحمد (3/466)، والطبراني في الكبير (22/197)، والحاكم (2158)، والبيهقي في الكبرى (5/236) وفي الشعب (1226) عن شريك عن وائل عن جميع بن عمير عن خاله أبي بردة، قال البيهقي: "هكذا رواه شريك بن عبد الله القاضي وغلط فيه في موضعين، أحدهما: في قوله: جميع بن عمير وإنما هو سعيد بن عمير، والآخر: في وصله وإنما رواه غيره عن وائل مرسلا". وأخرجه أحمد (4/141)، والبزار (3731)، والطبراني في الكبير (4/276)، والحاكم (2160)، والبيهقي في الشعب (1229) عن المسعودي عن وائل عن عباية عن رافع بن خديج، ونقل البيهقي عن الإمام أحمد قوله: "رواه المسعودي عن وائل فغلط في إسناده". وأخرجه البزار (3798) عن شريك عن وائل عن جميع بن عمير عن عمه البراء، والمحفوظ عن شريك ما تقدم. وأخرجه البيهقي في الشعب (1226) وفي الكبرى (5/263) عن الثوري عن وائل عن سعيد بن عمير عن عمه البراء، وصححه الحاكم (2159)، لكن المحفوظ عن الثوري الإرسال كما سيأتي. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (4/554) عن أبي معاوية، والبيهقي في الشعب (1225) عن الثوري كلاهما عن سعيد بن عمير مرسلا، قال البيهقي في الكبرى (5/263): "هذا هو المحفوظ مرسلا"، ونقل في الشعب عن البخاري قوله: "أسنده بعضهم وهو خطأ"، وقال أبو حاتم كما في العلل لابنه (2/443): "المرسل أشبه". وللحديث شاهد عن ابن عمر، أخرجه الطبراني في الأوسط (2140)، قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/391): "هذا حديث باطل، وقدامة ليس بقوي"، وقال المنذري في الترغيب (2/334): "رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات"، وقال الحافظ في التلخيص (3/3): "رجاله لا بأس بهم". وفي الباب أيضا عن علي، أخرجه ابن عدي في الكامل (2/65)، قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/390): "هذا الحديث بهذا الإسناد باطل، بهلول ذاهب الحديث".
[2] أخرجه مسلم في البيوع (1513).
[3] أخرجه البخاري في السلم (2241)، ومسلم في المساقاة (1604) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
[4] أخرجه البخاري في البيوع (2146، 2147)، ومسلم في البيوع (1511، 1512) من حديث أبي هريرة ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.
[5] أخرجه البخاري في البيوع (2208)، ومسلم في المساقاة (1555) من حديث أنس رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، كلّما صدق المسلمُ في تعامله وكلّما وضح في تعامله كان ذلك عنوانَ إيمانه وإخلاصه، وكلَّما غشّ وخان كان ذلك عنوانَ نقصِ إيمانِه، فنبيّكم يقول: ((من غشّنا فليس منّا)) [1].
إنّ الغشّ جريمة نكراء، لا تليق بمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر، فإنّ المؤمن يحذَر من الغشّ بكلّ صوَره وكلِّ معانيه.
يغشّ فيخفي العيوبَ ويكتمها، يغشّ فيضع شعارًا على السِّلع غير الشّعار الحقيقيّ لها، يغشّ فيدلّس ويخفي العيوبَ ويكتُمها ولا يصدُق في القول، يغشّ فيخبِر عن سلعِه بأشياء والواقع أنّ ما أخبر به ليس بصحيح.
فعليك ـ أيّها المسلم ـ أن تتَّقي الله في معاملتِك، وإيّاك واستعمالَ الأيمان الكاذبة لتروِّج بها سلعَك الكاسِدة، فإنّ هذا كبيرة من كبائر الذّنوب، وقال في الثلاثة الذين لا يكلِّمهم الله يومَ القيامة ولا يزكِّيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: ((رجلٌ جعل الله بضاعتَه؛ لا يبيع إلاّ بيمينه ولا يشتري إلا بيمينه)) [2] ، وقال: ((الحلفُ منفقةٌ للسّلعة ممحقةٌ للكسب)) [3].
فلنتّق الله في تعاملنا في بيعنا وشرائنا، ولنصدق ولنراقبِ الله قبل كلّ شيء، أسأل الله للجميع العونَ على كلّ خير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (102) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه الطبراني في الكبير (6/246) من حديث سلمان رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب (2/574): "ورواته محتج بهم في الصحيح"، وقال الهيثمي في المجمع (4/78): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1788).
[3] أخرجه البخاري في البيوع (2087)، ومسلم في المساقاة (1606) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
(1/2773)
التوكّل على الله
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
10/6/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة المرء إلى ربّه. 2- فضل التوكّل وعِظمه. 3- الرسل أئمة المتوكّلين. 4- الرزق وعلاقته بالتوكّل. 5- قواعد في التوكّل. 6- نماذج من توكّل الأنبياء عليهم السلام. 7- واجب المسلم نحو المصائب والفتن. 8- أصناف النّاس في التوكّل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التّقوى، فمن اتّقى ربَّه علا، ومن أعرضَ عنه فإنّ له معيشةً ضنكا.
أيّها المسلمون، أسعدُ الخلق أعظمُهم عبوديةً لله, وكلَّما كان العبدُ أذلّ لله وأعظمَ افتقارًا إليه كان أقربَ إليه وأعظمَ قدرًا عندَه وعندَ خلقِه، والعبدُ عاجزٌ عن الاستقلال بجلبِ مصالحه ودفع مضارّه، محتاجٌ إلى الاستعانة بخالقِه، والله سبحانه هو الصّمد الغنيّ عمّا سواه, وكلّ ما سواه فقيرٌ إليه.
وذنوبُ العباد كثيرة، ولا نجاةَ لهم منها إلاّ بمعونة الله وعفوِه، وكثيرٌ من الكبائر القلبيّة مِن الرّياء والكبر والحسَد وترك التوكّل قد يقع فيها المرءُ وهو لا يشعر بها، وقد يتورّع عن بعض الصّغائر الظاهرة وهو في غفلةٍ عن هذه العظائم.
والأسبابُ المجرّدة تخذل المرءَ عن تحقيقِ مُناه، وقد يطرُق بابًا يظنّ أنّ فيه نفعَه فإذا هو ضررٌ محض، ولا ينجي من ذلك إلاّ التوكّل على العزيز الرحيم؛ لذا عظّم الله من شأن التوكّل وجعله منزلةً من منازل الدين, وقرنَه بالعبادة في قوله: فَ?عْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123]، وجعله سببًا لنيل محبّته إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُتَوَكّلِينَ [آل عمران:159]، وجعله شرطًا لحصول الإيمان به وَعَلَى ?للَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة:29].
مقامٌ جليلُ القدر عظيم الأثر، فريضةٌ من ربّ العالمين، به رضا الرحمن, وفيه منَعَة مِن الشّيطان، منزلتُه أوسع المنازلِ وأجمعُها، أقوى السّبل عند الله وأحبُّها، أمر الله به رسولَه عليه الصلاة والسلام في قولِه: وَتَوَكَّلْ عَلَى? ?للَّهِ وَكَفَى? بِ?للَّهِ وَكِيلاً [الأحزاب:3].
والرّسُل هم أئمّة المتوكّلين وقدوتُهم، قال تعالى عن نوحٍ عليه السلام أنّه قال لقومه: إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ ?للَّهِ فَعَلَى ?للَّهِ تَوَكَّلْتُ [يونس:71]، وقال الخليل عليه السّلام: رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ ?لْمَصِيرُ [الممتحنة:4]، وقال هودٌ عليه السّلام: إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى ?للَّهِ رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [هود:56]، وقال يعقوب عليه السّلام: إِنِ ?لْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُتَوَكّلُونَ [يوسف:67]، وقال شعيبٌ عليه السّلام: وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِ?للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88]، وقال رسُل الله لأقوامِهم: وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ?للَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا [إبراهيم:12]، وقال مؤمنُ آل فرعون: وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ بَصِيرٌ بِ?لْعِبَادِ [غافر:44].
وفي مطلعِ النبوّة والتنزيل أمرٌ بالتوكّل وأنه يفتح المغلَق ?قْرَأْ وَرَبُّكَ ?لأَكْرَمُ [العلق:3]، وجعله الله صفةً لأهل الإيمان يتميّزون به عمّن سواهم إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـ?نًا وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
والشّيطان لا سلطانَ له على عبادِ الله المتوكّلين, قال عزّ وجلّ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى? ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:99].
والتوكّل مانعٌ من عذابِ الله كما قال سبحانه: قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ ?للَّهُ وَمَن مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ ?لْكَـ?فِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ قُلْ هُوَ ?لرَّحْمَـ?نُ ءامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [الملك:28، 29]، وموجبٌ لدخولِ الجنّات كما قال سبحانه: وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ ?لْجَنَّةِ غُرَفًَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ ?لْعَـ?مِلِينَ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [العنكبوت:58، 59]. بل المتوكّلون حقًّا يدخلون جنّة ربّهم بغير حساب, كما وصفهم نبيّهم بذلك في قوله: ((هم الذين لا يستَرقون ولا يكتَوون ولا يتطيّرون وعلى ربّهم يتوكّلون)) متفق عليه [1].
وأوصى النبيّ ابنَ عبّاس بالتوكّل وهو غلام صغيرٌ لتأصيل العقيدةِ في نفسه في بكور حياته فقال له: ((يا غلام، احفَظ الله يحفظْك، احفظِ الله تجدْه تجاهَك، إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله)) رواه الترمذي [2].
قال ابن القيم: "التوكّل أصل لجميع مقاماتِ الإيمان والإحسان ولجميع أعمالِ الإسلام، وإنّ منزلتَه منها منزلةُ الجسدِ من الرأس" [3].
في التوكّل راحةُ البال, واستقرارٌ في الحال، ودفعُ كيدِ الأشرار، ومن أقوى الأسبابِ التي يدفع بها العبدُ ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمِهم, وبه قطعُ الطمع عمّا في أيدي الناس. سئِل الإمام أحمد عن التوكّل فقال: "هو قطعُ الاستشراف باليأس من النّاس" [4].
والتوكّل على غير الله ظلم وامتِهانٌ للنّفس، وسؤالُ المخلوق للمخلوق سؤالٌ من الفقير للفقير، قال النبي : ((واعلَم أنّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمَعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)) رواه الترمذي [5].
ومتى التفتَ القلبُ إلى غير الله وكَلَه الله إلى من التفتَ إليه، وصارَ ذليلاً مخذولاً، قال : ((من تعلّق شيئًا وُكل إليه)) رواه الترمذي [6] ، قال شيخ الإسلام: "ما رَجا أحدٌ مخلوقًا أو توكّل عليه إلا خاب ظنّه فيه" [7].
وكلُّ من أحبَّ شيئًا لغير الله فلا بدّ أن يضرّه, وهذا معلومٌ بالاعتبار والاستقراء. ولا يحملنّك عدمُ رجاء المخلوق على جفوةِ الناس وترك الإحسانِ إليهم واحتمالِ الأذى منهم, بل أحسِن إليهم لله لا لرجائِهم, وكما أنّك لا تخافهم فلا ترجُهم، وارجُ اللهَ في الناس, ولا ترجُ النّاسَ في الله.
أيّها المسلمون، الأرزاقُ بيدِ الخلاّق، فما كان لك منها أتاك على ضعفِك، وما كان لغيرِك لم تنلْه بقوّتك، ورزقُ الله لا يسوقه إليك حرصُ حريص، ولا يردّه عنك كراهيةُ كاره، والرزقُ مقسومٌ لكلّ أحد من برٍّ وفاجر ومؤمنٍ وكافر، قال عزّ وجلّ: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ?لأرْضِ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]. والرزق يساق إلى الدواب مع ضعف كثيرٍ منها وعجزها عن السّعي في طلب الرزق، قال جل وعلا: وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ?للَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60]، وقد ييسِّره الله لك بكسبٍ وبغير كسب.
والنّاس يؤتَون من قلّة تحقيقِ التوكّل, ومن وقوفِهم مَع الأسباب الظّاهرة بقلوبهم ومساكنتهم لها، ولو حقّقوا التوكّلَ على الله بقلوبهم لساق الله إليهم أرزاقَهم مع أدنى سبب, كما يسوق للطير أرزاقها بمجرّد الغدوّ والرّواح، وهو نوعٌ من الطلب والسّعي لكنّه سعيٌ يسير، قال عليه الصلاة والسلام: ((لو أنّكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله لرزقكم كما يرزق الطيرَ تغدو خِماصًا وتروح بطانًا)) رواه أحمد [8].
فلا تضيِّع زمانَك بهمِّك بما ضُمِن لك من الرّزق، فما دامَ الأجلُ باقيًا كان الرزقُ آتيًا، قال حاتم الأصمّ: "لمّا علمتُ أنّ رزقي لن يأكلَه غيري اطمأنّ قلبي" [9].
أيّها المسلمون، وقّت الله للأمور أقدارَها وهيّأ إلى الغايات أسبابَها، وأمورُ الدنيا وزينتُها قد يدرِك منها المتوانِي ما يفوت المثابر، ويصيبُ منها العاجزُ ما يخطئ الحازم.
والالتفاتُ للأسباب نقصٌ في التّوحيد, ومحوُ الأسبابِ أن تكونَ أسباب نقصٌ في العقيدة، والإعراضُ عن الأسباب التي أمِر بها قدحٌ في الشرع، وعلى العبدِ أن يكونَ قلبه معتمِدًا على الله لا على الأسباب.
ونبينا محمّد أكملُ المتوكّلين، ولم يخلَّ بالأسباب؛ فقد ظاهرَ بين دِرعين يومَ أحد [10] ، واستأجَر دليلاً يدلّه على طريق الهِجرة [11] ، وحفَر الخندقَ غزوةَ الأحزاب [12].
وحقيقةُ التوكّل القيام بالأسباب والاعتمادُ بالقلب على المسبِّب, واعتقادُ أنّها بيده، فإن شاء منَع اقتضاءَها, وإن شاء جعلها مقتضيةً لضدّ أحكامِها, وإن شاء أقام لها موانعَ وصوارفَ تعارِض اقتضاءَها وتدفعه.
والموحّد المتوكّل لا يطمئنّ إلى الأسباب ولا يرجوها، كما أنّه لا يهمِلها أو يبطلها، بل يكون قائمًا بها ناظِرًا إلى مسبِّبها سبحانه ومجرِيها. وإذا قويَ التوكّل وعظم الرجاء أذِن الله بالفرج، ترك الخليلُ زوجتَه هاجرَ وابنَها إسماعيل صغيرًا رضيعًا بوادٍ لا حسيسَ فيه ولا أنيسَ ولا زرعَ حوله ولا ضرع توكّلاً على الله وامتثالاً لأمره، فأحاطهما الله بعنايتِه، فإذا الصّغيرُ يكون نبيًّا وصفَه الله بالحِلم والصّبر وصدقِ الوَعد والمحافظةِ على الصلاة والأمرِ بها، والماءُ المبارك زمزَم ثمرةٌ من ثمار توكّل الخليل عليه السلام.
ولمّا عظم البلاءُ ببني إسرائيل وتبِعهم فرعونُ بجنوده وأحاطوا بهم وكان البحر أمامَهم قَالَ أَصْحَـ?بُ مُوسَى? إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61], قال نبيّ الله موسى الواثق بنصر الله: كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:62], فأمره الله بضربِ البحر فصار طريقًا يبَسًا, كُلُّ فِرْقٍ كَ?لطَّوْدِ ?لْعَظِيمِ [ٍالشعراء:63].
ويونسُ التقمَة حوتٌ في لجَج البحر وظلمائه، فلجأ إلى مولاه وألقى حاجته إليه: لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:87]، فنُبذ وهو سقيم في العراء، ومضى مجرَّدًا في الخلاء.
وأمّ موسى ألقَت ولدَها موسى في اليمّ ثقةً بالله امتثالاً لأمره, فإذا هو رسولٌ من أولي العزم المقرّبين.
ويعقوبُ قيل له: إنّ ابنَك أكله الذئب، ففوّض أمره إلى الله وناجاه, فردّه عليه مع أخيه بعد طول حزنٍ وفراق.
ولمّا ضاق الحال وانحصَر المجَال وامتنَع المقال من مريمَ عليها السلام عظُم التوكّل على ذي العظمَة والجلال, ولم يبقَ إلاّ الإخلاصُ والاتّكال, فأشارت إليه، فقالوا لها: كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى ?لْمَهْدِ صَبِيًّا [مريم:29]، فعندها أنطقَه الله فقال: إِنّى عَبْدُ ?للَّهِ ءاتَانِىَ ?لْكِتَـ?بَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا [مريم:30].
ونبيّنا محمّدٌ يتوارى مع صاحبِه عن قومِه في جبلٍ أجرَد في غارٍ قفرٍ مخوف, فبلغ الروع صاحبَه, فقال: يا رسول الله، واللهِ لو أنّ أحدَهم نظرَ إلى قدميه لأبصرَنا، فقال الرّسول وهو واثقٌ بربّه: ((يا أبا بكر، ما ظنّك باثنين اللهُ ثالثهما)) [13] ، فأنزل الله تأييده ونصرَه وأيّده بجنودٍ لا ترى، فسكن الجأش وحصَل الأمنُ وتمّت الهجرة وانطلقت الرّسالة.
وإذا تكالبَت عليك الأيّام وأحاطت بك دوائرُ الابتلاء فلا ترجُ إلا الله، وارفَع أكفَّ الضراعة, وألقِ كنفَك بين يدي الخلاّق, وعلِّق رجاءَك به, وفوِّض الأمرَ للرّحيم، واقطَع العلائقَ عن الخلائِق، ونادِ العظيم, وتحرَّ أوقاتَ الإجابة كالسّجود وآخر الليل.
وإذا قويَ التوكّل والرجاء وجُمع القلب في الدّعاء لم يردَّ النداء، أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء [النمل:62]. فسلِّم الأمرَ لمالكه، والله عزيزٌ، لا يُضِلّ من استجارَ به, ولا يضيِّع من لاذ بجنابه.
وتفريجُ الكربات عند تمام الكرب, واليُسر مقترنٌ بالعسر، وتعرَّف على ربّك في الرخاء يعرفك في الشدّة، و"حسبُنا الله ونعمَ الوكيل" قالها الخليلان في الشّدائد، ومَن صدق توكّلُه على الله في حصولِ شيء ناله، ومن فوّض أمرَه إليه كفاه ما أهمّه، ومن حقَّق التوكّلَ لم يكِله إلى غيره, بل تولاّه بنفسه، وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، وعلى قدرِ حسن ظنّك بربك ورجائك له يكون توكّلك عليه, فاجعَل ربَّك وحدَه موضعَ شكواك، قال الفضيل رحمه الله: "والله، لو يئِستَ من الخلق حتى لا تريد منهم شيئًا لأعطاك مولاك ما تريد" [14].
وهو سبحانه القدير، لا تتحرّك ذرّة إلا بإذنه، ولا يجري حادث إلا بمشيئته، ولا تسقط ورقةٌ إلاّ بعلمه، وَتَوكَّلْ عَلَى ?لْعَزِيزِ ?لرَّحِيمِ ?لَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى ?لسَّـ?جِدِينَ [الشعراء:217-219]، قال إبراهيم الخوّاص: "ما ينبغي للعبدِ بعدَ هذه الآية أن يلجأ إلى أحدٍ غير الله" [15].
ومن تعلّق بغيرِ الله أو سَكن إلى علمِه وعقلِه ودوائِه وتمائمه, واعتمَد على حولِه وقوّته وكله الله إلى ذلك وخذَله، قال في تيسير العزيز الحميد: "وهذا معروف بالنّصوص والتجارب".
وأرجحُ المكاسبِ الثقة بكفايةِ الله وحسنُ الظن به، وليكن بما في يدِ الله أوثق منه بما في يده، ومن ظنّ أنّه يُنال ما عند الله بمعصيته ومخالفتِه كما يُنال بطاعته والتقرّب إليه, أو ظنّ أنه إذا ترك شيئًا من أجلِه لم يعوّضه خيرًا منه، أو ظنّ أنّ من فعل شيئًا لأجلِه لم يعطِه أفضلَ منه، أو ظنّ أنّه إذا صدقه في التوكّل عليه أنه يخيّبه ولا يعطيه ما سأله فقد ظنّ بالله ظنّ السّوء، ولا يسلم من هذا إلا من عرف الله، وعرف أسماءه وصفاتِه, وعرف موجِب حكمتِه وحمده.
قال ابن القيم: "أكثرُ الخلق, بل كلّهم إلا من شاء الله يظنّون بالله غيرَ الحقّ وظنّ السّوء، فإنّ غالبَ بني آدم يعتقِد أنّه يستحقّ فوقَ ما شاءه الله له، ومن فتّش في نفسِه وتغلغل في معرفة طواياها رأى ذلك فيها كامنًا، فليعتنِ اللبيبُ النّاصح لنفسه بهذا، وليتُب إلى الله ويستغفره في كلّ وقت مِن ظنّه بربه ظنَّ السوء, وليظنَّ السوء بنفسه" [16].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَ?ذْكُرِ ?سْمَ رَبّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَّبُّ ?لْمَشْرِقِ وَ?لْمَغْرِبِ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ فَ?تَّخِذْهُ وَكِيلاً [المزمل:8، 9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الطب، باب: من اكتوى أو كوى غيره.. (5705) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. ومسلم في الإيمان (218) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
[2] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2516) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أحمد (1/293)، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الضياء المقدسي في المختارة (10/25)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة، وأصحّ الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2043).
[3] طريق الهجرتين (ص389).
[4] انظر: طبقات الحنابلة (1/416)، ومجموع الفتاوى (10/259)، وجامع العلوم والحكم (ص440).
[5] هو من تتمة حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم.
[6] سنن الترمذي: كتاب الطب، باب: ما جاء في كراهية التعليق (2072) من حديث عبد الله بن عكيم رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (4/311)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2576)، وابن قانع في معجم الصحابة (2/117)، والحاكم (7503)، والبيهقي في الكبرى (9/351)، قال الترمذي: "حديث عبد الله بن عكيم إنما نعرفه من حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن عكيم لم يسمع من النبي ، وكان في زمن النبي يقول: كتب إلينا رسول الله "، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1691).
[7] مجموع الفتاوى (10/257).
[8] المسند (1/30) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الترمذي في الزهد، باب: في التوكل على الله (2344)، وابن ماجه في الزهد، باب: التوكل واليقين (4164)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبّان (730)، والحاكم (4/318)، والضياء في المختارة (227، 228)، والألباني في السلسلة الصحيحة (310).
[9] أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/73)، والبيهقي في الشعب (2/98).
[10] أخرجه أحمد (3/449)، وأبو داود في الجهاد (2590)، وابن ماجه في الجهاد (2806) عن السائب بن يزيد رضي الله عنه، وعند أبي داود: عن السائب عن رجل قد سماه، وصححه البوصيري في الزوائد (3/165)، وله شواهد كثيرة، وذكره الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2264).
[11] أخرجه البخاري في الإجارة (2263، 2264) عن عائشة رضي الله عنها.
[12] حفر النبي مع أصحابه الخندق ثابت في الصحيحين، انظر: صحيح البخاري: كتاب المغازي (4101، 4102)، وصحيح مسلم: كتاب الأشربة (2039).
[13] أخرجه البخاري في المناقب، باب: المهاجرين وفضلهم ومنهم أبو بكر (3653)، ومسلم في فضائل الصحابة (2381) عن أبي بكر رضي الله عنه.
[14] انظر: جامع العلوم والحكم (197).
[15] انظر: إحياء علوم الدين (4/245).
[16] زاد المعاد (3/235) بتصرف يسير.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، لا يستقيمُ توكّل العبد حتى يصحّ توحيده، وعلى قدر تجريده التوحيدَ يكون صحّة التوكّل. ومتى التفتَ العبد إلى غير الله أخذ ذلك شعبةً من شعب قلبه، فنقص من توكّله بقدرِ ذهابِ تلك الشعبة. ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالخَلق لم تسدَّ فاقتُه، ومن سرّه أن يكون أقوى النّاس فليتوكّل على الله، ومن سرّه أن يكون أغنى النّاس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده.
والرّضا والتوكّل يكتنفان المقدور، فالتوكّل قبلَ وقوعه، والرضا بعد وقوعه، والرضا ثمرة التوكل, وروح التوكّل التفويض وإلقاءُ أمورِك كلّها إلى الله، يقول داود بن سليمان رحمه الله: "يستدَلّ على تقوى المؤمن بثلاث: حسنُ التوكّل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسنُ الصبر فيما قد فات" [1] , وكلّما كان العبدُ بالله أعرفَ كان توكّله عليه أقوى، وقوّة التوكّل وضعفُه بحسَب قوة الإيمان وضعفِه.
ومن توكّل على الله فلا يعجَل بالفرج، فالله ذكَر كفايتَه للمتوكِّل عليه, وربّما أوهمَ ذلك تعجيل الكفايةِ وقتَ التوكّل، فالله جعَل لكلّ شيء قدرًا ووقتًا، فلا يستعجِل المتوكّل, فيقول: قد توكّلتُ ودعوت فلم أر شيئًا!! فالله بالغ أمرِه، قد جعل لكلّ شيء قدرًا أأأ ، والله هو المتفرِّد بالاختيار والتّدبير، وتدبيرُه لعبدِه خيرٌ من تدبيرِ العبدِ لنفسِه, وهو أرحمُ به مِنه بنفسه.
ثمّ اعلموا أنَّ الله أمركم بالصّلاة والسّلام على نبيّه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم على نبيّنا محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] انظر: إحياء علوم الدين (4/73).
(1/2774)
الإسراء والمعراج
الرقاق والأخلاق والآداب, قضايا في الاعتقاد
فضائل الأزمنة والأمكنة, معجزات وكرامات
محمد أحمد حسين
القدس
29/8/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رحلة الإسراء والمعراج ودورها في ترسيخ الإيمان وكشف النفاق. 2- المسجد الأقصى وأرض الإسراء أمانة في أعناق المسلمين. 3- وجوب نصرة المسلمين على أرض فلسطين. 4- الممارسات والجرائم اليهودية في فلسطين. 5- دعوة للمحافظة على الصلاة والاستقامة على الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، في شهر رجب من كل عام يحتفي المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بذكرى الإسراء والمعراج [1] ، هذه الذكرى العظيمة والمناسبة الجليلة التي تمثل عقيدة وأمانة.
أما العقيدة فلكون الإسراء والمعراج من المعجزات التي أيد الله بها نبينا عليه الصلاة والسلام، والإيمان بالمعجزة جزء من العقيدة الإسلامية، وبهذا كان التصديق بمعجزة الإسراء والمعراج ترسيخاً لإيمان المؤمنين وامتحاناً للنفاق المنافقين الذين ارتدوا عن الدين لضعف إيمانهم وقلة يقينهم، وفاز بالصدق والصديقية أبو بكر رضي الله عنه فسمي صديقاً، لإيمانه وتصديقه الجازم بمعجزة الإسراء والمعراج، ومثله الصحابة الكرام ممن امتحن الله قلوبهم بالتقوى، ففازوا بالإيمان الراسخ والعقيدة الثابتة التي تمثل المعجزة جزءاً منها.
وأما الأمانة فإن ديار الإسراء والمعراج التي ربطها الله برباط العقيدة هي أمانة في أعناق المسلمين جميعاً، فكما لا يجوز التفريط بالمسجد الحرام الذي ابتدأت منه معجزة الإسراء، لا يجوز التفريط بالمسجد الأقصى الذي انتهت فيه هذه المعجزة وابتدأت من أرضه الطاهرة معجزة المعراج بالنبي عليه الصلاة والسلام إلى السماوات العلى، إلى سدرة المنتهى، وقد سجل القرآن الكريم هذه المعجزة في سورة النجم في قول الله تعالى: وَ?لنَّجْمِ إِذَا هَوَى? مَا ضَلَّ صَـ?حِبُكُمْ وَمَا غَوَى? وَمَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? عَلَّمَهُ شَدِيدُ ?لْقُوَى? ذُو مِرَّةٍ فَ?سْتَوَى? وَهُوَ بِ?لأفُقِ ?لاْعْلَى? ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى? فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى? فَأَوْحَى? إِلَى? عَبْدِهِ مَا أَوْحَى? [النجم:1-10].
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء المعراج، هل وقف المحتفون في العالم الإسلامي بذكرى الإسراء والمعراج على هذه المعاني العقدية، والروابط الإيمانية بين المسجدين المسجد الحرام في مكة المكرمة والمسجد الأقصى في القدس الطاهرة؟ هل عملوا على رعاية أرض المسجدين وحمايتها من الغزاة والمحتلين ؟ هل نهضوا بالأمانة التي كلفهم الله بها وجعلهم قيمين عليها؟ هل سلكوا طريق الذين سبقوا من الصحابة الكرام والقادة المحررين العظام أم رضوا من الغنيمة بالإياب؟ وقبلوا بأن يكونوا مع الخوانس؟ ففرطوا بأرض الإسراء والمعراج، ويحهم ويحهم من الله سبحانه وتعالى.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن حال هذه الديار شاهد على تقصير المسلمين حكاماً ومحكومين في حمل الأمانة التي كلفهم الله بها وجعلهم الأوصياء عليها وعلى مقدساتها وديارها، فهذا شعبكم المرابط الذي حمل على عاتقه مسؤولية الدفاع عن هذه الأرض المباركة، وأكرمه الله بشرف السدانة لمسجدها الأقصى، يذود عنه وعن هذه الأرض المباركة بالتضحيات الجسام من أبنائه ومقدراته في مواجهة آلة الاحتلال العسكرية، التي استهدفت وما زالت تستهدف الأرض والإنسان، وراحت تقطع أوصال الوطن ببناء جدار الفصل العنصري الذي يحول بين المدينة وقراها وبين أبناء البلدة الواحدة، كما يفصل بين مؤسسات التعليم وطلابها، كما هو حاصل في جامعة القدس التي فصل هذا الجدار بين أجزائها ومرافقها، زد على ذلك ما يمارسه جيش الاحتلال من اجتياحات للمدن والقرى والمخيمات وما يقوم به من قتل واغتيالات للأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء، وما يفرضه من عقوبات جماعية بحظر التجول وإغلاق المؤسسات.
أيها المسلمون، يا أبناء هذه الأرض المباركة، وتأتي ذكرى الإسراء والمعراج في هذا العام مع الذكرى الثالثة لانتفاضة الأقصى التي فجرها شعبكم دفاعاً عن قدسية المسجد الأقصى وحفاظاً على حريته من الانتهاك، ودفعا لأطماع الحالمين بهيكل مزعوم على أنقاضه، وقد قدم شعبكم آلاف الشهداء من خيرة أبنائه وعشرات الآلاف من الجرحى، وما زال الآلاف من الأسرى يقبعون خلف القضبان، وهم رواد حق وطلاب عدالة، نسأل الله تعالى أن يسكن الشهداء الفردوس الأعلى من جنانه وأن يمن على الجرحى الشفاء العاجل وعلى الأسرى بنيل الحرية والخلاص من قيد السجن وظلم السجان، ومع كل هذه التضحيات مازال الاحتلال ممعناً في عدوانه على الآمنين من أبناء شعبنا يواصل اغتياله وإعداماته دون وجه حق من أبناء المقاومة، ممن يسميهم النشطاء من أبناء هذا الشعب.
أما المسجد الأقصى المبارك محور معجزة الإسراء والمعرج فقد غدا مستباحاً ـ يا مسلمون ـ من قبل عصابات المتطرفين والمستوطنين اليهود، الذين سمحت لهم سلطات الاحتلال بالدخول إليه بالقوة وفي ظل حماية الشرطة وأذرع الأمن الإسرائيلية، هذا الأمن الذي حول المسجد الأقصى المبارك إلى ثكنة عسكرية، فأي أمن هذا؟ في الوقت الذي تمنع فيه سلطات الاحتلال أبناء المسلمين من الوصول إلى المسجد الأقصى، وتعرقل الإعمار ومواد الصيانة اللازمة، مما يؤدي إلى إمكانية الانهيار في مرافق المسجد كما حصل قبل أيام بجدار المتحف الإسلامي الغربي الواقع في المسجد الأقصى المبارك، وتصدر سلطات الاحتلال أوامرها بمنع عدد من حراس المسجد من الوصول إلى المسجد الذي يعملون فيه، كما تحظر على كثير من أبناء مدينة القدس الدخول إلى المسجد بموجب أوامر عسكرية.
إنها أيها الإخوة حرية العبادة وحرية الوصول إلى أماكنها!! في ظل قانون الاحتلال والخروج عن إرادة رب العباد الذي يمهل ولا يهمل، وصدق الله العظيم: وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ غَـ?فِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ?لظَّـ?لِمُونَ [إبراهيم:42]، جاء في الحديث الشريف عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] )) [2] ، أو كما قال.
فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
[1] قال المنبر: لا يعرف على وجه التحديد العام والشهر الذي حدث فيه الإسراء والمعراج، ولم ينقل عن سلف الأمة الاحتفاء والاحتفال بهذه المناسبة أو غيرها من المواسم التي ابتدعها الناس بلا دليل ولا حجة.
[2] أخرجه البخاري في التفسير (4686)، ومسلم في البر (2583).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن اقتدى واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
وبعد: أيها المسلمون لقد جاءت معجزة الإسراء والمعراج في وقت فقد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الناصر من الأهل والعشيرة، كما سدت في وجه دعوته أبواب الأرض، إلا أنه لم يفقد عزيمته في مواصلة الدعوة، بل التجأ إليه في دعائه المعروف بعد عودته من الطائف التي لم تكرم وفادته، بل أغرت به السفهاء يرمونه بالحجارة، فتوجه إلى ربه داعياً: ((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي)) [1] ، اللهم أنت ربنا فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك، لقد فتح الله لرسوله عليه الصلاة والسلام أبواب السماء، فأكرمه بالإسراء به إلى المسجد الأقصى.
وفي هذا دلالة واضحة بأن ديار هذا المسجد هي أرض إسلامية، إن المسجد الأقصى المبارك للمسلمين وحدهم ولا يشاركهم فيه أحد، وإن دعوة الإسلام ودولة المسلمين ستصل إلى هذه الديار التي فرضت في سمائها الصلاة على المسلمين ليلة المعراج بنبينا عليه الصلاة والسلام إلى السماوات العلا، إلى سدرة المنتهى، إذ أوحى إليه ربه ما أوحى من البينات والهدايات التي يجب على المسلمين التأسي بها واتباعها لتفتح لهم أبواب السماء بالفضل والعناية، وتنقشع عن أرضهم أرجاس الضلالة والغواية، ليعودوا كما أخبر الله عنهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله إيماناً صادقاً، لا تزعزعه أهواء الباطل، ولا تفتّ في عضده مكائد الكفر، ولتقم الصلاة ـ أيها الإخوة ـ التي جعلها الله عماد هذا الدين وأحد أركانه، وفرضها من فوق سبع سماواته معراجاً لكل مسلم إلى رضوان ربه، تنهاه عن الفحشاء والمنكر، وتحثه على الخير ويستعين بها في مواجهة البلاء في قول الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة:153].
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن هذه الذكرى العطرة تهتف بكم أن تتنبهوا للأخطار المحدقة بأرضكم وبمدينة القدس وبمسجدها الأقصى المبارك أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى السماوات العلا.
فالمسجد الأقصى ينادي عمّاره من المرابطين لشد الرحال إليه والالتفاف حوله في جميع الأوقات، وحسبكم أيها المرابطون شرفاً أن تكونوا الطليعة المتقدمة من أمتكم في الذود عن عقيدتها ومقدساتها وقدسها التي شرفها الله بمعجزة الإسراء والمعراج وجعل سكناها علامة على رضوان الله، والخروج منها علامة على سخطه.
فالله نسأل أن يجعلنا من المرابطين في هذه الديار، الحائزين على رضوانه، إنه قريب سميع مجيب.
كما نهيب بكم إلى توحيد صفكم وجمع كلمتكم ونبذ كل خلاف ووأد كل فتنة يسعى إليها الطامعون بكم، لكسر إرادتكم وتفريق صفكم، بما يخدم أهداف الاحتلال والمحتلين، بل كونوا ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
أيها الإخوة المصلون، تهيب بكم شركة كهرباء القدس إلى التعاون معها ومع موظفيها، وعدم الاعتداء على هؤلاء الموظفين الذين يقومون بواجباتهم في جمع فواتير الكهرباء، لأن هذه المؤسسة هي إحدى المؤسسات الوطنية التي تقوم على خدمتكم وتقدم بلا كلل ولا ملل خدماتها إليكم، كما يهيب بكم مستشفى المقاصد الخيرية بعد صلاة الجمعة لمن وجد في نفسه الطاقة أن يتبرع بشيء من الدم لحاجة المستشفى لذلك، جزاكم الله خيراً، وأدامكم ذخراً لمقدساتكم وقدسكم ولوطنكم ولمؤسساتكم.
[1] رواه الطبراني في الكبير، وابن جرير في ا لتاريخ، وابن سعد في الطبقات؛ عن ابن إسحاق؛ بدون سند؛ حيث قال: ((وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذُكِرَ لي )).
(1/2775)
الابتلاء بالأمراض
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الفتن, المرضى والطب
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
7/8/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة الابتلاء. 2- كلّ شيء بقضاء وقدر. 3- أمر المؤمن كلّه خير. 4- انتشار الأمراض. 5- الحكمة من الأمراض. 6- سؤال الله تعالى العافية. 7- الحثّ على الصبر عند المرض. 8- أحكام تتعلق بالمرضى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ التي هي معتصَم عند البلايا، وسلوان في الهمّ والرزايا.
واعلموا ـ حفظكم الله ورعاكم ـ أنّ الابتلاء سنّة ربّانية ماضية، هي مِن مقتضيات حكمةِ الله سبحانه وعدله، متمثِّلاً وقعُه بجلاء في الفقر والغنى والصحّة والمرض والخوف والأمن والنقص والكثرة، بل وفي كلّ ما نحبّ ونكرَه، لا نخرج من دائرة الابتلاء، يقول الله تعالى: وَبَلَوْنَـ?هُمْ بِ?لْحَسَنَـ?تِ وَ?لسَّيّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:168]، ويقول سبحانه: وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (نبتليكم بالشدّة والرخاء، والصحّة والسّقم والغنى والفقر والحلال والحرام والطّاعة والمعصية والهدى والضلالة) [1].
عبادَ الله، العاقل الحصيفُ يجب عليه حتمًا أن يوقنَ أنّ الأشياء كلَّها قد فُرِغ منها، وأنّ الله سبحانه قدّر صغيرها وكبيرَها، وعلم ما كان وما سيكون وأن لو كان كيف يكون، وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى ?لأرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَـ?لُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِى ?لكِتَـ?بِ مِن شَىْء [الأنعام:38]، يقول الرسول : ((أوّلَ ما خلق الله القلمَ قال له: اكتب، قال: ربِّ، وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقاديرَ كلّ شيء حتى تقوم الساعة)) رواه أبو داود [2].
فالمقاديرُ ـ عبادَ الله ـ كائنة لا محالة، وما لا يكون فلا حيلةَ للخلق في تكوينِه، وإذا ما قدِّر على المرء حالُ شدّة وتنكَّظته الأمورُ فيجب عليه حينئذٍ أن يتّزرَ بإزار له طرفان: أحدهما الصبر والآخر الرّضا، ليستوفيَ كمالَ الأجر لفعله ذلك، فكم من شدّة قد صعُبت وتعذّر زوالها على العالَم بأسره ثمّ فُرِّج عنها بالسّهل في أقلَّ من لحظة، قيل للحسن: يا أبا سعيد، من أين أُتي هذا الخلق؟ قال: من قلّة الرضا عن الله، قيل: ومن أين أتي قلّة الرضا عن الله؟ قال: مِن قلة المعرفة بالله.
ولمّا جيء بسعيد بن جبير إلى الحجّاج ليقتلَه بكى رجلٌ فقال له سعيد: ما يبكيك؟ قال: لِما أصابك، قال سعيد: فلا تبكِ إذًا؛ لقد كان في عِلم الله أن يكونَ هذا الأمر ثمّ تلا: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى ?لأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا [الحديد:22] [3].
وما يصيب الإنسانَ إن كان يسرّه فهو نعمةٌ بيّنة، وإن كان يسوؤه فهو نعمة أيضًا؛ إمّا مِن جهة أنه يكفِّر خطاياه ويُثاب بالصّبر عليه، وإمّا من جهة أنّ فيه حكمةً ورحمة لا يعلمها إلا الله، وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216]، وصدق رسول الله إذ يقول: ((عجبًا لأمر المؤمن إنّ أمره كلّه خير، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرًا له، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن)) رواه مسلم [4].
أيّها النّاس، إنّ البشرَ قاطبةً مجمعون إجماعًا لا خِداج فيه على أنّ الصحّة تاجٌ فوق رؤوس الأصحّاء لا يراه إلا المَرضى، وأنّ الصحّة والعافية نعمةٌ مغبون فيها كثيرٌ من النّاس.
الأمراض والأسقامُ ـ عبادَ الله ـ أدواء منتشرةٌ انتشارَ النّار في يابِس الحطَب، لا ينفكّ منها عَصر، ولا يستقلّ عنها مِصر، ولا يسلم منها بشرٌ ولا يكاد إلاّ من رحم الله؛ إذ كلّها أعراض متوقّعة، وهيهات هيهاتَ أن تخلوَ الحياة منها، وإذا لم يصَب أحدٌ بسيلِها الطامّ ضربَه رشاشها المتناثرُ هنا أو هناك، وثمانيةٌ لا بدّ منها أن تمرَّ على الفتى، ولا بدّ أن تجريَ عليه هذه الثمانية: سرور وهمٌّ واجتماع وفرقة ويسر وعسرٌ ثمّ سقم وعافية.
الأمراضُ والأسقام هي وإن كانت ذاتَ مرارةٍ وثقل واشتدادٍ وعرك إلا أنّ الباريَ جلّ شأنه جعل لها حكمًا وفوائدَ كثيرة، علمها من علمها وجهِلها من جهلها، ولقد حدّث ابن القيم رحمه الله عن نفسه في كتابه شِفاء العليل أنّه أحصى ما للأمراض مِن فوائدَ وحكم، فزادت على مائة فائدة، وقال أيضًا: "انتفاعُ القلب والرّوح بالآلام والأمراضِ أمر لا يحسّ به إلا مَن فيه حياة، فصحّة القلوب والأرواح موقوفة على آلام الأبدان ومشاقها" انتهى كلامه رحمه الله [5].
إنّ الابتلاءَ بالأمراض والأسقام قد يكون هبةً من الله ورحمة، ليكفّر بها الخطايا ويرفعَ بها الدرجات، فلقد استأذنتِ الحمّى على النبيّ فقال: ((من هذه؟)) قالت: أمّ ملدم وهي كنية الحمى، فأمر بها إلى أهلِ قباء فلقوا مِنها ما يعلم الله، فأتوه فشكَوا ذلك إليه، فقال: ((ما شئتم؟ إن شئتم أن أدعوَ الله لكم فيكشفها عنكم، وإن شئتم أن تكونَ لكم طهورًا)) ، قالوا: يا رسول الله، أوَتفعل؟ قال: ((نعم)) ، قالوا: فدَعها. رواه أحمد والحاكم بسند جيد [6]. وقال : ((ما مِن مسلمٍ يصيبه أذًى من مرض فما سواه إلاّ حطّ الله به سيّئاته كما تحطّ الشجرة ورقَها)) رواه البخاري ومسلم [7]. وقال رجل لرسول الله : أرأيتَ هذه الأمراضَ التي تصيبنا، ما لنا بها؟ قال: ((كفارات)) ، قال أبي بن كعب: وإن قلَّت؟! قال: ((وإن شوكةً فما فوقها)) رواه أحمد [8]. ولقد عادَ رسول الله مريضًا من وَعكٍ كان به، فقال صلوات الله وسلامه عليه: ((أبشِر فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: هي ناري أسلّطها على عبدي المؤمن في الدنيا، لتكونَ حظَّه من النار في الآخرة)) رواه أحمد وابن ماجه [9] ، والوعك هو الحمّى.
فمِن هنا ـ عبادَ الله ـ نعلم النتائجَ الإجابيّة التي يثمِرها المرض، ونعلم أنّ مذاقه كالصّبِر، ولكنّ عواقبه أحلى من الشّهد المصفى، فعلامَ إذًا يمذُل [10] أحدُنا من المرض يصيبه، أو يسبّه ويشتُمه، أو يعلّل نفسَه بليت وليت، وهل ينفع شيئًا ليت؟!
ألا فاعلموا أنّ رسولَ الله دخل على أمّ السائب فقال: ((ما لك ـ يا أمّ السائب ـ تُزَفزفين؟)) قالت: الحمّى لا بارك الله فيها، فقال: ((لا تسبِّي الحمّى، فإنّها تذهِب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبثَ الحديد)) رواه مسلم [11]. ولقد أصابَ أحدَ السلف مرضٌ في قدمه، فلم يتوجّع ولم يتأوّه، بل ابتسمَ واسترجع، فقيل له: يصيبك هذا ولا تتوجّع؟! فقال: إنّ حلاوةَ ثوابه أنستني مرارةَ وجعه.
وبعدُ عبادَ الله، فلا يُظنّ ممّا سبق أنّ المرضَ مطلَب منشود، لا وكلاّ، فإنّه لا ينبغي للمؤمن الغرّ أن يتمنّى البلاء، ولا أن يسألَ الله أن ينزلَ به المرض، فلقد قال رسول الله : ((سلوا اللهَ العفوَ والعافية، فإنّ أحدًا لم يعطَ بعد اليقين خيرًا من العافية)) رواه النسائي وابن ماجه [12]. وقال مطرّف: "لأن أُعافى فأشكُر أحبُّ إليّ من أن أبتلى فأصبر" [13].
ومِن هنا نعلمُ جيّدًا أنّ المرض ليس مقصودًا لذاته، وإنّما لما يفضي إليه من الصّبر والاحتساب وحُسن المثوبة وحمدِ المنعم على كلّ حال، يقول شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: "المصائبُ التي تجري بلا اختيار العبدِ كالمرض وموتِ العزيز عليه وأخذِ اللصوص مالَه إنّما يثاب على الصّبر عليها لا على نفسِ ما يحدث مِن المصيبة، لكنّ المصيبةَ يكفَّر بها خطاياه، فإنّ الثواب إنّما يكون على الأعمالِ الاختيارية وما يتولّد عنها" انتهى كلامه [14].
ومِن هذا المنطلَق ـ عباد الله ـ اجتمع الكافر والمسلم والبرُّ والفاجر في مصيبة المرض على حدّ سواء، وافترقا في الثمرةِ والعاقبة، ولا يسوّي بينهما في ذلك إلا أليغ [15] أرعن واقع فيما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إنّكم ترونَ الكافرَ من أصحِّ الناس جسمًا وأمرضهم قلبًا، وتلقون المؤمن من أصحِّ النّاس قلبًا وأمرضِهم جسمًا، وايْمُ الله لو مرضَت قلوبُكم وصحَّت أجسامكم لكنتم أهونَ على الله مِن الجعلان) [16]. ودخل سلمان الفارسيّ رضي الله عنه على مريضٍ يعوده فقال له: (أبشِر فإنّ مرضَ المؤمن يجعله الله له كفّارة ومستعتبًا، وإنّ مرضَ الفاجر كالبعير عقله أهلُه ثمّ أرسلوه، فلا يدري لم عُقل ولم أرسِل) [17].
عبادَ الله، إنّ الإسلامَ حينما يرغّب في الصبر على البلوى ويبيّن ما تنطوي عليه الأسقام من آثارٍ شافية وحكمٍ كافية فلا يفهم مخطِئ أنّه يمجّد الآلام ويكرِّم الأوجاعَ والأوصاب، إنّما يحمَد الإسلام لأهلِ البلوى وأصحابِ الأسقام رباطةَ جأشِهم وحسنَ يقينهم، مَّا يَفْعَلُ ?للَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ وَكَانَ ?للَّهُ شَـ?كِرًا عَلِيمًا [النساء:147].
اشتكى عروة بنُ الزّبير الآكلةَ في رِجله، فقطعوها من ركبته وهو صامِت لم يأنّ، وفي ليلته تلك سقَط ولدٌ له مِن سطحٍ فمات، فقال عروة: "اللهمّ لك الحمد، كانوا سبعةً مِن الولد فأخذتَ واحدًا وأبقيتَ ستّة، وكان لي أطرافٌ أربعة فأخذتَ واحدًا وأبقيتَ ثلاثًا، فإن كنتَ قد أخذتَ فلقد أعطيتَ، ولئن كنتَ قد ابتليتَ لقد عافيتَ" [18] ، فرحمَ الله عروة وغفر له، فلقد كان بعضُ المرض عندَه أهونَ من بعض، وبلاؤه أهونَ من بلاء غيره، فهان عليه مرضه، وهانت عليه بلواه، وهذا هو ديدنُ المؤمن، ينظر بعين بصيرته، فيحمد الله على أمرين: أوّلهما دفعُ ما كان يمكن أن يحدثَ من هُنيزةٍ [19] أكبر حيث علِم أنّ في الزّوايا خبايًا، وفي البَرايا رزايا، وثانيهما بقاءُ ما كان يمكِن أن يزولَ من صحّةٍ غامرة وفضلٍ جزيل، فهو ينظر إلى النّعمة الموجودة قبلَ أن ينظرَ إلى النّعمة المفقودة.
عباد الله، إنّ الأسقامَ إذا استحكمَت وتعقّدت حبالُها وترادفت حلقاتُها وطال ليلُها فالصّبر وحدَه هو العاصِم بأمر الله مِن الجزع عند الرّيَب، وهو الهداية الواقية من القنوط عند الكُرَب. فلا يرتاع المؤمن لغَيمة تظهر في الأفق ولو تبِعتها أخرى وثالثة، بيد أنّ الإنسان إبّان لَهيعته [20] يتجاهل الحقائقَ، فيُدهَش للصّعاب إذا لاقته، فيُنشِئ له مِن طبعه الجزوع ما يبغِّض إليه الصبرَ، ويجعله في حلقه مرَّ المذاق، فيتنَجنَج [21] ويضيق ويحاوِل أن يخرجَ من حالته على نَكَظ [22] ، فينسى قولَ خالقِه: خُلِقَ ?لإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءايَـ?تِى فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ [الأنبياء:37].
واستمِعوا ـ يا رعاكم الله ـ إلى ما قصّه رسولنا عن مرَض أيّوبَ عليه السلام، فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: ((إنّ أيّوب نبيَّ الله لبثَ في بلائه ثماني عشرةَ سنة، فرفضه القريب والبعيد إلاّ رجلين من إخوانه، كانا من أخصّ إخوانه، كانا يغدُوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلَم والله، لقد أذنبَ أيّوب ذنبًا ما أذنبه أحدٌ من العالمين، قال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرةَ سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به، فلمّا راحا إليه لم يصبِر الرّجل حتّى ذكر ذلك له، فقال أيّوب: لا أدري ما تقول، غيرَ أنّ الله يعلم أنّي كنتُ أمرّ على الرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجِع إلى بيتي فأكفِّر عنهما كراهيةَ أن يُذكَر الله إلاّ في حقّ، ـ قال: ـ وكان يخرجُ إلى حاجتِه، فإذا قضى حاجتَه أمسكتِ امرأته بيده، فلمّا كان ذاتَ يومٍ أبطأ عليها، فأوحى الله إلى أيّوب في مكانِه: ?رْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـ?ذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42] ، فاستبطأته فبلغته، فأقبلَ عليها قد أذهبَ الله ما به من البلاء، فهو أحسن ما كان، فلمّا رأَته قالت: أي بارك الله فيك، هل رأيت نبيَّ الله هذا المبتلى؟ والله على ذلك ما رأيتُ أحدًا كانَ أشبهَ به منك إذ كان صحيحًا، قال: فإنّي أنا هو، وكان له أندران [23] : أندر القمح وأندر الشعير، فبعث الله سحابتين، فلمّا كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتّى فاض، وأفرغت الأخرى على أندرِ الشعير الورق حتى فاض)) رواه ابن حبان والحاكم وصححه الذهبي [24].
فانظروا عبادَ الله، وانظروا ـ أيّها المرضى ـ إلى أيّوب وصبره، فلقد صدقتِ الحكمة ولقد صدق قائلها: الصبرُ صبرُ أيّوب، ثماني عشرة سنة وهو يتقلّب في مرضه لتكونَ عاقبة صبره يسرًا، وكثيرًا ما تكون الآلام طهورًا يسوقه الله بحكمتِه إلى المؤمنين الصّادقين لينزعَ منهم ما يستهوِي ألبابَهم مِن متاعِ الدنيا، فلا يطول انخداعُهم بها أو ركونهم إليها، ورُبّ ضارّة نافعة، بل كم من مِحنة محويّة في طيِّها مِنَح ورحماتٌ مطويّة.
اللهمّ إنّا نسألك العفوَ والعافية والمعافاةَ الدائمةَ في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه كان غفّارًا.
[1] أخرجه ابن جرير في تفسيره (17/25) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وعزاه في الدر المنثور (5/629) لابن المنذر وابن أبي حاتم واللالكائي في السنة.
[2] سنن أبي داود: كتاب السنة (4700) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الطيالسي (577)، وأحمد (5/317)، والترمذي في التفسير (3319) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وهو في صحيح سنن أبي داود (3933).
[3] أخرجه ابن سعد في الطبقات (6/264)، وأسلم بن سهل في تاريخ واسط (ص90)، وأبو نعيم في الحلية (4/289).
[4] صحيح مسلم: كتاب الزهد (2999) من حديث صهيب رضي الله عنه.
[5] شفاء العليل (ص250).
[6] مسند أحمد (3/316) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أبو يعلى (1892)، والبيهقي في الشعب (9967)، وصححه ابن حبان (2935)، والحاكم (1280)، وقال المنذري في الترغيب (4/153) والهيثمي في المجمع (2/306): "رواة أحمد رواة الصحيح"، وهو في صحيح الترغيب (3442).
[7] صحيح البخاري: كتاب المرضى (5647، 5648، 5660، 5661، 5667)، صحيح مسلم: كتاب البر (2571) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[8] مسند أحمد (3/23) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى (7489)، وأبو يعلى (995)، والبيهقي في الشعب (9971)، وصححه ابن حبان (2928)، والحاكم (7854)، والحافظ في الإصابة (1/27)، وقال الهيثمي في المجمع (2/302): "رجاله ثقات"، وهو في صحيح الترغيب (3433).
[9] مسند أحمد (2/440)، سنن ابن ماجه: كتاب الطب (3470) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة (2/440)، والترمذي في الطب (2088)، والطبراني في الأوسط (10)، وأبو نعيم في الحلية (6/86)، والبيهقي في الكبرى (3/381)، وصححه الحاكم (1277)، وهو في السلسلة الصحيحة (557).
[10] أي: يضجر ويقلق.
[11] صحيح مسلم: كتاب البر (2575) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[12] أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (882)، وابن ماجه في الدعاء، باب: الدعاء بالعفو والعافية (3849) من حديث أبي بكر رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الطيالسي (5)، وأحمد (1/3، 5، 7، 8)، والبخاري في الأدب المفرد (724)، والترمذي في الدعوات، باب: في دعاء النبي (3558)، والبزار (75)، والحميدي (7)، وأبو يعلى (121)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (1938)، والضياء المقدسي في المختارة (1/156)، والألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3104).
[13] أخرجه هناد في الزهد (1/254)، وأبو نعيم في الحلية (2/200)، والبيهقي في الشعب (4/105).
[14] مجموع الفتاوى (10/124).
[15] أي: أحمق.
[16] أخرجه هناد في الزهد (1/247)، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (1/135).
[17] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (473).
[18] أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/179)، والبيهقي في الشعب (9978) بنحوه.
[19] أي: أذية.
[20] أي: فترته وكسله وغفلته.
[21] أي: يضطرب.
[22] أي: على استعجال.
[23] الأندر هو البيدر: المكان الذي توضع فيه الحنطة.
[24] أخرجه ابن حبان (2898)، والحاكم (4115)، وكذا أبو يعلى (3617)، والطبري في تفسيره (23/167)، وأبو نعيم في الحلية (3/374-375) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال أبو نعيم: "غريب من حديث الزهري، لم يروه عنه إلا عقيل، ورواته متفق على عدالتهم، تفرد به نافع"، وصححه الضياء في المختارة (2616، 2617)، وقال الهيثمي في المجمع (8/208): "رواه أبو يعلى والبزار ورجال البزار رجال الصحيح".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فاتّقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ ثمّةَ أمورًا يجب أن يعرفَها المرضى.
فمنها البشرَى لكلّ مريض أعاقه مرضُه عن القيام بالسّنن والنوافل التي كان يواظِب عليها إبّان صحّته بأنّها مكتوبة له لا يضيع أجرُها، فقد قال رسول الله : ((إذا مرض العبد أو سافر كتِب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا)) رواه البخاري [1].
كما ينبغي التنبّه إلى ما يقع فيه بعضُ المصابين ببعضِ الأمراضِ لا سيّما النفسية منها من العلاج بالمعازف والغِناء الذي حرّمه الله ورسوله، فإنّ شفاء الأمّة لم يكن قطّ فيما حرّمه الله عليها، ومعلومٌ أنّ الأدوية ثلاثة: دواء مشروع كالرّقية والعسل وزمزم ونحو ذلك، ودواء مباح وهو ما لم يحرّمه الشارع ولم يأمر به، وأدوية محرّمة لا يجوز التداوي بها، وإنّ لكل داء دواءً، علمه من علمه وجهله من جهله.
ثمّ ليعلم المرضى أنّه لا ينبغي التهاونُ بالصلاة حالَ المرض، فيجب أن تصلَّى في وقتها إن استطاع، فإن لم يستطِع جمع بين الظهر والعصرِ وبين المغرب والعشاء رخصةً من الشارع الحكيم. كما يجِب عليه أن يتطهّر للصلاة التطهّرَ الشرعي، فإن لم يستطع فإنّه يتيمّم، فإن لم يستطع فإنّه يصلّي على حاله، ولا يدع الصلاة تفوت عن وقتها؛ لأنّ الله يقول: فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ مَا ?سْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ويقول سبحانه: لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:233].
ثمّ ليعلمِ المرضى أنّ الأنين والتوجّع له حالتان: الأولى أنين شكوى فيكرَه، والثانية أنينُ استراحة وتفريج فإنّه لا يكره، بذلك قال ابن القيّم وغيره من المحقّقين.
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأذكى البشريّة محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب صاحبِ الحوض والشّفاعة، فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عزّ من قائل عليم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد. اللهمّ أعزّ الإسلام والمسلمين...
[1] صحيح البخاري: كتاب الجهاد (2996) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
(1/2776)
أمة واحدة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
7/8/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وحدة الأمة واجب ديني. 2- الحدود التي بين أقطار المسلمين حدود مصطنعة زرعها المستعمرون. 3- التحذير من الفرقة والاختلاف والدعوة للوحدة والاتحاد. 4- التفرقة بين اجتهاد العلماء وافتراق المسلمين. 5- جدار الفصل العنصري في أرض فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأنبياء: إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92]، ويقول عز وجل في سورة (المؤمنون): وَإِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً و?حِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?تَّقُونِ [المؤمنون:52]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، هاتان الآيتان الكريمتان تؤكدان على أن الأمة الإسلامية هي أمة واحدة، فقد بدأت كل آية منها بلفظ التوكيد" إن"، كما أن الله رب العالمين قد ربط وحدة الأمة بالتقوى والعبادة، للتأكيد على أن تحقيق الوحدة هو واجب عقدي وواجب تعبدي على جميع المسلمين شعوباً وحكاماً، وأن الوحدة يجب أن تكون على أساس متين، باعتبار أن المسلمين يمثلون أمة واحدة، لا تفصلهم حدود وهمية ولا كيانات هزيلة اصطنعها الاستعماريون الاحتلاليون في العالم الإسلامي من الحرب العالمية الأولى، وحتى الآن، إنهم قد مزقوا العالم الإسلامي بموجب اتفاقيات ظالمة غير مشروعة، منها اتفاقية "سايكس بيكو"، التي وضعت حينئذ بلاد فلسطين تحت الانتداب البريطاني البغيض.
أيها المسلمون، إن هذه الحدود المصطنعة بين الأقطار الإسلامية هي حدود غير مشروعة، لأن ديننا الإسلامي العظيم لا يعترف إلا بدولة واحدة للمسلمين، عليها حاكم واحد يحكم بكتاب الله وسنة رسوله، وإن ديننا الإسلامي العظيم قد أقر بالإدارة اللامركزية للدولة قبل خمسة عشر قرناً، وذلك ليكون المجال متاحاً لأقطار أخرى للانضمام إلى هذه الدولة، وللتيسير على المواطنين في إنجاز معاملاتهم من خلال الإدارة اللامركزية، ولا يخفى عليكم أن الحدود القائمة بين الأقطار الإسلامية قد أوجدت الخصومات والمنازعات وإراقة الدماء وإزهاق الأرواح دون وجه حق.
وإنه لمن المؤلم أن المسلمين في هذه الأيام قد استسلموا لوجود هذه الحدود المصطنعة، وأن المسلم يعد أجنبياً في قطر إسلامي آخر، في حين أن غير المسلمين يصولون ويجلون في الأقطار الإسلامية.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، نحن في وقت أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة وجمع الكلمة، ومن حقنا ذلك، بل هو أمر واجب، وإن الوضع القائم من التفكك والاختلاف ينذر بتطاير ريح المسلمين، والله سبحانه وتعالى يقول: وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:46]، وإن الذئاب في العالم الغربي قد جهزت نفسها لتأكلنا واحداً واحداً، ألم تسمعوا قول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((ما من ثلاثة من قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)) [1] ، صدقت يا سيدي يا رسول الله، إنما يأكل الذئب القاصية من الغنم، أي البعيدة عن مجموعة الأغنام، فإن الذئب يتجرأ ويعتدي عليها.
وهذا التشبيه النبوي قد انطبق على واقعنا اليوم في العالم الإسلامي، فما حصل في أفغانستان والعراق أقرب دليل على ذلك، وهناك تهديدات أمريكية ظالمة لأقطار إسلامية أخرى، وكأن عرب عدنان وقحطان لم يسمعوا قول أحد الحكماء في نصحه لأبنائه:
كونوا جميعا يا بني إذا اعترى خطب ولا تتفرقوا آحادا
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت أفرادا
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لقد نهى ديننا الإسلامي العظيم عن التنازع والتفرق والتخاصم في كثير من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، منها قوله سبحانه وتعالى: وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، وقوله: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَ?خْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ?لْبَيّنَـ?تُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، وقوله أيضا: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، وقوله: إِنَّ ?لَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء [الأنعام:159]، وقوله: وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ مِنَ ?لَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31، 32].
أيها المسلمون، من الأحاديث النبوية الشريفة قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث مطول: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض)) [2] ، يعني أن هذا العراك الدامي هو شأن الكافرين، شأن الكافرين فلا يجوز أن ينطبق عليكم أيها المسلمون، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تناصحوا من ولاه الله أموركم، ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)) [3].
ففي هذا الحديث النبي الشريف توجيه عظيم للأمة الإسلامية أفراداً وجماعات وحكاماً لتحقيق الوحدة باجتناب مسببات الفرقة الخلاف والنزاع، ففيه أمر بالاعتصام بكتاب الله الذي لا خلاف عليه بين الأمة، وهو الراية التي تجمعهم، وهو اللواء الذي يقودهم.
ويذكر هذا الحديث من أسباب الخلاف القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال، وذلك بإنفاق المال في غير موضعه كما نشاهد في عالمنا العربي في هذه الأيام، حيث تذهب المليارات هدراً لوجه الشيطان، لإرضاء دول الكفر والاستعمار، وفي المعاصي الموبقات والبارات.
أيها المسلمون، ينبغي أن نوضح الفرق بين النزاعات والخصومات بين المسلمين وبين اجتهادات العلماء في الأمور الفرعية المستجدة، فالنزاعات والخلافات والخصومات هي أمور منهي عنها، وهي مرفوضة في المجتمع الإسلامي، ولا يجوز شرعاً أن تقع بين المسلمين، أما الاجتهاد من قبل العلماء والمجتهدين في المسائل اليومية الفرعية فهو أمر مرغوب فيه ومشروع، وقد أقره رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم وحث عليه، حتى لا يقع الناس في حرج وضيق، فلا تعارض بين الاجتهاد في الفقه الإسلامي وبين وجود الوحدة، وعليه لا يجوز أن يؤدي الخلاف الفقهي إلى خصومات بين المسلمين.
ومن المؤسف والمؤلم أنه حصل شجار بين المسلمين في أحد المساجد بشأن عدد ركعات التراويح هل هي ثماني ركعات أم عشرين ركعة، فاحتكموا إلى أحد العلماء فقال لهم: أغلقوا المسجد بعد صلاة العشاء، فاستهجنوا إجابته فقال لهم: "إن وحدة المسلمين واجبة، أما صلاة التراويح فهي سنة، والواجب مقدم على السنة".
أيها المسلمون، إن ديننا الإسلامي العظيم حريص كل الحرص على سلامة الأمة الإسلامية وعلى وحدتها وحفظ كيانها، لذا فهو يطفئ بوادر الخلاف والنزاع والشقاق، ونهيب بالمسلمين جميعاً أن يتآلفوا، فالألفة تجمع الشمل وتمنع الذل، وأن يتكاتفوا على إخراج الأمة من النزاعات والشقاقات، والله سبحانه وتعالى يقول: قُلْ هَـ?ذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى? ?للَّهِ عَلَى? بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ?تَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ ?للَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]، ويقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((يد الله مع الجماعة)) [4] ، ويقول أيضاً: ((من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)) [5].
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[1] أخرجه أحمد (21203) وأبو داود في الصلاة،باب: التشديد في ترك الجماعة (547) والنسائي في الإمامة، باب: التشديد في ترك الجماعة (847) عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وصحح إسناده النووي في المجموع (4/182)، والألباني في صحيح الترغيب (427).
[2] أخرجه البخاري في العلم، باب: الإنصات للعلماء (121)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم )): لا ترجعوا بعدي كفارًا...)) (65)، عن أبي الدرداء رضي الله عنه،
[3] أخرجه البخاري في الزكاة باب قول الله تعالى: (لا يسألون الناس إلحافًا.....) (1477)، ومسلم في الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل... (593) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
[4] أخرجه الترمذي في الفتن، باب: ما جاء في لوزم الجماعة (2166) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه النسائي في تحريم الدم، باب: قتل من فارق الجماعة (4020) عن عرفجة بن شريح رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1760).
[5] أخرجه البخاري في الفتن، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((سترون بعدي أموراً....)) (7054)، ومسلم في الإمارة، باب: وجوب ملازمة الجماعة... (1849)، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو عندهما بلفظ: ((من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتتة جاهلية)) ، واللفظ للترمذي في الأمثال، باب: ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة (2863) عن الحارث الأشعري رضي الله عنه. وقال: حسن صحيح غريب.
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاة وسلام دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، سرطان آخر يضاف إلى سرطان المستعمرات والمستوطنات، إنه السرطان الذي يلتهم الأرض ويمزق البلاد ويشتت العباد، إنه ما يطلق عليه بالجدار الأمني، وفي واقع الحال إنه جدار عنصري عدواني غير أمني، إن الجيش الإسرائيلي المحتل قد بدأ بتنفيذه منذ العام الماضي بدعوى توفير الأمن لشعب إسرائيل، وبزعم منع تسلل الفلسطينيين إلى الداخل.
أيها المسلمون، إن المواطنين لم يدركوا خطورة هذا الجدار إلا بعد أن بدأت سلطات الاحتلال تطبيقه على أرض الواقع، من عزل للمناطق وقلع للأشجار وهدم للمنازل والتهام للأراضي، إن هذا الجدار اللعين غير الأمني يكلف ما يزيد عن مليار دولار، وطوله 750 كم بارتفاع 8 أمتار، وهو عبارة عن سلسلة من الخنادق والقنوات العميقة والجدران الإسمنتية المرتفعة والأسلاك الشائكة المكهربة وأجهزة مراقبة مزودة بأسلحة رشاشة تنطلق منها النار تلقائياً، كلما اقترب منها شخص.
أيها المسلمون، إن هذا الجدار اللعين غير الأمني قد طال مدينة القدس من ثلاث جهات، من الشمال والجنوب والشرق، بحيث يعزلها تماماً عن سائر المناطق الفلسطينية، أما الجهة الغربية فتقع القدس الغربية، ويمتد هذا الجدار من منطقة صور باهر جنوباً، وحتى مدخل مستعمرة معلي أدوميم شمالاً، بطول يزيد عن 17 كم، ويبلغ مجموع الأراضي التي تم وضع اليد عليها في منطقة القدس حوالي 800 دونم، ويمنع هذا الجدار العنصري حال إقامته، يمنع من التقدم والنمو العمراني في هذه المناطق، كما يمنع مئات الآلاف من المواطنين من التحرك بحرية إلى مدينة القدس.
مررت على القدس الشريف مسلما على ما تبقى من ربوع وأنجم
ففاضت دموع العين مني صبابة على ما مضى من عصره المتقدم
كما أن هذا الجدار المزعوم سيحاصر مناطق سلفيت وطولكرم وقلقيلية ومناطق أخرى، والسؤال هل هذا الجدار سيوفر الأمن والسلام لشعب إسرائيل؟ والجواب: لا بالطبع، لأن أساليب القهر والقمع والعنف والاغتيال والاعتقال والمصادرات لا تؤدي حتماً إلى الأمن أو الاستقرار، وإن شعبنا الفلسطيني المرابط يدرك تماماً أنه المستهدف وأن بلاده مستهدفة أيضاً، ولن يستسلم لهذه الإجراءات العنصرية الظالمة، ويتوجب على الأنظمة العربية أن تفيق من سباتها، وأن تتحمل مسؤولياتها تجاه الأخطار المحدقة بفلسطين وشعب فلسطين، وإن تنفيذ هذا المشروع العدواني لا قدر الله سيعرقل نهضة الأمة الإسلامية أجيالاً وأجيالاً، هذا أوان الشد فاشتدي، فعلى العرب المسلمين في العالم أن يجمعوا أمرهم لا بالقرارات التي تدون في محاضر الجلسات، وإنما لتترجم ذلك عملياً على أرض الوقع حماية للقدس وفلسطين ومحافظة على المقدسات، وإلا أتت ساعة ندم، حيث لا ينفع الندم.
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم.
(1/2777)
فضائل الصحابة
قضايا في الاعتقاد
الصحابة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
7/8/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إجماع المسلمين على فضل الصحابة. 2- آيات قرآنية في فضل الصحابة. 3- أحاديث نبوية في فضل الصحابة. 4- من مناقب الصحابة. 5- واجبنا تجاه الصحابة. 6- فضل الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فالتّقوى سبيل الفلاح وطريقُ النّجاح، عزٌّ في الدنيا ورفعة في الآخرة، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
عبادَ الله، أجمع المسلمون على أنّ الصحابة رأسُ الأولياء وصفوة الأتقياء، قدوةُ المؤمنين وأسوة المسلمين وخير عبادِ الله بعدَ الأنبياء والمرسلين، جمَعوا بين العلم بما جاء به رسول الله وبين الجهادِ بين يديه، شرّفهم الله بمشاهدة خاتَم أنبيائه وصُحبته في السّراء والضّرّاء وبذلِهم أنفسَهم وأموالهم في الجهاد في سبيل الله، حتّى صاروا خيرةَ الخِيَرة وأفضلَ القرون بشهادة المعصوم. هم خيرُ الأمَم سابقِهم ولاحقهم، أولِّهم وآخرهم. هم الذين أقاموا أعمدَة الإسلام وشادوا قصورَ الدّين، قطعوا حبائلَ الشّرك، أوصلوا دينَ الإسلام إلى أطرافِ المعمورة، فاتّسعت رقعة الإسلام، وطبَّقت الأرض شرائعَ الإيمان، فهم أدقّ النّاس فهمًا وأغزرُهم علمًا وأصدقهم إيمانًا وأحسنهم عملاً. كيف لا؟! وقد تربّوا على يدَي النبي ونهلوا من ماء معينه الصّافي وشاهدوا التنزيل، روى أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: (إنّ الله نظر في قلوب العباد فوجد قلبَ محمّد خيرَ قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثمّ نظر في قلوب العباد بعدَ قلب محمّد فوجد قلوبَ أصحابه خيرَ قلوب العباد، فجعلهم وزراءَ نبيّه، يقاتلون على دينه) [1].
مَن صحبَ النبيَّ أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه.
وردت الآياتُ الصريحة والأحاديث الصّحيحة في فضائل الصحابة رضي الله عنهم، مِن ذلك قوله عزّ وجلّ: وَ?لسَّـ?بِقُونَ ?لأوَّلُونَ مِنَ ?لْمُهَـ?جِرِينَ وَ?لأنْصَـ?رِ وَ?لَّذِينَ ?تَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ ?للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة:100]، وقال عزّ وجلّ: لَّقَدْ رَضِيَ ?للَّهُ عَنِ ?لْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ?لشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ?لسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَـ?بَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان ?للَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [الفتح:18، 19]، وفيهم يقول رسول الله : ((لا يدخل النارَ أحد ممّن بايع تحت الشّجرة)) [2] ، وقال عزّ وجلّ: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وقال عزّ وجلّ: لِلْفُقَرَاء الْمُهَـ?جِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـ?رِهِمْ وَأَمْو?لِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ?للَّهِ وَرِضْو?نًا وَيَنصُرُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لصَّـ?دِقُونَ وَ?لَّذِينَ تَبَوَّءوا ?لدَّارَ وَ?لإيمَـ?نَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى? أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [الحشر:8، 9]، وقال عزّ وجلّ: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ?للَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَـ?هُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ?لسُّجُودِ [الفتح:29]، روى البخاريّ عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((خير أمّتي قرني، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم)) قال عمران: فلا أدري أذَكرَ بعد قرنه قرنين أو ثلاثًا [3]. وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تسبوا أحدًا من أصحابي، فإنّ أحدَكم لو أنفق مثل أحدٍ ذهبًا ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفَه)) [4].
إنّ الخيرَ كلّ الخير في ما كان عليه أصحاب رسول الله ، هم من حفِظ الله بهم كتابَه أمينًا عن أمين، حتّى أدّوا أمانةَ ربّهم.
تفرّغ فريق من الصّحابة لحمل أمانةِ السنّة، وذرعوا أقطارَ الأرض لينشروها، وآخرون حملوا أمانةَ الخلافة والرّعاية والجهادِ والحقوق، وعملوا على نقل الأمَم إلى الإسلام، يعرّبون ألسنتَها، ويطهِّرون نفوسَها، ويسلكونها طريقَ الله المستقيم، وقد بارك الله في أوقاتهم، وأتمّ على أيديهم في مائة سنة ما لم يتحقّق لغيرهم، كانوا سبّاقين للنّاس في كلّ خير، في ميدان الجهاد، في ميدانِ الدّعوة، في ميدان البَذل والعطاء، في ميدان النّوافل والعبادة، فرضي الله عن الصّحابة أجمعين.
نصَروا رسولَ الله في غزواته وحروبِه، بايَعوا على بذلِ أنفسهم في سبيل الله، أخرج البخاريّ عن أنس رضي الله عنه قال: خرج رسول الله إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداةٍ باردة، فلم يكن لهم عبيدٌ يعملون ذلك لهم، فلمّا رأى ما بهم مِن النصَب والجوع قال : ((اللهمّ إنّ العيش عيش الآخرة، فاغفِر للأنصار والمهاجِرة)) [5].
نال الصحابة رضي الله عنهم شرفَ لقاء النبيّ ، فكان لهم النصيب الأوفى من محبّته وتعظيمه، سُئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف كان حبُّكم لرسول الله ؟ قال: كان ـ والله ـ أحبَّ إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمّهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ.
سأل أبو سفيان بن حرب ـ وهو على الشّرك حينذاك ـ زيدَ بن الدّثِنّة رضي الله عنه حينَما أخرجه أهل مكّة من الحرم ليقتلوه وقد كان أسيرًا عندهم: أنشدك بالله يا زيد، أتحبُّ أنّ محمّدًا الآن عندنا مكانَك نضرب عنقَه وأنّك في أهلك؟ قال: والله، ما أحبّ أن محمّدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنّي جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيتُ مِن النّاس أحدًا يحبّ أحدًا كحبّ أصحاب محمّد محمّدًا [6].
حكّم الصحابة رضي الله عنهم رسولَ الله في أنفسهم وأموالهم فقالوا: هذه أموالنا بين يدَيك فاحكُم فيها بما شئت، هذه نفوسنا بين يديك لو استعرضتَ بنا البحرَ لخضناه نقاتِل بين يديك ومن خلفك، وعن يمينك وعن شمالك. وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: وما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من رسول الله ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئِلت أن أصفَه ما أطقتُ، لأنّي لم أكن أملأ عيني منه [7].
نحن نحبّ أصحابَ رسول الله ، ولا نفرّط في حبّ أحدٍ منهم، ولا نتبرّأ من أحدٍ منهم، ولا نذكرهم إلا بالخير، ونشهد لجميع المهاجرين والأنصار بالجنّة والرضوان والتّوبة والرحمة من الله، ويجب أن يستقرَّ علمك وتوقِن بقلبك أنّ رجلاً رأى النبيّ وشاهده وآمن به واتّبعه ولو ساعة من نهار أفضل ممّن [لم] يرَه ولم يشاهده، ثمّ التّرحّم على جميع أصحاب رسول الله صغيرهم وكبيرهم أوّلِهم وآخرهم وذكر محاسنِهم ونشر فضائلهم والاقتداء بهديِهم والاقتفاء لآثارهم، نكفّ عمّا شجر بين أصحاب رسول الله ، فقد شهدوا المشاهدَ معه، وسبقوا النّاس بالفضل، غفر الله لهم، وأمر بالاستغفار لهم والتقرّب إليهم وبمحبّتهم، فرضَ ذلك على لسان نبيّه ، فلا يتتبّع هفواتِ أصحابِ رسول الله وزللَهم إلاّ مفتون القلبِ في دينه.
إنّ هذه الآثار المرويّة في مساويهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيدَ فيه ونقص فغيِّر عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون، إمّا مجتهدون مصيبون، وإمّا مجتهدون مخطِئون، ثمّ إنّ القدر الذي يُنكَر من فعلِ بعضِهم قليل ونزر مغفور في جنب فضائلِ القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهادِ في سبيله والهجرةِ والنُّصرة والعلم النافع والعمل الصالح.
لا يُسأل عن عدالة أحدٍ من الصّحابة، بل ذلك أمرٌ مفروغ منه؛ لكونِهم على الإطلاق معدّلين بنصوص الكتاب والسنّة وإجماع من يُعتَدُّ به [في] الإجماع [مِن] الأمّة، ومِن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا: ((آية الإيمان حبُّ الأنصار، وآية النّفاق بغض الأنصار)) أخرجه البخاري [8] ، وأخرج مسلم من حديث أبي سعيد رفعه: ((لا يبغضُ الأنصارَ رجلٌ يؤمن بالله واليوم الآخر)) أخرجه مسلم [9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (1/379)، وأخرجه أيضا الطيالسي (246)، والبزار (1702) مختصرا، والطبراني في الكبير (9/112)، والبيهقي في الاعتقاد (ص322)، قال الهيثمي في المجمع (1/178): "رجاله موثقون"، وحسنه الألباني في تعليقه على شرح الطحاوية (ص672).
[2] أخرجه أحمد (3/350)، وأبو داود في السنة (4653)، والترمذي في المناقب (3860)، والنسائي في الكبرى (11508) من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4802)، وهو في صحيح سنن أبي داود (3889). وأخرجه مسلم في فضائل الصحابة (2496) من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن أم مبشّر رضي الله عنها بنحوه.
[3] أخرجه البخاري في المناقب (3650) واللفظ له، ومسلم في فضائل الصحابة (2535).
[4] أخرجه البخاري في المناقب (6373)، ومسلم في فضائل الصحابة (2541) واللفظ له.
[5] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2834) واللفظ له، ومسلم في الجهاد والسير (1805).
[6] أخرجه الطبري في تاريخه (2/78-79)، وانظر: السيرة النبوية (2/172).
[7] أخرجه مسلم في الإيمان (121).
[8] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (17)، وأخرجه أيضا مسلم في الإيمان (74).
[9] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (77).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدَ الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليّ الصابرين، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله إمام المتّقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
إخوةَ الإسلام، أفضلُ الصّحابة الخلفاءُ الأربعة، ثمّ بقيّة العشرة المبشّرين بالجنة، قال : ((خير هذه الأمّة بعد نبيّها أبو بكر ثمّ عمر)) [1] ، وقال : ((اقتَدوا باللّذَين من بعدي: أبي بكر وعمر)) [2] ، وفي صحيح مسلم أنّ أصحاب النبيّ كانوا في سفر فقال : ((إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا)) [3] ، وفي صحيح البخاري عن محمد بن الحنفيّة أنّه قال لأبيه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أبتِ، مَن خير النّاس بعد رسول الله ؟ قال: أوَما تعلم يا بنيِّ؟! قلت: لا، قال: أبو بكر [4].
أنزل الله في فضائلِ أبي بكر رضي الله عنه آياتٍ من القرآن، قول الله عزّ وجلّ: وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ?لْفَضْلِ مِنكُمْ وَ?لسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ [النور:22]، لا خلافَ أنّ ذلك في أبي بكر رضي الله عنه، فنعته بالفضلِ رضوان الله عليه، وقال تعالى: ثَانِيَ ?ثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ?لْغَارِ [التوبة:40]، لا خلاف أيضًا أنّ ذلك في أبي بكر رضي الله عنه، شهِد له ربّ العالمين بالصّحبة، وبشّره بالسّكينة، وحلاّه بثاني اثنين كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من يكون أفضل ثانِي اثنين الله ثالثهما؟!، وقال : ((ما نفعني مالٌ قطّ ما نفعني مال أبي بكر)) ، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: هل أنا ومالي إلاّ لك يا رسول الله؟! [5].
وفي عمر رضي الله عنه يقول النبيّ كما في صحيح البخاري: ((ما لقيَك الشيطان سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غيرَ فجِّك)) [6] ، ويقول : ((قد كان في الأمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمّتي منهم أحدٌ فإنّ عمرَ بن الخطاب منهم)) أخرجه مسلم [7]. ومعنى محدَّثون أي: ملهَمون. وعمر رضي الله عنهم مُلهَم، قد جاء القرآن بموافقته، فقد نصح رسولَ الله أن يحجب نساءَه، وقال: يا رسول الله، لو اتّخذتَ من مقام إبراهيم مصلَّى، وقال له في شأن الأسرى، فأنزل الله القرآنَ بموافقة عمر الملهَم. وهكذا أيضًا فتح الله الفتوحاتِ على يدِ عمر. وعن جابر قال: قيل لعائشة رضي الله عنها: إنّ ناسًا يتناولون أصحابَ رسول الله حتّى أبا بكر وعمر، فقالت: وما تعجَبون من هذا؟! انقطع عنهم العملُ، فأحبَّ الله أن لا ينقطعَ عنهم الأجر [8].
أمّا عثمان بنُ عفّان فقد جاء إلى النبيّ بألف دينار في ثوبه ليجهّز النبيّ جيشَ العسرة، قال: فصبّح في حجر النبيّ ، فجعل النبيّ يقلّبها بيده ويقول: ((ما ضرّ ابنَ عفان ما عمل بعد اليوم)) يردّدها مرارًا [9].
وفي عليّ رضي الله عنه قال رسول الله في غزوة تبوك: ((لأعطينّ الراية غدًا رجلاً يفتَح الله على يدَيه، يحبّ اللهَ ورسوله، ويحبّه الله ورسولُه)) ، فبات الناس ليلتَهم أيّهم يُعطى، فغدوا كلّهم يرجوه، فقال: ((أين علي؟)) فقيل: يشتكي عينيه، فبصق في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجَع، فأعطاه فقال: أقاتلهم حتّى يكونوا مثلَنا، فقال: ((انفُذ على رسلك حتّى تنزل بساحتِهم، ثمّ ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم)) [10].
إخوةَ الإسلام، الصحابة كلُّهم مِن أهل الجنّة، قال تعالى: لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ?لْفَتْحِ وَقَـ?تَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ ?لَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَـ?تَلُواْ وَكُلاً وَعَدَ ?للَّهُ ?لْحُسْنَى? [الحديد:10].
ألا وصلّوا ـ عبادَ الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] هذا الكلام ثابت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من طرق كثيرة، منها ما أخرجه البخاري في المناقب (3671). وأما المرفوع فقد أخرج البخاري في المناقب (3655) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نخيّر بين الناس في زمن النبي فنخيّر أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم، ولفظ أبي داود في السنة (4628): كنا نقول ورسول الله حيّ: أفضل أمة النبي بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم أجمعين، زاد ابن أبي عاصم في السنة (1193)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1357)، والخلال في السنة (578)، والطبراني في الكبير (12/285) وغيرهم: ويسمع ذلك النبي فلا ينكره، وصححها الألباني في ظلال الجنة (2/568).
[2] أخرجه أحمد (5/382)، والترمذي في المناقب (3662، 3663، 3799)، وابن ماجه في المقدمة (97) من حديث حذيفة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن حبان (9602)، والحاكم (4451، 4452، 4453، 4455، 4456)، والحافظ في التلخيص الحبير (4/190). وله شاهد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه الترمذي في المناقب (3805)، وصححه الحاكم (4456)، قال ابن كثير في تحفة الطالب (ص165): "في سنده يحيى بن سلمة بن كهيل وهو ضعيف". وانظر: السلسلة الصحيحة (1233).
[3] صحيح مسلم: كتاب المساجد (681) عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[4] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3671) بنحوه.
[5] أخرجه أحمد (2/253، 366)، والترمذي في المناقب (3661)، وابن ماجه في المقدمة (94) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (6858)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (77).
[6] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3683)، وأخرجه أيضا مسلم في فضائل الصحابة (2397) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[7] صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2398) من حديث عائشة رضي الله عنها. وأخرجه البخاري في المناقب (3689) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (11/276).
[9] أخرجه أحمد (5/63)، والترمذي في المناقب (3701)، والطبراني في الأوسط (9226) من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (4553)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2920).
[10] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (3009)، ومسلم في فضائل الصحابة (2406) عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
(1/2778)
عزّة المسلم
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
7/8/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم نعمة الهداية. 2- من محاسن الإسلام. 3- فضل النبي. 4- فضل أمة الإسلام. 5- الحث على التمسك بالإسلام والاعتزاز به. 6- التحذير من الضعف والانهزامية. 7- صورة من ثبات السلف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ أعظم نعمةٍ أنعم الله بها على عبدٍ من عباده هدايتُه للإسلام، فمن هداه الله للإسلام فقد منحه أعظمَ النّعم وأكبرَها وأجلَّها، فلا نعمةَ أعظم مِن نعمة الإسلام.
فمَن هداه الله للإسلام فعرف ربَّه ودينَه ونبيَّه واستقام على هذا الدّين، فليحمَد الله على هذه النعمة، وليقل: الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنَّا لنهتديَ لولا أن هدانا الله، فإنّ الله جلّ وعلا يهدي من يشاء بفضله، ويضلّ من يشاء بعدله، وله الحكمة البالغة في ذلك.
أيّها المسلم، فاشكرِ الله على هذه النعمة، وسلِ اللهَ الثباتَ على ذلك والاستقامةَ عليه.
أيّها المسلم، دينُك دين الإسلام، دينُ العقيدة الصّحيحة، دين السّماحة والمعاملة والأخلاق الكريمة، دينٌ تكفَّل الله بحفظه فلم يكِلْه إلى الخلق، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر:9]. دينٌ ضُمِن له البقاء إلى أن يرِث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، وفي الحديث عنه : ((ولا تزال طائفةٌ من أمّتي ظاهرين على الحقّ، لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتّى يأتي أمر الله)) [1]. دينٌ أوحاه الله إلى نبيّه من فوق سبع سموات، وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ نَزَلَ بِهِ ?لرُّوحُ ?لأمِينُ عَلَى? قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ?لْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ [الشعراء:192-195]. دينٌ مصدرهُ الوحيان: الكتاب والسنة، وَمَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم:3، 4]، دينٌ أكمله الله وأتمّه ورضيه، ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]، قُلْ بِفَضْلِ ?للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]. دينُ الإسلام أعظمُ الأديان وأفضلُها على الإطلاق، دستورك الكتابُ والسنّة، كلامُ الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيم حميد. مرجعُ الخلق عند التنازع، فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ?للَّهِ وَ?لرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ [النساء:59]، وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء [النحل:89]. دينُ الفطرة، فِطْرَةَ ?للَّهِ ?لَّتِى فَطَرَ ?لنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ?للَّهِ [الروم:30]، و((ما من مولود إلا يولَد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه)) [2].
أيّها المسلم، رسولُك الذي أرسله الله إليك وختَم برسالته الأنبياءَ والمرسلين هو خيرُ البشر وأفضلُهم على الإطلاق، يقول : ((أنا سيّدُ ولد آدم ولا فخر)) [3]. نبيُّك محمّد إرسالُه من أكبر المِنن على الخلق، وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]، لَقَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164].
نبيٌّ أخذ الله الميثاق على الأنبياء مَن أدرك منهم محمّدًا آمن به واتّبعه، وأخذوا المواثيقَ على قومهم مَن أدرك هذا النبيّ آمن به واتّبعه، وَإِذْ أَخَذَ ?للَّهُ مِيثَـ?قَ ?لنَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَـ?بٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى? ذ?لِكُمْ إِصْرِى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَ?شْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ ?لشَّـ?هِدِينَ [آل عمران:81].
نبيٌّ حرص على هداية أمّته ودلالتهم على الخير، فلا خيرَ يعلمه إلا دلّ أمّتَه عليه، ولا شرَّ يعلمه إلا حذّر أمّته منه، تركَهم على المحجَّة البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك. رحيمٌ بأمّته يعزّ عليه ما يُعنتهم، لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]. طاعتُه طاعةٌ لله، ومعصيتُه معصيةٌ لله، مَّنْ يُطِعِ ?لرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ?للَّهَ وَمَن تَوَلَّى? فَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء:80]. يحكِّم المسلم سنّتَه، ويرضى بها، ويطمئنّ إليها، وينشرح صدره بذلك، فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:65]. ما قضى به النبيُّ فالمؤمن من يراه حقًّا ولا اختيارَ له في ذلك، بل السمع والطّاعة واجبٌ عليه، قال الله جلّ وعلا: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].
دينُ الإسلام أهله هم أولياءُ الله، والله وليُّهم ومؤيّدهم، ?للَّهُ وَلِيُّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ [البقرة:257]. هو أهلٌ لكلّ فضيلة قال جلّ وعلا: إِنَّ أَوْلَى ?لنَّاسِ بِإِبْر?هِيمَ لَلَّذِينَ ?تَّبَعُوهُ وَهَـ?ذَا ?لنَّبِىُّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَ?للَّهُ وَلِىُّ ?لْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68].
أيّها المسلم، لئن تفاخر النّاس بأموالهم أو افتخروا بأنسابهم وأحسابهم أو بما أوتوا من علم ومعرفة، فكلّ ذلك عرَض زائل إذا خلا ذلك من الإسلام، زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ?لشَّهَو?تِ مِنَ ?لنّسَاء وَ?لْبَنِينَ وَ?لْقَنَـ?طِيرِ ?لْمُقَنطَرَةِ مِنَ ?لذَّهَبِ وَ?لْفِضَّةِ وَ?لْخَيْلِ ?لْمُسَوَّمَةِ وَ?لأنْعَـ?مِ وَ?لْحَرْثِ ذ?لِكَ مَتَـ?عُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?للَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ?لْمَآبِ [آل عمران:14].
أيّها المسلم، أنت تحمل أعظمَ دين، وتنتسب إلى أفضلِ ملّة، فاعرِف قدرَ نفسك، واعرف قدرَ هذا الدّين الذي تنتسب إليه، تمسَّك به عِلمًا وعَملا، ظاهرًا وباطنًا، عقيدةً وعبادة وأخلاقًا ومعاملة، واعتقِد أنّه الحقُّ الذي لا يقبل الله من أحدٍ دينًا سواه، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85]. كن عزيزًا بدينك، بتمسُّكك به وعملك به، وأدائك لشعائره ورضاك به وطمأنينتك بذلك، فالله يقول: وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8].
أيّها المسلم، هذا دينُ الإسلام، دينُ الخير والعدل، دينُ الرحمة، دينُ السّعادة في الدّنيا والآخرة، فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:123، 124]، مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].
فتمسّك بهذا الدّين، واعلم أنّه الدّينُ الحقّ، نسخ الله به كلَّ الأديان، وجعل الإسلامَ وصفًا خاصًّا بهذا الدّين بعد مبعَث محمّد. وهذه الأمّةُ المحمّدية خيرُ الأمم وأفضلها وأكرمُها على الله، إذا تمسّكت بهذا الدّين وقامت به علمًا وعملاً، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110].
فاشكروا اللهَ على نعمةِ الإسلام، اشكروه إذ هداكم وقد أضلّ عن ذلك الأكثرين، وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ?لْجِنّ وَ?لإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَ?لأنْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْغَـ?فِلُونَ [آل عمران:179].
فاحمدِ الله على هذه النّعمة، واشكر الله عليها بقلبك ولسانك وجوارحك، واسأل الله أن لا يزيغَ قلبك بعد إذ هداك، وأن يرزقك الاستقامةَ إلى أن تلقاه، إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت:30، 31].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإمارة (1920) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الجنائز (1358، 1359، 1385)، ومسلم في القدر (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (3/2)، والترمذي في المناقب (3615)، وابن ماجه في الزهد (4308) واللفظ له من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان، لكن للحديث شواهد كثيرة ولذا صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3477).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحابته ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيّها المسلم، إنّ ممّا يعينك على العمل بهذا الدّين والاستقامة عليه إذا أيقنتَ حقًّا أنّ هذا دينُ الله الذي شرعه على لسان نبيّه ، شَرَعَ لَكُم مّنَ ?لِدِينِ مَا وَصَّى? بِهِ نُوحًا وَ?لَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى? وَعِيسَى? أَنْ أَقِيمُواْ ?لدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ [الشورى:13]، إذا أيقنتَ أنّ هذا الدّين حقّ لا شكّ فيه، ذَلِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْحَقُّ [لقمان:30]، أيقنتَ أنك على الطريق المستقيم والمنهج القويم، فتزداد إيمانًا ويقينًا.
أيّها المسلم، المسلمُ حقًّا عزيزٌ بهذا الدين، قويّ بهذا الدين، النصرُ حليفه إن صدق اللهَ في تعامله، وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لأمُورِ [الحج:40، 41].
أيّها المسلم، ممّا يؤسَف له أنّ بعضَ ضعفاء الإيمان وقليلي اليقين مِن المنتسبين إلى الإسلام، إذا غادر بلادَ الإسلام أو عاش خارجَ ديار الإسلام أو ضمّه مجلسٌ فيه مسلمون وغير مسلمين، ترى بعضَ ضعفاء الإيمان يستحي أن ينتسبَ للإسلام، ويخجَل أن يعمَل بتعاليم الإسلام، ويستحي أن يكفَّ عن المحرّمات في الإسلام، ربّما انتهك المحرّماتِ مجاملةً لجلسائه وأصحابه من غير المسلمين، وتهاون بها واستخفّ بها، ولا يعلم أنّ هذا قدحٌ في إيمانه. يكون بينَ أعداء الإسلام خارجَ بلاد المسلمين فيستحي أن يظهرَ شعائر دينِه، ويستحي أن يُعلنَ مبادئه التي نشأ عليها وعقيدته التي يطمئنّ إليها، يستحي أن يدعوَ إلى الله، ويخجَل أن يبيّن الحقّ الذي يعتقده، ويجامل الناسَ على حساب دينه، تلك انهزاميّةٌ من بعض أبناء المسلمين وضعفُ شخصيّةٍ وقلّة ثقةٍ بالله ووعده الصادق.
أيّها المسلم، فدينُك عزيزٌ عليك، فاحمدِ الله عليه، وأعلِنه دائمًا وادعُ إليه في كلّ المناسبات، وأظهِر تمسّكك به وثباتك عليه، وإنّ العزةَ والنصرَ لك عاجلاً وآجلاً. أمّا أن تخجَلَ أن تقول: أنا مسلم، وتخجَل أن تقول: هذا حرَّمه ديننا، أو هذا أوجبه إسلامنا، فهذا دليل على الضعف والوهن، والله يقول: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139]. فدينك الذي أكرمك الله به أعلِنه وأظهره، تمسَّك به حقَّ التمسّك دونَ أن تجاملَ على حساب دينك، كُفَّ عمّا حرم الله عليك؛ لأنّ هذا دليلٌ على اقتناعك، نفِّذ الواجبات وأدِّ الواجبات وأظهر خُلُق الإسلام ومحاسنَه وفضائله لتكونَ من المؤمنين حقًّا، أمّا أن تخجَلَ أمامهم وتنخدعَ بقوّتهم وتظنَّ أنّ ذلك أمر يسيرٌ، لا، هذه انهزاميّة وضعف، والواجب على المسلم أن يتمسَّك بدينه ظاهرًا وباطنًا، وفي أيّ بيئة وأيّ أرض، فدينه عزيزٌ عليه، غالٍ في نفسه، فهو أشرف شيء وأعظمه في نفسه، وهو الدّليل على تمسُّكك بالإسلام.
بعض أخواتنا المسلمات عندما يغادرنَ ديارَ الإسلام الحجاب يرفُضنَه ويخرجن سافراتٍ غيرَ متحجبات، لماذا؟ يقلن: إنّنا إذا ارتدينا الحِجابَ في تلك الدّيار صِرنا رَمزًا للاحتقار والامتهان والإشارة إلينا إلى غير ذلك من الشّبَه التي يلقيها الشيطان على مسامع أولئك. فلتعلم المرأة المسلمة، وليعلم الرّجل المسلم أنّ التمسّكَ بالدين عزٌّ وكرامة وشرف ورفعة في الدّنيا والآخرة، وأنّك إن تمسّكتَ به وإن نلتَ ما نِلتَ يومًا من شيء مِن المضايقات فالعاقبة للتقوى، العاقبة للمتّقين.
يستحي البعض مِن النّاس أن يقولَ: الفوائد الرّبوية حرام في الإسلام، ويخجَل أن يقول: هذا ربًا محرّم، هذا خمر محرّم، هذا خنزير محرّم، يخجَل أن يقولها أمام أعداء الإسلام، هذه انهزاميّة في حقّك أيّها المسلم، والواجب تقوى الله والتمسّك بهذا الدين والدعوة إليه وأن تدعوَ إليه بحكمةٍ وموعظة ورفق في أمورك كلِّها، فإنّ الله سيجعل لك من كلّ همّ فرجًا، ومن كلّ ضيق مخرجًا، ومن كلّ بلاء عافية. المهمّ الصدقُ مع الله في التعامل، فَلَوْ صَدَقُواْ ?للَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ [محمد:21]، لو تمسّكوا بدينهم لكان تمسّكهم بدينهم عزًّا ورفعة لهم في الدنيا والآخرة.
يذكر المفسّرون عند تفسير قول الله جلّ وعلا في سورة النحل: مَن كَفَرَ بِ?للَّهِ مِن بَعْدِ إيمَـ?نِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِ?لإِيمَـ?نِ [النحل:106]. قالوا: إنّ عبد الله بن حذافة الصّحابي أُسِر في إحدى المعارك بين المسلمين وبين الرّوم، فلمّا أسروه عرضوا عليه التنصّر والخروجَ من دينه فأبى وامتنع، منعوه الطعامَ والشراب فأبى وامتنع، أدخلوا إليه الخمر والخنزير بعد طول الظمأ والجوع فقال: والله، إنّها لحلال لأنّي عند الضرورة ولكن لن أشمِتكم بديني، أحْضروا بعضَ المسلمين فقتلوهم أمامَه وألقوهم في النّار فتمزّقت أشلاؤهم عسى أن يرتدّ عن دينه فأبى وأصرّ على التمسّك بدينه، فلمّا حاولوا كلَّ المحاولات ورأوا رجلاً صلبًا في معتقده قويًّا في إيمانه واثقًا بربّه ونصره وتأييده، قال له قائد الروم: لن أطلقَ سراحك حتّى تقبّل رأسي، قال: وتطلق سائرَ أسرى المسلمين معي؟ قال: نعم، قال: إذًا أقبّل رأسَك لتطلق أسرى المسلمين كلّهم، فلمّا أطلِق سراح الأسرى وقدموا المدينةَ استقبله أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه استقبالاً عظيمًا وقال: حقٌّ على كلّ مسلم أن يقبّل رأسَ عبد الله بن حذافة وأنا أوّلكم، فقبّل عمر رأسَه [1] ، لماذا؟ لأنّه أظهر الثقةَ بإسلامه والتمسّك بدينه والثباتَ عليه.
نسأل الله لنا ولكم الثباتَ على الحقّ والاستقامةَ على الهدى والعافية من البلاء، إنّه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على سيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين كما أمركم ربّ العالمين ، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
فقولوا: اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد.
اللهمّ ارض عن خلفاء نبيّك الخلفاء الراشدين...
[1] أخرجه البيهقي في الشعب (2/244-245) بنحوه.
(1/2779)
إياكم ومحدثات الأمور
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
14/8/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب اتباع النبي. 2- التحذير من الابتداع في الدين. 3- بدعة الاحتفال بالنصف من شعبان. 4- المراد بالليلة المباركة. 5- كل بدعة ضلالة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، قال الله تعالى: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الحشر:7]، وقال عزّ شأنه: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:30].
فكلُّ ما يصدر من المسلم ـ يا عباد الله ـ يجب أن يوزَنَ بهذا المِعيار الرّبّانيّ الخالد، ألا وهو طاعة رسول الله فيما جاء به، واتّباعه فيما أمرَ به ونهى عنه. وإنّ رسولَ الرّحمة والهدى صلوات الله وسلامه عليه قد نهانا عن الإحداثِ والابتداع في دين الله بأن نعبدَ الله بما لم يشرَعه ولم يأذن به، كما جاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنّ النبيّ كان يقول في خطبة الجمعة: ((أمّا بعد: فإنّ خيرَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة)) أخرجه مسلم في صحيحه [1] ، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنّ النبيّ قال: ((من أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)) [2] ، وفي لفظ لمسلم رحمه الله: ((من عمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ)) [3].
وفي هذا بيانٌ أنّ اللهَ تعالى قد أكمل لهذه الأمّة الدينَ وأتمَّ عليها النعمة، ولم يقبِض نبيَّه صلوات الله وسلامه عليه إلاّ بعد أن بيَّن للأمّة كلَّ ما شرعَه لها من الأقوال والأعمال، ومِن ذلك بيانُه أنّ كلَّ ما يحدِثه الناس بعده من أقوال وأعمالٍ هو مبتدَع مردود على مَن ابتدعه وأحدثه كائنًا من كان وإن نَسبه إلى الإسلام، وإن حسُن قصدُه في ذلك، فكلّ ذلك لا يغيِّر من بِدعيَّة هذا العمل المحدَث، ولا يعطيه حجّيةً ولا قبولاً.
وإنّ ممّا ابتدعه بعض النّاس في شهر شعبانَ هذا بدعةَ الاحتفال بليلة النّصف منه وتخصيصَ يومِها بالصّيام وتخصيصَ ليلها بالقيام، وكِلا الأمرين لم يقُم عليه دليلٌ صحيح ينهَض للاحتجاج، إذ إنَّ كلّ ما ورد في فضلِ هذه الليلة وفي فضل الصلاة فيها أو فضل صيامِها هو ما بَين موضوع مخترَعٍ لا أصلَ له، وبين ضعيفٍ واهن لا يُحتَجّ بمثله، وفي ذلك قال الحافظ العراقي رحمه الله: "حديثُ صلاة ليلةِ النّصف من شعبان موضوع على رسول الله وكذبٌ عليه"، وقال العلاّمة الإمام النوويّ رحمه الله: "الصّلاة المعروفةُ بصلاةِ الرغائب، وهي اثنتا عشرةَ ركعة بين المغرب والعشاء ليلةَ أوّل جمعة من رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة، هاتان بدعتان منكرَتان، لا يُغترّ بذكرهِما في بعض المصنّفات ولا بالحديث المذكور فيهما، فإنّ كلَّ ذلك باطلٌ" انتهى كلامه رحمه الله [4]. وكِلا الإمامين الكبيرين ـ يا عباد الله ـ هما من الأعلام المشاهير المحقّقين في مذهبِ الإمام الشافعيّ رحمه الله.
وكذا صنّف الإمام أبو محمّد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسيّ كتابًا هامًّا في إبطال هاتين الصلاتين وبيان بدعيّتهما، فأحسَن فيه حتّى لم يدَع زيادةً لمُستزيد.
وعلى تقدير أنّها ليلةٌ مفضَّلة، يعني على القولِ بأنها ليلة مفضّلة إن سلَّمنا بذلك، فإنّ هذا لا يقتضي تخصيصَها بعبادةٍ مخصوصة بها دون غيرها، فإنّ يومَ الجمعة هو خير يومٍ طلعت عليه الشّمس كما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ قال: ((خيرُ يوم طلعت عليه الشّمس يوم الجمعة، فيه خُلِق آدم، وفيه أدخِل الجنّة، وفيه أخرِج منها، ولا تقوم السّاعة إلاّ في يومِ الجمعة)) أخرجه مسلم في صحيحه [5] ، ومع هذا الفضلِ العظيم له ـ يعني ليوم الجمعة ـ فقد نهى النبيّ عن تخصيصه بصيامٍ أو تخصيصِ ليله بقيامٍ كما ثبت في صحيح مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه قال: قال رسول الله : ((لا تخصُّوا ليلةَ الجمعة بقيامٍ من بين الليالي، ولا تخصّوا يومَ الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكونَ في صومٍ يصومه أحدكم)) [6] ، فلو كان تخصيصُ شيء من هذه الليالي بشيء من العبادة جائزًا لكانت ليلةُ الجمعة أولى بذلك من سواها.
أمّا الليلة المباركة الوارِدة في قوله عزّ اسمه: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـ?رَكَةٍ [الدخان:3] فهذه الليلة هي ليلة القدر، وليست هي ليلة النّصف من شعبان، كما بيّنت آية سورة القدر: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ [القدر:1]، وهذه الليلةُ التي ورد الكلام عليها في قوله: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ هي في رمضان لا في شعبان كما هو معلومٌ يا عباد الله.
فاتّقوا الله عبادَ الله، واحرِصوا على العمل بالثّابت المشروع، وحذارِ من الانسياق وراءَ المبتدَع المحدَث مهما زيّنه المزيّنون وزخرفه المزخرفون؛ إذ لا عبادةَ إلاّ بما شرَع الله ورسوله ، فاتّبعوا ـ أيها المسلمون ـ ولا تبتدِعوا فقد كُفِيتم.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنّة نبيّه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الجمعة (867).
[2] صحيح البخاري: كتاب الصلح (2697)، صحيح مسلم: كتاب الأقضية (1718).
[3] صحيح مسلم: كتاب الأقضية (1718).
[4] المجموع شرح المهذب (4/61).
[5] صحيح مسلم: كتاب الجمعة (854).
[6] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1144).
_________
الخطبة الثانية
_________
إنّ الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله، اللهمّ صلّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبه.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي وابن ماجه في سننهم بإسنادٍ صحيح عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أنه قال: وعظنا رسول الله موعظةً وجِلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنّها موعظة مودِّع فأوصِنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعةِ وإن تأمّر عليكم عبد، وإنّه من يعِش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإنّ كلَّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة)) [1] ، فقوله صلوات الله وسلامه عليه: ((وكلّ بدعة ضلالة)) هو ـ كما قال أهل العلم ـ من جوامِع الكلم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصلٌ عظيم من أصول الدين، وهو كقوله: ((من أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)) ، فكلّ من أحدث شيئًا ونسبَه إلى الدّين ولم يكن له أصلٌ من هذا الدين يُرجع إليه فهو ضلالة والدّين منه بريء، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة.
ألا فاتّقوا الله عبادَ الله، وحذارِ من الابتداع فإنّه شؤمٌ منذرٌ بسوء العاقبة، واستمسكوا بالثّابت المشروع من دينكم، فإنّ العملَ بالسنّة يُمنٌ وبركة ومآل كريم ورضوانٌ من الله ربِّ العالمين.
واذكروا على الدّوام أنّ الله قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدق الكلام: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...
[1] أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
(1/2780)
التحذير من أذية المسلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, الكبائر والمعاصي
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
14/8/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- متانة الروابط في المجتمع المسلم. 2- المنع من أذية المسلم والإضرار به. 3- أذية المسلم سبب لسخط الله تعالى. 4- عظم جرم أذية الجار والرجل الصالح. 5- فضل دفع الأذى عن المسلمين. 6- سوء عاقبة المؤذين. 7- الحث على الرفق بالرعية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فهي خير زاد.
عبادَ الله، لقد بَنى الإسلام أُسسَه في تنظيم العلاقةِ الاجتماعية بين بني المجتمع على قواعدَ مُثلى وركائزَ فضلى في مثلِ قوله تعالى: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ونحو قوله : ((لا تحاسدوا، ولا تناجَشوا، ولا تباغَضوا، ولا يبِع بعضكم على بيعِ بعض، وكونوا عبادَ الله إخوانا، المسلمُ أخو المسلم، لا يظلِمه، ولا يحقرُه، ولا يخذُله، التّقوى ها هنا ـ فأشار بيده إلى صدره ثلاثًا ـ ، بحسب امرئٍ من الشّرّ أن يحقرَ أخاه المسلم، كلّ المسلم على المسلم حرام؛ دمُه وماله وعِرضه)) رواه مسلم [1] ، وفي مثلِ قولِه : ((لا يؤمِن أحدُكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه)) متّفق عليه [2] ، وفي نحو قوله عليه الصلاة والسلام: ((من أحبَّ أن يُزحزَح عن النار ويُدخَل الجنّة فلتأتِه منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى النّاس الذي يحبّ أن يؤتَى إليه)) رواه مسلم [3].
فتأسيسًا على ما تقدّم جاءت النّصوص المتضافرةُ في آيات قرآنيةٍ وأحاديثَ نبوية كلُّها تتضمّن المنعَ الأكيدَ مِن أذيّة المؤمن، والزجرَ الشديدَ من الإضرار بالمسلم بأيّ وجهٍ من الوجوه أو شكلٍ من الأشكال، القوليّة أو الفعليّة، الحسّيّة أو المعنويّة.
قال الله جلّ وعلا: وَ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بِغَيْرِ مَا ?كْتَسَبُواْ فَقَدِ ?حْتَمَلُواْ بُهْتَـ?نًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب:58]. قال أهل التفسير: "وهذا التّشديد لأنّه كان في المدينة يومذاك فريقٌ يتولّى هذا الكيدَ بالمؤمنين والمؤمِنات، بنشرِ قالةِ السّوء عنهم وتدبير المؤامرات لهم وإشاعة التّهَم ضدّهم، وهو ـ أي: هذا التحريم والتّشديد ـ عامّ في كلّ زمان وفي كلّ مكان، والمؤمنون والمؤمنات عُرضةٌ لمثل هذا الكيدِ في كلّ بيئة من الأشرارِ المنحرفين والمنافقين والذين في قلوبهم مرَض، والله جلّ وعلا يتولّى عنهم الردَّ على ذلك الكيدِ ويسِم أعداءَهم بالإثم والبُهتان وهو أصدق القائلين" انتهى.
ونبيّنا يحذّر من الأذى فيقول: ((إيّاكم والجلوسَ في الطرقات)) ، فقالوا: يا رسول الله، ما لنا بدّ في مجالسنا، نتحدّث فيها، فقال عليه الصلاة والسلام وهو الرحيم المشفِق: ((إذا أبَيتم إلاّ المجلس فأعطُوا الطريقَ حقَّه)) ، قالوا: وما حقُّ الطريق يا رسول الله؟ قال: ((غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السّلام، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر)) متفق عليه [4] ، ويقول : ((لا تسبّوا أمواتَنا فتؤذوا أحياءَنا)) أخرجه النسائيّ وسنده حسن [5].
معاشرَ المسلمين، أذيّة المؤمنين وإحداثُ ما فيه إضرارُهم سببٌ عظيم لسخط المولى جلّ وعلا ومقتِه وعذابه وغضبِه، قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا كنتم ثلاثةً فلا يتناجَى اثنان دون صاحبِهما، فإنّ ذلك يُحزِنه)) [6] ، وفي رواية: ((فإنّ ذلك يؤذي المؤمنَ، والله يكرَه أذَى المؤمن)) [7] أخرجه الترمذي وقال: "حديث صحيح". وصعد المنبرَ فنادى بصوتٍ رفيع فقال: ((يا معشرَ من أسلم بلسانِه ولم يفضِ الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلِمين، ولا تعيّروهم، ولا تتَّبعوا عوراتِهم، فإنّه من تتبّع عورةَ أخيه المسلم تتبّع الله عورتَه، ومن تتبّع الله عورتَه يفضحه ولو في جوفِ رحله)) ، ونظر راوي الحديث ابنُ عمر رضي الله عنهما يومًا إلى البيتِ أو إلى الكعبة فقال: (ما أعظمَك وأعظمَ حرمتَك، والمؤمن أعظمُ حرمةً عند الله منك) والحديث سنده حسن [8].
يقول الفضيل رحمه الله: "لا يحلّ لك أن تؤذيَ كلبًا أو خنزيرًا بغير حقّ، فكيف بمن هو أكرم مخلوق؟!" [9] ، وعن قتادة: "إيّاكم وأذى المؤمن، فإنّ الله يحوطه ويغضب له" [10].
معاشرَ المسلمين، وهذه النصوص الآنفةُ تعمّ بدلالاتِها وتشملُ بعمومِها تحريمَ أذى المؤمنين وجماعاتهم، صغارهم وكبارَهم، رجالهم ونساءَهم، وتشمل أيضًا التحذيرَ من أنواع الأذى وصُوَر الإضرار في النّفس والبدن، في العِرض والمال، في أمورِ الدّين والدّنيا، يقول في الحديث المشهور الصّحيح: ((لا ضررَ ولا ضِرار)) [11] ، ويقول : ((المسلم من سلِم المسلمون من لسانِه ويده)) أخرجاه في الصحيحين [12].
عبادَ الله، ولقد بلغَت عناية الشريعة المحمّدية في منعِ أذى المؤمنين والتحذير من الإضرار بهم ولو كان القصد حسنًا والهدف نبيلاً، جاء رجلٌ يتخطّى رقابَ النّاس يومَ الجمعة والنبيّ يخطب، فقال عليه الصلاة والسلام له: ((اجلِس فقد آذيت)) رواه أبو داود والنسائي وإسناده حسن [13]. وإذا كان الأمر كذلك فكيف بالأذى المقصود والأذيّة المتعمَّدة لأجل الأغراض الشخصيّة والمنافع الدنيوية؟!
إخوةَ الإيمان، جُرمُ الأذى يزداد إثمًا وبهتانًا ويشتدّ عند الله كُرهًا ومقتًا حينما يتّجه إلى دارٍ مِن الجيران، أو يتوجّه لأحدٍ من الصالحين، فنبيّنا يقول: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره)) متفق عليه [14] ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنَّةَ من لا يأمن جارُه بوائِقه)) رواه مسلم واللفظ له ورواه البخاري أيضًا [15] ، وبوائقه أي: غوائله وشروره، ونبيّنا يحذّر تحذيرًا واضحًا صريحًا عن الأذيّة بعباد الله الصالحين، فيقول : ((إنّ الله جلّ وعلا يقول: من عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب)) الحديث [16].
إخوةَ الإسلام، دفعُ الأذى عن المسلم عندَ الله جلّ وعلا أمرٌ محمود وفعلٌ مرغوب، فنبيّنا وهو قائدُ الإصلاح والخير والبرّ يقول: ((عُرِضت عليّ أعمال أمّتي حسنُها وسيّئها، فوجدتُ في محاسن أعمالِها الأذى يُماط عن الطريق، ووجدتُ في مساوئ أعمالِها النخاعة تكون في المسجد لا تُدفَن)) أخرجه مسلم [17] ، وأخرج أيضًا في باب فضل إزالة الأذى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مرّ رجلٌ بغُصن شجرةٍ على ظهرِ طريقٍ فقال: والله، لأنحِّينّ هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأُدخِل الجنّة)) [18].
يقول أحد السّلف معبِّرًا عن منهاج النبوّة: "اجعَل كبيرَ المسلمين عندك أبًا، وصغيرَهم ابنًا، وأوسطَهم أخًا، فأيّ أولئك تحبّ أن تسيء إليه"، ويقول آخر: "ليكُن حظّ المؤمن منك ثلاثة: إن لم تنفعه فلا تضرَّه، وإن لم تُفرحه فلا تغمَّه، وإن لم تمدَحه فلا تذمَّه".
يا مَن لا يزال على أذيّة المسلمين قائمًا ولإحداث الضّرر بهم ساعيًا، تذكّر أنّ معهم سلاحًا بتّارًا، تذكّر أنّ الأذيّة ظلمٌ والإضرار بالمؤمنين بغيٌ، ولقد قال : ((واتّق دعوةَ المظلوم، فإنّه ليس بينها وبين الله حجاب)) [19].
دعا رجلٌ مِن السلف على امرأة أضرّته وأفسدَت عليه عِشرةَ امرأة له، فذهب بصرها في الحال، وكذَب رجلٌ على مطرّف بن عبد الله رحمه الله فقال له: "إن كنتَ كاذبًا فعجّلَ الله حتفَك"، فمات الرّجل مكانَه [20] ، وكان رجلٌ من الخوارج يغشَى مجلسَ الحسن البصري فيؤذيهم، فلمّا زاد في ذلك، قال الحسن: "اللهمّ قد علمتَ أذاه لنا فاكفِناه بما شئتَ"، فخرّ الرجل من قامتِه، فما حُمِل إلى أهله إلا ميتًا على سريره [21] ، ومع هذا فأكثرُ مَن كان مجابَ الدّعوة من السلف كان يصبِر على الأذى والبلاءِ ابتغاءَ الأجر والثّواب من الله جلّ وعلا.
أيّها المسلم، أيّها المؤمن، كُفَّ عن الأذى بإخوانك قبل أن يُقضَى بينك وبينهم يومَ لا ينفع مال ولا بنون، فعن أبي هريرة أنّ رسول الله قال: ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إنّ المفلسَ من أمّتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وقيام وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مالَ هذا وسفك دمَ هذا أو ضربَ هذا، فيُعطى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه، فإن فنِيت حسناته قبل أن يَقضيَ ما عليه أخِذ من خطاياهم فطُرحت عليه فطُرح في النّار)) رواه مسلم [22].
إخوةَ الإسلام، إنّ من يتولّى للمسلمين عملاً من أعمالهم أو وظيفة من الوظائف التي جُعلت لخدمتهم فهو أمين فما وُلِّي عليه، واجبٌ عليه بذلُ الجهد في تحقيق مصالحهم ورفع الضّرر والأذى عنهم، وحينئذ فمن آذى مسلمًا من خلال عملِه أو ألحَق به الضّررَ من منطلَق وظيفتِه فهو على إثم مبينٍ وفي خطَر كبير، فنبيّنا يقول: ((لا ضرَرَ ولا ضِرار، ومن ضارّ ضرّه الله، ومن شاقّ شقّ الله عليه)) والحديث حسن [23] ، ويقول أيضًا: ((اللهمَّ من ولِي من أمر أمّتي شيئًا فشقّ عليهم فاشقُق عليه)) [24].
فاتّقوا الله أيّها المؤمنون، والتزِموا بتلك التعاليم وهذه التوجهاتِ، تفوزوا وتسعَدوا في الدنيا والآخرة.
اللهمّ بارك لنا في القرآن، وانفَعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب البر (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (13)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (45) من حديث أنس رضي الله عنه.
[3] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1844) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[4] صحيح البخاري: كتاب المظالم والغصب (2465)، صحيح مسلم: كتاب اللباس (2121) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[5] سنن النسائي: كتاب القسامة (4775) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أحمد (1/300)، والطبراني في الكبير (12/36)، وصححه الحاكم (5421)، وأورده الألباني في ضعيف سنن النسائي (328)، ولكن له شواهد يتقوى بها.
[6] أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان (6290)، ومسلم في كتاب السلام (2184) واللفظ له من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[7] علقه الترمذي في كتاب الأدب (2825).
[8] أخرجه الترمذي في البر (2032) وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسين بن واقد"، وصححه ابن حبان (5763)، وهو في صحيح الترغيب (2339).
[9] انظر: تهذيب الكمال (23/291)، وسير أعلام النبلاء (8/427).
[10] أخرجه ابن جرير في تفسيره (22/45).
[11] أخرجه أحمد (1/313)، وابن ماجه في الأحكام (2341) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (3/48): "فيه جابر الجعفي وقد اتهم"، وللحديث شواهد كثيرة لا تخلو من مقال، ولكن بعضها يقوي بعضا كما قال النووي في الأربعين، ووافقه ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص304) وقال: "وقد قال البيهقي في بعض أحاديث كثير بن عبد الله المزني: إذا انضمت إلى غيرها من الأسانيد التي فيها ضعف قوتها... وقد استدل الإمام أحمد بهذا الحديث وقال: قال النبي : ((لا ضرر ولا ضرار)) ، وقال أبو عمرو بن الصلاح: هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه، ومجموعها يقوي الحديث ويحسنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به، وقول أبي داود: إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها يشعر بكونه غير ضعيف، والله أعلم"، وأورده الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1896).
[12] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (10) واللفظ له، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (40) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[13] سنن أبي داود: كتاب الصلاة (1118)، سنن النسائي: كتاب الجمعة (1399) من حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (4/188)، وصححه ابن الجارود (294)، وابن خزيمة (1811)، وابن حبان (2790)، والحاكم (1061)، وهو في صحيح سنن أبي داود (989).
[14] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6018، 6136)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (47) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[15] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (46)، صحيح البخاري: كتاب الأدب (6016) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[16] أخرجه البخاري في الرقاق (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[17] صحيح مسلم: كتاب المساجد (553) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[18] أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب (2472)، ومسلم في كتاب البر (1914) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[19] أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب (2448)، ومسلم في كتاب الإيمان (19) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[20] رواه اللالكائي في كرامات الأولياء (172)، وانظر: صفة الصفوة (3/225)، وجامع العلوم والحكم (ص368).
[21] رواه اللالكائي في كرامات الأولياء (166)، وانظر: جامع العلوم والحكم (ص368).
[22] صحيح مسلم: كتاب البر (2581) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[23] أخرجه الدارقطني (3/77)، والبيهقي في الكبرى (6/69) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2345)، وقد اختلف في وصله، فرجح غير واحد من الحفاظ فيه الإرسال، انظر: جامع العلوم والحكم (ص368)، وحسنه الألباني لطرقه وشواهده الكثيرة، أحكام الجنائز (16).
[24] أخرجه مسلم في الإمارة (1828) من حديث عائشة رضي الله عنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهمَّ صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فهي وصيّة الله جلّ وعلا للأوّلين والآخرين.
أيّها المسلمون، احذَروا من أذيّة إخوانِكم بأيّ نوعٍ من أنواع الأذى أو صورةٍ من صوَر الإضرَار، فذلكم وقوعٌ في شرّ عظيم وخطرٍ جسيم، واسلَموا بدينكم، وحافِظوا على أعمالكم، فرسولنا يقول: ((من آذى المسلمين في طرقِهم وجبت عليه لعنتُهم)) أخرجه الطبراني بسند حسن [1] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، إنّ فلانة تصلّي الليلَ وتصوم النّهار وتؤذي جيرانَها بلسانها، فقال: ((لا خيرَ فيها، هي في النّار)) صححه الحاكم وغيره [2].
ثمّ إنّ الله جلّ وعلا أمرنا بأمر عظيمٍ تسعَد به حياتنا وتفلح به أخرانا، ألا وهو الإكثار من الصلاة والسلام على نبيّنا وسيّدنا وحبيبنا.
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين، اللهمّ ارضَ عن الخلفاء الراشدين...
[1] المعجم الكبير (3/179) من حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (1/81) والهيثمي في المجمع (1/204)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (2294).
[2] المستدرك (7304، 7305)، وأخرجه أحمد (2/440)، والبخاري في الأدب المفرد (119)، والبيهقي في الشعب (7/78)، وصححه ابن حبان (5764)، والمنذري في الترغيب (3/242)، وقال الهيثمي في المجمع (8/169): "رجاله ثقات"، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (190).
(1/2781)
ذكر الله
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
14/8/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تغير أحوال الناس وكثرة المظالم. 2- العودة إلى دين الله هي المخرج من مصائبنا. 3- فضل ذكر الله وصوره المختلفة. 4- أهمية ذكر الله في علاج مشكلاتنا وأمراضنا. 5- من أحوال الذاكرين السابقين. 6- الغطرسة اليهودية والتأييد الأمريكي للعدوان على سوريا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المؤمنون، لماذا أصبح الناس ذئاباً في ثياب نظيفة، أناس لا يهدأ لهم جنب في فراشهم، ولا تطمئن لهم أجسام في مضاجعهم، إلا ذا باتوا على أذى العباد، أصبح المعروف منكراً، وأصبح المنكر معروفاً، وأصبح الحق باطلاً، وصار الباطل حقاً، وأصبح الذئب راعياً، وأصبح الخصم العنيد بين الناس قاضياً، اختلفت المعايير، واختلت القيم، وانتكست المبادئ، وقلبت الحقائق، وأصبح الناس قذى في العيون والآذان والألسنة والبطون والأيدي والأرجل والقلوب والأفئدة؟ لماذا وصلنا إلى هذه المرحلة؟ تكذيب بآيات الله وغفلة عن الحق! أصبح الحق بيننا على مائدة ضاع عليها اليتامى، أصبح الحق بيننا ضائعاً، أصبح الباطل بيننا رائداً، أصبحت المعاملة التي يسعى الناس إليها نفاقاً، أولم تسمعوا قول الله تبارك وتعالى: وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى? نَفْسِهِ وَكَانَ ?للَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ ?حْتَمَلَ بُهْتَـ?ناً وَإِثْماً مُّبِيناً [النساء:111، 112].
ما هو العلاج لكل هذه الأمراض؟ والجواب على ذلك هو العودة إلى الله تبارك وتعالى، وأن نعيش في ظله وذكره، أن نستحضر عظمة الله وخشيته في قلوبنا، أن نستحضر عظمة الله في كل حال، ولا بد مع الذكر من فكر، فالذكر بلا فكر جفاء، والفكر بلا ذكر عداء، والذكر مع الفكر وفاء، إِنَّ فِى خَلْقِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?خْتِلَـ?فِ ?لَّيْلِ وَ?لنَّهَارِ لاَيَـ?تٍ لاِوْلِى ?لاْلْبَـ?بِ [آل عمران:190]، من هم أولو الألباب؟ ?لَّذِينَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ قِيَـ?ماً وَقُعُوداً وَعَلَى? جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـ?طِلاً سُبْحَـ?نَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191].
وتذكروا ـ أيها المؤمنون ـ أن الذكر عمل القلوب، والقلوب أحياناً تكون في مقام الجلال لله، وأحياناً تكون في مقام الرحمة، إن كانت في مقام الجلال وجلت، إن كانت في مقام الرحمة اطمأنت، وفي المقام الأول يقول المولى تبارك وتعالى: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـ?ناً وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، وفي المقام الثاني يقول الحق جل في علاه: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ?للَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28]، استمعوا أيها المؤمنون إلى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((ألا أدلكم على خير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ قلنا: بلى يا رسول الله قال: ذكر الله تعالى)) [1].
والذكر يا عبد الله أنواع، ذكر الأذنين الإصغاء وذكر اللسان الثناء، وذكر اليدين العطاء، وذكر البدن الوفاء، وذكر الروح الخوف والرجاء، وذكر القلب التسليم والرضاء، فكما أن لكل جارحة من الجوارح معصية، كذلك لكل جارحة من الجوارح ذكراً، تذكر الله عز وجل به، لو أن المجتمع الذي نحيا على أرضه ذكر الله تعالى ما عصى اللهَ أحد من الناس، ولكن وللأسف بعدما هبت علينا رياح الشرق الملحد والغرب المنحل، عكف الناس على ارتكاب العاصي والآثام، فاللسان يؤذي، فقد سئل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عن امرأة تقوم الليل وتصوم النهار، ولكنها تؤذي جيرانها، فماذا قال صلى الله عليه وسلم؟ قال: ((لا خير فيها، هي في النار)) [2] لا صلاة لها ولا قيام لها، إنما لها النار.
فما هو أذى القلب؟ أذى القلب ـ أيها المؤمنون ـ الحسد والبغضاء والحقد والغل والشحناء، إذاً فما هو أذى البطن؟ أكل الحرام والرشوة والربا والغصب والسرقة والاحتيال وأكل أموال اليتامى، كل هذه الأمور سببها البطن، كان الرجل إذا خرج صباحاً يستقبل يومه ليجمع رزقه قالت له زوجته: يا فلان اتق الله، ولا تأكل حراماً، إنما نصبر على الجوع في الدنيا، ولا نستطيع أن نصبر على عذاب الله يوم القيامة، سبحان الله هكذا كان المجتمع المؤمن الطاهر، ومن هنا يأتي النصر على الأعداء، من هنا تأتي الغلبة لأهل الإيمان، لأن قلوبهم طاهرة ذاكرة، ولأن أفكارهم صافية، ولأن أيديهم متوضئة.
عباد الله، لماذا خلت البيوت من ذكر الله؟ ماذا بقي لنا في البيوت؟ بقي في بيوتنا بدع ومنكرات ولهو وشهوات، ولماذا أصيبت بيوتنا بأنواع الانهيار العصبي؟ لأن الشياطين عششت، ولماذا عششت؟ عندما هجرتنا ملائكة الرحمة، ولماذا هجرتنا؟ لأن في البيوت فساداً كبيراً، لماذا فِرق الرقص والغناء حتى أذان الفجر؟ لماذا شرب الخمور وحتى بين الشباب الصغار وفي الأعراس وغيرها؟ لماذا لا نقيم الأعراس على ذكر الله وفق منهج الله؟ مصائبنا كثيرة، فما هو علاجها؟
علاجها في قول الله تبارك وتعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ ?تَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ ?لشَّيْطَـ?نِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201]، ما علاج أمراض الأعصاب، علاجها كما وصى نبينا صلى الله عليه وسلم: ((اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)) [3] يعني: لا تقوى عليها السحرة، اقرؤوا سورة البقرة في بيوتكم، وإن لم تقرؤوها اقرؤوا آية الكرسي وأواخرها، وقُلْ ي?أَيُّهَا ?لْكَـ?فِرُونَ [الكافرون:1]، وقُلْ هُوَ ?للَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ?لْفَلَقِ [المسد:1]، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ?لنَّاسِ [الناس:1]، فإن هذه السور لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن البيت الذي تقرأ فيه لا يقربه الشيطان.
عباد الله، يقول الله تباك وتعالى: وَ?ذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ?لْجَهْرِ مِنَ ?لْقَوْلِ بِ?لْغُدُوّ وَ?لاْصَالِ وَلاَ تَكُنْ مّنَ ?لْغَـ?فِلِينَ [الأعراف:205].
اللهم اجعلنا وإياكم من عباده الذاكرين الشاكرين، واكتب لنا السعادة في الدنيا والآخرة يا رب العالمين.
توجهوا إلى الله تبارك وتعالى بقلوب حية صادقة، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة. فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] أخرجه أحمد (5/195)، والترمذي في الدعوات، باب: حدثنا الحسين بن حريث... (3377)، وابن ماجه في الأدب، باب: فضل الذكر (3790)، وصححه الحاكم في المستدرك (1/673). قال الهيثمي: "رواه أحمد وإسناده حسن بجمع الزوائد (10/73)، وأخرجه أيضاً أحمد (5/239)، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال الهيثمي أيضاً: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، إلا أن زياد بن أبي زياد مولى ابن عياش لم يدرك معاذاً، مجمع الزوائد (10/73)، صححه الألباني في صحيح الجامع (3639)، وصحيح سنن الترمذي (2688).
[2] أخرجه أحمد (2/440)، وصححه الحاكم (4/183، 184)، وقال الهيثمي: رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات. مجمع الزوائد (8/169).
[3] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل قراءة القرآن وسورة البقرة (804).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العلي الأعلى، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، نحمده سبحانه ونشكره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه والتابعين لهم على الهدى.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله عز وجل، والزموا شكره وذكره، فقد حثكم سبحانه على ذلك، ووعدكم الأجر الأوفى والفضل العظيم، وقال سبحانه: فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَ?شْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152].
وتذكروا ـ أيها المؤمنون ـ أن للذكر منزلة عظيمة، منها يتزود المؤمن، وفيها يستجم، وإليها يتردد، وهو قوت القلوب، وسلاح المؤمن الذي يقاتل به، وهو رأس مال السعادة، يجعل القلب الحزين ضاحكاً مسروراً، زين الله به ألسنة الذاكرين كما زين بالنور أبصار الناظرين، فاللسان الغافل كالعين العمياء والأذن الصماء واليد الشلّاء، وهو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده ما لم يغلقه العبد بيد غفلته، قال الإمام الحسن البصري رحمه الله: " تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة وفي الذكر وقراءة القرآن، فإن وجدتم، وإلا فاعلموا إن الباب مغلق".
عباد الله، ما طابت الدنيا إلا بذكره، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه، ولا طابت الجنة إلا برؤيته، وقد ورد في بعض الآثار أنه ما من يوم إلا وينادي الله تبارك وتعالى: ((عبدي ما أنصفتني، أذكرك وتنساني، وأدعوك إلي، وتذهب إلى غيري، وأُذهب عنك البلايا، وأنت معتكف على الخطايا)) [1] ، هذا هو أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه قالت امرأته يوم قتل: (إن تقتلوه فإنه كان يحيي الليل كله في ركعة، يجمع فيها القرآن)، وفيه نزل قول الله تبارك وتعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ?لَّيْلِ سَـ?جِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ ?لاْخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ?لَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [الزمر:9].
عباد الله، أين أصحاب الأذكار؟ أين قوّام الأسحار؟ أين صوام النهار؟ خلت والله منهم الديار، ما أحسن من التجأ إلى الله، وما أطيب حال من انتمى إلى عباده الصالحين، وما أحسن حديث المحبين، وما أنفع بكاء المحزونين، وما أعذب مناجاة القائمين، ما أمرّ عيش المحرومين، وما أذل نفوس الخاسئين، وما أسوء حال الظالمين، وما أعظم حسرة الغافلين، وصدق الله تبارك وتعالى وهو يقول: فَوَيْلٌ لّلْقَـ?سِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ ?للَّهِ أُوْلَئِكَ فِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [الزمر:22]، فاتقوا الله أيها المؤمنون والمؤمنات، وأكثروا من ذكره، فقد وعدكم الله المغفرة والأجر العظيم، فقال سبحانه: وَ?لذ?كِرِينَ ?للَّهَ كَثِيراً وَ?لذ?كِر?تِ أَعَدَّ ?للَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35].
أيها المؤمنون، إن تصاعد التوتر، واستمرار دوامة العنف في منطقة الشرق الأوسط مرجعه ضعف الأمة قادة وشعوباً أمام غطرسة أعداء الله وعلى رأسهم أمريكا الحاقدة، التي ما برحت تمد أعداء الأمة بكل مقومات القوة عسكرياً ومالياً وسياسياً، لتظل عصاها المشرعة في وجه الأنظمة العربية، فالغارة التي شنتها الطائرات الحربية الإسرائيلية على الأراضي السورية تعتبر خرقاً فاضحاً لسيادة دولة، هي عضو فيما يسمى: الأمم المتحدة أو الجامعة العربية أو المؤتمر الإسلامي، فماذا فعل العالم أمام هذا العدوان؟
أمريكا وعلى لسان رئيسها أيدت العدوان علناً، واعتبره دفاعاً عن النفس، ودعت سوريا للكف عن إيواء الجماعات المسلحة على حد زعمها، فالرسالة الأمريكية كانت جائزة للغطرسة الإسرائيلية التي طالبت بدورها سوريا التخلي عن إيواء الفلسطينيين، متناسية أن احتلال فلسطين في سنة ثمان وأربعين هو السبب المباشر والعامل الجوهري في نزوحهم إلى سوريا.
أيها المسلمون، هل آن الأوان لضرب سوريا وعلى غرار ما حدث في العراق تحت ذرائع واهية، أهمها دعم سوريا للإرهاب على حد زعمه، إن توقيت العدوان الإسرائيلي على الأراضي السورية عشية ما يسمى عيد الغفران اليهودي رسالة إلى سوريا بأن إسرائيل لن تقبل بالهزيمة مرة ثانية، على غرار الهزيمة التي منيت بها في حرب رمضان عام ثلاث وسبعين، والتي لا تزال تتجرع مرارتها، أم أن هذا العدوان هو مقدمة لهجوم أكثر اتساعاً وشمولاً، ولن تكون سوريا وحدها المستهدفة، وإنما لبنان أيضاً، ولن تكون إسرائيل وحدها هي المهاجمة المعتدية.
وهذا التطور الخطير هو الأمر الذي طالما حذرنا منه في السابق، هو أن اللا مبالاة والفرقة التشرذم الذي يشهده عالمنا العربي في هذه الأيام يعطي دول الكفر والاستعمار الجديد فرصة للسيطرة والتحكم في الشعوب والدول الإسلامية.
عباد الله، هل آن الأوان وبدأ العد التنازلي لضرب الوحدة الفلسطينية على الثرى الفلسطيني؟ هل آن الأوان لتحقيق أهداف إسرائيل من خلال ضغطها المستمر على السلطة الفلسطينية، لإحداث شرخ داخل البيت الفلسطيني الواحد؟ وهو الأمر الذي حذرنا منه أيضاً ومن على هذا المنبر الشريف في مرات سابقة، إن الدم الفلسطيني لا يمكن أن يراق لإرضاء أعداء الإسلام.
اعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أن الأمة الإسلامية عندما تؤمن بالله إيماناً راسخاً، وتعمل على تطبيق منهج الله دستوراً ونظام حياة، وتلتزم بتعاليم الإسلام وفق الركائز والأسس التي حددها نبينا صلى الله عليه وسلم، فهي أمة لا ولن تهزم أبداً، أمة سيكتب لها النصر بإذن الله تبارك وتعالى وصدق الله عز وجل وهو يقول: كَتَبَ ?للَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى [المجادلة:21]، فالأمة القوية هي الأمة التي تصنع التاريخ لنفسها وبنفسها، وتبني مجدها بتضحيات أبنائها، أما الأمة الضعيفة فهي التي يحدد لها أعداؤها مسيرة حياتها ومستقبل وجودها، إن القيادات المؤمنة هي التي تربي الأجيال والشعوب على الكبرياء والعزة والوحدة والكرامة، وليست الشعوب التي تصنع القيادات، فها هي الشعوب العربية والإسلامية التي يفوق عددها أكثر من مليار مسلم، ماذا بيدها أن تصنع أمام الاعتداءات المتواصلة والمتعددة على الإسلام والمسلمين؟ فهذه الشعوب لا تملك حرية الكلمة أو حرية المبادرة لصنع القرار أو فرض إرادة التحدي والدفاع عن حقوقها المسلوبة أو كرامتها المهدورة، فها هي الدول العربية تمنت من أمريكا عدم استخدام حق النقض ضد قرار إدانة العدوان الإسرائيلي على سوريا، منتهى الصغار ومنتهى الضعف وهي صاحبة الحق، وهي المعتدى عليها، موقف استجداء العطف، في حين تبجحت إسرائيل وواصلت تهديداتها لسوريا ولبنان، فكيف يكون الانتصار؟ وكيف يمكن وقف العدوان؟
أما موقف الدول العربية مما يجري على الساحة الفلسطينية فليس أكثر غرابة، فبعضهم لم يعد يتكلم، وبعضهم لم يعد يشجب، وبعضهم لم يعد يستنكر، لقد بين لنا ديننا الحنيف أسس الحياة الحرة الكريمة، وأوضح لنا أن الدولة الإسلامية هي الاستراتيجية الحقيقة والقوة الفعلية والبعد المستقبلي والرؤية السليمة الحل الأمثل لكل قضايانا المصيرية، فلا عزة لنا بدون الإسلام، ولا كرامة لنا بدون الدولة والإسلامية، فالتاريخ لن يرحم المتخاذلين ولا المتساقطين، ألم يأن لأمتنا في مشارق الأرض ومغاربها أن تعود إلى رشدها وتنهض من كبوتها وتتمسك بدينها وتعمل على إقامة دولتها، دولة الخلافة، دولة الحق والعدل والانتصار.
عباد الله، إن أعداء الإسلام عندما يحاولون ضرب الإسلام يضربون المساجد، لا نقول يضربونها بالمدفعية الثقيلة، إنما يضربون المساجد لتخويف الناس من دخولها.
أنتم تعرفون أيضاً أن سلطات الاحتلال دأبت على منع المصلين من دخول المسجد الأقصى، أعداد كبيرة من شبابنا يمنعون من دخول المسجد وبأمر من سلطات الاحتلال، أعداد كبيرة منعوا من أداء الصلاة في المسجد الأقصى المبارك ولفترة طويلة من الزمن، لماذا كل هذا التشديد على المسجد الأقصى وأهل المسجد الأقصى؟
ومن هنا نتوجه للمسلمين في كل مكان أن يعمروا المسجد الأقصى المبارك، وأن يكونوا موجودين فيه، فالأجر فيه مضاعف، والصلاة فيه مضاعفة الأجر والثواب، والبركة فيه في كل مكان، وخاصة أننا مقبلون على شهر رمضان المبارك، إننا وباسم المسلمين نستنكر هذه الممارسات الظالمة، فأين ما تتشدقون به من حرية العبادة؟
ثمة ملاحظة ثانية، مستشفى المقاصد الخيرية يهيب بالمسلمين ليتبرعوا بالدم، فالنقص لديهم كبير، لعدم تمكن سكان الضفة الغربية من الوصول إلى المستشفى، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
اللهم إنا نسألك ونحن واقفون بين يديك وأنت في عليائك وكبريائك أن تنصر الإسلام وتعز المسلمين.
[1] عزاه المناوي في فيض القدير (4/494)، للطبراني في الكبير عن معاذ بن أنس بن مالك، قال: وقال الهيثمي: إسناده حسن. ا.هـ، قلت: لم أجده في المعجم ولا المجمع.
(1/2782)
الطريق إلى حسن الخلق
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
14/8/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعثة النبي لإتمام مكارم الأخلاق. 2- فضل الخلق الحسن. 3- أسباب حسن الخلق. 4- الأسوة الحسنة. 5- التمرّن على الأخلاق الفاضلة. 6- من ثمار حسن الخلق. 7- الكفّ عن مساوئ أموات المسلمين. 8- التحذير من العجب والغرور والحكم على الناس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ الله بعثَ محمّدًا ليقرِّرَ الأخلاقَ الفاضلة، ويقِرَّ الأخلاقَ الكريمة، فهو صاحبُ الخلُق العظيم، قال الله جلّ وعلا في مدحِه: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وقال جلّ وعلا: فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لانْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، وقال جلّ جلاله: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128].
أيّها المسلم، إنَّ الخُلُق الكريمَ يدلّك على كلِّ خَير وينأَى بك بتوفيقٍ من الله عن كلِّ سوء، يقول نبيّنا : ((إنَّ مِن خيارِكم أحاسنَكم أخلاقًا)) [1] ، وقال أيضًا : ((ألا أخبِركم بأحبِّكم إليَّ وأقربِكم منّي مجلسًا يوم القيامة؟)) فسكت الصّحابة رضي الله عنهم، ثمّ أعادها النبيّ مرّتين أو ثلاثًا، قالوا: نعم يا رسول الله، قال: ((أحسنُكم أخلاقًا)) [2].
لمّا بُعِث النّبيّ أرسَل أبو ذرّ أخاه فقال: انظُر لصاحِب هذا الوادِي ماذا يقول، فرجع وقال: وجدتُه يدعو إلى مكارمِ الأخلاق [3] ، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كان رسول الله أحسن النّاس خلُقًا [4].
أيّها المسلم، عليك بحسنِ الأخلاق، فإنّ حسنَ الخلق من البرّ، وفي الصّحيح: ((البرُّ حسنُ الخلق)) [5]. عليك بحسن الخلق، فحسنُ الخلقِ كمال الإيمانِ، ففي الحديث يقول : ((أكملُ النّاس إيمانًا أحسنُهم خُلقًا)) [6]. حسنُ الخلقِ وصيّة نبيّك ، فيقول في وصيّته لمعاذ: ((اتّق اللهَ حيثما كنتَ، وأتبِع السيّئة الحسنةَ تمحُها، وخالق الناسَ بخلقٍ حسن)) [7] فتلك وصيّة نبيّك.
أيّها المسلم، إنّ لحُسن الأخلاق أسبابًا، فمِن أعظم تلكم الأسباب الالتجاءُ إلى الله والتضرّع بين يديه، وأن تستعينَ به في كلّ ما أهمَّك من أمر دينك ودنياك، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وفي الدعاء يقول : ((اللهمَّ اهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلاّ أنت، واصرِف عنّي سيّئها، لا يصرف عنّي سيّئها إلا أنت)) [8] ، وفيه: ((اللهمَّ كما حسَّنت خَلقي فحسِّن خُلقي)) [9].
وأداءُ فرائض الإسلام تعين العبدَ على مكارم الأخلاق، والله يقول: وَ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ [البقرة:45]، ويقول جلّ وعلا: إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]. وأداءُ الزكاة بالإحسان إلى عبادِ الله خلُق عظيم، خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]. وصومُ رمضانَ أو الصّيام عمومًا جُنّة للعبد من عذاب الله ومن أسباب سخَطه.
جاهِد نفسَك ووطِّنها للأخلاق الفاضلة، واصبِر على مساوئ أخلاقِ الناس، وَ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ [البقرة:153]. اقبَل من النّاس معروفَهم وإن قلَّ، واقبَل منهم فضلَهم وإن قلّ، خُذِ ?لْعَفْوَ وَأْمُرْ بِ?لْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ ?لْجَـ?هِلِينَ [الأعراف:199]. ابتعِد عن السِّباب والشّتام، وانأَ عن الأقوال البذيئة، فليسَ المسلم بالسَّبَّاب ولا باللّعّان، ولا بالفاحش ولا البذيء. خالقِ الناسَ بالخلق الحسَن، وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83].
أيّها المسلم، لا تخُض مَع الجاهلين في جهلهم، وقابِل إساءَتهم بالحُسنى، ?دْفَعْ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ?لَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ [فصلت:34، 35]. فالمؤمن حقًّا ذو خُلقٍ كريم، ذو حِلم ورِفق وأناءَة، في دعوته إلى ربّه وفي تعامُله مع عبادِ الله، فأخلاقه الكريمة وفضائله تجعل الناسَ يثِقون به ويطمئنّون إليه، فلا يرَونَ ذا غضبٍ وحماقة، ولا ذا حِقدٍ وكراهيّة للناس، بل يرون رَجلاً فاضلاً، يحمِل خلقًا كريمًا وحبًّا ونُصحًا وتوجيهًا، لا يحمِل حِقدًا ولا غلاّ، ولكن يحمِل العفوَ والصفحَ والإعراض، وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]. إنّ لهم فِي رسول الله الأسوةَ الحسنة والقدوةَ الصالحة في صبرِه وتحمّله وعدمِ انتصاره لنفسه، لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]. فمحمد قدوةٌ للدّعاة والنّاصحين، أسوةٌ حسنة في أخلاقه وفي صبرِه وفي تحمّله وفي تعليمِه للجاهِلين، فالجاهل يجِد لدَيه النّفسَ الطيّبة والخلقَ الكريم، فما زالت تلك الأخلاق حتى أرسَت في قلوب المؤمنين محبّةَ هذا النبيّ الكريم، محبّتَه وموالاتَه ونصرتَه ، والله يقول: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
أيّها المسلم، إنّ من يعامل الناسَ لا بد أن يلقى منهم أذًى، ولا بدّ أن يجِد منهم اختلافًا في الطّباع والأخلاق، فوطّن نفسك على الخلق الكريم، على الصبر وعلى الحِلم والعفو، وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ?لأُمُورِ [الشورى:43]. إياك أن يستخفَّك الشيطان، فيحسِّن لك الطيشَ والحماقة والغضب، فتتحمَّل المصائبَ وتندم ولا ينفع النّدم.
روِّض نفسَك على الحِلْم والصبر والعفو، وطهِّر قلبك من أن يصرَّ على حِقد أو كراهيّة للمجتمع، فمن طهر قلبُه وسلم من الغلّ والحِقد عاش بخيرٍ وفي سعادة وطمأنينة، والله يقول في دعاء المؤمنين أنهم قالوا: وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10].
أيها المسلم، لئن كانتِ الأخلاق طباعًا يُجبَل عليها بعضُ النّاس، لكن على العبدِ أن يسعى جهدَه في الأخلاق الكريمة، في التخلّقِ بها والعملِ بها، فعسى الله أن يمنَّ عليه بخُلق كريم يعيش به في حياته. فالأخلاق الكريمة التي دعا الإسلام إليها من عفو وصفحٍ وحِلم، دعا إلى صلةِ الرحم، وأمر الواصل أن يصبرَ على جفاءِ رحمِه وإن قطعوه، ((ليس الواصل بالمكافئ، إنّما الواصل الذي إذا قطعت رحمُه وصلها)) [10] ، وآخر يقول: يا رسول الله، إنّ لي رحِمًا أحسِن إليهم وسيئون إليّ، وأحلم عليهم ويجهَلون عليّ، وأصلهم ويقطعونني، قال: ((إن كنتَ كما قلتَ فكأنّما تسفُّهم الرمادَ، ولا يزال معك عليهم مِن الله ظهير)) [11].
فيا أيّها المسلم، الزَم الخلقَ الكريم، ترَ فيه العواقبَ الحميدة والنتائجَ الطيّبة، هو صعب في أوّله، لكن من صبَر واحتسَب ووثق بالله وجعل الأمرَ إلى الله انتهى به المطاف إلى العاقبة الحميدةِ والنتائج الطيّبة، فيكون محبوبًا بين قومِه، بين عشيرته، بين جيرانه، بين أصحابه، بين جلسائه، لما يحمِله من خلقٍ كريم.
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والسداد والعونَ على كل خير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6035)، ومسلم في الفضائل (2321) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[2] أخرجه أحمد (2/185)، والبخاري في الأدب المفرد (272)، والبيهقي في الشعب (7986) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان (485ـ الإحسان ـ)، وقال الهيثمي في المجمع (8/21): "إسناده جيد". وله شاهد من حديث جابر رضي الله عنه عند الترمذي في الأدب (2018). وله شاهد آخر من حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه عند أحمد (4/193)، والطبراني في الكبير (22/221)، وصححه ابن حبان (482ـ الإحسان ـ)، وقال الهيثمي في المجمع (8/21): "رجال أحمد رجال الصحيح"، والأحاديث الثلاثة كلها في صحيح الترغيب (2650، 2897، 2662).
[3] أخرجه البخاري في المناقب (3861)، ومسلم في فضائل الصحابة (2474).
[4] أخرجه البخاري في الأدب (6203)، ومسلم في الآداب (2150).
[5] أخرجه مسلم في البر (2553) من حديث النواس بن سمعان الأنصاري رضي الله عنه.
[6] أخرجه أحمد (2/250)، والترمذي في الرضاع، باب: ما جاء في حق المرأة على زوجها (1162)، وأبو داود في السنة، باب: الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه (4682) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4176)، والحاكم (1/3)، والألباني في السلسلة الصحيحة (284).
[7] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة (1987)، والدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، ثم أخرجه الترمذي عن محمود بن غيلان عن وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به، وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395)، ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين" ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2655، 3160).
[8] أخرجه مسلم في الصلاة (771) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
[9] أخرجه الطيالسي (374)، وابن سعد في الطبقات (1/377)، وهناد في الزهد (1273)، وأحمد (1/403)، وأبو يعلى (5075، 5181)، والقضاعي في مسند الشهاب (1472، 1473) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (959)، والمباركفوري في تحفة الأحوذي (6/110)، وقال الهيثمي في المجمع (10/173): "رجاله رجال الصحيح غير عوسجة بن الرماح وهو ثقة". وله شاهد من حديث عائشة رضي الله عنها عند أحمد (6/68، 155)، وقد صححه الألباني في الإرواء (1/115).
[10] أخرجه البخاري في الأدب (5991) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[11] أخرجه البخاري في البر (2558) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أخي المسلم، خلُقك الحسن مع أولادِك مع أبوَيك مع زوجتِك يعينُك على كلّ خير، فالله أمرك بالإحسان للوالدَين، وحقيقةُ الإحسان طيبُ الكلام خدمةٌ حسنُ تعامل، وتلك من الأخلاق الكريمة.
أولادُك من بنين وبنات إن عاملتَهم بحسن الخلق، حلمت عليهم، عفوتَ عن بعض هفواتِهم التي ليست تتعلّق بأخلاق ودين، تجاورتَ عن بعض التّقصير، لم تتعنّت في مطالبتِهم بكلّ شيء، زوجتُك عفوتَ عنها، وتحمّلت بعضَ أخطائها، فإنّك بهذا تعيش سعيدًا مطمئنًّا، وأمّا إن كنتَ ضجرًا مع الأبوين فيوشك أن تتركَ برَّهما، ويوشك أن يفارقَك أولادك، ويوشِك أن تنفرَ منك زوجتك، ويوشك أن يبتعدَ عنك خدمُك، فالخلق الكريم مع كلّ الطبقات يعينك على الخير ويحبّبك للغير ويجعل غيرَك يحبّك.
أنس بنُ مالك يذكر في خدمتِه لسيّد الأوّلين والآخرين، خدمه عشرَ سنين يقول: والله ما قال لي لشيء فعلتُه: لم فعلتَه؟ ولا لشيء لم أفعله: لماذا لم تفعله [1]. يقدّم أهله له الطعامَ، فإن رضي أكَل، وإن لم يرضَ به لم يذمَّ ولم يعِب، ولكن اعتذَر بأنّه لا يشتهيه [2]. هكذا كانت أخلاقه وأخلاق من صحِبه، فكن ـ يا أخي ـ متخلّقًا بالحلم والأناءة والصّفح والتحمّل في بيتك مع الأبوين مع الأولاد والزّوجة مع الخَدَم ومع من في البيت، وكن متخلّقًا بالخُلق الحسن مع من تعامِله ومع من تصاحِبه ومع من تجالِسه، فتكون سيرتك فاضلةً وأعمالك خيّرة حسنة.
أيّها الإخوة، وممّا يُعين على حُسن الخُلق الكفُّ عن مساوئ الأموات، فالأمواتُ قدِموا إلى ما قدّموا، وقد أمِرنا أن نذكرَ محاسنَ أمواتنا وأن نكفَّ عن مساوئهم، وفي الحديث: ((لا تسبّوا الأموات فقد أفضَوا إلى ما قدّموا)) [3].
أيّها المسلم، إنّ نبيّنا يقول: ((إنّ أحدَكم ليعمَل بعمل أهلِ الجنّة حتّى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعملُ بعمل أهل النّار فيدخلها. وإنّ أحدَكم ليعمل بعمل أهل النّار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذِراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعملِ أهل الجنّة فيدخلها)) [4].
أخي المسلم، إيّاك أن تُعجَب بعملك، وإيّاك أن تشمتَ بالآخرين، وإيّاك أن تفرحَ بمعايب الآخرين. اعلَم أنّ قلبك وقلوبَ سائر العباد بين أصبعَين من أصابع الرحمن يقلّبها كيفَ يشاء، إذا أراد أن يقلِب قلبَ عبدٍ قلبه. إيّاك والإعجابَ بعملك والإعجابَ بنفسك، وازدراءَ الآخرين، فإن الأمرَ بيد الله، إذا مَنَّ الله عليك بهداية ومَنَّ الله عليك باستقامة فاحمدِ الله على هذه النعمة، واسألِ الله الثباتَ، وكن دائمًا تقول: اللهمَّ مقلّبَ القلوب ثبِّت قلبي على دينك. إيّاك أن تنظرَ للآخرين بعينِ الاحتقار والازدِراء، فالذي أضلَّهم قادرٌ أن يضلَّك، والذي أغواهم قادرٌ أن يغويَك ويسلبَ عنك دينك.
أخي المسلم، اعلَم أنّ الشماتةَ بالآخرين مصيبة عظمى، وفي الأثر: (لا تظهرِ الشماتةَ بأخيك، فيعافِيه الله ويبتليك) [5] ، وفيه أثر: (من عيّر أخاه بذنب لم يمُت حتى يعملَ ذلك الذنب) [6] ، فعياذًا بالله من سوء الأخلاق.
يا أخي المسلم، الغيرةُ على محارم الله حقيقتها نصحُ المسلمين وتوجيهُ المسلمين وإمدادُهم بالنّصيحة دائمًا، وإذا مات الميّت فدع أمرَه إلى الله، فالله يعلَم خاتمتَه، ويعلَم ما آل إليه أمره، فلربّما أنّه وفِّق لخاتمةٍ في آخر لحظةٍ من لحظات حياته، ففاز بخيرَي الدّنيا والآخرة، والله على كلّ شيء قدير.
يا أخي المسلم، كونُك تدخِل على أقاربِ الميّت الهمومَ والأحزان بسبِّ ميّتهم وانتقاده وعيبِه وتذكير مساوئِه ليس هذا من أعمالِ المسلمين، ولكنّه من أعمال الحاقدين والكارهين. أمرنا نبيّنا إذا شيَّعنا ميّتنا أن نقفَ على قبرِه بعدَ الدفن وأن نستغفرَ له ثلاثًا، ونقول: اللهمّ اغفر لعبدك فلان، فالنبيّ يقول: ((فإنّه الآن يسأل)) [7] ، لكن أن نسبَّ وننتقصَ ونعيبَ ونقول ونفتريَ فإنّ هذا ليس من أخلاق المسلمين، فمن كان حيًّا فانصَحه لله وعِظه ووجِّهه، ومن لقيَ الله فدَع أمره إلى الله، فالله أعلم به منك، وأرحم به منك، وهو أرحم الراحمين وأعدل العادلين. قال رجلٌ لرجلٍ ممّن قبلنا يفعل المنكرات وينصحه ولم يقبل، قال: والله، لا يغفِر الله لك، فقبِضَت روحُهما، فقال الله لهذا: مَن يتألّى عليّ أن لا أغفرَ لفلان؟ قد غفرتُ له وأحبطتُ عملَك، قال أبو هريرة: تكلَّم بكلمةٍ أوبقت دنياه وآخرته [8].
فالمغفرةُ وعدمُها أمرها إلى الله، ولو جعِل أمر العباد إلى الخلقِ ما رحِم أحد أحدًا، وما أعطى أحد أحدًا، لكن من حكمةِ الله أنّ أمرَ الثواب والعقاب أمر بيَد ربّ الأرباب، بيدِ من وسعت رحمته كلّ شيء، بيد من هو يعلم السرَّ وأخفى، بيد أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين وأجودِ الأجودين، من لقيَه موحّدًا فمآله إلى الجنّة بفضل الله وبرحمته.
أخبرنا نبيّنا أنّه ((يؤتَى يومَ القيامة برجل، ويؤتَى له بتسعٍ وتسعين سجلاّ من الخطايَا، كلّ سجِلّ مدَّ البصر، فيقال له: أتنكِر مِن هذا شيئًا؟ فيقول: لا، فيقال له: أظلمتَك الكرام الكاتبون؟ فيقول: لا، وكأنّ الرّجل أيِس، فيقال: لا ظلمَ اليوم، فيؤتَى ببطاقةٍ فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله)) ، قال: ((فتوضَع البطاقة في كفّة والسجلاّت في كفّة)) ، قال: ((فطاشَتِ السجِلاّت ورجَحت البطاقة)) [9] ، وهذا من فضلِ الله وكرمِه وجودِه، فلا ييأس من رحمةِ الله إلا القوم الكافرون، ولا يقنط مِن رحمتِه إلا الضالّون، وعلى المسلم أن يدعوَ إلى الخير وينصحَ ويوجّه ويحبّبَ الخيرَ للنفوس، أما مآل الأمور والحكمُ على الآخرين بالجنّة والنار فذاك حكمُه إلى الله، ليسَ حكمه إلينا، نحن نرجو للمحسنين ونخاف على المسيئين، ولكن أمرُ الجنّة والنّار إلى الله علمُه، وإلى الله شأنُه، والله رؤوف بعباده، حكيم عليم، قادرٌ على كلّ شيء، وسعت رحمتُه كلّ شيء، فسبحانَ الحكيم في أمره ونهيِه، وسبحان القادر على كلّ شيء، على العبادِ أن يثِقوا بربِّهم، ويفوِّضوا الأمرَ إلى الله، وعلى المسلم أن يتّقيَ الله فيما يقول ويذَر.
أسأل الله لي ولكم الثباتَ على الحقّ والاستقامةَ على الهدى.
واعلموا ـ رحمكم الله ــ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحِمكم الله ـ على عبدِ الله ورسولِه محمّد كما أمرَكم بذلك ربّكم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الوصايا، باب: استخدام اليتيم في السفر والحضر... (2768)، ومسلم في الفضائل، باب: كان رسول الله أحسن الناس خلقا (2309) بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في المناقب، باب: صفة رسول الله (3563)، ومسلم في الأشربة (2064) من قول أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[3] أخرجه البخاري في الجنائز (1393) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[4] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3208)، ومسلم في القدر (2643) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[5] يروى مرفوعا، أخرجه الترمذي في الزهد (2506)، والطبراني في الأوسط (3739)، والقضاعي في مسند الشهاب (917) من طريق مكحول عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحكم عليه ابن الجوزي والقزويني بالوضع، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (6245).
[6] يروى مرفوعا، أخرجه الترمذي في الزهد (2505) من طريق خالد بن معدان عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث غريب، وليس إسناده بمتصل، وخالد بن معدان لم يدرك معاذ بن جبل"، وفي إسناده أيضا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني متهم بالكذب، ولذا أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات، وحكم عليه الألباني أيضا بالوضع في السلسلة الضعيفة (178). ويروى عن الحسن البصري رحمه الله، أخرجه عبد الله في زوائد الزهد (ص281) بإسناد ضعيف.
[7] أخرجه أبو داود في الجنائز (3221)، والبيهقي في الكبرى (4/56) من حديث عثمان رضي الله عنه، وصححه الحاكم (1372)، وحسنه النووي في الأذكار (212)، ورمز السيوطي لحسنه، وصححه الألباني في أحكام الجنائز (198).
[8] أخرجه أحمد (2/323)، وأبو داود في الأدب (4901)، والبيهقي في الشعب (6689) بنحوه، وصححه ابن حبان (5712)، وحسنه ابن أبي العز في شرح الطحاوية (ص319)، ووافقه الألباني.
[9] أخرجه أحمد (2/213)، والترمذي في الإيمان (2639)، وابن ماجه في الزهد (4300) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (225)، والحاكم (9، 1937)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (135).
(1/2783)
نعمة المطر
موضوعات عامة
مخلوقات الله
يزيد بن الخضر ابن قاسي
بوزريعة
21/11/1423
علي مغربي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة نزول المطر. 2- المطر من الله تعالى وحده. 3- عبر وعظات من نزول المطر. 4- نعمة المطر فضل وليس استحقاقا. 5- أدعية وأذكار مناسبة. 6- أحكام خاصة متعلقة بالمطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إننا في هذه الأيام نتقلب في نعمة من نعم الله وافرة، فسماؤنا تمطر، وأشجارنا تثمر، وأرضنا تخضرّ، وما هذا إلا نعمة ورحمة من المنعم الرحمن المنان.
فوالله، ثم والله، لولا الله ما سقينا، ولا تنعّمنا بما أوتينا.
أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ [الواقعة:68-70]، أجاج أي: شديد الملوحة.
اللهم لك الشكر على آلائك التي لا تعد ولا تحصى، اللهم لو شئت لجعلت ماءنا أجاجاً، ولكن رحمتك أدركتنا فجعلته عذباً زلالاً، فلك الشكر لا نحصي ثناءً عليك، فما بنا من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك.
عباد الله، وكيف لا نشكر الله وقد كنا بالأمس القريب فقط نشكو الجدب والقحط وقلة المياه، وكانت مشكلة نقص المياه تُعد من أكبر أزمات البلاد، مما دفع أهلَ التدبير والتسيير للتخطيط والتفكير للخروج من هذه الأزمة، فجنّدوا الرجال وخصصوا الأموال وجهزوا الآلات بل حتى اقترح مشروع استيراد المياه.
فنزلت رحمة الله الواسعة، فرويت الأرض، وجرت الوديان، وامتلأت الآبار، وسالت العيون، وفاضت السدود برحمة من الله وفضله.
أيها الإخوة المسلمون، إن رحمة الله بنا عظيمة، ونعمه علينا كثيرة، فالواجب علينا أن نشكر الله على هذه النعمة، وأن ننسب الفضل له، فما مطرنا إلا بفضل الله ورحمته.
جاء في صحيح البخاري ومسلم عن زيد الجهني أنه قال: صلى بنا رسولُ الله الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت بليل، أي: بعد ليلة ممطرة، فلما انصرف النبيّ أقبل على الناس فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء كذا أو كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)).
كان أهل الجاهلية يظنون أنّ نزول الغيث بواسطة كوكب من الكواكب اسمه النوء، فكانوا يعتقدون أنّه هو الموجد والفاعل المحدث للمطر، فأنكر الله عليهم ذلك، وأبطل قولهم، وجعله كفرا.
فالشاهد من الحديث أن على كل المسلم أن ينسب نزول المطر لله وحده لا شريك له، وأن يشكره تعالى ويقول: مطرنا بفضل الله ورحمته، وأن لا يعلق نزول المطر بشيء من المخلوقات كوكب كان أو نجم أو طبيعة كما يزعم البعض، وما الطبيعة؟ بل رب الطبيعة وحده لا شريك الله.
أيها الإخوة المسلمون، إن المؤمن المستبصر دومًا وأبدا يتأمل ويتدبر في مخلوقات الله، ويتخذ من كل حركة وسكون في هذا الكون آية تدل على عظمته سبحانه وتعالى وقوّته وقدرته وكرمه وفضله.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164].
وفي نزول المطر عبر وآيات عظيمة ذكرها الله في كتابه العزيز فينبغي أن نعتبر بها حق الاعتبار.
ومن هذه العبر والآيات ما جاء في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف:57].
نعم ففي إنزال المطر دليل ومثال على قدرة الله العظيمة، ويتجلى ذلك في إنشائه سبحانه للسحب بعدما كانت ماءً يتبخر، فتتراكم وتتجمع على أشكال مختلفة، ثم تأتي الرياح بأمره فتسوقها إلى بلد محدّد دون بلد آخر، وإلى مكان محدد دون مكان آخر، فينزل المطر بقدر معلوم وفي أوقات معلومة، ذلك تقدير العزيز العليم.
ومن العبر والآيات كذلك قوله عزّ وجل: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد:12، 13]. نقف وقفة مع هذه الآية الكريمة لما تتضمن من معاني عظيمة.
قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً ، نعم نخاف البرق وما يتبعه من الرعد والصواعق، ونخشى أن يتحول ذلك إلى عذاب، ومن منّا لا يخاف من هذا كله؟! ومن يأمن مكر الله؟! فلا يأمن مكر الله إلا القوم الظالمون، ولكننا في نفس الوقت مع هذا الخوف نطمع فيما يعدنا الله من المطر، وما يتبعه من فضل وخير وبسط في الرزق.
ثم قال: وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ، نعم ينشئ السحاب الثقال، هذه السحب التي نراها كل يوم بأشكال متنوعة وأحجام كبيرة مختلفة، كم طنًّا تزن؟ إن المِتر المكعّب يزن طنًّا، فكم فيها من الأطنان؟! ومن يحملها بهذه الأوزان؟! إننا لا نستطيع أن نتصوّر وزنها، غير إنها ثقال كما قال ربنا المتعال.
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ، إن الرعد وما أدراكم ما الرعد ليسبح بحمد الله عز وجل، ذلك الصوت المخيف الذي يخافه كبيرنا وصغيرنا، والذي يفزعنا في يقظتنا ومنامنا ليُسبِّح بحمد الله عز وجل، فهل تدبرنا هذا؟
وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ نعم، إن الملائكة لتسبح خوفاً من الله، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20].
وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ مع أنّ الله عنده هذه الآيات كلها من رعد وبرق وصواعق والملائكة تخافه وتسبحه، ولكن الناس يجادلون في الله، أي: يكذبون به وبقدرته وعظمته ودينه، وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ أي: شديد القوة سبحانه، إنها قوةٌ لا حدود لها، فما يعجزه شيء سبحانه.
ومن آياته في إنزال المطر إحياؤه للأرض بعد موتها، نرى الأرضَ جرداءَ قاحلة قد تشققت، ونال منها القحطُ وجفت، وعجز في إصلاحها الناس، ويئس منها المزارع، فبينما هي كذلك إذا بها تهتز خضراء رابية، قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت:39]. خاشعة أي: يابسة.
وفي إحيائه للأرض بعد موتها العبرة ومثال لقدرته في إحيائه للموتى يوم القيامة، ولذا نجد أن الله كثيرا ما يربط بين إحياء الأرض بعد موتها وبين إحياء الموتى من قبورهم، فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
نعم، إن إحياء الله الأرض بعد موتها لدليل واضح على قدرته سبحانه على إحياء الموتى، وقال تعالى: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الزخرف:11]، أي: كذلك خروجكم من قبوركم بعد موتكم، فالذي أحيى الأرض بعد موتها قادر على بعثكم بعد موتكم.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما في من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه كان غفارا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة المسلمون، لا بد أن نقف على حقيقة قد يغفل عنها الكثيرُ من الناس، وتتمثل هذه الحقيقة في طرحنا لسؤال على أنفسنا: هل نستحق هذه الأمطارَ حقيقة؟ وهل يظن الواحدُ منا أن هذا المطرَ الذي نزل هو جزاءٌ نستحقه لما قدمناه من أعمال؟ وهل يصدق فينا قولُه تعالى: وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً [الجن:16]، أي: لو استقاموا على طريقة الهدى وملةِ الإسلام قولا وعملا واعتقادا لأسقيناهم ماءً كثيرا، فهل تشملنا هذه الآيةُ الكريمة؟ وخاصة بالنظر إلى حالنا وحال المسلمين اليوم من كثرة الذنوب والعصيان والفسوق والطغيان والظلم والعدوان والتقصيرِ في حق الله والبعدِ عن دينه. فهل تشملنا هذه الآيةُ الكريمة؟ كلا وكلا، بل هي رحمة الله الواسعة التي أدركتنا، بل هي رحمة الله التي غلبت غضبه، فوالله ثم والله لولا رحمةُ الله وحلمُه ما رأينا هذا الخيرَ كلَه.
ويشهد لهذه الحقيقة ويبرهن عليها ما جاء في سنن ابن ماجه بسند حسن أن النبي قال: ((لم ينقص قومٌ المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم ما أمطروا)).
اسمعوا جيدا ـ أيها الإخوة المسلمون ـ إلى قوله: ((ولولا البهائم ما أمطروا)) ، نعم هذه هي الحقيقة، لولا هذه البهائمُ والحيوانات، ولولا رحمة الله ما رأينا هذا الخيرَ كله.
وبهذا ـ معشر المسلمين ـ ندرك مدى رحمة الله الواسعة، ومدى حلمه الكبير مع تقصيرنا في حقه.
اللهم إنا نسألك أن ترحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، وأن تعفو عنا وتهدينا سبل السلام، وأن ترد المسلمين إلى دينك ردا جميلا، وأن لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
أيها الإخوة المسلمون، لقد علّمنا رسول الله أدعية وأذكارا تقال آناء الليل وأطراف النهار، ومنها ما هو مخصوص بحسب الحال والمكان، وما ذلك إلا ليبقى المسلم دائما متصلا ومتعلقا بربه جل وعلا، ذاكرا وداعيا إياه مستغيثا ومناجيا.
روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان إذا رأى المطر قال: ((اللهم صيبا نافعا)). وعندما يتوقف كما تقدم يقول: ((مطرنا بفضل الله ورحمته)). وكان إذا نزل المطر خشي منه الضرر دعا وقال: ((اللهم حولينا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر)).
وإذا هبت الريحُ نهانا عن سبّها لأنها مأمورة، وكان يدعو بهذا الدعاء: ((اللهم إني نسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به)).
وجاء في الأثر بسند صحيح عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: (سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته).
فلا ينبغي للمسلم أن تفوته مثل هذه الأدعية والأذكار.
والدعاء عند نزول الغيث مستجاب، فقد ثبت عن النبي أنه قال: ((اطلبوا إجابة الدعاء عند التقاء الجيوش وإقامة الصلاة ونزول المطر)). فهذا من فضائل نزول الغيث، فما لنا لا نغتنمها؟!
ولا بأس أن نُذَكّر إخواننا ببعض الرخص الصحيحة التي تؤدّى عند نزول الغيت، فقد ثبت عن النبي الجمع بين الصلاتين في المسجد، وذلك لرفع المشقة عن أمته، وكما رخص للمسلم أن يصلّي في رحله أو بيته.
(1/2784)
الأمانة
الإيمان
خصال الإيمان
يزيد بن الخضر ابن قاسي
بوزريعة
28/11/1423
علي مغربي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الأمانة وبيان عظمها. 2- الأمانة صفة الأنبياء والصالحين. 3- الأمور التي تندرج في أمر الأمانة. 4- عاقبة الخيانة. 5- أعظم ما تكون به الخيانة. 6- أمانة تربية الأولاد ورعايتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله تعالى.
قال الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:72، 73].
إن من أهم الأمور وأعظمها ـ يا عباد الله ـ وأشدها خطرًا صفةُ الأمانة التي عظّم الربُ شأنها، وعرضها على أعظم مخلوقاته من سماوات وأرض وجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، أي: لم يُطقن حملها، وحملها الإنسان، هذا الإنسان الضعيف، لظلمه ولجهله بعِظم هذه الأمانة، وما يترتب عليها، والمقصود بالأمانة في الآية الكريمة الطاعة والواجبات، فمع الإحسان يكون الجزاء، ومع الإساءة تُستحق العقوبة.
إنها الأماناتُ ـ عباد الله ـ التي أوصى الله عز وجل بها من فوق سبع سماوات، فقال جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].
فهي الأماناتُ التي أمِرنا بحفظها ورعايتها والقيامِ بها وأدائِها إلى أصحابها, فالأمانة ـ عباد الله ـ صفة الأنبياء والمرسلين، وهي صفة نبينا الملقب بالأمين، وأخبر سبحانه وتعالى أن القيامَ بها والعنايةَ بها شيمةٌ من شيم المؤمنين، وخصلةٌ من خصال الأخيارِ الصالحين، فقال في كتابه المبين وهو يُثني على عباده المؤمنين المفلحين: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ إلى أن قال: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون:1-8].
إنها الأمانة ـ عباد الله ـ التي أخبر النبي أن أداءها والقيامَ بها إيمان، قال : ((لا إيمان لمن لا أمانة له)). فمن حُرم الأمانةَ فقد حُرم كمَالَ الإيمان الواجب.
فمِن كمال الإيمان أن يتصف الرجلُ بالأمانة، ومن تمام الرجولةِ والمروءة أن تكون للرجل أمانة، فإذا رأيت الرجلَ يحفظ الأمانة ورأيته يؤديها إلى أصحابها على أتم الوجوه وأكملِها فاعلم أن وراء ذلك قلبًا يخاف الله جل جلاله ويتقيه, وأن هذا العبد يعلمُ عِلمَ اليقين أن الله محاسبُهُ وسائِلُه ومجازيه.
وإن الأمانةَ ـ أيها الإخوة المسلمون ـ لا تنحصر في جانب من جوانب المعاملات؛ كحفظ المال والوديعة، بل هي أشملُ من ذلك، فهي أصلٌ في جميع العبادات والمعاملات، فالصلاة أمانة في عنقك، تؤديها في أوقاتها كاملة الشروط والواجبات، والصيامُ أمانةٌ بينك وبين الله، والزكاةُ أمانة والله مطلعٌ عليك في أدائها كاملةً أو ناقصة، والأيمانُ والعهود والمواثيق والالتزامات والمواعيد أمانة كذلك، والصحة أمانة، وسمعك وبصرك ولسانك وفؤادك أمانةٌ عندك، وسوف تسأل عنها، قال تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].
كما أخبرنا أن تضييعَ الأمانةِ والاستهتارَ بها وخيانتَها نفاقٌ وعصيان، روى البخاري في صحيحه أن النبي قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)). فالخيانة صفة من صفاتِ المنافقين، والخيانة دليلٌ على سوء البطانة، دليل على ضعف الإيمان بالله جل جلاله.
وإن في تضييع الأمانةِ لوعيدًا شديدًا، أخبرَ النبي أنه يؤتى يوم القيامة بجهنم والناس في عرصاتها ـ أي: في عرصات يوم القيامة ـ حفاةً عراة غُرلاً، في ذلك الموقف العظيم يؤتى بجهنمَ تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فلا يبقى ملكٌ مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه، ثم يُضرب الصراط على متن جهنم, وينادي الله جل جلاله بأن يسيرَ العبادُ عليه، وعندها تكون دعوةُ الأنبياء: اللهم سلّم سلم. فإذا ضُرب الصراط على متن جهنم قال كما في صحيح مسلم: ((قامت الأمانة والرحم على جَنبتَي الصراط)) ، أما الأمانة فإنها تُكبكِب في نار جهنم كلَّ من خانها، وأما الرحم فإنها تزِلّ قدمَ من قطعها وظلمها.
فتأمل ـ أخي المسلم, أختي المسلمة ـ ما جاء في هذا الحديث من الوعيد الشديد لمن خان الأمانة.
وأعظم ما تكون به خيانةُ الأماناتِ إذا كانت خيانةً لله والرسول : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: 27]. نزلت في أبي لبابة رضي الله عنه وأرضاه؛ وقف النبي محاصرًا ليهود بني قريظة بعدما نقضوا العهد, فبعث النبي إليهم أبا لبابة لينزلوا على حكم رسول الله، فاستشاروه في ذلك، فأشار بيده إلى حلقه أنهم يُقتلون. فبهذه الإشارة فقط عَظُم ذنبه, وأنزل الله فيه من فوق سبع سماوات قرآنًا يُتلى، فبقي في المسجد، وحبس نفسه يبكي، حتى أخبره النبي بتوبة الله عليه.
أعظم ما تكون الخيانة إذا كانت لله والرسول بالكذب على الله، والكذب على رسول الله ؛ الكذب على الله بتكذيب دينه، والكذب على الله بتحليل الحرام وتحريم الحلال، والفتوى في دينه دون حُجة ولا برهان من الله جل جلاله.
وأعظم ما تكون الخيانةُ إذا كانت بالكذب على رسول الله ؛ كالكذب على سنته، والتحديث بالأحاديث الباطلة المكذوبة على النبي.
وأعظم ما تكون به الخيانة إذا كانت خيانة لعباد الله المؤمنين؛ بأكل أموالهم بالباطل ظلمًا وعدوانًا، وما نسمعه اليوم ونراه من فشو الكذب والخداع والغش والتزوير والسرقة والاختلاس وكثرة شهادة الزور وقول الزور والمطل بالحقوق وانتشار الرشوة، كل هذا من الخيانة للأمانة، حتى أصبح الكثيرون اليوم لا يعبؤون بالأمانة، ولا يقيمون لها وزنًا، ترى العامل في عمله لا يقوم به على وجهه الصحيح، ويتباطأ فيه، ولا يؤديه في الوقت الملزم به، لا يبالي بحاجة الناس، وقد ينتظر الناس يومًا أو يومين أو أسبوعًا أو أسبوعين، حتى أصبح بعضنا لا يقضى طلبه إلا بعد جهد مرير، ولا يصل في الغالب إلى حقه إلا بعد مشقة شديدة، والله المستعان.
ومن الخيانة للأمانة أن يسرّ إليك أحد من الناس بأمر، طالبًا منك النصيحة والإرشاد، فتبوح أنت بذلك السر، وتذيعه وتنشره بين الناس، والنبي يقول: ((المجالس بالأمانة)).
وأعظم ما تكون الخيانات ـ عباد الله ـ إذا كانت بهتك عورات المسلمين وتتبع ما فيهم من العيوب، ونشرها بين الناس، وأشد ما يكون ذلك بين الأرحام وبين الزوجين. ولنأخذ مثالاً على ذلك الزوجين اللذين قال الله فيهما: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21]، فالزوجان بينهما أسرار كثيرة لا يعلمها إلا الله جل جلاله، ثم إن الزوج يطلع على عيوب امرأته، وعيوب أهلها وقرابتها، والزوجة كذلك تطلع على عيوب زوجها، وعيوب أقاربه. وإفشاء هذه الأسرار وإخراجها للناس تعد من الخيانة للمؤمنين والمؤمنات, واعتداء على حدود الله جل جلاله، خاصة إذا وقعت الخصومات والنزاعات، فيذهب الزوج إلى قرابته يُحدثهم بما يكون من زوجته، ولربما حدثهم عن أدق الأمور وأخفاها، كذلك الزوجة بمجرد أن تكون الخطيئةُ من زوجها تذهب إلى أهلها وقرابتها؛ لكي تخون الله في أماناتها، فتهتك العورات، وتكشف السوءات، دون خوف من الله جل جلاله. ثم يقع بعد ذلك ما لا تحمد عقباه. وما نراه اليوم في المحاكم من كثرة الطلاق ومشاكله إلا بسبب ضياع الأمانة بين الزوجين، والله المستعان.
وأشد ما تكون الخيانة إذا كانت بين الجيران, لأن خيانة الجار من أعظم الخيانات عند الله, فالجار له حقوق عليك, وأنت تَعلم أخباره، تعلم مدخله ومخرجه وصدقه وكذبه، تعلم وقت غيابه ووجوده، وأنت مؤتمن على أن لا تخونه في شيء من عرضه وماله.
وللحديث بقية فارتقبوه بعد حين، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، تضييع الأمانات خسارة وحسرة وندامة يوم القيامة.
وأعظم ما تكون الخيانة إذا كان فيها ظلم للأبناء والبنات بتضييع حقوقهم، والاستهتار في واجباتهم، وترك النفقة عليهم خيانة للأمانة، وإهمال وترك الأبناء والبنات هاملين ضائعين عابثين في الطرقات يتسكعون، يخوضون مع الخائضين، دون حسيب ولا رقيب، هو خيانة للأمانة. وترك تربيتهم وتوجيههم وتعليمهم وإرشادهم خيانة للأمانة, ترى في أهلك وأبنائك وبناتك الخطأ والمعصية والزلل والاعوجاج، فلا تكون لهم لسانًا ناصحًا ولا يدًا رادعة، ترى فيهم ترك الصلاة وتضييعها، وقد قال : ((علموا أولادكم الصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)). فالأبناء أمانة في أعناقنا، وسيسألنا الله عنها يوم نقف بين يديه، ولنتذكر قوله : ((كلكم راع, وكلكم مسؤول عن رعيته، الرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته)) وتذكروا ـ عباد الله ـ قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]. أنجوا أنفسكم وأهليكم وأبناءكم وبناتكم من النار.
فيا معشر الآباء، ويا معشر الأمهات، لو سألتكم: ما أغلى ما تملكون في هذه الدنيا بعد دينكم؟ وما أحب شيء لكم في حياتكم؟ ومن هؤلاء الذين تفرحون لفرحهم، وتحزنون لحزنهم، وتغضبون لغضبهم؟ من هؤلاء الذين تسعى طيلة نهارك لتُحصِّل لهم معيشتهم وتسعدهم في حياتهم؟ من هؤلاء الذين هم عصَب حياتك، وعنوان سعادتك وسرورك؟ فستجيبون جميعكم: إنهم الأبناء. فإن كانوا بهذه المنزلة في قلوبنا، فهل نريد لهم أن يكونوا من الخاسرين يوم القيامة، قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15]. هل بعثت منزلتهم في قلوبنا إرادة وحرصًا على تربيتهم؟!
فاتقوا الله عباد الله, اتقوا الله في أهليكم وأبنائكم, واتقوا الله في بناتكم, واتقوا الله في بناتكم, واتقوا الله في بناتكم, فقد قال عليه الصلاة والسلام كما روى الإمام أحمد بسند صحيح: ((من كان له ثلاث بنات ـ وفي رواية: ثنتين ـ فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته كن له حجابا من النار)) ، وعند مسلم: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار)) ، فمن كانت له بنات فأطعمهن وسقاهن وكساهن وأحسن إليهن ورباهن وصبر عليهن كن له حجابًا من النار يوم القيامة، وقد أكد النبي على البنات دون الأبناء ودون الأولاد، وخصّهم بالذكر وعدّه ابتلاء للآباء والأمهات، فقال: ((من ابتلي بشيء من هذه البنات)) ، وما ذلك إلا لأن تربية البنات تتطلب صبرًا وحرصًا أكثر وحيطة أكبر ومراقبة دائمة، لحفظ حيائهن وعفتهن وشرفهن وإيمانهن، ففساد البنات يورث فسادًا عظيمًا في المجتمع، ولهذا كانت تربيتها ابتلاء يتطلب حذرًا وحيطة ومراقبة.
فيا عبد الله، ويا أمة الله، من ربى بنته أو بناته تربية إسلامية صحيحة على الحياء والحشمة والعفة والإيمان كن له حجابًا وسترًا من النار، كما أخبر الصادق المصدوق، ومن أهمل ذلك وتساهل فيه فهي خيانة للأمانة، وسوف يسأل عنها يوم القيامة فتكون خسارةً وحسرةً وندامة.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لتربية أبنائنا وبناتنا لأنهم أمانةٌ في أعناقنا.
عباد الله، إنّ الأماناتِ حقوق وواجبات ومسؤولياتٌ وتَبعَات، شَمِلَت الصغيرَ والكبير، والجليلَ والحقير، ولن يضيع فيها مثقالُ حبة من خردل أو قِطمير، فاتقوا الله عباد الله: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
(1/2785)